الكتاب: الإحكام في أصول الأحكام المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ) المحقق: الشيخ أحمد محمد شاكر قدم له: الأستاذ الدكتور إحسان عباس الناشر: دار الآفاق الجديدة، بيروت عدد الأجزاء: 8   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ابن حزم الكتاب: الإحكام في أصول الأحكام المؤلف: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ) المحقق: الشيخ أحمد محمد شاكر قدم له: الأستاذ الدكتور إحسان عباس الناشر: دار الآفاق الجديدة، بيروت عدد الأجزاء: 8   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] قال الفقيه الإمام أبو محمد علي بن أحمد رحمة الله عليه ورضوانه الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلا مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وخص من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له ويسره لفهمه وسدده لاختياره وسهل عليه سبيله وخذل منهم من شاء فطبع على قلبه ووعر عليه طريق الحق ووفق قوما في سبيل ما ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى كما قال عز وجل {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشإ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} و {وجعلنا السمآء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون} دون أن يجبر مريد حق على إرادته أو يقسر قاصد باطل على قصده أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه أو ندبه إليه لكن كما قال عز وجل {وآعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون * فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم} وكما قال تعالى {ثم دنا فتدلى} وقال تعالى {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} لله وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم {فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين} ويقول يوسف {قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والإنس بالدين القيم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبعد فإن الله عز وجل ركب في النفس الإنسانية قوة مختلفة فمنها عدل يزين لها الإنصاف ويحبب إليها موافقة الحق قال تعالى {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا} ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد قال تعالى {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد} وقال تعالى {كل نفس ذآئقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون} فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله في أخراه وهلاكه في معاده ومنها فهم يليح لها الحق من قريب وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهرا جليا ومنها جهل يطمس عليها الطرق ويساوي عندها بين السبل فتبقى النفس في حيرة تتردد وفي ريب تتلدد ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهورا وإقداما أو جبنا أو إحجاما أو إلفا وسوء اختيار قال تعالى {أمن هو قانت آنآء الليل ساجدا وقآئما يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب} وقال تعالى {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون} ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلا إلى فهم خطابه عز وجل وإلى معرفة الأشياء ما هي عليه وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل فيها تكون معرفة الحق من الباطل قال تعالى {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين * وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين * وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين * حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير * ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد * كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب * وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار} ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وعلى اعتقاد ذلك علما وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلا وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة والغضب المولد للعصبية وحمية الجاهلية فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} قال أبو محمد علي أراد بذلك العقل وأما المضغة المسماة قلبا فهي لكل أحد متذكر وغير متذكر ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له قال تعالى شاهدا لما قلنا {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} وقال بعض السلف الصالح ترى الرجل لبيبا داهيا فطنا ولا عقل له فالعاقل من أطاع الله عز وجل قال أبو محمد علي هذه كلمة جامعة كافية لأن طاعة الله عز وجل هي جماع الفضائل واجتناب الرذائل وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم لا إله إلا هو فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به أو حض عليه ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزه منه وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها من علو صوت أو عرض جاه أو نمو مال أو نيل لذة من طاعة أو معصية فليس ذلك عقلا بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار وقائد إلى الهلاك في دار الخلود وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار ضعيف العقل فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم فهو يشهد أن اختيار الشيء القليل في عدده الضعيف في منفعته المشوب بالآلام والمكاره الفاني بسرعة على الكثير في عدده العظيم في منفعته الخالص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 من الكدر والمضار الخالد أبدا حمق شديد وعدم للعقل البتة ولو أن أمرأ خير في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار ونواوير وأزهار وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر ومال عريض إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة وفي أثنائها أهوال ومتالف ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال فيسكنها مائة عام فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه وفاسد العقل جدا ظاهر الحمق رديء الاختيار مذموما مدحورا ملوما وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه فكيف بمن اختار فانيا عن قريب على ما لا يتناهى أبدا اللهم إلا أن يكون شاكا في منقلبه متحيرا في مصيره فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين وكل ما قلنا فلم نقله جزافا بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى شاهدا بصحته وميزه العقل عالما بحقيقته والحمد لله رب العالمين وإن الله عز وجل ابتلى الأمم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة فمؤمن وكافر فريق في الجنة وفريق في السعير ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار وعبده المنتخب من جميع ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم الهاشمي المكي إلى جميع خلقه من الجن والإنس فنسخ بملته جميع الملل وختم به الرسل وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه واتخذ صفيا ونجيا وخليلا ورسولا فلا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار ولكنها دار ابتلاء واختبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ومجاز إلى دار الخلود وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز وجل وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت غرور وأن كل ما تشره إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس خطأ إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وإحياء سنن الحق وإماتة طوالع الجور وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل وأصوات مستحسنة متقضية بهبوب الرياح ومشام مستطرفة منحلة بعيد ساعات ومذاوق مستعذبة مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة وملابس معجبة متبدلة في أيسر زمان تبدلا موحشا باطلا وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل وإخراجهم إلى بيان الحق ونور اليقين فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من هدى الله به رجلا واحدا فهو خير له من حمر النعم وأخبر عليه السلام أن من سن سنة خير في الإسلام كان له مثل أجر كل من عمل بها لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئا وغبط من تعلم الحكمة وعلمها فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة فمن أوكدها وأحسنها مغبة بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه والعبارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الواردة فيه فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس فإثم من قلدهم إثمين إثم التقليد وإثم الخطأ ونقصت أجور من اتبعهم مجتهدا من كفلين إلى كفل واحد ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان فقد عرضه لخير كثير وامتن عليه بتزايد الأجر وهو في التراب رميم وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان وبينا كل ذلك بيانا سهلا لا إشكال فيه ورجونا بذلك الأجر من الله عز وجل فكان ذلك الكتاب أصلا لمعرفة علامات الحق من الباطل وكتبنا أيضا كتابنا المرسوم بالفصل فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب ولم ندع بتوفيق الله عز وجل لنا للشك في شيء من ذلك مساغا والحمد لله كثيرا ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز وجل منا فيما كلفناه من العبادات والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفا وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل لنا موعبا للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى مستقصى محذوف الفضول محكم الفصول راجين أن ينفعنا الله عز وجل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه فيضرب لنا في ذلك بقسط ويتفضل علينا منه بحظ فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شيء لا إله إلا هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق إنه لما صح أن العالم مخلوق وأن له خالقا لم يزل عز وجل وصح أنه ابتعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لأوليائه عز وجل وليكب من عصاه في النار الحامية وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك الشرائع يوصل إلى الفوز وينجي من الهلاك وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه إلينا وسماه قرآنا وفي الكلام الذي أنطق به رسوله صلى الله عليه وسلم وسماه وحيا غير قرآن وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه عليه السلام لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل {وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز وجل فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز وجل والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال أبو محمد فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الأحكام والعبادات التي شرعها الله عز وجل لا يشذ عنها شيء من ذلك فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله عليه السلام وطاعة أولي الأمر ومن هم أولو الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وبيان التنازع الواقع منا وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله عليه السلام وهذا هو جماع الديانة كلها ووجدناه قد قال تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ومآ أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ومآ أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الأسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله فصح بهذه الآية يقينا أن الدين كله لا يؤخذ إلا عن الله عز وجل ثم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا عز وجل ونهيه وإباحته لا مبلغ إلينا شيئا عن الله تعالى أحد غيره وهو عليه السلام لا يقول شيئا من عند نفسه لكن عن ربه تعالى ثم على ألسنة أولي الأمر منا فهم الذين يبلغون إلينا جيلا بعد جيل ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى وليس لهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئا أصلا لكن عن النبي عليه السلام هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل وليس من الدين إذ ما لم يكن من عند الله تعالى فليس من دين الله أصلا وما لم يبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين أصلا وما لم يبلغه إلينا أولو الأمر منا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الدين أصلا فبينا بحول الله تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب بأن ترك ما هو من الدين مخطئا غير عامد للمعصية أو عامدا لها أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين إما ترك وإما زيادة ولخصنا الحق تلخيصا لا يشكل على نصح نفسه وقصد الله عز وجل بنيته وما توفيقنا إلا بالله عز وجل وجعلنا كتابنا هذا أبوابا لنقرب على من أراد النظر فيه ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه ورجاء ثواب الله عز وجل في ذلك وبالله تعالى نتأيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 باب ترتيب الأبواب وهو الباب الثاني إذ الباب الأول في صدر هذا الكتاب وذكر الغرض فيه وهو الذي تم قبل هذا الابتداء الباب الثاني هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب الباب الثالث في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الأشياء ويتخاطب بها الناس الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر الباب السادس هل الأشياء في العقل على الحظر أو الإباحة أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز وجل الباب السابع في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا الباب الثامن في معنى البيان الباب التاسع في تأخير البيان الباب العاشر في القول بموجب القرآن الباب الحادي عشر في الأخبار التي هي السنن وفي بعض فصول هذا الباب سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة الباب الثاني عشر في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والأخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور أو الندب أو التراخي الباب الثالث عشر في حملها على العموم أو الخصوص الباب الرابع عشر في أقل الجمع الوارد فيها الباب الخامس عشر في الاستثناء منها الباب السادس عشر في الكتابة بالضمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الباب السابع عشر في الكتابة بالإشارة الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الشيء يراه أو يبلغه فيقره صامتا عن الأمر به أو النهي عنه الباب الموفي عشرين في النسخ الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والمحكم والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام الباب الثاني والعشرون في الإجماع الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته وهو باب من الدليل الإجماعي الباب الرابع والعشرون في أقل ما قيل وهو أيضا نوع من أنواع الدليل الإجماعي الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف والنهي عنه الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها خطأ الباب السابع والعشرون في الشذوذ ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها الباب الثامن والعشرون في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة رضي الله عنهم الباب التاسع والعشرون في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس الباب الموفي ثلاثين في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر ووقت لزوم الشرائع للإنسان الباب الحادي والثلاثون في صفة طلب الفقه وصفة المفتي وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في الأعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود والعمد المقصود بالفعل والنية جميعا وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أتلزمنا أم لا الباب الرابع والثلاثون في الاحتياط وقطع الذرائع الباب الخامس والثلاثون في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي الباب السادس والثلاثون في إبطال التقليد الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس الباب التاسع والثلاثون في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الأسباب والأغراض والمعاني والعلامات والأمارات الباب الموفي أربعين في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله عز وجل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطىء عند الله عز وجل وإن خالفناه في إثبات حجج العقول قال أبو محمد قال قوم لا يعلم شيء إلا بالإلهام وقال آخرون لايعلم شيء إلا بقول الإمام وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين عاما معدوم المكان متلف العين ضالة من الضوال وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالخبر وقال آخرون لا يعلم شيء إلا بالتقليد واحتجوا في إبطال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 حجة العقل بأن قالوا قد يرى الإنسان يعتقد بشيء ويجادل عنه ولا يشك في أنه حق ثم يلوح له غير ذلك فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت أدلتها قال أبو محمد هذا تمويه فاسد ولا حجة لهم على مثبتي حجج العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده ويناضل عنه لأننا لم نقل إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه ولا قلنا إن كل ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول لكن قلنا إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحا مرتبا ترتيبا قويما على ما قد بيناه وأحكمناه غاية الإحكام في كتاب التقريب وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسدا على مذهب فاسد وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح وقد نبهنا على الشعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الإيضاح فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلاليه فاسدا إما الأول وإما الثاني وقد يكونان معا فاسدين فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح لا بد من أحد هذه الوجوه ولا يجوز أن يكونا صحيحين معا البتة لأن الشيء لا يكون حقا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد وقد يكون أقساما كثيرة كلها باطل إلا واحدا فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر فمال بهوى أو تهور بشهوة أو أحجم لفرط جبنه أو لمن كان جاهلا بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها وأكثر ما يقع ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 فيما يأخذ من مقدمات بعيدة فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقا بعيدا كثير الشعب فيكل فيها الذهن الكليل ويدخل مع طول الأمر وكثرة العمل ودقته السآمة فيتولد فيها الشك والخبال والسهو كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعدادا متفرقة في قرطاس فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدا فربما غفل وغلط حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشيء وقف على اليقين بلا شك هذا شيء يوجد حسا كما ترى وقد يدخل أيضا على الحواس فيرى المرء بعينه شخصا فربما ظنه زيدا وكابر عليه حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو وهكذا يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق وقد يعرض ذلك الشيء يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده ثم يجده بعد ذلك فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلا لكونه بين يديه حقيقة فكذلك يعرض في الاستدلال وليس شيء من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس ولولاه لم نعلم أصلا كما أن حواس المجنون المطبق والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع يعلم يقينا بقلبه أنه كاذب وأنه مبطل وقاح أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه فهذا معذور وإنما نكلم الأنفس لسنا نقصد بكلامنا الألسنة ولا علينا قصر الألسنة بالحجة إلى الإذعان بالحق وإنما علينا قسر الأنفس إلى تيقن معرفته فقط فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت إنما هو خطأ صريح فمن هنا دخلت عليهم الشبهة وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحا مسبورا محققا فهو حجة العقل وما كان منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل بل العقل يبطلها فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين وقد أحكمنا هذا غاية الإحكام والحمد لله رب العالمين في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل ترجمته باب الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة وقد سألوا أيضا فقالوا بأي شيء عرفتم صحة حجة العقل أبحجة عقل أم بغير ذلك فإن قلتم عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه قال أبو محمد وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها والجواب على ذلك وبالله تعالى التوفيق أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان ولم يكن بين أول أوقات فهمنا وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر وأن الشيء لا يكون قائما قاعدا في حال واحدة وأن الطويل أمد من القصير وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان فلا وقت للاستدلال فيه ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك إلا أنه فعل الله عز وجل في النفوس فقط ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل ثم نقول له إن كنت مسلما بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى فإن كلامنا في هذا الديوان إنما هو مع أهل ملتنا وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال في كتابنا الموسوم بالفصل وكتابنا الموسوم بالتقريب وتقصينا هذا الشك وبينا خطأه بعون الله تعالى وليس كتابنا هذا مكان الكلام مع هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 قال أبو محمد ويقال لمن قال بإلهام ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء وأن المدعين للإلهام ولإدراك ما يدركه غيرهم بأوله عقله لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم إلهاما أو إدراكا فصح بلا شك أنهم كذبة وأن الذي بهم وسواس وأيضا فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل ولو أعطي كل امرىء بدعواه المعراة لما ثبت حق ولا بطل باطل ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم ولا صحت ديانة أحد أبدا لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول ألهمت أن دم فلان حلال وأن ماله مباح لي أخذه وأن زوجه مباح لي وطؤها وهذا لا ينفك منه وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقا وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضا فلا بد من حاكم يميز الحق منها من الباطل وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله وقد بينا ذلك في كتاب التقريب وقال أبو محمد ويقال لمن قال بالإمام بأي شيء عرفت صحة قول الإمام أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام أم بقوله مجردا فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به ولا سبيل له إليه وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاما وإن قالوا بالإلهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الإلهام وإن قالوا بقوله مجردا سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل ولا سبيل إلى وجه خامس أصلا قال أبو محمد ويقال لمن قال بالتقليد ما الفرق بينك وبين من قلد غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الذي قلدت أنت بل كفر من قلدته أنت أو جهله فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد وقد أفردنا في إبطال التقليد بابا ضخما قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق قال أبو محمد علي ويقال لمن قال لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر أخبرنا الخبر كله حق أم كله باطل أم منه حق وباطل فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شيء إلا به وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم وإن قال حق كله عورض بأخبار مبطلة لمذهبه فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشيء وضده في وقت واحد وذلك ما لا سبيل إليه وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى الباطل فهو باطل ضرورة فلم يبق إلا أن من الخبر حقا وباطلا فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل قال أبو محمد علي ثم يقال لجميعهم بأي شيء عرفتم صحة ما تدعون إليه وصحة التوحيد والنبوة ودينك الذي أنت عليه أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل وبأي شيء عرفت فضل من قلدت أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهما إليه ولا مقلدا له برهة من دهرك وبأي شيء عرفت صحة ما بلغك من الأخبار بعد أن لم تكن بلغتك وهل لك من عقل أم لا عقل لك فإن قال عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه فإننا إنما رغبنا منه الاعتراف بالخطأ فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه وإلا كنا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق فإن قال لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 مذهبه الفاسد ضرورة قال أبو محمد واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها وهي قوله تعالى {فلذلك فدع وستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل آمنت بمآ أنزل لله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم لله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم لله يجمع بيننا وإليه لمصير * ولذين يحآجون في لله من بعد ما ستجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد} قال أبو محمد وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم وهو قوله تعالى فيمن يحاج بعد ظهور الحق وهذه صفة المعاند للحق الآبي من قبول الحجة بعد ظهورها وهذا مذموم عند كل ذي عقل ومنها قوله تعالى {وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون} قال أبو محمد وإنما ذم تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في الباطل وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات من إحياء الموتى وغير ذلك ومنها قوله تعالى {ويعلم لذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص} ومنها قوله تعالى {فإن حآجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن تبعن وقل للذين أوتوا لكتاب ولأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد هتدوا وإن تولوا فإنما عليك لبلاغ ولله بصير بلعباد} قال أبو محمد قال تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به فعلمنا يقينا أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا شك فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم ووجه الجدال المأمور به المحمود لأنا قد وجدناه تعالى قد قال {ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى لله وعمل صالحا وقال إنني من لمسلمين} ووجدناه تعالى قد قال {دع إلى سبيل ربك بلحكمة ولموعظة لحسنة وجادلهم بلتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بلمهتدين} فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 كلها من الرفق والبيان والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة وقال تعالى {قل فأتوا بكتاب من عند لله هو أهدى منهمآ أتبعه إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} ولم يأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا شكا في صدق ما يدعو إليه ولكن قطعا لحجتهم وحسما لدعواهم وإلزاما لهم مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الأهدى واتباعه الأمر الأصوب وإعلاما لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول خصمه ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز وجل فليس صادقا وإنما هو متبع لهواه وقال تعالى {قالوا تخذ لله ولدا سبحانه هو لغني له ما في لسماوات وما في لأرض إن عندكم من سلطان بهذآ أتقولون على لله ما لا تعلمون * قل إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} قال أبو محمد ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز وجل وأنه مفتر على الله تعالى وكاذب عليه عز وجل بنص الآية لا تأويل ولا تبديل وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الإنصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله وهكذا نقول نحن اتباعا لربنا عز وجل بعد صحة مذاهبنا لا شكا فيها ولا خوفا منه أن يأتينا أحد بما يفسدها ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبدا لأننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الأدلة قبل اعتقاد مدلولاتها حتى وفقنا ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الأحاديث والآي في ظاهر اللفظ ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا ولعلها ثابتة في نقلها فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها إلا أن هذا في أقوالنا قليل جدا والحمد لله رب العالمين وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى {ولا تجادلوا أهل لكتاب إلا بلتي هي أحسن إلا لذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بلذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} فأمر عز وجل كما ترى بإيجاب المناظرة في رفق وبالإنصاف في الجدال وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشيء من ذلك فيعارض حينئذ بما ينبغي وقال تعالى {يمعشر لجن ولإنس إن ستطعتم أن تنفذوا من أقطار لسماوات ولأرض فنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى {وذر الذين تخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم لحياة لدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون لله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منهآ أولئك لذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} فذكر عز وجل تقدير إبراهيم عليه السلام قومه على نقله الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله وأن ذلك لدليل على خلقها وبرهان على حدوثها فقال عز وجل {وتلك حجتنآ آتيناهآ إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشآء إن ربك حكيم عليم} وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة فمرة للملك ومرة لقومه والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه ففرض علينا اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون قال الله عز وجل {إن أولى لناس بإبراهيم للذين تبعوه وهذا لنبي ولذين آمنوا ولله ولي لمؤمنين} فنحن المتبعون لإبراهيم عليه السلام في المحاجة والمناظرة فنحن أولى الناس به وسائر الناس مأمورون بذلك قال الله تعالى {قل صدق لله فتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين} ومن ملته المناظرة كما ذكرنا فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاص لله عز وجل ومخالف لملة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما قال الله عز وجل وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أثنى على أصحاب الكهف {نحن نقص عليك نبأهم بلحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى} فأثنى الله عز وجل عليهم في إنكارهم قول قومهم إذ لم يقم قومهم على قولهم حجة بينة وصدقهم تعالى في قولهم أن من ادعى قولا بلا دليل فهو مفتر على الله عز وجل الكذب وقال تعالى {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنهآ إنا من لمجرمين منتقمون} فلا أظلم ممن قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى ومن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى {لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون} وقال تعالى {بل تبع لذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدي من أضل لله وما لهم من ناصرين} فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولا وافقه بلا علم بصحته فهو ظالم وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق فهو من أهل النار وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} أنكر الله تعالى أن يكذب المرء بما لا يعلم فقال تعالى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب لذين من قبلهم فنظر كيف كان عاقبة لظالمين} فصح بكل ما ذكرنا الوقوف عما لا نعلم والرجوع إلى ما أوجبته الحجة بعد قيامها وقال تعالى {ومن أظلم ممن فترى على لله كذبا أو كذب بلحق لما جآءه أليس في جهنم مثوى للكافرين} قال أبو محمد في هذه الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة وألا يأتي ما قامت عليه الحجة فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ بوسواس يقوم في نفسه أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان أو قلد إنسانا مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن وعلى كل حال فهو معصوم لكن يخطىء ويصيب وقال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 صادقين} فأوجب تعالى أن من كان صادقا في دعواه فعليه أن يأتي بالبرهان وإن لم يأت بالبرهان فهو كاذب مبطل أو جاهل وقال تعالى {هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} فلم يوجب تعالى المحاجة إلا بعلم ومنع منها بغير علم وقال تعالى {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بلغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مرآء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا} قال أبو محمد فلما وجدنا الله تعالى قد أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة ولم يوجب قبول شيء إلا ببرهان وجب علينا تطلب الحجاج المذموم على ما قدمناه فوجدناه قد قال {وما نرسل لمرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل لذين كفروا بلباطل ليدحضوا به لحق وتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا} فذم تعالى كما ترى الجدال بغير حجة والجدال في الباطل وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون ملقن حجة وبين تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة وأن المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق وقال تعالى {لذين يجادلون في آيات لله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند لله وعند لذين آمنوا كذلك يطبع لله على كل قلب متكبر جبار} فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم والجدال المحمود الواجب فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق والمذموم وجهان بنص الآيات التي ذكرنا أحدهما من جادل بغير علم والثاني من جادل ناصرا للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه وفي هذا بيان أن الحق في واحد وأنه لا شيء إلا ما قامت عليه حجة العقل وهؤلاء المذمومون هم الذين قال الله تعالى فيهم {ألم تر إلى لذين يجادلون في آيات لله أنى يصرفون} وقوله تعالى {ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} وقوله تعالى {ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضل عن سبيل لله له في لدنيا خزي ونذيقه يوم لقيامة عذاب لحريق} وبقوله تعالى {ما يجادل في آيات لله إلا لذين كفروا فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 يغررك تقلبهم في لبلاد * كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} فبين تعالى كما ترى أن الجدال المحرم هو الجدال الذي يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم قال أبو محمد ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب البرهان أن فرعون قال {يقوم لكم لملك ليوم ظاهرين في لأرض فمن ينصرنا من بأس لله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل لرشاد} {وقال لذي آمن يقوم تبعون أهدكم سبيل لرشاد} فبأي شيء يعرف المحق منهما من المبطل هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها فهذا كلام العزيز الجبار الخالق البارىء قد نصصناه في اتباع البرهان وتكذيب قول من لا حجة في يديه وهو الذي لا يسع مسلما خلافه لا قول من قال اذهب إلى شاك مثلك فناظره فيقال له أترى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شاكا إذ علمه ربه تعالى مجادلة أهل الكتاب وأهل الكفر وأمره بطلب البرهان وإقامة الحجة على كل من خالفه ولا قول من قال أو كلما جاء رجل هو أجدل من رجل تركنا ما نحن عليه أو كلاما هذا معناه قال أبو محمد وهذا كلام يستوي فيه مع قائله كل ملحد على ظهر الأرض فلئن وسع هذا القائل ألا يدع ما وجد عليه سلفه بلا حجة لحجة ظاهرة واردة عليه ليسعن اليهودي والنصراني ألا يدعا ما وجدا عليه سلفهما تقليدا بلا برهان وألا يقبلا برهان الإسلام الواردة عليهما وحجته القاطعة قال الله عز وجل {قالوا يلوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من لليل ولا يلتفت منكم أحد إلا مرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم لصبح أليس لصبح بقريب * فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هي من لظالمين ببعيد * وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا لمكيال ولميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويقوم أوفوا لمكيال ولميزان بلقسط ولا تبخسوا لناس أشيآءهم ولا تعثوا في لأرض مفسدين * بقية لله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ * قالوا يشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت لحليم لرشيد * قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا لإصلاح ما ستطعت وما توفيقي إلا بلله عليه توكلت وإليه أنيب * ويقوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * وستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود * قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز} قال أبو محمد فإذا قد حض الله تعالى على المجادلة بالحق وأمر بطلب البرهان فقد صح أن طلب الحجة هي سبيل الله عز وجل بالنص الذي ذكرنا أن من نهى عن ذلك وصد عنه فهو صاد عن سبيل الله تعالى ظالم ملعون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بلا تأويل إلا على عين النص الوارد من قبل الله تعالى وبالله نعتصم وقال تعالى {ما كان لأهل لمدينة ومن حولهم من لأعراب أن يتخلفوا عن رسول لله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل لله ولا يطأون موطئا يغيظ لكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن لله لا يضيع أجر لمحسنين} ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبدا فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين وأول ما أمر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال فلما قامت الحجة وعاندوا الحق أطلق الله تعالى السيف حينئذ وقال تعالى {قل فلله لحجة لبالغة فلو شآء لهداكم أجمعين} وقال تعالى {بل نقذف بلحق على لباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم لويل مما تصفون} ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لأن السيف مرة لنا ومرة علينا وليس كذلك البرهان بل هو لنا أبدا ودامغ لقول مخالفينا ومزهق له أبدا ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقا كثيرا فأزهقته منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم ولعن قتلتهم وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط قال أبو محمد وقد علمنا عز وجل الحجة على الدهرية في قوله تعالى {لله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض لأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار} وقوله تعالى {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} وعلمنا الحجة على الثنوية بقوله تعالى {لو كان فيهمآ آلهة إلا لله لفسدتا فسبحان لله رب لعرش عما يصفون} وعلى النصارى وعلى جميع الملل وقد بينا ذلك في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل ورأينا فيه عظيم ما أفادنا الله تعالى في ذلك من الحكمة والعلم بالمحاجة وإظهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 البرهان بغاية الإيجاز والاختصار وقد أمر الله بالجدال على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما اخبرنا عبد الله بن الربيع قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم حدثنا ابن الأعرابي أنبأنا أبو داود حدثنا أبو موسى بن إسماعيل ثنا حماد هو ابن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم قال أبو محمد وهذا حديث في غاية الصحة وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله قال أبو محمد وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع السؤال موضعه وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر محاجة آدم موسى صلى الله عليهما وسلم حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج عن ابن أبي عمر المكي ومحمد بن حاتم وغيرهما واللفظ لابن حاتم كلاهما عن سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار عن طاوس قال سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة فحج آدم موسى قال أبو محمد فموسى صلى الله عليه وسلم وضع الملامة في غير موضعها فصار محجوجا وذلك لأنه لام آدم صلى الله عليه وسلم على أمر لم يفعله وهو خروج الناس من الجنة وإنما هو فعل الله عز وجل ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعا للملامة موضعها ولكان آدم محجوجا وليس أحد ملوما إلا على ما يفعله لا على ما تولد من فعله ولا مما فعله غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 والكافر إنما يلام على الفعل لا على دخول النار والقاتل إنما يلام على فعله لا على موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه فعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كما ترى كيف نسأل عند المحاجة وبين لنا صلى الله عليه وسلم أن المحاجة جائزة وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجا وظهر بذلك قول الله عز وجل {كمآ أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم لكتاب ولحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} والذي ذكرنا هو نص الحديث لا ما ظنه من يتعسف الكلام ويحرفه عن مواضعه ويطلب فيه ما ليس فيه وليس هذا الحديث من باب إثبات القدر في شيء وإثبات القدر إنما يصح من أحاديث أخر وآيات أخر قال أبو محمد وقد تحاج المهاجرون والأنصار وسائر الصحابة رضوان الله عليهم وحاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضى الله عنه وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق فلا معنى لقول لمن جاء بعدهم وبالجملة فلا أضعف ممن يروم إبطال الجدال بالجدال ويريد هدم جميع الاحتجاج بالاحتجاج ويتكلف فساد المناظرة بالمناظرة لأنه مقر على نفسه أنه يأتي بالباطل لأن حجته هي بعض الحجج التي يريد إبطال جملتها وهذه طريق لا يركبها إلا جاهل ضعيف أو معاند سخيف والجدال الذي ندعو إليه هو طلب الحق ونصره وإزهاق الباطل وتبينه فمن ذم طلب الحق وأنكر هدم الباطل فقد ألحد وهو من أهل الباطل حقا والخصام بالباطل هو اللدد الذي قال فيه عليه السلام أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم أو كما قال صلى الله عليه وسلم فإذا قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من الإلهام والتقليد وثبت أن الخبر لا يعلم صحته بنفسه ولا يتميز حقه من كذبه وواجبه من غير واجبه إلا بدليل من غيره فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الأشياء الموجودات وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وتمييز المحال منها وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم أو أن العقل يوجد عللا موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة وهما طرفان أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل والثاني قصر فخرج عن حكم العقل ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه ولا فرق ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معا إحداهما التي تبطل حجج العقل جملة والثانية التي تستدرك بعقولها على خالقها عز وجل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم فثقفوها هم ورتبوها رتبا أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها وأنه لا تجري أفعاله عز وجل إلا تحت قوانينها لقد افترى كلا الفريقين على الله عز وجل إفكا عظيما وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول وقد بينا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم وأن الخالق واحد لم يزل وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته والعمل بما صححه العقل من ذلك كله وسائر ما هو في العالم موجود مما عدا الشرائع وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراما أو حلالا أو يكون التيس حراما أو حلالا أو أن تكون صلاة الظهر أربعا وصلاة المغرب ثلاثا أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه أو أن يتزوج أربعا ولا يتزوج خمسا أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمدا إذا عفا عنه أولياء المقتول أو أن يكون الإنسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع أو أن تخص صورة الإنسان بالتمييز دون صورة الفرس أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعا دون أن تكون تسعا وكذلك سائر رتب العالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 كلها فهذا ما لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه والإقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى ولو فعله لكان فرضا علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد ومعرفة صفات كل ما أدركنا معرفته مما في العالم وأنه على صفة كذا وهيئة كذا كما أحكمه ربه تعالى ولا زيادة فيه وبالله تعالى التوفيق وإليه الرغبة في دفع ما لا نطيق الباب الرابع في كيفية ظهور اللغات أعن توقيف أم عن اصطلاح قال أبو محمد أكثر الناس في هذا والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري فأما السمع فقول الله عز وجل {وعلم آدم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} وأما الضروري بالبرهان فهو أن الكلام لو كان اصطلاحا لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم وتدربت عقولهم وتمت علومهم ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جدا يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع ويعاني به الأمراض ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 والاحتياج إلى كافل والاصطلاح يقتضي وقتا لم يكن موجودا قبله لأنه عمل المصطلحين وكل عمل لا بد من أن يكون له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه فهذا من الممتنع المحال ضرورة قال علي وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الإنساني ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام والكلام حروف مؤلفة والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك وكل فعل فعله فله زمان ابتدىء فيه لأن الفعل حركة تعدها المدد فصح أن لهذا التأليف أولا والإنسان لا يوجد دونه وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة فصح أن للمحدث محدثا بخلافة وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى قال علي وأيضا فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم لا بد من ذلك فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام ولم يبق إلا أن يقول قائل إن الكلام فعل الطبيعة قال علي وهذا يبطل ببرهان ضروري وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلا واحدا لا أفعالا مختلفة وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط وهو أن قال إن الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قال علي وهذا محال ممتنع لأنه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الأمكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه وهذا يرى بالعيان بطلانه لأن كل مكان في الأغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم فبطل ما قالوا وأيضا فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء ومن كابر في هذا فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل لا بد له من أحد هذين الوجهين فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولا إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها وأبينها عبارة وأقلها إشكالا وأشدها اختصارا وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل {وعلم آدم الأسمآء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلنا وقد قال قوم هي السريانية وقال قوم هي اليونانية وقال قوم هي العبرانية وقال قوم هي العربية والله أعلم إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقينا أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حمير لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي وإذا رام نغمة أهل القيروان ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي ومن الخراساني إذا رام نغمتها ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلا لا يخفى على من تأمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلا وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق فنجدهم يقولون في العنب العينب وفي السوط أسطوط وفي ثلاثة دنانير ثلثدا وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمدا إذا أراد أن يقول محمدا ومثل هذا كثير فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم وأنها لغة واحدة في الأصل وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معا والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم إن اليونانية أبسط اللغات ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم فمضمون منهم موت الخواطر وربما كان ذلك سببا لذهاب لغتهم ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم هذا موجود بالمشاهدة ومعلوم بالعقل ضرورة ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة فكيف تفلت أكثرها والله تعالى اعلم ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولا ولا ندري لعل قائلا يقول لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 اللغات الباقية لا نعلمها بعينها وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلا وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الأسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة إذ توزعها بنوه بعد ذلك وهذا هو الأظهر عندنا والأقرب إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها ولكن هذا هو الأغلب عندنا نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها وإنما ظننا هذا لأننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى وعظيم التعب في ذلك لغير معنى ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيىء الاختيار مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه وعما هو آكد عليه من أمور معاده ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعا بل نقول إنه ممكن بعيد جدا فإن قالوا لعل ملكا كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم قلنا لهم هذا ضد وضع اللغات الكثيرة بل هو جمع اللغات على لغة واحدة ثم نقول وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئا وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخف وأمكن من إحداث لغة مستأنفة وعلم ذلك عند الله عز وجل وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة وقد قال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم} وقال تعالى {فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه السلام لا لغير ذلك وقد غلط في ذلك جالينوس فقال إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع قال علي وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق وقد قال قوم العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى قال علي وهذا لا معنى له لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولا إلا بلسان قومه وقال تعالى {إني إذا لفي ضلال مبين} وقال تعالى {وإنه لفي زبر الأولين} فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية فتساوت اللغات في هذا تساويا واحدا وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات القائمة بيننا الآن وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات وإما أن تكون لهم لغات شتى لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنهم يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم أو بغيرها مما الله تعالى أعلم به وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم واحتج بقول الله عز وجل {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} فقلت له فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا {وما لنآ ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون} ولأنهم قالوا {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين} ولأنهم قالوا {وقالوا لو كنا نسمع أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 نعقل ما كنا في أصحاب السعير} فقال لي نعم فقلت له فاقض أن موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية لأن كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية فإن قلت هذا كذبت ربك وكذبك ربك في قوله {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشآء ويهدي من يشآء وهو العزيز الحكيم} فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ليبين لنا عز وجل فقط وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح ولا حسن في بعضها دون بعض وهي تلك بأعيانها في كل لغة فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة وبالله تعالى التوفيق وقد أدى هذا الوسواس العامي اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر قال أبو محمد هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه وشبك بين المعاني وأوقع الأسماء على غير مسمياتها ومزج بين الحق والباطل فكثر لذلك الشغب والالتباس وعظمت المضرة وخفيت الحقائق ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وقوته مميزون معنى كل لفظة على حقيقتها فنقول وبالله تعالى نتأيد الحد هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه كقولك الجسم هو كل طويل عريض عميق فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 لو ارتفعت عنه ارتفعت عن الجسمية ضرورة ولم يكن جسما فكانت هذه العبارة مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له مما ليس بجسم والرسم هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبىء عن طبيعته كقولك الإنسان هو الضحاك فإنك ميزت الإنسان بهذا اللفظ تمييزا صحيحا مما سواه إلا أنك لم تخبر بطبيعته لأنك لو توهمت الضحك مرتفعا عن الإنسان لم تبطل بذلك عنه الإنسانية ولامتنع بذلك من الكلام في المعلوم والتصرف في الصناعات ولبقيت سائر طبائعه بحسبها قال أبو محمد علي ولما كان هذان المعنيان متغايرين كل واحد منهما غير صاحبه وجب ضرورة أن يعبر عن كل واحد منهما بعبارة غير عبارتنا عن الآخر ولو عبرنا عنهما عبارة واحدة لكنا قد أوقعنا من يقبل منا في الإشكال ولكنا ظالمين لهم جدا وغير ناصحين لهم وهذا خلاف ما أخذه الله تعالى على العلماء إذ يقول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ليبينه للناس ولا يكتمونه ومن لبس الحقائق فقد كتمها والعلم هو تيقن الشيء على ما هو عليه إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه كذلك وإما أول بالحس أو ببديهة العقل وإما حادث عن أول على ما بينا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى أول العمل أو الحس إما من قرب وإما من بعد وإما عن اتباع لمن أمر الله تعالى باتباعه فوافق فيه الحق وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق واعتقاده وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس كلهم إلى الإيمان بالله تعالى وبما جاء به والنطق بذلك ولم يشترط عليه السلام عليهم ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال بل قنع بهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 من العالم والجاهل والحر والعبد والمسبي والمستعرب واجتمعت الأمة على ذلك بعده عليه إلى اليوم وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه ولم يشترط عليهم استدلالا في ذلك فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو عالم بذلك بيقين عارف به إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول عليه بذلك ولحرم عليه اعتقاده لأن الله تعالى يقول {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال تعالى {إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به ومنهي عن القول بما لا يعلم وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن استدلال ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم لنا به وعن قفو ما لا نعلم كان مدعيا بلا دليل ومبطلا في قوله لأنه يقول {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} إلا في الإيمان فاقف فيه ما لا علم لك به وهذا كذب على الله تعالى مجرد فإن قال قائل فإن الله يقول {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} قلنا نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل ولا برهان لصاحب الباطل وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم سواء علمه المعتقد له أو جهله وإنما يكف البرهان أهل الباطل لإدحاض باطلهم ولا يجوز أن يكلف المحق برهانا لأنه لا يخلو مكلفه البرهان من أن يكون محقا مثله أو مبطلا فإن كان محقا مثله فهو معنت له والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلا فحرام عليه الجدال في الحق قال تعالى {يجادلونك في لحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى لموت وهم ينظرون} وقال تعالى {كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} فلا يجوز تكليف المحق برهانا إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل معارضة لأن من فعل ذلك يكون معارضا للحق ومعارضته الحق بالباطل لا تجوز قال تعالى ذاما لقوم {كذبت قبلهم قوم نوح ولأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بلباطل ليدحضوا به لحق فأخذتهم فكيف كان عقاب} وقد تحذلق قوم فأداهم ذلك إلى الهلكة فقالوا الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث وهذا كلام موجب الكفر لأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 يوقعون بذلك الباري تعالى تحت الحدوث لأن كل محدود متناه ومركب وكل مركب فمخلوق لأنه مركب من جنسه وفصله المميز له مما جامعه تحت جنسه فقد جعلوا ربهم محدثا تعالى الله عن ذلك وقالوا حد العلم أنه صفة لا يتعذر بوجودها على الحي القادر إحكام الفعل قال علي وهذا حد فاسد لأن النحل لا يتعذر عليها أحكام بناء الشمع ووضع العسل ولا تسمى عالمة وقد يعرض للعالم الناقد خدر يبطل يديه ورجليه فيعتذر عليه كل فعل حكمة أو غير حكمة وعلمه وعقله باقيان وقالت طائفة منهم حد العلم منا ومن الله تعالى أنه صفة يتبين بها المعلوم على ما هو عليه من أحواله قال علي وكلا الحدين فاسد ونحن نسألهم أهذه الصفة التي ذكرتم أهي والموصوف بها شيء واحد أم هي والموصوف بها شيئان متغايران فإن قالوا شيء واحد أبطلوا قولهم في الباري تعالى ووافقوا خصومهم إلا في العبارة فقط وأيضا فإن كون الصفة والموصوف شيئا واحدا غير موجود في العالم لأن الصفات تتعاقب على الموصوفات فتفتى والموصوف باق بحسبه ولا شك في أن الفاني غير الباقي والصفة عرض ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا ولكن اتباعا منا للنص الوارد في أن له علما فقط إلا أننا نقطع على أنه ليس غيره تعالى وأنه ليس عرضا ونحن لم نسم الباري تعالى عالما وإنما قلنا إنه عليم كما قال تعالى فإن قالوا فأي فرق بين عالم وعليم قيل لهم وأي فرق بين الجبار والمتجبر فسموا ربكم متجبرا وأي فرق بين أن نسميه تعالى خير الماكرين وأن له مكرا ولا نسميه ماكرا وكذلك نسميه حكيما ولا نسميه عاقلا ونسميه الواحد ولا نسميه الفرد ولا الفذ وقد بينا في كتاب الفصل أن أسماءه تعالى أعلام وليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مشتقة أصلا وبالله التوفيق فإن قالوا إن الصفة والموصوف شيئان متغايران صدقوا وأخرجوا بذلك صفات الباري تعالى عن هذا الحكم والاعتقاد هو استقرار حكم بشيء ما في النفس إما عن برهان أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علما يقينا ولا بد وإما عن إقناع فلا يكن علما متيقنا ويكون إما حقا أو باطلا وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقا بالبخت وإما باطلا بسوء الجد والبرهان كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشيء والدليل قد يكون برهانا وقد يكون اسما يعرف به المسمى وعبارة يتبين بها المراد كرجل ذلك على طريق تريد قصده فذلك اللفظ الذي خاطبك به هو دليل على ما طلبت وقد يسمى المرء الدال دليلا أيضا والحجة هي الدليل نفسه إذا كان برهانا أو إقناعا أو شغبا والدال هو المعرف بحقيقة الشيء وقد يكون إنسانا معلما وقد يعبر به عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم وقد يسمى الدليل دالا على المجاز ويسمى الدال دليلا أيضا كذلك في اللغة العربية والاستدلال طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم والدلالة فعل الدال وقد تضاف إلى الدليل على المجاز والإقناع قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شيء ما دون أن توقفها على تحقيق حجة ولم يقم عندها برهان بإبطاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 والشغب تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل وهي السفسطة والتقليد هو اعتقاد الشيء لأن فلانا قاله ممن لم يقم على صحة قوله برهان وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليدا بل هو طاعة حق لله تعالى والإلهام علم يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد وهو لا يكون إلا إما فعل الطبيعة من الحي غير الناطق ومن بعض الناطقين أيضا كنسج العنكبوت وبناء النحل وما أشبه ذلك وأخذ الصبي الثدي وما أشبه ذلك أو أول معرفة النفس قبل أوان استدلالها لنا كعلمنا أن الكل أكثر من الجزء وهو فيما عدا هذين الوجهين باطل والنبوة اختصاص الله عز وجل رجلا أو امرأة من الناس بإعلامه بأشياء لم يتعلمها إما بواسطة ملك أو بقوة يضعها في نفسه خارجة عن قوى المخلوقين تعضدها خرق العادات وهو المعجزات وقد انقطعت بعد محمد صلى الله عليه وسلم والرسالة أن يأمر الله تعالى نبيا بإنذار قوم وقبول عهده وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا والبيان كون الشيء في ذاته ممكنا أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه والإبانة والتبيين فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الإشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة وقد يسمى أيضا على المجاز ما فهم منه الحق وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد إلى الأفهام مبينا كما تقول بين لي الموت أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الناس لا يخلدون والتبيين فعل نفس المبين للشيء في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضا والمبين هو الدال نفسه والصدق هو الإخبار عن الشيء بما هو عليه والحق هو كون الشيء صحيح الوجود ولا يغلط من لا سعة لفهمه فيظن أن هذا الحد فاسد بأن يقول الكفر والجور صحيح وجودهما فينبغي أن يكون حقا فليعلم أن هذا شغب فاسد لأن وجود الكفر والجور صحيحين في رضاء الله تعالى ليس هو صحيحا بل هو معدوم فرضا الله تعالى بهما باطل وأما كونهما موجودين من الكافر والجائز فحق صحيح ثابت لا شك فيه فمثل هذا من الفروق ينبغي مراعاته وتحقيق الكلام فيه وإلا وقع الإشكال وتحير الناظر وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة وهذا خطأ لا يخفى على ذي فهم ينصف نفسه لأن الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة ولا أوجبته شريعة أصلا إلا في تسمية الباري تعالى التي لا تؤخذ إلا بالنص ولا يحل فيها التصريف فظهر فساد هذا الفرق بيقين وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن الله تعالى قال {حقيق على أن لا أقول على لله إلا لحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل} ولا فرق عند أحد بين قول القائل حقيق على كذا وبين قوله حق على كذا فظهر فساد هذا الفرق والباطل ما ليس حقا والكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه والأصل هو ما أدرك بأول العقل وبالحس وقد ذكرناه قبل والفرع كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد وقد يكون ذلك الفرع أصلا لما أنتج منه أيضا والمعلوم قسمان معلوم بالأصل المذكور ومعلوم بالمقدمات الراجعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 إلى الأصل كما بينا وكل ما نقل بتواتر على النبي صلى الله عليه وسلم أو أجمع عليه نقل جميع علماء الأمة عنه عليه السلام أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه عليه السلام فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة والنص هو اللفظ الوارد في القرآن أو السنة المستدل به على حكم الأشياء وهو الظاهر نفسه وقد يسمى كل كلام يورد كما قاله المتكلم به نصا والتأويل نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل والعموم حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة وكل عموم ظاهر وليس كل ظاهر عموما إذ قد يكون الظاهر خبرا عن شخص واحد ولا يكون العموم إلا على أكثر من واحد والخصوص محل اللفظ على بعض ما يقتضيه في اللغة دون بعض والقول فيه كما قلنا في التأويل آنفا ولا فرق والألفاظ إما دالة على واحد وإما على أكثر من واحد فإن كانت ناقصة غير دالة كانت هدرا والمجمل لفظ يقتضي تفسيرا فيؤخذ من لفظ آخر والمفسر لفظ يفهم منه معنى المجمل المذكور والأمر إلزام الآمر المأمور عملا ما فإن كان الخالق تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فالطاعة لهما فرض وإن كان ممن دونهما فلا طاعة له والنهي إلزام الناهي المنهي ترك عمل ما والقول فيه كالقول في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الأمر فلا فرق وطاعة الأئمة فيما ليس معصية طاعة لله تعالى لتقدم أمر الله عز وجل بذلك والفرض ما استحق تاركه اللوم واسم المعصية لله تعالى وهو الواحب واللازم والحتم والحرام وهو ما استحق فاعله اللوم واسم المعصية لله تعالى إلا أن يسقط ذلك عنه من الله تعالى عفو أو توبة وهو المحظور والذي لا يجوز والممنوع والطاعة تنفيذ الأمر من المأمور فيما أمر به والتوقف عن إتيان المنهي عنه وقد يسمى كل بر طاعة والمعصية ضد ذلك والندب أمر بتخيير في الترك إلا أن فاعله مأجور وتاركه لا آثم ولا مأجور وهو الائتساء والمستحسن والمستحب وهو الاختيار وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك والصوم كذلك وسائر أعمال البر والكراهة نهي بتخيير في الفعل إلا أن على تركه ثوابا وليس في فعله أجر ولا إثم وذلك نحو ترك كل تطوع ونحو اتخاذ المحاريب في المساجد والتنشف بعد الغسل من الجنابة بثوب معد لذلك غير الذي يلبسه المرء وبيع السلاح ممن لا يؤمن منه أن يستعمله فيما لا يحل وابتياع الخصيان إذا أدى ذلك إلى خصائهم بطلب الغلاء في أثمانهم والحلق في غير علة أو حج أو عمرة والأكل متكئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 والإباحة تسوية بين الفعل والترك لا ثواب على شيء منهما ولا عقاب كمن جلس متربعا أو رافعا إحدى ركبتيه أو كمن صبغ ثوبه أخضر أو لازوديا وسائر الأمور كذلك وهو الحلال والقياس عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم بشيء ما بحكم لم يأت به نص لشبهه شيء آخر ورد فيه ذلك الحكم وهو باطل كله والعلة طبيعة في الشيء يقتضي صفة تصحيحها ولا توجد الصفة دونها ككون النار علة للإحراق والإحراق هو معلولها والعلة أيضا المرض ولا علة في شيء من الدين أصلا والقول بها في الدين بدعة وباطل والسبب أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلا آخر من أجله ولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه ككون الذنب سببا لعقوبة المذنب والغرض نتيجة يقصدها الفاعل بفعله كالشبع الذي هو غرض الآكل في أكله وقد يكون الغرض اختيارا كمراد الله تعالى بشرع الشرائع تعذيب من عصاه وتنعيم من أطاعه والأمارة علامة بين المصطلحين على شيء ما إذا وجدت علم الواجد لها ما وافقه عليه الآخر وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها ما يخاف نسيانه والنية قصد العمل بإرادة النفس له دون غيره واعتقاد النفس ما استقر فيها والشرط تعليق حكم ما بوجوب آخر ورفعه برفعه وهو باطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ما لم يأت به نص وذلك نحو قول القائل إن خدمتني شهرا أعطيتك درهما والتفسير والشرح هما التبيين والنسخ ورود أمر بخلاف أمر كان قبله ينقض به أمر الأول والاستثناء ورود لفظ أو بيان بفعل بإخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر وكان المراد في اللفظ الأول ما بقي بعد المستثنى منه وهذا هو الفرق بين النسخ والاستثناء لأن النسخ كان فيه اللفظ الأول مرادا كله طول مدته وأما المستثنى منه فلم يكن اللفظ الأول مرادا كله قط والجدل والجدال إخبار كل واحد من المختلفين بحجته أو بما يقدر أنه حجته وقد يكون كلاهما مبطلا وقد يكون أحدهما محقا والآخر مبطلا إما في لفظه وإما في مراده أو في كليهما ولا سبيل أن يكونا معا محقين في ألفاظهما ومعانيهما والاجتهاد بلوغ الغاية واستنفاذ الجهد في المواضع التي يرجى وجوده فيها في طلب الحق فمصيب موقف أو محروم والرأي ما تخيلته النفس صوابا دون برهان ولا يجوز الحكم به أصلا والاستحسان هو ما اشتهته النفس ووافقها كان خطأ أو صوابا والصواب إصابة الحق والخطأ العدول عنه بغير قصد إلى ذلك والعناد العدول عنه بالقصد إلى ذلك والاحتياط طلب السلامة والورع تجنب ما لا يظهر فيه ما يوجب اجتنابه خوفا أن يكون ذلك فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 والجهل مغيب حقيقة العلم عن النفس والطبيعة صفات موجودة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه ولا يعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه ودليل الخطاب هو ضد القياس وهو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه والشريعة هي ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبله والحكم منها للناسخ وأصلها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للراكب والشارب من النهر قال تعالى {شرع لكم من لدين ما وصى به نوحا ولذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا لدين ولا تتفرقوا فيه كبر على لمشركين ما تدعوهم إليه لله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب} وقال امرؤ القيس ولما رأت أن الشريعة همها وأن البياض من فرائصها دامي تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الظل عرمضها طامي واللغة ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها ولكل أمة لغتهم قال الله عز وجل {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} } ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات واللفظ هو كل ما حرك به اللسان قال تعالى {إذ يتلقى لمتلقيان عن ليمين وعن لشمال قعيد} وحده على الحقيقة أنه هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود وهذا أيضا هو الكلام نفسه والخلاف هو التنازع في أي شيء كان وهو أن يأخذ الإنسان في مسالك من القول أو العقل ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في الديانة إذ لا يحل خلاف ما أثبته الله تعالى فيها وقال تعالى {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} وقال تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وهو التفريق أيضا قال تعالى {ولا تكونوا كلذين تفرقوا وختلفوا من بعد ما جآءهم لبينات وأولئك لهم عذاب عظيم} والإجماع هو في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعدا وهو الاتفاق وهو حينئذ مضاف إلى ما أجمع عليه وأما الإجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وليس الاجماع في الدين شيئا غير هذا وأما ما لم يكن إجماعا في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم أو سكت بعضهم ولو واحد منهم في الكلام فيه والسنة هي الشريعة نفسها وهي في أصل اللغة وجه الشيء وظاهره قال الشاعر تريك سنة وجه غير مقرفة ما ساء ليس بها خال ولا ندب وأقسام السنة في الشريعة فرض أو ندب أو إباحة أو كراهة أو تحريم كل ذلك قد سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل والبدعة كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه صلى الله عليه وسلم وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويغدر بما قصد إليه من الخير ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا وهو ما كان أصله الإباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به والكتابة لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية والإشارة تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 المشار إليه أو تنبيه عليه والمجاز هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الأماكن ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر ولا يعلم ذلك إلا من دليل من اتفاق أو مشاهدة وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر أو جماع متيقن أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقيا لأن التسمية لله عز وجل فإذا سمى تعالى شيئا ما باسم ما فهو اسم ذلك الشيء على الحقيقة في ذلك المكان وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى قال عز وجل {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} والتشبيه هو أن يشبه شيء بشيء في بعض صفاته وهذا لا يوجب في الدين حكما أصلا وهو أصل القياس وهو باطل لأن كل ما في العالم فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ومخالف أيضا بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه وهو أيضا التمثيل والمتشابه لا يوجد في شيء من الشرائع إلا بالإضافة إلى من جهل دون من علم وهو في القرآن وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه وأمرنا بالإيمان به جملة وليس هو في القرآن إلا للأقسام التي في السورة كقوله تعالى {ولضحى * ولليل إذا سجى} والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من القرآن فهو محكم والمفصل هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك والاستنباط إخراج الشيء المعيب من شيء آخر كان فيه وهو في الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 إن كان منصوصا على جملة معناه فهو حق وإن كان غير منصوص على جملة معناه فهو باطل لا يحل القول به والحكم هو إمضاء قضية في شيء ما وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة أو بكراهة أو باختيار والإيمان أصله في اللغة التصديق باللسان والقلب معا لا بأحدهما دون الثاني وهو في الدين التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والنطق بذلك باللسان ولا بد من استعمال الجوارح في جميع الطاعات واجبها وندبها واجتناب محرمها ومكروهها برهان ذلك أن جميع أهل الإيمان مكذوب بأشياء منها أن يكون لله تعالى ولد وأن يكون مسيلمة نبيا وغير ذلك كثير ومصدقون بأشياء كثيرة وقد أطلق الله تعالى وأطلق جميعهم بعضهم على بعض اسم الإيمان مطلقا دون إضافة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق اسم التكذيب عليهم إلا بإضافة والكفار مؤمنون بأشياء كثيرة ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان مطلقا إلا بالإضافة فصح أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة إلى ما ذكرناه والكفر أصله في اللغة التغطية قال عز وجل {علموا أنما لحياة لدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في لأموال ولأولاد كمثل غيث أعجب لكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي لآخرة عذاب شديد ومغفرة من لله ورضوان وما لحياة لدنيآ إلا متاع لغرور} قال لبيد بن أبي ربيعة ألقت ذكاء يمينها في كافر يريد الليل لأنه يغطي على كل شيء وهو في الدين صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 لسانه أو بلسانه دون قلبه أو بهما معا أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان على ما بينا في غير هذا الكتاب برهان ذلك أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء مكذب بأشياء ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان بلا إضافة وأهل الإيمان كفار بأشياء كثيرة منها التثليث وغير ذلك ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الكفر بلا إضافة والشرك هو في اللغة أن يجمع شيئا إلى شيء فيشرك بينهما فيما جمعا فيه وهو في الدين معنى الكفر سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان والتسمية لله تعالى لا لغيره والإلزام هو أن نحكم على الإنسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب والعقل هو استعمال الطاعات والفضائل وهو غير التمييز لأنه استعمال ما ميز الإنسان فضله فكل عاقل مميز وليس كل مميز عاقلا وهو في اللغة المنع تقول عقلت البعير أعقله عقلا وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم والحق هو في قول الله تعالى {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن لله ويجعل لرجس على لذين لا يعقلون} يريد الذين يعصونه وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ من ذلك والفور هو استعمال الشيء بلا مهلة ولكن على أثر ورود الأمر به والتراخي تأخير إنفاذ الواجب وحكم أوامر الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شيء ما فيوقف عنده والاحتياط هو التورع نفسه وهو اجتناب ما يتقي المرء أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 غير جائز وإن لم يصح تحريمه عنده أو اتقاء ما غيره خسر منه عند ذلك المحتاط وليس الاحتياط واجبا في الدين ولكنه حسن ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحدا لكن يندب إليه لأن الله تعالى لم يوجب الحكم به والورع هو الاحتياط نفسه فصل في معاني حروف تتكرر في النصوص واو العطف لاشتراك الثاني مع الأول إما في حكمه وإما في الخبر عنه على حسب رتبة الكلام فإن كان الثاني جملة فهو اشتراك في الخبر فقط وإن كان اسما مفردا فهو مشترك في حكم الأول وهي لا تعطي رتبة أي أنها لا توجب أن الأول قبل الثاني ولا أنه بعده بل ممكن فيهما أن يكونا معا أو أن يكون أحدهما قبل الآخر بمهلة بلا مهلة كقولك جاءني زيد وعمرو فجائز أن يأتيا معا وجائز أن يأتي زيد قبل عمرو وعمرو قبل زيد بساعة وبعام وبأقل وبأكثر والفاء تعطي رتبة الثاني بعد الأول بلا مهلة كقولك جاءني زيد فعمرو فزيد جاء قبل عمرو ولا بد وأتى عمرو أثره بلا مهلة وثم توجب أن الثاني بعد الأول بمهلة وواو القسم ليست واو عطف لأنها قد يبدأ بها أول الكلام ولا يبتدأ بواو العطف وأو للشك وللتخيير مثل قولك خذ هذا أو هذا فإنما ملكت أخذ أحدهما وفي الشك قولك جاءني زيد أو عمرو فلم تقطع بمجيء أحدهما بعينه لكن حققت أن أحدهما أتاك ولم تعينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ومعنى الباء الاتصال مثل قولك مررت بزيد تريد اتصال مرورك به ولا توجب تبعيضا ولا استيفاء ومن معناها ابتداء أو تبعيض وإلى معناها الانتهاء أو مع وهذا يكثر جدا ولهذا قلنا إنه لا بد للفقيه أن يكون نحويا لغويا وإلا فهو ناقص ولا يحل له أن يفتي لجهله بمعاني الأسماء وبعده عن فهم الأخبار الباب السادس هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة قال أبو محمد قال قوم الأشياء كلها في العقل قبل ورود الشرع على الحظر وقال آخرون بل هي على الإباحة وقال آخرون بل هي على الحظر حاشا الحركة النقلية من مكان إلى مكان وشكر المنعم فقط وقال آخرون بل هي على الإباحة حاشا الكفر والظلم وجحد المنعم وقال آخرون وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس ليس لها حكم في العقل أصلا لا بحظر ولا بإباحة وإن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره واحتج من قال بحظرها بأن قال الأشياء كلها ملك لله عز وجل ولا يجوز أن يقدم على ملك مالك إلا بإذنه قال أبو محمد وهذا تمويه ساقط لأنه لم يحرم الإقدام على مالك غيرنا بنفس العقل وإنما حرم ما حرم من ذلك ورود الشرع بتحريمه ولو كان تحريم الإقدام على ملك المالك مركبا في ضرورة العقل لما جاز أن يأتي شرع بخلافه كما لا يجوز أن يأتي بشرع فإن الكل أقل من الجزء وأن القصير أطول مما هو أطول منه لأن كل شيء رتب الله تعالى في العقل إدراكه على صفة ما بخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ما قد رتبه تعالى ممتنعا ومحالا ورتب الاخبار به كذبا وإفكا وأخبرنا تعالى أن قوله الحق ولا سبيل أن يرد الشرع بمحال ولا بكذب ومن أجاز ذلك خرج عن الإسلام وقد وجدنا المالك فيما بيننا لملكه قد أمرنا تعالى بأخذه منه كرها فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال وفي أشياء كثيرة من أروش ما أتلف بخطأ أو بغير قصد وبقصد ووجدناه تعالى قد أجاز ما أنفذه أهل دار الحرب في أموالهم وملكهم إياها بقوله تعالى {وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان لله على كل شيء قديرا} وأجاز كل ما أنفذوه فيها من هبة وبيع ثم أطلقنا على أخذها منهم اختلاسا وغلبة وعلى كل وجه فإن قالوا كفرهم أباح أموالهم قيل لهم نحن نوجدكم الذمي كافرا لا يحل أخذ شيء من ماله حاشا الجزية التي لا تكاد تتجزأ من ماله وكلاهما كفره واحد فأين ما ادعته هذه الطائفة المغفلة من أن الإقدام على ملك مالك بغير إذنه حرام محرم في العقل فإن قال قائل منهم تلك الأموال هي ملك الله عز وجل قيل له إنما حرمت أنت ملك الله تعالى قياسا على الشاهد بيننا من قبح التعدي على ملك مالك بزعمك فلا تعد إلى ما جعلته أصلا فتبطله ويقال له أيضا وأنفسنا ملك لله عز وجل وفي منعها الأقوات والتناسل إبطال للنوع الإنساني وفي ذلك إبطال ملك لله عز وجل كثير وإتلاف مملوكات له كثيرة وهذا فسخ لأصلك فيكون الإتلاف على قولك حاظرا مبيحا في حالة واحدة وهذا لا يعقل ويقال لمن قال بإباحتها واحتج بأن في مدخل الطعام ومخرجه عبرة ودليلا على قدرة الله عز وجل اطرد علتك وقل وفي فسقك بالذكور وبالنساء عبرة ودليل على قدرة الله عز وجل في مداخلة الأعضاء بعضها في بعض وفي تخلق الولد وولادته أعظم عبرة وأدل دليلا على قدرة الله عز وجل وكذلك في قتل النفس وسيلان الدم بعد منع الجلد له من السيلان وفي خروج النفس وانقطاع الحركة والحس أعظم عبرة وأدل دليلا على القدرة فأبح قتل النفس على هذا وقل إنه حسن في العقول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بل واجب ومن قرأ كتب التشريح للأطباء علم أن في ذلك أعظم عبرة فليقل إن قتل الأنفس مباح في العقل واحتج المبيحون أيضا بأن قالوا لا بد من فعل أو ترك أو حركة أو سكون فإن منعتموه الكل أوجبتم المحال والممتنع قال أبو محمد وهذا إنما يخاطب به من قال بالحظر وأما نحن فلسنا نقول إن في العقل إباحة شيء ولا حظره وإنما فيه تمييز الموجودات على ما هي عليه وفهم الخطاب فقط وبالجملة فكل شيء يعارض به القائلون بالإباحة أو الحظر فهي دعاوى مجردة واحتج بعض القائلين بالإباحة بقوله تعالى {من هتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا لأننا لم نقل إنه تعالى يعذب من لم يبعث إليه رسولا فيعارضون بهذا وليست هذه الآية من مسألتنا في الإباحة والحظر في ورد ولا صدر لأن الأشياء لو ورد الحظر فيها بنص جلي إلا أنه لم يأت وعيد على مرتكبها لم يجز لأحد أن يقول إن الله تعالى يعذب من خالف أمره وليس في كون المرء عاصيا أو كافرا ما يوجب أنه يعذب ولا بد وإنما علمنا وجوب العذاب من طريق القرآن والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط ولولا ذلك ما علمناه برهان ذلك أن الكفار الطغاة قد وجدناهم في هذا العالم يعمرون مدة أعمارهم غير معذبين لا بل في نعمة وملك وغلبة وكرامة ولا فرق بين جواز ذلك خمسين عاما وستين وسبعين وثمانين وبين تماديه هكذا أبدا وقتا بعد وقت ولا فرق بين جواز ذلك في الوقت الأول وبين جوازه في الوقت الثاني وليست هنا حال حدثت لهم إلا أن الله تعالى أراد أن يعذبهم في الآخرة ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل ولكن ورد النص بالتعذيب قلنا به وقال بعض القائلين بالإباحة محال أن يخلق الله تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر علينا ما خلق لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 قال علي هذه مكابرة العيان وليست هذه هي حجة مسلم لأن الله عز وجل وقد فعل ما أنكروا وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان وشرب الخمور في البساتين وأخذ كل شيء استحسنته النفوس والراحة وترك التعرض لسيوف أهل الشرك والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة والغدوات القارة ثم حرم علينا ذلك كله فإن قال قائل فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة قلنا له وبالله تعالى التوفيق لقد كان تعالى قادرا أن يجمع الأمرين لنا معا ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لأجسامنا وأتم لسرورنا ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه وبيان ذلك أنه قد نعم قوما في الدنيا والآخرة كداود وسليمان عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة مع ذلك وسلط على أيوب وهو نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لأحد به دون ذنب سلف منه ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم الصلاة والسلام وسلط محمدا صلى الله عليه وسلم على جميع أعدائه وعصمه منهم ومنحه النصر عليهم وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم بأنواع المثل وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا ومحروم مسلط عليه عدوه فيها وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون فيها وفعل بنا ذلك أيضا فمن محسن منعم ومن محسن مشقي وقد نعم أيضا عز وجل ملوكا من الكفار في الدنيا وأصحبهم النصر والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار وهم أطغى خلق الله وأكفره وأشد تسلطا على الفواحش وحرم آخرين من الكفار فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل والمساءلة من باب إلى باب مع العاهات العظيمة والبلايا الشنيعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 والأمراض المؤلمة ثم جعل مجتمعهم في جهنم مع منعهم في الدنيا ومنحوس فيها فأي عقل ترتبت فيه هذه الرتبة أو المنع منها ما يحس شيئا من ذلك في عقله إلا ناقص العقل ينبغي له أن يتهم حسه في ذلك ونسأل من جعل العقل مرتبا في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع فنقول له ما تقول في راهب في صومعة مريد لله عز وجل بقلبه كله موحد لله تعالى لا يدع خيرا إلا فعله ولا شرا إلا اجتنبه إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى الدنيا يسمع قط ذكر محمد صلى الله عليه وسلم من جميع أهل ناحيته إلا متبعا بالكذب وبأقبح الصفات ومات على ذلك وهو شاك في نبوته صلى الله عليه وسلم أو مكذب لها أليس مصيره إلى النار خالدا مخلدا أبدا بلا نهاية فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الأمة ثم نقول ما تقول في يهودي أو نصراني لم يدع قتل مسلم قدر عليه إلا قتله أو أنفذه ولم يبق شيئا من الفواحش إلا ارتكبه من الزنى وفعل قوم لوط عليه السلام وفعل كل بلية ثم إنه أيقن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآمن وبرىء من كل دين إلا دين الإسلام وأقر بذلك بلسانه ومات أثر ذلك أليس من أهل الجنة بلا خلاف من أحد من الأمة فإن شك في ذلك فقد كفر ففي أي موجب للعقل وجد إثبات هذا أو وجد إبطاله وما الذي أوجب في العقل أن يخص محمدا صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء بهذه الفضائل وقد كان عليه السلام بين أظهر الناس أربعين سنة لم يحبه تعالى بهذه الفضيلة فأي عقل أوجب منعه من ذلك قبل أن يؤتاها أو أوجب أن يحبى بها إذ حبي بها هل هي إلا أفعال الله تعالى واختياره وكل هذا يبطل أن يكون للعقل محال في حظر أو إباحة أو تحسين أو تقبيح وأن كل ذلك منتظر فيه ما ورد من الله تعالى في وحيه فقط نسأل الله الهدى والعافية في الدنيا والآخرة بمنه آمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وقال بعض المتكلفين من القائلين بالإباحة كل من اضطره الله إلى شيء فقد أباحه له قال أبو محمد علي وهذا قول امرىء لم يتدرب في العلم وقد أخطأ في هذه القضية لأن الضرورة فعل الله تعالى والجائع مضطر إلى الجوع والمريض مضطر إلى المرض وقد قال تعالى في أهل النار {وإذ قال إبراهيم رب جعل هذا بلدا آمنا ورزق أهله من لثمرات من آمن منهم بلله وليوم لآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب لنار وبئس لمصير} أفيسوغ لذي عقل أن يقول إن الله تعالى أباح للجائع الجوع وللمريض المرض ولأهل جهنم الكون في جهنم وإنما يقول هذا من لا يعرف الأسماء ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الألفاظ عن المعاني فإن قال قائل فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول واحتج بأنه قد حسن في العقول الانقياد للأمر المنسوخ قبل أن ينسخ ثم أتى النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسنا قيل له هذا شغب فاسد ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت بل هو قولنا نفسه وإنما أنكرنا أن يكون العقل رتبة في تحريم شيء أو تحليله أو تحسينه أو تقبيحه وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شيء أو إباحته فواجب في العقول الانقياد لذلك والانقياد لمنع ما أبيح أو إباحة ما منع إن جاء أمر بخلاف الأمر المتقدم فلم يحدث في العقول شيء لم يكن ولا غير النسخ شيئا مما كان فيها من وجوب الانقياد لما وردت به الشريعة وقد قال بعض القائلين بالحظر إن معنى قوله عز وجل {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} إنما معنى هذا ليعتبر به قال أبو محمد وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان ومن استجاز مثل هذا من نقل الألفاظ عن مراتبها في اللغة فلا ينكر على غلاة الروافض قولهم إن معنى الصلاة الدعاء لا الركوع والسجود معنى الزكاة طهارة الأنفس ومعنى الحج القصد إلى الإمام ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة وأدى إلى إبطال جميع التفاهم ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه قائل إنه مقصود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 به غير ما يقتضيه لفظه وهذا هو إبطال الحقائق وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا إن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي أي من العرب فقط وساغ للمعتزلة أن تقول وخلق كل شيء أي الأجسام وأعراضها حاشا الحركات وساغ للحشوية أي تقول بل خلق كل شيء حاشا الروح والإيمان والكلام المسموع من القراء وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شيء من الخير فقط وهذا كلام ومذهب يفسد الدين ويبطل حقيقة العقل وقد علمنا ضرورة أن الألفاظ إنما وضعت ليعبر بها عما تقتضيه في اللغة وليعبر بكل لفظة عن المعنى الذي علقت عليه فمن أحالها فقد قصد إبطال الحقائق جملة وهذا غاية الإفساد وبالله تعالى التوفيق قال علي ثم نبطل كلا المذهبين معا بحول الله وقوته قال الله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} وقال تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} قال علي ففي هاتين الآيتين نص واضح على تحريم القول في شيء من كل ما في العالم أنه حرام أو أنه حلال فبطل بذلك قول من قال إن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة وصح أن من قال شيئا من من ذلك بغير إذن من الله تعالى فهو مفتر على الله عز وجل وأما إذا ورد الشرع بأي شيء ورد من إباحة الكل أو حظر الكل أو حظر البعض أو إباحة البعض فواجب القوم بكل ما ورد من ذلك وقال تعالى {ألم تر أن لله يعلم ما في لسماوات وما في لأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم لقيامة إن لله بكل شيء عليم} والسدي المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم يبقوا قط هملا دون ورود شرع فبطل قول من قال إن العقول تعرف وقتا من الدهر من شرع وإذ قد بطل هذا القول فقد بطل أن يكون الشيء في العقل قبل وورد الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فصار قولهم محالا ممتنعا مع كونه حراما أيضا لو كان ممكنا وقال تعالى {إنآ أرسلناك بلحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} فبطل هذا أن تكون أمة وقتا من الدهر لم يتقدم فيهم نذير وقد كان آدم عليه السلام رسولا في الأرض وقال تعالى له إذ أنزله إلى الأرض {فأزلهما لشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا هبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في لأرض مستقر ومتاع إلى حين} فأباح تعالى الأشياء بقوله إنها متاع لنا ثم حظر ما شاء وكل ذلك بشرع وكذلك إذ خلقه في الجنة لم يتركه وقتا من الدهر دون شرع بل قد قال تعالى {وقلنا ياآدم سكن أنت وزوجك لجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه لشجرة فتكونا من لظالمين} فلم يخل قط وقت من الزمان عن أمر أو نهي قال علي ويقال لهم أيضا لو جاز أن نبقى دون شرع لكان حكمنا كحكمنا قبل أن نحتلم فإن الأمور حينئذ لا حكم لها علينا لا بحظر ولا إباحة ولا فرق بين كونهما كذلك قبل البلوغ بنصف ساعة وبين كونهما كذلك بعد البلوغ وكلا الأمرين في العقول سواء وما في العقل إيجاب الشرع على من احتلم وسقوطه عمن لم يحتلم وليس بين الأمرين إلا نومة لطيفة فبطل بهذا ما ادعوه من أن العقول فيها حظر شيء أو إباحته قبل ورود الشرع وموافاة الخطاب من الله عز وجل ولو كان كذلك للزم غير المحتلم كلزومه المحتلم إذ موجب العقل لا يختلف قال علي ويقال لمن قال لكل شيء مباح في العقل إلا الفكر أليس إقرار المرء بلسانه بالتثليث غير متبع له إنكارا كفرا من قائله فإن قال لا كفر وإن قال نعم قيل له صدقت وقد أباح الله تعالى الإعلان به دون اتباع أفكار لمن اضطر وخاف الأذى وقد أباح الله تعالى عند خوف القتل الكفر الصحيح الذي هو كفر في غير تلك الحال ولسنا نسألهم عن الكفر الذي هو العقد إنما نسألهم عن الكفر الذي هو النطق به فقط لأن بعضهم قال لم يبح الله تعالى قط الكفر لأن الكفر الذي هو العقد ولا خلاف بين من يعتد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 به في النطق بالكفر دون اتباع بإنكار ولا حكاية كفر صحيح فعن هذا الكفر سألناهم وهم يقرون بأن امرأ لو قال بلسانه أنا كافر بالإسلام مقر بالتثليث إن هذا كفر وإنه مرتد وهذا بعينه الذي أبيح عند الإكراه فقد جاءت إباحة الكفر نصا وحسن ذلك في عقولهم وبطل قولهم والذي نقول به إن الله تعالى لو أباح الكفر الذي هو العقد لكان حسنا مباحا وأنه إنما حظر بالشرع فقط وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال إن كفر المنعم محظور بالعقل ما تقول في كافر ربى إنسانا وأحسن إليه ثم لقيه في حرب أيقتله أم لا فإن قالوا لا خالفوا الإجماع وإن قالوا نعم نقضوا قولهم في أن كفر المنعم محظور بالعقل فإن قالوا إن قتله شكر له كابر وإن أقروا بأن قتله الذي هو سبب مصيره إلى الخلود في النار شكر له وإحسان إليه وهذا ضد ما ميزه العقل وبالله تعالى التوفيق فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة قال علي بن أحمد اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها فقالت طائفة كل أحد مأمور منهي ساعة ورود الأمر والنهي إلا أنه معفو عنه غير مؤاخذ بما لم يبلغه من الأمر والنهي وقالت طائفة إن الله تعالى لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور وكذلك النهي ولا فرق وأما قبل انتهاء الأمر أو النهي إليه فإنه غير مأمور ولا منهي قال علي وبهذا نقول لقول الله عز وجل {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} صلى الله عليه وسلم {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} ولإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يسمع به يهودي أو نصراني فلم يؤمن به إلا وجبت له النار حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الرقي أنبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا محمد بن المثنى ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ثنا أبو علي قتادة عن الأسود بن سريع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يعرض على الله تبارك وتعالى الأصم الذي لا يسمع شيئا والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة فيقول الأصم رب جاء الإسلام وما أسمع شيئا ويقول الأحمق رب جاء الإسلام وما أعقل شيئا ويقول الذي مات في الفترة رب ما أتاني لك من رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل الله تعالى إليهم ادخلوا النار فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما وبه إلى قتادة عن الحسن البصري عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثله وزاد في آخره ومن لم يدخلها دخل النار فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر وأنه لا يكلف أحد ما ليس في وسعه وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه فصح يقينا أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها واحتجت الطائفة الأخرى بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر فسماه عليه السلام مخطئا ولا يكون المخطىء إلا من خالف ما أمر به قال أبو محمد وهذا الخبر لا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا وبه نقول لأنه قد يكون مخطئا من لا يوافق الحق وإن لم يكن مأمورا بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير عامد فهذا مخطىء ولا أمر يلزمه ها هنا وكمن أنشد بيت شعر فوهم فيه فهو مخطىء بلا شك وهذا المجتهد مخطىء بلا شك إذا حكم بخلاف ما ورد به الحكم من عند الله عز وجل وأدخل في الدين ما ليس منه وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن الحكم بما ظن أنه حق وهو غير حق وأما إذا بلغه فإنه مأمور به وإن نسيه لأنه قد بلغه ولزمه فإن قال قائل لو كان ما قلتم لكان الدين لازما لبعض الناس لا لكلهم قلنا وبالله التوفيق ليس كذلك بل الدين لازم للجن والإنس إذا بلغهم نعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ولكل من لم يخلق بعد إذا خلق وبلغه وبلغ حد التكليف لا قبل ذلك وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم يخلق قبل أن يخلق ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ فإن قالوا فكيف حال من لم يبلغه الأمر أهو مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن قلتم هو مأمور بما أمره الله تعالى به وإن لم يبلغه فهو قولنا وإن قلتم هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به أو أنه مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغبا بشيعا قلنا وبالله التوفيق لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا نقول هو غير مأمور في ذلك بشيء أصلا حتى يبلغه وحاله في ذلك كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ فإن قالوا فكيف حكمه إن خالف ما يرى أنه الحق عامدا فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به قلنا لهم هذا السؤال لازم لكم ولنا فأما نحن فنقول وبالله التوفيق إنه ليس في ذلك مطيعا ولا عاصيا لكنه مستسهل لمخافة الحق هام بترك الحق إلا أنه لم يفعل ذلك بعد هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقا ولا واقع باطلا قال علي أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام فقسم شهدوا ورود الأمر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ وليس أحد من هؤلاء موجودا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النسخ بطل بعد موته عليه السلام واستقرت الشرائع وقسم ثان علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص وقسم ثالث بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ أو تأولوا فيهما تأويلا قاصدين إلى الحق فإما من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه المنسوخ ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 يبلغه الناسخ فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الأمر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ لأنه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه ولا يسقط اليقين إلا بيقين برهان هذا أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة وبأقصى جزيرة العرب فنزل الأمر من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة وتحريم بعض ما لم يكن حراما كالحق وإمساك المشركات وغير ذلك فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه وكذلك كان ينزل الأمر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك فلا شك أيضا في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ بل كان فرضا عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا والحمد لله يقينا لا مجال للشك فيه وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب إذ لم يبلغهما نهي النبي عليه السلام عن إقرارهم فيها فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك بل فعلا ما أمرا به ولو قال قائل إن هذا إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق لأنه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما وبالله تعالى التوفيق فإن قيل فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر لمسجد لحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا لذين ظلموا منهم فلا تخشوهم وخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} قلنا لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ وإنما خاطب الله بهذا الأمر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الأمر إليهم بتركه قال علي ولو كانوا مأمورين باستقبال الكعبة حين نزول الأمر من قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 أن يبلغهم لكان من أقدم منهم فصلى إلى الكعبة عامدا قبل أن يبلغهم الأمر جائز الصلاة وهذا باطل وأما لو أن إنسانا اليوم خفيت عليه دلائل القبلة فاستدل فأداه استدلاله إلى جهة ما وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف تلك الجهة فلما سلم إذا به الى القبلة فإن صلاته باطلة وهو بذلك فاسق لأنه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالما أنه أمر به فيها فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته فقد قصد إفساد صلاته فبطلت بذلك قال أبو محمد وأما من كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبلغه الناسخ ولا الخالص فإنه أيضا مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم المخصوص لأن الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك بل افترض عليه خلافا لذلك طاعة أمره تعالى جملة والمنسوخ من أمره فلا شك فهو لازم لكل من بلغه بعموم الأمر المذكور حتى يبلغه نسخه وبالله تعالى التوفيق ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمرا يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه وهو تعالى قد تكفل لنا بالبيان قال عز وجل {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} فلو ورد أمر الله تعالى ثم نهاه عنه ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالا والتباسا ولكان الرشد غير مبين من الغي وحاشا لله من هنا يقينا وأما من بلغه الناسخ والخاص ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبلغ طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك لأنه منذ بلغه منهي عما هو عليه لأنه قد بلغه النهي إلا أنه معذور مأجور مرة مأجور بقصده الخير ومعذور بجهله ونسيانه فهذا حكم هذا الباب بالبرهان الصحيح وبالله تعالى التوفيق فإن احتج محتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ فرضت الصلاة ليلة الإسراء وفيه قول موسى عليه السلام كم فرض الله على أمتك قال خمسين صلاة أو نحوها فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض علينا قبل أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 يبلغنا خمسين صلاة قلنا إنما معنى هذا أنه متى بلغنا الأمر لزمنا وبرهان ذلك أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى يخلق ولا من لم يبلغ حتى يبلغ ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة حتى يأتي وقتها هذا ما لا خلاف فيه فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ وبعد انتهاء الشرع إليه وبعد دخول الوقت وبهذا تتألف الأخبار كلها وبالله تعالى التوفيق برهان ذلك أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصيا لله تعالى فصح أنه يلزمنا إلا ما بلغنا من الدين وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه فهذا هو مبلغ فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه لأنه لم يتجانف لإثم والأعمال بالنيات فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير وإلى طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلو خالف ما بلغه من ذلك فإنما عليه إثم المستسهل بخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم إما بعلمه فقط فهو فاسق وإما بنيته فهو كافر وبالله تعالى التوفيق الباب السابع في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا قال علي قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا أنه لا طريق إلى العلم أصلا إلا من وجهين أحدهما ما أوجبته بديهة العقل وأوائل الحس والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس وقد بينا كل ذلك في غير هذا المكان فأغنى عن ترداده وقد بينا أيضا أن بالمقدمات الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد وصحة نبوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه في كل ما قال وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله تعالى إلينا فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى وجوب أشياء ألزمناها اجتهاد هذا الإنسان لم يكلفه الله تعالى أكثر ما في وسعه والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الأبدي من أطاعه وبالعذاب الشديد من عصاه وتيقنا وجوب صدقه في ذلك لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له وتيقنا صحة كل ما ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الخالق الأول تعالى والشاهد لنبيه صلى الله عليه وسلم بها على صحة ما أتى به عنه تعالى فوجب علينا تفهم القرآن والأخذ بما فيه فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئا كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شيء أصلا وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا بم عرفتم أن القرآن حق فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس ثم يقال لنا بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات فكنا نقول بالقرآن فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق ولكنا قلنا إن في القرآن التنبيه لأهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد وذلك أن قوما من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم وإفساد مذاهبهم وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم فأخبرنا بما يبطل به شغبهم ويزيل شكوكهم كما قال تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} فمما أمرنا فيه تعالى باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى {ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة قليلا ما تشكرون} وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله وقال تعالى {ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وذم تعالى من لم يستعمل دلائلها فقال حاكيا عن قوم معذبين ولإعراضهم عن الاستدلال المؤدي الى معرفة الحقائق قال الله تعالى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من لجن ولإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كلأنعام بل هم أضل أولئك هم لغافلون * ولله لأسمآء لحسنى فدعوه بها وذروا لذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون} إلى قوله {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من لجن ولإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بهآ أولئك كلأنعام بل هم أضل أولئك هم لغافلون * ولله لأسمآء لحسنى فدعوه بها وذروا لذين يلحدون في أسمآئه سيجزون ما كانوا يعملون} وقال تعالى حاكيا عن مثلهم {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب لسعير} فصدقهم الله عز وجل في قولهم ذلك فقال تعالى {فعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب لسعير} وقال تعالى {ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات لله وحاق به ما كانوا به يستهزئون} فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل قال أبو محمد أترى هؤلاء المقرين على أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون ولو سمعوا أو عقلوا ما دخلوا النار أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية الأصوات أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها وبنيان منازلهم وعمارة بساتينهم وتدبير متاجرهم وصناعاتهم وحفظ أموالهم وطلب الجاه والرياسة كلا والذي عذبهم وأخزاهم وذمهم بل كانوا أعلم بذلك كله وأشد اهتبالا به وأشغل نفوسا فيه وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته من أهل الفضل المقتصرين من ذلك مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لا بد منه عفوا وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم المقبلين على طلب معرفة الحقائق والوقوف على العلم والعمل الموصلين إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب في النار التي وعدها الله عز وجل لأعدائه المشتغلين بذلك عما تهافت عليه أهل الجهل والنقصان كما ثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وكلاهما عن أسود بن عامر قال ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت البناني هشام عن أبيه عن عائشة وثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنتم أعلم بأمر دنياكم في حديث قوله عليه السلام في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصا ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا عن استعمال السمع والبصر واللمس والذوق الشم والعقل في الاستدلال على الخالق تعالى ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل وصرفوا كل ذلك في حطام فان لا يجدي ولا يغني بل يثقل ويندم وبالله تعالى التوفيق قال علي ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه ولما أمرنا نبيه صلى الله عليه وسلم مما نقله عنه الثقات أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه عليه السلام فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا فنظرنا فيها فوجدنا منها جملا إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه فكان ذلك كأنه وجه رابع إلا أنه غير خارج عن الأصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله عليه السلام كل مسكر خمر وكل خمر حرام فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصا جليا ضروريا لأن المسكر هو الخمر والخمر هي المسكر والخمر حرام فالمسكر الذي هو هي حرام ومثل قوله تعالى {يوصيكم لله في أولادكم للذكر مثل حظ لأنثيين فإن كن نسآء فوق ثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها لنصف ولأبويه لكل واحد منهما لسدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه لثلث فإن كان له إخوة فلأمه لسدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من لله إن لله كان عليما حكيما} وقد تيقنا بالفعل الذي به علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل ووجدنا ذلك منصوصا على المعنى وإن لم ينص على اللفظ ومثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لإسلامه ثم قال قائل قد حل دمه فقلنا قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للإجماع وقد صح نقل الإجماع على أن دمه حرام فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا فهذا منصوص على معناه ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو لأن النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو فلا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أصلا إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة وهي كلها راجعة إلى النص والنص معلوم وجوبه ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه وقد ادعى قوم أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره فأتوا بأمر عظيم وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الأمر بما أمر من ذلك فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا لا سبيل في العقل إلى تغييره قال علي والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكما بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه على خلاف ذلك لفعل وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده ومميز للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط فقال هؤلاء إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته قال علي ولا دليل على ما ذكروا بل قد كان ممكنا أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الأوثان وبالظلم ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبدا ليس لأنه ممتنع منه عز وجل لو شاءه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده ولكن لأنه لا يقول إلا الصدق وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون وأنه لا يرضى لنا الكفر ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد صلى الله عليه وسلم وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن وعمران هذا القفر ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز وجل قال علي وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالإيمان بالله عز وجل ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز وجل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الإنسان غير مأمور لفعل ولما كان هنالك شيء يمنعه من ذلك تعالى وجهه ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الأربعة عشر عاما ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الأمة بالإيمان أمر إلزام ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم فإذا احتلموا لزمهم الإيمان فرضا وحرم عليهم الكفر حتما ولم يكن بين تعريهم من الأوامر والنواهي وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شي بيضة ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئا بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل أن ينامها ولا فرق هذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين وهذا شيء قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم وعبادتهم اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم ولا حاض إن كان امرأة ولا بلغ خمسة عشر عاما من جميع الأوامر الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاما مع الاحتلام أو حاض إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 كان امرأة في هذه السن ولا فرق في العقل بين جواز عدم الأمر بالإيمان في كلتا الحالتين المذكورتين وبين جواز وجود الأمر به في كلتيهما فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها وأراد بذلك غرور الضعفاء المقلدين فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير لا على سبيل الإيجاب لذلك عليهم وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الإسلام وبرهان ذلك أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا ولا نقتلهم إن قتلوا ولا نحدهم إن زنوا ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل بلوغه من موروثه المسلم فإن ادعى مدع أن البهائم متعبدة واختار اللحاق بأحمد بن حابط والخروج عن إجماع المسلمين فحسبه مفارقة الإسلام واللحاق بالكفر وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب وقد بينا ذلك في كتاب الفصل وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الأحكام فقط فمن أراد أن يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب الفصل إن شاء الله تعالى قال أبو محمد فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة ثم بينا أقسام الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها وأنها أربعة وهي نص القرآن ونص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه عليه السلام نقل الثقات أو التواتر وإجماع جميع علماء الأمة أو دليل منها لا يحتمل إلا وجها واحدا فلنصف بحول الله وقوته كيف يستعمل المناظران أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة الحقائق مما ذكره فنقول وبالله تعالى التوفيق أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن مذهبه في مسألة كذا إما مستفهما أو مناظرا فإذا أجابه سأله ما دليلك على كذا فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه ولم يزد المسؤول على ذكر مذهبه فقط ولم يأت بدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 فقد سقط وبطل واكتفى بذلك عن تكلف إبطاله إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا إبطال كل قول لم يقم عليه دليل فإن عارض المسؤول السائل بدليل مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية فيحتج عليه الآخر بآية أخرى هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها خصمه أو بحديث كذلك أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك فسنفرد لذلك بابا موعبا في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند كلامنا في الأخبار وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه الوجوه كتبا مفردة في أشخاص الأحاديث والآي التي ظاهرها التعارض ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك وبالله تعالى نعتصم ونتأيد وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل قال علي وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان العلل في الشرائع بالجملة وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من قبله عز وجل فسنفرد في المسائل النظرية وهي التي دلائلها نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديوانا موعبا نتقصى فيه إن شاء الله تعالى الأدلة الصحيحة وبطلان علل أصحاب القياس ومفاسدها بالجملة وبالله تعالى التوفيق ثم رأينا كتابنا المعروف بالإيصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد كتب لكل صنف منها قال علي وكل من قال بقبول خبر الواحد ثم صح عنده خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد إما مخطىء وإما مصيب وكذلك إن تركه لنص قرآن وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر أو نص قرآن إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا وخالف ترتيب أخذه في المسائل فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل معذور بالجهل فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق لإقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل فهو مقدم على الأخذ بما يدري أنه باطل وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وترك ظاهر قول الله تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} ثم إنه ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحرم الرضعة والرضعتان وأخذ بظاهر قوله عز وجل {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} فهذا إذا وقف على تناقض فعله وتمادى عليه فهو فاسق لأنه في أحد الموضعين مقر بأن ترك ظاهر القرآن للحديث خطأ لا يحل وفي الموضع الثاني استعمل ما أقر أنه لا يحل فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره فإن علل حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها فإن تمادى على الأخذ بأحدهما وترك الآخر فهو فاسق متلاعب بدينه وإن ترك نصا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق أيضا وإن ترك نصا لقول صاحب فمن دونه فإن كان يعتقد أن عند ذلك الصاحب علما عن النبي صلى الله عليه وسلم وقامت عليه الحجة ببطلان ذلك فتمادى ولم يتب فهو فاسق فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم شيئا كان حلالا إلى حين موته عليه السلام أو يحل شيئا كان حراما إلى حين موته عليه السلام أو يوجب حدا لم يكن واجبا إلى حين موته عليه السلام أو يشرع شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الأولاد وفي حل الخمر وفي إسقاط ست قراءات كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مباحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو معذور بالجهل وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا وسنبين بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث في كلامنا في الإجمال من كتابنا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال علي وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئا وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها وبالله تعالى التوفيق قال علي والوجه الذي ذكرنا آنفا وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين آي وآي وبين حديث وحديث وبين حديث وآي فلسنا نقطع فيه على أننا مصيبون للحق ولا أننا علمناه يقينا ولا كنا نقول فيه هذا هو الحق عندنا ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى وهذه هي المتشابهات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الحلال بين والحرام بين وبينهما متشابهات لا يعلمها كثير من الناس وليس هذا من المتشابه الذي ذكر الله عز وجل في قوله {هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب} وسنبين ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عز وجل إلا أننا قاطعون باتون على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم هل بلغت قالوا اللهم نعم قال اللهم اشهد وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض وكل آية وردت كذلك لا معارض لها أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن لأنه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه منسوخ أو مخصوص فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون بأننا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فى اعتقاد موجبها محقون عند الله عز وجل وأن مخالفنا فيها مخطىء عند الله عز وجل وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم فنحن قاطعون أيضا على أننا فيه محقون عند الله عز وجل وإن حدث بعد الإجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة وإن استدل المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف لم نتبعه ولم نقطع على أنه مبطل عند الله عز وجل بل نقول هذا الحق عندنا إلا أن نتيقن أن ذلك الخبر لم يأت قط مسندا من طريق يصح فنقطع حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب الكلام في الأخبار إن شاء الله تعالى فإن لم يحتج في ذلك بشيء من نص لكن بتقليد أو قياس فنحن قاطعون بأنه مخطىء عند الله تعالى وأننا محقون عنده تعالى ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه أو قياس أو استحسان فهو باطل بيقين عند الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق فصل في هل على النافي دليل أو لا قال علي بن أحمد اختلف الناس في هذا على قسمين فطائفة قالت الدليل على من أوجب شيئا أو ثبت حكما أو قضية وليس على النافي دليل وقالت طائفة الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معا قال علي والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق شيئا بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم فقال تعالى {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} فقد حرم الله تعالى بنص هذه الآية أن يقول أحد على الله عز وجل شيئا لا يعلم صحته وعلم صحة كل شيء مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 بدليل فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شيء أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد أتى محرما عليه وقال تعالى {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب لذين من قبلهم فنظر كيف كان عاقبة لظالمين} فأنكر تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب وقال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فأوجب تعالى على كل مدع المصدق أن يأتي ببرهان وإلا فقوله ساقط ووجدنا كل ناف مدعيا للصدق في نفيه ما نفى ووجدنا كل مثبت مدعيا للصدق في إثباته ما أثبت فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت صادقة قال علي وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي بإيجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر فإنما في الأحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين على من أنكر شيئا في المناظرة في غير الأحكام قال علي فإذا اختلف المختلفان فأثبت أحدهما شيئا ونفاه الآخر فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما بيناه آنفا بحكم كلام الله عز وجل فأيهما أقام البرهان صح قوله ولا يجوز أن يقيماه معا لأن الحق لا يكون في ضدين ومن الممتنع أن يكون الشيء باطلا صحيحا في حال واحدة من وجه واحد فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل وهذا ممكن فحكم ذلك الشيء أن يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي لكن يترك في حد الإمكان لأنه لو أقام الدليل موجبه لكان الشيء موجبا حقا ولو أقام الدليل نافيه لكان الشيء باطلا منفيا فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشيء هذا ممكن أن يكون حقا وممكن أن يكون باطلا إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع على أنه باطل وهكذا نص قوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أهل الكتاب لا نصدق ولا نكذب ولكن نقول الله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 قال علي وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة اختلافهم في القياس ولا معنى للتطول فيها والشغب لأن البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدا واضحة فلا معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا بل نقول لهم علينا البرهان في صحة قولنا بإبطاله فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على إثباته ولا نقنع بأن نقول إن الشيء أنه باطل فلا معنى لتكلف إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته وإن كان هذا قولا صحيحا ولكنا نقول لهم هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته ثم علينا نقضه كله بحول الله تعالى وقوته ثقة منا بوضوح الأمر في إبطاله وسهولة المأخذ في ذلك وأنه ليس من الغامض الخفي لكن من الواضح الجلي وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد في 3 باب الكلام في القياس والعلل من كتابنا هذا وفي كتابنا المرسوم بكتاب التقريب أيضا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجا بما لم يحتجوا به لأنفسهم وبينا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه وبالله تعالى التوفيق قال علي كل أمر ثبت بيقين إما بحس وإما ببديهة عقل وإما بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل فعليه الدليل ههنا وليس هذا على الثابت على ما قد صح لأن الدليل قد ثبت بصحة قوله وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده في كل وقت وهذا شيء يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا بلادا فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين ورؤوسهم على أسافلهم أو ادعى أن في الناس قوما لهم حاسة سادسة غير حواسنا أو ادعى أن فلانا الذي عهدناه حيا مات فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه أو أن فلانا طلق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته معها أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته قد فسق أو أن فلانا الذي عهدنا فسقه قد تعدل أو أن فلانا الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 عهدناه غير وال قد ولي الحكم في بلد كذا أو أن فلانا الذي عهدناه واليا قد عزل وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا أو حرم عليكم أمر كذا أو أحل لكم أمرا عهدناه حراما أو أسقط عنكم أمرا عهدناه لازما فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة فعلى مدعي انتقالها الدليل ولا تكلف مبطل هذا القول دليلا على بطلان قول خصمه إذا قام الدليل على صحة قوله ولا يلزم التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الإلزام والتحريم والإحلال والإسقاط فخصومنا موافقون لنا على القول بقولنا فيها بلا خلاف ومستخفون بمن خالفنا وأما هذه المسائل الأربعة المذكورة فدليلنا على صحة قولنا هو قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} فصح بنص الآية أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه وأما بطلان قول من ادعى سقوط شيء قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال ما قد حرم بنص أو إجماع فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام لله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} وقال تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقال تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن لذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا} قال علي فبين الله تعالى بيانا جليا لا إشكال فيه أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده ولا أن نترك ما أوحي إلينا وأن من خرج عن شيء من ذلك فهو ظالم مفتر على الله تعالى فوجدنا الله عز وجل قد ألزمنا طاعة ما جاء في القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه صلى الله عليه وسلم لأنه إنما ينطق عنه عز وجل وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم عليه السلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 وأن هذه حدود الله تعالى فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشيء منها وأن يعدى بنا عنها فقد حرف كلام الله تعالى وظلم وأراد الفتنة عن الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه وإلا فنحن باقون على تلك الحدود غير متعدين لها ولا مفترين غيرها ولا محرفين لما قد ثبت بها وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن من طرد هذا الأصل لزمه أن إن ادعى مدع على آخر أنه قتل وأنكر ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على براءته وإلا قتله ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء أن يكلف المانع من ذلك الدليل وهذا خروج عن الإسلام مع ما فيه من مخالفة العقول وكذلك القول فيمن قال بصحة الإلهام قول الرافضة في الإمام ومن ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات فإن كل ذلك لا يحل القول بشيء منه ولا الإقرار به وهو كله على الدفع والرد والإبطال بلا دليل يكلفه مبطله وإنما البرهان على من حقق شيئا من ذلك أو أوجبه وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شيء لم يثبت أو إبطال شيء قد ثبت لا تحاشي شيئا فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشيء من ذلك لأنه فعل ما يلزمه من ذلك وإنما البرهان على من أراد إلزام شيء من ذلك فقط فإن أتى به صحت دعواه وإلا فواجب تركها وردها وإن كانت ممكنة غير ممتنعة وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة العلم بما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الباب الثامن في البيان ومعناه قال علي قد بينا في باب تفسير الألفاظ الدائرة بين أهل النظر حد البيان وتفسيره ونحن نقول إن التخصيص أو الاستثناء نوعان من أنواع البيان لأن بيان الجملة قد يكون بتفسير كيفيتها وكميتها دون أن يخرج من لفظها شيء يقتضيه في اللغة كقوله تعالى وآتوا الزكاة فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هية هذه الزكاة المأمور بإيتائها دون أن يخرج من لفظ الزكاة شيئا وكذلك فسر عليه السلام من صفات النكاح والحج وغير ذلك وقد يكون باستثناء مثل ما روى عن نهيه عليه السلام عن بيع الرطب بالتمر ثم استثنى العرايا فيما دون خمسة أوسق فكان هذا مخرجا بحكم العاريا من جملة النهى المتقدم وقد يكون الاستثناء بألفاظ الاستثناء مثل إلا وخلا وحاشا وما لم وما أشبه ذلك وقد يكون حكما وأردا بلفظ الأمر أو بلفظ الخبر مستثنى من جملة أخرى وهذا يسمى التخصيص كتحريمه تعالى نكاح المشركات جملة ثم جاءت إباحة نكاح نساء أهل الكتاب بالزواج فكان هذا تخصيصا من الجملة المذكورة وأما النسخ فهو رفع الحكم أو بعضه جملة والفرق بينه وبين الاستثناء والتخصيص أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو الاستثناء منها لم يرد الله تعالى قط إلزامها لها على عمومها وقتا من الدهر كالذي ذكرنا من تحريم المشركات فإنه لم يرد قط بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج وكذلك القول في العرايا وأما النسخ فإننا مكلفون بالجملة الأولى على عمومها مدة ما لم يأت أمر بإبطالها عنا أو إبطال بعضها على ما تبين في باب النسخ إذا بلغنا إليه إن شاء الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فأما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص فقد يكون بالقرآن للقرآن وبالحديث للقرآن وبالإجماع للقرآن وقد يكون بالقرآن للحديث وبالحديث للحديث وبالإجماع المنقول للحديث وقولنا الحديث إنه انما نعنى به الأمر والفعل والإقرار والإشارة فكل ذلك يكون بينانا للقرآن ويكون القرآن بيانا له وإنما فرقنا آنفا بين التخصيص والاستثناء وبين النسخ لأنه قد تيقنا وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله عليه السلام علينا فحرام علينا الخروج عن طاعتهما في شيء مما امر به أو أن نقول في شيء مما ألزمنا إنه منسوخ ساقط بعد وجوبه إلا ببيان جلي لا شك فيه وإذا وجدنا لحكم سقط بعضه بالاستثناء أو التخصيص فنحن على يقين من أنه لا يلزمنا فلا يحل لأحد أن يقول إنه لزم ثم سقط فيكون قد قفا ما ليس له به علم وقال بشك لا بيقين وذلك حرام ولا يجوز بأن نقول بأن الحكم كذا لزمنا إلا بيقين ولا يسقط بعد لزومه إلا بيقين فلهذا قلنا بالفرق المذكور بين النسخ وبين الاستثناء والتخصيص لأننا إذا قلنا في ذلك إنه نسخ فقد اقررنا أنه لزم ثم سقط وهذا لا يحل قوله إلا بيقين وبالله تعالى التوفيق ومما خص من القرآن بالقرآن قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فاستثنى تعالى الأزواج وملك اليمين من جملة ما حظر من إطلاق الفروج ثم خص تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة والربيبة الزانية والحريمة بالقرابة والشركة بالقرآن وخص الحريمة بالرضاع بالسنة والذكور والبهائم والأمة المشركة بالإجماع المأخوذ من معنى دليل النص الثابت لا يحتمل إلا وجها واحد بالحظر من جملة المباح بملك اليمين فإن قال قائل لا يجوز أن يبين القرآن إلا بالسنة لأن الله تعالى يقول وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم قيل له وبالله تعالى التوفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ليس في الآية التي ذكرت أنه عليه الصلاة والسلام لا يبين إلا بوحي لا يتلى بل فيها بيان جلى ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس والبيان هو بالكلام فإذا تلاه النبي صلى الله عليه وسلم فقد بينه ثم إن كان مجملا لا يفهم معناه من لفظه بينه حينئذ بوحي يوحى إليه إما متلوا أو غير متلو كما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز وجل وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى والوحي كله متلوه وغير متلوه فهو من عند الله عز وجل وقد قال عز وجل يبين الله لكم ان تضلوا وقال تعالى مخبرا عن القرآن تبيانا لكل شيء فصح بهذه الآية أنه تكون آية متلوة بيانا لأخرى ولا معنى لأنكار هذا وقد وجد فقد ذكر تعالى الطلاق مجملا ثم فسره في سورة الطلاق وبينه ومما اجمل في السنة وبينه القرآن ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن علية ثنى أبو حيان ثنى يزيد بن حيان أنه سمع زيد بن أرقم يقول خطبنا رسول الله صلى الله عيله وسلم بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال أما بعد ألا يا أيها الناس فأنما أنا بشر يوشك أن يأتينى رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله عز وجل واستمسكوا به ثم قال وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتى أذكركم الله في أهل بيتي قال علي وفسر زيد بن أرقم أنهم بنو هاشم قال علي والتقليد باطل فوجب طلب من هم أهل بيته عليه السلام في الكتاب والسنة فوجدنا الله تعالى قال يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تظهيرا واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا قال علي فرفعت هذه الآية الشك وبينت أن أهل بيته عليه السلام هن نساؤه فقط وأما بنو هاشم فإنهم آل محمد وذو القربى بنص القرآن والسنة فهم في قسمه الخمس وتحريم الصدقة وقد اجمل عليه السلام قوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فإن قال قائل ما بين هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة أني أمرت أن أقاتل المشركين حين يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بما أرسلت به قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق لما في براءة فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن ثم أخبر به عليه السلام أصحابه بلفظ فكان بيانا مرددا تفسيرا مؤكدا فخبر أبي هريرة وابن عمر إنما هو حكاية لما في براءة يعلم ذلك ببديهة العقل عند قراءة الآية والحديث المذكور قال علي وقد يرد البيان بالإشارة على ما في حديث كعب بن مالك مع أبي حدرد إذ أشار إليه عليه السلام بيده أن ضع النصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الباب التاسع في تأخير البيان قال علي واختلفوا في نوع من أنواع البيان فقالت طائفة إنما يرد المجمل ثم يرد المفسر وقال آخرون لا يردان إلا معا وقال آخرون جائز ورود المجمل قبل المفسر والمفسر قبل المجمل وورودهما معا كل ذلك جائز قال علي وبهذا نقول إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت إيجاب العمل البتة ولا يجوز أن يؤخره النبي صلى الله عليه وسلم بعد وروده عليه طرفة عين ولسنا نقول بهذا لأن العقل يمنع ذلك لكن لأن النص قد ورد بذلك وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت وجوب العمل لقول الله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وقد علمنا أنه ليس في وسع أحد أن يعمل بما لا يعرف به وإنما منعنا من تأخير النبي صلى الله عليه وسلم البيان عن ساعة وروده عليه السلام لقول الله تعالى {يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين} فلو أخر عليه السلام البيان عن ساعة وروده عليه لكان عليه السلام في تلك المدة وإن قلت مستحقا لاسم أنه لم يبلغ ولو أنه لم يبلغ لكان عاصيا ولا ينسب هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا جاهل ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الأمة قال علي وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة ثم جاءت آيات كثيرة مدنيات فيها أقيموا الصلاة فقط فصح بذلك ما ذكرنا من أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل وأما نزول المجمل قبل المفسر فقد نزل ذلك في الصيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الإذخر قال علي وأما قولنا بتأخير الله عز وجل البيان ما لم يأت وقت إيجابه تعالى العمل به فهو منصوص في قوله تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وقد أنزل الله عز وجل آيات كثيرة فيها قصة موسى وقصة عيسى عليهما السلام وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم السلام بعضها قبل بعض وبعضها بمكة وبعضها بالمدينة وبعضها أكمل من بعض فهلا اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه تعالى أنه لا يفعله على ربهم فيما ذكرنا فيقولون هلا نزلت هذه القصص كاملة في مكان واحد فتكون أتم للوعظ وأشفى للخبر ثم يؤكدها كذلك إن شاء وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة فماذا يقولون في قصص كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز وجل في القرآن إلا مرة واحدة أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت وأيضا فإن أكد تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلا ما الفرق بين عشرين مرة وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة فإن ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء في وجهه وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول وسألناه أيضا عن قصص أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى قيل له ما الفرق أن يكتفي بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى وما الفرق بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الأنبياء عليهم السلام وبين ما أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم وما الفرق بين ذلك وبين أن لو ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر وقد ذكر من لا شريعة له غير شريعة من قبله كثيرا كإلياس واليسع وذي الكفل وغيرهم ولعل من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم آية وأبلغ في الوعظ ممن ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 قال علي وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء المسلمين مغمور في دينه ضعيف في عقله كائد للشريعة ولا شك في ذلك ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت وبالله تعالى التوفيق ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا ما تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق ولم يسمع الحديث المبين للتوقيت في ذلك أيقطع كل سارق لفلس من ذهب وفيمن سمع آية الزنى ولم يسمع حكم الرجم وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع الحديث في التوقيت في ذلك أيجلد المحصن ولا يرجمه ويجلد الأمة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل فإن قلتم ينفذ ما سمع على جملته كنتم قد أمرتموه بالباطل وإن قلتم لا يفعل أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن فالجواب أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الإقرار بالجملة وأن يقول سمعت وأطعت ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى {وآتوا لزكاة} فهذا ليس عليه إلا الإقرار بتصديق ذلك كما قلنا فقط إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك وأما إن كان النص مفهوما بينا فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه أو تخصيصه ولا بد إذا من قال لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له لا تطع ربك ولا تعمل بما أمرك فلعل ههنا نصا ناسخا لهذا النص أو نصا مخصصا له وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشيء من القرآن ولا السنن أبدا حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن وضبط جميع السنن وفي هذا الخروج عن الإسلام وإبطال الشريعة قال علي ونسألهم في رد هذا السؤال عليهم فنقول ما الذي يلزم من سمع أمرا ما والرسول عليه السلام حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه أيعتقد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ذلك الأمر التأييد فيكون معتقدا للباطل أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع فجوابهم ها هنا جوابنا آنفا فيما سألونا عنه وأنه يلزم من سمع ذلك الإقرار والطاعة والاعتقاد أن هـ حق لازم ما لم يأت ما ينسخه فهو على التأييد وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ قال علي وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان جملة ولا فرق وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل وبالله تعالى التوفيق قال علي ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى {فإذا قرأناه فتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} وثم توجب مهلة وقوله تعالى في قصة الملائكة القائلين لإبراهيم عليه السلام {وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم لقيامة عما كانوا يفترون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب لسفينة وجعلناهآ آية للعالمين * وإبراهيم إذ قال لقومه عبدوا لله وتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * إنما تعبدون من دون لله أوثانا وتخلقون إفكا إن لذين تعبدون من دون لله لا يملكون لكم رزقا فبتغوا عند لله لرزق وعبدوه وشكروا له إليه ترجعون * وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على لرسول إلا لبلاغ لمبين * أولم يروا كيف يبديء لله لخلق ثم يعيده إن ذلك على لله يسير * قل سيروا في لأرض فنظروا كيف بدأ لخلق ثم لله ينشىء لنشأة لآخرة إن لله على كل شيء قدير * يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون * ومآ أنتم بمعجزين في لأرض ولا في لسمآء وما لكم من دون لله من ولي ولا نصير * ولذين كفروا بآيات لله ولقآئه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا قتلوه أو حرقوه فأنجاه لله من لنار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون * وقال إنما تخذتم من دون لله أوثانا مودة بينكم في لحياة لدنيا ثم يوم لقيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم لنار وما لكم من ناصرين * فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو لعزيز لحكيم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته لنبوة ولكتاب وآتيناه أجره في لدنيا وإنه في لآخرة لمن لصالحين * ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون لفاحشة ما سبقكم بها من أحد من لعالمين * أئنكم لتأتون لرجال وتقطعون لسبيل وتأتون في ناديكم لمنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ئتنا بعذاب لله إن كنت من لصادقين * قال رب نصرني على لقوم لمفسدين * ولما جآءت رسلنآ إبراهيم بلبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه لقرية إن أهلها كانوا ظالمين * قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا مرأته كانت من لغابرين} فعموا في أول الأمر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا بأنهم لم يعنوه بالهلاك حاشا امرأته فقط وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير البيان جملة بأن قال قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام أن لوطا خارج عن العذاب لقولهم {} ج ولوط ليس ظالما قيل لهم وبالله تعالى التوفيق يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم فأشفق إبراهيم عليه السلام من ذلك فسأل عنه وقد أجمل لنوح عليه السلام خلاص أهله فظن أن الأهل هم القرابة حتى بين له بعد ذلك أن المراد بأهله أهل دينه فإن قال قائل فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود بيانه قيل له وبالله تعالى التوفيق المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث عنه ولا نبتغي تأويله وأن يقول كل من عند ربنا وأما المراد فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى {} فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في ورود الأمر ما لم يأت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وقت وجوب العمل به فأما إذا جاء وقت وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون وقوله تعالى صدق وحق بالله تعالى التوفيق فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل وإلا فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى ولو فعل الله تعالى ذلك لكان تعنيتا لنا وقد أخبرنا تعالى فقال {} فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق قال علي يختلف في الوضوح فيكون بعضه جليا وبعضه خفيا فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلا أن يؤتي الله رجلا فهما في دينه وكما تعذر على عمر رضي الله عنه وهو الغاية في العلم بنص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فيه فهم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم وانتهره عليه السلام وأخبره بأنها بينة يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف وكما عرض لعدي في توهمه أن الخيط الأبيض والأسود من خيوط الناس حتى زاده الله تعالى بيانا في أن ذلك من الفجر وقد اكتفى غير عدي بالآية نفسها وعلم أن المراد الفجر وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو فزاده الله بيانا باستثناء أولي الضرر وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج وأن لا حرج على مريض ولا أعمى وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها قال علي فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب وإيجاز وبالله تعالى التوفيق والتأكيد نوع من أنواع البيان قال الله عز وجل {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} وقال تعالى {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون خلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل لمفسدين} بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشرا فإن قال قائل إن الله تعالى علمنا الحساب بذلك فقد افترى لأننا كنا نعلم الحساب قبل نزول القرآن نعني النوع الإنسان جملة وبالله تعالى التوفيق وقد أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} بآبدة فقال معنى قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} دليل على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملا قال علي وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل وهذا حرام لاسيما على الله عز وجل وأيضا فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد أن يكون الهدي كاملا فيترك أن يصفه بذلك ويقتصر على أن يقول {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون العشرة الأيام في الصوم كاملة فبان كذب هذا القائل وصح أن قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} 1 2 كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الزكاة فابن لبون ذكر وكقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الفرائض فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر وإنما هذا توكيد وبيان زائد فقط قال علي ومما يبين أن الله تعالى يؤخر البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى يعرض في الخمر فمن كان عنده منها شيء فليبعها فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها وتلا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس من وقته وقد يزيد عليه السلام بيانا بعد تقدم البيان قبله فيكون تأكيدا وإخبارا لمن يبلغه الخبر الأول كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها ثم سأل السائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه عليه السلام ذلك بالعمل وقد بينها أيضا بكلامه عليه السلام لغير ذلك السائل وكما أخر الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان المناسك قبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أن يأتي وقت وجوب عملها فلما أتى وقت وجوبها بينها له عليه السلام فبينها عليه السلام بفعله غير مؤخر لها ومن ادعى أنه عليه السلام كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه ومنعهم الأجر بالعلم بها وبالإقرار بجملتها فقد افترى وكذب نبيه صلى الله عليه وسلم إذ يقول إن حقا على كل نبي أن يدل أمته على أحسن ما يعلمه لهم ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز وجل واصفا لنبيه صلى الله عليه وسلم {لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم} وإذا كتمهم ما يستعجلون الأجر بالإقرار به ويزدادون علما بفهمه فقد خالف الصفة التي ذكرها الله تعالى ومن قال ذلك فقد فارق الإسلام فإن قال قائل فأنت تصف الآن محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه يريد أن يزداد أهل الأرض خيرا وهذا خلاف قولك إن الله عز وجل لم يرد هذا بكل الناس فقد وصفت محمدا صلى الله عليه وسلم بأفضل مما وصفت به الله عز وجل وبأنه أرأف بنا من الله تعالى قال علي فنقول وبالله التوفيق هذه شغبية ضعيفة وإنما يماثل بين الشيئين أو يفاضل بينهما إذا كانا واقعين تحت نوع واحد أو تحت جنس واحد وليس صفتنا لله تعالى من نوع صفتنا للمخلوقين ورحمة محمد صلى الله عليه وسلم بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا لبعض إلا أنها أعلى من كل رحمة لإنسي وأكمل وأتم وأدوم وليس الله تعالى واقعا معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد صلى الله عليه وسلم معنا تحتها وإن كان أفضل من كل من دونه ولا يثنى على الله عز وجل بما يثني به على خلقه ألا ترى أننا نصف الله عز وجل مثنين عليه بأنه جبار متكبر وهذا في كل مخلوق دونه تعالى ذم شديد واستنقاص عظيم ونصفه تعالى بأنه ذو غضب شديد أنه يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ما يريد وأنه ذو مكر لا يؤمن وكل هذا لو وصفنا به مخلوقا لكان ذما ونقصا ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس والنبل والنجدة والعفة وكل هذا لا يجوز أن يوصف به الله عز وجل فمن أراد أن يقيس رحمة الله تعالى لخلقه برحمة نبيه صلى الله عليه وسلم لهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى وقد علمنا يقينا أن الله عز وجل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للإسلام بل أراد أن يعذبه في نار جهنم أبدا وعلمنا يقينا أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان من أبعد آماله أن يؤمن أبو طالب وقد كفانا الله تعالى ذلك بقوله {إنك لا تهدي من أحببت ولكن لله يهدي من يشآء وهو أعلم بلمهتدين} فأما من آمن بالله فالله أرأف به من نفسه بنفسه ومن محمد صلى الله عليه وسلم ومن أبيه وأمه اللذين ولداه لأنه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما أعطاه الله تعالى في الجنة ولا سمح له أبواه بذلك ولأنه تعالى غفر له ما لو فعله عاصيا لأبيه ما غفر له ذلك فإن الرجل يزني بأمة الله تعالى فيغفر له بالتوبة وبموازنة حسناته لسيئاته ولو زنى بأمة أبيه لقطعه وأما من لم يؤمن فما أراد الله به خيرا قط ولو أراد به خيرا لأماته سقطا فمن قال إن الله تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد ووصف ربه تعالى بغاية النقص ومن قال إن الله تعالى أراد الخير بفرعون فنحن نباهله ونقول اللهم لا ترد بنا من الخير ما أردته بفرعون فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده بفرعون فإن شغب مشغب فقال إنك الآن تصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه أراد غير ما أراد الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وهذه شغبية ضعيفة كالتي قبلها نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال ربنا عز وجل من أن محمدا صلى الله عليه وسلم أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 أن يهديهم وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما أراد نبيه عليه السلام عيب على نبيه عليه السلام لأنه إنما يمدح النبي فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه ألا ترى أننا نمدح أنفسنا بالنكاح والأولاد وهما منفيان عن الله عز وجل لم يردهما لنفسه قط ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه ولو أراد أن يغنيه لكان قادرا عز وجل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن تريد ما أراده الله عز وجل في كل وقت بل نهينا عن ذلك فقد أراد الله عز وجل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين ولو أردنا نحن ذلك لفسقنا وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به والانتهاء عما نهينا عنه وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل الإلحاد أن الواجب علينا التشبه بالله عز وجل وهذا كفر عندنا لأن الله تعالى لا يشبهه شيء فلا يروم التشبه به إلا كافر ملحد وهذا بين وبالله تعالى التوفيق ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان فإن احتج بعض من يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الأمر بقصة موسى والخضر عليهما السلام فلا سواء فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك القصة يلزمه التقصير إن لم يأته وإنما سأله ناسيا والنسيان مرفوع وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسيا لأن الله تعالى قد كان بين له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء وقد كان كافيه لأن ابنه كان كافرا قد سبق عليه القول في جملة من كفر واحتجوا أيضا بأمر بقرة بني إسرائيل وأنه تعالى أخر عنهم بيان الصفات التي زادهم بعد ذلك قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن تلك الصفات إنما هي زيادات شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم ولو ذبحوا في أول ما أمروا بقرة بيضاء أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 حمراء أو بلقاء لأجزت عنهم لكنهم لما زادوا سؤالا زيدوا شرعا ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إذ يقول إن من أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وفي قوله عليه السلام إنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ويبين صحة قولنا هذا قوله عز وجل {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} } فأخبر تعالى بنص ما قلنا وله الحمد وبين لنا أن الأشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل عنها فإذا سألنا عنها لزمتنا ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك وكل ذلك قد سبق في علمه عز وجل وأما تأخر نزول {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم} في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في تلاوة {علموا أن لله شديد لعقاب وأن لله غفور رحيم} فقال نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى فهم في جهنم معنا فإن ابن الزبعرى كان مغفلا عن تدبر الآية الأولى وقد كان له فيها كفاية له عقل ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين المقدسين أنهم قالوا {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون لجن أكثرهم بهم مؤمنون} فليس قول القائل أنا أعبد الملائكة ولا قول النصارى نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم لأن العبادة إنما هى الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية وإنما يعبد المرء من ينقاد له ومن يتبع أمره وأما من يعصي ويخالف فليس عابدا له وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة في دعواهم لذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ما عبدوهم قط وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم لأمرهم واتباعهم إغواءهم ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز وجل وبأن يقولوا إننا لا نعبد شيئا من دون الله عز وجل بل كانوا ينهونهم عن الكذب وهذا عين الكذب وقد بين عليه السلام معنى قول ربه تعالى {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} فقال قائل يا رسول الله ما كنا نعبدهم فأخبرهم عليه السلام أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا وتحليل ما أحلوا فقد اتخذوهم أربابا ونحن إنما أطعنا أمر نبينا عليه السلام لعلمنا أنه كله من عند الله عز وجل وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئا قال الله عز وجل {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فإن قال قائل فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز وجل قيل له نعم لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها ولكن عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد فإن قال قائل فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول صلى الله عليه وسلم لقد عبدناه قيل له وبالله تعالى التوفيق إن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم توجب ألا يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز وجل وحده لا شريك له وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده وهذه معان شرعية لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط وأما من ادعى بيان كون أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح وكذلك القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد المطلب هم ذو القربى دون بني عبد شمس وبني نوفل نزل متأخرا عن الآية دعوى لا تصح أصلا فإن قال قائل فإن عثمان رضي الله عنه وجبير بن مطعم جهلا هذا قيل له نعم وما في هذا علينا من الحجة ومتى منعنا أن يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والأكثر منهم فهم آية أو آيات من القرآن وقد كان في قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لبني المطلب دونهما ما يكفي لأنهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع ذا حق حقه ولا يعطي أحدا غير حقه فكان في هذا كفاية لأنه لو كان لبني عبد شمس وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوكان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم حقا ليس لهم ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما منه والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية فأخبر رضي الله عنه أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين ولم يدر أيهما يغلب ويستثني من الأخرى ولا يجوز عند ذي فهم ولب أن يعتقد الشيء حراما حلالا في وقت واحد على شخص واحد فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له أن يفعله فيفعل ولا يفعل وهذا محال ظاهر الامتناع ومن بلغ ههنا كفانا نفسه وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولا في استثنائها من التمر بالرطب وبالله تعالى التوفيق الباب العاشر في الأخذ بموجب القرآن قال علي ولما تبين بالبراهين والمعجزات أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإقرار به والعمل بما فيه وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف المشهورة في الآفاق كلها وجب الانقياد لما فيه فكان هو الأصل المرجوع إليه لأننا وجدنا فيه {وما من دآبة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأخبار التالي لهذا الباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 كيف العمل في بناء آي القرآن خاصها مع عامها وبناء السنن عليها وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأوامر والنواهي كيف العمل في حمل أوامر القرآن ونواهيه على الظاهر والوجوب والفور ونذكر إن شاء تعالى في باب العموم والخصوص ما يقتضيه ذلك الباب من أخذ آي القرآن على عمومها ونوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق قال علي ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن وأنه هو المتلو عندنا نفسه وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض هم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام وليس كلامنا مع هؤلاء وإنما كلامنا في هذا الكتاب مع أهل ملتنا إذا قد أحكمنا بطلان سائر الملل في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق ونذكر إن شاء الله تعالى في باب الإجماع من هذا الكتاب بالبرهان الصحيح أن القراءات السبع التي نزل بها القرآن باقية عندنا كلها وبطلان قول من ظن أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة منها أو على بعض الأحرف السبعة دون بعض وبالله تعالى التوفيق الباب الحادي عشر في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي بعض فصول هذا الباب ذكر السبب في الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة قال علي لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن الهوى * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 إن هو إلا وحي يوحى} فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا قال الله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولها عن أخرها وهي قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذا أصل وهو القرآن ثم قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكمه وصح لنا بنص القرآن أن الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال علي والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمكنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 هذا الشغب في الله عز وجل إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى فبطل هذا الظن وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى وهو القرآن وإلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم المنقول على مرور الدهر إلينا جيل بعد جيل قال علي وأيضا فليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلا ولا دليل عليه وإنما فيه الأمر بالرد فقط ومعلوم بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم وأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم موجودة عندنا منقول كل ذلك إلينا فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر قال علي والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى وحكمها حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما لما قدمناه آنفا في صدر هذا الباب قال تعالى {يأيها لذين آمنوا أطيعوا لله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون} فبين تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الإقرار بالطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلا عمل بأوامره واجتناب نواهيه وهذه صفة المقلدين فإنهم يقولون طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم واجبة فإذا أتاهم أمر من أوامره يقروه بصحته لم يصعب عليهم التولي عنه وهم يسمعون نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وقال تعالى {قل إنمآ أنذركم بلوحي ولا يسمع لصم لدعآء إذا ما ينذرون} فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم كله وحي والوحي بلا خوف ذكر والذكر محفوظ بنص القرآن فصح بذلك أن كلامه صلى الله عليه وسلم كله محفوظ بحفظ الله عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء إذ ما حفظ الله تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كله فلله الحجة علينا أبدا وقال تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 {وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} فوجدنا الله تعالى يردنا إلى كلام نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قدمنا آنفا فلم يسمع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يأتي عما وجد فيهما فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق وأما من فعله مستحلا للخروج عن أمرهما وموجبا لطاعة أحد دونهما فهو كافر شك عندنا في ذلك وقد ذكرنا محمد بن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر ولم نحتج في هذا بإسحاق وإنما أوردناه لئلا يظن جاهل أننا منفردون بهذا القول وإنما احتججنا في تكفيرنا من استحل خلاف ما صح عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} قال علي هذه كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه ووصيته عز وجل الواردة عليه فليفتش الإنسان نفسه فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خبر يصححه مما قد بلغه أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان وفلان أو قياسه واستحسانه وأوجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحدا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم متى صاحت فمن دونه فليعلم أن الله تعالى قد أقسم وقوله الحق إنه ليس مؤمنا وصدق الله تعالى وإذا لم يكن مؤمنا فهو كافر ولا سبيل إلى قسم ثالث وليعلم أن كل من قلد من صاحب أو تابع أو مالكا أو أبو حنيفة والشافعي وسفيان والأوزاعي وأحمد وداود رضي الله عنهم متبرئون منه في الدنيا والآخرة ويوم يقوم الأشهاد اللهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 إنك تعلم أنا لا نحكم أحدا إلا كلامك وكلام نبيك الذي صليت عليه وسلمت في كل شيء مما شجر بيننا وفي كل ما تنازعنا فيه واختلفنا في حكمه وأننا لا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى به نبيك ولو أسخطنا بذلك جميع من في الأرض وخالفناهم وصرنا دونهم حزبا وعليهم حربا وإننا مسلمون لذلك طيبة أنفسنا عليه مبادرون نحوه لا نتردد ولا نتلكأ عاصون لكل من خالف ذلك موقنون أنه على خطأ عندك وأنا على صواب لديك اللهم فثبتنا على ذلك ولا تخالف بنا عنه وأسألك اللهم بأبنائنا وإخواننا المسلمين هذه الطريقة حتى ننقل جميعا ونحن مستمسكون بها إلى دار الجزاء آمين بمنك يا أرحم الراحمين قال علي وإذ قد بين الله لنا أن كلام نبيه إنما هو كله وحي من عنده وأن القرآن وحي من عنده وأيضا فقد قال فيه عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فصح بهذه الآية صحة ضرورية أن القرآن والحديث الصحيح متفقان هما شيء واحد لا تعارض بينهما ولا اختلاف يوفق الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده ويحرمه من شاء لا إله إلا هو كما يؤتي الفهم والذكاء والصبر على الطلب للخير من شاء ويؤتي البلدة وبعد الفهم والكسل من شاء نسأل الله من هبته ما يقرب منه ويزلف لديه آمين وصح بما ذكرنا بطلان قول من ضرب القرآن بعضه ببعض أو ضرب الحديث الصحيح بعضه ببعض أو ضرب القرآن بالحديث بعضهما ببعض وإن أمدنا الله بانفساخ مدة وأيدنا بعون من قبله فسنجمع في كل ذلك دواوين نبين فيها أشخاص السؤال والجواب والتأليف في كل ما ظنه أهل الجهل من ذلك متعارضا مختلف الحكم ونبين بحول الله وقوته أن كل ذلك شيء واحد لا اختلاف فيه وأن يختر منا قبل ذلك فحسبنا ما اطلع عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 من نيتنا في ذلك لا إله إلا هو وقال تعالى {ألم تر إلى لذين أوتوا نصيبا من لكتاب يدعون إلى كتاب لله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون} وقال تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل لله وإلى لرسول رأيت لمنافقين يصدون عنك صدودا} قال علي بن أحمد فليتق الله الذي إليه المعاد امرؤ على نفسه ولتوجل نفسه عند قراءة هذه الآية وليشتد إشفاقه من أن يكون مختارا للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسألة الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى وإلى كلام الرسول فصده عنهما ودعاه إلى قياس أو إلى قول فلان وفلان فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقا نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة فالتوبة التوبة عباد الله قبل حلول الأجل وانقطاع المهل قال تعالى {وإذا حضر لقسمة أولوا لقربى وليتامى ولمساكين فرزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا} وقال تعالى {ومآ أنزلنا عليك لكتاب إلا لتبين لهم لذي ختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فصح أن البيان كله موقوف على كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم وقال عز وجل {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى لله ورسوله أمرا أن يكون لهم لخيرة من أمرهم ومن يعص لله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} قال علي هذه الآية كافية من عند رب العالمين في أنه ليس لنا اختيار عند ورود أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه من خير نفسه في التزام أو ترك أو في الرجوع إلى قول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله بنص هذه الآية فقد ضل ضلالا مبينا وأن المقيم على أمر سماه الله ضلالا لمخذول وقال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما} وقال تعالى {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} وقال تعالى {في بيوت أذن لله أن ترفع ويذكر فيها سمه يسبح له فيها بلغدو ولآصال} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 قال علي ومن جاءه خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر أنه صحيح وأن الحجة تقوم بمثله أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس أو لقول فلان وفلان فقد خالف أمر الله وأمر رسوله واستحق الفتنة والعذاب الأليم قال علي أما الفتنة فقد عجلت له ولا فتنة أعظم من تماديه على ما هو فيه وارتطامه في هذه العظيمة أعظم فتنة ووالله ليصحن القسم الآخر إن لم يتدارك نفسه بالتوبة والإقلاع والطاعة لما أتاه من نبيه صلى الله عليه وسلم ورفض قبول قول من دونه كائنا من كان وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى {ويقولون آمنا بلله وبلرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك ومآ أولئك بلمؤمنين * وإذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون * وإن يكن لهم لحق يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبهم مرض أم رتابوا أم يخافون أن يحيف لله عليهم ورسوله بل أولئك هم لظالمون * إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون * ومن يطع لله ورسوله ويخش لله ويتقه فأولئك هم لفآئزون * وأقسموا بلله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن لله خبير بما تعملون * قل أطيعوا لله وأطيعوا لرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على لرسول إلا لبلاغ لمبين} قال علي هذه الآيات محكمات لم تدع لأحد علقة يشغب بها قد بين الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون نحن المؤمنون بالله وبالرسول ونحن طائعون لهما ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين وإذا دعوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يخالف كل ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك فمن قائل ليس عليه العمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ومن قائل هذا خصوص ومن قائل هذا متروك ومن قائل أبى هذا فلان ومن قائل القياس غير هذا حتى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئا يوافق ما قلدوا فيه طاروا به كل مطار وأتوا إليه مذعنين كما وصف الله حرفا حرفا فيا ويلهم ما بالهم أفي قلوبهم مرض وريب أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله صلى الله عليه وسلم ألا إنهم هم الظالمون كما سماهم الله رب العالمين فبعدا للقوم الظالمين ثم بين تعالى أن قول المؤمنين إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وهذا جواب أصحاب الحديث الذين شهد لهم الله تعالى وقوله الحق أنهم مؤمنون وأنهم مفلحون وأنهم هم الفائزون اللهم فثبتنا فيهم ولا تخالف بنا عنهم واكتبنا في عدادهم واحشرنا في سوادهم آمين رب العالمين ثم أخبرنا تعالى بما شهدناه من اكثر أهل زماننا وبما يميزونه من أنفسهم بظاهر أحوالهم وباطنها من أنهم يقولون نسمع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ويقسمون على ذلك فقال لهم تعالى لا تقسموا ولكن أطيعوا أن حققوا ما تقولون بإقراركم وفعلكم واتركوا حكم كل حاكم وقول كل قائل دون قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبرنا تعالى أنه ليس على رسول الله صلى الله عليه وسلم غير ما حمله ربه وهو التبليغ والتبيين وقد فعل صلى الله عليه وسلم ذلك وأخبرنا تعالى أن علينا ما حملنا وهو الطاعة والانقياد لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم والعمل بذلك لا لما أمرنا به من دونه وبالله تعالى التوفيق قال علي لقد كان في آية واحدة مما تلونا كفاية لمن عقل وفهم فكيف وقد أبدأ ربنا تعالى في ذلك وأعاد وكرر وأكد ولم يدع لأحد متعلقا وقد أنذرنا كما أمرنا وألزمنا في القرآن وما توفيقنا إلا بالله عز وجل ولا قوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل فصل فيه أقسام الإخبار عن الله تعالى قال أبو محمد جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه عليه السلام بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا وعلى الطاعة من كل مسلم لقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين خبر تواتر وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به وفي أنه حق مقطوع على غيبه لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم وبه علمنا صحة مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته وبينا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتوالف ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ولا أنه مولود من امرأة قال علي وقد اختلف الناس في مقدار عدد النقلة للخبر الذي ذكرنا فطائفة قالت لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب وقالت طائفة لا يقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن وقالت طائفة لا يقبل أقل من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا عدد أهل بدر وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسين عدد القسامة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين وقالت طائفة لا يقبل إلا من عشرين وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثني عشر وقالت طائفة لا يقبل إلا من خمسة وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعة وقالت طائفة لا يقبل إلا من ثلاثة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة وقالت طائفة لا يقبل إلا من اثنين قال علي وهذه كلها أقوال بلا برهان وما كان هكذا فقد سقط ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشيء من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه فإنه لا سبيل له البتة إلى أن يكون شيء منها صح عنده بالعدد الذي شرط كل واحد من ذلك العدد عن مثل ذلك العدد كله وهكذا متزايدا حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر م 8 ن دينه أو دنياه فحصل من كل قول منها بطلان كل خبر جملة ولا نحاشي شيئا لأنه وإن سمع هو بعض الأخبار من العدد الذي شرط فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك وكل قول أدى إلى الباطل فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عددا قال علي ونقول ههنا إن شاء الله تعالى قولا باختصار فنقول وبالله تعالى التوفيق لكل من حد في عدد نقلة خبر التواتر حدا لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين أو عدد لا نحصيهم وإن كان في ذاته محصي ذا عدد محدود أو أهل المشرق والمغرب ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ولا بد له من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواترا وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبدا ولا يعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 فإذن لا بد من تحديد عدد ضرورة فنقول لهم ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله فإن قال يبطله تحكم بلا برهان وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر حتى يبلغ إلى واحد فقط وإن حد عددا سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة وأيضا فإنه ما في القول فرق بين ما نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر ولا بين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون وليس ذكر هذه الأعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال وفي بعض الأخبار بموجب ألا يقبل أقل منها في الأخبار وقد ذكر تعالى في القرآن أعدادا غير هذه فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمائة ألف وغير ذلك ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها ولم يأت من هذه الأعداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجة بهم فصارف ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه وإن قال لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حد كان قد ترك مذهبه الفاسد ثم سألناه عن إسقاط آخر أيضا مما بقي من ذلك العدد وهكذا حتى يبعد عما حد بعدا شديدا فإن نظروا هذا بما يمكن حده من الأشياء كانوا مدعين بلا دليل ومشبهين بلا برهان وحكم كل شيء يجعله المرء دينا له أن ينظر في حدوده ويطلبها إلا ما أصبح إجماع أو نص أو أوجبت طبيعة ترك طلب حده وقد قال بعضهم لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد قال أبو محمد وهذا قول من غمره الجهل لأنه ليس هذا موجدا في العالم أصلا وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعلمه نحن وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك فعلى هذا القول الفاسد قد سقط قبول جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي صلى الله عليه وسلم في العالم وهذا كفر وأيضا فيلزم هؤلاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته وهو ألا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا وألا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة وهم يعرفون بضرورة حسهم صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح وعزل وولاية واغتفال منزل وخروج عدو شر واقع وسائر عوارض العالم مما لا يشهده الا النفر اليسير ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شيء مما ذكرنا أبدا لا سيما إن كان ساكنا في قرية ليس فيها إلا عدد يسير مع أنه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب قال علي فإن سألنا سائل فقال ما حد الخبر الذي يوجب الضرورة فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا نقول إن الواحد من غير الأنبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام قد يجوز عليه تعمد الكذب يعلم ذلك بضرورة الحس وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبة إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم بل يعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ولا دسسا ولا كانت لهما رغبة فيما أخبر به ولا رهبة منه ولم يعلم أحدهما بالآخر فحدث كل واحد منهما مفترقا عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه وهذا الذي قلنا يعلمه حسا من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من أخبار زمانه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته يمر به ولو أنك تكلف إنسانا واحدا اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه يعلم ذلك بضرورة المشاهدة فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلا وقد يقع في الندرة التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة والكلمتين نحو ذلك والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط وأخبرني من لا أثق به أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد ولست أعلم ذلك صحيحا وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعدا والشعر نوع من أنواع الكلام ولكل كلام تأليف ما والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة وذكروا أن خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلا ولا تتصل وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض قال علي وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأ وقد بينا ذلك في كتاب الفضل قال علي فهذا قسم قال علي القسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب العمل به ووجب العلم بصحته أيضا وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي والحسين بن علي الكرابيسي وقد قال به أبو سليمان وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس والبرهان على صحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وجوب قبوله قول الله عز وجل {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فأوجب الله تعالى على كل فرقة قبول نذارةالنافر منها بأمره النافر بالنفقة وبالنذارة ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه فقد انطوى في هذا الأمر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعدا وطائفة من الشيء بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه وإنما حد من حد في قوله تعالى {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} النور 2 أنهم أربعة لدليل ادعاه وكان بذلك ناقضا لمعهود اللغة ولم يدع قط قائل ذلك القول أن الطائفة في اللغة لا تقع إلا على أربعة وأما نحن فاللازم عندنا أن يشهد عذاب الزنى واحد على ما نعرف من معنى الطائفة فإن شهد اكثر فذلك مباح والواحد يجزي وبرهان آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رسولا إلى كل ملك من ملوك الأرض المجاورين لبلاد العرب وقد اعترض بعض من يخالفنا في ذلك بأن قال إن الرفاق والتجار وردوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقتصر بذلك على الرسول وحده قال أبو محمد وهذا شغب وتمويه لا يجوز إلا على ضعيف ونحن لا نشك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر بالرسل المذكورين على الإخبار بظهوره ومعجزاته المنقولة بخير الرفاق والسفار بل أمرهم بتعليم من أسلم شرائع الإسلام ومسائل العبادات والأحكام ليس من شيء من ذلك منقولا على ألسنة الرفاق والسفار وبعثه هؤلاء الرسل مشهورة بلا خوف منقولة نقل الكواف فقد ألزم النبي صلى الله عليه وسلم كل ملك ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه نحوهم من شرائع دينهم قال علي وكذلك بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى الجند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وجهات من اليمن وأبا موسى إلى جهة أخرى وهي زبيد وغيرها وأبا بكر على الموسم مقيما للناس حجهم وأبا عبيدة إلى نجران وعليا قاضيا إلى اليمن وكل من هؤلاء مضى إلى جهة ما معلما لهم شرائع الإسلام وكذلك بعث أميرا إلى كل جهة أسلمت بعدت منه أو قربت كأقصى اليمن والبحرين وسائر الجهات والأحياء والقبائل التي أسلمت بعث إلى كل طائفة رجلا معلما لهم دينهم ومعلما لهم القرآن ومفتيا لهم في أحكام دينهم وقاضيا فيما وقع بينهم وناقلا إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به على نبيهم صلى الله عليه وسلم وبعثه هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن لا يشك فيها أحد من العلماء ولا من المسلمين ولا في أن بعثهم إنما كانت لما ذكرنا من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين وما أفتوهم به في الشريعة ومن لا يجب عليهم الانقياد لما أخبروهم به من كل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولا ولكان عليه السلام قائلا للمسلمين بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلغكم عني ومن حكمكم ألا تلتفتوا إلى ما نقل إليكم عني وألا تسمعوا منه ما أخبركم به عني ومن قال بهذا فقد فارق الإسلام وكذلك من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرىء واحد أو محدث واحد أو مفت واحد فنقول لمن خالفنا ماذا تقولون أيلزمه إذا قرأ القرآن على ذلك المقرىء أن يؤمن بما أقرأه وأن يصدق بأنه كلام الله تعالى ويثبت على ذلك أم عليه أن يشك ولا يصدق بأنه كلام الله عز وجل فإن قالوا يلزمه الإقرار بأنه كلام الله تعالى قلنا صدقتم فأي فرق بين نقلهم للقرآن وبين نقلهم لسائر السنن وكلاهما من عند الله تعالى وكلاهما فرض قبوله وإن قالوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 عليه أن يشك فيه حتى يلقى الكواف أتوا بعظيمة في الدين ونسألهم حينئذ فيمن لقي من ذلك اثنين أو ثلاثة أو أربعة فلا بد لهم من حد يقفون عنده من العدد فيكون قولهم سخريا وباطلا ودعوى بلا برهان أو يحيلوا على معدوم فيما لا يصح على قولهم قبول القرآن والدين إلا به وفي هذا إبطال للدين والقرآن جملة والمنع من اعتمادهما ونعوذ بالله من هذا وهكذا القول في وجوب طاعة من أخذ عن أولئك الرسل قرآنا أو سنة وبلغ ذلك إلى غيره ولأنها بلاد واسعة لا سبيل لكل واحد من أولئك الرسل إلى لقاء جميعهم من رجل وامرأة لكن يبلغ ويبلغ من بلغه هو وهكذا أبدا لئلا يقول جاهل هذا خصوص لأولئك الرسل وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} قال أبو محمد لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلا أو فاسقا ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن كان فاسقا فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته فأوجب ذلك سقوط قبوله فلم يبق إلا العدل فكان هو المأمور بقبول نذارته قال أبو محمد وهذا برهان ضروري لا محيد عنه رافع للإشكال والشك جملة وقد بينا هذا النوع من البرهان في كتابنا في حدود الكلام المعروف بالتقريب قال علي وقد توهم من لا يعلم أنا إنما أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فقط قال أبو محمد وقد أغفل من تأول علينا ذلك ولو لم تكن إلا هذه الآية وحدها لما كان فيها ما يدل على قبول خبر العدل ولا على المنع من قبوله بل إنما منع فيها من قبول خبر الفاسق فقط وكان يبقى خبر العدل موقوفا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 دليله ولكن لما استفاضت هذه الآية التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلى الآية التي فيها قبول نذارة النافر للتفقه صارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان وبالله تعالى التوفيق قال علي وقد أوجب الله تعالى على كل طائفة إنذار قومها وأوجب على قومها قبول نذارتهم بقوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فقد حذر تعالى من مخالفة نذارة الطائفة والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء كما قدمنا ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلما ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوما إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لازما لهم قبوله ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة وكذلك لو بعث الخليفة أو الأمير رسولا إلى ملك من ملوك الكفر أو إلى أمة من أمم الكفر ويدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم القرآن وشرائع الدين ولا فرق وما قال قط مسلم إنه كان حكم أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن بعثه عليه السلام إلى كل ناحية معلما ومفتيا ومقرئا نعم أنت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقد الإيمان حق عندنا ولكن ما أفتيتنا به وعلمتنا من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة وسائر الديانة عن النبي صلى الله عليه وسلم وما أقرأتنا من القرآن عنه عليه السلام فلا نقبله منك ولا نأخذه عنك لأن الكذب جائز عليك ومتوهم منك حتى يأتينا لكل ذلك كواف وتواتر بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين وكذلك لا يختلف اثنان في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن والسنن وشرائع الدين وأنه عليه السلام لم يبعثهم إليه ليشرعوا لهم دينا لم يأت هو به عن الله تعالى فصح بهذا كله أن كل ما نقله الثقة عن الثقة مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرآن أو سنة ففرض قبوله والإقرار به والتصديق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 به واعتقاده والتدين به وأن كل ما صح عن صاحب أو تابع أو من دونهم من قراءة لم تستند إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو من فتيا لم تسند إليه صلى الله عليه وسلم فلا يحل قبول شيء من ذلك لأنه لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وكل ذلك قد صح عن الواحد بعد الواحد من الصحابة والتابعين وليس فضلهم بموجب قبول آرائهم ولا بمانع أن يهموا فيما قالوه بظنهم لكن فضلهم معف على كل خطأ كان منهم وراجح به وموجب تعظيمهم وحبهم وبالله تعالى التوفيق وبرهان آخر وهو أنه قد صح يقينا وعلم ضرورة أن جميع الصحابة أولهم عن آخرهم قد اتفقوا دون اختلاف من أحد منهم ولا من أحد من التابعين الذين كانوا في عصرهم على أن كل أحد منهم كان إذا نزلت به النازلة سأل الصاحب عنها وأخذ بقوله فيها وإنما كانوا يسألونه عما أوجبه النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى في الدين في هذه القصة ولم يسأل قط أحد منهم إحداث شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى وهكذا كل من بعدهم جيلا فجيلا لا نحاشي أحدا ولا خلاف بين مؤمن ولا كافر قطعا في أن كل صاحب وكل تابع سأله مستفت عن نازلة في الدين فإنه لم يقل له قط لا يجوز لك أن تعمل بما أخبرتك به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يخبرك بذلك الكواف كما قالوا لهم فيما أخبروا به أنه رأى منهم فلم يلزموهم قبوله فإن قيل فاجعل هذه الحجة نفسها حجة في قبول المرسل قلنا ليس كذلك لأنه لم يصح الإجماع قط لا قديما ولا حديثا على قبول المرسل بل في التابعين من لم يقبله كالزهري وغيره يسألون من أخبرهم عمن أخبرهم حتى يبلغوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما سقط ذلك عمن ليس في قوته فهم الإسناد ومعرفته فقط وقد قال الزهري لأهل الشام ما لي أرى أحاديثكم لا خطم لها ولا أزمة فصاروا حينئذ إلى قوله وغير الزهري أيضا كثير فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجزي على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروي عن الحسن ويفتي به هذا أمر لا يجهله من له أقل علم وبرهان آخر وهو أنه عدد محصور فالتواطؤ جائز عليهم وممكن منهم ولا خلاف بين كل ذي علم بشيء من أخبار الدنيا مؤمنهم وكافرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة وأصحابه رضي الله عنهم مشاغيل في المعاش وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز وأنه عليه السلام كان يفتي بالفتيا ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط وإن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره عليه السلام بنقل من حضره وهم واحد واثنان وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلهم بالتواطؤ عند خصومنا فإذ جميع الشرائع إلا الأقل منها راجعة إلى هذه الصفة من النقل وقد صح الإجماع من الصدر الأول كلهم نعم وممن بعدهم على قبول خبر الواحد لأنها كلها راجعة إليه وإلى ما كان في معناه وهذا برهان ضروري وبالله تعالى التوفيق وبالضرورة نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة هذا ما لا شك فيه لكنه عليه السلام كان يقتصر على من بحضرته ويرى أن الحجة بمن يحضره قائما على من غاب هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم وبالله تعالى التوفيق قال علي وأقوى ما شغب به من أنكر قبول خبر الواحد أن نزع بقول الله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} قال أبو محمد وهذه الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة لأنا لم نقف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ما ليس لنا به علم بل ما قد صح لنا به العلم وقام البرهان على وجوب قبوله وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به فسقط اعتراضهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين وقال بعضهم أنتم لا تقبلون الواحد في فلس فكيف تقبلونه في إثبات الشرائع قال أبو محمد هذا السؤال لا يلزمنا لأننا لا نقيس شريعة على شريعة ولا نتعدى ما جاءت به النصوص وثبت في القرآن والسنن فصح البرهان كما ذكرنا بقبول خبر الواحد في العبادات والشرائع وقبول القرآن فقلنا به وصح الخبر بقبول المرأة الواحدة في أوضاع فقلنا به وصح الخبر بقبول الواحد مع اليمين فيما عدا الحدود فقلنا به وصح الخبر والنص بقبول الرجلين أو الرجل والمرأتين فيما عدا الزنى فقلنا به وصح النص بقبول أربعة في الزنى فقلنا به ولم نعارض شريعة بشريعة ولا تعقبنا على ربنا عز وجل ونحن وهم نقبل في إباحة الدم الحرام من المسلم الفاضل والفرج الحرام من المسلمة الفاضلة والبشرة المحرمة في جلد ثمانين في القذف وفي قطع اليد والرجل رجلين ولا نقبلهما فيما يوجب إلا خمسين جلدة من زنى الأمة لا على مؤمنة ولا على كافر فأين هم عن هذا الاعتراض الفاسد لو عقلوا وهم يقعوا تحت إنكار ربهم تعالى عليهم إذ يقول {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وقد قال بعض المتحكمين في الدين بقلة الورع ممن يدعي أنه من أهل القول بقبول السنن من طرق الآحاد إن الخبر إذا كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد ومثل ذلك بعضهم بالآثار المروية في الأذان والإقامة وقال إن الأذان والإقامة كانا بالمدينة بحضرة الأئمة من الصحابة رضي الله عنهم خمس مرات كل يوم فهذا مما تعظم به البلوى فمحال أن يعرف حكمه الواحد ويجهله الجماعة ومثل ذلك بعضهم أيضا بخبر الوضوء من مس الذكر قال أبو محمد وهذا كلام فاسد متناقض أول ذلك أن الدين كله تعظم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 به البلوى ويلزم للناس معرفته وليس هذا ما وقع في الدهر مرة من أمر الطهارة والحج أوجب في أنه فرض أو حرام مما يقع في كل يوم ولا يفرق بين ذلك إلا جاهل أو من لا يبالي بما تكلم ويقال له في الأذان الذي ذكر لا فرق بين أذان المؤذن بالمدينة بحضرة عمر وعثمان رضي الله عنهما خمس مرات كل يوم وبين أذان المؤذن بالكوفة بحضرة ابن مسعود وعلي خمس مرات كل يوم وليست نسبة الرضا بتبديل الأذان إلى علي وابن مسعود بأخف من نسبة ذلك إلى عمر وعثمان فبطل تمويه هذا الجاهل وبان تخليطه وكذلك الوضوء من مس الذكر ليست البلوى به بأعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من الرعاف والقلس وقد أوجبه الحنفيون بخبر ساقط ولم يعرفه المالكيون ولا الشافعيون ولا البلوى أيضا بذلك أعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من المسة والقبلة للذة ومن إيجاب التدلك في الغسل وقد أوجبها المالكيون ولا يعرف ذلك الحنفيون ومثل هذا كثير جدا فإن قالوا أوجبنا ذلك بالقرآن قيل لهم قد عرف القرآن غيركم كما عرفتموه فما رأوا فيه ما ذكرتم مع عظيم البلوى به وقد بينا في كتابنا هذا أن مغيب السنة عمن غاب عنه من صاحب أو غيره ليس حجة على من بلغته وإنما الحجة في السنة وقد غاب نسخ التطبق في الركوع عن ابن مسعود وهو مما تعظم به البلوى به ويتكرر على المسلم أكثر من بضع عشرة مرة في كل يوم وليلة وخفي على عمر رضي الله عنه أمر جزية المجوس والأمر في قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم لها من مجوس هجر عاما بعد عام وأبي بكر بعده عاما بعد عام أشهر من الشمس ولم تكن فضلة قليلة بل قد ثبت أنه لم يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه على قلة المال هناك حينئذ وخفي على عمر وابن عمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أيضا الوضوء من المذي وهو مما تعظم البلوى به وهذا كثير جدا ويكفي من هذا أن قول هذا القائل دعوى مجردة بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل مطرح قال عز وجل {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ولا يجوز أن يعارض ما قد صح البرهان به من وجوب قبول السنن من طريق الآحاد بدعوى ساقطة فاسدة وبالله تعالى التوفيق وقال أيضا بعض الحنفيين ما كان من الأخبار زائدا على ما في القرآن أو ناسخا له أو مخالفا له لم يجز أخذه بخبر الواحد إلا حتى يأتي به التواتر قال أبو محمد وهذا تقسيم باطل ودعوى كاذبة وحكم بلا برهان وما كان هكذا فهو ضلال لا يحل القول به ونقول لهم أيجوز الأخذ بشيء من أخبار الآحاد في شيء من الشريعة أم لا فإن قالوا لا كلمناهم بما قد فرغنا منه آنفا وكانوا خارجين عن مذهبهم أيضا وإن قالوا نعم وهو قولهم قلنا لهم من أين جوزتم أن يخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم به وأن يشرع به في دين الله عز وجل شريعة تضاف إليه في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك في الموضع الذي أجزيتموه فيه ثم منعتم من قوله حيث هو بزعمك زائد على ما في القرآن أو ناسخ له فلا سبيل إلى فرق أصلا وأما قولهم مخالف الأصول فكلام فاسد فارغ من المعنى واقع على ما لا يعقل لأن خبر الواحد الثقة المسند أصل من أصول الدين وليس سائر الأصول أولى بالقبول منه ولا يجوز أن تتنافى أصول الدين حاشا لله من هذا ثم نقول اعلموا أن كل خبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية صحيحة مسندة فإنه ولا بد زائد حكم على ما في القرآن أو أتي بما في نص القرآن لا بد من أحد الوجهين فيه والزائد حكما على ما في القرآن ينقسم قسمين إما جاء بما لم يذكر في القرآن كغسل الرجلين في الوضوء وكرجم المحصن ونحو ما أخذوا به من إباحة صوم رمضان للمسافر ومن إيجاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الوضوء من القهقهة في الصلاة ومن الوضوء بالنبيذ ومن القلس والقيء والرعاف وكتخصيص ظاهر القرآن كعدد ما لا يقطع السارق في أقل منه وما لا يحرم من الرضاع أقل منه فهذا أيضا زائد حكم على ما في القرآن ومثله ما بين مجمل القرآن كصفة الصلاة وصفة الزكاة وسائر ما جاءت به السنن فهو زائد حكم على ما في القرآن فمن أين جوزتم أخذ الزائد على ما في القرآن كما ذكرنا حيث اشتهيتم ومنعتم منه حيث اشتهيتم وهذا ضلال لا خفاء به وكل ما وجب العمل به في الشريعة فهو واجب أبدا في كل حال وفي كل موضع إلا أن يأتي نص قرآني أو سنة بالمنع من بعض ذلك فيوقف عنده وأما بالآراء المضلة والأهواء السخيفة فلا على أنهم آخذ الناس بخلاف القرآن برأي فاسد أو قياس سخيف أو خبر ساقط كالوضوء من القهقهة وسائر تلك الأخبار الفاسدة وتأملوا ما نقول لكم قد أجمعوا معنا على قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسخ للقرآن أو زيادة عليه واتفقوا معنا على أن خبر الواحد الثقة عن مثله مسندا حجة في الدين ثم تناقضوا كما ذكرنا بلا برهان ونعوذ بالله من الخذلان وقد ثبت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود رضي الله عنهم وجوب القول بخبر الواحد وهذا حجة على من قلد أحدهم في وجوب القول بخبر الواحد وإن خالف من قلده من بعض من ذكرنا خطأ وتناقضا لا يعزى منه بشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق ومن البرهان في قبول خبر الواحد خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال له رجل {وجآء رجل من أقصى لمدينة يسعى قال يموسى إن لملأ يأتمرون بك ليقتلوك فخرج إني لك من لناصحين} فصدقه وخرج فارا وتصديقه المرأة في قولها {فجآءته إحداهما تمشي على ستحيآء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه لقصص قال لا تخف نجوت من لقوم لظالمين} فمضى معها وصدقها وبالله تعالى التوفيق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم قال أبو محمد قال أبو سليمان والحسين عن أبي علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجب العلم والعمل معا وبهذا نقول وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خويز منداد عن مالك بن أنس وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج إن خبر الواحد لا يوجب العلم ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذبا أو موهوما فيه واتفقوا كلهم في هذا وسوى بعضهم بين المسند والمرسل وقال بعضهم المرسل لا يوجب علما ولا عملا وقد يمكن أن يكون حقا وجعلت المعتزلة والخوارج هذا حجة لهم في ترك العمل به قالوا ما جاز أن يكون كذبا أو خطأ فلا يحل الحكم به في دين الله عز وجل ولا أن يضاف إلى الله تعالى ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يسع أحدا أن يدين به وقال سائر من ذكرنا إنه يوجب العمل واحتج كل من ذكرنا بأن هذه صفة كل خبر واحد في جواز الكذب وتعمده وإمكان السهو فيه وإن لم يتعمد الكذب وقال أبو بكر بن كيسان الأصم البصري لو أن مائة خبر مجموعة قد ثبت أنها كلها صحاح إلا واحدا منها لا يعرف بعينه أيها هو قال فإن الواجب التوقف عن جميعها فكيف وكل خبر منها لا يقطع على أنه حق متيقن ولا يؤمن فيه الكذب والنسخ والغلط قال أبو محمد أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز عليه الكذب والوهم فهو كما قالوا إلا أن يأتي برهان حسي ضروري أو برهان منقول نقلا يوجب العلم من نص ضروري على أن الله تعالى قد برأ بعض الأخبار من ذلك فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه الكذب والوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وقد وافقنا المعتزلة وكل من يخالفنا في هذا المكان على أن خبر النبيصلى الله عليه وسلم في الشريعة لا يجوز فيه الكذب ولا الوهم لقيام الدليل على ذلك وقال أصحاب القياس إن إجماع الأمة على القياس معصوم من الخطأ بخلاف إجماع سائر الملل لقيام دليل ادعوه في ذلك وكما أجمعتم معنا على القطع ببراءة عائشة رضي الله عنها وخروج ما قذفت به عن الإمكان لقيام البرهان بذلك عند جميعكم وعندنا وقد ادعى الروافد منكم هذا في خبر الإمام فإن وجدنا نحن برهانا على أن خبر الواحد المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة لا يجوز عليه الكذب ولا الوهم فقد صح قولنا وقولهم في أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم في الشريعة لا يجوز عليه الكذب والوهم وإن لم نجد برهانا على ذلك فهو قولهم وقد صح البرهان بذلك ولله الحمد على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأما قول ابن كيسان فباطل لأنه دعوى بلا دليل بل الواجب حينئذ البحث عن الخبر الواهي والمنسوخ حتى يعرف فيجتنب وإلا فالعمل واجب لأن الأصل وجوب العمل بالسنن حتى يصح فيها بطلان أو نسخ وإلا فهي على البراءة من النسخ ومن الكذب والوهم حتى يصح في الخبر شيء من ذلك فيترك لقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ولقوله تعالى {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} ولقوله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقد علمنا أن في القرآن آيات منسوخة بلا شك لقوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} وقد اختلف العلماء فيها فطائفة قالت في آية إنها منسوخة وطائفة قالت ليست منسوخة بل هي محكمة فما قال مسلم قط لا ابن كيسان ولا غيره إن الواجب التوقف عن العمل بشيء من القرآن من أجل ذلك وخوفا أن يعمل بمنسوخ لا يحل العمل به بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الواجب العمل بكل آية منه حتى يصح النسخ فيها فيترك العمل بها وقول ابن كيسان يوجب ترك الحق يقينا ولا فرق بين ترك الحق يقينا وبين العمل بالباطل يقينا وكلاهما لا يحل فقد تعجل ابن كيسان لنفسه الذي فر عنه وأشد منه لأنه ترك الحق يقينا خوف أن يقع في خطأ لعله لا يقع فيه وهذا كما ترى قال علي وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشريعة يوجب العلم ولا يجوز فيه البتة الكذب ولا الوهم فنقول وبالله تعالى التوفيق قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وقال تعالى آمرا لنبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول {قل ما كنت بدعا من لرسل ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين} وقال تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذبا وضمانه خائسا وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل فوجب أن الذي أتانا به محمد صلى الله عليه وسلم محفوظ بتولي الله تعالى حفظه مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطا لا يتميز عن أحد من الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 بيقين إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ ولكان قول الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} كذبا ووعدا مخلفا وهذا لا يقوله مسلم فإن قال قائل إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده فهو الذي ضمن تعالى حفظه لسائر الوحي الذي ليس قرآنا قلنا له وبالله تعالى التوفيق هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فصح أن لا برهان له على دعواه فليس بصادق فيها والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن وأيضا فإن الله تعالى يقول {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فصح أنه عليه السلام مأمور ببيان القرآن للناس وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه لكن بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كان بيانه عليه السلام لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها فما أخطأ فيه المخطىء أو تعمد فيه الكذب الكاذب ومعاذ الله من هذا وأيضا نقول لمن قال إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجب العلم وإنما يجوز فيه الكذب والوهم وأنه غير مضمون الحفظ أخبرونا هل يمكن عندكم أن تكون شريعة فرض أو تحريم أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة فجهلت حتى لا يعملها علم يقين أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا وهل يمكن عندكم أن يكون حكم موضوع بالكذب أو بخطأ بالوهم قد جاز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطا لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا أم لا يمكن عندكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 شيء من هذين الوجهين فإن قالوا لا يمكنان أبدا بل قد أمنا ذلك صاروا إلى قولنا وقطعوا أن كل خبر رواه الثقة عن الثقة مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الديانة فإنه حق قد قاله عليه السلام كما هو وأنه يوجب العلم ونقطع بصحته ولا يجوز أن يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط اختلاطا لا يتميز فيه الباطل من الحق أبدا وإن قالوا بل كل ذلك ممكن كانوا قد حكموا بأن الدين دين الإسلام قد فسد وبطل أكثره واختلط ما أمر الله تعالى به مع ما لم يأمر به اختلاطا لا يميزه أحد أبدا وأنهم لا يدرون أبدا ما أمرهم به الله تعالى مما لم يأمرهم به ولا ما وضعه الكاذبون والمستخفون مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث والذي لا يغني من الحق شيئا وهذا انسلاخ من الإسلام وهدم للدين وتشكيك في الشرائع ثم نقول لهم أخبرونا إن كان ذلك كله ممكنا عندكم فهل أمركم الله تعالى بالعمل بما رواه الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم يأمركم بالعمل به ولا بد من أحدهما فإن قالوا لم يأمرنا الله تعالى بذلك لحقوا بالمعتزلة وسيأتي جوابهم على هذا القول إن شاء الله تعالى وإن قالوا بل أمرنا الله تعالى بالعمل بذلك قلنا لهم فقد قلتم إن الله تعالى أمركم بالعمل في دينه بما لم يأمركم به مما وضعه الكذابون وأخطأ فيه الواهمون وأمركم بأن تنسبوا إليه تعالى وإلى نبيه صلى الله عليه وسلم ما لم يأتكم به قط وما لم يقله الله تعالى قط ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا قطع بأنه عز وجل أمر بالكذب عليه وافترض العمل بالباطل وبما ليس من الدين وبما شرع الكذابون مما لم يأذن به الله تعالى وهذا عظيم جدا لا يستجيز القول به مسلم ثم نسألهم عما قالوا إنه ممكن من سقوط بعض ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحكم في الدين بإيجاب أو تحريم حتى لا يوجد عند أحد هل بقي علينا العمل به أم سقط عنا ولا بد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أحدهما فإن قالوا بل هو باق علينا قلنا لهم كيف يلزمنا العمل بما لا ندري وبما لم يبلغنا ولا يبلغنا أبدا وهذا هو تحميل الإصر والحرج والعسر الذي قد آمننا الله تعالى منه وإن قالوا بل سقط عنا العمل به قلنا لهم فقد أجزتم نسخ شرائع من شرائع الإسلام مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي محكمة ثابتة لازمة فأخبرونا من الذي نسخها وأبطلها وقد مات صلى الله عليه وسلم وهي لازمة لنا غير منسوخة وهذا خلاف الإسلام والخروج منه جملة فإن قالوا لا يجوز أن يسقط حكم شريعة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لازم لنا ولم ينسخ قلنا لهم فمن أين أجزتم هذا النوع من الحفظ في الشريعة ولم تجيزوا تمام الحفظ للشريعة في ألا يختلط بها باطل لم يأمر الله تعالى به قط اختلاطا لا يتميز معه الحق الذي أمر الله تعالى به من الباطل الذي لم يأمر به تعالى قط وهذا لا مخلص لهم منه ولا فرق بين من منع من سقوط شريعة حق وأجاز اختلاطها بالباطل وبين من منع من اختلاط الحق في الشريعة بالباطل وأجاز سقوط شريعة حق وكل هذا باطل لا يجوز البتة وممتنع قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حق مقطوع به موجب للعمل والعلم معا وأيضا قال الله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقد قال تعالى {يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين} نسألهم هل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله إليه أو لم يبين وهل بلغ ما أنزل الله إليه أو لم يبلغ ولا بد من أحدهما فمن قولهم إنه عليه السلام قد بلغ ما أنزل الله إليه وبينه للناس وأقام به الحجة على من بلغه فنسألهم عن ذلك التبليغ وذلك البيان أهما باقيان عندنا وإلى يوم القيامة أم هما غير باقيين فإن قالوا بل هما باقيان وإلى يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 القيامة رجعوا إلى قولنا وأقروا أن الحق من كل ما أنزل الله تعالى في الدين مبين مما لم ينزله مبلغ إلينا وإلى يوم القيامة وهذا هو نص قولنا في أن خبر الواحد العدل عن مثله مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حق مقطوع على مبينه موجب للعلم والعمل وإن قالوا بل هما غير باقين دخلوا في عظيمة وقطعوا بأن كثيرا من الدين قد بطل وإن التبليغ قد سقط في كثير من الشرائع وأن تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثير من الدين قد ذهب ذهابا لا يوجد معه أبدا وهذا هو قول الروافض بل شر منه لأن الروافض ادعت أن حقيقة الدين موجودة عند إنسان مضمون كونه في العالم وهؤلاء أبطلوه من جميع العالم ونعوذ بالله من كلا القولين وأيضا فإن الله تعالى قال {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} وقال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} وقال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} وقال تعالى ذاما لقوم قالوا {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال تعالى {سيقول لذين أشركوا لو شآء لله مآ أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب لذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنآ إن تتبعون إلا لظن وإن أنتم إلا تخرصون} وقد صح أن الله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نقول أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وقال عليه السلام كذا وفعل عليه السلام كذا وحرم القول في دينه بالظن وحرم تعالى أن نقول عليه إلا بعلم فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب أو الوهم لكنا قد أمرنا الله تعالى بأن نقول عليه ما لا نعلم ولكان تعالى قد أوجب علينا الحكم في الدين بالظن الذي لا نتيقنه والذي هو الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا والذي هو غير الهدى الذي جاءنا من عند الله تعالى وهذا هو الكذب والإفك والباطل الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 لا يحل القول به والذي حرم الله تعالى علينا أن نقول به وبالتخرص المحرم فصح يقينا أن الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه موجب للعلم والعمل معا وبالله تعالى التوفيق وصار كل من يقول بإيجاب العمل بخبر الواحد وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه ولا يوجب العلم قائلا بأن الله تعالى تعبدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم وأن نحكم في ديننا بالظن الذي قد حرم تعالى علينا أن نحكم به في الدين وهذا عظيم جدا وأيضا فإن الله تعالى يقول {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقال تعالى {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} وقال تعالى {إن الدين عند لله لإسلام وما ختلف لذين أوتوا لكتاب إلا من بعد ما جآءهم لعلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات لله فإن لله سريع لحساب} وقال تعالى {كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم} قال أبو محمد فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله تعالى به نبيه عليه السلام من بيان شريعة الإسلام لنا غير محفوظ وإنه يجوز فيه التبديل وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا أخبرونا عن إكمال الله دينا ورضاه الإسلام لنا دينا ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا الإسلام أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط أم لا للصحابة ولا لنا ولا بد من أحد هذه الوجوه فإن قالوا لا للصحابة ولا لنا كان قائل هذا القول كافرا لتكذيبه الله تعالى جهارا وهذا لا يقوله مسلم وأن قالوا بل كان كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة صاروا إلى قولنا ضرورة وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 والنعمة بذلك علينا تامة وأن دين الإسلام الذي ألزمنا الله تعالى اتباعه لأنه هو الدين عنده عز وجل متميز عن غيره الذي لا يقبله الله تعالى من أحد وأننا ولله الحمد قد هدانا الله تعالى له وأننا على يقين من أنه الحق وما عداه هو الباطل وهذا برهان ضروري قاطع على أنه كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به أبدا ما لم يكن منه وإن قالوا بل كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم وليس ذلك لنا ولا علينا كانوا قد قالوا الباطل وخصصوا خطاب الله تعالى بدعوى كاذبة إذ خطابه تعالى بالآيات التي ذكرنا عموم لكل مسلم في الأبد ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الإسلام غير كامل عندنا وأنه تعالى رضي لنا منه ما لم ينبته علينا وألزمنا ما لا ندري أين نجده أو ألزمنا ما لم ينزله وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة والمستخفون ووضعوه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام بل هو إبطال الإسلام جهارا ولو كان هذا وقد أمنا ولله الحمد أن يكون لكان ديننا كدين اليهود والنصارى الذي أخبرنا الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب وقالوا هو من عند الله قال أبو محمد حاشا لله من هذا بل قد وثقنا بأن الله تعالى صدق في قوله {كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم} وأنه تعالى قد هدانا للحق فصح يقينا أن كل ما قاله عليه السلام فقد هدانا الله تعالى له وأنه الحق المقطوع عليه والعلم المتيقن الذي لا يمكن امتزاجه بالباطل أبدا قال علي وقال بعضهم إذا انقطعت به الأسباب خبر الواحد يوجب علما ظاهرا قال أبو محمد وهذا كلام لا يعقل وما علمنا علما ظاهرا غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر بل كل علم تيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 قلبه معا وكل ظن يتيقن فليس علما أصلا لا ظاهرا ولا باطنا بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله تعالى ونقول لهم إذا جاز عندكم أن يكون كثير من دين الإسلام قد اختلط بالباطل فما يؤمنكم إذ ليس محفوظا من أنه لعل كثيرا من الشرائع قد بطلت لأنها لم ينقلها أحد أصلا فإن منعوا من ذلك لزمهم المنع من اختلاطها بما ليس منها لأن ضمان حفظ الله تعالى يقتضي الأمان من كل ذلك فإنه لا يشك أحد من المسلمين قطعا في أن كل ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها ومباحها فإنها سنة الله تعالى وقد قال عز وجل {سنة لله في لذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة لله تبديلا} {ستكبارا في لأرض ومكر لسيىء ولا يحيق لمكر لسيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلأولين فلن تجد لسنة لله تبديلا ولن تجد لسنة لله تحويلا} هذا نص كلامه تعالى وقد قال تعالى {لهم لبشرى في لحياة لدنيا وفي لآخرة لا تبديل لكلمات لله ذلك هو لفوز لعظيم} فلو جاء أن يكون ما نقله الثفات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقبول بأنه سنة الله تعالى وبيان نبيه عليه السلام يمكن في شيء منه التحويل أو التبديل لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لهما تبديل ولا تحويل كذبا ولكانت كلماته كذبا وهذا ما لا يجيزه مسلم أصلا فصح يقينا لا شك فيه أن كل سنة سنها الله تعالى من الدين لرسوله صلى الله عليه وسلم وسنها رسوله عليه السلام لأمته فإنها لا يمكن في شيء منها تبديل ولا تحويل أبدا وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يوجب العلم بأنه حق كما هو عند الله تعالى وقولنا ولله الحمد وأيضا فإنهم مجمعون معنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من الله تعالى في البلاغ في الشريعة وعلى تكفير من قال ليس معصوما في تبليغه الشريعة إلينا فنقول لهم اخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في تبليغه الشريعة التي بعث بها أهي له عليه السلام في إخباره الصحابة بذلك فقط أم هي باقية لما أتى به عليه السلام في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة فإن قالوا بل هي له عليه السلام مع من شاهده خاصة لا في بلوغ الدين إلى من بعدهم قلنا لهم إذا جوزتم بطلان العصمة في تبليغ الدين بعد موته عليه السلام وجوزتم وجود الداخلة والفساد والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين فمن أين وقع لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده عليه السلام وبين ما منعتم من ذلك في حياته منه عليه السلام فإن قالوا لأنه كان يكون عليه السلام غير مبلغ ما أمر به ولا معصوم والله تعالى يقول {يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين} قيل لهم نعم وهذا التبليغ المعترض عليه والذي هو فيه عليه السلام معصوم بإجماعكم معنا من الكذب والوهم هو إلينا كما هو إلى الصحابة رضي الله عنهم ولا فرق والدين لازم لنا كما هو لازم لهم سواء بسواء فالعصمة واجبة في التبليغ للديانة باقية مضمونة ولا بد إلى يوم القيامة كما كانت قائمة عن الصحابة رضي الله عنهم سواء بسواء ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة والحجة لا تقوم بما لا يدرى أحق هو أم باطل كذب ثم نقول لهم وكذلك قال تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} فإن ادعوا إجماعا قلنا لهم من الكرامية من يقول إنه عليه السلام غير معصوم في تبليغ الشريعة فإن قالوا ليس هؤلاء ممن يعد في الإجماع قلنا صدقتم ولا يعد في الإجماع من قال إن الدين غير محفوظ وإن كثيرا من الشرائع التي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل الموضوع والموهوم فيه اختلاطا لا يتميز معه الرشد من الغي ولا الحق من الباطل ولا دين الله تعالى من دين إبليس أبدا فإن قالوا بل الفضيلة بعصمة ما أتى النبي صلى الله عليه وسلم به من الدين باقية إلى يوم القيامة صاروا إلى الحق الذي هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قولنا ولله تعالى الحمد فإن قالوا فإنه صفة كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق والكذب والخطأ وقولكم بأن خبر الواحد العدل في الشريعة موجب للعلم إحالة لطبيعة الخبر وطبيعة المخبرين وخرق لصفات كل ذلك وللعادة فيه قلنا لهم لا ينكر من الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا صح البرهان بأنه فعل الله تعالى والعجب من إنكاركم هذا مع قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب والوهم في تبليغه الشريعة وهذا هو الذي أنكرتم بعينه بل لم تقنعوا بالتناقض إذا أصبتم في ذلك وأخطأتم في منعكم من ذلك في خبر الواحد العدل حتى أتيتم بالباطل المحض إذ جوزتم على جميع الأمم موافقة الخطأ في إجماعها في رأيها وذلك طبيعة في الكل وصفة لهم ومنعتم من جواز الخطأ والوهم على ما ادعيتموه من إجماع الأمة من المسلمين خاصة في اجتهادها في القياس وحاشا لله أن تجمع الأمة على الباطل والقياس عين الباطل فخرقتم بذلك العادة وأحلتم الطبائع بلا برهان لا سيما إن كان المخالف لنا من المرجئة القاطعين بأنه لا يمكن أن يكون يهودي ولا نصراني يعرف بقلبه أن الله تعالى حق فإن هؤلاء أحالوا الطبائع بلا برهان ومنعوا من إحالتها إذا قام البرهان بإحالتها فإن قالوا فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار الشرعية التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم معصومون في نقلها وإن كل واحد منهم معصوم في نقله من تعمد الكذب ووقوع الوهم منه قلنا لهم نعم هكذا نقول وبهذا نقطع ونبت وكل عدل روى خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين أو فعله عليه السلام فذلك الراوي معصوم من تعمد الكذب مقطوع بذلك عند الله تعالى ومن جواز الوهم فيه عليه إلا ببيان وارد ولا بد من الله تعالى ببيان ما وهم فيه كما فعل تعالى بنبيه عليه السلام إذ سلم من ركعتين ومن ثلاث واهما لقيام البراهين التي قدمنا من حفظ جميع الشريعة وبيانها مما ليس منها وقد علمنا ضرورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أن كل من صدق في خبر ما فإنه معصوم في ذلك الخبر من الكذب والوهم بلا شك فأي نكرة في هذا فإن قالوا تعبدنا الله تعالى بحسن الظن به وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول أنا عند ظن عبدي بي قلنا ليس هذا من الحكم في الدين بالظن في شيء بل كله باب واحد لأنه تعالى حرم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم ونحن لا نعلم أيغفر لنا أم يعذبنا فوجب علينا الوقوف في ذلك والرجاء والخوف وحرم علينا أن نقول عليه في الدين والتحريم والإباحة والإيجاب ما لا نعلم وبين لنا كل ما ألزمنا من ذلك فوجب القطع بكل ذلك كما وجب القطع بتخليد الكفار في النار أو تخليد المؤمنين في الجنة ولا فرق ولم يجز القول بالظن في شيء من ذلك كله فإن قالوا أنتم تقولون إن الله تعالى أمرنا بالحكم بما شهد به العدل مع يمين الطالب وبما شهد به العدلان فصاعدا وبما حلف عليه المدعى عليه إذا لم يقم المدعي بينة في إباحة الدماء المحرمة والفروج المحرمة والأبشار المحرمة والأموال المحرمة وكل ذلك بإقراركم ممكن أن يكون في باطن الأمر بخلاف ما شهد به الشاهد وما حلف عليه الحالف وهذا هو الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا في قولنا في خبر الواحد ولا فرق قلنا لهم وبالله التوفيق بين الأمرين فروق واضحة كوضوح الشمس أحدهما أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله وتبينه من الغي ومما ليس منه ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا ولا بحفظ فروجنا ولا بحفظ أبشارنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا بل قدر تعالى بأن كثيرا من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا وقد نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وبقوله عليه السلام للمتلاعنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب أو كما قال عليه السلام في كل ذلك والفرق الثاني أن حكمنا بشهادة الشاهد وبيمين الحالف ليس حكما بالظن كما زعموا بل نحن نقطع ونبت بأن الله عز وجل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم بينة وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا وإن كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين والحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى وعندنا مقطوع على غيبه برهان ذلك أن حاكما لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي فلم يحكم للمدعى عليه باليمين أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله عز وجل مجرح الشهادة ظالم سواء كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقا أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين إذا لم يعلم باطن أمرهم ونحن مأمورون يقينا بأمر الله عز وجل لنا بأن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل وأن نبيح هذه البشرة المحرمة وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل وحرم على المبطل أن يأخذ شيئا من ذلك وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك فإننا في الدين فساق عصاة له تعالى ظلمه متوعدون بالنار على ذلك وما أمرنا تعالى قط بأن نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تتبعوا خطوات لشيطان ومن يتبع خطوات لشيطان فإنه يأمر بلفحشآء ولمنكر ولولا فضل لله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن لله يزكي من يشآء ولله سميع عليم} فهذا فرق في غاية البيان وفرق ثالث وهو أن نقول إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا الله تعالى بكذا لأنه تعالى يقول {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} ففرض علينا أن نقول نهانا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن كذا وأمرنا بكذا ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول شهد هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 بحق ولا حلف هذا الجانب على حق ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له يقينا ولا قال تعالى ما قال هذا الشاهد لكن الله تعالى قال لنا احكموا بشهادة العدول وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم عليه بينة وهذا فرق لا خفاء به فلم نحكم بالظن في شيء من كل ذلك أصلا ولله الحمد بل بعلم قاطع ويقين ثابت أن كل ما حكمنا به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحق من عند الله تعالى أوحى به ربنا تعالى مضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محكي عنه أنه قال وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من عند الله تعالى لأنه أمرنا بالحكم به ولم يأمرنا بأن نقول فيما شهدوا به وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى ولا أنه حق مقطوع به فإن قالوا إنما قال تعالى {يأيها لذين آمنوا جتنبوا كثيرا من لظن إن بعض لظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه وتقوا لله إن لله تواب رحيم} ولم يقل كل الظن إثم قلنا قد بين الله تعالى الإثم من البر وهو أن القول عليه تعالى بما لا نعلم حرام فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك قال علي فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد للدلائل التي ذكرنا وظنوا أنهم تخلصوا بذلك ولم يتخلصوا بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا هو ملازم لهم وذلك أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن الأخبار التي رواها الآحاد أهي كلها حق إذا كانت من رواية الثقات خاصة أم كلها باطل أم فيها حق وباطل فإن قالوا فيها حق وباطل وهو قولهم قلنا لهم هل يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى بها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ليبينها لعباده حتى يختلط بكذب وضعه فاسق ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو وهم فيها واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل المختلق اختلاطا لا يتميز به الحق من الباطل أبدا لأحد من الناس وهل الشرائع الإسلامية كلها محفوظة لازمة لنا أو هي غير محفوظة ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 كلها لازم لنا بل قد سقط منها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض من الشرائع بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به أو لم تقم لله تعالى علينا حجة في الدين لأن كثيرا منه مختلط بالكذب غير متميز منها أبدا فإن أجازوا اختلاط شرائع الدين التي أوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بما ليس في الدين وقالوا لم تقم لله تعالى علينا حجة فيما أمرنا به دخل عليهم في القول بفساد الشريعة وذهاب الإسلام وبطلان ضمان الله تعالى بحفظ الذكر كالذي دخل على غيرهم حرفا بحرف سواء بسواء ولزمهم أنهم تركوا كثيرا من الدين الصحيح كما لزم غيرهم سواء بسواء أنهم يعملون بما ليس من الدين وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بطل بيانه وأنه حجة الله تعالى بذلك لم تقم علينا سواء بسواء وفي هذا ما فيه فإن لجأوا إلى الاقتصار على خبر التواتر لم ينفكوا بذلك من أن كثيرا من الدين قد بطل لاختلاطه بالكذب الموضوع وبالموهوم فيه ومن جواز أن يكون كثير من شرائع الإسلام لم ينقل إلينا إذ قد بطل ضمان حفظ الله تعالى فيها وأيضا فإنه لا يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه منقول نقل التواتر بل أصحاب الإسناد أصح دعوى في ذلك لشهادة كثرة الرواة وتغير الأسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر وبالله تعالى التوفيق فإن لجأ لاجىء إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد الثقات فإنه كذب موضوع ليس منه شيء قاله قط رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا وبالله تعالى التوفيق هذه مجاهرة ظاهرة ومدافعة لما نعلم بالضرورة خلافه وتكذيب لجميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولجميع فضلاء التابعين ولكل إنسان من العلماء جيلا بعد جيل لأن كل ما ذكرنا رووا الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك من أحد واحتج بها بعضهم على بعض وعملوا بها وأفتوا بها في دين الله تعالى وهذا اطراح للإجماع المتيقن وباطل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 لا تختلف النفوس فيه أصلا لأنا بالضرورة ندري أنه لا يمكن البتة في البنية أن يكون كل من ذكرنا لم يصدق قط في كلمة رواها بل كلهم وضعوا كل ما رووا وأيضا ففيه إبطال الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في أنها ليست في القرآن مبينة كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك وأنه إنما أخذ بيانها من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا القطع بأن كل صاحب من الصحابة روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه هو الواضع والمخترع للكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ولا يشك أحد على وجه الأرض في أن كل صاحب من الصحابة قد حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أهله وجيرانه وفي هذا إثبات وضع الشرائع على جميعهم أولهم عن آخرهم وما بلغت الروافض والخوارج قط هذا المبلغ مع أنها دعوى بلا برهان وما كان كذلك فهو باطل بيقين في ثلاثة أقوال كما ترى لا رابع لها إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا كلها أولها عن آخرها موضوعة بأسرها وهذا باطل بيقين كما بينا وإيجاب أن كل صاحب وتابع وعالم لا نحاشي أحدا قد اتفقوا على وضع الشرائع والكذب فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا انسلاخ عن الإسلام أو يكون فيها حق وفيها باطل إلا أنه لا سبيل إلى تمييز الحق منها من الباطل لأحد أبدا وهذا تكذيب لله تعالى في إخباره بحفظ الذكر المنزل وبإكماله الدين لنا وبأنه لا يقبل منا إلا دين الإسلام لا شيئا سواه وفيه أيضا فساد الدين واختلاطه بما لم يأمر به تعالى قط به وأنه لا سبيل لأحد في العالم إلى أن يعرف ما أمره الله تعالى به في دينه مما لم يأمره به أبدا وأن حقيقة الإسلام وشرائعه قد بطلت بيقين وهذا انسلاخ عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الإسلام أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله تعالى موجبة كلها للعلم لإخبار الله تعالى بأنه حافظ لما أنزل من الذكر ولتحريمه تعالى الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم لنا به ولإخباره تعالى بأنه قد بين الرشد من الغي وليس الرشد إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وفي فعله وليس الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا قولنا والحمد لله رب العالمين قال علي فإذا قد صح هذا القول بيقين وبطل كل ما سواه فلنتكلم بعون الله تعالى على تقسيمه فنقول وبالله تعالى نتأيد إننا قد أمنا ولله الحمد أن تكون شريعة أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ندب إليها أو فعلها عليه السلام فتضيع ولم تبلغ إلى أحد من أمته إما بتواتر أو بنقل الثقة عن الثقة حتى تبلغ إليه صلى الله عليه وسلم وأمنا أيضا قطعا أن يكون الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم الحجة بنقله من العدول وأمنا أيضا قطعا أن تكون شريعة يخطىء فيها راويها الثقة ولا يأتي بيان جلي واضح بصحة خطئه فيه وأمنا أيضا قطعا أو يطلق الله عز وجل من قد وجبت الحجة علينا بنقله على وضع حديث فيه شرع يسنده إلى من تجب الحجة بنقله حتى يبلغ به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك نقطع ونثبت بأن كل خبر لم يأت قط إلا مرسلا أو لم يروه قط إلا مجهول أو مجرح ثابت الجرحة فإنه خبر باطل بلا شك موضوع لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لو جاز أن يكون حقا لكان ذلك شرعا صحيحا غير لازم لنا لعدم قيام الحجة علينا فيها قال علي وهذا الحكم الذي قدمنا إنما هو فيما نقله من اتفق على عدالته كالصحابة وثقات التابعين ثم كشعبة وسفيان وسفيان ومالك وغيرهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 من الأئمة في عصرهم وبعدهم إلينا وإلى يوم القيامة وفي كل من ثبتت جرحته كالحسن بن عمارة وجابر الجعفي وسائر المجرحين الثابتة جرحتهم وأما من اختلف فيه فعدله قوم وجرحه آخرون فإن ثبتت عندنا عدالته قطعنا على صحة خبره وإن ثبتت عندنا جرحته قطعنا على بطلان خبره وإن لم يثبت عندنا شيء من ذلك وقفنا في ذلك وقطعنا ولا بد حتما على أن غيرنا لا بد أن يثبت عنده أحد الأمرين فيه وليس خطؤنا نحن إن أخطأنا وجهلنا إن جهلنا حجة على وجوب ضياع دين الله تعالى بل الحق ثابت معروف عند طائفة وإن جهلته أخرى والباطل كذلك أيضا كما يجهل قوم ما نعلمه نحن أيضا والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه إما تثبت الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان وإما بأن توجب المشاهدة بأنه أخطأ قال علي وكذلك نقطع ونبت في كل خبرين صحيحين متعارضين وكل آيتين متعارضتين وكل آية وخبر صحيح متعارضين وكل اثنين متعارضين لم يأت نص بين بالتناسخ منهما فإن الحكم الزائد على الحكم المتقدم من معهود الأصل هو الناسخ وأن الموافق لمعهود الأصل المتقدم وهو المنسوخ قطعا يقينا للبراهين التي قدمنا من أن الدين محفوظ فلو جاز أن يخفى فيه ناسخ من منسوخ أو أن يوجد عموم لا يأتي نص صحيح بتخصيصه ويكون المراد به الخصوص لكان الدين غير محفوظ ولكانت الحجة غير قائمة على أحد في الشريعة ولكنا متعبدين بالظن الكاذب المحرم بل بالعمل بما لم يأمر الله تعالى قط به وهذا باطل مقطوع على بطلانه قال علي فإن وجد لنا يوما غير هذا فنحن تائبون إلى الله تعالى منه وهي وهلة نستغفر الله عز وجل منها وإنا لنرجو ألا يوجد لنا ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 بمن الله تعالى ولطفه صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار قال أبو محمد واستدركنا برهانا في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعا وهو خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام إذ جاءه {وجآء رجل من أقصى لمدينة يسعى قال يموسى إن لملأ يأتمرون بك ليقتلوك فخرج إني لك من لناصحين} {فجآءته إحداهما تمشي على ستحيآء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جآءه وقص عليه لقصص قال لا تخف نجوت من لقوم لظالمين} إلى قوله تعالى {قال إني أريد أن أنكحك إحدى بنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك ومآ أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين} إلى آخر القصة فصدق موسى عليه السلام قول المنذر له وخرج عن وطنه بقوله وصوب الله تعالى ذلك من فعله وصدق قول المرأة التي أباها يدعوه فمضى معها وصدق أباها في قوله إنها ابنته واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده وصوب الله ذلك كله فصح يقينا ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه يقينا والحمد لله رب العالمين قال علي وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وجوب قبول نذارة العدل النافر للتفقه في الدين فإذا كان الراوي عدلا حافظا لما تفقه فيه أو ضابطا له بكتابه وجب قبول نذارته فإن كان كثير الغلط والغفلة غير ضابط بكتابه فلم يتفقه فيما نفر للتفقه فيه وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته ومن جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل وأغافل هو أم حافظ أو ضابط ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته وضبطه أو حفظه فيلزمنا حينئذ قبول نذارته أو تثبت عندنا جرحته أو قلة حفظه وضبطه فيلزمنا اطراح خبره حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو عامر الأشعري ثنا أبو أسامة هو حماد بن أسامة عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ % فذلك مثل % من فقه في دين الله بما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن العلاء ثنا حماد بن أسامة عن يزيد فذكره بإسناده ولفظه إلا أنه قال مكان طيبة نقية ومكان غيث الغيث الكثير ومكان ورعوا وزرعوا ومكان فقه تفقه ومكان قيعان قيعة واتفقا في كل ما عدا ذلك قال علي وليس اختلاف الروايات عيبا في الحديث إذا كان المعنى واحدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحدا قال علي فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مراتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 أهل العلم دون أن يشذ منها شيء فالأرض الطيبة النقية هي مثل الفقيه الضابط لما روى الفهم للمعاني التي يقتضيها لفظ النص المتنبه على رد ما اختلف فيه الناس إلى نص حكم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الأجادب الممسكة للماء التي يستقي منها الناس فهي مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت أو ضبطته بالكتاب وأمسكته حتى أدته إلى غيرها غير مغير ولم يكن لها تنبه على معاني ألفاظ ما روت ولا معرفة بكيفية رد ما اختلف الناس فيه إلى نص القرآن والسنن التي روت لكن نفع الله تعالى بهم في التبليغ فبلغوه إلى من هو أفهم بذلك فقد أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا إذ يقول فرب مبلغ أوعى من سامع وكما روي عنه عليه السلام أنه قال فرب حامل فقه ليس بفقيه قال أبو محمد فمن لم يحفظ ما سمع ولا ضبطه فليس مثل الأرض الطيبة ولا مثل الأجادب الممسكة للماء بل هو محروم معذور أو مسخوط بمنزلة القيعان التي لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء وفي هذا كفاية بيان وبالله تعالى التوفيق قال علي فمن استطاع منكم فليكن من أمثال الأرض الطيبة فإن حرم ذلك فمن الأجادب وليس بعد ذلك درجة في الفضل والبسوق ونعوذ بالله من أن نكون من القيعان لكن من استقى من الأجادب ورعى من الطيبة فقد نجا وبالله التوفيق قال علي فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبرا حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم فقد وجب الأخذ به ولزمت طاعته والقطع به سواء أرسله غيره أو أوقفه سواه أو رواه كذاب من الناس وسواء روي من طريق أخرى أو لم يرو إلا من تلك الطريق وسواء كان ناقله عبدا أو امرأة أو لم يكن وإنما الشرط العدالة والتفقه فقط وإن العجب ليكثر من قوم من المدعين أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 قائلون بخبر الواحد ثم يعللون ما خالف مذاهبهم من الأحاديث الصحاح بأن يقولوا هذا مما لم يروه إلا فلان ولم يعرف له مخرج من غير هذا الطريق قال أبو محمد وهذا جهل شديد وسقوط مفرط لأنهم قد اتفقوا معنا على وجوب قبول خبر الواحد والأخذ به ثم هم دأبا يتعللون في ترك السنة بأنه خبر واحد والعجب أنهم يأخذون بذلك إذا اشتهوا فهذا محمد بن مسلم الزهري له نحو تسعين حديثا انفرد بها عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يروها أحد من الناس سواه ليس أحد من الأئمة إلا وله أخبار انفرد بها ما تعلل أحد من هؤلاء المحرمون في رد شيء منها بذلك فليت شعري ما الفرق بين من قبلوا خبره ولم يروه أحد معه وبين من ردوا خبره لأنه لم يروه أحد معه وهل في الاستخفاف بالسنن أكثر من هذا وأيضا فإن الخبر وإن روي من طرق ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فهو كله خبر واحد من أثبت شيئا من ذلك أثبت خبر الواحد ومن نفى خبر الواحد نفى كل ذلك لأن العلة عندهم في كل ذلك واحدة وهي أن كل ما لا يضطر إلى التصديق عندهم ولم يوجب القطع على صحة مغيبة لديهم فهو خبر واحد وهذه عندهم صفة كل ما لم ينقل بالتواتر فقد تركوا مذهبهم وهم لا يشعرون أو يشعرون ويتعمدون وهذه أسوأ وأقبح ونعوذ بالله من الخذلان قال علي وأما المدلس فينقسم إلى قسمين أحدهما حافظ عدل ربما أرسل حديثه وربما أسنده وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة فلم يذكر له سندا وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئا لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقينا أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 من ذلك وسواء قال أخبرنا فلان أو قال عن فلان أو قال فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله ما لم يتيقن أنه أورد حديثا بعينه إيرادا غير مسند فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال كان معمر يرسل لنا أحاديث فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري وأبي إسحاق السبيعي وقتادة بن دعامة وعمرو بن دينار وسليمان الأعمش وأبي الزبير وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وقد أدخل علي بن عمر الدارقطني فيهم مالك بن أنس ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى وقسم آخر قد صح عنهم إسقاط من لا خير فيه من أسانيدهم عمدا وضم القوي إلى القوي تلبيسا على من يحدث وغرورا لم يأخذ عنه ونصرا لما يريد تأييده من الأقوال مما لو سمى من سكت عن ذكره لكان ذلك علة ومرضا في الحديث فهذا رجل مجرح وهذا فسق ظاهر واجب اطراح جميع حديثه صح أنه دلس فيه أو لم يصح أنه دلس فيه وسواء قال سمعت أو أخبرنا أو لم يقل كل ذلك مردود غير مقبول لأنه ساقط العدالة غاش لأهل الإسلام باستجازته ما ذكرناه ومن هذا النوع كان الحسين بن عمارة وشريك بن عبد الله القاضي وغيرهما قال علي ومن صح أنه قبل التلقين ولو مرة سقط حديثه كله لأنه لم يتفقه في دين الله عز وجل ولا حفظ ما سمع وقد قال عليه السلام نضر الله امرأ سمع منا حديثا حفظه حتى بلغه غيره فإنما أمر عليه السلام بقبول تبليغ الحافظ والتلقين هو أن يقول له القائل حدثك فلان بكذا ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه فيقول نعم فهذا لا يخلو من أحد وجهين ولا بد من أحدهما ضرورة إما أن يكون فاسقا يحدث بما لم يسمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 أو يكون من الغفلة بحيث يكون الذاهل العقل المدخول الذهن ومثل هذا لا يلتفت له لأنه ليس من ذوي الألباب ومن هذا النوع كان سماك بن حرب أخبر بأنه شاهد ذلك منه شعبة الإمام الرئيس ابن الحجاج قال علي ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام قال أبو محمد وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه بل البرهان يبطله وذلك أنه لا يخلو كل أحد في الأرض من أن يكون فاسقا أو غير فاسق فإن كان غير فاسق كان عدلا ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة فالعدل ينقسم إلى قسمين فقيه وغير فقيه فالفقيه العدل مقبول في كل شيء والفاسق لا يحتمل في شيء والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجودا فيه ومن كان عدلا في بعض نقله فهو عدل في سائره ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك وإلا فهو تحكم بلا برهان وقول بلا علم وذلك لا يحل قال علي وقد غلط أيضا قوم آخرون منهم فقالوا فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة قال علي وهذا خطأ شديد وكان يكفي من الرد عليهم أن نقول لهم إنهم أبرك الناس لذلك وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الأول عدالة ويتركون ما روى الأعدل ولعلنا سنورد من ذلك طرفا صالحا إن شاء الله تعالى ولكن لا بد لنا بمشيئة الله تعالى من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأول ذلك أن الله عز وجل لم يفرق بين خبر عدل وخبر عدل آخر أعدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 من ذلك ومن حكم في الدين بغير أمر من الله عز وجل أو من رسوله عليه السلام أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قفا ما ليس له به علم وفاعل ذلك عاص لله عز وجل لأنه قد نهاه تعالى عن ذلك وإنما أمر تعالى بقبول نذارة النافر الفقيه العدل فقط وبقبول شهادة العدول فقط فمن زاد حكما فقد أتى بما لا يجوز له وترك ما لم يأمره الله تعالى بتركه وغلب ما لم يأمره الله عز وجل بتغليبه قال علي وأيضا فقد يعلم الأقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة وقد جهل أبو بكر وعمر ميراث الجدة وعلمه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وبينهما وبين أبي بكر وعمر بون بعيد إلا أنهم كلهم عدول وقد رجع أبو بكر إلى خبر المغيرة في ذلك ورجع عمر إلى خبر مخبر أخبره عن أملاص المرأة ولم يكن ذلك عند عمر وذلك المخبر بينه وبين عمر في العدالة درج وأيضا فإن كل ما يتخوف من العدل فإنه متخوف من أعدل من في الأرض بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيضا فلو شهد أبو بكر وحده ما قبل قبولا لا يوجب الحكم بشهادته ولو شهد عدلان من عرض الناس قبلا فلا معنى للأعدل وأيضا فإن العدالة إنما هي التزام العدل والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أي أنه أكثر نوافل في الخبر فقط وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة إذ لو انفردت من صفة العدالة التي ذكرنا لم يكن فضلا ولا خيرا فاسم العدالة مستحق دونهما كما هو مستحق معها سواء بسواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ولا فرق فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى ولا ترجيح شهادة على أخرى بأن أحد الراوين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس وطيب النفس باطل لا معنى له وشهوة لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هو حق فسواء طابت النفس عليه أو كرهته فهو حرام عليها وهذا من باب اتباع الهوى وقد حرم الله تعالى ذلك قال عز وجل {وأما من خاف مقام ربه ونهى لنفس عن لهوى} وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} فمن حكم في دين الله عز وجل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون برهان من نص ثابت أو إجماع فلا أحد أضل منه وبالله تعالى نعوذ من الخذلان إلا من جهل ولم تقم عليه حجة فالخطأ لا ينكر وهو معذور مأجور ولكن من بلغه البيان وقامت عليه الحجة فتمادى على هواه فهو فاسق عاص لله عز وجل قال علي ووجدنا الله تعالى لم يرض في القبول في الشهادة بزنى الأمة إلا أربعة عدول لا أقل وإنما في ذلك خمسون جلدة وتغريب نصف عام ووجدنا كما قد وافقتمونا على القبول في إباحة دم المسلم ودماء الجماعة باثنين وكذلك في القذف والقطع فأين طيب النفس ههنا فبهذا وغيره يجب قبول ما قام الدليل عليه وسواء طابت عليه النفس أو لم تطب قال علي والمرأة والرجل والعبد في كل ما ذكرنا سواء ولا فرق ولم يخص تعالى عدلا من عدل ولا رجلا من امرأة ولا حرا من عبد قال علي وبما ذكرنا ههنا يبطل قول من قال هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه ثم قال إنما طلبنا كثرة الرواة على استطابة النفس فإن اعترضوا بقول إبراهيم عليه السلام إذ يقول {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من لطير فصرهن إليك ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ثم دعهن يأتينك سعيا وعلم أن لله عزيز حكيم} الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 قيل لهم أفترون يقين الخليل عليه السلام كان مدخولا قبل أن يرى إحياء الطير فإن قلتم هذا كفرتم ولو لم يره الله تعالى ذلك كما لم ير موسى ما سأل ما تخالج إبراهيم شك في صحة إحياء الله تعالى الموتى وكذلك نحن إن وجدنا الحديث مرويا من طرق كان ذلك أبلغ أن الحجة عند المخالف فقط وإن عدمناه فقد لزمنا القبول لنقل الواحد بالحجاج التي قدمنا وبينا على أي وجه طلب إبراهيم ما طلب في كتابنا في الملل والنحل قال علي ومن عدله عدل وجرحه عدل فهو ساقط الخبر والتجريح يغلب التعديل لأنه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل وليس هذا تكذيبا للذي عدل بل هو تصديق لهما معا فإن قال قائل فهلا قلتم بل عند المعدل علم لم يكن عند المجرح قيل له كذلك نقول ونصدق كل واحد منهما فإذا صح خبرهما معا عليه فلا خلاف في أن كل من جمع عدالة ومعصية فأطاع في قصة وصلى وصام وزكى وفسق في أخرى وزنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة أو جاهر بصغيرة فإنه فاسق عند جميع الأمة بلا خلاف ولا يقع عليه اسم عدل ولو لم يفسق إلا من تمحص الشر ولا يعمل شيئا من الخير لما فسق مسلم أبدا لأن توحيده خير وفضل وإحسان وبر وفي صحة القول بأن فينا عدولا وفساقا بنص القرآن ورضا وغير رضا بيان ما قلنا ولو أخذنا بالتعديل وأسقطنا التجريح لكنا قد كذبنا المجرح وذلك غير جائز وهكذا القول في الشهادة ولا فرق قال علي ولا يقبل في التجريح قول أحد إلا حتى يبين وجه تحريمه فإن قوما جرحوا آخرين بشرب الخمر وإنما كانوا يشربون النبيذ المختلف فيه بتأويل منهم أخطؤوا فيه ولم يعلموه حراما ولو علموه مكروها فضلا عن حرام ما أقدموا عليه ورعا وفضلا منهم الأعمش وإبراهيم وغيرهما من الأئمة رضي الله عنهم وهذا ليس جرحة لأنهم مجتهدون طلبوا الحق فأخطؤوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ولا يكون الجرح في نقلة الأخبار إلا بأحد أربعة أوجه لا خامس لها الإقدام على كبيرة قد صح عند المقدم عليها بالنص الثابت أنها كبيرة الثاني الإقدام على ما يعتقد المرء حراما وإن كان مخطئا فيه قبل أن تقوم الحجة عليه بأنه مخطىء والثالث المجاهرة بالصغائر التي صح عند المجاهر بها بالنص أنها حرام وهذه الأوجه الثلاثة هي جرحه في نقلة الأخبار وفي الشهود وفي جميع الشهادات في الأحكام وهذه صفات الفاسق بالنص وبإجماع من المخالفين لنا وإنما أسقطنا المستتر بالصغائر للحديث الصحيح في الذي 3 قبل امرأة فأخبره عليه السلام أن صلاته كفرت ذلك عنه ولقوله عز وجل {إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} فمن غفر الله له فحرام علينا أن نثبت عليه ما قد غفر الله تعالى له وكذلك التائب من الكبائر ومن الكفر أيضا فهو عدل وليس هذا من باب ثبات الحد عليه في شيء لأن الملامة ساقطة عن التائب والحد عنه غير ساقط على حديث ماعز فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجمه بعد توبته وأمر بالاستغفار له ونهى عن سبه وإنما قلنا إن المجاهرة بالصغائر جرحة للإجماع المتيقن على ذلك والنص الوارد من الأمر بإنكار المنكر والصغائر من المنكر لأن الله تعالى أنكرها وحرمها ونهى عنها فمن أعلن بها فهو من أهل المنكر فقد استحق التغيير عليه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ومن كان من أهل المنكر في الدين فهو فاسق لأن المنكر فسق والفاسق لا يقبل خبره وصح بما قدمنا أن المستتر بالصغائر ليس صاحبه فاسقا ولا يجب التغيير عليه ولا الإنكار عليه لأنه لم ير منه ما يلزمنا فيه تغيير ولا إنكار ولا تعزير ولو أن امرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 شهد على آخر بأنه يتستر بالصغائر لكانت شهادة الشاهد عليه بذلك مردودة وكان ملوما ولم يجز أن يقدح ذلك في شهادة المستتر بها لوجهين أحدهما أنه لا ينجو أحد من ذنب صغير والثاني أنه معفو عنه ولو شهد على أحد أنه يستتر بكبيرة لقبلت شهادته عليه ولردت شهادة المستتر بها لأنها ليست مغفورة إلا بالتوبة أو برجوح الميزان عند الموازنة يوم القيامة قال علي والوجه الرابع ينفرد به نقلة الأخبار دون الشهود في الأحكام وهو ألا يكون المحدث إلا فقيها فيما روى أي حافظا لأن النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه إنما هو بشرط أن يتفقه في العلم ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته وليس ذلك في الشهادة لأن الشرط في الشهادة إنما هي العدالة فقط بنص القرآن فلا يضر الشاهد أن يكون معروفا بالغفلة والغلط ولا يسقط ذلك شهادته إلا أن تقوم بينة بأنه غلط في شهادة ما فتسقط تلك التي غلط فيها فقط ولا يضر ذلك شهادته في غيرها لا قبل الشهادة ولا بعدها بل هو مقبول أبدا ولا يحل لأحد أن يزيد شرطا لم يأت به الله تعالى فقد قال عليه السلام كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط فمن شرط في العدل في الشهادة خاصة أن يكون غير معروف بالغلط فقد زاد شرطا ليس في كتاب الله عز وجل فهو مبطل فيه والتدليس الذي ذكرنا أنه يسقط العدالة هو إحدى الكبائر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا ولا غش في الإسلام أكبر من إسقاط الضعفاء من سند حديث ليوقع الناس في العمل به وهو غير صحيح ولقوله عليه السلام الدين النصيحة وواجب ذلك لله تعالى ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ومن دلس التدليس الذي ذممنا فلم ينصح لله تعالى ولا لرسوله عليه السلام في تبليغه عنهما ولا نصح للمسلمين في التلبيس عليهم حتى يوقعهم فيما لا يجوز العمل به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 قال علي وأما من قدم على ما يعتقده حلالا مما لم يقم عليه في تحريمه حجة فهو معذور مأجور وإن كان مخطئا وأهل الأهواء معتزليهم ومرجئيهم وزيدييهم وأباضييهم بهذه الصفة إلا من أخرجه هواه عن الإسلام إلى كفر متفق على أنه كفر وقد بينا ذلك في كتاب الفصل أو من قامت عليه حجة من نص أو إجماع فتمادى ولم يرجع فهو فاسق وكذلك القول فيمن خالف حديث النبي صلى الله عليه وسلم لتقليد أو قياس ولا فرق أو من سب أحد الصحابة رضي الله عنهم فإن ذلك عصبية والعصبية فسق وصدق أبو يوسف القاضي إذ سئل عن شهادة من يسب السلف الصالح فقال لو ثبت عندي على رجل أنه يسب جيرانه ما قبلت شهادته فكيف من يسب أفاضل الأمة إلا أن يكون من الجهل بحيث لم تقم عليه حجة النص بفضلهم والنهي عن سبهم فهذا لا يقدح سبهم في دينه أصلا ولا ما هو أعظم من سبهم لكن حكمه أن يعلم ويعرف فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك ولو أن امرأ بدل القرآن مخطئا جاهلا أو صلى لغير القبلة كذلك ما قدح ذلك في دينه عند أحد من أهل الإسلام حتى تقوم عليه الحجة بذلك فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك قال علي وقد علل قوم أحاديث بأن رواها ناقلها عن رجل مرة وعن رجل مرة أخرى قال علي وهذا قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك وذلك نحو أن يروي الأعمش الحديث عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ويرويه غير الأعمش عن سهيل عن أبيه عن أبي سعيد قال علي وهذا لا مدخل للاعتراض به لأن في الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة ومن أبي سعيد فيرويه مرة عن هذا ومرة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 هذا ومثل هذا لا يتعلل به في الحديث إلا جاهل أو معاند ونحن نفعل هذا كثيرا لأننا نرى الحديث من طرق شتى فنرويه من بعض المواضع من أحد طرقه ونرويه مرة أخرى من طريق ثانية وهذا قوة للحديث لا ضعف وكل ما تعللوا به من مثل هذا وشبهه فهي دعاوى لا برهان عليها وكل دعوى بلا برهان فهي ساقطة وكذلك ما رواه العدل عن أحد العدلين شك في أحدهما أيهما حدثه إلا أنه موقن أن أحدهما حدثه بلا شك فهذا صحيح يجب الأخذ به مثل أن يقول الثقة حدثنا أبو سلمة أو سعيد بن المسيب عن أبي هريرة فهذا ليس علة في الحديث البتة لأنه أيهما كان فهو عدل رضا معلوم الثقة مشهور العدال وأيضا فإن قالوا إن الغفلة والخطأ من الاثنين أبعد منه من الواحد قيل لهم وهو من الأربعة أبعد منه من الثلاثة فلا يقبلوا إلا ما رواه أربعة وهكذا فيما زاد حتى يلحقوا بالقائلين بالتواتر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فصل في المرسل قال أبو محمد المرسل من الحديث هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي صلى الله عليه وسلم ناقل واحد فصاعدا وهو المنقطع أيضا وهو غير مقبول ولا تقوم به حجة لأنه عن مجهول وقد قدمنا أن من جهلنا حاله ففرض علينا التوقف عن قبول خبره وعن قبول شهادته حتى نعلم حاله وسواء قال الراوي العدل حدثنا الثقة أو لم يقل لا يجب أن يلتفت إلى ذلك إذ قد يكون عنده ثقة من لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره وقد قدمنا أن الجرح أولى من التعديل وقد وثق سفيان جابرا الجعفي وجابر من الكذب والفسق والشر والخروج عن الإسلام بحيث قد عرف ولكن خفي أمره على سفيان فقال بما ظهر منه إليه ومرسل سعيد بن المسيب ومرسل الحسن البصري وغيرهما سواء لا يؤخذ منه بشيء وقد ادعى بعض من لا يحصل ما يقول أن الحسن البصري كان إذا حدثه بالحديث أربعة من الصحابة أرسله قال فهو أقوى من المسند قال أبو محمد وقائل هذا القول اترك خلق الله لمرسل الحسن وحسبك بالمرء سقوطا أن يضعف قولا يعتقده ويعمل به ويقوي قولا يتركه ويرفضه وقد توجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل إلى قوم ممن يجاور المدينة فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعرس بامرأة منهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أخبره بذلك فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه رسولا وأمر بقتله إن وجده حيا فوجده قد مات فهذا كما ترى قد كذب على النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي وقد كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم منافقون ومرتدون فلا يقبل حديث قال راويه فيه عن رجل من الصحابة أو حدثني من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حتى يسميه ويكون معلوما بالصحبة الفاضلة ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى قال الله عز وجل {وممن حولكم من لأعراب منافقون ومن أهل لمدينة مردوا على لنفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وقد ارتد قوم ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام كعيينة بن حصن والأشعث بن قيس والرجال وعبد الله بن أبي سرح قال علي ولقاء التابع لرجل من أصاغر الصحابة شرف وفخر عظيم فلأي معنى يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته ولا يخلو سكوته عنه من أحد وجهين إما أنه لا يعرف من هو ولا عرف صحة دعواه الصحبة أو لأنه كان من بعض ما ذكرنا حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى حدثنا خالد بن عبد الله عن عبد الملك عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وكان خالد ولد عطاء قال أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة العلم في الثوب وميثرة الأرجوان وصوم رجب كله فأنكر ابن عمر أن يكون حرم شيئا من ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 فهذه أسماء وهي صحابية من قدماء الصحابة وذوات الفضل منهم قد حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر حتى استبرأت ذلك فصح كذب ذلك المخبر وقد ذكر عن ابن سيرين في أمر طلاق ابن عمر امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك فواجب على كل أحد ألا يقبل إلا من عرف اسمه وعرفت عدالته وحفظه قال علي والمخالفون لنا في قبول المرسل هم أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك وهم أترك خلق الله للمرسل إذا خالف مذهب صاحبهم ورأيه وقد ترك مالك حديث أبي العالية في الوضوء من الضحك في الصلاة ولم يعيبوه إلا بالإرسال وأبو العالية قد أدرك الصحابة رضي الله عنهم وقد رواه أيضا الحسن وإبراهيم النخعي والزهري مرسلا وتركوا حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه مات فيه بالناس جالسا والناس قيام وترك مالك وأصحابه الحديث المروي من طريق الليث عن عقيل بن خالد عن الزهري عن سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر مدين من بر على كل إنسان مكان صاع من شعير وذكر سعيد بن المسيب أن ذلك كان من عمل الناس أيام أبي بكر وعمر وذكر غيره أنه حكم عثمان أيضا وابن عباس وذكر ابن عمر أنه عمل الناس فهؤلاء فقهاء المدينة رووا هذا الحديث مرسلا وأنه صحبه العمل عندهم فترك ذلك أصحاب مالك فأين اتباعهم المرسل وتصحيحهم إياه وأين اتباعهم رواية أهل المدينة وعمل الأئمة بها وترك الحنفيون حديث سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 في ألا يباع الحيوان باللحم وهو أيضا فعل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه ومثل هذا كثير جدا ولو تتبعنا ما تركت كلتا الطائفتين لبلغت أزيد من ألفي حديث بلا شك وسنجمع من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى في كتاب مفرد لذلك إن أعان الله تعالى بقوة من عنده وأمد بفسحة من العمر فإنما أوقعهم في الأخذ بالمرسل أنهم تعلقوا بأحاديث مرسلات في بعض مسائلهم فقالوا فيها بالأخذ بالمرسل ثم تركوه في غير تلك المسائل وإنما غرض القوم نصر المسألة الحاضرة بما أمكن من باطل أو حق ولا يبالون بأن يهدموا بذلك ألف مسألة لهم ثم لا يبالون بعد ذلك بإبطال ما صححوه في هذه المسألة إذا أخذوا في الكلام في أخرى وسنبين من ذلك كثيرا إن شاء الله تعالى ونحن ذاكرون من عيب المرسل ما فيه كفاية لمن نصح نفسه إن شاء الله تعالى أخبرني أحمد بن عمر العذري حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي ثنا زاهر بن أحمد أبو علي السرخسي الفقيه ثنا زنجويه بن محمد النيسابوري ثنا محمد بن إسماعيل البخاري هو مؤلف الصحيح ثنا سليمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 بن حرب ثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن زيد بن أبي أنيسة أن رجلا أجنب فغسل فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو يمموه قتلوه قتلهم الله قال النعمان فحدثت به الزهري فرأيته بعد يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم فقلت من حدثك قال أنت حدثتني عمن تحدثه قلت عن رجل من أهل الكوفة قال أفسدته في حديث أهل الكوفة دغل كثير وبالاستناد المتقدم إلى البخاري قال قال معاذ عن أشعث عن ابن سيرين عن عبد الله بن شقيق عن عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي في شعرنا قال البخاري ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة قلت لمحمد بن سيرين ممن سمعت هذا الحديث قال سمعته من زمان لا أدري ممن سمعته ولا أدري أثبت أم لا فسلوا عنه وفيما كتب إلي به يوسف بن عبد الله النمري قال قال يحيى بن سعيد القطان مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلي من الثوري عن إبراهيم لو كان شيخ الثوري فيه رمق لبرح به وصاح وقال مرة أخرى كلاهما عندي شبه الريح قال أبو محمد فإذا كان الزهري ومحمد بن سيرين وسفيان ومالك وهم من هم في التحفظ والحفظ والثقة في مراسليهم ما ترى فما أحد ينصح نفسه يثق بمرسل أصلا ولو جمعنا بلايا المراسيل لاجتمع من ذلك جزء ضخم وفي هذا دليل على ما سواه وبالله تعالى التوفيق فصل في أقسام السنن قال أبو محمد السنن تنقسم ثلاثة أقسام قول من النبي صلى الله عليه وسلم أو فعل منه عليه السلام أو شيء رآه وعلمه فأقر عليه ولم ينكره فحكم أوامره عليه السلام الفرض والوجوب على ما نبينه إن شاء الله عز وجل في باب الأوامر من هذا الكتاب ما لم يقم دليل على خروجه من باب الوجوب إلى باب الندب أو سائر وجوه الأوامر وحكم فعله عليه السلام الائتساء به فيه وليس واجبا إلا أن يكون تنفيذا لحكم أو بيانا لأمر على ما يقع في باب الكلام في أفعاله عليه السلام من هذا الكتاب وأما إقراره عليه السلام على ما علم وترك إنكاره إياه فإنما هو مبيح لذلك الشيء فقط وغير موجب له ولا نادب إليه لأن الله عز وجل افترض عليه التبليغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وأخبره أنه يعصمه من الناس وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم فمن ادعى أنه عليه السلام علم منكرا فلم ينكره فقد كفر لأنه جحد أن يكون عليه السلام بلغ كما أمر ووصفه بغير ما وصفه به ربه تعالى وكذبه في قوله عليه السلام اللهم هل بلغت فقال الناس نعم فقال اللهم اشهد قال ذلك في حجة الوداع فإن اعترض معترض بحديث جابر أنه سمع عمر رضوان الله عليهما يحلف بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا حجة علينا في هذا لأن ابن صياد في أول أمره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شاكا في أمره أهو الدجال أم لا بذلك جاءت الأحاديث الصحاح ويبين ذلك قول عمر فيه دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه السلام إن يكن هو فلن تسلط عليه أو نحو ذلك من الكلام فحلف عمر على تقديره ومن حلف على ما لا يعلم ولا يوقن أنه باطل ولا حق فليس هو عندنا حانثا ولا آثما إذا كان تقديره أنه كما حلف عليه فهذا الحديث حجة لنا وليس فيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق يمينه فإنا في الحديث أن أمر ابن صياد كان حينئذ ممكنا والحالف على الممكن كما ذكرنا لم يأت منكرا فيلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تغييره قال علي وأما من قال إن أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوجوب فقوله ساقط لأن الله تعالى لم يوجب علينا قط في شيء من القرآن والسنن أن نفعل مثل فعله عليه السلام بل قال تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} وإنما أنكر عليه السلام على تنزه أن يفعل مثل فعله عليه السلام وهذا هو غاية المنكر كمن تنزه عن التقبيل في رمضان نهارا وهو صائم أو تنزه أن يمشي حافيا حاسرا زاريا على من فعل ذلك وأما من ترك أن يفعل مثل فعله عليه السلام لا عن رغبة عنه فما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وسلم قط وهذا التارك للائتساء به صلى الله عليه وسلم غير راغب عن ذلك لا محسن ولا مسيء ولا مأجور ولا آثم والمؤتسي به عليه السلام محسن مأجور والراغب عن الائتساء به بعد قيام الحجة عليه إن كان زاريا على محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر وما نعلم لمن صحح عنه فعلا ثم رغب عنه وجها ينجو به من الشرك إلا أن يتعلق بفعل له عليه السلام آخر أو بأمر له آخر أو يكون لم يصح عنده ذلك الأمر الذي رغب عنه فإن تعلق بأنه خصوص له صلى الله عليه وسلم فهو أحد الكاذبين الفساق ما لم يأت على دعواه بدليل من نص أو إجماع قال علي وأما من ادعى أن أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض علينا أن نفعل مثلها فقد أغفل جدا وأتى بما لا برهان له على صحته وما كان هكذا فهو دعوى كاذبة لأن الأصل ألا يلزمنا حكم حتى يأتي نص قرآن أو نص سنة بإيجابه وأيضا فإنه قول يؤدي إلى ما لا يفعل ولزمه أن يوجب على كل مسلم أن يسكن حيث سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يجعل رجليه حيث جعلهما عليه السلام وأن يصلي حيث صلى عليه السلام وأن يصوم فرضا الأيام التي كان يصومها عليه السلام وأن يجلس حيث جلس وأن يتحرك مثل كل حركة تحركها عليه السلام وأن يحرم الأكل متكئا وعلى خوان والشبع من خبز البر مأدوما ثلاثا تباعا وأن يوجب فرضا أكل الدباء ويتتبعها وهذا ما لا يوجبه مسلم مع أن هذا يخرج إلى المحال وإلى إرجاع ما لا سبيل إلى إرجاعه مما قد فات وبطل بالأكل والشرب منه عليه السلام فبطل بما ذكرنا أن تكون أفعاله عليه السلام واجبة علينا إذ لم يأت على ذلك دليل بل قد قام الدليل والبرهان على أن ذلك غير واجب بالآية التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 ذكرنا وكل من له أقل علم باللغة العربية فإنه يعلم أن ما قيل فيه هذا لك أنه غير واجب قبوله بل مباح له تركه إن أحب كالمواريث وكل ما خيرنا فيه وأن ما جاء بلفظ عليك كذا فهذا هو الملزم لنا ولا بد فلما قال تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} كنا مندوبين إلى ذلك وكنا مباحا لنا ألا نأتسي غير راغبين عن الائتساء به لكن عالمين أن الذي تركنا أفضل والذي فعلنا مباح كجلوس الإنسان وتركه أن يصلي تطوعا فليس آثما بذلك ولو صلى تطوعا لكان أفضل إلا أن يكون ترك التطوع راغبا عنها في الوقت المباح فيه التطوع فهذا خارج عن الإسلام بلا خلاف لأنه شارع شريعة لم يأت بها إذن قال علي وإنما نازعنا في وجوب الأفعال بعض أصحاب مالك على أنهم أترك خلق الله تعالى لأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذلك أنه عليه السلام جلد في الخمر أربعين وهم يجلدون ثمانين وودى حضريا وهو عبد الله بن سهل ادعى قتله على حضريين وهم يهود خيبر بالإبل فقالوا هم لا يجوز ذلك ولا يودى إلا بالذهب أو الفضة وصلى على قبر فقالوا هم لا نفعل ذلك وصلى على غائب فقالوا هم لا نرى ذلك وقبل وهو صائم فقالوا هم نكره ذلك وصلى عليه السلام حاملا أمامة فقالوا نكره ذلك وصلى جالسا والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم فقالوا لا يجوز ذلك ويعلم صحةمن صلى كذلك بطلت صلاته في كثير جدا اقتصرنا منه على ما ذكرنا وبعضهم تعلق في هذه الأفعال بأنها خصوص له عليه السلام ومن فعل ذلك فقد تعرض لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تعرض لغضبه عليه السلام فقد تعرض لغضب الله عز وجل فقد غضب عليه السلام غضبا شديدا حين سأله الأنصاري عن قبلة الصائم فأخبر عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 السلام أنه يفعل ذلك فقال القائل لست مثلنا يا رسول الله أنت قد غفر لك ذنبك فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ غضبا شديدا وأنكر هذا القول فمن أضل ممن تعرض لغضب الله عز وجل وغضب رسوله عليه السلام في تقليد إنسان لا ينفعه ولا يضره ولا يغني عنه من الله تعالى شيئا قال علي واحتجوا في تخصيص القبلة للصائم بقول عائشة رضي الله عنها وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وهذا القول منها رضي الله عنها أعظم الحجة عليهم لأنها لم تقل ذلك على ما توهموا وإنما قالته إنكارا على من استعظم القبلة للصائم فأخبرهم أنه عليه السلام كان أورع منهم وأملك لإربه ولكنه مع ذلك لم يمتنع من التقبيل وهو صائم فكيف أنتم ويدل على صحة هذا التأويل دليلان بينان أحدهما أنها رضي الله عنها هكذا قالت في مباشرة الحائض أنه عليه السلام كان يأمرها فتتزر ثم يباشرها وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلزمهم أن يتركوا إباحة مباشرة الحائض لقول عائشة وأيكم أملك لإربه كما قالت في قبلة الصائم سواء بسواء والثاني أنهم رووا عنها أنها قالت لابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن وهو أشب ما كان ألا تقبل زوجتك وتلاعبها تعني عائشة بنت طلحة وهي بنت أختها وأجمل جواري أهل زمانها قاطبة فقال إني صائم فقالت لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم فهي دأبا تحض الصائم الشاب على التقبيل للجارية الحسناء اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وائتساء به وهذا هو قولنا لا قولهم ففعلوا ما ترى فيما أخبر عليه السلام أنه عموم وغضب على من ادعى أنه خصوص ثم أتوا إلى ما أخبر عليه السلام أنه خصوص له دون سائر الناس وهو قتله بمكة من قتل الكفار وخطب عليه السلام الناس فنهاهم عن أن يسفك فيها أحد دما ثم لم يقنع عليه السلام بذلك حتى قال في خطبته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 تلك وإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا إن الله أحلها لنبيه صلى الله عليه وسلم ولم يحلها لكم وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة أو كلاما هذا معناه فقالوا هذا عموم وليس خصوصا قال أبو محمد فلو قيل لهؤلاء القوم اعكسوا الحقائق ما زادوا على ما فعلوا وأن هذا لعظائم لا ندري كيف استجاز من له أدنى ورع التقليد في مثل هذا لمن قد أداه اجتهاده إلى الخطأ في ذلك ممن قد بلغتهم الآثار وقامت عليهم الحجة وسقطت عنهم المعذرة وإن الظن ليسوء جدا بمن هذا معتقده ونعوذ بالله من كل حب رياسة تقود إلى مثل هذا وبالله تعالى التوفيق قال علي وإذا مدح الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أحدا على فعل ما كان ذلك الفعل مندوبا إليه مستحبا يؤجر فاعله ولا يؤجر تاركه ولا يأثم وليس ذلك الشيء فرضا لما قد أوردنا في الحجاج في أن الفرض ليس إلا ما جاء به الأمر فقط وإن لم نؤمر به فمعفوا عنه وأما ما ذمه الله تعالى فهو مكروه وليس حراما إلا بدليل لما ذكرناه في المدح ولا فرق وقد ذم الله تعالى الشح وليس حراما إذا أدى المرء فرائضه ولكنه مذموم مكروه وقد مدح الله تعالى المغتسلين بالماء للاستنجاء وليس فرضا ومدح النبي صلى الله عليه وسلم من لم يكتوا ولا استرقى وليس كل ذلك حراما لكن إن قام دليل من أمر أو نهي على الشيء المذموم أو الممدوح صير فيه إلى دليل الأمر والنهي وبالله تعالى التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك وفيما زعموا أن البلوى تكثر به فلا يقبل فيه إلا التواتر قال أبو محمد ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتناول فيه تأويلا يخرجه به عن ظاهره ووجدناهم رضي الله عنهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم وهكذا قال البراء حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى العنزي ثنا أبو أحمد الزبيري وسفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب قال أما كل ما تحدثتموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الإبل وهذا أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه عائشة في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا عمر رضي الله عنه يقول في حديث الاستئذان أخفي علي هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق في الأسواق وقد جهل أيضا أمر إملاص المرأة وعرفه غيره وغضب على عيينة بن حصن حتى ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى {خذ لعفو وأمر بلعرف وأعرض عن لجاهلين} وخفي عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته وخفي على أبي بكر رضي الله عنه قبله أيضا طول مدة خلافته فلما بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحدا وخفي على عمر أيضا أمره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 عليه السلام بترك الإقدام على الوباء وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاتي الفطر والأضحى وهذا وقد صلاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أعواما كثيرة ولم يدر ما يصنع بالمجوس حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ونسي قبوله عليه السلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور ولعله رضي الله عنه قد أخذ من ذلك المال حظا كما أخذ غيره منه ونسي أمره عليه السلام بأن يتيمم الجنب فقال لا يتيمم أبدا ولا يصلي ما لم يجد الماء وذكره بذلك عمار وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبي بن كعب بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك فأمسك وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودعن البيت حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في ذلك فأمسك عن ردهن وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمساواة بينها فترك قوله وأخذ بالمساواة وكان يرى الدية للعصبة فقط حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث المرأة من الدية فانصرف عمر إلى ذلك ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالا بمهور النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكرته امرأة فرجع عن نهيه وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع القلم عن ثلاثة فأمر ألا ترجم وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه فأمسك عن رجمها وأنكر على حسان الإنشاد في المسجد فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت عمر وقد خفي على الأنصار وعلى المهاجرين كعثمان وعلي وطلحة والزبير وحفصة أم المؤمنين وجوب الغسل من الإيلاج إلا أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 أنزل وهذا مما تكثر فيه البلوى وخفي على عائشة وأم حبيبة أمي المؤمنين وابن عمر وأبي هريرة وأبي موسى وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسائر الجلة من فقهاء المدينة وغيرهم نسخ الوضوء مما مست النار وكل هذا تعظم البلوى به وتعم وهذا كله وما بعد هذا يبطل ما قاله من لا يبالي بكلامه من الحنفيين والمالكيين إن الأمر إذا كان مما تعم البلوى به لم يقبل خبر الواحد والعجب أن كلتا الطائفتين قد قبلت أخبارا خالفها غيرهم تعم البلوى كقبول الحنفيين الوضوء من الضحك وجهله غيرهم وكقبول المالكيين اليمين مع الشاهد وجهله غيرهم ومثل هذا كثير جدا حدثنا محمد بن سعيد ثنا أحمد به عبد النصير حدثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا صخر بن جويرية حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير أن عبد الرحمن بن الأسود أخبره قال كنت جالسا مع أبي بعرفة وابن الزبير يخطب الناس فقال ابن الزبير إن هذا يوم تكبير وتحميد وتهليل فكبروا الله واحمدوه وهللوا فقام أبي يجوس حتى انتهى إليه فأصغى إليه فقال أشهد لسمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يلبي فقال ابن الزبير لبيك اللهم لبيك وكان صيتا قال أبو محمد فقد خفي هذا كما ترى على ابن الزبير وغيره وهو مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد نهى عمر أن يسمى بأسماء الأنبياء وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلة منهم ويرى أبا أيوب الأنصاري وأبا موسى الأشعري وهما لا يعرفان إلا بكناهما من الصحابة ويرى محمد بن أبي بكر الصديق وقد ولد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حجة الوداع واستفتته أمه إذ ولدته ماذا تصنع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 في إحرامها وهي نفساء وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك وأقرهم عليها ودعاهم بها ولم يغير شيئا من ذلك عليه السلام فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم بإباحة ذلك أمسك عن النهي عنه وهم بترك الرمل في الحج ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فقال لا يجب لنا أن نتركه وهذا عثمان رضي الله عنه فقد رووا عنه أنه بعث إلى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري يسألها عما أفتاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر عدتها وأنه أخذ بذلك وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر فذكره علي بالقرآن وأن الحمل قد يكون ستة أشهر فرجع عن الأمر برجمها وهذا علي رضوان الله عليه يعترف بأن كثيرا من الصحابة كانوا يحدثونه بما ليس عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يستحلفهم على ذلك حاشا أبا بكر فإنه كان لا يستحلفه وأن الله تعالى كان ينفعه بما شاء أن ينفعه مما سمع من ذلك مما لم يكن عنده قبل ذلك وهذا طلحة يبيح الذهب بالفضة نسيئة حتى ذكره عمر وهذا ابن عمر وابن عباس يبيعان الدرهم بالدرهمين حتى ذكرا فأمسكا ثم رواه ابن عمر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره مسلم فرجع ابن عمر إلى ذلك وترك رأيه ثم رواه ابن عمر فقال هذا عهد نبينا إلينا ذكره مالك عن حميد عن مجاهد عن ابن عمر وصدق ابن عمر ونحن نقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغنا هذا عهد نبينا إلينا فهكذا نحمل أمر جميع ما روي من رواية الصاحب للحديث ثم روي عنه مخالفته إياه أنه إنما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه فلما حدث بما بلغه لا يحل أن يظن بالصاحب غير هذا وهذا نص ما ذكرنا عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 ابن عمر ببيان لا يخفى وأنهم تأولوا فيما سمعوا من الحديث ومن حمل ذلك على غير ما قلنا فإنه يوقع الصاحب ولا محالة تحت أمرين وقد أعاذهم الله تعالى منهما كلاهما ضلال وفسق وهما إما المجاهرة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يحل لأحد ولا يحل أن يظن بهم وإما أن يكون عندهم علم أوجب عليهن مخالفة ما رووا فما هم في حل أن يكتموه عنا ويحدثوا بالمنسوخ ويكتموا عنا الناسخ وهذه الصفة كفر من فاعلها وتلبيس في الدين ولا ينسب هذا إليهم إلا زائغ القلب أو جاهل أعمى القلب فبطل ظنهم الفاسد وصح قولنا والحمد لله رب العالمين ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلا إلا أن يكونوا نسوا حينئذ بعض ما قد رووه قبل ذلك فهذا ممكن أيضا فإن كانوا تأولوا فالتأويل منهم رضي الله عنهم ظن وروايتهم على النبي صلى الله عليه وسلم يقين ولا يحل لمسلم أن يترك اليقين للظن فارتفع الإشكال جملة هذا الباب والحمد لله رب العالمين وأما هم رضوان الله عليهم فمعذورون لأنه اجتهاد منهم مع أن ذلك منهم أيضا قليل جدا وليس كذلك من يقلدهم بعد أن نبه على ما ذكرناه وهذه عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما خفي عليهما المسح على الخفين وعلى ابن عمر معهما وعلمه جرير ولم يسلم إلا قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأشهر وأقرت عائشة أنها لا علم لها به وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي الله عنه وهذه حفصة أم المؤمنين سئلت عن الوطء يجنب فيه الواطىء أفيه غسل أم لا فقالت لا علم لي وهذا ابن عمر توقع أن يكون حدث نهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي صلى الله عليه وسلم فأمسك عنها وأقر أنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ولم يقل إنه لا يمكن أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا لو كان هذا حقا ما خفي على عمر وقد خفي على زيد بن ثابت وابن عمر وجمهور أهل المدينة إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للحائض أن تنفر حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وأم سليم فرجعوا عن قولهم وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميت حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال لقد فرطنا في قراريط كثيرة وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحج على الإفراد إنك تخالف أباك فقال أكتاب الله أحق أن يتبع أم عمر روينا ذلك عنه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر وخفي على عبد الله بن عمر الوضوء من مس الذكر حتى أمرته بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بسرة بنت صفوان فأخذ بذلك وخفي على ابن عباس النهي عن المتعة وعن تحريم الحمر الأهلية حتى أعلمه بذلك علي رضي الله عنه وقال ابن عباس ألا تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر وهؤلاء الأنصار نسوا قوله عليه السلام الأئمة من قريش وقد رواه أنس وقد روى عبادة بن الصامت ما يدل على ذلك وما كانوا يتركون اجتهادهم إلا لأمر بلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أبو هريرة يذكر أنهم كانوا رضوان الله عليهم تشغلهم أموالهم ومتاجرهم وأنه هو كان يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحضر ما لا يحضرون وقد ذكرنا هذا الحديث في باب الإجماع في ديواننا هذا في فصل ترجمته إبطال قول من قال إن الجمهور إذا أجمعوا على قول وخالفهم واحد فإنه لا يلتفت إلى قوله فأغنى ذكرنا إياه هنالك عن ترداده ههنا وإذا وجدنا الصاحب تخفى عليه السنة أو تبلغه فيتأول فيها التأويلات كما فعلوا في تحريم الخمر فإن البخاري روى أنهم اختلفوا فمن قائل حرمت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 لأنها كانت تأكل العذرة ومن قائل لأنها لم تخمس ومن قائل إنه خشي فناء الظهر وقال بعضهم بل حينئذ حرمت البتة قال علي وكل ذلك باطل إلا قول من قال حرمت البتة وقد جاء النص بتحريمها لعينها ولأنها رجس روى ذلك أنس فلما صح كل ما ذكرنا وبطل التقليد جملة وجب أن يؤخذ برأي صاحب وإن تعرى من مخالفة الخبر فكيف إذا استضاف إلى مخالفة الخبر وقد كتبنا في باب إبطال التقليد من هذا الكتاب ما أفتوا به رضوان الله عليهم فأخبر عليه السلام أنه ليس كذلك قال علي وكل ما تعلق به أهل اللواذ عن الحقائق عند غلبة الحيرة عليهم من مثل هذا وشبهه فهم أترك خلق الله تعالى له وإنما تعلق بهذا أصحاب أبي حنيفة في خلافهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا فقالوا قد روي أن أبا هريرة أفتى من رأيه بأن يغسل منه ثلاثا ثم تركوا قول أبي هريرة وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فخالفوا روايته التي لا يحل خلافها ورأيه الذي احتجوا به وأحدثوا دينا حديثا فقالوا لا يغسل إلا مرة واحدة ونقدها هنا المالكيون أصولهم ووفقوا في ذلك فقالوا يغسل سبعا فأخذوا برواية أبي هريرة وتركوا رأيه وتعلقوا كلهم بذلك أيضا في حديث ابن عباس وعائشة في الصوم عن الميت فقالوا قد أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ذلك فتناقض المالكيون والحنفيون ههنا فأخذوا بقول ابن عباس وعائشة وتركوا روايتهما وأخذ المالكيون آنفا برواية أبي هريرة وتركوا قوله ولا حجة للحنفيين في خلاف عائشة وابن عباس هذا الحديث لأنه إن كان تركته عائشة فقد رواه أيضا بريدة الأسلمي ولم يخالفه وأما ابن عباس فالأصح عنه أنه أفتى بما رواه عنه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 بالقوي وروى سعيد بن جبير خلاف ذلك وهو أصح وأما تعلقهم بأن عائشة رضي الله عنها خالفت في فتياها ما روت من الأمر بالصيام عن الميت فأين هم عن طرد هذا الأصل الفاسد إذ روت عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وكانت هي تتم في السفر فأخذوا بروايتها وتركوا رأيها وعملها وإذ روت التحريم بلبن العجل ثم كانت لا تأخذ بذلك ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها ويدخل عليها من أرضعته بنات أخواتها فتركوا رأيها وأخذوا بروايتها وإذ روت أن كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فخالفت ذلك وأنكحت بنت أخيها عبد الرحمن المنذر ابن الزبير وعبد الرحمن حي غائب غيبة قريبة بالشام بغير علمه ولا أمره فأخذ المالكيون بروايتها وتركوا رأيها وعملها فإن قالوا تأولت في كل هذا قلنا لهم وهكذا تأولت في فتياها بألا يصام عن الميت ولعل المرأة التي أفتت ألا يصام عنها كانت لا ولي لها فلم تر عائشة رضي الله عنها أن تخرج من ظاهر الحديث الذي روت في ذلك لأن نصه من مات وعليه صيام صام عنه وليه وهكذا فعل المالكيون فيما روي عن عمر أنه رأى للمبتوتة السكنى والنفقة وبلغه حديث فاطمة بنت قيس فلم يأخذ به فخالف المالكيون رأي عمر وأخذوا بنصف حديث فاطمة فلم يروا للمبتوتة نفقة فخالفوا الحديث وعمر في النصف الثاني فرأوا لها السكنى وعمر قد قرأ الآية كما قرؤوها وهكذا فعلوا في رواية ابن عباس في حديث حد المكاتب وميراثه ودينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 بمقدار ما أدى فقالوا خالفه ابن عباس فأفتى بغير ذلك ولا حجة لهم في هذا لأن هذا الحديث قد رواه أيضا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخذوا به وأفتي به فلم كان ترك ابن عباس للحديث حجة على عمل علي به وقد يحتمل ترك ابن عباس وغيره لما روي وجوها منها أن يتأول فيه تأويلا كما ذكرنا آنفا أو يكون نسيه جملة أو يكون نسيه حين أفتى بهذه الفتيا المخالفة له كما ذكرنا آنفا فيمن أفتى منهم بخلاف القرآن وهو ناس لما في حفظه من ذلك أو يكون لم يكن يبلغه حين أفتى بما أفتى به ثم بلغه الحديث بعد ذلك فإن هذه الوجوه كلها موجودة فيما روي عنهم فلا يحل لأحد ترك كلامه عليه السلام الفتيا جاءت عن صاحب فمن دونه مخالفة لما صح عنه عليه السلام ولو تتبعنا ما تركوا فيه روايات الصحابة وأخذوا بفتياهم وما تركوا فيه فتيا الصحابة وأخذوا برواياتهم لكثر ذلك جدا لأن القوم إنما حسبهم ما نصروا به المسألة التي بين أيديهم فقط وإن هدموا بذلك سائر مسائلهم وفيما ذكرنا كفاية وبالجملة فصرف الداخلة التي يعترضون بها على رواية الصاحب لما ترك برأيه أولى أن يكون إلى النقل لمخالفته لذلك منه إلى الرواية التي يلزم اتباعها وهذا باب قد عظم تناقضهم فيه فهذا ابن عمر وأبو برزة هما رويا حديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فحملاه على تفرق الأبدان فخالفهما المالكيون والحنفيون فقالوا التفرق بالكلام ولم يلتفوا إلى ما حمل عليه الحديث الصاحبان اللذان روياه وهذا علي رضي الله عنه روى الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ثم روي عنه تركه وأنه أفتى بأنه إذ وقع رأسه من السجود فقد تمت صلاته فخالفه المالكيون ورأوا التسليم فرضا لا بد منه وتناقضهم في الباب عظيم جدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 فصل في حكم العدل قال علي وإذ علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول فهو على اللقاء والسماع لأن شرط العدل القبول والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه منه إلا أن يقوم دليل على ذلك من فعله وسواء قال حدثنا أو أنبأنا أو قال عن فلان أو قال قال فلان كل ذلك محمول على السماع منه ولو علمنا أن أحدا منهم يستجير التلبيس بذلك كان ساقط العدالة في حكم الناس وحكم العدل الذي قد تبنت عدالته فهن على الورع والصدق لا على الفسق والتهمة وسوء الظن المحرم بالنص حتى يصح خلاف ذلك ولا خلاف في هذه الجملة بين أحد من المسلمين وإنما تناقض من تناقض في تفريع المسائل وبالله التوفيق فصل فيما ادعاه قوم من تعارض النصوص قال علي إذا تعارض الحديثان أو الآيتان أو الآية والحديث فيما يظن من لا يعلم ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها وكل من عند الله عز وجل وكل سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم وأحمد بن عون الله قال حدثنا ابن الأعرابي قال حدثنا سليمان بن الأشعث السجستاني حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أشعث بن شعبة أنبأنا أرطاة بن المنذر سمعت أبا الأحوص حكيم بن عمير يحدث عن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 قال علي صدق النبي صلى الله عليه وسلم هي مثل القرآن ولا فرق في وجوب طاعة كل ذلك علينا وقد صدق الله تعالى هذا القول إذ يقول {من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا} وهي أيضا مثل القرآن في أن كل ذلك وحي من عند الله تعالى قال الله عز وجل {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} قال علي ولا خلاف بين المسلمين في أنه لا فرق بين وجوب طاعة قول الله عز وجل {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وأطيعوا لرسول لعلكم ترحمون} وبين وجوب طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أمره أن يصلي المقيم الظهر أربعا والمسافر ركعتين وأنه ليس ما في القرآن من ذلك بأوجب ولا أثبت مما جاء من ذلك منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانوا قد اختلفوا في كيفية الطريق التي بها يصح النقل فقط قال علي وقد روينا في هذا الحديث من بعض الطرق إنها لمثل القرآن وأكثر قال علي ولا نكرة في هذا اللفظ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك اللفظ أنها أكثر عددا مما ذكر في القرآن وهذا أمر تعلم صحته بالمشاهدة لأن الفرائض الواردة في كلامه صلى الله عليه وسلم بيانا لأمر ربه تعالى أكثر من الفرائض الواردة في القرآن قال علي فإذا ورد النصان كما ذكرنا فلا يخلو ما يظن به التعارض منهما وليس تعارضا من أحد أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يكون أحدهما أقل معاني من الآخر أو يكون أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو يكون أحدهما موجبا والثاني نافيا فواجب ههنا أن يستثنى الأقل معاني من الأكثر معاني وذلك مثل أمره عليه السلام ألا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 بالبيت وأذن للحائض أن تنفر قبل أن تودع فوجب استثناء الحائض من جملة النافرين وكذلك حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الرطب بالتمر مع إباحة ذلك في العرايا فيها دون خمسة أوسق ومثل أمر الله عز وجل بقطع يد السارق والسارقة جملة مع قوله عليه السلام لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فوجب استثناء سارق أقل من ربع دينار من القطع وبقي سارق ما عدا ذلك على وجوب القطع عليه وكذلك تحريمه تعالى أمهات الرضاعة مع قوله صلى الله عليه وسلم لا تحرم الرضعة والرضعتان ونسخ العشر المحرمات بالخمس المحرمات فوجب استثناء ما دون الخمس رضعات من التحريم ويبقى الخمس فصاعدا على التحريم ومثل قوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} مع إباحته المحصنات من نساء أهل الكتاب بالزواج فكن بذلك مستثنيات من جملة المشركات وبقي سائر المشركات على التحريم ومثل قوله عليه السلام دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام مع قوله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} وأمر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم بقتل من ارتد بعد إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا أو شرب خمرا بعد أن حد فيها ثلاثا وأباح قتل من سعى في الأرض فسادا وأمر بأخذ أموال معروفة في الزكوات والنفقات والكفارات وأمر بتغيير المنكر باليد فكان كل ذلك مستثنى من جملة تحريم الدماء والأموال والأعراض وبقي سائرها على التحريم فقد أرينا في هذه المسائل استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني وأرينا في ذلك إباحة من حظر وحظرا من إباحة وحديثا من آية وآية من حديث وآية من آية وحديثا من حديث ولا نبالي في هذا الوجه كما نعلم أي النصين ورد أولا أو لم نعلم ذلك وسواء كان الأكثر معاني ورد أولا أو ورد آخرا كل ذلك سواء ولا يترك واحد منهما للآخر لكن يستعملان معا كما ذكرنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 فهذا وجه والوجه الثاني أن يكون أحد النصين موجبا بعض ما أوجبه النص الآخر أو حاظرا بعض ما حظره النص الآخر فهذا يظنه قوم تعارضا وتحيروا في ذلك فأكثروا وخبطوا العشواء وليس في شيء من ذلك تعارض وقد بينا غلطهم في هذا الكتاب في كلامنا في باب دليل الخطاب وذلك قوله عز وجل {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} وقال في موضع آخر {إن لله يأمر بلعدل ولإحسان وإيتآء ذي لقربى وينهى عن لفحشاء ولمنكر ولبغي يعظكم لعلكم تذكرون} وقال عليه السلام إن الله كتب الإحسان على كل شيء فكان أمره تعالى بالإحسان إلى الوالدين غير معارض للإحسان إلى سائر الناس وإلى البهائم المتمالكة والمقتولة بل هو بعضه وداخل في جملته ومثل نهيه عليه السلام أن يزني أحدنا بحليلة جاره مع عموم قوله تعالى {ولا تقربوا لزنى إنه كان فاحشة وسآء سبيلا} فليس ذكره عليه السلام امرأة الجار معارضا لعموم النهي عن الزنى بل هو بعضه فغلط قوم في هذا الباب فظنوا قوله عليه السلام في سائمة الغنم كذا معارضا لقوله في مكان آخر في كل أربعين شاة شاة وليس كما ظنوا بل الحديث الذي فيه ذكر السائمة هو بعض الحديث الآخر وداخل في عمومه والزكاة واجبة في السائمة بالحديث الذي فيه ذكر السائمة وبالحديث الآخر معا والزكاة واجبة في غير السائمة بالحديث الآخر خاصة وكذلك غلط قوم أيضا فظنوا قوله تعالى {لا جناح عليكم إن طلقتم لنسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على لموسع قدره وعلى لمقتر قدره متاعا بلمعروف حقا على لمحسنين} معارضا لقوله تعالى {وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين} والآية الأولى بعض هذه وداخلة في جملتها كما قلنا في حديث السائمة ولا فرق وكذلك غلط قوم آخرون فظنوا قوله تعالى {ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} معارضا لقوله تعالى {يأيها لناس كلوا مما في الأرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين} ولقوله تعالى {ثم إن ربك للذين عملوا لسوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} وظن قوم أن قوله تعالى {وكم أهلكنا من لقرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا} معارضا لقوله عز وجل {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وليس كذلك على ما قدمنا قبل لأنه ليس في شيء من النصوص التي ذكرنا نهي عما في الآخر ليس في حديث السائمة نهي عن أن يزكي غير السائمة ولا أمر بها فحكمها مطلوب من غير حديث السائمة ولا في الأمر بتمتيع المطلقة غير المحسوسة نهي عن تمتيع الممسوسة ولا أمر به فحكمها مطلوب من موضع آخر ولا في إخباره تعالى بأن خلق الخيل لتركب وزينة نهي عن أكلها وبيعها ولا إباحة لهما فحكمها مطلوب من مكان آخر ولا في تحريمه تعالى الدم المسفوح إخبارا بأن ما عدا المسفوح حلال بل هو كله حرام بالآية الأخرى كما قلنا إنه ليس في أمره تعالى بالإحسان إلى الآباء نهي عن الإحسان إلى غيرهم ولا أمر به فحكم الإحسان إلى غير الآباء مطلوب من مكان آخر ومن فرق بين شيء من هذا الباب فقد تحكم بلا دليل وتكلم بالباطل من غير علم ولا هدى من الله تعالى قال علي فهذا وجه ثان والوجه الثالث أن يكون أحد النصين فيه أمر بعمل ما معلق بكيفية ما أو بزمان ما أو على شخص ما أو في مكان ما ويكون في النص الآخر نهي عن عمل ما بكيفية ما أو في زمان ما أو مكان ما أو عدد ما أو عذر ما ويكون في كل واحد من العملين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهى عن الآخر شيء ما يمكن أن يستثنى من الآخر وذلك بأن يكون على ما وصفنا في كل نص من النصين المذكورين حكمان فصاعدا فيكون بعض ما ذكر في أحد النصين عاما لبعض ما ذكر في النص الآخر ولا شيء آخر معه ويكون الحكم الثاني الذي في النص الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 عاما أيضا لبعض ما ذكر في هذا النص الآخر ولا شيئا آخر معه قال علي وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص وأغمضه وأصعبه ونحن نمثل من ذلك أمثلة تعين بحول الله وقوته على فهم هذا المكان اللطيف وليعلم طالب العلم والحريص عليه وجه العمل في ذلك إن شاء الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وما وجدنا أحدا قبلنا شغل باله في هذا المكان بالشغل الذي يستحقه هذا الباب فإن الغلط والتناقض فيه يكثر جدا إلا من سدده الله بمنه ولطفه لا إله إلا هو قال علي فمن ذلك قول الله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وقال عليه السلام لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم منها ففي الآية عموم الناس وإيجاب عمل خاص عليهم وهو السفر إلى مكان واحد نفسه بعينه من سائر الأماكن وهو مكة أعزها الله فاضبط هذا وفي الحديث المذكور تخصيص بعض الناس وهم النساء ونهيهن عن عمل عام وهو السفر جملة لم يخص بذلك مكان دون مكان فاختلف الناس في كيفية استعمال هذين النصين فقالت طوائف منهم معنى ذلك ولله على الناس حج البيت حاشا النساء اللواتي لا أزواج لهن ولا ذا محرم فليس عليهم حج إذا سافرت إليه سفرا قدره كذا فاستثنوا كما ترى النساء من الناس وقالت طوائف أخر معنى ذلك لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخرأن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم إلا أن يكون سفرا أمرت به كالحج أو ندبت إليه كالنظر في مالها أو ألزمته كالتغريب فإنها تسافر إليه دون زوج ودون ذي محرم فاستثنوا كما ترى الأسفار الواجبة والمندوب إليها من جملة الأسفار المباحة كلها وأبقوا على كل سفر مباح غير واجب ولا مندوب إليه على عموم التحريم على النساء إلا مع زوج أو ذي محرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 قال علي لم يكن بيد كل طائفة من الطائفتين اللتين ذكرنا إلا وصفها ترتيب مذهبها في استعمال النصين المذكورين فليس أحدهما أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل على صحة أحد الاستثناءين وابتغاء البرهان على الواجب منهما من مكان غيرهما قال علي وأما نحن فإنما ملنا إلى استثناء الأسفار الواجبة والمندوب إليها من سائر الأسفار المباحة وأوجبنا على المرأة السفر إلى الحج والعمرة الواجبتين والتغريب وأبحنا لها التطوع بالعمرة والحج ومطالعة ما لها دون زوج ودون ذي محرم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة ولقوله عليه السلام لا تمنعوا إماء الله مساجد الله فجاء النص كما ترى في النساء بأنه لا يحل منعهن عن المساجد ومكة من المساجد فكان هذا النص أقل معاني من حديث النهي عن سفر النساء جملة فوجب أن يكون مستثنى منه ضرورة وخرجنا إلى القسم الذي ذكرنا أولا وإلا صار المانع لهن عاصيا لهذا الحديث تاركا له بلا دليل قال علي وقد احتج للاستثناء الثاني بعض القائلين به بحديث فيه أنه عليه السلام لما نهى عن أن تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم قال له رجل من الأنصار يا رسول الله إني اكتتبت في غزوة كذا وإن امرأتي خرجت حاجة فقال عليه السلام حج مع امرأتك قال علي وهذا الحديث حجة عليهم لأنه عليه السلام لم يلزمها الرجوع ولا أوقع عليها النهي عن الحج ولكنه عليه السلام أمر زوجها بالحج معها فكل زوج أبى من الحج مع امرأته فهو عاص ولا يسقط عنها لأجل معصيته فرض الحج هذا نص الحديث الذي احتجوا به وليس يفهم منه غير ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أصلا لأن الأمر في هذا الحديث متوجه إلى الزوج لا إلى المرأة قال علي ومن هذا النوع أمره عليه السلام بالإنصات للخطبة وفي الصلاة مع قوله تعالى {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ إن لله كان على كل شيء حسيبا} الآية فنظرنا في النصين المذكورين فوجدنا الإنصات عاما لكل كلام سلاما كان أو غيره ووجدنا ذلك في وقت خاص وهو وقت الخطبة والصلاة ووجدنا في النص الثاني إيجاب رد السلام وهو بعض الكلام في كل حالة على العموم فقال بعض العلماء معنى ذلك أنصت إلا عن السلام الذي أمرت بإفشائه ورده في الخطبة وقال بعضهم رد السلام وسلم إلا أن تكون منصتا للخطبة أو في الصلاة قال علي فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل من غير هذه الرتبة قال علي وإنما صرنا إلى إيجاب السلام رد السلام وابتدائه في الخطبة دون الصلاة لأن الصلاة قد ورد فيها نص بين بأنه عليه السلام سلم عليه فيها فلم يرد بعد أن كان يرد وأنه سئل عن ذلك فقال عليه السلام إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه أحدث ألا تكلموا في الصلاة أو كلاما هذا معناه قال علي وليس امتناع رد السلام في الصلاة موجبا ألا يرد أيضا في الخطبة لأن الخطبة ليست صلاة ولم يلزم فيها استقبال القبلة ولا شيء مما يلزم في الصلاة وأما الخطبة فإنا نظرنا في أمرها فوجدنا المعهود والأصل إباحة الكلام جملة ثم جاء النهي عن الكلام في الخطبة وجاء الأمر برد السلام واجبا وإفشائه فكان النهي عن الكلام زيادة على معهود الأصل وشريعة واردة قد تيقنا لزومها وكان رد السلام وإفشاؤه أقل معاني من النهي عن الكلام فوجب استثناؤه فصرنا بهذا الترتيب الذي ذكرناه في القسم الأول آنفا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 قال علي ومن ذلك أمره عليه السلام من نام عن الصلاة أو نسيها أن يصليها إذا ذكرها ونهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح وحين استواء الشمس فقال بعض العلماء معناه فليصلها إذا ذكرها إلا أن يكون وقتا منهيا عن الصلاة فيها وقال آخرون معناه لا تصلوا بعد العصر ولا بعد الصبح ولا حين استواء الشمس إلا أن تكون صلاة نمتم عنها أو نسيتموها أو أمرتم بها ندبا أو فرضا أو تعودتموها قال علي فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني إلا ببرهان من غيرهما ولكن العمل في ذلك أن يطلب البرهان على أصح العملين المذكورين من نص آخر غيرهما فإن لم يوجد صبر إلى الأخذ بالزيادة وبالله التوفيق قال علي ومن هذا قول الله تعالى {يابني إسرائيل ذكروا نعمتي لتي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على لعالمين} ومع قوله تعالى لنا {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون} فليس أحد النصين أولى بالاستثناء من الآخر إلا بنص أو إجماع لأنه جائز أن يقول قائل معناه كنتم خير أمة أخرجت للناس إلا بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين وجائز أن يقول قائل معناه أني فضلتكم على العالمين إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم خير أمة أخرجت للناس فلا بد من ترجيح أحد الاستثناءين على الآخر ببرهان آخر وإلا فليس أحدهما أولى من الثاني قال علي فنظرنا فوجدنا قوله تعالى {يابني إسرائيل ذكروا نعمتي لتي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على لعالمين} وقد قام البرهان على أنه ليس على عمومه لأن الملائكة أفضل منهم بيقين فوقفنا على هذا ثم نظرنا قوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون} ولم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على ظاهره لأن الملائكة يدخلون في العالمين وقد خرج من عموم ذلك الجن بالنصوص في ذلك ولا يدخلون في الأمم المخرجة للناس فلما كان هذا النص لم يأت نص آخر ولا إجماع بأنه ليس على عمومه لم يجز لأحد بأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 يخصه فإذا لم يجز تخصيصه فالفرض الحمل له على عمومه فإذا ذلك فرض ولا بد من أن نخص أحد ذينك النصين من الآخر ولم يجز تخصيص هذا فقد وجب تخصيص الآخر ولا بد إذ لا بد من تخصيص أحدهما وهذا برهان ضروري صحيح من الخبر الثابت بأن مثلنا مع من قبلنا كمن أجر أجراء فعملوا إلى نصف النهار بقيراط قيراط ثم أجر آخرين فعملوا إلى العصر بقيراط قيراط ثم أجر آخرين فعملوا إلى الليل بقيراطين قيراطين قال عليه السلام فأنتم أقل عملا وأكثر أجرا وبالله تعالى التوفيق قال علي ونقول قطعا إنه لا بد ضرورة في كل ما كان هكذا من دليل قائم بين البرهان على الصحيح من الاستثناءين والحق من الاستعمالين لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه فلو لم يكن ههنا دليل لائح وبرهان واضح لكان ضمان الله تعالى خائسا وهذا كفر ممن أجازه فصح أنه لا بد من وجوده لمن يسره الله تعالى لفهمه وبالله تعالى التوفيق والوجه الرابع أن يكون أحد النصين حاظرا لما أبيح في النص الآخر بأسره أي يكون أحدهما موجبا والآخر مسقطا لما وجب في هذا النص بأسره قال علي فالواجب في هذا النوع أن ننظر إلى النص الموافق لما كنا عليه لو لم يرد واحد منهما فنتركه ونأخذ بالآخر لا يجوز غير هذا أصلا وبرهان ذلك أننا على يقين من أننا قد كنا على ما في ذلك الحديث الموافق لمعهود الأصل ثم لزمنا يقينا للعمل بالأمر الوارد بخلاف ما كنا عليه بلا شك فقد صح عندنا يقينا إخراجنا عما كنا عليه ثم لم يصح عندنا نسخ ذلك الأمر الزائد الوارد بخلاف معهود الأصل ولا يجوز لنا أن نترك يقينا بشك ولا أن نخالف الحقيقة للظن وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال {وما لهم به من علم إن يتبعون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا} وقال {وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون} وقال تعالى ذاما لقوم قالوا حاكمين بظنهم {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الظن أكذب الحديث ولا يحل أن يقال فيما صح وورد الأمر به هذا منسوخ إلا بيقين ولا يحل أن يترك أمر قد تيقن وروده خوفا أن يكون منسوخا ولا أن يقول قائل لعله منسوخ وكيف ونحن على يقين مقطوع به من أن المخالف لمعهود الأصل هو الناسخ بلا شك ولا مرية عند الله تعالى برهان ذلك ما قد ذكرناه آنفا من ضمان الله تعالى حفظ الشريعة والذكر المنزل فلو جاز أن يكون ناسخ من الدين مشكلا بمنسوخ حتى لا يدرى الناسخ من المنسوخ أصلا لكان الدين غير محفوظ والذكر مضيعا قد تلفت الحامق فيه وحاش لله من هذا وقد صح بيقين لا إشكال فيه نسخ الموافق لمعهود الأصل من النصين الناقل عن تلك الحال إذ ورد ذلك النص فهذا يقين الذي أمر الله تعالى به وأقره وأقام الحجة به وأثبت البرهان وجوبه ومدعي خلاف هذا كاذب مقطوع بكذبه إذ لا برهان له على دعواه إلا الظن والله تعالى يقول {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقا فيه أصلا وصح بهذا النص أن جميع دين الله تعالى فإن البرهان قائم ظاهر فيه وحرم القول بما عدا هذا لأنه ظن من قائله بإقراره على نفسه وقد حرم الله تعالى القول بالظن وأخبر أنه خلاف الحق وأنه أكذب الحديث فوجب القطع على كذب الظن في الدين كله وهذا أيضا برهان واضح في إبطال القول بالقياس والتعليل والاستحسان في جميع المسائل الجزئيات إلى الشريعة وفي جملة القول بكل ذلك لأن القول بكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 ذلك ظن من قائله بلا شك وبالله تعالى التوفيق ومن ذلك الحديث الوارد في ألا يغتسل من الإكسال والحديث الوارد في الغسل منه فإن ترك الغسل منه موافق لمعهود الأصل إذ الأصل أن لا غسل على أحد إلا أن يأمره الله تعالى بذلك فلما جاء الأمر بالغسل وإن لم ينزل علمنا يقينا أن هذا الأمر قد لزمنا وأنه للحكم الأول بلا شك ثم لا ندري أنسخ بالحديث الذي فيه أن لا غسل على من أكسل أم لا فلم يسعنا ترك ما أيقنا أننا أمرنا به إلا بيقين ومن ذلك أمره عليه السلام ألا يشرب أحد قائما وجاء حديث بأنه عليه السلام شرب قائما فقلنا نحن على يقين من أنه كان الأصل أن يشرب كل أحد كما شاء من قيام أو قعود أو اضطجاع ثم جاء النهي عن الشرب قائما بلا شك فكان مانعا مما كنا عليه من الإباحة السالفة ثم لا ندري أنسخ ذلك بالحديث الذي فيه إباحة الشرب قائما أم لا فلم يحل لأحد ترك ما قد تيقن أنه أمر به خوفا أن يكون منسوخا قال علي فإن صح النسخ بيقين صرنا إليه ولم نبال زائدا كان على معهود الأصل أم موافقا له كما فعلنا في الوضوء مما مست النار فإنه لولا أنه روى جابر أنه كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار لأوجبنا الوضوء من كل ما مست النار ولكن لما صح أنه منسوخ تركناه وكذلك فعلنا في حديث أبي هريرة من أدركه الصبح جنبا فقد أفطر لأنه علمنا أنه موافق للحكم المنسوخ من ألا يأكل أحد ولا يشرب ولا يطأ بعد أن ينام فنسخ ذلك بالإباحة بيقين فصرنا إلى الناسخ وكذلك أخذنا بالحديث الذي فيه إيجاب الوضوء من مس الفرج لأنه زائد على ما في حديث طلق من إسقاط الوضوء منه لأن حديث طلق موافق لمعهود الأصل وأما من تناقض فأخذ مرة بحديث قد ترك مثله في مكان آخر وأخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 بضده فذو بنيان هار يوشك أن ينهار به في مخالفة ربه عز وجل في قوله تعالى {إنما لنسيء زيادة في لكفر يضل به لذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم لله فيحلوا ما حرم لله زين لهم سوء أعمالهم ولله لا يهدي لقوم لكافرين} قال علي وإن أمدنا الله بعمر وأيدنا بعون من عنده فسنجمع في النصوص التي ظاهرها التعارض كتبا كافية من غيرها إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا به فهذه الوجوه التي فيها بعض الغموض قد بيناها بتوفيق الله عز وجل لا إله إلا هو قال علي وها هنا وجه خامس ظنه أهل الجهل تعارضا ولا تعارض فيه أصلا ولا إشكال وذلك ورود حديث بحكم ما في وجه ما وورود حديث آخر بحكم آخر في ذلك الوجه بعينه فظنه قوم تعارضا وليس كذلك ولكنهما جميعا مقبولان ومأخوذ بهما ونحو ذلك ما روي عن النبيصلى الله عليه وسلم من طريق ابن مسعود بالتطبيق في الركوع وروي من طريق أبي حميد الأكف على الركب فهذا لا تعارض فيه وكلا الأمرين جائز أي ذلك فعله المرء حسن قال علي إلا أن يأتي أمر بأحد الوجهين فيكون حينئذ مانعا من الوجه الآخر وقد جاء الأمر بوضع الأكف على الركب فصار مانعا من التطبيق على ما بينا من أخذ الزائد المتيقن في حال وروده ومنعه ما كان مباحا قبل ذلك وقد وجدنا أمرا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخذ بالركب فخرج عن هذا الباب وصح أن التطبيق منسوخ بيقين على ما جاء عن سعد إنا كنا نفعله ثم نهينا عنه وأمرنا بالركب لكن من هذا الباب اغتساله صلى الله عليه وسلم بين وطئه المرأتين من نسائه رضي الله عنهن وتركه الاغتسال بينهما حتى يغتسل من آخرهن غسلا واحدا فهذا كله مباح وهذا إنما هو في الأفعال منه عليه السلام لا في الأوامر المتدافعة ومثل ذلك ما روي عن نهيه عليه السلام عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها مع قوله تعالى وقد ذكر ما حرم من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 النساء ثم قال تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فكان نهي النبي صلى الله عليه وسلم مضافا إلى ما نهى الله عنه في هذه الآية المذكورة ومثل ما حرم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من لحوم الحمر والسباع وذوات المخالب من الطير مع قوله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} الآية فكان ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم مضافا إلى ما في هذه الآية ومضموما معه وكذلك ما روي عن مسحه عليه السلام برأسه ثلاثا واثنتين وواحدة وعلى ناصيته وعمامته وعلى عمامته فقط كل ذلك مضموم بعضه إلى بعض وشرائع لازمة كلها وقد سقط ههنا قوم أساؤوا النظر جدا فقالوا إن ذكر بعض ما قلنا في نص ما وعدمه في نص آخر دليل على سقوطه قال علي وهذا إقدام عظيم وإسقاط لجميع الشرائع ويجب عليهم من هذا أن كل شريعة لم تذكر في كل آية وفي كل حديث هي ساقطة وهذا كفر مجرد لأنه لا فرق بين من قال لما قال الله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} ولم يذكر الافتراق وقال عليه السلام إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادان فلم يذكر الافتراق دل ذلك على سقوط حكم الافتراق وعلى تمام البيع دونه فلا فرق بين هذا الكلام وبين من قال لما لم يذكر الله تعالى ورسوله عليه السلام في الآية المذكورة النهي عن بيع الغرر وعن الملامسة والمنابذة وعن بيع الخمر والخنازير وجب أن يكون كل ذلك مباحا ولما لم يذكر الله تعالى في قوله {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} الآية إن العذرة حرام وإن الخمر حرام وجب أن يكون حلالا وهذا الكلام مع أنه كفر فهو ساقط جدا لأنه لا يلزم تكرير كل شريعة في كل حديث ولو لزم ذلك لبطلت جميع شرائع الدين أولها عن آخرها لأنها غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 مذكورة في كل آية ولا في كل حديث قال علي ويبين صحة ما قلنا من أنه لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما نقل من أفعاله قول الله عز وجل مخبرا عن رسوله عليه السلام {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وقوله تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} وقال تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فأخبر عز وجل أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي من عنده كالقرآن في أنه وحي وفي أنه كل من عند الله عز وجل وأخبرنا تعالى أنه راض عن أفعال نبيه صلى الله عليه وسلم وأنه موفق لمراد ربه تعالى فيها لترغيبه عز وجل في الائتساء به عليه السلام فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى ووجدناه تعالى قد أخبرنا أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى صح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن والحديث الصحيح وأنه كله متفق كما قلنا ضرورة وبطل مذهب من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض أو ضرب الحديث بالقرآن وصح أن ليس شيء من كل ذلك مخالفا لسائره علمه من علمه وجهله من جهله إلا أن الذي ذكرنا من العمل هو القائم في بديهة العقل الذي يقود إليه مفهوم اللغة التي خوطبنا بها في القرآن والحديث وبالله تعالى التوفيق وكل ذلك كلفظة واحدة وخبر واحد موصول بعضه ببعض ومضاف بعضه إلى بعض ومبني بعضه على بعض إما بعطف وإما باستثناء وهذان الوجهان نعني العطف والاستثناء يوجبان الأخذ بالزائد أبدا وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلة عطارد إذ قال لعمر رضي الله عنه إنما يلبس هذه من لا خلاق له ثم بعث إلى عمر حلة سيراء فأتاه عمر فقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 يا رسول الله أبعثت إلي هذه وقد قلت في حلة عطارد ما قلت فقال عليه السلام إني لم أبعثها إليك لتلبسها وفي بعض الأحاديث إنما بعثتها إليك لتصيب بها حاجتك أو كلاما هذا معناه ففي هذا الحديث تعليم عظيم لاستعمال الأحاديث والنصوص والأخذ بها كلها لأنه صلى الله عليه وسلم أباح ملك الحلة من الحرير وبيعها وهبتها وكسوتها النساء وأمر عمر أن يستثني من ذلك اللباس المذكور في حديث النهي فقط وألا يتعدى ما أمر إلى غيره وألا تعارض بين أحكامه عليه السلام قال علي وفي هذا الحديث إبطال القياس لأن عمر رضي الله عنه أراد أن يحمل الحكم الوارد في النهي عن اللباس على سائر وجوه الانتفاع به فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك باطل وفيه أيضا أن حكمه عليه السلام في عين ما حكم على جميع نوع تلك العين لأنه إنما وقع الكلام على حلة سيراء كان يبيعها عطارد ثم أخبر عليه السلام أن ذلك حكم جار في كل حلة حرير وأخبر أن ذلك الحكم لا يتعدى إلى غير نوع اللباس وهذا هو نص قولنا في عموم الحكم وإبطال القياس قال علي وقد استعمل قوم بعض الوجوه الذي ذكرنا في غير موضعه ونحن نوقف على ذلك ونرى منه طرفا ليتنبه الطالب للعلم على سائره إذا ما ورد عليه إن شاء الله عز وجل وما توفيقي إلا بالله وذلك أننا قد قلنا باستعمال الحديثين إذا كان أحدهما أقل معاني من الآخر بأن يستثنى الأقل من الأكثر فيستعمل الأقل معاني على عمومه ويستعمل الأكثر معاني حاشا ما أخرجنا منه بالاستثناء المذكور على ما بينا قبل فورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيه النهي عن استقبال القبلة واستدبارها لبول أو غائط وورد حديث عن ابن عمر أنه أشرف على سطح فنظر إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدا لحاجته على لبنتين وهو مستدبر القبلة قال علي فقال قوم نستبيح استدبار القبلة واستقبالها في البنيان ونمنع منه في الصحارى قال علي وأخطؤوا من وجهين أحدهما تحكمهم في الفرق بين البنيان وغيره وليس في شيء من الحديثين نص ولا دليل على ذلك بل وجدنا أبا أيوب الأنصاري وهو بعض رواة حديث النهي قد أنكر ذلك في البيوت فلو عكس عاكس فقال بل يستباح ذلك في الصحارى ولا يستباح في البنيان هل كان يكون بينهم وبينه فرق ومثل هذا في دين الله تعالى لا يستسله ولا يتمادى عليه بعد أن يوقف عليه ذو ورع لقوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} مع آيات كثيرة تزجر عن ذلك وليس في حديث ابن عمر أن النبيصلى الله عليه وسلم كان في بنيان بل قد وصفت عائشة رضي الله عنها أنهم كانوا يأنفون من اتخاذ الكنف في البيوت وأنهم كانوا يتبرزون خارج المنازل والرواية الصحيحة أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يتبرز أبعد وليس لأحد أن يقول إن ابن عمر إذا أشرف من السطح رآه في بنيان إلا كان متكهنا فهذا وجه والوجه الثاني أنه حتى لو صح أنه عليه السلام كان في بنيان فليس في ذلك الحديث إلا الاستدبار وحده فبأي شيء استحلوا استقبال القبلة بالغائط ولا نص عندهم فيه وليس إذا نسخ أو خص بعض ما ذكر في الحديث وجب أن ينسخ أو يترك سائره فإن قالوا بل يترك سائره كانوا متحكمين في الدين ومسقطين لشرائع الله تعالى بلا دليل وسنستوعب الكلام في هذا الفصل في باب الخصوص أو النسخ من كتابنا هذا إن شاء الله عز وجل ولزمهم أيضا أن يقولوا إن النبيصلى الله عليه وسلم لما نهى عن مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وكسب الحجام ثم أباح كسب الحجام أن يستباح حلوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الكاهن ومهر البغي وثمن الكلب لأن كل ذلك مذكور في حديث واحد وإلا كانوا متناقضين قال علي ووجه العمل في هذين الحديثين هو الأخذ بالزائد وقد كان الأصل بلا شك أن يجلس كل أحد لحاجته كما يشاء فحديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود النهي ثم صار ذلك النهي رافعا لتلك الإباحة بيقين ولا يقين عندنا أنسخ شيء من ذلك النهي أم لا فحرام أن نترك يقينا لشك وأن نخالف حقيقة لظن وليس لأحد أن يقول إن حديث ابن عمر متأخر إلا لكان لغيره أن يقول بل حديث النهي هو المتأخر لأنه قد رواه سليمان وإسلامه في سنة الخندق وأبو هريرة وإسلامه بعد انقضاء فتح خيبر إلا أن النهي شريعة واردة رافعة لما كان الناس عليه من إباحة ذلك بيقين ولا يقين عندنا في أن الإباحة عادت بعد ارتفاعها ولو صح أن حديث ابن عمر كان متأخرا ما كان فيه إلا رفع النهي عن استدبار القبلة فقط وليبق استقبالها على التحريم فصل في تمام الكلام في تعارض النصوص قال علي وذهب بعض أصحابنا إلى ترك الحديثين إذا كان أحدهما حاظرا والآخر مبيحا أو كان أحدهما موجبا والآخر مسقطا قال فيرجع حينئذ إلى ما كنا نكون عليه لو لم يرد ذانك الحديثان قال علي وهذا خطأ من جهات أحدها أننا قد أيقنا أن الأحاديث لا تتعارض لما قد قدمنا من قوله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} مع إخباره تعالى أن كل ما قال نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه وحي فبطل أن يكون في شيء من النصوص تعارض أصلا وإذا بطل التعارض فقد بطل الحكم الذي يوجبه التعارض إذ كل شيء بطل سببه فالمسبب من السبب الباطل باطل بضرورة الحس والمشاهدة والثاني أنهم يتركون كلا الخبرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 والحق في أحدهما بلا شك فإذا تركوهما جميعا فقد تركوا الحق يقينا في أحدهما ولا يحل لأحد أن يترك الحق اليقين أصلا والثالث أنهم لا يفعلون ذلك في الآيتين اللتين إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة أو إحداهما موجبة والثانية نافية بل يأخذون بالحكم الزائد ويستثنون الأقل من الأكثر وقد بينا فيما سلف أنه لا فرق بين وجوب ما جاء في القرآن وبين وجوب ما جاء في كلام النبيصلى الله عليه وسلم قال علي كان حجتهم في ذلك أن قالوا إن أحد الخبرين ناسخ بلا شك ولسنا نعلمه بعينه فلما نعلمه لم يجز لنا أن نقدم عليه بغير علم فيدخل في قوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} قال علي وهذه الحجة فاسدة من وجهين أحدهما أنه يلزمهم مثل ذلك الآيتين وهم لا يفعلون ذلك والوجه الثاني أنه لا يجوز أن يقال في خبر ولا آية إن هذا منسوخ إلا بيقين قال علي ويكفي من بطلان هذا الذي احتجوا به أننا على يقين من أن الحكم الزائد على معهود الأصل رافع لما كان الناس عليه قبل وروده فهو الناسخ بلا شك ونحن على شك من هل نسخ ذلك الحكم بحكم آخر يردنا إلى ما كنا عليه أو لا فحرام ترك اليقين للشكوك وبالله تعالى التوفيق قال علي وقد اضطرب خاطر أبي بكر محمد بن داود رحمه الله إلى ما ذهبنا إليه إلا أنه رحمه الله اخترم قبل إنعام النظر في ذلك وذلك أنه قال في كتاب الوصول والعمل في الخبرين المتعارضين كالعمل في الآيتين ولا فرق قال علي وقال بعض أهل القياس نأخذ بأشبه الخبرين بالكتاب والسنة قال علي وهذا باطل لأنه ليس الذي ردوا إليه حكم هذين الخبرين أولى بأن يأخذ به من الخبرين المردودين إليه بل النصوص كلها سواء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وجوب الأخذ بها والطاعة لها فإذ قد صح ذلك بيقين فما الذي جعل بعضها مردودا وبعضها مردودا إليه وما الذي أوجب أن يكون بعضها أصلا وبعضها فرعا وبعضها حاكما وبعضها محكوما فيه فإن قال الاختلاف الواقع في هذين هو الذي حط درجتهما إلى أن يعرضا على غيرهما قال علي وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان لأنه ليس الاختلاف موجبا لكونهما معروضين على غيرهما لأن الاختلاف باطل فظنهم أنه اختلاف ظن فاسد يكذبه قول الله عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فإذ قد أبطل الله تعالى الاختلاف الذي جعلوه سببا لعرض الحديثين على سنة أخرى أو آية أخرى فقد وجب ضرورة أن يبطل مسببه الذي هو العرض وهذا برهان ضروري وبالله تعالى التوفيق قال علي وإذا كانت النصوص كلها سواء في باب وجوب الأخذ بها فلا يجوز تقوية أحدها بالآخر وإنما ذلك من باب طيب النفس وهذا هو الاستحسان الباطل وقد أنكره بعضهم على بعض قال علي وقد رجح بعض أصحاب القياس أحد الخبرين على الآخر بترجيحات فاسدة نذكرها إن شاء الله تعالى ونبين غلطهم فيها بحول الله تعالى وقوته فمن ذلك أن قالوا إن كان أحد الخبرين معمولا به والآخر غير معمول به رجحنا بذلك الخبر المعمول به على غير المعمول به قال علي وهذا باطل لما نذكره إن شاء الله تعالى بعد هذا في فصل فيه إبطال قوم من احتج بعمل أهل المدينة إلا أننا نقول ها هنا جملة لا يخلو الخبر قبل أن يعمل به من أن يكون حقا واجبا أو باطلا فإن كان حقا واجبا لم يزده العمل به قوة لأنه لا يمكن أن يكون حق أحق من حق آخر في أنه حق وإن كان باطلا فالباطل لا يحققه أن يعمل به قال علي واحتج بعضهم في وجوب ترجيح أحد الخبرين على الآخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فقال كما نرجح إحدى البينتين على الأخرى إذا تعارضتا مرة بالقرعة ومرة باليد قال علي وهذا هو عكس الخطأ على الخطأ ولسنا نساعدهم على ترجيح بينة على أخرى لا بيد ولا بقرعة لأن ذلك لم يوجبه نص ولا إجماع وأيضا فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى لما جاز ذلك في الحديثين لأن هذا قياس والقياس باطل وأيضا فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى وكان القياس حقا لكان ترجيح الحديثين أحدهما على الآخر لا يجوز لأن الاختلاف في الحديثين باطل والتعارض عنهما منفي بما ذكرنا من قوله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} وبإخباره تعالى أن كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وحي كله وأما البينتان فالتعارض فيهما موجود والاختلاف فيهما ممكن قال علي وقالوا إن كان أحد الخبرين حاظرا والآخر مبيحا فإنما نأخذ بالحاظر وندع المبيح قال علي وهذا خطأ لأنه تحكم بلا برهان ولو عكس عاكس فقال بل نأخذ بالمبيح لقوله تعالى {وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير} ولقوله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} ولقوله تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} أما كان يكون قوله أقوى من قولهم ولكنا لا نقول ذلك بل نقول إن كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسر وهو رفع الحرج وهو التخفيف ولا يسر ولا تخفيف ولا رفع حرج أعظم من شيء أدى إلى الجنة ونجى من جهنم وسواء كان حظرا أو إباحة ولو أنه قتل الأنفس والأبناء والآباء قال علي ويبطل ما قالوا أيضا بقوله عليه السلام إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 قال علي فأوجب عليه السلام من الفعل ما انتهت إليه الطاقة ولم يفسح في ترك شيء منه إلا ما خرج عن الاستطاعة ووقع العجز عنه فقط وقد ظن قوم أن هذا الحديث مؤكد للنهي عن الأمر قال علي وهذا ظن فاسد لأن الاجتناب ترك والترك لا يعجز عنه أحد وأما العمل فهو حركة لها كلفة أو إمساك عما تقتضيه الطبيعة من الأكل والشرب وفي ذلك تكلف وربما يعجز المرء عن كثير منه فكلفنا من ذلك كل ما انتهى إليه الوسع ولم يسقط عنا منه شيء إلا لم يكن بنا طاقة على فعله هذا نص الحديث لمن تأمله ولم يحله عن مفهوم لفظه فصح بذلك التسوية بين الأمر والنهي وإيجاب الطاعة للحظر والإباحة على السواء فليس الحاظر بأوكد من المبيح ولا المبيح بأوكد من الحاظر قال علي وقالوا نرجح أيضا بأن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأتقن قال علي هذا أيضا خطأ بما قد أبطلنا فيما سلف من هذا الباب قول من رام ترجيح الخبر بأن فلانا أعدل من فلان فأغنى ذلك عن إعادته ولكنا نقول ههنا إن هذا الذي الذي قالوا دعوى لا برهان عليها من نص ولا إجماع وما كان كذلك فهو ساقط قال علي وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون رواه جماعة وروى الآخر واحد قال علي وقد أبطلنا هذا فيما سلف من هذا الباب بأن القائلين بذلك قد تركوا ظاهر القرآن الذي نقله أهل الأرض كلهم لخبر نقله واحد ومثلنا ذلك بتحريمهم الجمع بين المرأة وعمتها وقطعهم السارق في ربع دينار ولا يقطعونه في أقل ويرجمون المحصن ومثل هذا كثير وبينا فيما خلا أن خبر الواحد وخبر الجماعة سواء في باب وجوب العمل بهما وفي القطع بأنهما حق ولا فرق وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 والآخر لم يقصد به الحكم ومثلوا ذلك بالنهي عن جلود السباع مع قوله عليه السلام إذا دبغ الإهاب فقد طهر قال علي أما هذا الترجيح فصحيح لأن الحديث إذا لم يقصد به بيان الحكم فلا إشكال فيه في أنه خلاف الذي قصد به بيان الحكم وأما الحديثان اللذان ذكروا فليسا واقعين تحت هذه الجملة التي ذكروا بل كل واحد من الحديثين المذكورين فهو مقصود به بيان الحكم والتنظير الصحيح ههنا هو مثل أمره صلى الله عليه وسلم بأن يكفن المحرم إذا مات في ثوبيه وألا يمس طيبا ولا يغطي وجهه ولا رأسه فهذا قصد به بيان حكم العمل في تكفين المحرم فهو أولى من منع من ذلك بما روي من قوله صلى الله عليه وسلم إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث لأن هذا الحديث لم يقصد به بيان حكم عملنا نحن فيمن مات من محرم أو غيره وأيضا فحديث النهي عن جلود السباع لا يصح ولو صح لكانت إذ دبغت جلودها يجب أن تستثنى من سائر الجلود السبعية التي لم تدبغ لأن المدبوغة منها أقل من غير المدبوغة وقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون راوي أحدهما باشر الأمر الذي حدث به بنفسه وراوي الآخر لم يباشره فتكون رواية من باشر أولى ومثلوا ذلك بالرواية عن ميمونة نكحني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان وبالرواية عن ابن عباس نكح رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم قال علي وهذا ترجيح صحيح لأنا قد تيقنا أن من لم يحضر الخبر إنما نقله غيره ولا ندري عمن نقله ولا تقوم الحجة بمجهول ولا شك في أن كل أحد أعلم بما شاهد من أمر نفسه قال علي إلا أن قائل هذا قد نسي نفسه فتناقض وهدم ما بنى في قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 نرجح الخبر بأن يكون راويه أضبط وأتقن وتركوا ذلك في هذا المكان وقد قال الأكابر من أصحاب ابن عباس رحمة الله عليه إذ حدثوا بحديث ميمونة المذكور وإنما رواه عنها يزيد بن الأصم فقالوا كلا لا نترك حديثا حدثناه البحر عبد الله بن العباس لحديث رواه أعرابي بوال على عقبيه قال علي فإن كان كون أحد الرواة أعدل واجبا أن نترك له رواية من دونه في العدالة فليتركوا ها هنا رواية يزيد بن الأصم لرواية ابن عباس فلا خلاف عند من له أدنى مسكة عقل أن البون بين ابن عباس وبين يزيد بن الأصم كما بين السماء والأرض وإن كان لا معنى لذلك فلا ترجحوا بكون أحد الراويين أعدل قال أبو محمد ونسوا أنفسهم أيضا فتركوا ما رجحوا به ها هنا من تغليب رواية من باشر على رواية من لم يباشر في قول أنس أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وركبتي تمس ركبته وأنا إلى جنبه رديف لأبي طلحة وهو عليه السلام يقول لبيك عمرة وحجا لبيك عمرة وحجا وفي قول البراء بن عازب إذ يقول سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية حجه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إني سقت الهدي وقرنت وفي قول حفصة أم المؤمنين له لم تحل من عمرتك فصدقها النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وبين عليها لم فعل ذلك فتركوا ما سمع أنس بن مالك من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه لكلام عن عائشة لم تدع أنها سمعته وقد اضطرب عنها أيضا فيه فروي عنها مثل ما قال أنس والبراء وحفصة رضي الله عن جميعهم ولكلام عن جابر لم يدع أنه سمعه وهو مع ذلك أيضا يحتمل التأويل وقد اضطرب عنه أيضا في ذلك ولا شك عند ذي عقل أنه عليه السلام أعلم بأمر نفسه من جابر وعائشة وأن أنسا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 والبراء وحفصة الذين ذكروا أنهم سمعوا من لفظه صلى الله عليه وسلم ذلك وباشروه يقول ذلك أيقن من جابر فيما لم يدع أنه سمعه ولكن هكذا يكون من اعتقد قولا قبل أن يعتقد برهانه {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قولا لم يختلف فيه والآخر فعلا مختلفا فيه ومثلوا ذلك برواية عثمان رضي الله عنه لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب وبالرواية في نكاح ميمونة مرة بأنه عليه السلام كان حلالا ومرة بأنه عليه السلام كان محرما قال علي وهذا لا معنى له لأن العدل إذا روى شيئا قد بينا أنه لا يبطله خلاف من خالفه ولا كثرة من خالفه وليس العمل في الأخبار كدراهم قمار تلقى درهم بدرهم ويبقى الفضل للغالب لكن خبر واحد يستثنى منه أخبار كثيرة ويستثنى هو من أخبار كثيرة أو يؤخذ به إذا كان زائدا عليها أو يؤخذ بها إن كانت زائدة عليه لأن قائلها كلها وقائل ذلك واحد أو فاعلها وفاعله أو قائلها وفاعله أو فاعلها وقائله واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن واحد هو الله عز وجل وليس تكرار قوله بموجب منه ما لم يكن يجب لولا تكراره وتركه تكرار ما لم يكرر لا يخرج ما لم يكرر عن وجوب الطاعة له وإذا قال القول مرة واحدة فقد لزم فرضا كما لو كرره ألف مرة ولا مزيد وإذا فعل الفعل مرة واحدة فالفضل في الائتساء به عليه السلام فيه كما لو فعله ألف مرة ولا مزيد ولا فرق ولم يخص الله تعالى إذا أمرنا بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما كرر دون ما لم يكرر بل ألزمنا الطاعة لأمره وأمره مرة يسمى أمرا كما لو كرره ألف مرة كل ذلك يقع عليه اسم أمر ولا خص لنا تعالى إذا حضنا على الائتساء بنبيه صلى الله عليه وسلم ما فعله مرات دون ما فعله مرة ولا ما فعله مرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 دون ما فعله مرات بل إذا فعل عليه السلام الفعل مرة فقد وقع عليه اسم أنه فعله ألف ألف مرة كل ذلك يقع عليه اسم فعل ومن قال غير هذا فقد تعدى حدود الله عز وجل وشرع ما لم يأذن به الله عز وجل وقفا ما لا علم له به واستحق اسم الظلم والوعيد وبالله تعالى نعتصم ونسأل أيضا من أتى بهذا الهوس فنقول له إذا سقط عندك ما صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله مرة ثم لم يفعله بعدها ولا نهى عنه بأنه لم يعد إليه فما تقول فيما صح أنه عليه السلام فعله مرتين ثم لم يعد إليه ولا نهى عنه فإن تركه من أجل ترك العود سألناه عما فعله ثلاث مرات ثم لم يعد إليه ولا نزال نزيده مرة بعد مرة حتى يبدو سخف قوله إلى قول إلى كل ذي فهم أو يترك قوله الفاسد ويرجع إلى الحق قال علي وإنما أخذنا بالمنع من نكاح المحرم برواية عثمان رضي الله عنه لأنها زائدة على معهود الأصل لأن الأصل إباحة النكاح على كل حال بقوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} فجاء النهي من طريق عثمان من أن ينكح المحرم فتيقنا ارتفاع الحالة الأولى بلا شك واستثنينا النهي حالة الإحرام عن النكاح من جملة العموم بإباحة النكاح وشككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا فلم يجز لأحد ترك ما أيقن وجوبه بظن لم يصح فصح يقينا لا مرية فيه أن حكم حديث ابن عباس في نكاح ميمونة قد نسخ وبطل بلا شك ومن ادعى عود المنسوخ وبطلان الناسخ فقد كذب وأفك ثم حتى لو شككنا هل نسخ هذا النهي بعد وجوبه أو لا لم يجز لأحد ترك ما أيقن وجوبه بظن ولم يصح وحتى ولو صح قول ابن عباس أنه نكحها وهو محرم دون أن تخبر ميمونة على أنه عليه السلام نكحها وهو محرم لما وجب بذلك ترك ما قد تيقناه من النهي عن نكاح المحرم الناسخ للإباحة المتقدمة لأمر لا ندري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 أقبله كان أم بعده وترك اليقين للشك وتغليب الظن على الحقيقة باطل وحرام لا يحل وهذا ما لا يخيل على ذي لب وبالله تعالى التوفيق وأيضا فحتى لو صح أن نكاحه عليه السلام ميمونة رضي الله عنها كان حرما وأنه كان بعد نهيه عن نكاح المحرم لما كان ذلك مبيحا لإنكاح المحرم غيره ولا لخطبته على نفسه وعلى غيره ولكان نكاح المحرم حينئذ منسوخا مستثنى من النهي الوارد عن نكاحه وإنكاحه وخطبته ولكان باقي الحديث واجبا لازما لا يحل مخالفته وهذه كلها وجوه لائحة واضحة والحمد لله رب العالمين وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما اختلف على راويه فيه والآخر لم يختلفوا على راويه فيه ومثلوا ذلك بحديث ابن عمر فإن زادت الإبل على عشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وبحديث علي فإن زادت الإبل على عشرين ومائة واحدة ففي كل أربعين بنت لبون وفي خمسين حقة قال علي وهذا بين ليس من أجل الاختلاف فقد أبطلنا ذلك في الفصل الذي قبل هذا ولكن لأن حديث ابن عمر هو الزائد حكما على حديث علي رضي الله عنهما وقالوا أيضا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد قيل فيه إنه من كلام الراوي ولم يقل ذلك في الآخر فأخذ بالذي لم يقل ذلك فيه ومثلوا بحديث عتق الشقص الذي أحدهما من طريق ابن عمر دون أن يكون فيه ذكر الاستسعاء والآخر من طريق أبي هريرة وفيه ذكر الاستسعاء قالوا وقد قيل إن الاستسعاء من لفظ سعيد بن أبي عروبة لأن شعبة وهماما روياه عن قتادة ولم يذكر ذلك فيه وقد قيل إنه من لفظ قتادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 قال علي وهذا خطأ قد تابع سعيدا على ذكر الاستسعاء جرين بن حازم الأزدي وأبان بن يزيد العطار ويزيد بن زريع وحجاج بن حجاج وموسى بن خلف كلها لم يذكر فيه الاستسعاء عن قتادة مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فالأخذ بالاستسعاء واجب لا يجوز تركه لأنه حكم زائد ثابت وليس في حديث ابن عمر ما يضاده ولا ينافيه وإنما فيه فقد عتق منه ما عتق ولا يصح ما زاد فيه بعضهم من قوله وقد رق ما رق ولا أتى ذلك من طرق تصح أصلا قال علي وتناقض في هذا الخبر أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة تناقضا فاحشا فجعل أصحاب أبي حنيفة ذكره عليه السلام السائمة مسقطا للزكاة عما في حديث الآخر من عموم الزكاة في جميع الغنم ولم يجعلوا قوله عليه السلام في حديث ابن عمر فقد عتق منه ما عتق موجبا لإرقاق سائره وقد كان يجب أن يطلبوا لقوله عليه السلام فقد عتق منه ما عتق فائدة تنبىء أن ما لم يعتق منه لم يعتق كما قالوا في السائمة ولم يجعل أصحاب مالك ذكر السائمة مسقطا للزكاة في غير السائمة بالعموم الذي في حديث ابن عمر في ذكره الغنم وجعلوا قوله عليه السلام فقد عتقوا منه ما عتق مسقطا لعتق باقيه المذكور في حديث أبي هريرة بالاستسعاء وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما اجتمع فيه الأمر والفعل وانفرد الآخر بأحدهما فيكون الذي اجتمعا فيه أولى ومثلوا ذلك بما روي من أنه عليه السلام سعى وأمر بالسعي بين الصفا والمروة وبما روي من قوله عليه السلام الحج عرفة قال علي وهذا لا معنى له لأن الحديث الذي فيه إيجاب السعي إنما صح من طريق أبي موسى وهو زائد على ما روي من أن الحج عرفة فوجب الأخذ بالشريعة الزائدة وليس في حديث الحج عرفة ما يمنع من وجوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 الإحرام والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بمزدلفة قال علي وقد تناقضوا ههنا فأوجبوا السعي فرضا ولم يسقطوا وجوبه لما روي من أن الحج عرفة ولم يوجبوا الوقوف بمزدلفة وذكر الله عز وجل فيها وقد جاء النص الصحيح من القرآن والسنة بإيجاب ذلك فرضا فأما القرآن فقوله تعالى {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرفات فذكروا لله عند لمشعر لحرام وذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن لضآلين} وأما السنة فقوله عليه السلام لعروة بن مضرس من أدرك الصلاة ههنا يعني بمزدلفة مع الناس والإمام فقد أدرك وإلا فلم يدرك أو كما قال عليه السلام وتحكم أصحاب التقليد وأهل القياس أكثر من أن يحصيه إلا خالقهم الذي أحصى عدد القطر وورق الشجر ومكايل البحار لا إله إلا هو وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يوافقه عمل أهل المدينة قال علي وهذا باطل وقد أفردنا له فصلا بعد كلامنا هذا في هذا الباب وبالله تعالى التوفيق ومثلوا ذلك بأخبار رويت في الأذان والإقامة قال علي ولا يصح في ذلك خبر مسند إلا حديث أنس بن مالك رضوان الله عليه أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة وبه نأخذ وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد علق الحكم فيه بالاسم ويكون الآخر قد علق الحكم فيه بالمعنى فيكون الذي علق الحكم فيه بالمعنى أولى قال علي وهذا لا معنى له لأنها دعوى بلا برهان وإذ لو عارضهم معارض فقال بل الذي علق فيه الحكم بالاسم أولى لما انفصلوا منه ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام من بدل دينه فاقتلوه مع نهيه عليه السلام عن قتل النساء قال علي وإنما أخذنا بقتل النساء المرتدات لأن النهي عن قتل النساء عموم والأمر بقتل من غير دينه مخصوص من ذلك العموم على ما قدمنا قبل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 من استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني وأيضا فقد اتفقت الأمة على أن نهيه عليه السلام عن قتل النساء ليس على ظاهره واتفقوا أنها إن زنت وهي محصنة أنها تقتل وإن قتلت مسلما أنها تقتل وأيضا فإن نهيه عليه السلام عن قتل النساء إنما هو داخل في جملة قوله دماؤكم عليكم حرام فهو بعض تلك الجملة واستثنى كل من ورد أمر بإيجاب قتله أو إباحته من باغ أو شارب خمر بعد أن حد فيها ثلاثا أو زان محصن أو قاتل عمدا أو مرتد وصح أن النهي عن قتل النساء إنما هو من الأسارى من أهل دار الحرب وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما منصوصا بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم والآخر إنما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم استدلالا قال علي وهذا لا إشكال فيه ولا يجوز أن يؤخد بشيء لم ينص عليه أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو يوقن بأنه عنه ببرهان لا يحتمل إلا وجها واحدا ولا يجوز أن يكون عن غيره إلا أن يكون إجماع في شيء ما فيؤخذ به والإجماع أيضا راجع إلى التوقف منه عليه السلام لا بد من ذلك قال علي ومثلوا ذلك بالتشهد المروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يعلمه الناس وهو على المنبر وبالتشهد المروي عن ابن عباس وعائشة وأبي موسى وابن مسعود مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال علي وليس في تعليم عمر رضي الله عنه الناس التشهد على المنبر ما يدل على أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد نهى عمر رضوان الله عليه وهو على المنبر عن المغالاة في مهور النساء وعلم الناس ذلك ولا شك عند أحد في أن نهيه عن ذلك ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم وأن ذلك من اجتهاد عمر فقط وقد أقر رحمه الله بذلك في ذلك الوقت ورجع عن النهي عنه إذ ذكر أن نهيه مخالف لما في القرآن وأما التشهدات المروية عن ابن عباس وعائشة وابن مسعود وأبي موسى رضوان الله عليهم فهي التي لا يحل تعديها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 لصحة سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد خالف تشهد عمر الذي علمه الناس على المنبر ابنه عبد الله وابن مسعود وابن عباس وعائشة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم وقد شهدوه يخطب به وغاب عنهم من أنه حجة إجماعية ما ادعى هؤلاء لأنفسهم من فهمه ومن أنه يغيب عنهم وهذا كما نرى وقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قد ثبت فيه الخصوص والآخر لم يثبت فيه الخصوص فغلب الذي لم يثبت فيه الخصوص على الذي ثبت فيه ومثلوا ذلك بآية النهي عن الجمع بين الأختين مع الآية التي فيها إباحة ذلك بملك اليمين قال علي الآية التي فيها إباحة ملك اليمين أكثر معاني من الآيات التي فيها النهي عن وطء الحريمة بنسب أو صهر ومن التي فيها النهي عن الجمع بين الأختين والأم وابنتها والمرأة المشتركة ووطء الحائض والصائمة والمحرمة والزانية ووطء الذكور المماليك والبهائم المملوكة والمشتركة فوجب استثناء كل ذلك لأنه أقل معاني مما أبيح بملك اليمين فخرج كل ما ذكرنا بالتحريم وتبقى الآية المسلمة التي ليس فيها شيء من الصفات التي ذكرنا على الإباحة وكذلك الآية التي فيها {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} أكثر معاني من الآيات التي ذكرنا فوجب استثناء كل ذلك بالتحريم لأنه أقل معاني مما أبيح بالنكاح فنكون على يقين من استعمالنا جميع النصوص الواردة وأننا لم نخالف منها شيئا ولا تناقضنا في تخصيص ما خصصنا واستثنائنا ما استثنينا وبالله تعالى التوفيق وقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد جوابا والآخر ورد ابتداء فنغلب الذي ورد جوابا على الذي ورد ابتداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 قال علي هذا خطأ لأنه قبل كل شيء تحكم بلا برهان والبرهان أيضا على بطلان هذا الحكم قائم وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معلما وقد سئل عن شيء فأجاب عن أشياء كثيرة وقد سئل عن شحوم الميتة فأجاب عليه السلام عنها ولعن اليهود ونهى أيضا في ذلك الحديث عن بيع ما حرم من الميتات ولم يكن سئل عن كل ذلك ومثل هذا كثير ولا فرق بين ما ورد قوله عليه السلام جوابا وبين ما ورد ابتداء وكل ذلك محمول على عمومه وعلى ما فهم من لفظه لا يحل أن يقتصر به على بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ دون بعض إلا بنص أو إجماع وكذلك القول فيما ورد من القرآن جوابا عن سؤال متقدم وقد سئل عن اليتامى فأجاب تعالى فيهم ثم قال عز وجل {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} فأخبرهم عن النساء زائدا على ما سألوا عنه فقالوا ونرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما من رواية من يختص بذلك المعنى والآخر برواية من لا يختص به ومثلوا ذلك برواية عائشة رضي الله عنها في الغسل من الإكسال على خبر من روى أن لا غسل منه قال علي وهذا باطل لأن الراوين أن لا غسل منه مختصون بالوطء لنسائهم كاختصاص النساء ولا فرق ولأن كل عالم نفر للتفقه فهو مختص بالسؤال عن الحيض كسؤال المرأة عنه ولا فرق وحرص العالم على أن يتعلم كحرص الممتحن بالنازلة التي يسأل عنها ولا فرق وإنما أوجبنا الغسل من الإكسال لحديث أبي هريرة لأنه زائد على سائر الأحاديث لأن الأصل أن لا غسل على أحد وجاء حديث أبي هريرة بإيجاب الغسل فكان شريعة واردة زائدة بيقين ثم لم يصح أنها نسخت ولو لم يكن في ذلك إلا حديث عائشة رضي الله عنها لما وجب به الغسل لأنه ليس فيه إلا فعلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا وليس في هذا الحديث إيجاب الغسل وإنما فيه أن الغسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 فضل فقط وقد روي وصح أنه عليه السلام كان ربما اغتسل بين كل وطأتين وليس ذلك واجبا فلو لم يكن هنا إلا قول عائشة رضي الله عنها لكان اغتساله عليه السلام من الإكسال كاغتساله بين كل وطأتين ولا فرق وإنما هو عمل يؤجر من ائتسى به عليه السلام ولا يأثم من لم يفعله غير راغب عنه وبالله تعالى التوفيق وقالوا نرجح أحد الخبرين على الآخر بأن يكون أحد المختلفين استعمل كل واحد من الخبرين في موضع الخلاف فيكون أولى ممن لا يستعملها ومثلوا ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل مع قوله عليه السلام الأيم أحق بنفسها من وليها قال علي وهذا الذي ذكروا لا معنى له بوجه من الوجوه هو كلام ساقط زائف لأنه ليس عمل أحد الخصمين حجة على الآخر إلا أن يأتي ببرهان يصحح عمله وأما الحديثان اللذان ذكروا فإنما حملناهما على ظاهرهما فأبطلنا نكاح كل امرأة نكحت بغير إذن مواليها ثيبا كانت أو بكرا على عموم الحديث وظاهر لفظه المفهوم منه في بطلان نكاحها بغير إذنهم وهو الذي لا يحل لأحد تعديه وقلنا الأيم أحق بنفسها من وليها في اختيار نكاح من شاءت والإذن فيه أورده فلا اعتراض لوليها في ذلك عليها ولا على كل بالغ من بكر ذات أب أو يتيمة بأحاديث أخر وآي مضافة بعضها إلى بعض فاستثنينا الإنكاح وحده وهو المنصوص عليه من سائر أحوالها لأنه الأخص فاستثني من الأعم وكانت أحق بنفسها في سائر أمورها كلها من وليها حاشا عقد الإنكاح وحده وهذا هو لفظ الحديثين نصا بلا مزيد وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يعضده قول الأئمة والآخر يعضده قول غيرهم فيكون الذي أيده قول الأئمة أولى ومثلوا لذلك بالتكبير في العيدين سبعا في الأولى وخمسا في الثانية وبما روي من طريق حذيفة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 تكبير ثلاث في الأولى قبل القراءة وأربع في الثانية بعد القراءة قال علي وهذا لا معنى له لما قد أبطلناه في باب إبطال الاحتجاج بعمل أهل المدينة من هذا الباب وبما قد أبطلناه من القول بالتقليد في باب التقليد من هذا الكتاب وإنما أخذنا بتكبير سبع وخمس لأنه فعل في الخير زائد وذكر لله تعالى ولأن الخبر المروي في ذلك لا بأس به وأما خبر حذيفة فليس يقوم بسنده حجة لما سنبينه في أمر موضعه من الكلام في أشخاص الأحاديث إن شاء الله وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون يميل إليه الأكثر من الناس قال علي وهذا لا معنى له لما سنبينه في باب الإجماع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ولأن كثرة القائلين بالقول لا تصحح ما لم يكن صحيحا قبل أن يقولوا به وقلة القائلين بالقول لا تبطل ما كان حقا قبل أن يقول به أحد وقد بينا هذا جدا في باب إبطال قول من رجح الخبر بعمل أهل المدينة في آخر هذا الباب وأيضا فإن القول قد يكثر القائلون به بعد أن كانوا قليلا ويقلون بعد أن كانوا كثيرا فقد كان جميع أهل الأندلس على مذهب الأوزاعي رحمه الله ثم رجعوا إلى مذهب مالك وقد كان جمهور أهل إفريقية ومصر على مذهب أبي حنيفة وكذلك أهل العراق ثم غلب على إفريقية مذهب مالك وعلى مصر والعراق مذهب الشافعي فيلزم على هذا أن القول إذا كثر قائلوه صار حقا وإذا قلوا كما ذكرنا عاد باطلا وهذا هو الهذيان نفسه وقد احتج نصراني على مسلم بكثرة أهل القسطنطينية وأنهم لم يكونوا لتجتمع تلك الأعداد على باطل وهذا لا يلزم لمن رجح الأقوال بالكثرة ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول بل الحق حق وإن لم يقل به أحد والباطل باطل ولو اتفق عليه جميع أهل الأرض قال علي ويكفي من كشف غمة من اغتر بالكثرة أن نقول له لا تغتر بكثرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 من ترى من أصحاب المذاهب فإنما هم ثلاثة رجال فقط مالك والشافعي وأبو حنيفة ولا مزيد فقد حصلنا من كل ما نرى على ثلاثة رجال فقط وبالله تعالى التوفيق وهم يخالفون هذا كثيرا لأنهم أخذوا بقول زيد في إبطال الرد على ذوي الأرحام وتركوا قول عمر وعثمان وعائشة وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين في ذلك وأخذوا بقول من قال إن القرء هو الطهر وإنما قال به نحو ثلاثة من الصحابة والجمهور على أنه الحيض وقد ترك أيضا أصحاب أبي حنيفة قول الجمهور في أشياء كثيرة وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يعضد أحدهما خبر مرسل قال علي وهذا لا معنى له لأن المرسل في نفسه لا تجب به حجة فكيف يؤيد غيره ما لا يقوم بنفسه وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون راوي أحدهما أشد تقصيا للحديث ومثلوا ذلك بحديث جابر يعني الحديث الطويل في الحج قال علي هذا لا معنى له لأن من حفظ أشياء كثيرة فليس ذلك بمانع أن يحفظ غيره بعض ما غاب عنه مما جرى في تلك الأشياء التي حفظ أكثرها وقد سمع أنس والبراء وحفصة من فم النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحجة ما لم يسمع جابر وثقفوا ما لم يثقفه جابر فالواجب قبول الزيادة التي عند هؤلاء على ما عند جابر وقبول الزيادة التي عند جابر على ما عند هؤلاء فنأخذ بروايتهم كلها ولا نترك منها شيئا وكلهم عدل صادق وهذا الذي لا يجوز غيره وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما مكشوفا ويكون الآخر فيه حذف فنأخذ بالمكشوف ومثلوا ذلك بقوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} مع قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 قالوا لأن هذه الأخيرة فيها حذف كأنه قال تعالى فإن أحصرتم فأحللتم قال علي وهذا الذي ذكروا خطأ لأن آية الإحصار أخص من آية الإتمام لأن المحصرين هم بعض المعتمرين والحجاج فواجب ضرورة أن يستثنوا منهم مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من قوله عليه السلام من كسر أو عرج فقد حل والحذف الذي ذكروا لا يعتد به إلا جاهل لأن ما تيقن فقد يحذف في كلام العرب كثيرا عن ذلك قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} فلا خلاف بين أحد من الأمة في أن في هذه الآية حذفا كأنه قال تعالى أو على سفر فأحدثتم لأن كون المرء مريضا أو مسافرا لا يوجب عليه وضوءا إلا أن يحدث ومن ذلك قوله تعالى {لا يؤاخذكم لله بللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم لأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون} لا يختلف مسلمان في أن في هذه الآية حذفا وأن معناه إذا حلفتم فحنثتم أو أردتم الحنث كلا المعنيين قد قال به قوم لأن الحلف لا يوجب كفارة إلا بالحنث أو بإرادته ومن ذلك قوله عز وجل {وقطعناهم ثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينآ إلى موسى إذ ستسقاه قومه أن ضرب بعصاك لحجر فنبجست منه ثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم لغمام وأنزلنا عليهم لمن ولسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} {فأوحينآ إلى موسى أن ضرب بعصاك لبحر فنفلق فكان كل فرق كلطود لعظيم} لا خلاف عند ذي عقل في أن في كلتا الآيتين حذفا وأنه كأنه تعالى قال فضرب فانفلق وضربت فانبسجت فمثل هذا الحذف لا يتعلل به في كلام الله تعالى وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام كل متكلم إلا جاهل مظلم الجهل لا علم له بمواقع اللغة وهو كالمذكور الذي لم يحذف سواء بسواء ومن ذلك أيضا قوله {كل من عليها فان} ونحن نقول في كل وقت قال تعالى وقال عليه السلام ولا يذكر اسم الله تعالى في ذلك ولا اسم نبيه صلى الله عليه وسلم اكتفاء منا بفهم السامع وأن ذلك لا يخيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 عليه البتة وكذلك قال تعالى {فقال إني أحببت حب لخير عن ذكر ربي حتى توارت بلحجاب} ولم يذكر الشمس اكتفاء بأن السامع قد علم المراد ضرورة وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما ورد في لفظه حكمه والآخر لم يرد في لفظه حكمه ومثلوا ذلك بقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وقوله عليه السلام أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وقوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق قال علي ليس في قوله عليه السلام ورفع القلم عن ثلاث ما يوجب سقوط الحقوق عن أموالهم وإنما فيه سقوط العبادات عن أبدانهم وقد قالوا بإخراج الديات والأروش وزكاة ما خرج من الأرض من مال الصبي والمجنون وهو داخل في جملة الأغنياء وأسقطوا عنه زكاة الناض تحكما بلا برهان فهلا قاسوا وجوب زكاة الناض عليه بوجوب زكاة ما أخرجت ثماره وبوجوب زكاة الفطر عليه وهم يدينون الله تعالى بالقياس ويعصون أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن هكذا يتناقض من اتبع السبل فتفرقت بهم عن سبيل الله وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون مؤثرا في الحكم والآخر غير مؤثر ومثلوا ذلك بالاختلاف في زوج بريرة أحرا كان أم عبدا قال علي وهذا لا يعقل لأن التأثير الذي ذكروا تحكم بلا دليل وليس في كونه عبدا ما يمنع من تخييرها تحت الحر وحتى لو اتفق النقلة كلهم على أنه كان عبدا لما أوجب ذلك ألا تخيير تحت حر إذا جاء ما يوجب ذلك وإنما نص النبي صلى الله عليه وسلم على تخيير الأمة المتزوجة إذا أعتقت ولم يقل عليه السلام إنما خيرتها لأنها تحت عبد فوجب بالنص تخيير كل أمة متزوجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 إذا أعتقت ولا نبالي تحت من كانت وليس من قال إنها خيرت لأنها كانت تحت عبد بأولى ممن قال بل لأنها كانت أسود وكل هذا لا معنى له فكيف ولا اختلاف في الروايات وكلها صحيح فالذي روى أنه كان عبدا أخبر عن حاله في أول أمره والذي روى أنه كان حرا أخبر بما صار إليه وكان ذلك أولى لأنه كان عنده علم من تحريره زائدا على من لم يكن عنده علم ذلك وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون منقولا من طرق بألفاظ شتى والآخر لم ينقل إلا من طريق واحد ومثلوا ذلك بحديث وابصة بن معبد الأسدي في إعادة المنفرد خلف الصف وبحديث أبي بكرة في تكبيره دون الصف وحديث ابن عباس في رده عليه السلام إياه عن شماله إلى يمينه وحديث صلاة جدة أنس منفردة خلف النبي صلى الله عليه وسلم قال علي أما كثرة الرواة فقد قدمنا إبطال الاحتجاج بها لأنهم يتركون أكثر ما نقله أهل الأرض برهم وفاجرهم وهو ظاهر القرآن لما نقله واحد فكيف يجوز لمن فعل ذلك أن يغلب ما نقله ثلاثة على ما نقله واحد وليس في التناقض وقلب المعقول أكثر من هذا وأما الأحاديث التي ذكروا فلا حجة لهم فيها وبعضها حجة عليهم أما حديث أبي بكرة فقد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك نصا وقال له زادك الله حرصا ولا تعد فنهاه عن العودة إلى التكبير خلف الصف وحده ولم يأمره عليه السلام بإعادة الصلاة قال قوم لأن أبا بكرة جهل الحكم في ذلك قبل أن يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن فعله ذلك لا يجوز فأعلمه بنهيه إياه عن أن يعود لذلك كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أساء الصلاة في حديث رافع بالإعادة مرة بعد مرة فلما قال له يا رسول الله والله ما أدري غير هذا فعلمني فعلمه ولم يأمره حينئذ الإعادة ولو أن أبا بكرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 يعود لما نهاه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبطلت صلاته بلا شك لأنه كان يكون مؤديا لصلاة لم يؤمر بها غير الصلاة التي أمر بها بحكم ضرورة العقل وقد قال عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن خبر أبي بكرة موافق لمعهود الأصل في إباحة الصلاة حيث شاء وأنه حينئذ ثبت الأمر بالمنع من الصلاة خلف الصف فجازت صلاته الكائنة قبل ورود الأمر ولزم النهي عنه في المستأنف ولأن النهي عن الصلاة خلف الصف أمر وارد وحكم زائد وشرع حادث بلا شك فهو ناسخ للإباحة المتقدمة بيقين وأما الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة بعد قوله ارجع فصل فإنك لم تصل فإن الأمر بالصلاة ثابت عليه ولا بد ولازم حتى يؤديه كما أمره عليه السلام وليس في ذلك الخبر أنه عليه السلام أسقط عنه لجهله ما كان أمره به من الصلاة ما دام وقتها قائما فلا يجوز أن يسقط أمر متيقن بظن كاذب وبالله تعالى التوفيق وأما حديث جدة أنس بن مالك فإنما ذلك حكم النساء وهكذا نقول إن حكم النساء في ذلك مخالف لحكم الرجال وإن حكم المرأة والنساء ألا يصلين مع رجل في صفه وهذا ما لا خلاف فيه فأخذنا بحديث جدة أنس بن مالك في النساء وبحديث وابصة في الرجال لأنه جاء منصوصا في رجل صلى خلف الصف فأخذنا بكلا الحديثين وأطعنا أمره عليه السلام في جميع الوجهين ولم نعص شيئا من أحكامه عليه السلام ولا ضربنا بعضها ببعض ولا أبطلنا بعضها ببعض ولم نجعل فيها اختلافا وليس من ترك حديث وابصة لحديث جدة أنس بأولى من أن يكون مصيبا ممن ترك حديث جدة أنس لحديث وابصة فأبطل ذلك على المرأة كإبطاله على الرجل وكل ذلك لا يجوز وليس أحد الحديثين أولى بالطاعة من الآخر والغرض أن يستعملا جميعا فيما ورد فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 فيؤمر الرجل الذي يصلي خلف الصف وحده بالإعادة ولا تؤمر المرأة وأما حديث ابن عباس فإنه كبر مع النبي صلى الله عليه وسلم منفردا في مكان لا يصلح له الوقوف فيه وهو جاهل بذلك غير عالم بالسنة فيه فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي حقه أن يقف فيه ولم يبطل ما عمل متأولا بغير علم وكذلك نقول في الرجل المأمور بالإعادة إنه لولا أن النهي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد تقدم عن ذلك لما أمر بالإعادة وقد اعترض بعضهم باعتراضين غثين فقالوا لعل أمر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ألا يعود إنما كان من سعيه بالكد إلى الصلاة فقيل لهم نعم كذلك نقول إنه عليه السلام نهاه بقوله لا تعد عن كل عمل عمله على غير الواجب وكان من أبي بكرة رضي الله عنه في ذلك الوقت أعمال منهي عنها أحدها سعيه إلى الصلاة والثاني تكبيره دون الصف والثالث مشيه في الصلاة فعن كل ذلك نهاه عليه السلام بقوله ولا تعد لا سيما وقد روينا نص قولنا بلا إشكال كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن جعفر ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال السلمي حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي عن عبد الله بن بدر عن عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه علي بن شيبان قال صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى الصلاة ورجل فرد يصلي خلف الصف فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قضى الرجل صلاته ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل صلاتك فإنه لا صلاة لفرد خلف الصف والاعتراض الثاني أن قالوا لعل المأمور بالإعادة إنما أمره عليه السلام بذلك لعمل ما غير انفراده في الصف فقيل لهم هذا تكهن لا دليل عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 والراوي الذي نقل ذلك من الصحابة رضي الله عنهم إنما أخبر أن سبب أمره بالإعادة كان انفراده ولم يذكر غير ذلك وقد قال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} ولو ساغ هذا لساغ لغيرهم أن يقول لعل ما روي من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وشم في الوجه ومن غير منار الأرض إنما لعنه لأمر ما غير هذين الفعلين ولعله عليه السلام جلد الأمة التي زنت ورجم ماعزا ورجم الغامدية لغير الزنى ولشيء ما لم يذكر لنا ومثل هذا من الاعتراض فإنما هو عناد ظاهر وجهل شديد وإن العجب ليطول من أصحاب أبي حنيفة الذين يأمرون المرأة إذا صلت مع الرجل إلى جنبه أن يعيد الرجل ومن أصحاب مالك الذين يأمرون الإمام إذا صلى في مكان مرتفع والناس تحته أن يعيد فإن سئلوا عن الحجة في ذلك قالوا لأنهما صليا حيث لم يبح لهما ولا يأمرون المنفرد خلف الصف والمصلي في مكان مغصوب بالإعادة وكلاهما قد صلى على الحقيقة في مكان لم يبح له بلا شك وأما الإمام المصلي في المكان المرتفع والرجل الذي صلت المرأة إلى جنبه بصلاته وهو غير راض بذلك فما صليا إلا كما أمر وكما أبيح لهما فلو عكس هؤلاء القوم أكثر مذاهبهم لأصابوا فكيف وقد صح نص قولنا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا عبد الله بن ربيع قال حدثنا محمد بن إسحاق بن السليم حدثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا حميد بن مسعدة أن يزيد بن زريع حدثهم قال ثنا سعيد بن أبي عروبة عن زياد الأعلم قال أنبأنا الحسن وهو البصري أن أبا بكرة حدثه قال إنه دخل المسجد ونبي الله صلى الله عليه وسلم راكع فركعت دون الصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم زادك الله حرصا ولا تعد قال علي وحتى لو صح هذا الترجيح الفاسد الذي ذكرنا في أول كلامنا هذا لكان حديث وابصة هو الذي يجب أن يؤخذ به لأن الأحاديث الواردة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 من طرق جمة وألفاظ شتى في تسوية الصفوف وإيجاب ذلك والوعيد الشديد على خلافه مؤيدة كلها لحديث وابصة وموافقة له ومبطلة لصلاة من لم يقم الصف من الرجال وكل من صلى وحده منفردا خلف الصف فلم يقم الصف وتلك الأحاديث التي ذكرناها رواها جابر بن سلمة وأبو مسعود البدري وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك والنعمان بن بشير وأبو هريرة من طرق في غاية الصحة وروي ذلك أيضا من طريق ابن عمرو وأبي مالك الأشعري والعرباض بن سارية والبراء بن عازب كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرنا أن حديث أبي بكر موافق لحديث وابصة فثبت حديث وابصة لا معارض له وصار بكثرة من ذكرنا من رواة معناه والحكم الواجب فيه منقولا نقل التواتر موجبا للعلم الضروري لأنه رواه اثنا عشر صاحبا منهم الكوفي والبصري والرقي والشامي والمدني من طرق شتى وهذه صفة نقل الكافة وبالله تعالى التوفيق وقالوا نرجح أحد النصين بأن يكون أحدهما أبعد من الشناعة ومثلوا ذلك بقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} الآية مع قوله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} قال علي وهذا لا معنى له ولا شناعة إلا المخالفة لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم والتحكم بالآراء الفاسدة على ما أمرنا به فهذه هي الشنعة التي لا شنعة غيرها وقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} مستثنى من آية النهي عن قبول خبر الواحد الفاسق فلا يقبل فاسق أصلا إلا في الوصية في السفر فقط فإنه يقبل فيها كافران خاصة دون سائر الفساق ولا شنعة أعظم ولا أفحش ولا أقبح ولا أظهر من بطلان قول من قال {يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} أي من غير قبيلتكم تعالى الله عن هذا الهذر علوا كبيرا وليت شعري أي قبيلة خاطب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الله عز وجل بهذا الخطاب خاصة دون سائر القبائل وقد قال تعالى في أول الآية {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} وما علمنا الذين أمنوا قبيلة بعينها بل في الذين آمنوا عرب وفرس وقبط ونبط وروم وصقلب وخزر وسودان حبشة وزنج ونوبة وبجاة وبربر وهند وسند وترك وديلم وكرد فثبت بضرورة لا مجال للشك فيها أن غير الذين آمنوا هم الذين كفروا ولا ينكر ذلك إلا من سفه نفسه وأنكر عقله وقال على ربه تعالى بغير علم ولا برهان ولعمري لقد كان ينبغي أن يستحي قائلمن غيركم من غير قبيلتكم من هذا التأويل الساقط الظاهر عواره الذي ليس عليه من نور الحق أثر والعجب يكثر من أصحاب أبي حنيفة الذين يقبلون اليهود والنصارى في جميع الحقوق بعضهم على بعض وقد نهاهم الله تعالى عن قبول الفاسقين ثم لا يقبلونهم في الوصية في السفر وقد جاء نص القرآن بقبولهم فيها وحسبنا الله وما عسى أن يقال في هذا المكان أكثر من وصف هذا القول البشيع الشنيع الفظيع فإن ذكره كاف من تكلف الرد عليه وبالله تعالى التوفيق وقالوا ونرجع بأن يكون الاشتقاق يؤيد أحد النصين ومثلوا ذلك بالشفق وادعوا أن اشتقاقه يؤيد أنه الحمرة قال علي ما سمعنا هذا في علم اللغة ولا علمناه ولا سمع لغوي قط أن الشفق مشتق من الحمرة وإنما عهدنا الشعراء يسمون الحمرة والبياض المختلطين في الجدود بالشفق على سبيل التشبيه فقط وإنما قلنا إن وقت العشاء الآخرة يدخل بمغيب الحمرة لأن الحمرة تسمى شفقا والبياض يسمى شفقا فمتى غاب ما يقع عليه اسم شفق من حمرة أو بياض فقد غاب الشفق ودخل وقتها الخبر في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو القول بالعموم والظاهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وأما من قال حتى يغيب كل ما يسمى شفقا فقد خصص الحديث بلا معنى ولا برهان وادعى أن المراد بذلك بعض ما يسمى شفقا وهو البياض وأنه قد يغيب الشفق ولا يكون ذلك وقتا للعتمة وذلك مغيب الحمرة وهذا تخصيص للحديث بلا دليل وإنما بينا هذا لئلا يموه مموه فيقول لنا أنتم خصصتم الظاهر في هذا المكان ولئلا يدعوا أنهم قالوا بعمومه في هذا المكان وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما يضيف إلى السلف نقصا والآخر لا يضف إليهم ذلك فيكون الذي لا يضيف إليهم ذلك النقص أولى ومثلوا ذلك بمثال لا يصح فذكروا حديثين وردا في إعادة الوضوء من القهقهة في الصلاة وفي إسقاط الوضوء منها وكلا الحديثين ساقط لا يصح أحدهما رواه الحسن بن دينار وهو ضعيف وروي مرسلا من طريق أبي العالية وقد بينا أن المرسل لا تقوم به حجة والآخر رواه أبو سفيان عن جابر وأبو سفيان طلحة بن نافع ضعيف ولكنا نمثل في ذلك مثالا يصح وذلك الحديث المروي أن امرأة مخزومية سرقت فشفع فيها أسامة ألا تقطع يدها فأنكر عليه السلام على أسامة رضي الله عنه وقال له يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى وروي أيضا أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها فشفع فيها أسامة فقال من رجح إحدى الروايتين بما ذكرنا محال أن يزجر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة عن أن يشفع في حد ثم يعود لمثل ذلك فراموا أن يثبتوا بذلك أنها قصة واحدة وامرأة واحدة وأنها قطعت للسرقة لا لجحد العارية قال علي هذا لا معنى له ولا حجة فيه لأننا لم نقل إن أسامة رضي الله عنه أقدم على ذلك وهو يعلمه حدا وليس في الحديث زجر وإنما فيه تعليم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 ولسنا ننكر على أسامة وغير أسامة جهل شريعة ما حتى يعلمه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قال في خبر ورد في سارقة وخبر ورد في مستعيرة إنها قصة واحدة فقد كان كابر وقال بغير برهان وقفا ما ليس له به علم وأما نحن فنقول يقينا بغير شك إن حال المستعيرة غير حال السارقة وإن العارية والجحود غير السرقة وإنهما قضيتان متغايرتان بلا شك ثم لسنا نقطع على أنهما امرأتان ولا على أنها امرأة واحدة لأن كل ذلك ممكن وقد يمكن ولو كانت امرأة واحدة أن تكون سرقت مرة فقطعت يدها ثم استعارت فجحدت فقطعت يدها الثانية والله تعالى أعلم وإنما نقول ما روينا وصحح عندنا ولا نزيد من رأينا ما لم نسمع ولا قام به برهان فنحصل في حد الكذب ونعوذ بالله من ذلك إلا أننا نقول إنا قد روينا بالسند الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يد امرأة استعارت المتاع وجحدته فنحن نقطع يد كل مستعير جاحد إذا قامت عليه بذلك بينة أو علم بذلك الحاكم أو أقر هو بذلك ونقول قد روينا أنه عليه السلام قطع يد من سرق فنحن نقطع يد من سرق إذا ثبت عليه شيء مما ذكرنا هذا على أن حديث قطع المستعيرة قد روي من غير طريق عائشة رضي الله عنها بسند صحيح ليس فيه ذكر شفاعة أسامة ولا شيء مما في حديث السارقة وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ولهم ترجيحات فاسدة جدا والتي ذكرنا تستوعبها كلها وقد بينا سقوطها بالبراهين الواضحة وبتعري دعاويهم من الأدلة وعلى ذلك فكل ما رجحوا به في مكان ما فقد تركوه في أمكنة كثيرة وقد بينا الوجوه التي بها يرفع التعارض المظنون عن النصوص من القرآن والحديث بيانا لائحا والحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 فصل فيمن قال لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر والرد عليه قال علي قد بينا فيما قبل هذا بحول الله تعالى وقوته كيف يستثنى ما جاء في الحديث مما جاء في القرآن وما جاء في القرآن مما جاء في الحديث وما جاء في كل واحد منهما من خاص مما جاء فيهما من عام ووجه الأخذ بالزائد في كل ذلك وذكر تخبط من خالف تلك الطريقة في حيرة التناقض وغلبة الشكوك على أقوالهم وبقي من خبال قولهم شيء نذكره ههنا إن شاء الله تعالى وهو أن بعضهم رأى أن يرد بعض ما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قد أخذ بمثله فيما بين من المواضع فقال لا يجوز تخصيص القرآن بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد بينا فيما خلا أن القوم إنما حسبهم نصر المسألة التي بين أيديهم فقط بأي شيء أمكنهم وإن هدموا على أنفسهم ألف مسألة مما يحتجون به في هذه ثم لا يبالون إذا تناولوا مسألة أخرى أن يحققوا ما أبطلوا في هذه ويبطلوا ما حققوا فيها فهم أبدا كما ترى يحلونه عاما ويحرمونه عاما ولقد كان ينبغي لمن ترك قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} لحديث الوضوء بالنبيذ المسكر الحرام وهو لا يصح أبدا ولمن ترك قول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لقصاص في لقتلى لحر بالحر ولعبد بلعبد ولأنثى بلأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فتباع بلمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن عتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} فقال بل يتبعه بالضرب بالسياط والنفي في البلاد ومثل هذا كثير أن يستحي من أن يقول لا أخصص القرآن بالحديث الصحيح الذي نقله الثقات وإن العجب ليطول ممن أبى قبول خبر الواحد في الحكم باليمين مع الشاهد وفي تمام صيام الآكل ناسيا وفي التحريم بخمس رضعات وفي قضاء الصيام عمن مات وعليه صوم وفي ألا يحنط المحرم الميت وفي مئين من الأحكام ثم لا يستحي من أن يقول لا أجلد الزاني المحصن وقد جاء القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 بجلد كل زان ولم يخص محصنا من غيره فقال تعالى {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} ولم يخص تعالى من ذلك إلا الإماء والعبيد فقط فتركوا القرآن كما ترى والسنة الصحيحة من طريق عبادة في إيجاب الجلد على الزاني محصنا كان أو غير محصن لظن ظنوه في أن ماعزا رجم ولم يجلد وقد علمنا وجه قول المعتزلة لا نأخذ بالحديث إلا حتى نجد حكمه في القرآن وما علمنا وجها لقول من قال لا نأخذ بالقرآن حتى يأتي حكمه في الحديث وهذا هو نفس قول إخواننا وفقهم الله في هذا المسألة وإنما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجلد ماعزا من طريق ساقطة لا يقوم به حجة وقد فعل مثل ذلك أيضا بعضهم فسمع القرآن قد نزل بقوله تعالى {فإذا قرأت لقرآن فستعذ بلله من لشيطان لرجيم} فقالوا لا نستعيذ إذا قرأنا في الصلاة لأنه لم يأت خبر بإيجاب الاستعاذة فمرة يتركون الأخبار الصحاح لأنها لم تذكر أحكامها في القرآن ومرة يتركون القرآن لأن حكمه لم يأت به خبر فأين تطلب مذاهب هؤلاء القوم وكيف يستجيزون هذه العظائم الشنيعة التي لا تطرد مع خطئها وعدم الحجة عليها وقيام البرهان على بطلانها وقد اعترض بعضهم في ترك الاستعاذة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح القرآن بالحمد لله رب العالمين قال علي وهذا من غريب احتجاجهم وليت شعري متى قلنا لهم إن الاستعاذة قراءة يحتجون علينا بها وإنما قلنا لهم إن الاستعاذة قبل القراءة وبعد ما روي من التوجيه والدعاء أثر التكبير وأما استفتاح القراءة فبالحمد لله رب العالمين بلا شك ولا نقول غير ذلك قال علي فإن قالوا لنا أتقولون إن ماعزا جلده النبي صلى الله عليه وسلم وأنه عليه السلام كان يستعيذ قبل القراءة في الصلاة قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 إنا نقول ونقطع أن الله عز وجل قد أمر بجلد كل زان على كل حال وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم على الزاني المحصن بالجلد مع الرجم وأنه عليه السلام لم يخالف ربه قط ولا شك عندنا في أن ماعزا جلد مع الرجم ولا ندري إن كان أمره بعد ورود النص بالجلد مع الرجم وقد يمكن أن يكون رجمه قبل نزول آية الجلد فقد روينا بأصح طريق أنه قيل لبعض الصحابة رضوان الله عليهم في رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصن والمحصنة أكان ذلك قبل نزول سورة النور أم بعد نزولها فقال لا أدري فصح قولنا وكذلك فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وكذلك نقول أيضا إن الله عز وجل قد أمر كل قارىء بالاستعاذة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخالف أمر ربه قط ولا شك عندنا في وجوب الاستعاذة في الصلاة وقد استعاذ قبل القراءة جماعة من الصحابة روينا ذلك عنهم بالسند الصحيح وما روي إنكار ذلك عن أحد منهم ولا يبطل ما صح بقول القائل لعله نسخ ولا بأن يروى أنه عليه السلام كرره وكذلك إن كان أمرا فلا يبطل بألا يروى أنه عليه السلام فعله وقد بينا أن الأمر ساعة وروده يلزم ما لم يتيقن نسخه ولو كان الأمر لا يصح إلا بأن يكرر للزم مثل ذلك في التكرار وفي تكرار التكرار إلى ما لا نهاية له وللزم مثل ذلك في الأفعال فكان لا تصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 شريعة أبدا وهذا قول يؤدي إلى إبطال جميع الشرائع وإلى الكفر وليس الأمر الثاني بأوكد من الأول أصلا قال علي ثم نعكس عليهم هذا السؤال الفاسد فنقول لمن كان منهم مالكيا أتقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الزكاة من زيت الفجل ومن الفول والعلس ومن عروض التجارة وقد كان ذلك موجودا بالمدينة وكانت التجارة هي الغالبة على المهاجرين ومعاش جميع أهل مكة لا نحاشي منهم أحدا في أيامه عليه السلام وهل حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في الثمار وقد كانت تتبايع على عهده بالمدينة بلا شك ونقول له إن كان حنفيا أتقول إنه عليه السلام أخذ الزكاة من القثاء والرمان والخضروات والقطن ونقول لمن كان منهم شافعيا هل تقول إنه عليه السلام بسمل ولا بد في كل ركعة قبل أم القرآن فإن قالوا قد قام الدليل على كل ما ذكرنا ولا ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما أوجبه القرآن وخلاف ما جاء به أمره قلنا لهم هذا قولنا نفسه في جلد ماعز وفي الاستعاذة فإن قالوا نعم قد فعل ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا ما لم يأت في شيء من الروايات أنه فعله عليه السلام فلا ينكروا هذا على من قاله فيما جاء به نص كلام الله عز وجل وإن قالوا لم يفعله عليه السلام ولكنا أوجبناه بالدلائل أقروا على أنفسهم بالكفر وبإحداث شريعة لم يأذن بها الله تعالى ولا علمها الرسول صلى الله عليه وسلم وصرحوا بأن النبي عليه السلام خالف أمر ربه جاهرا وضيع الواجب وأنهم استدركوا ذلك وعملوا بأمر ربهم وهذا لا يقوله مسلم والله الموفق للصواب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقنا قال علي وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع قد صح بما فيه متيقنا منقولا جيلا فجيلا فإن كان هذا علمنا أنه منقول نقل كافة كنقل القرآن فاستغني عن ذكر السند فيه وكان ورود ذلك المرسل وعدم وروده سواء ولا فرق وذلك نحو لا وصية لوارث وكثير من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم وإن كان قوم قد رووها بأسانيد صحاح فهي منقوله نقل الكافة كشق القمر مع أنه مذكور في القرآن وكإطعامه النفر الكثير من الطعام اليسير وكسقيه الجيش من ماء يسير في قدح وكصبه وضوءه في البئر فانثالت بماء عظيم بتبوك وكرميه التراب في عيون أهل حنين فأصابت جميعهم وهي مذكورة في القرآن وأما المرسل الذي لا إجماع عليه فهو مطروح على ما ذكرنا لأنه لا دليل عن قبوله البتة فهو داخل في جملة الأقوال التي إذا جمع عليها قبلت وإذا اختلفت فيها سقطت وهي كل قولة لم يأت بتفصيلها باسمها نص ومن قال بذلك دون برهان كان عاصيا لقول الله تعالى {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} قال علي وإن العجب ليكثر من الحنفيين والمالكيين فإنهم يأبون قبول خبر الواحد في عدة مواضع ويقولون قد جاء القرآن بخلافها نعم ويتركونها والقرآن موافق لها على ما قد ذكرنا ثم يتركون القرآن لنقل لا أحد فإن قال قائل وكيف ذلك قلنا له وبالله تعالى التوفيق إنهم يقولون كثيرا بالمرسل وهو نقل لا أحد لأن المسكوت عن ذكره المجهول حاله هو ومن هو معدوم سواء وبالله تعالى التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح قال علي وقد أجاز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون الإجماع على خلافه قال وذلك دليل على أنه منسوخ قال علي وهذا عندنا خطأ فاحش متيقن لوجهين برهانيين ضروريين أحدهما أن ورود حديث صحيح يكون الإجماع على خلافه معدوم لم يكن قط ولا هو في العالم فمن ادعى أنه موجود فليذكره لنا ولا سبيل له والله إلى وجوده أبدا والثاني أن الله تعالى قد قال {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} فمضمون عند كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن ما تكفل الله عز وجل بحفظه فهو غير ضائع أبدا لا يشك في ذلك مسلم وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كله وحي بقوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} والوحي ذكر بإجماع الأمة كلها والذكر محفوظ بالنص فكلامه عليه السلام محفوظ بحفظ الله عز وجل ضرورة منقول كله إلينا لا بد من ذلك فلو كان هذا الحديث الذي ادعى هذا القائل أنه مجمع على تركه وأنه منسوخ كما ذكر لكان ناسخه الذي اتفقوا عليه قد ضاع ولم يحفظ وهذا تكذيب لله عز وجل في أنه حافظ للذكر كله ولو كان ذلك لسقط كثير مما بلغ عليه السلام عن ربه وقد أبطل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله في حجة الوداع اللهم هل بلغت قال علي ولسنا ننكر أن يكون حديث صحيح وآية صحيحة التلاوة منسوخين بحديث آخر صحيح وإما بآية متلوة ويكون الاتفاق على النسخ المذكور قد ثبت بل هو موجود عندنا إلا أننا نقول لا بد أن يكون الناسخ لهما موجودا أيضا عندنا منقولا إلينا محفوظا عندنا مبلغا نحونا بلفظه قائم النص لدينا لا بد من ذلك وإنما الذي منعنا منه فهو أن يكون المنسوخ محفوظا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 منقولا مبلغا إلينا ويكون الناسخ له قد سقط ولم ينقل إلينا لفظه فهذا باطل عندنا لا سبيل إلى وجوده في العالم أبد الأبد لأنه معدوم البتة قد دخل بأنه غير كائن في باب المحال والممتنع عندنا وبالله تعالى التوفيق فصل ليس كل قول الصحابي إسنادا قال علي وإذا قال الصحابي السنة كذا وأمرنا بكذا فليس هذا إسنادا ولا يقطع على أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينسب إلى أحد قول لم يرو أنه قاله ولم يقم برهان على أنه قاله وقد جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهانا عمر فانتهينا وقد قال بعضهم السنة كذا وإنما يعني أن ذلك هو السنة عنده على ما أداه إليه اجتهاده فمن ذلك ما حدثناه حمام ثنا الأصيلي ثنا أبو زيد المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أحمد بن محمد ثنا عبد الله أنبأ يونس عن الزهري أخبرني سالم بن عبد الله قال كان ابن عمر يقول أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت وبالصفا وبالمروة ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما قابلا فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا قال أبو محمد ولا خلاف بين أحد من الأمة كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ صد عن البيت لم يطف به ولا بالصفا والمروة بل أحل حيث كان بالحديبية ولا مزيد وهذا الذي ذكره ابن عمر لم يقع قط لرسوله صلى الله عليه وسلم حدثنا حمام بن أحمد قال ثنا عياش بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن قال ثنا محمد بن إسماعيل الصايغ ثنا عبد الله بن بكر السهمي ثنا سعيد بن أبي عروبة عن مطر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 هو الوراق عن رجاء بن حيوة عن قبصه بن ذؤيب عن عمرو بن العاص قال لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها عدة الحرة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن بشار بندار ثنا يحيى هو ابن سعيد القطان ثنا عبد المجيد بن جعفر ثنا وهب بن كيسان قال اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ثم نزل فصل ركعتين ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس فقال أصاب السنة قال أبو محمد وقد صح عن ابن عباس أنه قرأ أم القرآن على الجنازة في الصلاة وجهر وقال إنها سنة كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن بشار ثنا غندر ثنا شعبة عن سعد عن طلحة قال صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب قال لتعلموا أنها سنة سعد هذا هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وطلحة هو ابن عبد الله بن عوف وروي عن أنس أنه أفطر في منزله في رمضان إذا أراد السفر قبل أن يخرج قال إنها سنة وخصومنا في هذا الموضع لا يقولون بشيء من هذا فقد نقضوا أصلهم ومن أضل ممن لا يجعل قول هؤلاء هي السنة سنة ويجعل قول سعيد بن المسيب في دية أصابع المرأة هي السنة سنة قال أبو محمد فلما وجدنا ذلك منصوصا عنهم لم يحل لنا أن ننسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئا لا نعمله فنكون قد دخلنا في نهي الله عز وجل إذ يقول {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} فمن أقدم على هذا فهو قليل الورع حاكم بالظن والظن لا يغني من الحق شيئا وهذا مذهب أهل الصدر الأول كما حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي عن عبد الملك بن عمر الخولاني عن محمد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 بكر المصري عن سليمان بن الأشعث ثنا عبد الله بن معاذ أخبرني أبي ثنا شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت استحيضت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرت أن تعجل العصر وتؤخر الظهر وتغتسل لهما غسلا وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا وتغتسل لصلاة الصبح غسلا فقلت لعبد الرحمن أعن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا أحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قال علي فهذا عبد الرحمن يحكي أنها أمرت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستجز أن يقول ومن يأمر بهذا إلا النبي صلى الله عليه وسلم لا سيما في حياته عليه السلام وإنما أقدم على القطع في هذا من قل فهمه ورق ورعه واشتغل بالقياسات الفاسدة عن مراعاة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وألفاظ القرآن وقد قال بعضهم إذا جاء عن صاحب فتيا من قوله إلا أن فيها شرع شريعة أو حدا محدودا أو وعيدا فإن هذا مما لا يقال بقياس ولا يقال إلا بتوقيف فاستدل بذلك على أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي وقائل هذا القول الساقط يقر أنهم رتبوا في الخمر ثمانين برأيهم وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك ونحن نجد أنهم رضي الله عنهم قالوا بكل ما ذكرنا بآرائهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وبعد موته فقد قال طائفة من الصحابة حبط عمل عامر بن الأكوع إذ ضرب نفسه بسيفه في الحرب فأكذب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعمر قد قال دعني أضرب عنق حاطب فقد نافق فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ذلك وفي قول عمر الذي ذكرنا إيجاب شرع في ضرب عنق امرىء مسلم وإخبار بغيب في أنه منافق ومثل هذا كثير مما سنذكره في باب إبطال التقليد إن شاء الله تعالى وكل هذا فقد يقوله المرء مجتهدا متأولا ومستعظما لما يرى فمخطىء ومصيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وإن العجب ليكثر ممن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كل ما ذكرنا بظنه الفاسد وينكر أن يكون عليه السلام جلد ماعزا وقد صح عنه عليه السلام الحكم بالجلد على المحصن مع الرجم ونزل القرآن بجلد الزناة كلهم وقد ذكر أبو هريرة حديث النفقة على الزوجة والولد والعبد فقال في آخره تقول امرأتك أنفق علي أو طلقني فقيل له أهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا ولكن هذا من كيس أبي هريرة والعجب من القائل إن مثل هذا لا يقال بالقياس نعني في مثل قول عائشة رضي الله عنها لأم ولد زيد بن أرقم أبلغني زيدا أنه إن لم يتب فقد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول بالقياس ما هو أشنع من هذا فبعضهم يفرق بين الفأرة والعصفورة الواقعين في البئر يموتان فيها وبين الدجاجة والسنور يموتان في البئر فيوجب من أحدهما عشرين دلوا ومن الآخر أربعين دلوا ويجيز بيع ثوب من ثوبين أو ثلاثة يختاره المشتري بغير عينه ولا يجيز بيع ثوب من أربعة أثواب فصاعدا يختاره المشتري ويرى القطع في الساج والقنا ولا يراه في سائر الخشب وبعضهم يفرق بين سلم بغل في بغلين وبين سلم بغلين في بغلين فيحل أحد الوجهين ويحرم الآخر وتحكمهم في الدين لو جمع لقامت منه أسفار ونحن لا ننسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما صح عنه بالنقل أو صح أن ربه تعالى أمره به ولم ينسخه عنه فقد قال عليه السلام إن كذبا علي ليس ككذب على أحد فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار قال علي وليس في تعمد الكذب أكثر من أن تسمع كلاما لم يخبرك أحد تثق به أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ولا سمعته يقوله ولا علمت أن الله تعالى أمره به فتنسبه أنت برأيك وظنك إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 قاله نعوذ بالله العظيم من ذلك فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال علي وقد ذكر قوم لا يتقون الله عز وجل أحاديث في بعضها إبطال شرائع الإسلام وفي بعضها نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإباحة الكذب عليه وهو ما حدثنا المهلب بن أبي صفرة حدثنا ابن مناس ثنا محمد بن مسرور القيرواني ثنا يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني شمر بن نمير عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيأتي ناس يحدثون عني حديثا فمن حدثكم حديثا يضارع القرآن فأنا قلته ومن حدثكم بحديث لا يضارع القرآن فلم أقله فإنما هو حسوة من النار قال أبو محمد الحسين بن عبد الله ساقط منهم بالزندقة وبه إلى ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن الأصبغ بن محمد أبي منصور أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحديث عني على ثلاث فأيما حديث بلغكم عني تعرفونه بكتاب الله تعالى فاقبلوه وأيما حديث بلغكم عني لا تجدون في القرآن ما تنكرونه به ولا تعرفون موضعه فيه فاقبلوه وأيما حديث بلغكم عني تقشعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 منه جلودكم وتشمئز منه قلوبكم وتجدون في القرآن خلافه فردوه قال أبو محمد هذا حديث مرسل والأصبغ مجهول حدثنا أحمد بن عمر ثنا ابن يعقوب ثنا ابن محلون ثنا المغامي ثنا عبد الملك بن حبيب عن مطرف بن عبد الله عن مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه لا يمسك الناس علي شيئا لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه وهذا مرسل إلا أن معناه صحيح لأنه عليه السلام إنما أخبر في هذا الخبر بأنه لم يقل شيئا من عند نفسه بغير وحي من الله تعالى به إليه وأحال بذلك على قول الله تعالى في كتابه {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فنص كتاب الله تعالى يقضي بأن كل ما قاله عليه السلام فهو عن الله تعالى وأخبرني المهلب بالسند الأول إلى ابن وهب حدثني سليمان بن بلال عن عمرو ابن أبي عمرو عمن لا يتهم عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وإني لا أدري لعلكم أن تقولوا عني بعدي ما لم أقل ما حدثتم عني مما يوافق القرآن فصدقوا به وما حدثتم عني مما لا يوافق القرآن فلا تصدقوا به وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقول ما لا يوافق القرآن وبالقرآن هداه الله قال أبو محمد وهذا مرسل وفيه عمرو بن أبي عمرو وهو ضعيف وفيه أيضا مجهول حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا حجاج بن المنهال ثنا عبد الوهاب هو الثقفي سمعت يحيى بن سعيد قال أخبرني ابن أبي مليكة أن ابن عمير حدثه أن رسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الله صلى الله عليه وسلم جلس في مرضه الذي مات فيه إلى جنب الحجر فحذر الفتن وقال إني والله لا يمسك الناس علي بشيء إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه قال علي وهذا مرسل لا يصح وفيما أخذناه عن بعض أصحابنا عن القاضي عبد الله بن محمد بن يوسف عن ابن الدخيل عن محمد بن عمرو العقيلي حدثنا محمد بن أيوب ثنا أبو عون محمد بن عون الزيادي ثنا أشعث بن بزار عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا حدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث قال علي وأشعث بن بزار كذاب ساقط لا يؤخذ حديثه وحدثنا المهلب بن أبي صفرة ثنا ابن مناس ثنا محمد بن مسرور ثنا يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني الحارث بن نبهان عن محمد بن عبد الله العرزمي عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما بلغكم عني من قول حسن لم أقله فأنا قلته قال علي الحارث ضعيف والعرزمي ضعيف وعبد الله بن سعيد كذاب مشهور وهذا هو نسبة الكذب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه حكي عنه أنه قال لم أقله فأنا قلته فكيف يقول ما لم يقله هل يستجيز هذا إلا كذاب زنديق كافر أحمق إنا لله وإنا إليه راجعون على عظم المصيبة بشدة مطالبة الكفار لهذه الملة الزهراء وعلى ضعف بصائر كثير من أهل الفضل يجوز عليهم مثل هذه البلايا لشدة غفلتهم وحسن ظنهم لمن أظهر لهم الخير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 قال علي فإحدى الطائفتين أبطلت الشرائع والأخرى أباحت الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كلتا هاتين الطائفتين وهاتين المسألتين ونقول للأولى أول ما نعرض على القرآن الحديث الذي ذكرتموه فلما عرضناه وجدنا القرآن يخالفه قال الله تعالى {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} وقال تعالى {من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا} وقال تعالى {إنآ أنزلنا إليك لكتاب بلحق لتحكم بين لناس بمآ أراك لله ولا تكن للخآئنين خصيما} ونسأل قائل هذا القول الفاسد في أي قرآن وجد أن الظهر أربع ركعات وأن المغرب ثلاث ركعات وأن الركوع على صفة كذا والسجود على صفة كذا وصفة القراءة فيها والسلام وبيان ما يجتنب في الصوم وبيان كيفية زكاة الذهب والفضة والغنم والإبل والبقر ومقدار الأعداد المأخوذ منها الزكاة ومقدار الزكاة المأخوذة وبيان أعمال الحج من وقت الوقوف بعرفة وصفة الصلاة بها وبمزدلفة ورمي الجمار وصفة الإحرام وما يجتنب فيه وقطع يد السارق وصفة الرضاع المحرم وما يحرم من المآكل وصفة الذبائح والضحايا وأحكام الحدود وصفة وقوع الطلاق وأحكام البيوع وبيان الربا والأقضية والتداعي والإيمان والأحباس والعمرى والصدقات وسائر أنواع الفقه وإنما في القرآن جمل لو تركنا وإياها لم ندر كيف نعمل فيها وإنما المرجوع إليه في كل ذلك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك الإجماع إنما هو على مسائل يسيرة قد جمعناها كلها في كتاب واحد وهو المرسوم بكتاب المراتب فمن أراد الوقوف عليها فليطلبها هنالك فلا بد من الرجوع إلى الحديث ضرورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 ولو أن امرأ قال لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم صلاة ولا حد للأكثر في ذلك وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم وبالله تعالى التوفيق ولو أن امرأ لا يأخذ إلا بما اجتمعت عليه الأمة فقط ويترك كل ما اختلفوا فيه مما قد جاءت فيه النصوص لكان فاسقا بإجماع الأمة فهاتان المقدمتان توجب بالضرورة الأخذ بالنقل وأما من تعلق بحديث التقسيم فقال ما كان في القرآن أخذناه وما لم يكن في القرآن لا ما يوافقه ولا ما يخالفه أخذناه وما كان خلافا للقرآن تركناه فيقال لهم ليس في الحديث الذي صح شيء يخالف القرآن فإن عد الزيادة خلافا لزمه أن يقطع في فلس من الذهب لأن القرآن جاء بعموم القطع ولزمه أن يحل العذرة لأن في نص القرآن {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} والعذرة ليست شيئا مما ذكر فإن قال هي رجس قيل له كل محرم فهو رجس لا سيما إن كان مخاطبنا ممن يستحل أبوال الإبل وبعرها فأي فرق بين أنواع المعذرات لولا التحكم ولزمه أيضا أن يحل الجمع بين العمة وبنت أخيها لأن القرآن نص على المحرمات ثم قال {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فإن عد الزيادة خلافا لزمه كما ذكرناه وأما الطائفة الأخرى المبيحة للقول بما لم يأت نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وإباحة أن ينسب ذلك إليه فحسبنا أنهم مقرون على أنفسهم بأنهم كاذبون وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين حدثنا أحمد بن محمد الجسوري قال ثنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح عن أبي بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع عن شعبة وسفيان عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب عن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه السلام لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار وروينا هذا المعنى مسندا صحيحا من طريق علي وأبي هريرة وسمرة وأنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي وقال محمد بن عبد الله بن مسرة الحديث ثلاثة أقسام فحديث موافق لما في القرآن فالأخذ به فرض وحديث زائد على ما في القرآن فهو مضاف إلى ما في القرآن والأخذ به فرض وحديث مخالف لما في القرآن فهو مطرح قال علي بن أحمد لا سبيل إلى وجود خبر صحيح مخالف لما في القرآن أصلا وكل خبر شريعة فهو إما مضاف إلى ما في القرآن ومعطوف عليه ومفسر لجملته وإما مستثنى منه لجملته ولا سبيل إلى وجه ثالث فإن احتجوا بأحاديث محرمة أشياء ليست في القرآن قلنا لهم قد قال الله عز وجل {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} فكل ما حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الحمار الأهلي وسباع الطير وذوات الأنياب وغير ذلك فهو من الخبائث وهو مذكور في الجملة المتلوة في القرآن ومفسر لها والمعترض بها يسأل أيحرم أكل عذرته أم يحلها فإن أحلها خرج عن إجماع الأمة وكفر وإن حرمها فقد حرم ما لم ينص الله تعالى على اسمه في القرآن فإن قال هي من الخبائث قيل له وكل ما حرم عليه السلام فهو كالخنزير وكل ذلك من الخبائث قال علي فإن قال قد صح الإجماع على تحريمها قيل له قد أقررت بأن الأمة مجمعة على إضافة ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنن إلى القرآن مع ما صح على النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن ذلك كما حدثنا عبد الرحمن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 بن سلمة صاحب لنا قال ثنا أحمد بن خليل قال ثنا خالد بن سعيد ثنا أحمد بن خالد ثنا أحمد بن عمرو المكي وكان ثقة ثنا محمد بن أبي عمر العدني ثنا سفيان هو ابن عيينة عن سالم أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله تعالى اتبعناه فهذا حديث صحيح بالنهي عما تعلل به هؤلاء الجهال وبالله تعالى التوفيق مع ما قدمنا من أنه لا يختلف مسلمان في أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو مضاف إلى ما في القرآن وأنهم إنما اختلفوا في الطرق التي بها يصح ما جاء عنه عليه السلام فقط وقد سألت بعض من يذهب هذا المذهب عن قول الله تعالى وقد ذكر النساء المحرمات في القرآن ثم قال تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} ثم روى أبو هريرة وأبو سعيد أنه عليه السلام حرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وليس هذا إجماعا فعثمان البتي وغيره يرون الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها حلالا فقال لي ليس هذا الحديث خلافا للآية لكنه مضاف إليها فقلت له فعلى هذا لا سبيل إلى وجود حديث مخالف لما في القرآن أصلا وكل حديث أتى فهو مضاف إلى ما في القرآن ولا فرق وبالله تعالى التوفيق فصل ليس كل من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه صحابيا قال علي وليس كل من أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ورآه صحابيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 ولو كان ذلك لكان أبو جهل من الصحابة لأنه قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وحادثه وجالسه وسمع منه وليس كل من أدركه عليه السلام ولم يلقه ثم أسلم بعد موته عليه السلام أو في حياته إلا أنه لم يره معدودا في الصحابة ولو كان ذلك لكان كل من كان في عصره عليه السلام صحابيا ولا خلاف بين أحد في أن علقمة والأسود ليسا صحابيين وهما من الفضل والعلم والبر بحيث هما وقد كانا عالمين جليلين أيام عمر وأسلما في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما الصحابة الذين قال الله تعالى فيهم {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} ومن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحدث بشيء والسامع كافر ثم أسلم فحدث به وهو عدل فهو مسند صحيح واجب الأخذ به ولا خلاف بين أحد من العلماء في ذلك وإنما شرط العدالة في حين النذارة والمجيء بالخير لا في حين مشاهدة ما أخبر به وقد كان في المدينة في عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن وكان بها أيضا من لا ترضي حاله كهيت المخنث الذي أمر عليه السلام بنفيه والحكم الطريد وغيرهما فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحابة حدثني أحمد بن قاسم قال حدثني أبي قاسم بن محمد بن قاسم قال حدثني جدي قاسم بن أصبغ قال حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي ثنا زكريا بن عدي ثنا علي بن مسهر عن صالح بن حيان عن أبي بريدة عن أبيه قال كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 قال فجاءهم رجل وعليه حلة فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى قال وقد كان خطب منهم امرأة في الجاهلية فلم يزوجوه فانطلق حتى نزل على تلك المرأة فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال كذب عدو الله ثم أرسل رجلا فقال إن وجدته حيا ولا أراك تجده فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فاحرقه بالنار قال علي فهذا من كان في عصره صلى الله عليه وسلم يكذب عليه كما ترى فلا يقبل إلا من سمي وعرف فضله وأما قدامة بن مظعون وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وأبو بكرة رضوان الله عليهم فأفاضل أئمة عدول أما قدامة فبدري مغفور له بيقين مرضي عنه وكل من تيقنا أن الله عز وجل رضي عنه وأسقط عنه الملامة ففرض علينا أن نرضى عنه وأن لا نعدد عليه شيئا فهو عدل بضرورة البرهان القائم على عدالته من عند الله عز وجل وعندنا وبقوله عليه السلام إن الله اطلع على أهل بدر فقال لهم اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأما المغيرة بن شعبة فمن أهل بيعة الرضوان وقد أخبر عليه السلام ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة فالقول فيه كالقول في قدامة وأما سمرة بن جندب فأحدي وشهد المشاهد بعد أحد وهلم جرا والأمر فيه كالأمر في المغيرة بن شعبة وأما أبو بكرة فيحتمل أن يكون شبه عليه وقد قال ذلك المغيرة فلا يأثم هو ولا المغيرة وبهذا نقول وكل ما احتمل ولم يكن ظاهره يقينا فغير منقول عن متيقن حاله بالأمس فهما على ما ثبت من عدالتهما ولا يسقط اليقين بالشك وهذا هو استصحاب الحال الذي أباه خصومنا وهم راجعون إليه في هذا المكان بالصغر منهم فما منهم أحد امتنع من الرواية عن المغيرة وأبي بكرة معا وأبي بكرة وهو متأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وأما سمرة فمتأول أيضا والمتأول مأجور وإن كان مخطئا وكذلك قدامة تأول أن لا جناح عليه وصدق لا جناح عليه عند الله تعالى في الآخرة بلا شك وأما في أحكام الدنيا فلا ولنا في الدنيا أحكام غير أحكام الآخرة وكذلك كل من قاتل عليا رضوان الله عليه يوم صفين وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه وإقامة حق الله تعالى فيهم فأسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعدادا عظيمة يقربون من الألوف فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم إذ رأوا السيف قد خالطهم وقد جاء ذلك نصا مرويا وإن العجب ليكثر ممن يبيح لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي والليث وسفيان وأحمد وداود رحمهم الله أن يجتهدوا في الدماء وفي الفروج وفي العبادات فيسفك هذا دما يحله باجتهاده ويحرمه سائد من ذكرنا فرجا ويحرمه الآخر ويحل أحدهم مالا ويحرمه الآخر ويوجب أحدهم حدا ويسقطه الآخر ويوجب أحدهم فرضا وينقضه الآخر ويحرم أحدهما عملا ويحله الآخر ولم يختلفوا قط إلا فيما ذكرنا فيجيز لهؤلاء الحكم فيما ذكرنا ويعذرهم في اختلافهم في استباحة الدماء فما دونها وليس عندنا من أمرهم إلا أنهم فيما بدا لنا مسلمون فاضلون يلزمنا توقيرهم والاستغفار لهم إلا أننا لا نقطع لهم بالجنة ولا بمغيب عقودهم ولا برضى الله عز وجل عنهم لكن نرجو لهم ذلك ونخاف عليهم كسائر أفاضل المسلمين ولا فرق ثم لا نجيز ذلك لعلي وأم المؤمنين وطلحة والزبير وعمار وهشام بن حكيم ومعاوية وعمرو والنعمان وسمرة وأبي الغادية وغيرهم وهم أئمة الإسلام حقا والمقطوع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 على فضلهم وعلى أكثرهم بأنهم في الجنة وهذا لا يخيل إلا على مخذول وكل من ذكرنا من مصيب أو مخطىء فمأجور على اجتهاده إما أجرين وإما أجرا وكل ذلك غير مسقط عدالتهم وبالله تعالى التوفيق فصل في حكم الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال علي وحكم الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يورد بنص لفظه لا يبدل ولا يغير إلا في حال واحدة وهي أن يكون المرء قد تثبت فيه وعرف معناه يقينا فيسأل فيفتي بمعناه وموجبه أو يناطر فيحتج بمعناه وموجبه فيقول حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وأمر عليه السلام بكذا وأباح عليه السلام كذا ونهى عن كذا وحرم كذا والواجب في هذه القضية ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو كذا وكذلك القول فيما جاء من الحكم في القرآن ولا فرق وجائز أن يخبر المرء بموجب الآية وبحكمها بغير لفظها وهذا ما لا خلاف فيه من أحد في أن ذلك مباح كما ذكرنا وأما من حدث وأسند القول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقصد التبليغ لما بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحل له إلا أن يتحرى الألفاظ كما سمعها لا يبدل حرفا مكان آخر وإن كان معناهما واحدا ولا يقدم حرفا ولا يؤخر آخر وكذلك من قصد تلاوة آية أو تعلمها وتعليمها ولا فرق وبرهان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم علم البراء بن عازب دعاء وفيه ونبيك الذي أرسلت فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي صلى الله عليه وسلم قال وبرسولك الذي أرسلت فقال النبي عليه السلام لا ونبيك الذي أرسلت فأمره عليه السلام كما تسمع ألا يضع لفظة رسول في موضع لفظة نبي وذلك حق لا يحيل معنى وهو عليه السلام رسول ونبي فكيف يسوغ للجهال المغفلين أو الفساق المبطلين أن يقولوا إنه عليه السلام كان يجيز أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 توضع في القرآن مكان وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا والله يقول مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال لذين لا يرجون لقآءنا ئت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} ولا تبديل أكثر من وضع كلمة مكان أخرى أم كيف يسوغ لأهل الجهل والعمى إباحة القراءة المفروضة في الصلاة بالأعجمية مع ما ذكرنا ومع إجماع الأمة على أن إنسانا لو قرأ أم القرآن فقدم آية على أخرى أو قال الشكر للصمد مولى الخلائق وقال هذا هو القرآن المنزل لكان كافرا بإجماع ومع قوله تعالى {ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان لذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين} ففرق تعالى بينهما وأخبر أن القرآن إنما هو باللفظ العربي لا بالعجمي وأمر بقراءة القرآن في الصلاة فمن قرأ بالأعجمية فلم يقرأ القرآن بلا شك والعجب أن قائل هذا الهجر لا يجيز الدعاء في الصلاة إلا بما يشبه ما في القرآن لا بتسمية المدعو لهم ولا بغير ذلك وقد جاء النص بإباحة الدعاء فيها جملة ويقول إن من عطس في الصلاة فقال الحمد لله رب العالمين فحرك بها لسانه فقد بطلت صلاته فسبحان من وفقهم لخلاف الحق في كلا الوجهين فيجيزون القراءة في الصلاة بخلاف القرآن ويبطلون الصلاة بذكر آية من القرآن ويمنعون من الدعاء فيها إلا بما في القرآن أو ما يشبهه ولا شبه للقرآن في شيء من الكلام بإجماع الأمة واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى {وإنه لفي زبر لأولين} وبخطابه تعالى لنا بالعربية حاكيا كلام موسى عليه السلام قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن الذي في زبر الأولين إنما هو معنى القرآن لا القرآن ولو كان القرآن في زبر الأولين لما كان محمد صلى الله عليه وسلم مخصوصا به ولا كانت فيه آية وهذا خلاف النصوص والخروج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 عن الإسلام لأنه لو أنزل على غيره قبله لما كان محمد صلى الله عليه وسلم مخصوصا به وأما حكايته تعالى لنا كلام موسى وغيره بلغتنا فلم يلزمنا تعالى قراءة ألفاظهم بنصها ولا نمنع من تلاوته في الصلاة وإنما نمنع من تلاوته في القرآن أو على سبيل التقريب بتلاوته إلى الله تعالى بغير اللفظ الذي أنزل به لا بكلام أعجمي ولا بغير تلك الألفاظ وإن وافقتها في العربية ولا بتقديم تلك الألفاظ بعينها ولا بتأخيرها وإنما نجيز الترجمة التي أجازها النص على سبيل التعليم والإفهام فقط لا على سبيل التلاوة التي نقصد بها القربة وبالله تعالى التوفيق وبلا خلاف من أحد من الأمة أن القرآن معجزة وبيقين ندري أنه إذا ترجم بلغة أعجمية أو بألفاظ عربية غير ألفاظه فإن تلك الترجمة غير معجزة وإذ هي غير معجزة فليست قرآنا ومن قال فيما ليس قرآنا إنه قرآن فقد فارق الإجماع وكذب الله تعالى وخرج عن الإسلام إلا أن يكون جاهلا ومن أجاز هذا وقامت عليه الحجة ولم يرجع فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال لا نشك في ذلك أصلا وأيضا فقد قال تعالى مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فلما صح بنص القرآن أن كلامه عليه السلام وحي كله حرم بلا شك تحريف الوحي وإحالته كما حرم ذلك في الوحي المتلو الذي هو القرآن ولا فرق ومن حدث بحديث فبلغه إلى غيره كما بلغه إياه غيره وأخذ عنه فليس عليه أن يكرره أبدا حتى يحصل في حد الهذيان وقد أدى ما عليه بتبليغه قال أبو محمد وبهذا يبطل قول من رام توهين الحديث المسند بأن فلانا أرسله إذ لو كان سكوت المرء في بعض الأحيان عن تأدية ما سمع مسقطا للاحتجاج به إذ أداه في وقت آخر أو لم يؤده هو وأداه غيره لكان إذا نام أو أكل أو وطىء أو اشتغل بصلاة أو مصلحة دنياه أو بشيء من أمر دينه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 أو بتبليغ حديث آخر قد بطل الاحتجاج بما سكت عنه في الأحوال التي ذكرنا وهذا جنون فادح ممن قاله وكفى سقوطه بكل قول أخرج إلى الجنون وأدى إلى المحال والممتنع وبالله تعالى التوفيق وأما اللحن في الحديث فإن كان شيئا له وجه في لغة بعض العرب فليروه كما سمعه ولا يبدله ولا يرده إلى أفصح منه ولا إلى غيره وإن كان شيئا لا وجه له في لغة العرب البتة فحرام على كل مسلم أن يحدث باللحن عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن فعل فهو كاذب مستحق للنار في الآخرة لأنا قد أيقنا أنه عليه السلام لم يلحن قط كتيقننا أن السماء محيطة بالأرض وأن الشمس تطلع من المشرق وتغرب من المغرب فمن نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم اللحن فقد نقل عنه الكذب بيقين وفرض عليه أن يصلحه ويبشره من كتابه ويكتبه معربا ولا يحدث به إلا معربا ولا يلتفت إلى ما وجد في كتابه من لحن ولا إلى ما حدث شيوخه ملحونا ولهذا لزم لمن طلب الفقه أن يتعلم النحو واللغة وإلا فهو ناقص منحط لا تجوز له الفتية في دين الله عز وجل ثنا يونس بن عبد الله ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين ثنا سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يضرب ولده على اللحن قال علي اللحن المحكي عن الله تعالى ورسوله عليه السلام كذب والكذب واجب أن يضرب آتيه وقد روي عن شعبة أو عن حماد بن سلمة الشك مني أنه قال من حدث عني بلحن فقد كذب علي ونحن نقول ذلك وكان شعبة وحماد وخالد بن الحارث وبشر بن المفضل والحسن البصري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 لا يلحنون البتة وبالله تعالى التوفيق فصل في زيادة العدل قال علي وإذا روى العدل زيادة على ما روى غيره فسواء انفرد بها أو شاركه فيها غيره مثله أو دونه أو فوقه فالأخذ بتلك الزيادة فرض ومن خالفنا في ذلك فإنه يتناقض أقبح تناقض فيأخذ بحديث رواه واحد ويضيفه إلى ظاهر القرآن الذي نقله أهل الدنيا كلهم أو يخصه به وهم بلا شك أكثر من رواة الخبر الذي زاد عليهم آخر حكما لم يروه غيره وفي هذا التناقض من القبح ما لا يستجيزه ذوقهم وذو ورع وذلك كتركهم قول الله تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} لحديث انفردت به عائشة رضي الله عنها ولم يشاركها فيه أحد وهو لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ويترك قوله تعالى في الآيات التي ذكر فيها المحرمات من النساء ثم قال تعالى بعد ذكر من ذكر {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فحرموا الجمع بين المرأة وعمتها وليس ذلك مذكورا في آية التحريم بل فيها إحلال كل ما لم يذكر في الآية فتركوا ذلك لحديث انفرد به أبو هريرة وأبو سعيد وحدهما وليس ذلك إجماعا فإن عثمان البتي يبيح الجمع بين المرأة وعمتها ثم يعترضون على حكم رواه عدل بأن عدلا آخر لم يرو تلك الزيادة وأن فلانا انفرد بها قال علي وهذا جهل شديد وقد ترك أصحاب أبي حنيفة الزيادة التي روى مالك في حديث زكاة الفطر وهي من المسلمين فقالوا انفرد بها مالك وترك أصحاب مالك الاستسعاء الذي رواه سعيد بن أبي عروبة وقالوا انفرد بها سعيد فكلا الطائفتين عابت ما فعلت وأنكرت ما أتت به مع أنه قد شورك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 من ذكرنا هاتين الزيادتين ولو انفردا بها ما ضر ذلك شيئا ولا فرق بين أن يروي العدل الراوي العدل حديثا فلا يرويه أحد غيره أو يرويه غيره مرسلا أو يرويه ضعفاء وبين أن يروي الراوي العدل لفظة زائدة لم يروها غيره من رواة الحديث وكل ذلك سواء واجب قبوله بالبرهان الذي قدمناه في وجوب قبول خبر الواحد العدل الحافظ وهذه الزيادة وهذا الإسناد هما خبر واحد عدل حافظ ففرض قبولهما ولا نبالي روى مثل ذلك غيرهما أو لم يروه سواهما ومن خالفنا فقد دخل في باب ترك قبول الخبر الواحد ولحق بمن أتى ذلك من المعتزلة وتناقض في مذهبه وانفراد العدل باللفظة كانفراده بالحديث كله ولا فرق قال علي فإن كانت اللفظة الزائدة ناقصة من المعنى فالحكم للمعنى الزائد لا للفظة الزيادة لأن زيادة المعنى هو العموم وهو الزيادة حينئذ على الحقيقة وهو الحكم الزائد والشرع الوارد والأمر الحادث ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث شارعا ومحلالا ومحرما وهكذا قال ابن عباس إذ ذكر عنده الضب فإذا روى العدل لفظة لها حكم زائد لم يروها غيره أو رواها غيره أو روى العدل عموما فيه حكم زائد وروى آخرون لفظة فيها إسقاط ذلك الحكم فالفرض أن يؤخذ بالحكم الزائد أبدا لأنه شريعة واردة قد تيقنا لزومها لنا وأننا مأمورون بها ولم نتيقن نسخها ولا سقوطها ولا يجوز ترك يقين لظن فمن ادعى تلك الشريعة التي قد صح أمر الله عز وجل لنا بها قد سقطت عنا وأن الحكم قد رجع إلى ما كنا عليه قبل ورود تلك الشريعة فهو مفتر على الله عز وجل إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع على دعواه ولا يحل لمسلم يخاف الله عز وجل أن يترك يقينا لما لعله ليس كما يظن قال علي ونمثل من ذلك مثالا فنقول روى بعض العدول عن رسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 الله صلى الله عليه وسلم النهي عن آنية الفضة هكذا مجملا وروى بعضهم النهي عن الشرب في آنية الفضة فكانت هذه اللفظة يعني الشرب ناقصة عن معنى الحديث الآخر الذي فيه إجمال النهي عن آنية الفضة نقصانا عظيما ومبيحة لعظائم في عموم ذلك الحديث إيجاب تحريمها من الأكل فيها والاغتسال فيها والوضوء فيها فهذه اللفظة وإن كانت زائدة في الصوت والخط فهي ناقصة من المعنى والحديث الآخر وإن كان ناقص اللفظ فهو زائد في الحكم والمعاني فهو الذي لا يجب الأخذ به لأن الحديث المذكور فيه الشرب هو بعض ما في الحديث الآخر وهذا نحو ما قلنا في الحديثين في زكاة الغنم اللذين ذكر في أحدهما السائمة ولم يذكر في الآخر فوجب الأخذ بالعام للسائمة وغيرها لأن من أخذ بالحديث العام كان آخذا بالخاص أيضا لأنه إذا اجتنب آنية الفضة جملة كان قد اجتنب الشرب في جملة ما اجتنب أيضا وإذا زكى الغنم كلها كان زكى السائمة أيضا فكان آخذا بكلا الأمرين وغير عاص لشيء من النصين وكان من آخذ بالحديث الأخص وحده عاصيا للحديث الآخر تاركا له بلا دليل إلا التحكم والدعوى بغير علم لأنه إذا زكى السائمة وحدها فقد ترك زكاة غير السائمة وخالف ما أوجبه الحديث الآخر وكان إذا اجتنب الشرب في آنية الفضة وحدها كان قد عصى ما في النص الآخر والاستباح ما حرم الله تعالى فيه وذلك لا يحل لأنه ليس أحد النصين أولى بالطاعة من الآخر وليس أحدهما نافيا للآخر ولا مبطلا له ومن ذلك أيضا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على نصف ما يخرج منها فكان هذا عاما لكل ما يخرج منها زرعا أو خضرا أو ثمارا وروى بعضهم هذا الحديث بعينه فقال من ثمر النخل فمن أخذ بالمساقاة في ثمر النخل خاصة وحظر ما سوى ذلك كان مخالفا لفعل رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 صلى الله عليه وسلم المنقول في لفظ العموم وليس قول من قال في ثمر النخل بمبطل أن يكون ساقاهم وعاملهم وزارعهم أيضا في غير ثمر النخل ولكن هذا الراوي ذكر بعض ما عوملوا عليه وسكت عن بعض وعم غيره كل ما وقعت فيه المعاملة وكان هذا الحديث ناسخا لحديث النهي عن المزارعة بيقين لأنه آخر فعله عليه السلام بلا شك الذي ثبت عليه إلى أن مات وحديث النهي عن المزارعة كان قبله بلا شك فلذلك قطعنا أنه منسوخ ولولا هذا البيان ما استجزنا ذلك قال علي ومن هذا الباب أن يشهد عدلان أن زيدا طلق امرأته وقال سائر من حضر المجلس وهم عدول لم يطلقها البتة فلا نعلم خلافا في وجوب الحكم عليه بالطلاق وإنفاذ شهادة من شهد به لأن عندهما علما زائدا شهدا به لم يكن عند سائر من حضر المجلس وهذا نفسه هو قبول زيادة العدل ولا فرق وإن انفرد بها وإنها كسائر نقله وليس جهل من جهل حجة على علم من علم ولا سكوت عدل مبطلا لكلام عدل آخر ولا فرق بين أن ينفرد بالحديث كله وبين أن ينفرد بلفظة منه أو بحكم زائد فيه وقد وافقنا من يخاصم في هذا المعنى على قبول ما انفرد به العدل من الأخبار وخالفونا في قبول الزيادة بلا دليل إلا التحكم بالدعوى فقط إلا أن بعضهم رام أن يحتج فأضحك من نفسه وذلك أنه قال قد وافقناكم على قبول الخبر إذا سلم من الزيادة انفرد بها بعض الرواة ومن إرسال غير هذا الراوي له ومن مخالفة من هو أعدل منه وأحفظ في لفظه وخالفناكم في قبوله إذا كان فيه شيء من هذه المعاني قال علي فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا يشبه تمويه اليهود إذ يقولون قد وافقناكم على قبول نبوة موسى صلى الله عليه وسلم ووجوب شريعته وترك العمل في السبت وأن ذلك كله قد أمر به الله تعالى وخالفناكم في قبول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب شريعته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 قال علي وهذا احتجاج من لا حجة له وتمويه ضعيف وذلك أننا لم نقبل نبوة موسى صلى الله عليه وسلم لأجل موافقتهم لنا عليهم ولا نبالي وافقونا عليها أم خالفونا كما لم نبال بتكذيب المجوس والمنانية والصابئين لنبوة موسى عليه السلام وإنما أخذنا بقبول نبوته عليه السلام لقيام البراهين على صحتها وبمثل تلك البراهين نفسها وجب قبول نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولا فرق والحق إذا ثبت برهانه فلا معنى لقبول من قبله ولا يزيده ذلك صحة ولا معنى لمخالفة من خالفه ولا يضره ذلك شيئا ونفسه ضر المخالف ولم يضر الحق وكذلك الشيء إذا لم يقم على صحته برهان فلا معنى لقبول من قبله ولا يصححه ذلك وكذلك قبول خبر الواحد لم نأخذ به لأن الحنفيين والمالكيين وافقونا على قبوله وما نبالي وافقونا أم خالفونا كما لم نبال بخلافهم لنا في القياس والتقليد وكما لم نبال بخلاف من خالفنا من المعتزلة وغيرهم في قبول خبر الواحد وإنما أخذنا بقبول خبر الواحد لقيام البرهان على وجوب القول به وبتلك الدلائل والبراهين بأعيانها وجب اطراح العلل التي راموا بها الأخذ بالزيادة وبما أرسله عدل وأسنده عدل وما خولف فيه راويه وبذلك البرهان نفسه وجب قبول الزيادة وإن انفرد بها العدل وتصحيح ما أسنده العدل وإن أرسله غيره وسواء كان أعدل منه أو أحفظ أو مثله أو دونه وصح أن ما خالف هذا الحكم هذيان لا معنى له وإنما يلزم الاحتجاج بما موهوا به غير موضعه ففي حكم لم نراع فيه غير الإجماع المتيقن به إذا ثبت وفيما لولا الإجماع المذكور لم نقل به مما قد أمرنا باتباع الإجماع المتيقن المقطوع به فيه مما لم يأت فيه نص محفوظ اللفظ وإن كان أصل ذلك الإجماع لا يمكن البتة أن يكون إلا عن نص وذلك مثل المسائل التي وجدنا فيها خلافا من واحد فما فوقه لم نقل بها ولا برهان عندنا فيها إلا الإجماع وحده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وذلك مثل القراض الذي لولا الإجماع على جوازه لاتصال نقل الأعصار به عصرا بعد عصر بأنه كان القراض في الجاهلية مشهورا وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره ولم ينه عنه وهو يعلمه فاشيا في قريش وكانوا أهل تجارة ولا عيش لهم إلا منها لم نجزه ولو وجدنا واحدا من العلماء يقول بإبطاله لوافقناه ولقلنا بقوله إذ لا نص في إباحته ولأنه شرط لم يأت به نص وكل شرط هذه صفته فإن لم يتفق على صحته فهو باطل بقوله عليه السلام كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل فما كان من هذا النوع فإنا نراعي في مسائله الإجماع فما أجمعوا عليه منها قلنا به وما اختلف فيه أسقطناه بالبتة لأنه قد بطل الإجماع فيه والإجماع هو برهان صحته الذي لا برهان لصحته سواه وما بطل برهان صحته فقد بطل القول به وأما ما قام برهان على صحته من غير الإجماع فلا ينبغي أن يلتفت من وافق عليه ولا من خالف ولا يتكثر بمن وافق فيه كائنا من كان ولا يستوحش ممن خالف فيه كائنا من كان ولو كان ما ذكر هذا المغفل حجة لساغ للحنيفي أن يقول قد وافقتموني على وجوب قطع يد من سرق ما يساوي عشرة دراهم وخالفتكم في قطع من سرق أقل من ذلك فلا يلزمني إلا ما اتفقنا عليه لا ما اختلفنا فيه ولساغ له أن يقول قد وافقتموني على أن القصر يكون من ثلاثة أيام فصاعدا واختلفنا في أقل فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه ولساغ له أن يقول قد وافقتموني على أن الصداق يكون عشرة دراهم وخالفتكم في أقل من ذلك فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه لا ما اختلفنا فيه ولساغ للمالكي أن يقول قد وافقتموني على أن المغتسل إذا تدلك تم غسله وخالفتكم فيه إذا لم يتدلك فلا يجب إلا ما اتفقنا عليه دون مما اختلفنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 فيه ووافقتموني على أن من وقف بعرفة ليلا أن وقوفه صحيح وخالفتكم فيمن وقف نهارا ودفع قبل غروب الشمس فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه ولساغ له أن يقول قد وافقتكم على أن الصوم إذا سلم من الأكل بالنسيان تام وخالفتكم في تمامه إذا وقع فيه أكل بنسيان فلا يتم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه ولساغ للشافعي أن يقول لهما قد وافقتماني على أن من قرأ {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} في صلاته أنها تامة وخالفتكم في تمام صلاة من لم يقرأها ووافقتماني على تمام صلاة من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر تشهده وخالفتكم في تمام صلاة من لم يصل عليه صلى الله عليه وسلم ووافقتماني في جواز صيام من بيته كل ليلة وخالفتكم في صيام من لم يبيته فلا يصح إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه وللزمهم أن يكتفوا منا بأن نقول لهم قد وافقتمونا على قبول النصوص والإجماع وخالفناكم في القول بالقياس فلا يلزم إلا ما اتفقنا عليه دون ما اختلفنا فيه ومثل هذا كثير جدا يقوم منه عشرات ألوف من المسائل فلما لم يكن كل ما ذكرنا حجة لأنه كلام موضوع في غير موضعه سقط شغب من قال قد اتفقنا عن قبول الخبر إذا عري من زيادة أو مخالفة واختلفا في قبول الزيادة وبحكم العقل ندري أن كل من رضي لنفسه على خصمه بما لا يرضى على نفسه لخصمه فجاهل أو مجنون أو وقاح لا بد له من أحد هذه الوجوه وهي كلها خطط خسف ونعوذ بالله العظيم منها اللهم إلا أن يكون خصمه رضي بحكم ما فله أن يلزمه حينئذ إياه وإن لم يلزمه هو وبالله تعالى التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملهم أيضا وبيان السبب في الاختلاف الواقع بين سلفنا من الأئمة في صدر هذه الأمة والرد على من ذم الإكثار من رواية الحديث ذهب أصحاب مالك إلى أنه لا يجوز العمل بالخبر حتى يصحبه العمل قال علي وهذا من أفسد قول وأشده سقوطا فأول ذلك أن هذا العمل الذي يذكرون قد سألهم من سلف من الحنفيين والشافعيين وأصحاب الحديث من أصحابنا منذ مائتي عام ونيف وأربعين عاما عمل من هو هذا العمل الذي يذكرون فما عرفوا عمل من يريدون ولا عجب أعجب من جهل قوم بمعنى قولهم وشرح كلامهم وسنبين هذا بعد صدر من كلامنا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق ويقال لمن قال لا أقبل الخبر حتى يصحبه العمل أللعمل أول أم لا أول له فإن قال لا أول له جاهر بالكذب ولحق بالدهرية وإن قال له أول قيل له وبالله تعالى التوفيق يجب على قولك أن ذلك العمل الأول باطل لا يجوز اتباعه لأنه ابتدىء فيه بعمل بخبر لم يعمل به قبل ذلك والخبر لا يجوز اتباعه حتى يعمل به فهذا العمل قد وقع قبل أن يعمل بالخبر فهو باطل على حكمكم الفاسد المؤدي إلى الهذيان وإلى ألا يصح عمل بخبر أبدا وكفى سقوطا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 بقول أدى إلى ما لا يعقل وكثير مما يقتحمون مثل هذا كقولهم في معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعان بالخيار ما لم يتفرقا وكقولهم في أن الركعة الثانية من صلاة من يقضي صلاة أدرك منها ركعة مع الإمام هي قبل الأولى والثالثة قبل الثانية وهذا كما ترى لا يعقل وحسبنا الله ونعم الوكيل وإذا كان ما ذكروا من أنه لا يجوز أن يعمل بخبر حتى يعمل به قبل هذا العمل وكان الخبر قد وجد وقتا من الدهر قبل أن يعمل له فلا يجوز أن يصح العمل بخبر أبدا وإذا كان ذلك فكل عمل بخبر من الأخبار فهو باطل والباطل لا يصحح الحق ولا يحقق الباطل ولا يثبت به شيء ويقال لهم أيضا أرأيتم الخبر المسند الصحيح قبل أن يعمل به أحق هو أم باطل ولا بد من أحد هذين فإن قالوا حق فسواء عمل به أو لم يعمل به ولولا يزيد الحق درجة في أنه حق أن يعمل به ولا يبطله أن يترك العمل به أن أهل الأرض كلهم أصفقوا على معصية محمد صلى الله عليه وسلم ما كان ذلك مسقطا لوجوب طاعته وقد فعلوا ذلك في أول مبعثه صلى الله عليه وسلم فما كان ذلك مبطلا لصحة قوله ولو آمن به جميع أهل الأرض وأطاعوه ما زاد قوله عليه السلام منزلة في الصحة على ما كان عليه قبل أن يقبله أو يعمل به أحد من الناس ونفسه ضر تارك العمل بالحق ولم يضر الحق شيئا وكذلك لو أصفق أهل الأرض كلهم على نبوة مسيلمة لعنه الله ما حققها ذلك وإذا أجمعوا على الكفر به ما زاد ذلك في قوله في البطلان على ما كان عليه حين نطقه به وإن قالوا الخبر باطل قبل العمل به فالباطل لا يحققه العمل له ولا يزيد الله بالعمل بالباطل إلا ضلالا وخزيا فثبت بالبرهان الضروري أن لا معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 للعمل ولا ينبغي أن يلتفت إليه ولا يعبأ به وقد أصفق أهل الأرض كلهم على العمل بشرائع الكفر قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فما صححها ذلك قال علي وهذه لفظة قذفها الشيطان في قلوبهم وطرحها على ألسنتهم وأيد ذلك الجهل والعصبية المردية وبالله نستعيذ من البلاء وإياه نستعين على إدراك الصواب وبالله تعالى التوفيق ثم نقول لهم متى أثبت الله العمل بالخبر الصحيح أقبل أن يعمل به أم بعد أن يعمل به فإن قالوا قبل أن يعمل به فهو قولنا وإن قالوا بعد أن يعمل به لزمهم أن العاملين به هم الذين شرعوا تلك الشريعة وهذا كفر من قائله ولم يبق لهم إلا أن يقولوا لما ترك العمل بالخبر علمنا أنه منسوخ وهذا هو باب الإلهام الذي ادعته الروافض لأنفسها لأنه قول بلا برهان قال علي وإنما هذا كله بعد أن يعرفوا عمل من يريدون وأما وهم لا يدرون عمل من يعنون فلسنا نحتاج أن نبلغ معهم ههنا وقد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال عن يزيد بن إبراهيم التستري ثنا زريق وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز على أيلة قال كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في عبد آبق سرق وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد الآبق إذا سرق قال فكتب إلي كتبت إلي في عبد آبق سرق وذكرت أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق وإن الله تعالى يقول {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} الآية فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه به وبه إلى حجاج بن المنهال ثنا الربيع بن صبيح قال سألت نافعا مولى ابن عمر أو سأله رجل وأنا شاهد على الرهن والقبيل في السلف والورق والطعام إلى أجل مسمى قال لا أرى بذلك بأسا فقلت له إن الحسن يكرهه قال لولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 أنكم تزعمون أن الحسن يكرهه ما رأيت به بأسا فأما إذا كرهه الحسن فهو أعلم به فهذا عمر بن عبد العزيز لم يبال بعمل أهل الحجاز إذ وجد القرآن بخلاف وهذا نافع مولى ابن عمر من كبار فقهاء أهل المدينة توقف في فتياه إذ خالفه الحسن وهو عراقي ثم نسألهم فنقول لهم عمل من تريدون أعمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلهم أم عمل عصر دون عصر أم عمل محمد صلى الله عليه وسلم أم عمل أبي بكر أم عمل عمر أم عمل عثمان ولم يكن في المدينة إمام غير هؤلاء أم عمل صاحب من سكان المدينة بعينه أم عمل جميع فقهاء المدينة أم عمل بعضهم ولا سبيل إلى وجه غير ما ذكرنا فإن قالوا عمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها بان كذبهم لأن الخلاف بين الأمة أشهر من ذلك وهم دأبا إنما يتكلمون على من يخالفهم فإن كانت الأمة مجمعة على قولهم فمع من يتكلمون إذا وإن قالوا عصرا ما دون سائر الأعصار بان كذبهم أيضا إذ كل عصر فالاختلاف بين فقهائه موجود منقول مشهور ولا سبيل إلى وجود مسألة اتفق عليها أهل عصر ما ولم يكن تقدم فيها خلاف قبلهم ثم اختلف فيها الناس هذا ما لا يوجد أبدا فإن قالوا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أريناهم أنهم أترك الناس لعمله عليه السلام بل لآخر عمله فإنهم رووا أن آخر عمله كان الإفطار في رمضان في السفر والنهي عن صيامه فقالوا هم الصوم أفضل وكان آخر عمله عليه السلام الصلاة بالناس جالسا وهم أصحاء وراءه إما جلوس على قولنا وإما قيام على قول غيرنا فقالوا هم صلاة من صلى كذلك باطل ورووا في الموطأ أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة أفاض الماء على جسده فقالوا هم طهور من تطهر كذلك باطل حتى يتدلك ورووا أنه صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 عليه وسلم كان يرفع يديه في الصلاة إذا ركع وإذا رفع فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى فقرأ بالطور في المغرب وبالمرسلات وكان ذلك في آخر عمره صلى الله عليه وسلم فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أم الناس فأتم أم القرآن قال آمين قالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام سجد في {إذا لسمآء نشقت} فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس جالسا وهم جلوس وراءه فقالوا صلاة من صلى كذلك باطل وليس عليه العمل ورووا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابتدأ بالصلاة بالناس فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فجلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه فأتم عليه الصلاة بالناس فقالوا ليس عليه العمل ومن صلى هكذا بطلت صلاته ومن البديع أن بعضهم قال صلاته عليه السلام في غزوة تبوك خلف عبد الرحمن بن عوف ناسخة لهذا العمل قال علي وهذا كلام لو قيل لقائله أسف ما شئت واجتهد ما قدر بأن يأتي بأكثر مما أتى به لوجهين أحدهما أن صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بن عوف التي ادعوا أنها ناسخة كانت في تبوك وصلاته عليه السلام إلى جنب أبي بكر التي ادعوا أنها منسوخة كانت قبل موته عليه السلام بخمس ليال فقط وهي آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فكيف ينسخ أمر كان قبل موته عليه السلام بأشهر أمرا كان قبل موته عليه السلام بخمس ليال أيفوه بهذا من له مسكة عقل أو يحل لمن هذا مقدار علمه وعقله أن يتكلم في دين الله عز وجل وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا يقول إن الله لا ينزع العلم بعد إذ أعطاهموه انتزاعا ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون قال علي والوجه الثاني من سقوط كلام هذا الجاهل أنه حتى لو كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بعد صلاته خلف أبي بكر ما كان فيها نسخ لها لأنه ليس في صلاته خلف عبد الرحمن نهي عما في صلاته خلف أبي بكر ولا مخالفة بل هو حكم آخر وعلم آخر وفي الاحتجاج المذكور عبرة لمن اعتبر ولهم مثله كثير ورووا أنه عليه السلام جمع بين الظهر والعصر في غير خوف ولا سفر فقال مالك أرى ذلك كان من مطر فقالوا ليس عليه العمل لا في مطر ولا في غيره ورووا أنه عليه السلام أتي بصبي فبال على ثوبه فدعا بماء فأتبعه إياه ونضحه ولم يغسله فقالوا ليس عليه العمل وهذا لا يطهر الثوب ومن صلى بثوب هذا صفته صلى بنجس فعلموا نبيهم صلى الله عليه وسلم ما لم يكن في علمه وجعلوه مصليا بثوب نجس تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ورووا أنه عليه السلام صلى بالناس وهو يحمل أمامة بنت أبي العاص على عنقه فقالوا ليس عليه العمل وهذا إسقاط للخشوع قال علي هذا كلام من قاله منهم ناسبا لسقوط الخشوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كفر وارتد وحل دمه وماله ولحق باليهود والنصارى ومن نسب ذلك إلى المقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم ينسبه إلى المقتدي به فقد توقح ما شاء وسخف وهما خطتا خسف لا بد من إحداهما وأظرف من كل ظريف أنهم احتجوا بهذا الحديث نفسه في أن الصلاة لا تبطل على من صلاها وهو حامل نجاسة فعصوا الحديث فيما ورد فيه وجاهروا بالكذب في أن يستبيحوا به ما ليس فيه ولهم مثله كثير ورووا أنه عليه السلام كان يقرأ في صلاة العيد بسورة {ق ولقرآن لمجيد} {قتربت لساعة ونشق لقمر} فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام كان يقبل في رمضان نهارا فقالوا نكره ذلك لشاب وليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد فقالوا ليس عليه العمل وقال شيخ منهم كبير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 عندهم صغير في الحقيقة هذا إدخال الجيف في المسجد فنعقب عاقبة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي وهو غائب وأصحابه رضي الله عنهم خلفه صفوف فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر فقالوا ليس عليه العمل ثم احتجوا بهذا الحديث في إباحة الصلاة إلى القبور فعصوا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في نهيهم عما جاء به العمل الصحيح وافتروا في الحديث ما ليس فيه وراموا بذلك إبطال نهي صحيح قد ثبت لا يحل خلافه ورووا أنه عليه السلام أعطى القاتل السلب وقضى بذلك فقالوا ليس عليه العمل إلا أن يرى الإمام ذلك ورووا أنه عليه السلام أباح النكاح بخاتم حديد فقالوا ليس عليه العمل وهذا نكاح لا يجوز ولا بد من ربع دينار تحكما من آرائهم الفاسدة وقياسا على ما تقطع فيه اليد عندهم فهلا قاسوه على ما يستباح به الظهر من جرعة خمر لا تساوي فلسا على أن إيلام الظهر أشبه باستباحة الفرج من قطع اليد باستباحة الفرج لأن الفرج والظهر عضوان مستوران والظهر والفرج لا يقطعان واليد تقطع وتبان فأحاط الخطأ بهم من كل وجه ورووا أنه عليه السلام أنكح رجلا امرأة بسورة من القرآن فقالوا ليس عليه العمل وهذا لا يجوز ورووا أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة فقالوا ليس عليه العمل ولكن إن كان جنين حرة ففيه خمسون دينارا وإن كان جنين أمة ففيه عشر قيمة أمة قياسا على بيضة النعامة يكسرها المحرم فأخطؤوا في خلافهم حكم الله تعالى ورسوله عليه السلام وأخطؤوا في شرعهم ما لم يأذن به الله تعالى وتحكموا في القيمة بلا برهان ولا هدى من الله تعالى وأخطؤوا في تفريقهم بين جنين الحرة وجنين الأمة بلا دليل في قياس جنين الأمة على بيضة النعامة خطأ يضحك في إيجابهم في بيضة النعامة عشر البدنة وهم لا يرون الاشتراك في الهدي وكل ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 بلا دليل وبالله تعالى التوفيق وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودى عبد الله بن سهل وهو حضري مدني مائة من الإبل فقالوا ليس عليه العمل ولا يودي بالإبل إلا أهل البادية وأما أهل الحاضرة فلا يودون إلا بالدنانير والدراهم وتعلقوا في ذلك بعمر وهم قد خالفوا عمر في هذا المكان نفسه لأن عمر كما جعل على أهل الذهب الذهب وعلى أهل الفضة الفضة وكذلك جعل على أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الغنم ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة فقالوا ليس على فعل عمر العمل في البقر والغنم والحلل وإنما نفعل فعله في الذهب والورق والإبل خاصة ورووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل القسامة في قتيل وجد بخيبر فقالوا ليس عليه العمل ولا يعجز أحد عن أن يلقي قتيلا قتله في دور قوم آخرين فخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوا عمل عمر في القسامة أيضا واحتج إسماعيل في ذلك ببقرة بني إسرائيل فأتى بحديث لم يأت به قرآن ولا خبر عن النبي وإنما هي خرافة في خرافات أهل الكتاب ولو صح قولهم لكانت آية معجزة عظيمة لا يقدرون على مثلها أبدا وتلك الآية لم يكن فيها قسامة فقد خالفوا عمل بني إسرائيل أيضا وقالوا إنما القسامة في دعوى المريض أن فلانا قتله وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل قول أحد في ادعائه دم أحد أو ماله فقبلوا دعواه في الدم ولم يتهموه وأبطلوا دعاواه في المال واتهموه وكفى بذكر هذا عن تكلف رد عليه ورووا أنه عليه السلام رجم يهوديين زنيا فقالوا ليس عليه العمل ولا يجوز رجمهم وأتى بعضهم في ذلك بعظيمة تخرج عن الإسلام وذلك أن قال إنما رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذا لما في التوراة فجعلوه عليه السلام منفذا لأحكام اليهود وصانوا أنفسهم الدنية الساقطة عن ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 ويعيذ الله تعالى نبيه وخيرته من الإنس أن يحكم بغير ما أمره الله به وقد أمره الله تعالى أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} ورووا أنه عليه السلام قضى بالتغريب على الزاني غير المحصن فقالوا لا نغرب العبد لأنه ضرر بسيده ولم يراعوا في تغريب الحر الضرر بزوجته وولده وماله وأبويه إن كان له أبوان ورووا أنه عليه السلام احتجم وهو محرم فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام تطيب لإحرامه قبل أن يحرم فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام تطيب لحله قبل أن يطوف بالبيت فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه عليه السلام قضى بإبطال كل شرط ليس في كتاب الله عز وجل فأجازوا أزيد من ألف شرط ليس منها واحد في كتاب الله منها من شرط لأهل دار الحرب النزول في دار الإسلام بأسرى المسلمين وسبايا المسلمات يطؤونهن ويردونهن إلى بلاد الكفر ويستخدمونهم ويهبونهم ويبيعونهم وهذا شرط لا يجيزه إلا إبليس ومن اتبعه ورووا أنه عليه السلام قسم خيبر فقالوا ليس عليه العمل وتركوا ذلك لإيقاف عمر الأرض مع إقرارهم بأنهم لا يعرفون كيف عمل عمر في ذلك أفيكون أعجب من ترك عمل مشهور متيقن على النبي صلى الله عليه وسلم مع جميع أصحابه لعمل مجهول لا يدرون كيف وقع بإقرارهم من عمل عمر وقد خالفه في ذلك الزبير وبلال وغيرهما ورووا أنه عليه السلام قضى بإيجاب الولاء لمن أعتق فقالوا من أعتق سائبة فلا ولاء له قال علي فهذا ما تركوا فيه عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من روايتهم في الموطأ خاصة ولو تتبعنا ذلك من رواية غيرهم لبلغ أضعاف ما ذكرنا وما خالفوا فيه أوامره عليه السلام من روايتهم ورواية غيرهم أضعاف ذلك ولعل ذلك يتجاوز الألوف فقد بطل كما ترى ما ادعوه من اتباع عمل النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنهم أترك خلق الله لعمل نبي الله صلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 الله عليه وسلم ثم لآخر عمله ولعمل الأئمة بعده فإن قالوا عمل أبي بكر قلنا لهم وبالله التوفيق لم ترووا في الموطأ عن أبي بكر رضي الله عنه إلا عشر قضايا خالفتموه منها في ثمان ورووا عنه أنه صلى بالبقرة ركعتين ووراءه المهاجرون والأنصار من أهل المدينة فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أن قرأ في الثالثة من المغرب بعد أم القرآن {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت لوهاب} الآية فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أنه أمر أميرا له وجهه إلى الشام ألا يقطع شجرا مثمرا فقالوا ليس عليه العمل وجائز قطع الشجرة المثمر في دار الحرب ورووا أنه أمره ألا يعقر شاة ولا بعيرا إلا لمأكله فقالوا ليس عليه العمل وجائز عقرها في دار الحرب لغير مأكله وهذا مما خالفوا فيه قضاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر معا لآرائهم ورووا أنه نهاه عن تخريب العامر فقالوا ليس عليه العمل ولا بأس بتخريبه ورووا عنه أنه ابتدأ الصلاة بالناس فكبر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتخلل الصفوف فصفق الناس فتأخر أبو بكر وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فأتم الصلاة بالناس فقالوا هذه صلاة لا تجوز وليس عليه العمل فخالفوا كما ترى عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أبي بكر وعمل جميع من حضر ذلك من المهاجرين والأنصار وهم أهل العلم من أهل المدينة برأي من آرائهم الفاسدة ورووا أنه أمر يهودية أن ترقي عائشة رضي الله عنها فقالوا ليس عليه العمل ونكره رقى أهل الكتاب هذا من روايتهم في الموطأ وأما من رواية غيرهم فكثير ومما خالفوه أيضا سبيه نساء أهل الردة وصبيانهم وعمله بذلك في المدينة مع المهاجرين والأنصار إلا من خالفه في ذلك منهم فقالوا ليس عليه العمل فإن قالوا عمل عمر قيل لهم وبالله تعالى التوفيق رويتم عن عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 رضوان الله عليه أنه قرأ في صلاة الصبح بسورة الحج وسورة يوسف ووراءه أهل المدينة من الأنصار والمهاجرين فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه سجد في الحج سجدتين فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه سجد في سورة النجم سجدة فقالوا ليس عليه العمل وهذا مما خالفوا فيه عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وجميع الصحابة وادعوا في ذلك علما خفي عنهم ورووا أنه نزل عن المنبر يوم الجمعة وهو يخطب فسجد وسجد معه المهاجرون والأنصار ثم رجع إلى خطبته فقالوا ليس عليه العمل ورووا أمر أبيا وتميما أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة في ليالي رمضان فقالوا ليس عليه العمل ورووا أن الناس كانوا يقومون أيام عمر بثلاث وعشرين ركعة في ليالي رمضان فقالوا ليس عليه العمل فخالفوا قضاء عمر وعمل أبي بن كعب وتميم الداري والمهاجرين والأنصار بالمدينة لدعوى زائغة وعمل مجهول وقالوا العمل في القيام على تسعة وثلاثين ركعة ورووا أنه صلى المغرب بالناس ومعه أهل المدينة والمهاجرون والأنصار فلم يقرأ فيها شيئا فأخبر بذلك فلم يعد الصلاة ولا أمر بإعادتها فقالوا ليس عليه العمل وقد بطلت صلاة من صلى هكذا ورووا أنه كتب إلى عماله أن يأخذوا من سائمة الغنم الزكاة فقالوا السائمة وغير السائمة سواء ورووا أنه شرب لبنا فأعجبه فأخبر أنه من نعم الصدقة فتقيأه فقالوا ليس عليه العمل ورووا أنه كان يقرد بعيره في طين بالسقيا وهو محرم فقالوا ليس عليه العمل فلا ندري أجعلوا القردان صيدا منهيا عنه في الإحرام أم جعلوا على البعران إحراما أم كيف وقع لهم هذا ورووا عنه أنه قضى في الأرنب بعناق قالوا ليس عليه العمل وقد وافقه على ذلك غيره من الصحابة رضوان الله عليهم وافترض تعالى في جزاء الصيد ما حكم به ذوا عدل ولا عدول أعدل من الصحابة فقد خالفوا ههنا القرآن وفعل الصحابة وتركوا الحق بيقين ورووا أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 حكم في اليربوع بجفرة فقالوا ليس عليه العمل وهذا كالذي قبله وروي أنه حلف لئن أتي بمسلم أمن مشركا ثم قتله ليقتلن ذلك المسلم فقالوا ليس عليه العمل ولا يقتل مؤمن بكافر فمرة يتركون الحديث لقول عمر ويقولون عمر كان أعلم منا ومرة يتركون قول عمر ويقولون الحديث أحق أن يتبع وفي هذا من التناقض ما فيه ثم رأوا من رأيهم أن يخالفوا الحديث المذكور الذي له تركوا قول عمر فقال يقتل المؤمن بالكافر إذا قتله قتل غيلة ورووا عنه أنه جعل القراض مضمونا على عبد الله ابنه فقالوا لا يجوز وليس عليه العمل فتركوا عمل عمر وعبد الله بن عمر وقضاءه بحضرة المهاجرين والأنصار ورووا عنه أنه قضى فيمن تزوج امرأة فوجد بها جنونا أو جذاما أو برصا فمسها فلها صداقها كاملا ويرجع به الزوج على وليها فقالوا لا يغرم الولي شيئا إلا أن يكون أبا أو أخا فأما إن كان من العشيرة فلا غرم عليه لكن تغرم هي الصداق إلى ربع دينار ورووا عنه أنه إذا أرخيت الستور فقد وجب الصداق فقالوا إن طال نعم وإلا فلا ورووا عنه أنه قضى بأنه لو تقدم في نكاح السر لرجم فيه فقالوا ليس عليه العمل ولا رجم فيه هذا مع فسخهم نكاح السر وإبطالهم إياه وتحريمهم له ورووا عنه أنه قضى في المتعة لو تقدم فيها لرجم فقالوا ليس عليه العمل ولا رجم فيها وقد قال بعضهم إنما هذا من عمر وعيد لا حقيقة فنسبوا إليه الكذب الذي قد نزهه الله عنه ولا غرو فقد قال ذلك بعضهم في قوله عليه السلام إذ هم بحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة مثل ذلك وتلك التي تستك منها المسامع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 ورووا عنه أنه أشخص رجلا قال لامرأته حبلك على غاربك من العراق إلى مكة واستحلفه عن نيته في ذلك قالوا ليس عليه العمل ولا يستجلب أحد من العراق إلى مكة لليمين ولا ينوي أحد في ذلك وهي ثلاث أبدا فخالفوا قضاء عمر في موضعين من هذا الحديث خاصة ورووا عنه أنه قال لا حكرة في سوقنا فقالوا لا بأس بالحكرة في السوق ورووا عنه أنه قضى بالمدينة بحضرة المهاجرين والأنصار على محمد بن مسلمة بأن يمر الضحاك بن خليفة في أرضه بخليج جلبه ومحمد كاره لذلك فقالوا ليس عليه العمل ورروا عنه أنه قضى على جد عمرو بن يحيى المازني بأن يحول عبد الرحمن بن عوف خليجا له في أرض ذلك المازني من مكان إلى مكان والمازني كاره فخالفوا قضاء عمر وعبد الرحمن بن عوف بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة وقالوا ليس عليه العمل وقال ابن نافع صاحب مالك وقد ذكر ذلك الخبر فقال عليه العمل فليت شعري عمل من هو هذا العمل المتجاذب الذي يدعيه قوم منهم وينكره آخرون ورووا عنه أنه أغرم حاطبا في ناقة لرجل من مزينة نحرها عبيد لحاطب فقطع أيديهم وسأل عن ثمن الناقة فكان أربعمائة فأضعف القيمة على حاطب وأغرمه بمائتي درهم وذلك بحضرة المهاجرين والأنصار من أهل المدينة فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أو عن عثمان أنه قضى في أمة غرت من نفسها فادعت أنها حرة فتزوجها رجل فولدت فقضى عليه أن يفدي أولاده بمثلهم فقالوا ليس عليه العمل ولا يقضى عليه بعبيد لكن بالقيمة ورووا عنه أنه حكم في منبوذ وجده رجل أن ولاءه للذي وجده فقالوا ليس عليه العمل ولا ولاء للملتقط على اللقيط ورووا عنه أنه قضى في هبة الثواب أنه على هبته يرجع فيها إن لم يرض منها فقال ليس عليه العمل وإن تغيرت الهبة عند الموهوب له بزيادة أو نقصان فلا رجوع للواهب فيها وليس له إلا القيمة ورووا عنه أنه كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الإبل الضوال مهملات لا يعرض لها أحد في أيامه فقالوا ليس عليه العمل فخالفوا عمل عمر بحضرة المهاجرين والأنصار مع موافقة ذلك لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا عثمان رأى غير ذلك أريناهم ما يخالفوا فيه عمل عثمان وأيضا فما الذي جعل عثمان أولى بأن يتبع من عمر لولا التخليط وفساد الرأي ورووا عنه أن رجلا من بني سعد بن ليث أجرى فرسا فوطأ أصبع رجل من جهينة فنزف الجهني فمات فقال عمر للسعديين أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها فتحرجوا وأبوا فقال للجهنيين احلفوا أنتم لمات منها فأبوا فقضى على السعديين بنصف الدية فقالوا ليس عليه العمل ولكن يبدأ المدعون وقالوا ليس العمل على إغرامه أولياء القاتل نصف الدية ومن العجب العجيب أن مالكا الذي خالف هذا الحديث في ثلاثة مواضع أحدها تبدئة المدعى عليهم في اليمين وثانيها إغرام المدعى عليهم بلا يمين من المدعين وثالثها إغرامهم نصف الدية لا كلها ثم احتج به بعد أوراق من كتابه في إغرام الراكب والقائد والسائق وجعل أصله في ذلك فعل عمر بالسعديين وهو قد خالفه في الحديث نفسه كما ترى فليت شعري ما الذي جعل ربع حكم عمر في هذا الحديث حجة يوقف عندها وثلاثة أرباعه مطرحا لا يعمل له فلولا البلاء لما كان يقلد هؤلاء القوم هذه الأقوال ويتركون لها القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورووا عنه أنه قضى في الترقوة بجمل فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أنه قضى في الضرس بجمل فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه أنه قضى في الضلع بجمل فقالوا ليس عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 العمل ورووا عنه أنه جلد عبدا زنى وغربه فقالوا ليس عليه العمل ولا يغرب العبد فخالفوا قضاء عمر وعمله بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة ومعه سنة النبي صلى الله عليه وسلم لآرائهم الفاسدة ورووا عنه أنه أمر ثابت بن الضحاك وكان قد التقط بعيرا بأنه يعرفه ثلاثا ثم أمره بإرساله حيث وجده فخالفوا قضاء عمر وعمل ثابت فهذا ما خالفوا فيه عمر من روايتهم في الموطأ خاصة وأما من رواية غيرهم فأضعاف ذلك فإن قالوا عمل عثمان قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إنهم رووا عن عثمان أنه كان يصلي الجمعة ثم ينصرف وما للجدران ظل فقالوا ليس عليه العمل ولا تجوز الصلاة إلا بعد الخطبة ولا يبتدأ بالخطبة إلا بعد الأذان ولا يبتدأ بالأذان إلا بعد الزوال فإن زالت الشمس فقد حدث للجدران ظل ورووا عنه أنه أذن على المنبر لأهل العالية في يوم عيد وافق يوم جمعة في أن يرجع منهم من أحب فقالوا ليس عليه العمل ولا نأخذ بإذن عثمان في ذلك وهو قد قضى ذلك بحضرة المهاجرين والأنصار بالمدينة ورووا عنه أنه كان يغطي وجهه وهو محرم فقالوا ليس عليه العمل ولا يغطي المحرم وجهه ورووا عنه أنه كان يخاطب أصحاب الديون من الذهب والفضة فيقول على المنبر هذا شهر زكاتكم فقالوا ليس عليه العمل وليس للدنانير والدراهم شهر زكاة معروف ورووا عنه أنه نهى عن القران والمتعة ورووا عن عمر مثل ذلك فقالوا ليس عليه العمل ولا ينهى عن ذلك فهلا فعلوا مثل ذلك في توريثه المطلقة ثلاثا من زوجها إذا طلقها وهو مريض وهلا تركوا تقليده هنالك بلا دليل كما تركوه ههنا فكانوا يوقفون في ذلك ورووا عنه أنه صلى بمنى أربع ركعات فقالوا ليس عليه العمل وقالوا القصر حق تلك الصلاة واحتجوا في ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وقد ذكرنا ما خالفوا فيه عمل كل من ذكرنا آنفا وما تركوا فيه عمر لعثمان ورووا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 أنه كان يكثر من قراءة يوسف في صلاة الصبح ورووا أيضا نعني قراءتها عن عمر فقالوا ليس عليه العمل ورووا عنه من أصح طريق وأجلها وهي رواية مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال رأيت عثمان فذكر أنه رآه بالعرج وهو محرم ثم أتي بلحم صيد فقال لأصحابه كلوا فقالوا ولا تأكل أنت فقال إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي فقالوا ليس عليه العمل ولا يجوز أن يأكل محرم ما صيد من أجل محرم غيره ومحا مالك قول عثمان هذا وكرهه كراهة شديدة هذا نص الموطأ فأين العمل إن لم يكن عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان بحضرة المهاجرين والأنصار ورووا عنه وعن عمر النهي عن الحكرة فقالوا ليس عليه العمل ولا بأس بها قال علي وكذلك خالفوا عمل عائشة رضي الله عنها وابن عمر وسائر الصحابة بالمدينة لا نحاشي منهم أحدا وكذلك خالفوا سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسائر فقهاء المدينة وأقرب ذلك خلافهم للزهري وربيعة في أشياء كثيرة جدا منها أن الزهري كان يرى الزكاة في الخضر والتيمم إلى الآباط وغير ذلك وقد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا عبد الله بن عمر النميري ثنا يونس بن يزيد الأبلي سمعت الزهري قال هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب في الصدقة وهي عند آل عمر بن الخطاب قال الزهري اقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عبد الله بن عمر وسالم بن عبد الله بن عمر حين أمر على المدينة فأمر عماله بالعمل بها وكتب بها إلى الوليد بن عبد الملك فأمر الوليد عماله بالعمل بها ثم لم يزل الخلفاء يأمرون بذلك ثم أمر هشام بن محمد بن هانىء عامله فنسخها إلى كل عامل من عمال المسلمين وأمرهم بالعمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 بما فيها ولا يتعدونه وذكر باقي الحديث قال علي فهذا عمل فاش كما ترى وأصله صحيفة مرسلة غير مسندة كما ترى ثم لم يفش العمل بها إلا بعد نحو ثمانين عاما من موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد عمل عمال عثمان قبل ذلك بغير ذلك وعمال علي رضوان الله عليه بما جاءت به الرواية عن علي وعمال ابن الزبير بغير ذلك وعمال أبي بكر الصديق بغير ذلك وعند آل حزم صحيفة أخرى فما الذي جعل عمل الوليد الظالم ومن بعده من لا يعتد به حاش عمر بن عبد العزيز وحده أولى من عمل ابن الزبير وعمل علي وعمل عثمان وعمل أبي بكر الصديق وهذا تنازع يوجب الرد إلى القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة وليس ذلك إلا في حديث أنس عن أبي بكر وحده فقد صح تركهم لعمل كل من له عمل يمكن أن يراعى أو يقتدى به وصح ما قلنا من أنهم لا يدرون عمل من يعنون بقولهم ليس عليه العمل فإن قالوا عمل الأكثر فقد أريناهم أنه لا أكثر من أهل عصر عمر وعثمان ومن صلى معهم ووافقهم على ما ترك هؤلاء من أعمال أولئك وأنهم قد تركوا عمل الأكثر وثبت بهذا ما ذكره بعض الرواة ومن أنهم إنما يعنون عمل صاحب السوق في المدينة في عصر مالك وهذا كما ترى وقد جمع عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما اتفق عليه فقهاء المدينة السبعة خاصة فلم يبلغ ذلك إلا أوراقا يسيرة هذا وعبد الرحمن من هو في الضعف والسقوط ألا يحتج بروايته وما جعل الله أولئك أولى بالقبول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 منهم من نظرائهم من أهل الكوفة الذين هم أفضل منهم في ظاهر الأمر كعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد وشريح القاضي وعمرو بن ميمون ومسروق وأبي عبد الرحمن السلمي وعبيدة السلماني وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الله بن عتبة بن مسعود وعبد الرحمن بن يزيد الليثي وسعيد بن جبير ولا من نظرائهم من أهل البصرة كالحسن البصري ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد ومسلم بن يسار وأبي قلابة وبكر بن عبد الله المزني وزرارة بن أوفى وحميد بن عبد الرحمن وأيوب وابن عون ويونس بن عبيد وسليمان التيمي ولا من نظرائهم من أهل الشام كعمر بن عبد العزيز وأبي إدريس الخولاني وقبيصة بن ذؤيب وجبير بن نفير ورجاء بن حيوة ولا من نظرائهم من أهل مكة كطاوس وعطاء ومجاهد وعمر بن دينار وعبيد بن عمير وابنه عبد الله وعبد الله بن طاووس ومذ مضى الصحابة الخلفاء رضوان الله عليهم فما ولي قضاء المدينة مثل شريح ولا مثل محارب بن دثار ولا مثل زرارة بن أوفى ولا مثل الشعبي ولا مثل أبي عبيدة بن عبد الله ولا مثل عبد الله بن عتبة أصلا ويقال لهم أيضا هل اختلف عمل أهل المدينة أو لم يختلف فإن قالوا لم يختلف أكذبهم الموطأ وجميع الروايات وإن قالوا اختلف قيل لهم فما الذي جعل اتباع عمل بعضهم أولى بالاتباع من عمل سائرهم وقد أبطل الله كل عمل عند الاختلاف حاشى الرد إلى كتاب الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فمن رد إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 غيرهما فقد عصى الله ورسوله وضل ضلالا مبينا لقوله تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى لله ورسوله أمرا أن يكون لهم لخيرة من أمرهم ومن يعص لله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} وهم ينسبون إلى أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم بهذا الأصل الملعون أعظم الفرية وأشد التضييع للإسلام وقلة المبالاة به وهذا لا يحل لمسلم أصلا أن يظنه فكيف أن يعتقده ويدعو إليه وذلك لأن عمر رضي الله عنه مصر البصرة والكوفة ومصر والشام وأسكنها المسلمين وولى عليهم الصحابة كسعد بن أبي وقاص والمغيرة بن شعبة وأبي موسى الأشعري وعتبة بن غزوان وغيرهم وولى عثمان عليهم ولاته أيضا كذلك كمعاوية وعمرو بن العاص وقد وليا لعمر أيضا مع عمار وابن مسعود وغيرهم ثم ولى علي البصرة عثمان بن حنيف وعبد الله بن عباس وولى مصر قيس بن سعد أفترى عمر وعثمان وعليا وعمالهم المذكورين كتموا رعيتهم من أهل هذه الأمصار دين الله تعالى والحكم في الإسلام والعمل بشرائعه وما يفعل هذا مسلم بل الذي لا شك فيه أنهم كلهم علموا رعيتهم كل ما يلزمهم كأهل المدينة ولا فرق ثم سكن علي الكوفة أفتراه رضي الله عنه كتم أهلها شرائع الإسلام وواجبات الأحكام والله ما يظن هذا مسلم ولا ذمي مميز بالسير فإذ لا شك في هذا فما بالمدينة سنة إلا وهي في سائر الأمصار كلها ولا فرق وأما مذ مضى هذا الصدر الكريم رضي الله عنهم فوالله ما ولي المدينة ولا حكم فيها إلا فساق الناس كعمرو بن سعيد والحجاج بن يوسف وطارق وخالد بن عبد الله القسري وعبد الرحمن بن الضحاك وعثمان بن حيان المري وكل عدو لله حاشى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبان بن عثمان وعمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 بن عبد العزيز فإنه كان كل واحد منهم فاضلا وليها أبو بكر أربعة أعوام عامين قاضيا وعامين أميرا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأي مزية لأهل المدينة على غيرهم في علم أو فضل أو رواية لو نصحوا أنفسهم وتركوا هذا التخليط الذي لا يسلم معه دين من غلبة الهوى ونصر الباطل وبالله تعالى نعوذ من الخذلان وما أدرك مالك بالمدينة أعلى من نافع وهو قليل الفتيا جدا وربيعة وكان كثير الرأي قليل العلم بالحديث وأبي الزناد وزيد بن أسلم وكانا قليلي الفتيا وأما الزهري فإنما كان بالشام وما كتب عنه مالك إلا بمكة وأما من القضاة فأبو بكر بن عمرو بن حزم وابنه محمد ويحيى بن سعيد الأنصاري على أن أهل العراق يجاذبونه إياه لأنه مات وهو قاض ببغداد وأما سعد بن إبراهيم فكان ثقة إلا أن مالكا لم يأخذ عنه ثم يقال لهم لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار أن مالكا ولد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث وثمانين سنة وأنه بقي أزيد من ثلاثين سنة وما اشتهر علمه فأخبروني على أي مذهب كان الناس قبل مالك وطول المدة التي ذكرنا وهي نحو مائة عام وعشرين عاما كان فيها خيار أهل الأرض من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين رحمة الله عليهم فإن قالوا على مذهب مالك أكذبهم مالك في موطئه بما أورد فيه من الاختلاف القديم بين الصحابة والتابعين وقد ذكرنا آنفا من ذلك طرفا صالحا ويقال لهم أيضا إن كان الأمر كما تقولون فما الذي جعل نسبة هذا المذهب إلى مالك أولى من نسبته إلى أبي بكر أو عمر أو عثمان أو عائشة أو ابن عمر أو سعيد بن المسيب أو سليمان بن يسار أو عروة بن الزبير أو ربيعة ولم خصصتم مالكا وحده بأن تنسبوه إليه دون أن تنسبوه إلى من ذكرنا وهم كانوا أفضل منه وأهيب في الصدور فإن قالوا لأن مالكا ثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 واختلف الناس بان كذبهم بما أورده مالك في موطئه مما خالف فيه من كان قبلهم وقيل لهم انفصلوا ممن عكس قولكم فقال بل الناس ثبتوا وانفرد مالك بمذهب أوجب أن ينسب إليه وإنما تنسب المذاهب إلى محدثيها لا إلى من اتبع غيره فيها وإن قالوا كان الناس على اختلاف في مذاهبهم وتحير قيل لهم فلا ترغبوا عما كان عليه السلف الصالح فليس والله فيما حدث بعدهم شيء من الخير يعني مما يكونوا عليه ولا علمه ذلك الصدر فإن تكن الأمور بالدلائل فالدلائل توضح أن ذلك الصدر كانوا على صواب في الاختيار والنظر مختلفين في مذاهبهم متفقين على إبطال التقليد متفقين على الأخذ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغهم وصح طريقه وإن لم يكن الأمر بالتقليد ونعوذ بالله من ذلك فتقليد عمر وعثمان وسائر من تقدم أولى من تقليد من أتى بعدهم اللهم إلا إذا كان العمل الذي يشيرون إليه من جنس ما حدثناه عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن حاتم ثنا بهز ثنا وهيب ثنا موسى بن عقبة عن عبد الواحد بن حمزة عن عباد بن عبد الله بن الزبير يحدث عن عائشة أنها لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته فيصلين عليه ففعلوا فوقف به على حجرهن يصلين عليه وأخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد وما صلى رسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد وبالسند المذكور إلى مسلم ثنا محمد بن حاتم بن ميمون ثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج فجاء إلي فأخبرني فقلت هذا الأمر لا يصلح قال قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك علي أحد فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونحن نبيع هذا البيع فقال ما كان يدا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا وائت زيد بن أرقم فإنه كان أعظم تجارة مني فأتيته فسألته فقال مثل ذلك وبالسند المذكور إلى مسلم حدثنا الحسن بن علي الحلواني ثنا أبو أسامة ثنا محمد بن عمرو ثنا عمر بن مسلم بن عمار الليثي قال كنا في الحمام قبيل الأضحى فأطلي فيه ناس فقال بعض أهل الحمام إن سعيد بن المسيب يكره هذا وينهى عنه فلقيت سعيد بن المسيب فذكرت ذلك له فقال يا ابن أخي هذا حديث قد نسي وترك حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي أو كلاما هذا معناه قال علي عمرو بن مسلم هذا هو ابن أكيمة الذي يروي عنه مالك وغيره قال علي فإن كان عمل أهل المدينة الذين يحتجون به ويتركون له كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الباب الذي ذكرنا فنحن نبرأ إلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 تعالى من هذا العمل ونحن متقربون إلى الله تعالى بعصيان هذا العمل ومضادته ولا شك أنهم يريدون عمل الجمهور الذي وصفنا من نحو إنكار عامة أهل المدينة على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم المرور في المسجد وبيع أهل سوق المدينة الورق بالورق أو بالذهب نسيئة ولا ينكر ذلك أحد منهم ومثل تركهم ونسيانهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم في ألا يمس الشعر والظفر من أراد أن يضحي إذا أهل ذو الحجة بشهادة سعيد بن المسيب فقيه أهل المدينة عليهم بذلك فإذا ما قد بينا أنهم لا يتعلقون بعمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعمل أبي بكر وعمر وعثمان ولا بعمل أحد بعينه من الصحابة رضوان الله عليهم فلم يبق بأيديهم شيء إلا العمل الذي وصفنا ونعوذ بالله من التعلق بمثل هذا العمل فهو الضلال المبين وحسبنا الله ونعم الوكيل وقد فشا الشكوى بالعمال وتعديهم في المدينة في أيام الصحابة رضوان الله عليهم كما حدثنا حمام بن أحمد قال ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي ثنا أبو زيد المروزي حدثنا الفربري ثنا البخاري ثنا قتيبة بن سعيد ثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن سوقة عن منذر الثوري عن محمد بن علي هو ابن الحنفية قال جاء عليا ناس فشكوا سعاة عثمان فقال لي علي اذهب بهذه الصحيفة إلى عثمان فأخبره أنها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر سعاتك يعملون بها فأتيته بها فقال أغنها عنا فأتيت بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخبرته فقال ضعها حيث أخذتها فقد صح كما ترى في بطلان قول من يدعي حجة بعمل أهل المدينة أو غيرهم ووجب أن لا حجة إلا فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنكر عمر رضي الله عنه على حسان إنشاده الشعر في المسجد فلما قال له قد أنشدت فيه وفيه من هو خير منك وذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 له رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت عمر ومضى فهذا كله يبين أن لا حجة في قول أحد ولا في علمه بعد النبي صلى الله عليه وسلم فإن قالوا مالك أتى متأخرا فتعقب قيل لهم فتقليد من أتى بعد مالك فتعقب عليه أولى كالشافعي وأحمد بن حنبل وداود وغيرهم إلى أن يبلغ الأمر إلينا ثم إلى من بعدنا قال علي والصحيح من ذلك أن أبا حنيفة ومالكا رحمهما الله اجتهدا وكانا مما أمرا بالاجتهاد إذ كل مسلم ففرض عليه أن يجتهد في دينه وجريا على طريق من سلف في ترك التقليد فأجرا فيما أصابا فيه أجرين وأجرا فيما أخطآ فيه أجرا واحدا وسلما من الوزر في ذلك على كل حال وهكذا حال كل عالم ومتعلم غيرهما ممن كان قبلهما وممن كان معهما وممن أتى بعدهما أو يأتي ولا فرق فقلدهما من شاء الله عز وجل ممن أخطأ وابتدع وخالف أمر الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين وما كان عليه القرون الصالحة وما توجبه دلائل العقل واتبع هواه بغير آإعالى فضل وأضل وكذلك المقلدون للشافعي رحمه الله إلا أن الشافعي رضي الله عنه أصل أصولا الصواب فيها أكثر من الخطأ فالمقلدون له أعذر في اتباعه فيما أصاب فيه وهم ألوم وأقل عذرا في تقليدهم إياه فيما أخطأ فيه وأما أصحاب الظاهر فهم أبعد الناس من التقليد فمن قلد أحدا مما يدعي أنه منهم فليس منهم ولم يعصم أحد من الخطأ وإنما يلام من اتبع قولا لا حجة عنده به وألوم من هذا من اتبع قولا وضح البرهان على بطلانه فتمادى ولج في غيه وبالله تعالى التوفيق وألوم من هذين وأعظم جرما من يقيم على قول يقر أنه حرام وهم المقلدون الذين يقلدون ويقرون أن التقليد حرام ويتركون أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ويقرون أنها صحاح وأنها حق فمن أضل من هؤلاء نعوذ بالله من الخذلان ونسأله الهدى والعصمة فكل شيء بيده لا إله إلا هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 قال أبو محمد وقد قال بعضهم قد صح ترك جماعات من الصحابة والتابعين لكثير مما بلغهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا يخلو من أن يكونوا تركوه مستخفين به وهذا كفر من فاعله أو يكونوا تركوه لفضل علم كان عندهم فهذا أولى أن يظن بهم قال علي وهذا يبطل من وجوه أحدها أنه قال قائل لعل الحديث الذي تركه من تركه منهم فيه داخلة قيل له ولعل الرواية التي رويت بأن فلانا الصاحب ترك حديثا كذا هي المدخولة وما الذي جعل أن تكون الداخلة في رواة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى من أن تكون في النقلة الذين رووا ترك من تركها وأيضا فإن قوما منهم تركوا بعض الحديث وقوما منهم أخذوا بذلك الحديث الذي ترك هؤلاء فلإن فرق بين من قال لا بد من أنه كان عند من تركه علم من أجله تركه وبين من قال لا بد من أنه كان عند من عمل به علم من أجله عمل به وكل دعوى عريت من برهان فهي ساقطة وقد قدمنا أنه لا يستوحش لمن ترك العمل بالحق سواء تركه مخطئا معذورا أو تركه عاصيا موزورا ولا يتكثر بمن عمل به كائنا من كان وسواء عمل به أو تركه وفرض على كل من سمعه أن يعمل به على كل حال وأيضا فإن الأحاديث التي روي أنه تركها بعض من سلف ليست في أكثر الأمر التي ترك هؤلاء المحتجون بترك من سلف لما تركوا منها بل ترك هؤلاء ما أخذ به أولئك وأخذ هؤلاء بما تركه أولئك فلا حجة لهم في ترك بعض ما سلف لما ترك من الحديث لأنهم أول مخالف لهم في ذلك وأول مبطل لذلك الترك ولا أسوأ من احتجاج امرىء بما يبطل على من لا يحقق ذلك الاحتجاج بل يبطله كإبطال المحتج به له أو أشد وأيضا فلو صح ما افتروه من أنه كان عند الصاحب التارك لبعض الحديث علم من أجله ترك ما ترك من الحديث ونعوذ بالله العظيم من ذلك ونعيذ كل من يظن به خيرا من مثل ما نسبوا إلى أفاضل هذه الأمة المقدسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 لوجب أن يكون من فعل ذلك ملعونا بلعنة الله عز وجل قال الله تعالى {إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون} فنحن نقول لعن الله كل من كان عنده علم من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكتمه عن الناس كائنا من كان ومن نسب هذا إلى الصحابة رضوان الله عليهم فقد نسبهم إلى الإدخال في الدين وكيد الشريعة وهذا أشد ما يكون من الكفر وقد عارضت بنحو من هذا الكلام الليث بن حرفش العبدي في مجلس القاضي عبد الرحمن بن أحمد بن بشر رحمه الله وفي حفل عظيم من فقهاء المالكيين فما أحد منهم أجاب بكلمة معارضة بل صمتوا كلهم إلا قليل منهم أجابوني بالتصديق لقولي وذلك أني قلت له لقد نسبت إلى مالك رضي الله عنه ما لو صح عنه لكان أفسق الناس وذلك أنك تصفه بأنه أبدى إلى الناس المعلول والمتروك والمنسوخ من روايته وكتمهم المستعمل والسالم والناسخ حتى مات ولم يبده إلى أحد وهذه صفة من يقصد إفساد الإسلام والتدليس على أهله وقد أعاذه الله من ذلك بل كان عندنا أحد الأئمة الناصحين لهذه الملة ولكنه أصاب وأخطأ واجتهد فوفق وحرم كسائر العلماء ولا فرق أو كلاما هذا معناه وقد افترض الله تعالى التبليغ على كل عالم وقد قال عليه السلام مخبرا إن من كتم علما عنده فسئل عنه ألجم يوم القيام بلجام من نار فإن قالوا بل ما كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يصح إلا وقد أبداه ورواه للناس وبلغه كما يحق في علمه وروعه قلنا صدقتم وهذه صفته عندنا ونحن على اتباع روايته ورواية غيره من العدول لأنه عدل وقد أمرنا بقبول خبر العدل ونحن على رفض رأيه ورأي غيره لقيام البرهان على تحريم التقليد وهو أول الناس ينهى عن تقليده والعجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 من دعواهم أنهم أخذوا بالآخر من فعله صلى الله عليه وسلم وأخذوا بالأول المنسوخ لذلك فما حضرنا ذكره مما تركوا فيه آخر فعله صلى الله عليه وسلم وأخذوا بالأول المنسوخ فإنهم لم يجيزوا أن يأتي الإمام المعهود وقد بدأ خليفته على الصلاة بالصلاة فدخل الإمام المعهود فيتم الصلاة ويبني سائر من خلفه على من كبروا في أول صلاتهم ويصير الإمام الذي ابتدأ الصلاة مأموما وهذه آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس في مرضه الذي مات فيه فأبطلوا هذه الصلاة وأجازوا أن يخرج الإمام من الصلاة لعذر أصابه ويستخلف من يتم بالناس صلاتهم وهذا ما لم يأت فيه نص ولا إجماع ولم يروا الصلاة خلف الإمام القاعد والأصحاء وراءه قعود أو قيام وهذه صفة آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلقوا بحديث رواه الجعفي وهو كذاب عن الشعبي مرسلا لا يؤمن أحد بعدي جالسا وهي رواية كوفية وهم يردون الصحيح من رواية أهل الكوفة ويتعلقون بهذه الرواية التي لا شك في كذبها من روايات أهل الكوفة وكرهوا التكبير بتكبير الإمام وأبطلوا في نص روايتهم صلاة المذكور وهذه صفة آخر صلاة صلاها أبو بكر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة جميع المهاجرين والأنصار إلا الأقل منهم وتركوا إباحة الشرب لكل ما لا يسكر من المباحات في جميع الظروف وهو الناسخ وأخذوا بالنهي عن الدباء والمزفت وهو منسوخ بالنص الجلي وكان ذلك في أول الإسلام وتركوا ما في سورة براءة وهي آخر سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه لا تؤخذ جزية إلا من كتابي وتركوا أيضا ما فيها من قوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} وتعلقوا بحديث تخيير من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة لأنه لا يجوز أن يوجد أحد نكح أكثر من أربع نكاحا جائزا لأن نكاح من نكح خامسة اليوم باطل حين عقده إياه مفسوخ لا يجوز وإن جوزه الكفار لأن الله تعالى قد حرمه وتحريم الله تعالى لاحق بهم لازم لهم وتركوا النهي عن الصوم في السفر في رمضان وهو الناسخ وأخذوا بإباحة ذلك وهي منسوخة وتركوا النهي عن الكلام مع الإمام في إصلاح الصلاة وهو الناسخ وتعلقوا بالمخصوص المنسوخ وتركوا قراءة والمرسلات في المغرب وهو من آخر فعله صلى الله عليه وسلم وتركوا تطيبه صلى الله عليه وسلم لحله ولإحرامه قبل أن يطوف بالبيت وهو آخر فعله عليه السلام وتعلقوا بالمنسوخ المخصوص الذي كان في الحديبية قبل حجة الوداع وتركوا إيجابه عليه السلام السلب للقاتل وكان في غزوة حنين وهو الناسخ وتعلقوا بما كان في غزوة مؤتة وهو منسوخ قبل حنين وتركوا ما في سورة براءة من ألا يهادن مشرك إلا على الإسلام ولا كتابي إلا على الصغار والجزية وأخذوا بحديث أبي جندل وهو منسوخ قبل براءة ومثل هذا كثير فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة فإن قيل فعلى أي وجه ترك هو ومن قبله كثيرا من الأحاديث قيل له وبالله التوفيق وقد بينا هذا فيما خلا ولكن نأتي بفصول تقتضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 تكرار ما قد ذكر فلا بد من تكراره وذلك أن مالكا وغيره بشر ينسى كما ينسى سائر الناس وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يعرض هذا في آي القرآن وقد أمر عمر على المنبر بألا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره فذكرته امرأة بقول الله تعالى {وإن أردتم ستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} فترك قوله وقال كل أحد أفقه منك يا عمر وقال امرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ وأمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فذكره علي بقول الله تعالى {ووصينا لإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك لتي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من لمسلمين} مع قوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} فرجع عن الأمر برجمها وهم أن يسطو بعيينة بن حصن إذ قال له يا عمر ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل فذكره الحر بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى {خذ لعفو وأمر بلعرف وأعرض عن لجاهلين} وقال له يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين فأمسك عمر وقال يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا أو كلاما هذا معناه حتى قرئت عليه {إنك ميت وإنهم ميتون} فسقط السيف من يده وخر إلى الأرض وقال كأني والله لم أكن قرأتها قط فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن وقد ينساه البتة وقد لا ينساه بل يذكره ولكن يتأول فيه تأويلا فيظن فيه خصوما أو نسخا أو معنى ما وكل هذا لا يجوز اتباعه إلا بنص أو إجماع لأنه رأي من رأى ذلك ولا يحل تقليد أحد ولا قبول رأيه وقد علم كل أحد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مجتمعين وكانوا ذوي معايش يطلبونها وفي ضنك من القوت شديد قد جاء ذلك منصوصا وأن النبي صلى الله عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وسلم وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم فكانوا من متحرف في الأسواق ومن قائم على نخلة ويحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل وقت منهم الطائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره وقد ذكر ذلك أبو هريرة فقال إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم وكنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني وقد أقر بذلك عمر فقال فاتني مثل هذا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق في الأسواق ذكر ذلك في حديث استئذان أبي موسى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة ويحكم بالحكم ويأمر بالشيء ويفعل الشيء فيعيه من حضره ويغيب بمن غاب عنه فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم وولي أبو بكر رضي الله عنه فمن حينئذ تفرق الصحابة للجهاد إلى مسيلمة وإلى أهل الردة وإلى الشام والعراق وبقي بعضهم بالمدينة مع أبي بكر رضي الله عنه فكان إذا جاءت القضية ليس عنده فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك فإن وجد عندهم رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم ليس عليه غير ذلك فلما ولي عمر رضي الله عنه فتحت الأمصار وزاد تفرق الصحابة في الأقطار فكانت الحكومة تنزل في المدينة أو في غيرها من البلاد فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر حكم به وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي صلى الله عليه وسلم موجود عند صاحب آخر في بلد آخر وقد حضر المديني ما لم يحضر المصري وحضر المصري ما لم يحضر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 الشامي وحضر الشامي ما لم يحضر البصري وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي وحضر الكوفي ما لم يحضر المديني كل هذا موجود في الآثار وفي ضرورة العلم بما قدمنا من مغيب بعضهم عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات وحضور غيره ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضر ويفوته ما غاب عنه وهذا معلوم ببديهة العقل وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره وجهله عمر وابن مسعود فقالا لا يتيمم الجنب ولو لم يجد الماء شهرين وكان حكم المسح عند علي وحذيفة رضي الله عنهما وغيرهم وجهلته عائشة وابن عمر وأبو هريرة وهم مدنيون وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود وجهله أبو موسى وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وعند أبي سعيد وجهله عمر وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سليم وجهله عمر وزيد بن ثابت وكان حكم تحريم المتعة والحمر الأهلية عند علي وغيره وجهله ابن عباس وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما وجهله طلحة وابن عباس وابن عمر وكان حكم إجلاء أهل الذمة من بلاد العرب عند ابن عباس وعمر فنسيه عمر سنين فتركهم حتى ذكر فذكر فأجلاهم وكان علم الكلالة عند بعضهم ولم يعلمه عمر وكان النهي عن بيع الخمر عند عمر وجهله سمرة وكان حكم الجدة عند المغيرة ومحمد بن مسلمة وجهله أبو بكر وعمر وكان حكم أخذ الجزية من المجوس وألا يقدم على بلد فيه الطاعون عند عبد الرحمن بن عوف وجهله عمر وأبو عبيدة وجمهور الصحابة رضوان الله عنهم وكان حكم ميراث الجد عند معقل بن سنان وجهله عمر ومثل هذا كثير جدا فمضى الصحابة على ما ذكرنا ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإذا تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة وكانوا لا يتعدون فتاويهم لا تقليدا لهم ولكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 لأنهم إنما أخذوا ورووا عنهم إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة رضي الله عنهم كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن عمر واتباع أهل الكوفة في الأكثر فتاوى ابن مسعود واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس ثم أتى بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة وابن جريج بمكة ومالك وابن الماجشون بالمدينة وعثمان البتي وسوار بالبصرة والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم وهو موجود عند غيرهم و {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وكل ما ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه حكم النبي صلى الله عليه وسلم أجرين ومأجور فيما خفي عنه منه أجرا واحدا وقد يبلغ الرجل مما ذكرنا حديثان ظاهرهما التعارض فيميل إلى أحدهما دون الثاني بضرب من الترجيحات التي صححنا أو أبطلنا قبل هذا في هذا الباب ويميل غيره إلى الحديث الذي ترك هذا بضرب من تلك الترجيحات كما روي عن عثمان في الجمع بين الأختين حرمتهما آية وأحلتهما آية وكما مال ابن عمر إلى تحريم نساء أهل الكتاب جملة بقوله {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} قال ولا أعلم شركا أعظم من قول المرأة إن عيسى ربها وغلب ذلك على الإباحة المنصوصة في الآية الأخرى وكما جعل ابن عباس عدة الحامل آخر الأجلين من وضع الحمل أو تمام أربعة أشهر وعشر وكما تأول بعض الصحابة في الحمر الأهلية أنها إنما حرمت لأنها لم تخمس وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها حمولة الناس وتأول آخر منهم أنها حرمت لأنها كانت تأكل العذرة وقال بعضهم بل حرمت لعينها وكما تأول قدامة في شرب الخمر قول الله تعالى {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} فعلى هذه الوجوه ترك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 مالك ومن كان قبله ما تركوا من الأحاديث والآيات وعلى هذه الوجوه خالفهم نظراؤهم فأخذ هؤلاء ما ترك أولئك وأخذ أولئك ما ترك هؤلاء فهي وجوه عشرة كما ذكرنا أحدها ألا يبلغ العالم الخبر فيفتي فيه بنص آخر بلغه كما قال عمر في خبر الاستئذان خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهاني الصفق بالأسواق وقد أوردناه بإسناده من طريق البخاري في غير هذا المكان وثانيها أن يقع في نفسه أن راوي الخبر لم يحفظ وأنه وهم كفعل عمر في خبر فاطمة بنت قيس وكفعل عائشة في خبر الميت يعذب ببكاء أهله وهذا ظن لا معنى له إن أطلق بطلت الأخبار كلها وإن خص به مكان دون مكان كانت تحكما بالباطل وثالثها أن يقع في نفسه أنه منسوخ كما ظن ابن عمر في آية نكاح الكتابيات ورابعها أن يغلب نصا على نص بأنه أحوط وهذا لا معنى له إذ لا يوجبه قرآن ولا سنة وخامسها أن يغلب نصا على نص لكثرة العاملين به أو لجلالتهم وهذا لا معنى له لما قد أفدناه قبلا في ترجيح الأخبار وسادسها أن يغلب نصا لم يصح على نص صحيح وهو لا يعلم بفساد الذي غلب وسابعها أن يخصص عموما بظنه وثامنها أن يأخذ بعموم لم يجب الأخذ به ويترك الذي يثبت تخصيصه وتاسعها أن يتأول في الخبر غير ظاهره بغير برهان لعله ظنها بغير برهان وعاشرها أن يترك نصا صحيحا لقول صاحب بلغه فيظن أنه لم يترك ذلك النص إلا لعلم كان عنده فهذه ظنون توجب الاختلاف الذي سبق في علم الله عز وجل أنه سيكون ونسأل الله تعالى التثبيت على الحق بمنه آمين ثم كثرت الرحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم وضمه وتقييده ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شيء منه وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأول في الحديث وعرف الصحيح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 من السقيم وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى ترك عمله وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن بلوغه إليه وقيام الحجة به عليه فلم يبق إلا العناد والجهل والتقليل والإثم وعلى هذا الطريق كان الصحابة رضي الله عنهم وكثير من التابعين يرحلون في طلب الحديث الواحد الأيام الكثيرة وقد رحل أبو أيوب من المدينة إلى مصر إلى عقبة بن عامر في حديث واحد وكتب معاوية إلى المغيرة اكتب إلي ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحل علقمة والأسود إلى عائشة وعمر رضي الله عنهما ورحل علقمة إلى أبي الدرداء بالشام فقد بينا وجه ترك من ترك بعض الحديث وأزحنا العلة في ذلك ورفعنا الإشكال جملة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال أبو محمد وقد موه بعضهم بأن قال إن ابن مسعود كان يسأل عن الشيء فيتركه حتى يأتي المدينة قال علي وإنما كان هذا في مسألتين فقط وهي مسألة نكاح الأم التي لم يدخل بابنتها فخالفه عمر وقد صح عن زيد بن ثابت وهو مدني مثل قول ابن مسعود والثانية بيعه نفاية بيت المال ثم رجع عن ذلك قال علي وكيف يكون هذا والصحيح أن ابن مسعود قال مخبرا عن نفسه ما من سورة من كتاب الله تعالى إلا وأنا أدري فيما نزلت ولو أني أعلم مكان رجل أعلم مني بكتاب الله عز وجل تبلغني إليه الإبل لأتيته فكيف يرجع إلى قول غيره من هذه صفته ولقد صدق رضي الله عنه وهو الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتمسك بعهده وأن يؤخذ القرآن عنه وعن ثلاثة مذكورين معه وقد صح أن عمر بن الخطاب أمر برجم مجنونة فرده عن ذلك وهو كوفي وكذلك وجد عند المغيرة خبر إملاص المرأة وهو كوفي لم يكن عند أهل المدينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 قال علي وقد موه بعضهم بأن ذكر ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا محمد بن المثنى ثنا سهل بن يوسف قال حميد أنبأ عن الحسن قال خطب ابن عباس في آخر رمضان على منبر البصرة فقال أخرجوا صدقة صومكم فكأن الناس لم يعلموا فقال من ههنا من أهل المدينة فقوموا إلى إخوانكم فعلموهم فإنهم لا يعلمون فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الصدقة صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من قمح على كل حر أو مملوك ذكر أو أنثى صغير أو كبير فلما قدم علي رأى رخص الشعير قال قد أوسع الله عليكم فلو جعلتموه صاعا من كل شيء قال علي وهذا الحديث قبل كل شيء لا يصح لوجوه ظاهرة أولها أن الكذب والتوليد والوضع فيه ظاهر كالشمس لأنه لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالأخبار أن يوم الجمل كان لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين ثم أقام علي بالبصرة باقي جمادى الآخرة وخرج راجعا إلى الكوفة في صدر رجب وترك ابن عباس بالبصرة أميرا عليها ولم يرجع علي بعدها إلى البصرة هذا ما لا خلاف فيه من أحد له علم بالأخبار وفي الخبر المذكور ذكر تعليم ابن عباس أهل البصرة صدقة الفطر ثم قدم علي بعد ذلك وهذا هو الكذب البحت الذي لا خفاء فيه ووجه ثان أن الحسن لم يسمع من ابن عباس أيام ولايته البصرة شيئا ولا كان الحسن يومئذ بالبصرة وإنما كان بالمدينة هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من نقلة الحديث وأيضا وجه ثالث فإنه حديث مفتعل لا يصح لأن البصرة فتحها وبناها سنة أربع عشرة من الهجرة عتبة بن غزوان المازني بدري مدني ووليها بعده المغيرة بن شعبة وأبو موسى وعبد الله بن عامر وكلهم مدنيون ونزلها من الصحابة المدنيين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 أزيد من ثلاثمائة رجل منهم عمران بن الحصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر والحكم بن عمرو وغيرهم وفتحت أيام عمر بن الخطاب وتداولها ولاته إلى أن وليها ابن عباس بعد صدر كبير من سنة ست وثلاثين من الهجرة فلم يكن في هؤلاء كلهم من يخبرهم بزكاة الفطر بل ضيعوا ذلك وأهملوه واستخفوا به أو جهلوه مدة أزيد من اثنين وعشرين عاما مدة خلافة عمر بن الخطاب وعثمان رضوان الله عليهم حتى وليهم ابن عباس بعد يوم الجمل أترى عمر وعثمان ضيعا إعلام رعيتهما هذه الفريضة أترى أهل البصرة لم يحجوا أيام عمر وعثمان ولا دخلوا المدينة فغابت عنهم زكاة الفطر إلى بعد يوم الجمل إن هذا لهو الضلال المبين والكذب المفترى ونسبة البلاء إلى الصحابة رضوان الله عليهم أن هذا الخبر ما يدخل تصحيحه في عقل سليم وما حدث الحسن والله أعلم بهذا الحديث إلا على وجه التكذيب له لا يجوز غير ذلك ثم نقول لهم لو صح وهو لا يصح لكان حجة على المالكيين لأنه خلاف مذهبهم في صدقة الفطر لأنهم يرون أنه لا يجزي فيها من البر إلا صاع فعاد حجة عليهم ولا أضل ممن يحتج بما لا يصح نعوذ بالله من الخذلان وإنما يصح هذا الحديث بخلاف اللفظ المذكور لكن كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا قتيبة بن سعيد ثنا حماد هو ابن زيد عن أيوب السختياني عن أبي رجاء هو العطاردي قال سمعت ابن عباس يخطب على منبركم يعني منبر البصرة يقول صدقة الفطر صاع من طعام وقد موه بعضهم بأن قال إن أهل المدينة هم شهدوا آخر عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال علي وهذا قول رجل جاهل أو مدلس لا بد له ضرورة من أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الوجهين فإن كان جاهلا وكان هذا مقداره من العلم فما كان في وسعه أن يفتي في دين الله عز وجل وإن كان هذا مستحيلا للتلبيس في دين الله تعالى فهذا أخبث وأنتن قال علي وهذا كلام يبطل من وجهين ضروريين أحدهما أننا قد بينا في هذا الباب أنهم أترك الناس لآخر عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كلهم مدنيين طول مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبي بكر وإنما سكنوا الشام والبصرة والكوفة في صدر خلافة عمر رضوان الله عليه فما بعد ذلك لأن الشام ومصر كانت بأيدي الروم والعراق حيث بنيت الكوفة والبصرة كانت بأيدي الفرس ولم يفتتح شيء من كل ذلك ولا سكنه مسلم إلا بعد صدر إمارة عمر هذا أمر لا يجهله من له أقل نصيب من العلم وكل من كان بالعراق والشام ومصر من الصحابة فلم يفارقوا سكنى المدينة طوال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينفرد قط برسول الله من بقي منهم بالمدينة دون من سكن بعد موته عليه السلام العراق أو الشام أو مصر فبطل كذب من موه بما ذكرنا ولله الحمد ووجب بالضرورة أن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم ليس بأولى بحسن الظن بهم في الثبات على ما شهدوه من النبي صلى الله عليه وسلم من سائر الصحابة الذين بالأمصار ولا هم أولى بالعلم منهم بل كلهم واجب الحق موصوف بالعلم والدين والنصيحة للمسلمين قال أبو محمد وهذا الذي جرى عليه الناس كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا يزيد بن أبي إبراهيم ثنا رزيق وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 على أيلة أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في عبد أبق وسرق وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون العبد إذا سرق فكتب إليه كتبت إلي في عبد أبق وسرق وذكر أن أهل الحجاز لا يقطعون الآبق إذا سرق وأن الله تعالى يقول {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني مآ أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف لله رب لعالمين} فإن كان قد سرق قدر ما يبلغ ربع دينار فاقطعه قال علي فهذا عمر بن عبد العزيز لم يلتفت إلى عمل أهل الحجاز وأخذ بعموم القرآن وهو الذي لا يجوز خلافه فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن قال علي واستغاث بعضهم إلى ذم الإكثار من الرواية ونسبوا ذلك إلى عمر بن الخطاب وذكروا الخبر عنه أنه لم يلتفت لرواية فاطمة بنت قيس في أن لا نفقة ولا سكنى للمبتوتة ثلاثا وأنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لكلام امرأة لا ندري لعلها نسيت وتوعد أبا موسى بضرب الظهر والبطن إن لم يأته بشاهد على ما حدث به من حكم الاستئذان وإن أبا بكر الصديق لم يأخذ برواية المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد له بذلك محمد بن مسلمة وأن عائشة أم المؤمنين لم تلتفت إلى قول أبي هريرة في المشي في خف واحد وقالت لأحنثن أبا هريرة ومشت في نعل واحدة وأن عثمان حمل إليه محمد بن علي بن أبي طالب من عند أبيه كتاب حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة فقال له أغنها عنا فرجع إلى أبيه فقال ضع الصحيفة حيث وجدتها وأن عمارا قال لعمر في حديث التيمم أما والله يا أمير المؤمنين لئن شئت لما جعل الله لك علي من الحق ألا أحدث بذلك أبدا فعلت فقال له عمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 لا ولكن نوليك من ذلك ما توليت وأن ابن عباس لم يلتفت لرواية أبي هريرة في الوضوء مما مست النار ولا رواية الحكم بن عمرو الغفاري في الوضوء من فضل المرأة ولا رواية علي في النهي عن المتعة ولا رواية أبي سعيد الخدري في النهي عن الدرهم بالدرهمين يدا بيد وابن عمر ذكرت له رواية أبي هريرة في كلب الزرع فقال إن لأبي هريرة زرعا وإن معاوية لم يلتفت لرواية عبادة بن الصامت وأبي الدرداء في النهي عن الفضة بالفضة بتفاضل يدا بيد فهؤلاء أبو بكر وعثمان وعلي وعائشة وعمار وابن عباس وابن عمر ومعاوية ذكروا نحو هذا أيضا عن نفر من التابعين قال علي وقولهم هذا دحض بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وهو أنه يقال لمن ذم الإكثار من الرواية أخبرنا عن الرواية لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أخير هي أم شر ولا سبيل إلى وجه ثالث فإن قال هي خير فالإكثار من الخير خير وإن قال هي شر فالقليل من الشر شر وهم قد أخذوا منه بنصيب فيلزمهم أن يعترفوا بأنهم يتعلمون الشر ويعلمون به أما نحن فلسنا نقر بذلك بل نقول إن الإكثار منها لطلب ما صح هو الخير كله وأيضا فنقول لهم عرفونا حد الإكثار من الرواية المذمومة عندكم لنعرف ما تكرهون وحد غير الإكثار المستحب عندكم فإن حدوا في ذلك حدا كانوا قد قالوا بالباطل {يأيها لذين آمنوا لا تتبعوا خطوات لشيطان ومن يتبع خطوات لشيطان فإنه يأمر بلفحشآء ولمنكر ولولا فضل لله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن لله يزكي من يشآء ولله سميع عليم} وقالوا بلا برهان وبغير علم وإن لم يجدوا في ذلك حدا كانوا قد حصلوا في أسخف منزلة إذ لا يدرون ما ينكرون ولا يحسنون وهذا هو الضلال ونعوذ بالله منه وأيضا فيقال لهم ما الذي جعل أن يكون ما رواه مالك من الحديث خيرا ويكون ما رواه شرا دون أن تكون القصة معكوسة ونحن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 نعوذ بالله من كل ذلك بل الخير كله التفقه في الآثار والقرآن وضبط ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبلغ عنه وهذا التفقه والنذرة التي أمر الله تعالى بها وليت شعري إذا كان الإكثار من الحديث شرا فأين الخير أفي التقليد الذي لا يلزمه إلا جاهل أو فاسق أم في التحكم في دين الله عز وجل بالآراء الفاسدة التي قد حذر الله تعالى منها وزجر النبي صلى الله عليه وسلم عنها وفخر بعضهم بأن مالكا كان يسقط من موطئه كل سنة وإنه لم يحدث بكثير مما كان عنده قال علي هذا فخر من يريد أن يمدح فيذم ويريد أن يبني فيهدم ولا يخلو ما حدث به مالك وما لم يحدث به من أن يكون حدث بالصحيح عنده وترك ما لم يصح فقد أحسن وكذا كل من حدث أيضا بما يصح عنده ممن ليس مالك بأعلم منه ولا أروع كسفيان وشعبة والأوزاعي وأيوب وغيرهم وأن يكون حدث بالسقيم وكتم الصحيح وقد نزهه الله تعالى عن ذلك لأن هذه صفة أفسق الفاسقين أو يكون حدث بسقيم وصحيح وكتم صحيحا وسقيما فمن فعل ذلك فهو آثم وملعون لكتمانه علما صحيحا عنده فبطل ما أرادوا يمدحوه به وعاد ذما عظيما لو صح عليه ذلك وأعوذ بالله من ذلك وبرهان آخر يوضح كذب من قال هذا وهو أن الموطأ ألفه مالك رضي الله عنه بعد موت يحيى بن سعيد الأنصاري بلا شك ومات يحيى بن سعيد في سنة ثلاث وأربعين ومائة ولسنا نقول هذا بظننا بل يقينا فهكذا روينا بإسناد متصل إلى يحيى بن سعيد القطان أنه قال لقينا مالكا قبل أن يصنف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 ولقيناه سنة اثنتين وأربعين ومائة بعد موت موسى بن عقبة بسنة ولم يزل الموطأ يروى عن مالك منذ ألفه طائفة بعد طائفة وأمة بعد أمة وآخر من رواه عنه من الثقات أبو المصعب الزهري لصغر سنه وعاش بعد موت مالك ثلاثا وستين سنة وموطؤه أكمل الموطآت لأنه فيه خمسمائة حديث وتسعين حديثا بالمكرر أما بإسقاط التكرار فخمسمائة حديث وتسعة وخمسون حديثا وكان سماع ابن وهب للموطأ من مالك قبل سماع أبي المصعب بدهر وكذلك سماع ابن القاسم ومعن بن عيسى وليس في موطأ ابن القاسم إلا خمسمائة حديث وثلاثة أحاديث وفي موطأ ابن وهب كما في موطأ أبي المصعب ولا مزيد فبان كذب هذا القائل والحمد لله رب العالمين قال علي ولئن كان جميع حديث النبي صلى الله عليه وسلم مذموما فإن مالكا لمن أول من فعل ذلك فإن أول من ألف في جمع الحديث فحماد بن سلمة ومعمر ثم مالك ثم تلاهم الناس وأما نحن فإننا نحمد ذلك من فعلهم ونقول إن لهم ولمن فعل فعلهم في ذلك أعظم الأجر لعظيم ما قيدوا من السنن وكثيرا ما بينوا من الحق وما رفعوا من الإشكال في الدين وما فرجوا بما كتبوا من حكم الاختلاف فمن أعظم أجرا منهم جعلنا الله بمنه ممن تبعهم في ذلك بإحسان آمين وأما رد عمر رضي الله عنه لحديث فاطمة بنت قيس فقد خالفته فاطمة وهي من المبايعات المهاجرات للصواحب فهو تنازع من أولي الأمر ليس قول أولى من قولها ولا قولها أولى من قوله إلا بنص والنص موافق لقول فاطمة وعمر مجتهد مخطىء في رد ذلك مأجور مرة ولا تعلق للمالكيين بهذا الخبر لأنهم خالفوا رواية فاطمة وخالفوا قول عمر فلم يتعلقوا بأحدهما وأما ما ذكروا من نهي عمر رضي الله عنه في الإكثار من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فحدثنا محمد بن سعيد ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 بن أصبغ ثنا الخشن ثنا بندار ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن بيان عن الشعبي عن قرظة هو ابن كعب الأنصاري قال شيعنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى صرار فانتهى إلى مكان فتوضأ فيه فقال أتدرون لما شيعتكم قلنا لحق الصحبة قال إنكم ستأتون قوم تهتز ألسنتهم بالقرآن كاهتزاز النخل فلا تصدروهم بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم قال قرظة فما حدثت بشيء بعد ولقد سمعت كما سمع الصحابي فهذا لم يذكر فيه الشعبي أنه سمعه من قرظة وما نعلم أن الشعبي لقي قرظة ولا سمع منه بل لا شك في ذلك لأن قرظة رضي الله عنه مات والمغيرة بن شعبة أمير الكوفة هذا مذكور في الخبر الثابت المسند وأول من نيح عليه بالكوفة قرظة بن كعب فذكر المغيرة عنده ذلك خبرا مسندا في النوح ومات المغيرة سنة خمسين بلا شك والشعبي أقرب إلى الصبا فلا شك في أنه لم يلق قرظة قط فسقط هذا الخبر بل قد ذكر بعض أهل العلم بالأخبار أن قرظة بن كعب مات وعلي رضوان الله عليه بالكوفة فصح يقينا أن الشعبي لم يلق قط قرظة ولا عقل عنه كلمة وحدثنا أيضا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد ثنا أبو بكر هو ابن عياش عن أبي حصين يرفعه إلى عمر أنه حين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 وجه الناس إلى العراق قال جردوا القرآن وأقلوا الراوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم قال أبو محمد وأبو حصين لم يولد إلا بعد موت عمر بدهر وأعلى من عنده ابن عباس والشعبي قال علي وروي عنه أيضا أنه رضي الله عنه أنه حبس ابن مسعود من أجل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روينا بالسند المذكور إلى بندار ثنا غندر ثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء وأبي ذر ما هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأحسبه أنه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات قال علي هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح ولا يجوز الاحتجاج به ثم هو في نفسه ظاهر الكذب والتوليد لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة وفي هذا ما فيه أو يكون نهى عن نفس الحديث وعن تبليغ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين وألزمهم كتمانها وجحدها وأن لا يذكروها لأحد فهذا خروج عن الإسلام وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك ولئن كان سائر الصحابة متهمين في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فما عمر إلا واحد منهم وهذا قول لا يقوله مسلم أصلا ولئن كان حسبهم وغيرهم متهمين لقد ظلمهم فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء ولا بد له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 من أحدهما وإنما معنى نهي عمر رضي الله عنه من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو صح فهو بين في الحديث الذي أوردناه من طريق قرظة وإنما نهى عن الحديث بالأخبار عمن سلف من الأمم وعما أشبه وأما بالسنن عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن النهي عن ذلك هو مجرد وهذا ما لا يحل لمسلم أن يظنه ممن دون عمر من عامة المسلمين فكيف بعمر رضي الله عنه ودليل ما قلنا أن عمر قد حدث بحديث كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان الحديث عنه عليه السلام مكروها فقد أخذ عمر من ذلك بأوفر نصيب ولا يحل لمسلم أن يظن بعمر رضي الله عنه أنه نهى عن شيء وفعله لأنه قد روي عنه رضوان الله عليه خمسمائة حديث ونيف على قرب موته من موت النبي صلى الله عليه وسلم فصح أنه كثير الرواية والحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وما في الصحابة أكثر رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب إلا بضعة عشر منهم فقط فصح أنه قد أكثر الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فصح بذلك التأويل الذي ذكرنا لكلامه رضي الله عنه وهكذا القول فيما روي من ذلك عن معاوية رضي الله عنه ولا فرق وقد جاء ما قلناه عن عمر رضي الله نصا دون تأويل كما أنبأ عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية القرشي ثنا ابن خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال ثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي ثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن بكير بن عبد الله بن الأشج أن عمر بن الخطاب قال سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنة أعلم بكتاب الله عز وجل قال علي وقد صح بهذا أن عمر أمر بتعليم السنن وأخبر أنها تبين القرآن فصح ما قلناه يقينا بلا مرية وارتفع اللبس والحمد لله رب العالمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وأعجب من هذا كله أن المالكيين المحتجين بأن عمر رضي الله عنه حبس ابن مسعود وأبا موسى وأبا الدرداء بالمدينة على الإكثار من الحديث ينبغي لهم أن يحاسبوا أنفسهم فيقولوا إذا أنكر عمر على ابن مسعود وأبي موسى وأبي الدرداء الإكثار من الحديث وسجنهم على ذلك وهم أكابر الصحابة وعدول الأمة وليس لابن مسعود إلا ثمانمائة حديث ونيف وليس لأبي الدرداء إلا مائة حديث ونيف لعله لا يصح عنهما إلا أقل من نصف هذين العددين ماذا كان يصنع بمالك لو رأى موطأه قد جمع فيه ثمانمائة حديث ونيفا وثلاثين حديثا من مسند ومرسل أين كنتم ترونه يبلغ به وهو ينكر على الصحابة بزعمكم الكاذب دون هذا العدد فلو كان لهؤلاء القوم دين أو عقل أما كان يحجزهم عن الإقدام على الإنكار على الصحابة رضوان الله عليهم أمرا يجيزون لصاحبهم أكثر منه إن هذا لعجب وأما الحنفيون فقد طردوا أصلهم ههنا لأن صاحبهم أقل الحديث ولم يطلبه بكثرة خطئه وقلة حديثه وحسبنا الله ونعم الوكيل والرواية في حبس ابن مسعود في ذلك عنه ضعيفة وإنما صح أنه تشدد في الحديث كما ذكرنا وكان يكلف من حدثه بحديث أن يأتي بآخر سمعه معه وإنما فعل ذلك اجتهادا منه وقد أنكره عليه أبي فرجع عمر عن ذلك وذلك مذكور في حديث الاستئذان وحتى لو صح ذلك عن عمر ومعاوية فقد خالفهما في ذلك أبي وعبادة وبلغ ذلك بأحدهما إلى أن حلف ألا يساكنه في بلد واحد فمن جعل قول معاوية أولى من قول عبادة وأبي الدرداء وأما الرواية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لم يقنع بقول المغيرة وروايته فمنقطعة لا تصح ولو صححت لما كان لهم فيها حاجة لأنهم يقولون بخبر الواحد إذا وافقهم ولا معنى لطلب راو آخر فالذي يدخل خبر الواحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 يدخل خبر الاثنين ولا فرق إلا أن يفرق بين ذلك نص فيوقف عنده وأما الرواية عن عائشة أم المؤمنين فإنما موهوا بإيرادها ولا حجة لهم فيها لأنها لم تقل قط أنها لم تصدق أبا هريرة ولا أنها تستجيز رد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر لها أن أبا هريرة ينهى عن المشي في نعل واحد فقالت لأحنثن أبا هريرة وأحسنت وبرت فلو لم يكن في هذا إلا قول أبي هريرة لما لزم الأخذ به وأما خبر عثمان فلا ندري على أي وجه أورده والذي نظن بعثمان أنه كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية في صفة الزكاة استغنى بها عما عند علي بل نقطع بهذا عليه قطعا ولا وجه لذلك الخبر سوى هذا أو المجاهرة بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعاذه الله من ذلك فإن صاروا إلى توجيهنا بطل تعلقهم بهذا الخبر وإن وجهوه على هذا الوجه الآخر لحقوا بالروافض ونسبوا إلى عثمان الكفر أو الفسق وقد برأه الله من ذلك وأن من نسب إليه لأولى به من عثمان بلا شك وأما قول عمار لعمر فيعيذ الله عمارا من أن يستجيز جحد سنة عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم موافقة لرأي عمر هذه صفة توجب الكفر لمن استحلها ويوجب الفسق لمن فعلها غير مستحل لها لا يختلف في ذلك اثنان من أهل الإسلام مع مجيء النص بذلك فيمن يكتم حكم الله تعالى أو يخالفه وإنما قال ذلك عمار مبكتا لعمر إذ خالفه بمعنى أترى لي أن أكتم هذا الخبر نعم إن شئت كما قال تعالى {إن لذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى في لنار خير أم من يأتي آمنا يوم لقيامة عملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} أو غير هذا وهو في الخبر ذكر أن عمر أجنب فلم يصل فهذا الذي أراد عمار كتمانه وأنه لا يحدث به أبدا لواجب حق عمر عليه وهذا مباح إذ ليس ذكر اسم عمر في ذلك من السنن ولا له فائدة لكن عمر رضي الله عنه لم يفسح له في ذلك بل ولاه من التصريح باسمه في ذلك ما تولى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وأما ابن عباس فإنه روى في فضل المرأة من طريق ميمونة خبرا بنى عليه وروى في المتعة إباحة شهدها فثبت عليها ولم يحقق النظر وقد أنكر ذلك عليه علي بن أبي طالب وأغلظ عليه القول وروي في الدرهم بالدرهمين خبرا عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت عليه وأنكر عليه ذلك أبو سعيد وأغلظ له في القول جدا ولم يعارض خبر الحكم في فضل المرأة بأكثر من أن قال هي ألطف بنانا وأطيب ريحا فليس في هذا رد للحديث ولا لحكمه بل صدق في ذلك وقد خالفه في الوضوء مما مست النار وفي غسل اليد ثلاثا قبل إدخالها في الإناء أبو هريرة وأغلظ له في القول فليت شعري من جعل قول ابن عباس أولى من قول علي وأبي هريرة والحكم بن عمرو وأبي سعيد وأما قول ابن عمر إن لأبي هريرة زرعا فصدق وليس في هذا رد لرواية أبي هريرة أصلا فإذا لم يبق من جميع ما اعترضوا به إلا اختلاف الصحابة في بعض ذلك مما صح وثبت فالواجب الرد المفترض الذي لا يحل سواه هو الرد في ذلك إلى الله تعالى وإلى النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان صاحب في ذاته فغير مبعد عنه الوهم لا سيما إذا اختلفوا فمضمون أن أحد القولين خطأ فوجدنا الله تعالى قد أمر بالتفقه في الدين وإنذار الناس به وأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إلى طاعته عليه السلام إلا بنقل كلامه وضبطه وتبليغه ولا سبيل إلى التفقه في الدين إلا بنقل أحكام الله تعالى وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد حض على تبليغ الحديث عنه وقال في حجة الوداع لجميع من حضر ألا فليبلغ الشاهد الغائب فسقط قول من ذم الإكثار من الحديث ثم العجب فيه إيرادهم لهذه الآثار التي ذكرنا عمن أوردوها عنه من الصحابة فوالله العظيم ما أدري غرضهم في ذلك ولا منفعتهم بها ولا شك أنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 لا يدرون لماذا أوردوها لأنهم إن كانوا أوردوها طعنا في القول بخبر الواحد فليس هذا قولهم بل هم كلهم يقولون بخبر الواحد وأيضا فهي كلها أخبار آحاد وليس شيء منها حجة عند من لا يقول بخبر الواحد وهذا عجب جدا أو يكونوا أوردوها على إباحة رد المرء ما لم يوافقه من خبر الواحد وأخذ ما وافقه من ذلك فهذا هوس عتيق أول ذلك أنهم يردون بعض ما لم يرده من احتجوا به من الصحابة ويأخذون ببعض ما رده من احتجوا به منهم وأيضا فإن كان الأمر كذلك فقد اختلط الدين وبطل لأن لخصومهم أن يردوا بهذا الباب نفسه ما أخذوا به ويأخذوا ما ردوه هم منه ونعوذ بالله منه قال علي ولا أضل ولا أجهل ولا أبعد من الله عز وجل ممن يزجر عن تبليغ كلام النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر بألا يكثر من ذلك أو يرد ما لم يوافقه مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بنظره الملعون ورأيه الفاسد وهواه الخبيث ودعواه الكاذبة ثم يغني دهره في الإكثار من تبليغ آراء مالك وابن القاسم وسحنون وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والتلقي بالقبول لجميعها على غلبة الفساد عليها ألا إن ذلك هو الضلال البعيد والفتيا بالآراء المتناقضة وبالله تعالى نعتصم قال علي وأما من ظن أن أحدا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينسخ حديث النبي صلى الله عليه وسلم ويحدث شريعة لم تكن في حياته عليه السلام فقد كفر وأشرك وحل دمه وماله ولحق بعبدة الأوثان لتكذيبه قول الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقال تعالى {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} فمن ادعى أن شيئا مما كان في عصره عليه السلام على حكم ما ثم بدل بعد موته فقد ابتغى غير الإسلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 دينا لأن تلك العبادات والأحكام والمحرمات والمباحات والواجبات التي كانت على عهده عليه السلام هي الإسلام الذي رضيه الله تعالى لنا وليس الإسلام شيئا غيرها فمن ترك شيئا منها فقد ترك الإسلام ومن أحدث شيئا غيرها فقد أحدث غير الإسلام ولا مرية في شيء أخبرنا الله تعالى به أنه قد أكمله وكل حديث أو آية كانا بعد نزول هذه الآية فإنما هي تفسير لما نزل قبلها وبيان لجملتها وتأكيد لأمر متقدم وبالله تعالى التوفيق ومن ادعى في شيء من القرآن أو الحديث الصحيح أنه منسوخ ولم يأت على ذلك ببرهان ولا أتى بالناسخ الذي ادعى من نص آخر فهو كاذب مفتر على الله عز وجل داع إلى رفض شريعة قد تيقنت فهو داعية من دعاة إبليس وصاد عن سبيل الله عز وجل نعوذ بالله قال الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} فمن ادعى أن الناسخ لم يبلغ وأنه قد سقط فقد كذب ربه وادعى أن هنالك ذكرا لم يحفظه الله بعد إذ أنزله فإن قال قائل الحديث قد يدخله السهو الغلط قيل له إن كنت ممن يقول بخبر الواحد فاترك كل ما أخذت به منه فإنه في قولك محتمل أن يكون دخل فيه السهو الغلط وإن كنت مقلدا فاترك كل من قلدت فإن السهو والغلط قد يدخلان عليه بالضمان وقد يدخلان أيضا في الرواة عنهم الذين عنهم أخذت دينك وإلا فالرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم أوثق من الرواة عن مالك وأبي حنيفة نعم ومن مالك وأبي حنيفة أنفسهما وإن كنت ممن يبطل خبر الواحد جملة فقد أثبتنا البرهان على وجوب قبوله وما ثبت بيقين فلا يبطل بخوف سهو لم يتيقن والحق لا تسقطه الظنون قال الله تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} ولزمه أن يسقط القبول لشهادة الشاهدين في الدماء والفروج والأموال إذ يدخل عليهما السهو والغلط وتعمد الكذب وبالله تعالى التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 فصل في صفة الرواية قال علي الرواية هي أن يسمع السامع الناقل الثقة يحدث بحديث من كتابه أو من حفظه أو بأحاديث فجائز أن يقول حدثنا وحدثني وأخبرنا وأخبرني وقال لي وقال لنا وسمعت وسمعنا وعن فلان وكل ذلك سواء وكل ذلك معنى واحد أو يقرأ الراوي عن الناقل حديثا أو أحاديث فيقول المروي عليه بها ويقول نعم هذه روايتي وأن يسمعها تقرأ عليه ويقر بها المروي عنه أو يناول المروي عنه الراوي كتابا فيه حديث أو أحاديث أو ديوانا بأسره عظم أو صغر فيقول له هذا ديوان كذا كل ما فيه أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغه إلى مؤلفه ويستثني شيئا إن كان فاته منه بعينه فإن لم يفته شيء فلا يستثني شيئا أن يقول له عن ديوان مشهور مقبول عند الناس نقل تواتر ليس في ألفاظه اختلاف ديوان كذا أخذته عن فلان عن فلان حتى يبلغ إلى مؤلفه فأي هذه الوجوه كان فجائز أن يقول فيه القائل حدثني وأخبرني وهو محق في ذلك وهو كله خبر صحيح ونقل صادق ورواية تامة لا داخلة فيها كالقراءة والسماع ولا فرق فإن سمعه يخاطب بذلك غيره فليقل سمعت فلانا يخبر عن فلان أو يحدث عن فلان ولا يقل حينئذ نا ولا ني ولا أنا ولا إني فيكذب ولكن إن قال سمعت فلانا فهي رواية صحيحة تامة فليحدث بها وليروها الناس وسواء أذن له المسموع عنه في ذلك أو لم يأذن حجر عليه الحديث عنه أو أباحه إياه كل ذلك لا معنى له ولا يحل لأحد أن يمنع من نقل حق فيه خير للناس قد سمعه الناقل ولا يحل لأحد أن يبيح لغيره نقل ما لم يسمع ومن يتعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 حدود الله فقد ظلم نفسه وإنما هو حق أو كذب فالحق الذي ينتفع به مسلم واحد فصاعدا واجب نقله والكذب حرام نقله وأما من كتب إلى آخر كتابا يوقن المكتوب إليه أنه من عنده فيقول له في كتابه ديوان كذا أخذته عن فلان كما وصفنا قبل فليقل المكتوب إليه أخبرني في كتابه إلي ونحن نقول أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرنا الله تعالى وقال لنا الله تعالى وقال تعالى {ولذين آمنوا وعملوا لصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا وعد لله حقا ومن أصدق من لله قيلا} وقال تعالى {لله نزل أحسن لحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود لذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر لله ذلك هدى لله يهدي به من يشآء ومن يضلل لله فما له من هاد} وإنما ذلك لأنه تعالى خاطب بكتابه كل من يأتي من الإنس والجن إلى يوم القيامة وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمخاطبة كل من يأتي إلى يوم القيامة من الإنس والجن أيضا فليس منا أحد إلا وخطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم يتوجهان إليه يوم القيامة وليس ذلك لمن دونهما أصلا وإنما يخاطب كل من دون الله تعالى ودون رسوله صلى الله عليه وسلم من شافه أو من كتب إليه أو من سمع منه لفظه إذ لم يأمر الله تعالى أحدا من ولد آدم عليه السلام دون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ينذر جميع أهل الأرض وإنما يصح من فعل كل واحد ما وافق ما أمره تعالى به لا ما خالف ما أمره الله عز وجل ومن فعل ما لم يؤمر به ففعله باطل مردود قال علي وأما الإجازة التي يستعملها الناس فباطل ولا يجوز لأحد أن يجيز الكذب ومن قال لآخر ارو عني جميع روايتي دون أن يخبره بها ديوانا ديوانا وإسنادا إسنادا فقد أباح له الكذب لأنه إذا قال حدثني فلان أو عن فلان فهو كاذب أو مدلس بلا شك لأنه لم يخبره بشيء فهذه أربعة أوجه جائزة وهي مخاطبة المحدث للآخذ عنه أو سماع المحدث من الآخذ عنه وقراره له بصحته أو كتاب المحدث إلى الآخذ عنه أو مناولته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 إياه كتابا فيه علم وقوله هذا أخبرني به فلان عن فلان وكل هذه الوجوه قد صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن جميع الصحابة فأما الأخبار فإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن وإخبار الصحابة بعضهم بعضا فأبو بكر أخبره المغيرة ومحمد بن مسلمة وكذلك كل من بعده منهم وأما قراءة الآخذ على المحدث فقد قال بعض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فصدق النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك سأل الناس أصحابه عن الأحكام قصدقوا الحق وأنكروا الباطل وأما الكتاب فكتب النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن إلى ملوك اليمن وإلى من غاب عنه من ملوك الأرض الذين دعاهم إلى الإيمان وكذلك فعل أصحابه بعده إلى قضاتهم وأمرائهم وأما المناولة فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لعمرو بن حزم ولعمر وغيره إذ بعثهم أمراء يعلمهم فيها السنن وأمرهم بالعمل بما فيها وكذلك لعبد الله بن جحش وأعطاه الكتاب وأمره بالعمل بما فيه وكذلك فعل أبو بكر بأنس وبعث علي كتابا مع ابنه إلى عثمان وقال هذه صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر عمالك يعملون بها وأما الإجازة فما جاءت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ولا عن أحد منهم ولا عن أحد من التابعين ولا عن أحد من تابعي التابعين فحسبك بدعة بما هذه صفته وبالله تعالى التوفيق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالوا هذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان قال علي وهذا لا معنى له لأن فلانا الذي أرسله لو لم يروه أصلا أو لم يسمعه البتة ما كان ذلك مسقطا لقبول ذلك الحديث فكيف إذا رواه مرسلا وليس في إرسال المرسل ما أسنده غيره ولا في جهل الجاهل ما علمه غيره حجة مانعة من قبول ما أسنده العدول لا سيما إن كان المعترض بها مالكيا أو حنفيا فإنهم يرون المرسل مقبولا كالمسند فكيف يوهنون الصحيح بما يرونه موافقا له وشاذا ومؤيدا إن هذا لعجيب وإن هذا لإفراط في الجهل والسقوط ولا معنى لقولهم إنما يراعى هذا إذا كان المرسل أو الموقف أعدل من المسند فإنما يجب قبول الخبر إذا رواه العدل عن العدل ولا معنى لتفاضل العدالة على ما قد ذكرنا في هذا الباب إذ لا نص ولا إجماع ولا دليل على مراعاة عدل وأعدل منه وإنما الواجب مراعاة العدالة فقط وبالله تعالى نتأيد ونعتصم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 الباب الثاني عشر في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور وبطلان قول من صرف شيئا من ذلك إلى التأويل أو التراخي أو الندب أو الوقف بلا برهان ولا دليل قال أبو محمد الذي يفهم من الأمر أن الآمر أراد أن يكون ما أمر وألزم المأمور ذلك الأمر وقال بعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين إن أوامر القرآن والسنن ونواهيهما على الوقف حتى يقوم دليل على حملها إما على وجوب في العمل أو في التحريم وإما على ندب وإما على إباحة وإما على كراهة وذهب قوم من الطوائف التي ذكرنا وجميع أصحاب الظاهر إلى القول بأن كل ذلك على الوجوب في التحريم أو الفعل حتى يقوم دليل على صرف شيء من ذلك إلى ندب أو كراهة أو إباحة فتصير إليه قال علي وهذا هو الذي لا يجوز غيره ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون ما اعترض به المخالفون وبطلان شغبهم بالبراهين الصحيحة ثم نذكر الأدلة على صحة ما ذهبنا إليه وبالله تعالى التوفيق قال علي فعمدة ما موهوا به أن قالوا لو كان لفظ الأمر موضوعا للإيجاب لم يوجد أبدا إلا كذلك لكن لما وجدنا بلا خلاف منكم لنا أوامر معناها الندب أو الإباحة ووجدنا نواهي بلا خلاف منكم لنا معناها الكراهة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 وجب ألا نصرف الألفاظ إلى بعض ما تحتمله من المعاني دون بعض إلا بدليل قالوا وألفاظ الأوامر عندنا من الألفاظ المشتركة التي لا تختص بمعنى واحد لكنها بمنزلة عير ورجل ولون وعين فإن قولك رجل ليس هو بأن يوقع على العضو أولى منه بأن يوقع على جماعة الجراد وقولك عير ليس بأن يوقع على الحمار أولى من أن يوقع على العظم الذي في القدم وقولك عين ليس بأن يوقع على يمين عين النظر أولى من أن يوقع على عين الماء وقولك لون ليس بأن يوقع على الحمرة أولى من أن يوقع على البياض فكذلك قول القائل افعل لما وجد يراد به الندب ووجد يراد به إيجاب لم يكن إيقاعه على الإيجاب أولى من إيقاعه على الندب إلا بدليل قال علي هذا شغب فاسد وذلك أنا نقول وبالله تعالى التوفيق إن لكل مسمى من عرض أو جسم اسما يختص به يتبين به مما سواه من الأشياء ليقع بها التفاهم وليعلم السامع المخاطب به مراد المتكلم المخاطب له ولو لم يكن ذلك لما كان تفاهم أبدا ولبطل خطاب الله تعالى لنا وقد قال الله تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} ولو لم يكن لكل معنى اسم منفرد به لما صح البيان أبدا لأن تخليط المعاني هو الإشكال نفسه فإذن الأصل ما ذكرناه بضرورة العقل وبنص القرآن ثم وجدنا في اللغة أشياء مما ذكروا من أسماء تقع على معان شتى ووجدناها أيضا أسماء يختص كل اسم منها بمسماه فقط وعلمنا أن المراد باللغة إنما هو الإفهام لا الإشكال لزمنا أن نلزم الأصل الذي هو اختصاص كل معنى باسمه دون أن يشاركه فيه غيره حتى يصح عندنا أن هذا الاسم مرتب بخلاف هذه الرتبة وأنه مما لا يقع به بيان فيطلب بيانه حينئذ من غيره قال علي والذي شبهوا به الأوامر من الأسماء المشتركة التي ذكروا مثل لون وعير ورجل تشبيه فاسد ضرورة وذلك أن المخاطب إذا خاطبنا بخبر ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 عن رجل أو عن لون أو أمرنا بأمر ما في ذلك فممكن أن نحمل خبره وأمره على كل ما يقتضيه ما ذكر مثل أن يقول لا تأكلوا عيرا فيجتنب كل ما يقع عليه اسم عير وإن اختلفت أنواعه وكذلك قوله تعالى {وهو لذي أنزل من لسمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن لنخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب ولزيتون ولرمان مشتبها وغير متشابه نظروا إلى ثمره إذآ أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} وكان ذلك واقعا على كل ثمر وإن اختلفت أنواعه وكذلك قول القائل الهواء لا لون له فقد انتفى بذلك عنه البياض والحمرة والسواد والخضرة والصفرة فالفائدة بالخطاب بهذه الأسماء قائمة والتفاهم ممكن وحملها على ما يقتضيه جائز حسن إلا أن يقوم دليل على تخصيص بعض ما تحتها فيصار إليه وهذا غير ممكن في الأوامر التي أرادوا أن يشبهوها بالأسماء التي ذكرنا لأنه إذا قيل لنا افعلوا وكان هذا اللفظ ممكنا أن يراد به الإيجاب وممكنا به الندب أو الإباحة فلا سبيل في بنية الطبيعة إلى حمله على كل الوجوه التي ذكرنا إذ ممتنع بالضرورة أن يكون الشيء ملزما ولا بد ومباحا تركه في وقت واحد لإنسان واحد هذا محال لا يمكن ولا يقدر عليه فيبطل تشبيههم وصح أن الأمر لو كان كما ذكروا لكان غير مقدر على الائتمار له أبدا ولو كان ذلك لبطل الأمر كله ضرورة وإذ قد صح ورود الأمر من الله عز وجل وصح التخاطب بالأوامر في اللغة بين الناس علمنا أنه لا يجوز أن يخاطبنا تعالى بما لا سبيل إلى الائتمار له وبالمحالات التي لا نقدر عليها وصح أن الأمر مراد به معنى مختص بلفظه وبنيته وليس ذلك إلا كون ما خوطب به المأمور وبالله تعالى التوفيق قال علي وإنما الذي ذكروا من أنهم قد وجدوا أوامر معناها الندب فصدقوا والوجه في ذلك أننا قد وجدنا في اللغة ألفاظا نقلت على معهودها وعن موضوعها في اللسان وعلقت على أشياء أخر فعل ذلك خالق اللغة وأهلها الذي رتبها كيف شاء عز وجل أو فعل في ذلك بعض أهل اللغة من العرب أو فعل ذلك مصطلحان فيما بينها كما نقل تعالى اسم الصلاة عن موضوعها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 في اللغة عن الدعاء إلى استقبال الكعبة ووقوف وركوع وسجود وجلوس بصفات محدودة لا تتعدى وكما نقل تعالى اسم الصيام عن الوقوف إلى امتناع الأكل والشرب والوطء في أيام معلومة وكما نقل اسم الكفر عن التغطية إلى أقوال محدودة ونيات معلومة فإذا قد وجدنا ذلك لزمنا إذا قام دليل على أن لفظا ما قد نقل عن موضوعه من اللغة ورتب في مكان آخر أن يعتقد ذلك وإما ما لم يقم دليل على نقله فلا سبيل إلى إحالته عن مكانه البتة وقد قال بعض المفسدين للحقائق المتكلمين بما لا يعقل ليس هذا نقلا إنما النقل ما لم يجز أن يبقى على ما نقل عنه قال علي وهذا تحكم لا يعرفه أهل اللغة بل كل حال أحيلت فقد تنقل حكمها عما كان عليه والاسم إذا وقع على معنى ما فأوقعه الله تعالى أيضا على معنى آخر فقد نقله على حكم الوقوع على معنى واحد إلى حكم الوقوع على معنيين وأيضا فلسنا نحاكرهم في لفظ النقل وإنما نريد أن اللفظة كانت تقع في اللغة على معنى ما فأوقعت أيضا على غير ذلك قال علي ثم نقول لهم ما يلزمكم إن صححتم دليلكم الذي ذكرتم أنكم قد وجدتم آيات كثيرة وأحاديث كثيرة منسوخات لا يحل العمل بها أن تتوقفوا في كل آية وفي كل حديث لاحتمال كل شيء منها في نفسه أن يكون منسوخا كاحتمال كل أمر في نفسه أن يكون ندبا فإن التزمتم ذلك كفرتم وخرجتم عن الإسلام وإن أبيتم التزامه أصبتم وكنتم قد أبطلتم دليلكم في أنه لما قد وجدت أوامر معناها الندب وجب التوقف عن جميع الأوامر حتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 يصح أنها إما إيجاب أو ندب قال علي وليس بين ما ألزمناهم من التوقف عن كل آية وحديث من أجل وجودهم آيات منسوخة وأحاديث منسوخات وبين ما التزموا من التوقف عن كل أمر من أجل وجودهم أوامر معناها الندب فرق البتة بل هو ذلك بعينه لسنا نقول إن مثله بل نقول إن المعنى في ذلك واحد وبيان ذلك أن المنسوخ هو الذي لا يلزم أن يستعمل أو يجوز أن يستعمل والمندوب إليه هو الذي لا يلزم فرضا أن يستعمل أيضا فقد اجتمعنا في سقوط وجوب الاستعمال اجتماعا مستويا وإنما افترقا أن المندوب إليه مباح استعماله والمنسوخ ليس مباحا استعماله في بعض الأحوال فقط فبطل تمويههم وبالله تعالى التوفيق بإقرارهم أنه ليس من أجل وجودنا ألفاظا مصروفة عن مواضعها في اللغة يجوز أن يتوقف في سائر الألفاظ خوف أن تكون مصروفة عن مواضعها فقد بطل الاستدلال الذي أرادوا تحقيقه وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن لفظة أو ولفظة إن شئت مفهوم منهما التخيير بلا خلاف منا ومنهم ومن جميع أهل اللغة وقد سمعناه تعالى يقول {وقل لحق من ربكم فمن شآء فليؤمن ومن شآء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بمآء كلمهل يشوي لوجوه بئس لشراب وسآءت مرتفقا} سمعناه تعالى يقول {قل كونوا حجارة أو حديدا} وجدنا الدليل البرهاني قد قام على خروج هاتين الآيتين عن التخيير إلى معنى آخر فيلزم على دليلهم الفاسد ألا يحملوا لفظة أو ولا لفظة إن شئت أبدا على التخيير لأنه يقال لهم كما قالوا لو كانت لفظتا أو وإن شئت على التخيير لكانت متى وجدت لما تكن إلا للتخيير فلما وجدت لغير التخيير في عدة مواضع بطل أن تكون للتخيير قال علي وفي هذا إبطال الكلام كله وإبطال التفاهم وفساد الحق والشرائع كلها والعلوم كلها لأنه لا قول إلا وقد يوجد موضوعا في غير بنيته في اللغة إما على المجاز أو الاتفاق بين المتخاطبين فلو وجب من أجل ذلك أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 يبطل حمل الأسماء على معانيها التي رتبت لها في اللغة لبطل كل ما ذكرنا وكفى فسادا بكل قول أدى إلى إبطال الحقائق وبالله تعالى التوفيق قال علي فإن قالوا إنا لم نوافقكم على أن لفظ الأمر موضوعه في اللغة الوجوب فيلزمنا ما ألزمتمونا وإنما قلنا إنه ليس موضوعه في اللغة الوجوب دون الندب ولا الندب دون الوجوب قال علي فنقول وبالله تعالى التوفيق قد أبطلنا في كلامنا هذا جواز وقوع لفظ الأمر على الوجوب وعلى الندب معا وفرقنا بين ذلك وبين وقوع الألفاظ المشتركة مثل لون وعير على معان شتى وبينا أن ذلك جائز ممكن موجود وأن وقوع لفظ الأمر على الوجوب وعلى الندب معا محال ممتنع لا سبيل إليه ولا يتشكل في العقل البتة فصح ضرورة أن لفظ الأمر موضوع في أصل اللغة إما للوجوب فقط ثم نقل بدليل كما ذكرنا في بعض المواضع إلى الندب أو إلى غير الوجوب من سائر المعاني التي سنبينها إن شاء الله تعالى وإما أنه موضوع في أصل اللغة للندب خاصة أو لمعنى ما من سائر المعاني التي قد وردت بلفظ الأمر ثم نقل إلى الوجوب بدليل فهذا هو الذي يتشكل في العقل وأما احتمال وقوع لفظ الأمر على الندب والوجوب معا في وقت واحد فهذا باطل لأنه يوجب أن ورود الأمر لا حقيقة له أصلا ولا له معنى البتة وهذا أحمق من قول السوفسطائية فهذا الذي أردنا أن نبين إحالته وقد صح والحمد لله ولا بد لكم من المصير إلى أحد الخبرين ضرورة إما أن تقولوا لفظ الأمر موضوع للوجوب في اللغة حتى يصح دليل بنقله إلى غير الوجوب وهذا قولنا وإما أن تقولوا لفظ الأمر موضوع لغير الوجوب في اللغة حتى يصح دليل ينقله إلى الوجوب فإن قلتم ذلك سهل أمركم بقول وجيز بحول الله وقوته وحسبنا أن قد قلعناكم بلطف الله عن مكان الشغب على الجهال وذلك أن قول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 القائل الأوامر كلها على غير الوجوب حتى يصح دليل نقلها إلى الوجوب دخول في عظيمتين إحداهما خرق الإجماع فما قال بهذا أحد قط وإنما شغب من شغب بالموقف وبما قدمنا إبطاله من احتمال الأمرين والثانية إبطال فائدة العقل لأنه يصير حينئذ قائلا إن الموضوع في اللغة من لفظة افعل لا تفعل إن شئت وهذا خلاف فهم جميع أهل اللغات لأن الثابت في فطرة العقل أن النهي عن الشيء غير الأمر به وكفى مع أن الإجماع على ترك هذا القول كاف عن تكلف دليل وبرهان ضروري وهو أنه إن كانت لفظة افعل موضوعة لغير الإيجاب إلا بدليل يخرجها إلى الإيجاب وكانت أيضا لفظة لا تفعل موضوعة لغير التحريم إلا بدليل يخرجها إلى التحريم وكان كلتا اللفظتين تعطي افعل إن شئت أو لا تفعل إن شئت فقد صار ولا بد من المفهوم من لا تفعل هو المفهوم من افعل وهذا لا يقوله ذو مسكة عقل قال علي قالوا وبأي شيء يدل على أنه على الوجوب أبنفسه أم بدليله فإن قلتم بنفسه ففي ذلك اختلفنا وإن كان بدليله فإذا لم يدل هو فدليله أحرى أن لا يدل قال علي وهذا شغب فاسد ضعيف جدا تعلقوا إليه من قبل مبطلي الحقائق فإنهم قد سألونا بهذا السؤال نفسه فقالوا بماذا ثبت عندكم أن الأشياء حق أبأنفسها ففيها اختلفنا أم بغيرها فلا شيء في العالم يوجد من غير الأشياء الموجودة وليس غير الأشياء إلا لا شيء فإذا لم يدل الشيء على حقيقة نفسه فلا شيء أحرى ألا يدل وتعلق أيضا بهذا السؤال مبطلو دلائل العقل فقالوا بأي شيء علمتم صحة ما يدل عليه العقل أبالعقل أم بغير العقل ونحو هذا من الهذيان كثير وهؤلاء القوم في شعبة من طريق مبطلي الحقائق ومبطلي مدركات العقل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 ونعكس عليهم سؤالهم هذا السخيف الذي صححوه فهو لازم لهم لا لنا إذ لم نصححه ونقول لهم بأي شيء يدل الأمر على أنه على الوقف أبنفسه أم بدليله فإن قلتم بنفسه ففي ذلك اختلفنا وإن كان بدليله فإذا لم يدل هو فدليله أحرى ألا يدل فمن أحمق استدلالا ممن دليله عائد عليه وهادم لقوله وإنما هم قوم لا يحققون شيئا إنما هم في سبيل التشغيب على الضعفاء وما يخدعون إلا أنفسهم والجواب عن هذا السؤال السخيف وبالله تعالى التوفيق أنا قد أخبرنا فيما خلا وفي سائر كتبنا بأننا مضطرون إلى معرفة أن الأشياء حقائق وأنها موجودة على حسب ما هي عليه وبأنه لا يدري أحد كيف وقع له ذلك وبينا أن هذه المعرفة التي اضطرنا إليها وخلقها الباري تعالى في أنفسنا في أول أوقات فهمنا بعد تركيبها في الجسد هي أصل لتمييز الحقائق من البواطن وهي عنصر لكل معرفة وإننا عرفنا إيجاب الأوامر ببديهة العقل وبالتمييز الموضوعين فينا لنعرف بها الأشياء على ما هي عليه فعلمنا أن الحجر صليب وأن الماء سيال في طبعه وإن انتقل إلى الجمود في بعض أحواله وأن قول القائل فلان أحمق ذم وأن قوله فلان عاقل مدح وأن الأمر عنصر من عناصر الكلام التي هي خير ودعاء واستفهام وأمر فلما استقر في النفس أن إرادة الأمر أن يفعل المأمور ما يأمره به معنى قائم في النفوس لم يكن له بد من عبارة يقع بها التفاهم وعلمنا ذلك أيضا بنصوص سنذكرها في تمام إبطال ما شغبتم به إن شاء الله تعالى وبالله نتأيد وإياه نستعين هذا كل ما احتج به القائلون بالوقف ولا مزيد فقد أبطلناه بالبرهان الضروري بتوفيق الله تعالى وتعليمه لا إله إلا هو إلا أن ابن المنتاب المالكي أتى بعظيمة فلزمنا التنبيه عليها إن شاء الله تعالى وذلك أنه قال إن من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 الدليل على أن الأوامر على الوقف قول الله تعالى مخبرا عن أهل اللغة الذين هم العرب {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا لعلم ماذا قال آنفا أولئك لذين طبع لله على قلوبهم وتبعوا أهوآءهم} قال فلو كانت الأوامر على الوجوب والألفاظ على العموم لما كان لسؤالهم عما قاله عليه السلام معنى إذ لو فهم الوجوب والعموم من نفس اللفظ لكان سؤالهم فاسدا قال علي لا يشبه هذا القول احتجاج مسلم لأن الله تعالى حكى هذا الاعتراض عن قوم منافقين كفار لم يرض فعلهم ولا سؤالهم وإنما حكى الله عز وجل ذلك عنهم منكرا عليهم وقد قال تعالى {فأنجيناه وأصحاب لسفينة وجعلناهآ آية للعالمين} فأخبر تعالى أن ظاهر القرآن وتلاوته تكفي أن ذلك يجب قبوله على ظاهره حين وروده هذا نص الآية المذكورة ووصية الله تعالى التي لا تحتمل غير ما ذكرنا ولا أعجب من احتجاج من يدعي أنه مسلم في إسقاطه إيجاب طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بكلام قوم كفار منافقين مستهزئين بآيات الله عز وجل وما نعرف لهذا الاحتجاج مثلا في الشنعة والفظاعة إلا قول إسماعيل بن إسحاق في كتابه الخمس وهو كتاب مشهور معلوم ولنا عليه فيه رد هتكنا عواره فيه وفضحناه بحول الله وقوته فإن قال في الكتاب المذكور لو كان ما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم صناديد قريش من غنائم هوازن إثر يوم حنين من نصيبه من خمس الخمس كما قال الشافعي ما قالت الأنصار في ذلك ولا قال ذو الخويصرة ما قال قال علي فمن أضل ممن يحتج بكلام ذي الخويصرة ويتخذ ذا الخويصرة وليجة من دون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويجعل إنكار كافر مشرك شر خلق الله هجور لرسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على المؤمنين القائلين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أعطى من أعطى نصيبه الذي فوض الله تعالى أمره إليه لا مما جعله الله عز وجل لأقوام مسلمين معروفين اللهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 إنا نبرأ إليك من هذا الكلام ومن نصر مذهب قاد إلى الاحتجاج بإنكار ذي الخويصرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقول المنافقين ماذا قال آنفا ونحن نقول قول إنصاف إذ قد اقتدى ابن المنتاب بالقائلين إذ خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استمعوا إليه ثم قالوا لأهل العلم وتبرأنا نحن منهم ومن مثل سؤالهم واقتدينا نحن بالذين قالوا {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم لمفلحون} فلله ما اختار وله إن شاء الله تعالى ما أعطى الله للذين اقتدى بهم إذ قال عز وجل يعقب حكاية قوله {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} {ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا لعلم ماذا قال آنفا أولئك لذين طبع لله على قلوبهم وتبعوا أهوآءهم} } محمد 16 ونحن راجون أن يعطينا الله بمنه وطوله ما أعطى من اقتدينا بهم في قولهم {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم لمفلحون} إذ يقول الله تعالى {إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون} ونعم فليعلم الجاهل المعترض بأقوال المنافقين المشركين على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم أن قول الذين قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا لا معنى لسؤالهم هذا ولا يعقل سؤالهم لأنه سؤال مجنون فاسد الدين ملعون وشغب بعضهم بقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} {فإذا قضيت لصلاة فنتشروا في لأرض وبتغوا من فضل لله وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون} قالوا وهذا إباحة بلا شك فقلنا يجب عليكم إذا احتججتم بهذا أن تقولوا إن جميع الأوامر على الندب حتى يقوم دليل على الوجوب وهذا ليس قولهم وأما هاتان الآيتان فإنما خرجتا عن الوجوب إلى الإباحة ببرهان أما التصيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم حل بالطواف بالبيت وانحدر إلى منى ولم يصطد فصح أنه ليس فرضا بهذا النص الآخر وأما {فإذا قضيت لصلاة فنتشروا في لأرض وبتغوا من فضل لله وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون} فإن عبد الله بن ربيع قال حدثنا عمر بن عبد الملك حدثنا ابن الأعرابي ثنا علي بن عبد العزيز ثنا القعنبي ثنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 قال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث اللهم اغفر له اللهم ارحمه قال أبو محمد فندبنا إلى القعود في مصلانا بعد الصلاة فصح بذلك أن الانتشار بعد الصلاة إباحة فمن جاءنا في شيء من الأوامر ببرهان ينقله عن الفرض إلى الندب وعن التحريم إلى الكراهية صرنا إليه وأما بالدعوة الكاذبة المحيلة للقرآن والسنن على موضوعها فمعاذ الله من ذلك واحتج على بعضهم بالخبر الثابت من طريق أنس أن رجلا اتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر النبي عليه السلام علي بن أبي طالب أن يقتله فأتاه فوجده في ركي يتبرد فأمره بالخروج فلما خرج فإذا هو مجبوب لا ذكر له فتركه وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره وزاد بعض من لا يوثق به في هذا الخبر أن عليا قال له يا رسول الله أنفذ لأمرك كالسكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فقال له بل الشاهد يرى ما لا يراه الغائب وقد ذكر هذا اللفظ أيضا في خبر بعثه عليه السلام عليا إلى خيبر وكلاهما لا يصح أصلا بل هما زيادتا كذب لم يرو قط من طريق فيها خير ويلزم من صححها أن يسقط من الصلاة ثلاث صلوات أو من كل صلاة ركعة إن رأى ذلك أصلح أو ينقل صوم رمضان إلى الربيع رفقا بالناس إذ الشاهد يرى ما لا يرى الغائب وأن يزيد في الحدود والزكاة أو ينقص منها وهذا كفر صريح فبطل التعلق بهذا اللفظ الموضوع وكذلك ما روي أنه عليه السلام أمر أبا بكر وعمر بقتل ذي الخويصرة فرجعا وقال أحدهما يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدته ساجدا وقال الآخر وجدته راكعا فهو خبر كاذب لم يأت قط من طريق خير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 وأما أمره عليه السلام بقتل ذلك الإنسان فيخرج على أحد وجهين إما أنه شهد عند النبي عليه السلام بذلك قوم عدول في الظاهر منافقون في الباطن كاذبون بأنهم سمعوه يقر بذلك فوجب عليه القتل لأذاه النبي صلى الله عليه وسلم ففضح الله كذبهم وأما أنه تعالى أوحى إليه بالأمر بقتله وقد علم تعالى أنه سينسخ ذلك الأمر بإظهار براءته وكذب الناقل وكلا الأمرين وجه صحيح وبالله تعالى التوفيق قال علي فإذا قد ذكرنا كل ما شغبوا به فلنذكر إن شاء الله تعالى البراهين المصححة أن الأوامر كلها على الوجوب والنواهي كلها على التحريم إلا ما خرج منها بدليل ونقول قبل ذلك إنما لجأ إلى القول بالوقف وتعلق بهذه العوارض وسلك في هذه المضايق من بهر شعاع الحق عقله والتمع نور الله تعالى بصر قلبه وارتبك في غيه ناصرا لما قد ألفه من الأقوال الفاسدة وطمعا في إطفاء ما لا ينطفىء من ضياء الحق وإنما التزموا ذلك في مسائل يسيرة ثم تناقضوا فأوجبوا أحكاما كثيرة فرضا بنفس الأمر مما قد خالفهم فيها غيرهم وفعلت كل طائفة منهم مثل ما فعلت الأخرى قال أبو محمد فأول ذلك أنه لا يعقل أحد من أهل كل لغة أي لغة كانت من لفظة افعل أو اللفظة التي يعبر بها في كل لغة عن معنى افعل ولا يفهم منها أحد لا تفعل ولا يعقل أحد من لفظة لا تفعل أو مما يعبر به عن معنى لا تفعل ولا يفهم منها أحد افعل ومدعي هذا على اللغات وأهلها في أسوأ من حال الكهان وقد قال تعالى {قتل الخراصون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 قال علي ويقال لهم بأي شيء تعرفون أن في الأوامر شيئا على الوجوب مما تقرون فيه أنه واجب فأجابوا عن ذلك بجوابين أحدهما إن قال بعضهم نعرف أن الأمر على الوجوب إذا اقترن معه وعيد وقال بعضهم لسنا نجدد دلائل الوجوب وهي أشياء تقترن بالأوامر التي يراد بها الإيجاب ولسنا نقدر على العبارة عنها قال علي أما هؤلاء فقد أقروا بالانقطاع وبالعجز عن بيان مذهبهم وإذا كان شيء لا يقدر على بيانه فباليقين أن العجز عن نصره أوجد وليس يعجز أحد له لسان وليس له حياء ولا ورع أن يدعي ما شاء فإذا سئل عن دليل قوله وبيانه قال إني لا أقدر على بيانه ولكنه شيء معلوم إذا وجد عرف قال علي ولسنا ممن يجوز عليه هذا الهذيان ولكنا نقول لمن هذا صف لنا حال نفسك في معرفتك ما عرفت أنه واجب فإن عجزت عن ذلك بان كذبك وادعاؤك الباطل لأن كل واحد يدعي حالا يستدل بها على حقيقة ليست من أوائل المعارف فهو مميز لتلك الحال وإلا فهو مدع للباطل قال أبو محمد ويقال لمن قال يعرف أن الأمر على الوجوب إذا اقترن به وعيد اعلم أن الوعيد من الله عز وجل قد اقترن بجميع أوامر نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فاقترن التحذير من الفتنة والوعيد بكل من خالف أمره عليه السلام قال علي واعترض بعضهم في ذلك بأن قال لما صح في أن أوامره عليه السلام ما لا يصيب مخالفه عذاب أليم وهو أمر كان معناه الندب علمنا أن الوعيد المحذر منه إنما هو فيما كان من الأوامر معناه الوجوب فقط وأن هذه الآية لا توجب كون جميع أوامره فرضا وإن كان ذلك فقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 بطل أن يكون حجة في حمل الأمر على الوجوب قال علي فيقال له وبالله تعالى التوفيق إن ما خرج من الأوامر عن استحقاق العذاب المنصوص في الآية على تركه بخروجه إلى معنى الندب إنما هو مستثنى من جملة ما جاءت الآية به بمنزلة المنسوخ الخارج عن الوجوب فلا يبطل ذلك بقاء سائر الشريعة على الاستعمال وكذلك خروج ما خرج بدليله إلى الندب ليس بمبطل بقاء ما لا دليل على أنه ندب على استحقاق العذاب على تركه إلا أن الوعيد قد حصل مقرونا بالأوامر كلها إلا ما جاء نص أو إجماع متيقن منقول إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا وعيد عليه لأنه غير واجب ولا يسقط من كلام الله تعالى إلا ما أسقطه وحي له تعالى آخر فقط حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق البلخي عن الفربري عن البخاري ثنا محمد بن سنان ثنا فليح ثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى قالوا يا رسول الله ومن يأبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى قال علي يسأل من قال إن الأوامر لا تحمل على الوجوب إلا بدليل ما معنى المعصية فلا بد له من أن يقول هي ترك المأمور أن يفعل ما أمره به الآمر فإذا لا بد من ذلك فمن استجاز ترك ما أمره به الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله ورسوله ومن عصاهما فقد ضل ضلالا بعيدا واستحق النار وألا يدخل الجنة بنص كلام الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى {إلا بلاغا من لله ورسالاته ومن يعص لله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا} قال علي ولا عصيان أعظم من أن يقول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم افعل أمرا كذا فيقول المأمور لا أفعل إلا إن شئت أن أفعل ومباح لي أن أترك ما أمرتماني به أو يقول الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم لا تفعل أمرا كذا فيقول أنا أفعل إن شئت أن أفعله ومباح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 لي أن أفعل ما نهيتماني عنه قال علي ما يعرف أحد من العصيان غير هذا والحجة على هؤلاء القوم أبين في العقول بيانا وأقرب مأخذا منها على المشركين لأن المشركين لا يقرون بوجوب طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما الكلام معهم في إثبات ذلك وهؤلاء يقرون بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم يقولون لنا لا نطيع وليس الائتمار لهما بواجب إلا بدليل غير نفس أمرهما نعوذ بالله من الخذلان ومن التمادي على الباطل بعد وضوحه واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الأعلي عن ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن وبه إلى ابن وهب أخبرني خالد بن حميد عن يحيى بن أبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن القرآن ذلول ذو وجوه فاتقوا ذله وكثرة وجوهه وبه إلى ابن وهب أنبأ مسلمة بن علي عن هشام عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكر حديثا وذكر فيه القرآن وفيه وما منه آية إلا ولها ظهر وبطن وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع قال علي هذه كلها مرسلات لا تقوم بها حجة أصلا ولو صحت لما كان لهم في شيء منها حجة بوجه من الوجوه لأنه لو كان كما ذكروا لكل آية ظهر وبطن لكنا لا سبيل لنا إلى علم البطن منها بظن ولا بقول قائل لكن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى بأن يبين للناس ما نزل إليهم فإن أوجدونا بيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم بنقل الآية عن ظاهرها إلى باطن ما صرنا إليه طائعين وإن لم يوجدونا بيانا عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس أحد أولى بالتأويل في باطن ما تحتمله تلك الآية من آخر من تأول أيضا ومن الباطل المحال أن يكون للآية باطن لا يبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان يكون حينئذ لم يبلغ كما أمر وهذا لا يقوله مسلم فبطل ما ظنوه وقد أتت الأحاديث الصحاح بحمل كل كلام على ظاهره كما حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال ثنا محمد بن معاوية المرواني عن أحمد بن شعيب النسائي ثنا محمد بن عبد الله بن المبارك ثنا أبو هشام واسمه المغيرة بن سلمة المخزومي بصري ثقة قال علي وأنبأناه أيضا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب ثنا يزيد بن هارون قال علي واللفظ لفظ المغيرة قال المغيرة ويزيد ثنا الربيع بن مسلم ثنا محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فقام رجل فقال أفي كل عام فسكت عنه حتى أعاده ثلاثا فقال لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بالشيء فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وقد روي أيضا من طرق صحاح إلى الزهري عن أبي سنان عن ابن عباس عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن نفعل ما أمر به ما نستطيع وأن نجتنب ما نهى عنه من طريق أبي هريرة مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب وأبو صالح والأعرج وهمام بن منبه ومحمد بن زياد كلهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عن همام معمر ورواه عن الأعرج أبو الزناد ورواه عن أبي صالح الأعمش ورواه عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة الزهري ورواه عن محمد بن زياد عن أبي هريرة مسندا أيضا شعبة والربيع بن مسلم ورواه عمن ذكرنا الثقات الأكابر قال علي فبين عليه السلام في هذا الحديث بيانا لا إشكال فيه أن كل ما أمر به فهو واجب حتى لو لم يقدر عليه وهذا معنى قوله تعالى {في لدنيا ولآخرة ويسألونك عن ليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ولله يعلم لمفسد من لمصلح ولو شآء لله لأعنتكم إن لله عزيز حكيم} ولكنه تعالى رفع عنا الحرج ورحمنا فأمر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كما تسمع أن ما أمر به عليه السلام فواجب أن يعمل به حيث انتهت الاستطاعة وأنه لا يسقط من ذلك إلا ما عجزت عنه الاستطاعة فقط وأن ما نهى عليه السلام عنه فواجب اجتنابه ثنا عبد الله بن يوسف بالسند المذكور إلى مسلم قال ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ثنا أبو علي الحنفي ثنا مالك بن أنس عن أبي الزبير المكي أن أبا الطفيل عامر بن وائله أخبره أن معاذ بن جبل أخبره وقال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي قال فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان العين مثل الشراك تبض بشيء من ماء قال فسألهما رسول الله صلى الله عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 وسلم هل مسستما من مائها شيئا قالا نعم فسبهما النبي صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول ثم ذكر باقي الحديث وفيه الآية في نبعان الماء ببركته صلى الله عليه وسلم قال علي فهذان استحقا السب من النبي صلى الله عليه وسلم لخلافهما نهيه في مس الماء ولم يكن هناك وعيد متقدم فثبت أن أمره على الوجوب كله إلا ما خصه نص ولولا أنهما تركا واجبا ما استحقا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه إلى مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو أسامة ثنا عبيد الله هو ابن عمر عن نافع عن ابن عمر قال لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فقال يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أخبرني الله تعالى فقال {ستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لله لهم ذلك بأنهم كفروا بلله ورسوله ولله لا يهدي القوم الفاسقين} وسأزيد على السبعين قال إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بلله ورسوله وماتوا وهم فاسقون} قال علي ففي هذا الحديث بيان كاف في حمل كل شيء على ظاهره فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم اللفظ الوارد بأو على التخيير فلما جاء النهي المجرد حمله على الوجوب وصح بهذا أن لفظ الأمر والنهي غير لفظ التخيير والندب ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بلغة العرب التي بها خاطبه ربه تعالى فإن قال قائل فما كان مراد الله بالتخيير الذي حمل رسول الله صلى الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 عليه وسلم على التخيير وبذكره تعالى السبعين مرة أتقولون إنه أراد تعالى ما قال عمر بن الخطاب من ألا يصلي عليهم ولا يستغفر لهم ثم نزلت الآية الأخرى مبينة فالجواب أننا وبالله تعالى التوفيق لا نقول ذلك ولا يسوغ لمسلم أن يقوله ولا نقول إن عمر ولا أحدا من ولد آدم عليه السلام فهم عن الله تعالى شيئا لم يفهمه عنه نبي الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول عندنا كفر مجرد وبرهان ذلك أن الله تعالى لو لم يرض صلاة النبي على عبد الله بن أبي لما أقره عليها ولأنزل الوحي عليه لمنعه كما نهاه بعد صلاته عليه أن يصلي على غيره منهم فصح أن قول عمر كان اجتهادا منه أراد به الخير فأخطأ فيه وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجر عمر في ذلك أجرا واحدا لكنا نقول إنه عز وجل خير نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك على الحقيقة فكان مباحا له صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم ما لم ينه عن ذلك وأما ذكر السبعين فليس في الاقتصار عليه إيجاب أن المغفرة تقع لهم بما زاد على السبعين ولا فيه أيضا منع من وقوع المغفرة لهم بما زاد على السبعين إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طمع ورجا إن زاد على السبعين أن يغفر لهم ولم يحقق أن المغفرة تكون بالزيادة وهذا هو نفس قولنا بعينه فلما أعلمه الله تعالى بما كان في علمه عز وجل ولم يكن أعلمه قبل ذلك به علمه حينئذ نبيهصلى الله عليه وسلم ولم يكن علم قبل نزول المنع من الاستغفار لهم بالبت أن ما زاد على السبعين غير مقبول فدعا راج لم ييأس من المغفرة ولا أيقن بها وهذا بين في لفظ الحديث وبالله تعالى التوفيق وقد سألت بريرة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لها لو راجعتيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 يعني النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مغيثا فقالت أتأمرني يا رسول الله فقال لا إنما أشفع ففرق صلى الله عليه وسلم كما ترى بين أمره وشفاعته فثبت أن الشفاعة لا توجب على أحد فعل ما شفع فيه عليه السلام وأن أمره بخلاف ذلك وليس فيه إلا الإيجاب فقط وقال الله عز وجل {يأيها لرسول بلغ مآ أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ولله يعصمك من لناس إن لله لا يهدي لقوم لكافرين} قال علي في هذه الآية بيان جلي رافع لكل شك في أن من لم يفعل ما أمر به فقد عصى لأنه تعالى بين أن نبيه صلى الله عليه وسلم إن لم يبلغ كما أمر فلم يفعل ما أمر به ولا معنى لهذا الخبر وهذا التقدم إلا أن خلاف الأمر معصية لا موافقة وبالله تعالى التوفيق وهم يقرون على أنفسهم أنهم لا يفعلون ما أمروا به حتى يأمرهم أبو حنيفة ومالك والشافعي وقال تعالى {فصح أنه لم يرد تعالى منا الإقرار وحده إلا مع العمل بما أمرنا معه وقال تعالى {} قال علي وانبلج الحكم بهذه الآية ولم يبق للشك مجال لأن الندب تخيير وقد صح أن كل أمر لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فلا اختيار فيه لأحد وإذا بطل الاختيار فقد لزم الوجوب ضرورة لأن الاختيار إنما هو في الندب والإباحة للذين لنا فيهما الخيرة إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 نفعل فأبطل الله عز وجل الاختيار في كل أمر يرد من عند نبيه صلى الله عليه وسلم وثبت بذلك الوجوب والفرض في جميع أوامرهما ثم لم يدعنا تعالى في شك من القسم الثالث وهو الترك فقال تعالى {} قال علي وليس يقابل الأمر الوارد إلا بأحد ثلاثة أوجه لا رابع لها نعلم ذلك بضرورة الطبيعة وببديهة العقل إما الوجوب وهو قولنا وإما الندب والتخيير في فعل أو ترك وقد أبطل الله عز وجل هذا الوجه في قوله تعالى {} وأما الترك وهو المعصية فأخبر تعالى أن من فعل ذلك فقد ضل ضلالا مبينا فارتفع الإشكال جملة وبطل كل شغب يأتون به وقال تعالى {} فنص تعالى على توبيخ من لم يكتف بالتلاوة وهذا هو الحكم بالظاهر وحظر الانتقال إلى التأويل وقال تعالى {} وقال تعالى {} فصح أن لا بيان إلا نص القرآن ونص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا فإنكم تحملون كثيرا من أوامره تعالى على التخيير والندب فقد نقضتم هذا الحكم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق ما فعلنا ما تقولون من النقض لأننا إنما حملنا منها على التخيير بأمر الله تعالى حملناه أيضا على وجوبه فإذا نص ربنا عز وجل في أمر قد أمر به على أننا إن شئنا فعلنا وإن شئنا تركنا فقد أوجب علينا قبول هذا النص على ظاهره ضرورة فلم نخرج عن أصلنا ولم يكن لنا خيرة في صرفه إلى الوجوب بأحد طرفيه دون الآخر فقط كما أنه تعالى أو نبيه صلى الله عليه وسلم إذا اقتصر المخاطب لنا منهما على لفظ لا تخيير معه فلا خيرة لنا في صرفه عن أمره الذي اقتصر عليه فكل أمر مفرد فواجب علينا حمله على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 انفراده وكل أمر بتخيير فواجب علينا حمله على التخيير فالقبول فرض علينا لما يرد من الألفاظ على ظواهرها ولا خيرة لنا في شيء من ذلك والإجماع إذا صح على حمل آية أو خبر على التخيير فقد أيقنا أن أصل الإجماع توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملنا ذلك التوقيف أيضا على الوجوب فلم ننقض قولنا بحمد الله تعالى قال علي أفلا يستحي أن يتكلم في الدين من يسمع كلام الله تعالى في قسمة الصدقات يقول {} فيقول ليس ذلك فريضة وجائز للإمام أن يصرفها إلى ما يرى من وجوه البر أو إلى بعض هذه الأصناف ثم يأتي إلى قول ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى صغير أو كبير صاعا من تمر أو صاعا من شعير فيقول ليس صدقة الفطر فريضة ولا الشعير ولا التمر فيها أيضا فرضا ولا مستحبا بل البر الذي لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ثم يأتي إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى ههنا معنا وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد أدرك فقال لا تخيير في ذلك والفرض الوقوف ليلا ولا بد وإلا بطل الحج ويقول في قول الله تعالى {} إنه يفهم منه أن خطبة الجمعة فرض تبطل الصلاة بتركها وأن ذكره تعالى للاعتكاف بعد ذكره لحكم الصيام موجب أن يكون الصوم في الاعتكاف فرضا لا يجزي الاعتكاف إلا به أيكون في عكس الحقائق ومجاهرة العقول الفهمة للغة العربية ومخالفة القرآن والسنة أكثر من هذا وقال تعالى {} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 قال علي فهذا لفظ الوعيد بقوله تعالى {} مقرونا بمخالفة الطاعة فأخبرنا تعالى أن ترك الطاعة تول ولا تركا للطاعة أكثر ممن يستجيز أن يترك ما أمر به أو يفعل ما نهى عنه وقال تعالى {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} فصح بالنص كما ترى أن كل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو معروف وكل ما نهى عنه فهو منكر عن المعروف فبين تعالى أن كل من نهى عما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منافق وكل من قال في قوله تعالى افعل فقال هو لا تفعل إن شئت فقد أباح تركه والنهي عنه نصا وقال تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} وقال تعالى {وليحكم أهل لإنجيل بمآ أنزل لله فيه ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لفاسقون} قال علي ومن أجاز لنفسه ترك العمل بما أنزل الله فهو فاسق ظالم بنص القرآن وبنص تسمية الله عز وجل له فقد نصصنا كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم في إيجاب أوامرهما ونواهيهما فرضا وبطل بذلك قول من قال على الندب أو الوقف قال علي وقد فرق قوم بين أوامر الله عز وجل وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا بين الفساد فقد أنكر الله تعالى ذلك بقوله {من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا} وإن العجب ليكثر من الحنفيين والمالكيين الذين يجعلون الخطبة يوم الجمعة فرضا فإذا سئلوا عن البرهان في ذلك قالوا قول الله عز وجل {وإذا رأوا تجارة أو لهوا نفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند لله خير من للهو ومن لتجارة ولله خير لرازقين} قال علي وما ندري ماذا تأدى إليهم في هذا اللفظ من إيجاب الخطبة ويقولون إن الصيام في الاعتكاف فرض إذا سئلوا عن برهان ذلك قالوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 ذكر الله تعالى الاعتكاف إثر ذكر الصيام وعلى هذا فكل شريعة ففرض ألا تتم إلا بضم كل شريعة في القرآن إليها فلا حج لمن لم يصل ولا صلاة لمن أفطر في رمضان ولا نكاح لمن لا يقسط في اليتامى فينفسخ نكاحه مع امرأته لأن الله تعالى عطف النكاح على أمر اليتامى فقال تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} لأنها كلها معطوف بعضها على بعض ثم قالوا في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} ليست العمرة فرضا وقد عطفها تعالى على الحج عطفا شركها به معه في الإتمام ولم يعطف الاعتكاف في الصيام ولا الصيام على الاعتكاف وإنما عطف النهي عن المباشر في حال الاعتكاف على أحكام الصيام عطف جملة على جملة لا عطف اشتراك ثم قالوا في قوله تعالى في قسمة الخمس {وعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل إن كنتم آمنتم بلله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم لفرقان يوم لتقى لجمعان ولله على كل شيء قدير} فقالوا ليس هذا فرضا وللإمام أن يضع الخمس حيث رأى من مصالح المسلمين هذا وهم يسمعون الله تعالى يقول في قسمة الخمس على من سمى {وعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل إن كنتم آمنتم بلله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم لفرقان يوم لتقى لجمعان ولله على كل شيء قدير} وقالوا في آية الصدقات وقد قال تعالى في آخرها {إنما لصدقات للفقرآء ولمساكين ولعاملين عليها ولمؤلفة قلوبهم وفي لرقاب ولغارمين وفي سبيل لله وبن لسبيل فريضة من لله ولله عليم حكيم} فقالوا ليست فريضة لهؤلاء فمن أضل ممن جعل الخطبة والصيام في الاعتكاف فرضا ولم يأت به أمر ولا ندب وأسقط إيجاب ما سماه الله تعالى فريضة وقال فيه {وعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل إن كنتم آمنتم بلله ومآ أنزلنا على عبدنا يوم لفرقان يوم لتقى لجمعان ولله على كل شيء قدير} وأما المالكيون فإنهم احتجوا في عتق الأخ يملكه أخوه بقوله تعالى {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ففرق بيننا وبين لقوم لفاسقين} وما عقل قط ذو لب وجوب عتق الأخ من هذه الآية كما لم يعقل وجوب صلاة الظهر منها وأسقطوا النفقة على الوارث بآرائهم وقد قال تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} ففرقوا بين مضارة الوالد بولده فأوجبوا فيها النفقة وبين مضارة الوارث بموروثه فلم يوجبوا فيها النفقة وقد سوى الله عز وجل بينهما تسوية واحدة ولا ضرر في التمييز والعقل أعظم من ترك الوارث موروثه يسأل أو يموت جوعا وهو ذو مال يغنيه ويفضل عنه وخالفوا في ذلك حكم عمر بن الخطاب وعمله وقال المالكيون أمر تعالى بالمكاتبة ندب وأمره بإتيانهم من مال الله الذي آتاهم ندب وأمره بالمتعة ندب ثم قالوا قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} فرض فلو تدبروا هذه الفضائح التي يطلقون لكان أولى بهم من معارضة أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم بهذيان لا يطردونه بل يتناقضون فيه في كل حين فمرة يقولون في بعض الأوامر ليس فرضا فإذا قيل لهم قد أمر الله تعالى بها قالوا الأوامر موقوفة ولا يحمل على الفرض إلا بدليل ومرة يوجبون الأوامر فرضا بلا دليل ولا قرينة إلا التحكم والتقليد فقط وبالله تعالى التوفيق قال علي وأما الموافقون لهم على الوقف من أصحاب الشافعي فإنهم يقولون إن لم نجد دليلا على أن الأمر على الندب أمضينا الأوامر على الوجوب قال علي وهذا ترك منهم لقولهم بالوقف لأنهم راجعون إلى إمضاء الأوامر على الوجوب بمجردها بلا قرينة إذا عدموا دليلا على الندب قال علي وهذا قولنا نفسه ولم نخالفهم في أن الأمر إذا جاء نص أو إجماع على أنه ندب فواجب أن يصار إلى أنه ندب وإنما خالفناهم في الوقف فقط قال علي ونسألهم ألهذا الوقف غاية فإن حدوا حدا كلفوا عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 البرهان ولا سبيل إليه فإن لم يجدوا فيه حدا صار مدة العمر فبطل العمل بشيء من الأوامر وهذا يؤدي إلى إبطال الشريعة وقد احتج بعض من يقول بقولنا ممن سلف فقال لو كان الأمر لا يعلم بلفظه أنه على الوجوب لكان لا يخلو من أن يعلم المراد فيه إما بأمر آخر أو بشيء يستخرج من الأمر وكلا الأمرين فلا بد من الرجوع فيه إلى أمر فالكلام في الأمر الثاني كالكلام في الأمر الأول وهذا لا إلى غاية فعلى هذا لا يثبت وجوب أمر أبدا وقالوا أيضا محتجين عن أهل الوقف المعصية في اللغة هي مخالفة الأمر والطاعة هو تنفيذ الأمر وقال الله تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وقال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما} فثبت الوجوب في الأوامر ضرورة بحكم الله تعالى فالنار على من تركها قال علي ويقال لمن قال بالوقف ماذا تصنع إن وجدت أوامر واردة من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم خالية من قرينة بالجملة ولا دليل هناك يدل على أنها فرض ولا على أنها ندب فلا بد من أحد ثلاثة أوجه إما أن يقف أبدا وفي هذا ترك استعمال أوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا هو نفسه ترك الديانة أو يحمل ذلك على الندب فيجمع وجهين أحدهما القول بلا دليل والثاني استجازة مخالفة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بلا برهان أو يحمل ذلك على الفرض وهذا قولنا وفي ذلك ترك لمذهبه وأخذ بالأوامر فرضا بنفس لفظها دون قرينة وبالله تعالى التوفيق قال علي فإن تعلقوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم بني قريظة لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم العصر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 قبلها وقالوا لم يرد هنا هنا وصلاها آخرون بعد العتمة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدة من الطائفتين قال علي هذا حجة لهم فيه أيضا ولو شغب بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين لكان أدخل في الشغب مع أنه لا حجة لهم فيه أيضا فأما احتجاج من حمل الأوامر على غير الوجوب فلا حجة لهم فيه لأنه قد كان تقدم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في وقت العصر أنه مذ يزيد ظل الشيء على مثله إلى أن تصفر الشمس وأن مؤخرها إلى الصفرة بغير عذر يفعل فعل المنافقين فاقترن على الصحابة في ذلك اليوم أمران واردان واجب أن يغلب أحدهما على الآخر ضرورة فأخذت إحدى الطائفتين بالأمر المتقدم وأخذت الطائفة الأخرى بالأمر المتأخر إلا أن كل واحدة من الطائفتين حملت الأمر الذي أخذت به على الفرض والوجوب وغلبته على الأمر الثاني وقد ذكرنا هذا النوع من الأحاديث فيما خلا وبينا كيفية العمل في ذلك ولو أننا حاضرون يوم بني قريظة لما صلينا العصر إلا فيها ولو بعد نصف الليل على ما قد بينا في رتبة العمل في جميع الأحاديث التي ظاهرها الاختلاف وهي في الحقيقة متفقة من الأخذ بالزائد ومن استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني وقد جمع هذان الحديثان كلا الوجهين معا فأمره عليه السلام في ذلك اليوم بألا يصلى صلاة العصر إلا في بني قريظة أمر خاص في صلاة واحدة من يوم واحد في الدهر فقط فكان ذلك مستثنى من عموم أمره بأن يصلى كل عصر من كل يوم في الأبد يخرج وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس وأما ما لم تغب للمضطر حاشى يوم عرفة وأيضا فإن أمره عليه السلام بألا يصلى العصر من ذلك اليوم إلا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 بني قريظة شريعة زائدة وأمر وارد بخلاف الحكم السالف وبخلاف معهود الأصل في حكم صلاة العصر قبل ذلك اليوم وبعده فواجب طاعة ذلك الأمر الحادث والشرع الطارىء لما قدمنا من البراهين على وجوب القبول لكل ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى وكان أمره بألا يصلى العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة كقوله ليلة يوم النحر في الحج وقد ذكر بصلاة المغرب فقال عليه السلام الصلاة أمامك فكان ذلك عند جميع المسلمين ناقلا لوقت المغرب في تلك الليلة خاصة في الحج خاصة في ذلك المكان خاصة عن وقتها المعهود إلى وقت آخر ولا فرق بين ورود ما أمر به في العصر يوم بني قريظة وفي المغرب ليلة المزدلفة وهذا بين لمن تأمله قال أبو محمد وأما إن احتج بهذا الحديث من يرى الحق في القولين المختلفين وقال ترك النبي صلى الله عليه وسلم أن يعنف كل واحدة من الطائفتين دليل على أن كل واحدة منهما مصيبة قيل له وبالله التوفيق لا دليل فيه على ما ذكرت ولكنه دليل واضح على أن إحدى الطائفتين مصيبة مأجورة أجرين والأخرى مجتهدة مأجورة أجرا واحدا معذورة في خطئها بالاجتهاد لأنها لم تتعمد المعصية وقد قال عز وجل {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} وقال عليه السلام لكل امرىء ما نوى وكلا الطائفتين نوت الخير وقد نص عليه السلام على أن الحاكم إذا اجتهد فأخطأ فله أجر وكل متكلم في مسألة شرعية ممن له أن يتكلم على الوجه الذي أمر به من الاستدلال الذي لا يشوبه تقليد ولا هوى فهو حاكم في تلك المسألة لأنه موجب فيها حكما وكل موجب حكما فهو حاكم وهو داخل في استجلاب الأمر بالحديث المذكور فإن قال قائل فلم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطائفة المخطئة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 عندكم بالإعادة إن كانت هي التي صلت العصر في وقتها المعهود قبل البلوغ إلى بني قريظة وإنما كان وقتها عندكم في ذلك اليوم بعد البلوغ إلى بني قريظة أي وقت بلغ البالغ إليهم أو لم يعنف الطائفة المؤخرة للعصر إلى بعد نصف الليل إن كانت هي المخطئة على تأخيرهم صلاة فرض عن وقتها قيل له وبالله تعالى التوفيق لسنا ندري في أي وقت بلغ خبر الطائفتين المذكورتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل ذلك قد بلغه عليه السلام في اليوم التالي وبعد خروج وقت العصر جملة ولا إعادة على تارك صلاة بتأول ممن له أن يتأول على الوجه المحمود لا بتقليد ولا بهوى ولا إعادة على تارك صلاة عمدا بلا تأول ولا ضرورة حتى يخرج وقتها وأما المتأول فمعذور ولا يكلف إلا ما علم وأما العامد فذنبه أجل من أن نأمره نحن بكفارة أو بصلاة لم يأمره الله تعالى بها ولا يحل لنا ولا لغيرنا تعدي حدود الله عز وجل بأن نلزمه فرضا لم يأذن به الله تعالى ونسقط عنه بذلك فرضا قد أمره الله تعالى به ونعوذ بالله تعالى من ذلك وأمره إلى خالقه لا إلينا وسيرد على ذي مغفرة واسعة وذي عقاب أليم حيث لا يضيع له شيء ولا يجمع عنده شيء فعند الموازين يعرف كل امرىء ما له وما عليه نسأل الله عفوه وغفرانه في ذلك الموقف آمين قال علي وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سعيد بن المعلى إذ ناداه فلم يستجب له وكان في صلاة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يقل الله تعالى {يأيها لذين آمنوا ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن لله يحول بين لمرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} قال علي وفي هذا بيان جلي في حمل أوامر الله تعالى وأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم على الوجوب وعلى الظاهر منها ومن تلك الأوامر أمره تعالى أن يطاع رسوله عليه السلام وفي قوله عليه السلام المذكور لأبي سعيد بيان جلي في صحة ما أثبتناه قبل من استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 واستعمال جميع الأوامر لأنه تعالى قال {يأيها لذين آمنوا ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن لله يحول بين لمرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} وقال تعالى {لذي جعل لكم لأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون} خص عليه السلام دون سائر الناس أن يكلمه المصلون إذا كلمهم ولا يكون ذلك قاطعا لصلاتهم وبهاتين الآيتين والحديث المذكور بطل قول من قال بأن المصلين يكلمون الإمام إذا وهل في صلاته ورام أن يحتج في ذلك بحديث ذي اليدين فبالنصوص التي ذكرنا أيقنا أن ذلك خاص للنبي صلى الله عليه وسلم دون من سواه وسبحان من يسر لإخواننا المالكيين أن يجعلوا الخصوص في هذا المكان عموما وأن يجعلوا العموم الذي نص عليه السلام على أنه عموم وغضب على من أراد أن يجعله خصوصا من القبلة في صيام رمضان فجعلوه خصوصا كل ذلك بلا دليل وحسبنا الله ونعم الوكيل قال أبو محمد وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد لا على معنى الحقيقة فقد اضمحلت الشريعة بين يديه ولعل وعيد الكفار أيضا كذلك ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه لأنه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها إذ لعلها ندب ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الإسلام لأنه تكذيب لله عز وجل وبالله تعالى التوفيق ومما يبين أن أوامر الله تعالى كلها على الفرض حتى يأتي نص أو إجماع أنه ليس فرضا قوله تعالى {قتل لإنسان مآ أكفره * من أي شيء خلقه * من نطفة خلقه فقدره * ثم لسبيل يسره * ثم أماته فأقبره * ثم إذا شآء أنشره * كلا لما يقض مآ أمره} قال علي فعدد الله تعالى في كفر الإنسان أنه لم يقض ما أمره به وكل من حمل الأوامر على غير الفرض واستجاز تركها فلم يقض ما أمره وفيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 ذكرنا كفاية وبالله تعالى التوفيق وقد فرق صلى الله عليه وسلم بين أمر الفرض وأمر التخيير بفرق ولا مدخل للشغب فيه بعده وهو ما حدثناه عن عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري ثنا أبو عوانة عن شيبان عن عثمان بن عبد الله بن موهب عن جعفر بن أبي ثور عن جابر بن سمرة قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال أتوضأ من لحوم الإبل قال نعم فتوضأ من لحوم الإبل قال علي فأورد عليه السلام الوضوء الذي ليس عليه واجبا بلفظ التخيير وأورد الآخر بلفظ الأمر فقط ولو كان معناهما واحدا لما كان عليه السلام مبينا للسائل ما سأل عنه وهذا ما لا يظنه مسلم والله الهادي إلى سواء السبيل وحسبنا الله ونعم الوكيل فصل في كيفية ورود الأمر قال علي الأوامر الواجبة ترد على وجهين أحدهما بلفظ افعل أو افعلوا والثاني بلفظ الخبر إما بجملة فعل وما يقتضيه من فاعل أو مفعول وإما بجملة ابتداء وخبر فأما الذي يرد بلفظ افعل أو افعلوا فكثير واضح مثل {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وما أشبه ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 وأما الذي يرد بلفظ الخبر وبجملة فعل وما يقتضيه فكقوله تعالى {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} وكقوله تعالى {إن لله يأمركم أن تؤدوا لأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين لناس أن تحكموا بلعدل إن لله نعما يعظكم به إن لله كان سميعا بصيرا} وكقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لصيام كما كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون} و {كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} و {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} وأمرت أن أسجد على سبعة أعظم وما أشبه ذلك وكثير من الأوامر التي ذكرنا وردت كما ترى بمفعول لم يسم فاعله ولكن لما قال عز وجل وقوله الحق على نبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} علمنا يقينا لا مجال للريب فيه أنه لا ينقل أمرا ولا نهيا إلا عن ربه تعالى فكان السكوت عن تسمية الآمر والناهي عز وجل وذكره سواء في صحة فهمنا أن المراد بأحكام الشريعة هو الله تعالى وحده لا من سواه وأما ما ورد من هذا بجملة لفظ ابتداء وخبر فكقوله تعالى {لا يؤاخذكم لله بللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم لأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون} {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} {ولمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق لله في أرحامهن إن كن يؤمن بلله وليوم لآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل لذي عليهن بلمعروف وللرجال عليهن درجة ولله عزيز حكيم} {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} ومثل هذا كثير قال علي فلا طريق لورود الأوامر والشرائع الواجبة إلا على هذين الوجهين فقط فأما عنصر الأمر والنهي فإنما هو ما ورد بلفظ افعل أو لا تفعل فهذه صيغة لا يشركه فيها الخبر المجرد الذي معناه معنى الخبر المحض ولا يشركه فيها التعجب ولا يشركه فيها القسم وإنما يشركه في هذه الصيغة الطلبية فقط فما كان منها إلى الله عز وجل فهو الدعاء فقط وما كان منها إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 من دونه تعالى فهو الرغبة وقد يسمى الدعاء إلى الله عز وجل أيضا رغبة ولا يسمى الدعاء على الإطلاق إلا ما كان طلبة إلى الله عز وجل حتى إذا جاز أضيف أن ينسب إلى غير الله تعالى فنقول ادع فلانا بمعنى ناده قال علي وأما المقدمات المأخوذة لإنتاج النتائج في المناظرة فإنما الأصل فيها أن تصاغ بصيغة الخبر مثل قوله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام النتيجة فكل مسكر حرام إلا أننا في مناظرتنا أهل ملتنا وأهل نحلتنا فيما تنازعنا فيه قد غنينا عن ذلك لاتفاقنا على أن لفظ افعل مقدمة مقبولة تقوم بها الحجة فيما بيننا قياما تاما قال علي ويميز ما جاء في الأوامر بلفظ الأخبار مما جاء بلفظ الخبر ومعناه الخبر المجرد بضرورة العقل فإن قول الله عز وجل {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب لله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} هو بمنزلة قوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} في ظاهر ورود الأمر إلا أن أحد اللفظين خبر مجرد لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الخبر والآخر لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الأمر وإنما علمنا ذلك لأن الجزاء بجهنم لا يجوز أن نؤمن نحن به لأن ذلك ليس في وسعنا وقد أمننا الله من أن يأمرنا بما ليس في وسعنا قال الله عز وجل {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وأما التحرير للرقبة وتسليم الدية فبضرورة العقل علمنا أن ذلك من مقدوراتنا ومما لا يفعله الله عز وجل دون توسط فاعل منا فبهذا يتميز ما كان الخبر معناه الأمر وما كان منه مجردا للخبر في معناه ولفظه وقد اعترض قوم من الملحدين علينا في قوله {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وأرادوا أن يحملوا ذلك على أنه خبر في معناه ولفظه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 قال علي وهذا خطأ بنص القرآن وبضرورة المشاهدة أما نص القرآن فقوله تعالى {وقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولفتنة أشد من لقتل ولا تقاتلوهم عند لمسجد لحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فقتلوهم كذلك جزآء لكافرين} فارتفع ظن من ظن أن قول الله عز وجل {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} خبر وكيف يكون ذلك وقد أمر تعالى بقتل من قاتلنا فيه وعنده وأما ضرورة المشاهدة فما قد تيقناه مما وقع فيه من القتل مرة بعد مرة على يدي الحصين بن نمير والحجاج بن يوسف وابن الأفطس العلوي وإخوانهم القرامطة والله تعالى لا يقول إلا حقا فصح أن معنى قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} إنما هو أمر بالبرهانين الضروريين اللذين قدمناهما وكذلك نقول إنه لا يحل أن يقام في شيء من الحرم حد على أحد بوجه من الوجوه ولا بسجن ولا تعزير ولا قطع ولا جلد ولا قصاص ولا رجم ولا قتل لا في ردة ولا في زنى ولا في غير ذلك حاشا من قاتلنا فيه فقط على نص القرآن وبهذا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما من أجاز أن يخالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويقتدي بعمرو بن سعيد ويزيد والحجاج والحصين بن نمير فيقيم فيه الحدود ويقتل فيه من استحق القتل عنده في غيره فليفكر فيما يلزمه من تكذيب ربه وله ما اختار من اتباع من اتبع وخلاف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليتخلص من السؤال الذي ذكرناه آنفا ولو قدر على ذلك لما قدر على التخلص من عصيان نبيه صلى الله عليه وسلم في قوله إنها إنما أحلت لي ساعة من نهار ولم تحل لكم ثم عادت كحرمتها بالأمس إلى يوم القيامة لا يسفك فيها دم وبين عليه السلام بنص كلامه أنه ليس لأحد أن يترخص في ذلك لأجل قتاله عليه السلام ونص على أن ذلك خاص له قال علي وهذا خبر على التأبيد وأمر على التأكيد لا يجوز أن يدخل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 فيه نسخ أبدا لنصه عليه السلام على أن ذلك باق إلى يوم القيامة فمن أجاز ورود نسخ لهذا فقد أجاز الكذب من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أجاز ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال وسبحان من يسر لهؤلاء القوم عكس الحقائق فيجعلون ما قد جاء النص فيه بأنه خاص عاما وما جاء فيه النص بأنه عام خاصا وبالله تعالى نتأيد وإنما سفك عليه السلام فيها الدماء المباحة ونهى عن الاقتداء به ذلك جملة وقولنا في هذا هو قول عبد الله بن عمر وعطاء وغيرهما وكان عبد الله بن عمر يقول لو لقيت فيها قاتل عمر ما ندهته قال علي فما ورد من الأوامر والنواهي على الصفتين المذكورتين فهو فرض أبدا ما لم يرد نص أو إجماع على أنه منسوخ أو أنه مخصوص أو أنه ندب أو أنه بعض الوجوه الخارجة عن الإلزام على ما سنفرد لها فصلا في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال علي وأما صورة الندب فهو أن يرد اللفظ أو بمدح الفاعل أو للفعل مثل قوله عليه السلام إذ قال يهلك الناس هذا الحي من قريش ثم قال عليه السلام لو أن الناس اعتزلوهم فكان هذا ندبا إلى ترك القتال مع التأولين منهم ومثل قوله عليه السلام لو اغتسلتم وإنما أوجبنا غسل الجمعة بحديث آخر فيه لفظ الايجاب وأما المدح فمثل قوله تعالى {لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على لتقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا ولله يحب لمطهرين} فكان ذلك حضا على مثل فعلهم وهو الاستنجاء بالماء ومثل إخباره صلى الله عليه وسلم أن لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة وما أشبه ذلك فما جاء باللفظ الذي ذكرنا فهو ندب لا إيجاب يعلم ذلك بصيغة اللغة ومراتبها علم بضرورة لا يفهم سواه قال علي وأما أمر الإباحة فإنه يراد بلفظ أو مثل قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 ومثل قوله عليه السلام وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا وأن العجب ليكثر ممن حمل ما روى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر به الواطىء في رمضان من صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا أو تحرير رقبة على التخيير وقد روى حديث صحيح بالترتيب في ذلك ثم رأى من رأيه أن يحمل قوله عليه السلام في الوقوف بعرفة ليلا أو نهارا على إيجاب الوقوف ليلا ولا بد ويكفي هذا القول وصفه وقد يرد أيضا لفظ الإباحة بلا حرج وبلا جناح مثل قوله تعالى {ليس على لأعمى حرج ولا على لأعرج حرج ولا على لمريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند لله مباركة طيبة كذلك يبين لله لكم لآيات لعلكم تعقلون} وقوله عليه السلام وقد سئل عن تقديم الرمي على الحلق وعلى النحر وتقديم الحلق على النحر وعلى الرمي لا حرج لا حرج قال علي وبهذا النص صح لنا أن قوله عز وجل {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} أنه ليس المراد به النحر ولكن بلوغ وقت الإحلال بالنحر مع موافقة قولنا لظاهر الآية دون تكلف تأويل بلا دليل ومثل قوله تعالى {وذكروا لله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن تقى وتقوا لله وعلموآ أنكم إليه تحشرون} ومثل قوله تعالى {إن لصفا ولمروة من شعآئر لله فمن حج لبيت أو عتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن لله شاكر عليم} ومثل قوله {وإن مرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهمآ أن يصلحا بينهما صلحا ولصلح خير وأحضرت لأنفس لشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن لله كان بما تعملون خبيرا} وقوله تعالى {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرفات فذكروا لله عند لمشعر لحرام وذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن لضآلين} وقوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} يريد تعالى قبل تمام الحولين بنص الآية وقوله تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقوله تعالى {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود لله وتلك حدود لله يبينها لقوم يعلمون} وقوله تعالى {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة لنسآء أو أكننتم في أنفسكم علم لله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة لنكاح حتى يبلغ لكتاب أجله وعلموا أن لله يعلم ما في أنفسكم فحذروه وعلموا أن لله غفور حليم} وقوله تعالى {لا جناح عليكم إن طلقتم لنسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على لموسع قدره وعلى لمقتر قدره متاعا بلمعروف حقا على لمحسنين} وقوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} وقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} وقوله تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} أو قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم لصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا} قال علي وهذا هو المعهود في اللغة ومن أراد أن يجعل قوله تعالى {إن لصفا ولمروة من شعآئر لله فمن حج لبيت أو عتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن لله شاكر عليم} حجة في إيجاب الطواف بين الصفا والمروة فرضا على الحاج وعلى المعتمر فقد أغفل جدا لأنه يلزمه مع مخالفة مفهوم اللغة أن يقول في الآيات التي تلونا آنفا إن كل ما ذكر فيها فرض فإن افتداء المرأة من زوجها فرض وإن مراجعة المطلق ثلاثا للمطلقة بعد طلاق الزوج الثاني لها فرض وإن قصر الصلاة فرض وإن طلاق المرأة قبل أن تمس فرض وإن تصالحهما على فطام الولد قبل الحولين فرض وكذلك سائر ما في تلك الآية قال علي وإنما واجبنا السعي بينهما فرضا لحديث أبي موسى الأشعري إذ أمره عليه السلام بالطواف بينهما ولولا ذلك الحديث ما كان السعي بينهما فرضا لا في عمرة ولا في حج وبالله تعالى التوفيق وإنما قلنا أيضا بوجوب القصر فرضا لقوله عليه السلام فاقبلوا صدقته وبأحاديث أخر صح بها وجوب قصرها وكل لفظ ورد بعليكم فهو فرض وكل أمر ورد بلكم أو بأنه صدقة فهو ندب لأن علينا إيجاب ولنا صدقة إنما معناها الهبة وليس قبول الهبة فرضا إلا أن يؤمر بقبولها فيكون حينئذ فرضا ومما تحل به الأوامر على الندب أن يرد استثناء يعقبه في تخيير المأمور مثل قوله تعالى في الديات {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب لله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} وفي وجوب الصداق {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا لذي بيده عقدة لنكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا لفضل بينكم إن لله بما تعملون بصير} وفي قضاء الدين {وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون} وما أشبه ذلك وهذا معلوم كله بموضوع اللغة ومراتبها وبالله التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 فصل في حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها قال علي ذهب قوم ممن بلح عندما أراد من نصر ما لم يأذن الله تعالى بنصره من التقليد الفاسد واتباع الهوى المضل إلى أن قالوا لا نحمل الألفاظ من الأوامر والأخبار على ظواهرها بل هي على الوقف وقال بعضهم وهو بكر البشري إنما ضلت الخوارج بحملها القرآن على ظاهره واحتج بعضهم أيضا بأن قال لما وجدنا من الألفاظ ألفاظا مصروفة عن ظاهرها ووجدنا قول القائل إنك سخي وإنك جميل قد تكون على الهزؤ والمراد إنك قبيح وإنك لئيم علمنا أن الألفاظ لا تنبىء عن المعاني بمجردها قال علي هذا كل ما موهوا به وهؤلاء هم السوفسطائيون حقا بلا مرية وقد علم كل ذي عقل أن اللغات إنما رتبها الله عز وجل ليقع بها البيان واللغات ليست شيئا غير الألفاظ المركبة على المعاني المبينة عن مسمياتها قال الله تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} } واللسان هي اللغة بلا خلاف ههنا فإذا لم يكن الكلام مبينا عن معانيه فأي شيء يفهم هؤلاء المخذولون عن ربهم تعالى وعن نبيهم صلى الله عليه وسلم بل بأي شيء يفهم به بعضكم بعضا ويقال لهم إذا أمكن ما قلتم فبأي شيء نعرف مرادكم من كلامكم هذا ولعلكم تريدون به شيئا آخر غير ما ظهر منه ولعلكم تريدون إثبات ما أظهرتم إبطاله فبأي شيء أجابوا به فهو لازم لهم في عظيم ما أتوا به من السخف وهؤلاء قوم قد أبطلوا الحقائق جملة ومنعوا من الفهم بالبتة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 فيكاد الكلام يكون معهم عناء لولا كثرة من اغتر بهم من الضعفاء وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنذر باتخاذ الناس رؤساء جهالا فيضلون ويضلون وأما قول بكر إن الخوارج إنما ضلت باتباعها الظاهر فقد كذب وأفك وافترى وأثم ما ضلت إلا بمثل ما ضل هو به من تعلقهم بآيات ما وتركوا غيرها وتركوا بيان الذي أمره الله عز وجل أن يبين للناس ما نزل إليهم كما تركه بكر أيضا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أنهم جمعوا آي القرآن كلها وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وجعلوه كله لازما وحكما واحدا ومتبعا كله لاهتدوا على أن الخوارج أعذر منه وأقل ضلالا لأنهم لم يلتزموا قبول خبر الواحد وأما هو فالتزم وجوبه ثم أقدم على استحلال عصيانه والقول الصحيح ههنا هو أن الروافض إنما ضلت بتركها الظاهر واتباعها ما اتبع بكر ونظراؤه من التقليد والقول بالهوى بغير علم ولا هدى من الله عز وجل ولا سلطان ولا برهان فقال الروافض {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} قالوا ليس هذا على ظاهره ولم يرد الله تعالى بقرة قط إنما هي عائشة رضي الله تعالى عنها ولعن من عقها وقالوا الجبت والطاغوت ليسا على ظاهرهما إنما هما أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما ولعن من سبهما وقالوا {يوم تمور لسمآء مورا * وتسير لجبال سيرا} ليس هذا على ظاهره إنما السماء محمد والجبال أصحابه وقالوا {وأوحى ربك إلى لنحل أن تخذي من لجبال بيوتا ومن لشجر ومما يعرشون} ليس هذا على ظاهره إنما النحل بنو هاشم والذي يخرج من بطونها هو العلم وسلك بكر ونظراؤه طريقهم فقالوا {وثيابك فطهر} ليس الثياب على ظاهر الكلام إنما هو القلب وقالوا البيعان بالخيار ما لم يفترقا ليس على ظاهره من تفرق الأبدان إنما معناه ما لم يتفقا على الثمن وقالوا {يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم} ليس على ظاهره إنما هو ابن ذكر وأما الأنثى فلا وقالوا {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 الوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} ليس على ظاهره إنما أراد من غير قبيلتكم قال علي ويسأل هؤلاء القوم أركبت الألفاظ على معان عبر بها عنها دون غيرها أم لا فإن قالوا لا سقط الكلام معهم ولزمنا ألا نفهم عنهم شيئا إذ لا يدل كلامهم على معنى ولا تعبر ألفاظهم عن حقيقة وإن قالوا نعم تركوا مذهبهم الفاسد وكل ما أدخلنا على من قال بالوقف في الأوامر فهو داخل على هؤلاء ويدخل على هؤلاء زيادة إبطال جميع الكلام أوله عن آخره وكذلك يدخل عليهم أيضا ما يدخل على القائلين بالوقف في العموم وسنذكره في بابه إن شاء الله تعالى ولا قوة إلا بالله فإن قالوا بأي شيء تعرفون ما صرف من الكلام عن ظاهره قيل لهم وبالله تعالى التوفيق نعرف ذلك بظاهر آخر مخبر بذلك أو بإجماع متيقن منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنه مصروف عن ظاهره فقط وسنبين ذلك في آخر باب الكلام في العموم والخصوص إن شاء الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وقد أكذب الله تعالى هذه الفرقة الضالة بقوله عز وجل ذاما لقوم يحرفون الكلم عن مواضعه {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم لطور خذوا مآ آتيناكم بقوة وسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم لعجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} لا بيان أجلى من هذه الآية في أنه لا يحل صرف كلمة عن موضعها في اللغة ولا تحريفها عن موضعها في اللسان وأن من فعل ذلك فاسق مذموم عاص بعد أن يسمع ما قاله تعالى قال عز وجل {كذلك نقص عليك من أنبآء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا * من أعرض عنه فإنه يحمل يوم لقيامة وزرا} فصح أن الوحي كله من يترك ظاهره فقد أعرض عنه وأقبل على تأويل ليس عليه دليل وقال تعالى {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام لله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} وكل من صرف لفظا عن مفهومه في اللغة فقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 حرفه وقد أنكر الله تعالى ذلك في كلام الناس بينهم فقال تعالى {فمن بدله بعدما سمعه فإنما إثمه على لذين يبدلونه إن لله سميع عليم} وليس التبديل شيئا غير صرف الكلام عن موضعه ورتبته إلى غيرها بلا دليل من نصر أو إجماع متيقن عنه صلى الله عليه وسلم وقال تعالى {ياأيها لذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا نظرنا وسمعوا وللكافرين عذاب أليم} فصح أن اتباع الظاهر فرض وأنه لا يحل تعديه أصلا وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل لله لكم ولا تعتدوا إن لله لا يحب لمعتدين} والاعتداء هو تجاوز الواجب ومن أزاح اللفظ عن موضوعه في اللغة التي بها خوطبنا بغير أمر من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فعداه إلى معنى آخر فقد اعتدى فليعلم أن الله لا يحبه وإذا لم يحبه فقد أبغضه نعوذ بالله من ذلك وقال تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقال تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وقد أخبر تعالى أنه {وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} فنص نصا جليا لا يحتمل تأويلا على أنه علق كل مسمى اسما مخصوصا به وكذلك من حدود الله تعالى التي قد أخبر أنه من تعداها فهو ظالم وأنه يدخله نارا وأهل ذلك هم لإقدامهم على الباطل الذي لا يخفى على ذي لب وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ونسأله التوفيق فكل شيء يبدله لا إله إلا هو فلا موفق إلا من هدى ولا ضال إلا من خذل ولله تعالى في كل ذلك الحجة البالغة علينا ولا حجة لنا عليه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال تعالى {تبع مآ أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن لمشركين} فأمره باتباع الوحي النازل وهو المسموع الظاهر فقط وقال تعالى {أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك لكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} أخبر تعالى أن الواجب علينا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 نكتفي بما يتلى علينا وهذا منع صحيح لتعديه إلى طلب تأويل غير ظاهره المتلو علينا فقط وقال تعالى آمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} إلى منتهى قوله تعالى قال علي ولو لم يكن إلا هذه الآية لكفت لأنه عليه السلام قد تبرأ من الغيب وأنه إنما يتبع ما يوحى إليه فقط ومدعي التأويل وتارك الظاهر تارك للوحي مدع لعلم الغيب وكل شيء غاب عن المشاهد الذي هو الظاهر فهو غيب ما لم يقم عليه دليل من ضرورة عقل أو نص من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع راجع إلى النص المذكور وقال تعالى {أفغير لله أبتغي حكما وهو لذي أنزل إليكم لكتاب مفصلا ولذين آتيناهم لكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بلحق فلا تكونن من لممترين} فمن ابتغى حكما غير النصوص الواردة من الله تعالى في القرآن وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فقد ابتغى غير الله حكما وبين تعالى أن الحكم هو ما أنزل في الكتاب مفصلا وهذا هو الظاهر الذي لا يحل تعديه وقال تعالى {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} فنص تعالى على أن الباطل إنما يمتحى وأن الحق إنما يصح بكلماته تعالى فثبت يقينا أن الكلمات معبرات عما وضعت له في اللغة وأن ما عدا ذلك باطل فصح اتباع ظاهر اللفظ بضرورة البرهان وقال تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن لذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا} قال علي ومن ترك ظاهر اللفظ وطلب معاني لا يدل عليها لفظ الوحي فقد افترى على الله عز وجل بنص الآية المذكورة وقال تعالى {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فنص تعالى على البيان إنما هو القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد فصح بذلك اتباع ما أوجب القرآن وكلامه عليه السلام وبطلان كل تأويل دونهما وقال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} قال علي ففي هذه الآية كفاية لمن عقل أن لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي خاطبنا بها لا يحل أن نتعدى بألفاظها عن موضوعاتها إلى ما سواه أصلا أخبرني يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري كتابا إلي حدثنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا خالد بن مخلد حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرنا هشام عن عروة عن أبيه قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول شيئا من القرآن إلا آيا بعدد أخبره بهن جبريل عليه السلام قال علي فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتأول شيئا من القرآن إلا بوحي فيخرجه عن ظاهرة التأويل فمن فعل خلاف ذلك فقد خالف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وقد نهى تعالى وحرم أن يقال عليه ما لم يعلمه القائل وإذا كنا لا نعلم إلا ما علمنا فترك الظاهر الذي علمناه وتعديه إلى تأويل لم يأت به ظاهر آخر حرام وفسق ومعصية لله تعالى وقد أنذر الله تعالى وأعذر فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها حدثنا حمام بن أحمد قال حدثنا محمد بن يحيى بن مفرج حدثنا ابن الأعرابي حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن جعفر بن برقان قال قال أبو هريرة يا ابن أخي إذا حدثت بالحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال وصدق أبو هريرة رضي الله عنه ونصح وبالله تعالى التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 فصل في الأوامر أعلى الفور هي أم على التراخي قال القائلون إن الأوامر على التراخي وقال آخرون فرض الأوامر البدار إلا ما أباح التراخي فيها نص آخر أو إجماع قال علي وهذا هو الذي لا يجوز غيره لقول الله تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها لسماوات ولأرض أعدت للمتقين} وقال تعالى {ولكل وجهة هو موليها فستبقوا لخيرات أين ما تكونوا يأت بكم لله جميعا إن لله على كل شيء قدير} وقد قدمنا أن أوامر الله تعالى على الوجوب فإذا أمرنا تعالى بالاستباق إلى الخيرات والمسارعة إلى ما يوجب المغفرة فقد ثبت وجوب البدار إلى ما أمرنا به ساعة ورود الأمر دون تأخر ولا تردد وقد شغب بعض المخالفين فقال ليس في قوله تعالى {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها لسماوات ولأرض أعدت للمتقين} حجة في أن الأوامر واجب البدار إليها لأنه تعالى أمرنا بالمسارعة إلى المغفرة لا إلى الفعل قال علي وهذا مما يسر فيه هؤلاء القوم لعكس الحقائق وقد أيقنا بقوله تعالى {ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} أن أحدا لا يؤتى المغفرة إلا بعمل صالح يقتضي له وعد الله تعالى بالرحمة والمغفرة وعلمنا ذلك يقينا أن مراد الله تعالى بقوله {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها لسماوات ولأرض أعدت للمتقين} إنما هو سارعوا إلى الأعمال الموجبة للمغفرة من ربكم إذ لا سبيل إلى المسارعة إلى المغفرة إلا بذلك وهذا من الحذف الذي دلت عليه الحال وإنما قلنا هذا لوجهين أحدهما النص الجلي الوارد في أنه لا يجزي أحد بمغفرة ولا غيرها إلا بحسب عمله والثاني النص الوارد بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس في وسع أحد المسارعة إلى المغفرة المجردة دون توسط عمل صالح فهذان الظاهران نصا أن في تلك الآية حذفا دلت عليه الحال فما كان مرتبطا بوقت واحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 كصيام رمضان فقد جاء النص بإيجاب تأخيره إلى وقته فإذا خرج الوقت فقد ثبت العجز عن تأديته كما أمرنا إلا بأن يأتي في شيء من ذلك نص آخر فيوقف عنده وما كان مرتبطا بوقت فيه مهلة فقد جاء النص بإباحة تأخيره إلى آخر وقته وإيجاب تأخيره إلى أول وقته فإذا خرج الوقت فكل ما قلنا في الذي قبله ولا فرق وذلك كأوقات الصلاة وما لم يأت مرتبطا بوقت ففرضه البدار في أول أوقات الإمكان إلا أن الأمر به لا يسقط عن المأمور به لعصيانه في تأخيره وكذلك ما كان مرتبطا بوقت له أول محدود لم يحد آخره أو ما كان مرتبطا بوقت محدود متكرر فالنوع الأول كقضاء صيام المريض والمسافر لأيام رمضان فذلك لازم في أول أوقات القدرة عليه فإن بادر إليه فقد أدى ما عليه وإن أخره لغير عذر كان عاصيا بالتأخير وكان الأمر عليه ثابتا أبدا والنوع الثاني كوجوب الزكاة فإن لوقتها أولا وهو انقضاء الحول وليس قبل ذلك أصلا وليس لآخر وقتها آخر محدود بل هو باق أبدا إلى وقت العرض على الله عز وجل لأن النص لم يأت في ذلك بانتهاء والقول في المبادرة إلى أدائها وفي التأخير كما قلنا في النوع الذي قبله والنوع الثالث كالحج فإنه مرتبط بوقت من العام محدود وليس ذلك على الإنسان في عام بعينه بل هو ثابت على كل مستطيع إلى وقت العرض على الله عز وجل والقول في البدار إليه أو تأخيره كالقول في النوعين اللذين قبله فإن قال قائل فلم أجزتم صيام كفارة اليمين وقضاء رمضان غير متتابع وكذلك صيام متعة الحج وكذلك غسل الأعضاء في الوضوء والغسل من الجنابة والجمعة فأجزتم كل ذلك غير متتابع قيل له وبالله تعالى التوفيق إنا لم نفارق أصلنا الذي ذكرنا ولا خالفنا النص في شيء من ذلك لأن الله تعالى إنما أوجب في الكفارة ثلاثة أيام ومعنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 ثلاثة أيام يوم ويوم ويوم ولكل يوم حكمه فإذا صام يوما فقد صام بعض فرضه وأدى من ذلك فرضا قائما بنفسه والصيام شيء آخر غير المبادرة فإذا صام غير مبادر فقد أطاع في أداء الصوم وعصى في ترك البدار وهما فرضان متغايران لا يبطل أحدهما ببطلان الآخر وإنما ذلك كمن صلى ولم يزك فعليه معصية ترك الزكاة وله أجر الطاعة بالصلاة ولا تظلم نفس شيئا {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} وإنما كان يبطل أحدهما بترك الآخر ولو جاء النص يربط أحدهما بالآخر كربطه تعالى التتابع في صيام الظهار وفي صيام كفارة القتل فهذان إن لم يتابعا فلم يؤديا كما أمر الله تعالى ولم يشترط التتابع في قضاء رمضان ولا في الكفارات ولا في متعة الحج وأمر الله تعالى بالمسارعة إلى الطاعات هو أمر بأن يكون فعلنا على تلك الصفة من المسارعة فالمسارعة المأمور بها صفة لفعلنا فمن تركها عصى وكان مؤديا لما أداه غير مسارع ما لم يشترط الوقت والتتابع وأمره تعالى بالتتابع في صيام الظهار وكفارة القتل هو أمر بأن يكون ذلك الصيامان على هذه الصفة فالمتابعة المأمور بها هنالك صفة للشهرين فإذا لم يكونا متتابعين فليسا اللذين أمر الله تعالى بهما وكذلك نقول في غسل الأعضاء في الوضوء وغسل الجنابة أنه غير مأمور بذلك إلا إذا قام إلى الصلاة فقط فمتى أراد صلاة تطوع أو صلاة فرض فهو قائم إلى الصلاة ولم يخص تعالى بذلك القيام إلى الصلاة فرض دون القيام إلى صلاة تطوع فله حينئذ أن يغتسل ويتوضأ فإذا أتمها فله أن يؤخر التطوع ما شاء وله تأخير الفرض بمقدار ما يدركها مع الإمام أو كان ممن عليه فرض حضورها في الجماعة أو إلى آخر وقتها إن كان ممن لا يلزمه فرض حضورها في جماعة ثم لا يحل له تأخيرها أصلا أكثر وأما من لا يريد صلاة ولا يمكنه صلاة كالحائض إثر الجماع فقد صح عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طاف على جميع نسائه واغتسل بين كل اثنتين منهن فصح بهذا النص أن الغسل جائز تعجيله وإن لم يرد الصلاة بعده وبالله تعالى نتأيد فلما أبيح لنا ذلك كان المفرق والمتابع يقع على فعلهما اسم وضوء وغسل على السواء وقوعا مستويا وكان في غسله عضوا من أعضائه بنية ما أبيح له من تعجله مؤديا لفرض غسل ذلك العضو ولكل عضو حكمه فمن فرق غسله أو وضوءه ما لم يقم إلى الصلاة فلم يترك مسارعة أمر بها حتى إذا أراد القيام إلى الصلاة إما مع الأمام وإما في آخر وقتها ففرض عليه المسارعة إلى إتمام وضوئه وغسله وكذلك قلنا في قضاء رمضان إنه إنما أمر تعالى بأيام أخر ولم يشترط فيها المتابعة فمن بادر إلى صيامها فقد أدى فرض الصوم وفرض البدار ومن لم يبادر وصام فقد أدى فرض الصوم وعصى في ترك فرض المسارعة وكذلك نقول فيمن لم يعجل تأدية زكاته في أول أوقات وجوبها وفيمن أخر الحج عن أول أوقات الإمكان أنه إن حج وزكى بعد ذلك فقد أدى فرض الزكاة والحج وعليه إثم المعصية بترك المسارعة لا يسقط ذلك الإثم عنه أداء ما أدى من ذلك إلا في الموازنة يوم القيامة يوم وجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا قال علي ومما يوجب أيضا فرض المبادرة إلى الطاعة قول الله تعالى {ولسابقون لسابقون * أولئك لمقربون} وقد قال عليه السلام لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله تعالى أو كلاما هذا معناه هذا وإن كان إنما أوجب أن يقول عليه السلام تأخر قوم عن الصف الأول لبعض الأمر المكروه فهو محمول على ظاهره ومقتضى لفظه على ما قد أثبتنا وجوبه في الفصل الذي قبل هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 قال علي وقد سأل أبو بكر محمد بن داود رحمة الله عليه من أجاز تأخير الحج فقال متى صار المؤخر للحج إلى أن مات عاصيا أفي حياته فهذا غير قولكم أو بعد موته فالموت لا يثبت على أحد معصية لم تكن لازمة في حياته قال علي ونحن نزيد في هذا السؤال فنقول وبعد الموت لا يأثم أحد إلا من سن سنة سوء يقتدى به فيها فأجابه بعض المجيزين لذلك وهو أبو الحسن القطان الشافعي بأن قال إنما كان له في التأخير بشرط أن يفعل قبل أن يموت فلما مات قبل أن يفعل علمنا أنه لم يكن له مباحا التأخير قال علي ونحن نقول إن أبا الحسن لم يحقق الجواب الشافي وكان أدخل في الشغب لو قال إنه إثم في آخر عام قدر فيه على الحج ولم يحج كما قال الشافعي فيمن حلف بالطلاق إن لم يطلق امرأته إنها لا تطلق إلا آخر أوقات صحته التي كان فيها قادرا على الطلاق قال علي ونحن نجيب في هذين الجوابين معا ببيان لائح بحول الله وقوته فنقول قال الله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وإنما يلزم الله تعالى الإثم من ترك ما لم يعلم أنه ليس له تركه أو قامت عليه بذلك حجة أو عمل ما يعلم أنه ليس له أن يعمله أو قامت عليه حجة بذلك ولم يطلع الله أحدا على وقت منيته ولا عرفه بآخر أوقات قدرته ولا قامت عليه حجة في ذلك الوقت إلا ما قد قام في سائر الأحوال قبل ذلك ولا حدث عليه من الأوامر إلا ما حدث قبل ذلك الوقت فإن كان عاصيا في ذلك الوقت فهو عاص قبل ذلك الوقت وإن لم يكن عاصيا قبل ذلك الوقت فليس عاصيا في ذلك الوقت إلا بنص يخص ذلك الوقت بوقوع المأثم فيه دون غيره ومن فرق بين الأوقات بلا نص ولا إجماع فقد قال بلا علم وذلك حرام وأيضا فإن الله تعالى لم يكلف أحدا أن يعلم هل يموت قبل أن يؤدي ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 عليه فيأثم أو يعلم أنه لا يموت حتى يؤدي فيسقط عنه المأثم وقول القطان يوجب أن الناس مكلفون ذلك ويوجب أيضا أن يكون المستطيعون للحج المؤخرون له بلا عذر مختلفي الأحكام فبعضهم آثم في تأخيره وهذا مع ما فيه من التحكم بلا دليل ومن تكليف المرء علم متى يموت فمخالف لجملة مذاهب أصحابه في الفسخ في تأخير الحج جملة وهو ممن لا يخالفها أصلا ولولا ذلك لشكرناه على خلافها ولم نلمه وبالله تعالى التوفيق فبقي سؤال أبي بكر رحمة الله عليه بحسبه قال أبو محمد ومما يبين أن الأوامر على الفور قوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فأوجب تعالى قبول النذارة وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فأمر تعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق واستثناه من قبول النذارة وليس إلا توقف أو بدار ولا سبيل إلى قسم ثالث إلا الترك جملة والتوقف هو أيضا ترك فلما خص خبر الفاسق بالتوقف فيه وأبانه بذلك عن خبر غير الفاسق وجب البدار ضرورة إلى خبر العدل فوجب الفور بالبرهان الضروري وبطل الوقف إلا في خبر الفاسق قال علي ويكفي من ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف الرجل الصالح قال ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى البغدادي عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا عبد الله بن معاذ العنبري وقال ثنا أبي ثنا شعبة عن الحكم سمع علي بن الحسين عن ذكوان مولى عائشة أنها قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان فقلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار قال أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون ولو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي معي حتى أشتريه ثم أحل كما حلوا قال علي فرفع هذا الحديث الشك جملة وبين عليه السلام أن أمره كله على الفرض وعلى الفور وإن التردد حرام لا يحل ونعوذ بالله العظيم من كل ما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم فإن اعترضوا بمن بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ قلنا هو بمنزلة من لم يبلغه الأمر في أنه لم يلزم حكما فلا يلام على تركه حتى يبلغه ولا يعذب على تركه حتى يعمله وبالله تعالى التوفيق بل حكمه الثبات على ما بلغه من المنسوخ لأنه مأمور به جملة حتى يبلغه الناسخ لقوله تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فصح أن الذي بلغه من أمر الله تعالى في القرآن أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو اللازم لقوله عز وجل {وأطيعوا لله وأطيعوا لرسول وحذروا فإن توليتم فعلموا أنما على رسولنا لبلاغ لمبين} حتى يبلغه الأمر الناسخ فحينئذ يسقط عنه المنسوخ ويلزمه الناسخ وأما احتجاجهم بتأخيره عليه السلام الحج فقد حج عليه السلام قبل الهجرة ورآه جبير بن مطعم واقفا بعرفة فأنكر جبير ذلك لأنه كان عليه السلام من الخمسة الذين لا يقفون بعرفة ويكفي من هذا كله أنا على يقين من أن الله تعالى أمره بتأخير الحج حتى يعهد إلى المشركين ألا يقربوا المسجد الحرام وإنما قطعنا على ذلك لقول الله تعالى آمرا أن يقول {قل ما كنت بدعا من لرسل ومآ أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومآ أنا إلا نذير مبين} فصح يقينا أنه عليه السلام لا يفعل إلا ما يوحي إليه ربه عز وجل فلما أخر الحج علمنا أنه فعل ذلك عليه السلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 بوحي وكان عليه السلام قد أعلمه ربه تعالى أنه لا يقبضه حتى يتم التعليم ويكمل التبليغ ويدخل الناس في دين الله أفواجا وهذا يقتضي أنه لا يموت حتى يعلم الناس مناسكهم وليس غيره عليه السلام كذلك وأيضا فلا ندري متى نزل فرض الحج عليه لعله إنما نزل عليه إذ حج عليه السلام حجة الوداع وهذا هو الأظهر لأنه لو نزل قبل ذلك لما آخر عليه السلام تعليم المناسك إلى حجة الوداع التي قال فيها خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا أو كما قال عليه السلام ويبين ذلك الحديث الطويل عن جابر ففي أوله ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فلو فرض الحج قبل ذلك لما أخر الأذان في الناس بوجوبه عليهم والحديث المأثور من طريق ابن عباس وأبي هريرة إذ خطب الناس فقال إن الله فرض عليكم الحج فقال له قائل وقيل إنه الأقرع بن حابس أفي كل عام يا رسول الله وهذا والله أعلم إنما كان في حجة الوداع وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بما يدل على ذلك من خروجهم إلى الحج في ذلك العام ينتظرون أمره عليه السلام والوحي ينزل عليه والأحكام التي نزلت في تلك الحجة من نسخ الحج لمن لم يسق الهدي وأن يحل بمتعة ومن إيجاب القران على من ساق الهدي وسائر ما نزل في تلك الحجة من بيان شرائع الحج مما لم يكن نزل قبل ذلك وبالله تعالى التوفيق وصلى الله على محمد نبي الرحمة وهادي الأمة وسلم فصل في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين متى يجب أفي أوله أم في آخره والأمر المرتبط به بصفة ما والأمر المؤقت بوقت محدود الأول غير محدود الآخر وفيه زيادات تتعلق بالفصل الذي أتممناه قبل هذا قال علي أما الأمر المرتبط بوقت لا فسحة فيه فغير جائز تعجيل أدائه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 قبل وقته ولا تأخيره عن وقته وذلكم ما ذكرنا قبل هذا من صيام شهر رمضان فإن جاء نص بالتعويض منه وأدائه في وقت آخر وقف عنده وكان ذلك عملا آخر مأمورا به وإن لم يأت بذلك نص ولا إجماع فلا يجوز أن يؤدى بشيء منه في غير وقته وكذلك كل عمل مرتبط بوقت محدود الطرفين كأوقات الصلوات وما جرى هذا المجرى فلا يجوز أداء شيء من ذلك قبل دخول وقته ولا بعد خروج وقته ومن شبه ذلك بديون الآدميين لزمه أن يجيز صيام رمضان في شعبان قياسا على تعجيل ديون الناس قبل حلول أوقاتها ولزمه أن يجيز تقديم الصلوات قبل وقتها قياسا على ذلك وعلى ما أجازوا من تعجيل الزكاة قبل حلول وقتها فبعضهم قال بثلاثة أعوام وبعضهم قال بعام فأقل وبعضهم قال الشهر والشهرين ونحو ذلك وبعضهم فرق متحكما فأجاز تعجيل الزكاة التي في الأموال قبل الحول بشهر أو شهرين ومنع من شهرين ونصف وأجاز في تعجيل زكاة الفطر اليوم واليومين ومنع من ثلاثة أيام وهذا قول يكفي من بطلانه سماعه لأنه حكم بلا إذن من الله عز وجل وفرق بلا دليل قال علي ولا فرق بين ما أجاز أداء الأمر بعد انقضاء وقته وبين من أجازه قبل دخول وقته هذا على أن بعضهم قد أجاز للمريض الذي يخاف تغير عقله تعجيل الصلاة قبل وقتها فإذا ادعوا أن الإجماع منعهم من ذلك أكذبهم قول ابن عباس فإنه يجيز أداء الصلاة قبل دخول وقتها وصلاة الظهر قبل زوال الشمس ولا فرق في ديون الناس بين أدائها بعد وقتها وحلول أجلها وبين أدائها قبل وقتها وحلول أجلها فليقولوا كذلك في جميع شرائع الله تعالى قال علي وبطلان هذا القياس سهل فلو كان القياس حقا لكان في هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 المكان باطلا بحتا بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق إن ديون الناس التي إلى أجل لا يجوز لأحد أداؤها قبل حلول أوقاتها ولا تأخيرها عن حلول أوقاتها إلا بإذن الذين لهم الديون ورضاهم ولا خلاف في ذلك جملة ولكن تناقض من تناقض في بعض ذلك ولا خلاف في أن من كان له على أحد ثلاثة ديون من ثلاث معاملات وكلها إلى آجال محددة فأذن الذي له الدين في تعجيل أحد تلك الديون بعينه قبل الأجل ورضي بذلك الغريم ثم أذن في تأخير آخر من تلك الديون بعينه بعد حلول أجله فليس ذلك بموجب جواز تعجيل الدين الذي لم يأذن بتعجيله ولا بمجيز تأخيره عن أجله هذا ما لا خلاف بين اثنين فيه فإذا لم يكن إذن الناس فيما أذنوا فيه من تعجيل ديونهم أو تأجيلها موجبا أن يقاس ما سكتوا عنه من سائر ديونهم على ما أذنوا فيه من تعجيل ديونهم فذلك أبعد من أن تقاس ديون الله تعالى التي لم يأذن في تأجيلها ولا في تعجيلها على ما أذن الناس فيه من تعجيل ديونهم وتأجيلها قال علي وهذا ما لا خفاء به على من له مسكة عقل وأيضا فلا خلاف بين اثنين في أن من له دين فأسقطه البتة ورضي الغريم بذلك فإن ذلك الدين ساقط فيلزمهم إذا أجازوا تأخير ديون الله تعالى عن أوقاتها وتعجيل بعضها عن أوقاتها وإن لم يأذن الله تعالى في ذلك قياسا على جواز تأخير ديون الناس وجواز تعجيلها إذا أذنوا في ذلك بأن يجيزوا سقوط ديون الله تعالى بالبتة وإن لم يأذن الله تعالى في ذلك قياسا على سقوط ديون الناس بالبتة إذا أذنوا في ذلك وهذا أصح قياس وأشبه بقياسهم الذين حكوا لو كان القياس حقا والقياس بحمد الله تعالى باطل محض قال علي وأيضا فإن الزكوات والكفارات بالصدقات وإن كان الله تعالى قد جعلها للمساكين فليست من حكم ديون الناس في ورد ولا صدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 لأن ديون الناس التي راموا تشبيه الزكوات بها هي لأقوام بأعيانهم فحكمهم جائز فيها لأنها مال متعين لهم وموروث عنهم وأما الزكوات والكفارات فليست لقوم من المساكين بأعيانهم ولا هؤلاء المساكين بأولى بها من غيرهم من المساكين فما كان هكذا فلا إذن لمن حضر من المساكين فيها لا بتعجيل ولا بتأجيل ولا يستحقونها إلا بقبضها في أوقاتها لا قبل ذلك ولا بعده وبيان ذلك أنها لا تورث عنهم قبل قبضهم لها ولا يجوز حكمهم فيها ولا تصرفهم ولا إبراؤهم قبل قبضها وكل هذا لا خلاف فيه وإنما شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ديون الناس بديون الله تعالى في شيئين لا ثالث لهما أحدها بقاء حكمها بعد الموت وبعد العجز والثاني أداء الولي لها عن الميت فعصوا الله تعالى أو من عصاه منهم ورسوله صلى الله عليه وسلم في الوجهين اللذين شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ديون الناس بديون الله تعالى وتركوهما معا فقالوا من مات وعليه حج أو زكاة أو صيام أو كفارات فقد سقط وجوبها فيما ترك ولا يقضى عنه إلا أن يأمر بذلك فيقضى عنه الزكاة والحج خاصة من الثلث ويطعم عنه إن أوصى بذلك في الصيام فقط ثم شبهوا ديون الله بديون الناس فيما لا شبه فيه بينهما وفيما لم يأذن به الله عز وجل ومن شغب منهم بالحديث الذي روي من جمع زكاة الفطر في المسجد ومبيت أبي هريرة عليها فلا حجة لهم فيه لأنه لا يخلو ذلك الجمع المذكور من أحد وجهين لا ثالث لهما أحدهما أن تكون جمعت ولم تفرق حتى يأتي يوم الفطر الذي هو وقت أدائها وليس هذا مخالفا لقولنا ولو جاء وقت أدائها لما حل لمسلم أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه أخر إعطاءها وهو عليه السلام إذ بقي عنده دينار لم يستحقه عليه أحد لم يأو إلى نسائه ولا فارق المسجد ليلا ولا نهارا قلقا آسفا حتى يعطيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 فكيف يمنع أحدا حقا وقد وجب أداؤه ومن ظن هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد هذي أو تكون أخرجت في وقتها ولا يحضر من يستحقها فانتظر النبي صلى الله عليه وسلم حضورهم كما كان يفعل بما اجتمع عنده عليه السلام من غنم الصدقة ونعمها ولا يحل لمؤمن أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم غير أحد هذين الوجهين وبالله تعالى التوفيق وليس في المذكور أنها أعطيت المساكين قبل يوم الفطر فبطل تشغيبهم به وبالله تعالى التوفيق قال علي فإذا كان حكم الأموال والعبادات ما ذكرنا فلا خلاف في أن الوقت إنما معناه زمان العمل وأنه لا يفهم من قول الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم اعملوا عمل كذا في وقت كذا وصلوا صلاة كذا من حين كذا إلى حين كذا إلا أن هذا الزمان المحدود هو الذي أمرنا فيه بالعمل المذكور فنقول حينئذ للمخالف ما معنى خروج الوقت فلا بد ضرورة من أنه انقضاء زمان العمل فإذا ذهب زمان العمل فلا سبيل إلى العمل إذ لا يتشكل في العقول كون شيء في غير زمانه الذي جعله الله تعالى زمانا له ولم يجعل له زمانا غيره وهذا من أمحل المحال وأشد الامتناع الذي لا يدخل في الإمكان البتة فإن قال قائل كل وقت فهو لذلك العمل وقت أبطل حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في حدهما الوقت وتعدى حدودهما واستحق النار وقد قال تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وتعدي الحدود على الحقوق هو أن يحد الله تعالى وقتا فيتعداه مخلوق من الناس دون نص ورد إلى وقت آخر وهذا غاية البيان وبالله تعالى التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وأيضا فإنهم لا يقدمون على إطلاق تمادي الوقت بعد خروج الوقت المنصوص ويقال لهم أيضا أخبرونا عن هذا الذي تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فأمرتموه بإعادتها أفي الوقت الذي رتبه الله تعالى أمرتموه بها أم في وقت لم يرتبه الله تعالى لها وقرنها به فإن قالوا في وقتها الذي رتبه الله تعالى لها كفروا وكذبوا مجاهرة وإن قالوا بل في وقتها أقروا بأنهم أمروا أن تؤدى الصلاة بخلاف ما أمر الله تعالى ومن فعل شيئا بخلاف ما أمر الله تعالى به فلم يفعل الذي أمر بل فعل ما لم يؤمر به فهو عاص في ذلك الفعل مرة ثانية وإنما يأمرونه بمعصية وبأمر غير مقبول لقوله عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فصح لما ذكرنا صحة جلية أن من أمره الله تعالى بأداء عمل ما في وقت ما فعمله في غير ذلك الوقت فإنما عمل عملا لم يؤمر به ومن أمر بعمله فقد شرع شريعة لم يأذن بها الله تعالى بل قد نهى عنها إذ نهى عن تعدي حدوده ولا يشك ذو حس أن صوم غد هو غير صوم اليوم فمن أمره الله بصيام اليوم فأفطر عامدا للمعصية ثم صام غدا فإنما صام يوما لم يأمره الله تعالى بصيامه فلا يكون ذلك قاضيا ما أمر به ولا يؤدي أحد ما أمر به إلا كما أمر به لا كما نهى ولا فرق بين هذا وبين ما أمره الله تعالى بحركة إلى مكان ما كالحج إلى مكة في ذي الحجة فحج هو إلى المدينة في ذي القعدة فأي فرق بين هذا وبين من أمر بصيام في رمضان فصام هو في شوال أو بصلاة ما بين زوال الشمس إلى زيادة الظل على مثل من يوم بعينه فصلاها هو في وقت آخر من يوم آخر وأي فرق بين هذا وبين من أمر أن يفعل فعلا في عين ما كنفقة على زوجة له مباح له وطؤها ففعل هو ذلك الفعل في غير تلك المرأة فهل هذا كله إلا غير الذي أمر به وكل ذلك باب واحد وطريق واحدة يجمعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 كلها جمعا مستويا قوله تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وقوله عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وأي فرق بين تعلق الأمر بالأزمان وبين تعلقه بالأعيان أو بمكان دون مكان فإن قالوا إنا قد وجدنا أوامر معلقة بزمان ينوب عنها تأدية ذلك العمل في زمان آخر قيل له وبالله التوفيق إذا جاء بذلك نص أو إجماع فقد علمنا أن الله عز وجل مد ذلك الوقت وعلق ذلك الأمر بذلك الزمان الثاني وجعله وقتا له ونحن لا ننكر هذا بل نقر به إذا أمرنا به لا إذا نهينا عنه وقد جاء مثل ذلك في الأمكنة كمن نذر صلاة في بيت المقدس فإنه إن صلى بمكة أجزأه للنص في ذلك ولا يجزي ذلك فيما لم يرد فيه نص وكذلك من مات وعليه صيام لزم وليه أن يصوم عنه للأمر الوارد في ذلك وكذلك من لم يحج أحج عنه من رأس ماله للنصوص الواردة في كل ذلك فإن قالوا لنا ما تقولون في الصلاة المنسية أو التي ينام عنها أكل وقت لها وقت قيل له وبالله تعالى التوفيق نعم كل وقت لها ومتى ما صلاها فهو وقتها بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك السكران لقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} فإن قالوا فبأي شيء تأمرون من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها وتعمد ترك صوم رمضان في غير عذر من سفر أو مرض أو غير ذلك مما جاء فيه نص أو إجماع قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق نأمرهم بما أمرهم به ربهم عز وجل إذ يقول {وأقم لصلاة طرفي لنهار وزلفا من لليل إن لحسنات يذهبن لسيئات ذلك ذكرى للذاكرين} وبما يقول لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم إذ يقول إن من فرط في صلاة فرض جبرت يوم القيامة من تطوعه وكذلك الزكاة وكذلك سائر الأعمال فأمره بالتوبة والندم والاستغفار والإكثار من التطوع ليثقل ميزانه يوم القيامة ويسد ما ثلم منه وأما أن نأمره بأن يصلي صلاة ينوي بها ظهرا لم يأمره الله عز وجل به أو عصرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 لم يأت به نص أو نأمره بصيام يوم على أنه من رمضان وهو من غير رمضان فمعاذ الله من ذلك فإذن كنا نكون متعدين بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وآمرين له بأن يعمل غير ما أمره الله تعالى به بل ما قد نهاه عنه ثم نسألهم فنقول هذا الذي تعمد ترك صلاة أو صوم ثم أمرتموه بقضائه أقضى ما أمره الله تعالى من ذلك كما أمر أم لا فإن قالوا نعم كذبوا وهم لا يقولون ذلك وإن قالوا لا أقروا بأنهم أمروه أن يؤدي العمل على غير ما أمره الله تعالى به فإن سألونا بمثل ذلك في ناسي الصلاة والنائم عنها والمفطر لسفر أو مرض قلنا لهم قد أدى ما أمره الله تعالى به كما أمره وفي الوقت الذي أمره الله تعالى به ولا ندري أقبل منه أم لا وكذلك كل عمل يعمله في وقته ولا فرق ولو صح الحديث في إيجاب القضاء على عامد الإفطار لقلنا به ولكنه لم يصح إنما رواه عبد الجابر بن عمر ومن هو مثله في الضعف فإن قالوا أنتم تأمرون الولي بأن يصوم عنه إن مات ولا توجبون عليه أن يصوم عن نفسه قال علي فنقول كذبتم إنما قلنا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات وعليه صيام صام عنه وليه ومعنى عليه صيام عليه أن يصوم لأن الصيام مصدر تقول صام يصوم صياما وصوما فإنما هذا فيمن مات وعليه أن يصوم وإنما ذلك النادر والذي فرط في قضاء رمضان أفطره السفر أو مرض فأما العامد للفطر بغير عذر فليس عليه صيام وإنما عليه إثم ترك الصيام وفي هذا كفاية لمن عقل وبالله تعالى التوفيق قال علي وكل أمر علق بوصف ما لا يتم ذلك للعمل المأمور به إلا بما علق به فلم يأت به المأمور كما أمر فلم يفعل ما أمر به فهو باق عليه كما كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وهو عاص بما فعل والمعصية لا تنوب عن الطاعة ولا يشكل ذلك في عقل ذي عقل فمن ذلك من صلى بثوب نجس أو مغصوب وهو يعلم ذلك ويعلم أنه لا يجوز له ذلك الفعل أو صلى في مكان نهي عن الإقامة فيه كمكان نجس أو مكان مغصوب أو في عطن الإبل أو إلى قبر أو من ذبح بسكين مغصوبة أو حيوان غيره بغير إذن صاحبه أو توضأ بماء مغصوب أو بآنية فضة أو بإناء ذهب فكل هذا لا يتأدى فيه فرض فمن صلى كما ذكرنا فلم يصل ومن توضأ كما ذكرنا فلم يتوضأ ومن ذبح كما ذكرنا فلم يذبح وهي ميتة لا يحل لأحد أكلها لا لربها ولا لغيره وعلى ذابحها ضمان مثلها حية لأنه فعل كل ذلك بخلاف ما أمر وقال عليه السلام من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد قال علي وقد نهاه الله تعالى عن استعمال تلك السكين وعن ذبح حيوان غيره بغير إذن مالكه وعن الإقامة في المكان المغصوب وأمر بالإقامة للصلاة وبتذكية ما يحل أكله وبضرورة العقل علمنا أن العمل المأمور به هو غير العمل المنهي عنه ولا يتشكل في العقل غير ذلك فذبحه حيوان غيره أو بسكين مغصوبة ليس هو التذكية المأمور بها فإذا لم يذك كما أمر فلم يحل بذلك العمل المنهي عنه أكل ما لا يحل أكله إلا بالتذكية المأمور بها ولا شك في أن إقامته في المكان المغصوب ليست الإقامة المأمور بها في الصلاة ولو كان ذلك لكان الله عز وجل آمرا بها ناهيا عنها إنسانا واحدا في وقت واحد في حال واحدة وهذا مما قد تنزه الحكيم العليم في إخباره تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس اجتناب الشيء والإتيان به في وقت واحد في وسع أحد فصح ما قلنا وبالله التوفيق وقد عارض في هذا بعض أهل الإغفال بمن طلق أو أعتق في مكان مغصوب أو صبغ لحيته بحناء مغصوبة أو تعلم القرآن في مصحف مغصوب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 قال علي وهذا الاعتراض يبين جهل المعترض به لأن الطلاق والعتاق والبيع والعطايا والصدقات لفظ لا يقتضي إقامة مأمورا بها بل مباح له أن يطلق ويفعل كل ذلك وهو يمشي أو وهو يسبح في الماء فليس مرتبطا بالإقامة في المكان والصلاة لا بد لها من إقامة إلا في حالة المسابقة أو الضرورة فمن اضطر إلى الإقامة في مكان مغصوب فصلاته فيه تامة لأنه ليس مختارا للإقامة هناك والصابغ بالحناء بعد إزالة الحناء ليس هو مستعملا في تلك الحال لشيء مغصوب وأما لو صلى وهو مختضب بها لبطلت صلاته لفعله فيها ما لا يحل له وأما تعلم القرآن فليس مرتبطا بجنس المصحف وقد يتعلم المرء تلقينا ثم أيضا هو في حال حفظه غير مستعمل لشيء مغصوب وكذلك في قراءاته ما حفظ في صلاته وبالله التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وبالجملة فلا يتأدى عمل إلا كما أمر الله تعالى أو كما أباح لا كما نهى عنه وبالله تعالى التوفيق وكل عمل لا يصح إلا بصحة ما لا يصح فإن ذلك العمل لا يصح أبدا وكل ما لا يوجد إلا بعد وجود ما لا يوجد فهو غير موجود أبدا وكل ما لا يتوصل إليه إلا بعمل حرام فهو حرام أبدا وكل شيء بطل سببه الذي لا يكون إلا به فهو باطل أبدا وهذه براهين ضرورية معلومة بأول الحس وبديهة العقل ومن خالف فيها فهو سوفسطائي مكابر للعيان وبالله التوفيق قال علي وقد أشار قوم من إخواننا إلى أنه لا يقبل تطوع من عليه فرض قال علي وهذا إذا أجمل دون تفسير أو خطأ وذلك أن الحديث قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يجيز صلاة من لم يتم فرض صلاته بتطوع إن كان له وكذلك الزكاة وكذلك سائر الأعمال قال علي والصحيح في هذا الباب أن كل فرض تعين في وقت لا فسحة فيه فإنه لا يجزي أحدا أداه غيره في ذلك الوقت وذلك كإنسان أراد صيام نذر عليه أو تطوع في شهر رمضان وهو مقيم صحيح فهذا لا يجزيه أو كإنسان لم يبق عليه من وقت الصلاة إلا مقدار ما يدخل فيها فقط فهذا حرام عليه أن يتطوع أو يقضي صلاة عليه أو يصلي صلاة نذر عليه حتى تتم التي حضر وقتها بلا مهلة ولا فسحة فإن قضى حينئذ صلاة فاتته لم تجزئه وعليه قضاؤها ثانية وكذلك إن صلى صلاة نذر عليه وليس كذلك من لزمته زكاة ولم يبق من ماله إلا قدر ما يؤدي ما وجب عليه منها فقط إلا أن له غنى بعد ذلك فهذا يجزئه أن يتصدق بما شاء منه تطوعا وأن يؤدي منه نذرا بخلاف ما ذكرنا قبل لأن الزكاة في ذمته لا في عين ما بيده وكذلك من أحاطت بماله ديون الناس حاشا بعد الموت لأن النص منع من ذلك ولم يجعل وصية ولا ميراثا إلا بعد الدين ولكن من حضره وقت الحج وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 مستطيع فلا يجزئه أن يحج تطوعا ولا نذرا قبل أداء الفرض وكذلك العمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فالمستطيع للحج مأمور بأدائه حينئذ ومن حضر رمضان فهو مأمور بصيامه لرمضان ومن لم يبق عليه من وقت صلاته إلا مقدار ما يدخل فيها فهو مأمور بالدخول فيها فإذا فعل غير ما أمر به فهو رد بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك من لم يبق بيده من ماله إلا مقدار الزكاة أو مقدار ديون الناس لأنه ليس مأمورا بأداء ذلك مما بيده ولا بد لأنه لو استقرض مالا فأدى منه الزكاة التي عليه وديون الناس التي عليه أجزأه ذلك بلا خلاف ولم يجز للقاضي أن يلزمه الأداء من ماله ولا بد والصلاة والحج والصيام في أوقاتها بخلاف ذلك وأما إذا دخل وقت الصلاة وفيه مهلة بعد فلا خلاف بين أحد من المسلمين في جواز التطوع حينئذ وبهذا جاءت النصوص وأما من سافر في رمضان أو مرض فهو غير مأمور بصيامه لرمضان وغير منهي عن صيامه لغير رمضان فله أن يصومه لما شاء من نذر أو تطوع أو قضاء واجب وأما من عليه صلوات نسيها أو نام عنها وعليه قضاء رمضان سافر فيه أو مرض فأفطر فإن وقت هذه الصلوات ووقت قضاء هذا الصوم ممتدا أبدا فإن أخر قضاء ذلك وهو قادر غير معذور فهو عاص بالتأخير فقط وذلك لا يسقط عنه قضاء ما لزمه قضاؤه من ذلك فهذا والصلاة التي دخل وقتها سواء فإن تطوع بصلاته أو صيام لم يضع له ذلك عند الله تعالى لأن وقت ما لزمه ممتد بعد فلا يفوته وبالله تعالى التوفيق ومما يبين هذا حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت كانت تكون على الأيام من قضاء رمضان يعني من قضاء أيام حيضها ولا أستطيع أن أقضيها إلا في شعبان لشغلي برسول الله صلى الله عليه وسلم أو كلاما هذا معناه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 قال علي وهذا مما قد أيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وأقر عليه لأنه لا يجوز أن تحيض إلا وهو يعلم ذلك لأنها كانت لها ليلتان من تسع ولا يمكن أن يغفل عليه السلام أمرها بتعجيل القضاء لو كان الفرض لا يجزىء إلا بتعجيله وقولها لا أستطيع أوضح عذر وهذا نص ما قلنا وبيانه ومما يبين صحة ما قلنا آنفا من أن الزكاة وديون الناس وسائر فرائض الأموال إنما هي واجبة في ذمة المرء لا في عين ما بيده من المال أنه لو كانت واجبة في عين ما بيده من المال ثم تلف ذلك المال لسقطت عنه تلك الحقوق وهذا باطل وأيضا فإنه مما لا يقوله مسلم فلما لم تسقط الحقوق المذكورة بذهاب جميع عين المال صح يقينا أنها في ذمته وإنما يصير ما له لغيره بأحد وجوه أربعة أوجبها النص وهي أداؤه من ماله أو قبض من له حق حقه مما ظفر منه من ماله أو قضاء الحاكم بما له للغرماء فيما لزمه من الحقوق أو بموته فقط وكان يكفي من هذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأمره بإكفاء القدور وهي تفور باللحم الذي عجل أصحابه رضي الله عنهم فذبحوا من المغنم قبل القسمة فلو جاز أكل ذلك اللحم لما أمر عليه السلام بإكفاء القدور وهي تفور وقد روي من طريق أخرى أنه عليه السلام جعل يرمله بالتراب ويقول إن النهبة ليست بأحل من الميتة أو كلاما هذا معناه فإن اعترضوا بحديث الشاة التي روي أنه عليه السلام قال فيها إني لأجد طعم لحم أخذ بغير إذن أهله أو كلاما هذا معناه قال ثم أمر عليه السلام بإطعامه للأسارى فهذا حديث لا يصح لأنه إنما روي من طريق رجل من الأنصار ولم يأت من غير هذه الطريق أصلا فسقط الاحتجاج به وهرقه عليه السلام اللحم من القدور في الأرض مع نهيه عليه السلام عن إضاعة المال دليل واضح على أنه لا يحل أكله وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 قال علي وأما العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين قد ورد النص بالفسحة في تأخيره فإنه يجب بأول الوقت إلا أنه قد أذن له في تأخيره وكان مخيرا في ذلك وفي تعجيله فأي ذلك أدى فقد أدى فرضه إلا أنه يؤجر على التعجيل لتحصيله العمل واتهمه به ولا يأثم على التأخير لأنه فعل ما أبيح له وذلك مثل تأخير المرء الصلاة إلى آخر وقتها الواسع ولذلك أسقطنا الملامة والقضاء عن المرأة تؤخر الصلاة عن أول وقتها فتحيض فعلت ما أبيح لها ومن فعل ما أبيح له فقد أحسن وقال تعالى {ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم} فسقطت الملامة وقد أخر عليه السلام الصلاة إلى آخر وقتها فصح بذلك أن ذلك جائز مباح حسن وإن كان التعجيل أحسن وسقط القضاء عنها لخروج الوقت لأنه يؤدي عمل إلا في وقته المأمور به كما أسقط خصومنا موافقين لنا القضاء عن المغمى عليه أكثر من خمس صلوات وبعضهم أسقطها عن المغمى عليه صلاة فما فوقها وأما كل عمل محدود الطرف الأول غير محدود الطرف الآخر فإن الأمر به ثابت متجدد وقتا بعد وقت وهو ملوم في تأخيره لأنه لم يفسح له ذلك وكلما أخره حصل عليه اسم التضييع وإثم الترك لما أمر به فإن أداه سقط عنه إثم الترك وقد استقر عليه إثم ترك البدار ولا يسقطه عنه إلا ربه تعالى بفضله إن شاء لا إله إلا هو كسائر ذنوبه التي لا بد من الموازنة فيها لأن الأداء والتعجيل فعلان متغايران كما قدمناه وقد يؤدي من لا يعجل فصح أنهما شيئان متغايران وكذلك القول في ديون الناس فإن المماطل الغني آثم بالمطل وآثم بمنع الحق فإذا أدى الحق يوما ما سقط عنه المنع وقد استقر إثم المطل عليه فلا يسقط عنه بالأداء لأن المنع والمطل شيئان متغايران وقد يؤدي ولا يمنع من قد مطل ولذلك قلنا فيمن غصب مالا فلم يؤده إلى صاحبه حتى مات المغصوب منه ثم أداه إلى ورثته إنه باق عليه إثم الغصب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 من الميت وإنما سقط عنه إثم الغصب من الوارث وهو الثاني لأنه لا شك عند كل ذي عقل أن ظلمه لزيد الموروث غير ظلمه لعمرو الحي الوارث وقد انتقل ملك المال إلى الوارث وملك الوارث لذلك المال غير ملك المورث له هذا شيء يعلم بضرورة العقل وبديهة الحس فإن أحدث الغاصب ظلما ثانيا لهذا الحي فهو عمل آخر وإثم متجدد فإن رد إليه ماله فقد سقط عنه إثم ظلمه إياه ولا يسقط ما وجب لزيد من الحق في حياته إنصاف هذا الغاصب لعمرو بعد موت زيد وكذلك لو مات الغاصب فصرف المال وارثه فإنما سقط ال 9 إثم عن الوارث الصارف لا عن الميت الغاصب لأن عمل زيد لا يلحق عمرا إلا بنص أو إجماع قال الله عز وجل {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وقال تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} اللهم إلا أن يرد نص بأن عمل زيد يلحق عمرا بعد موته أو في حياته فنقر بذلك سامعين طائعين كالصيام عن الميت والحج عنه وأداء ديونه فلو أمر الميت أن يرد ما غصب في حياته كان قد تبرأ أو سقط عنه إثم الإمساك وبقي عليه إثم المطل لأن كل ذلك أعمال متغايرة فلو تطوع امرؤ برد دين أو غصب عن ميت وجعل الأجر للميت لكان ذلك لاحقا بالميت ومرد عنه على حديث أبي قتادة وإنما نقول ما قال لنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وسلم ونعلم ما علمناه ولا مزيد وبالله التوفيق وأصحاب القياس يتناقضون في المسائل التي ذكرنا أقبح تناقض فيجيزون قضاء الحج إذا وصى به ولا يجيزون قضاء الصوم إذا أوصى به ويجيزون تقديم الصلاة قبل وقتها للمريض إذا خشي على عقله وفي ليلة المطر ولا يقيسون على تقديم العتمة قبل ليلة المطر تقديم العصر قبل وقتها يوم المطر ولا تقديم الظهر قبل وقتها فإن قالوا الوقت مشترك بين العتمة والمغرب لزمهم أن يجيزوا تقديم العتمة إلى وقت المغرب لغير ضرورة لأنه وقتها ومن صلى الصلاة في وقتها فقد أحسن ولزمهم تقديم العصر إلى الظهر بغير ضرورة لذلك أيضا وقد قال بذلك ابن عباس وجماعة من السلف رضي الله عنهم ولسنا نقول بذلك إلا في يوم عرفة فقط لأنه لم يأت في ذلك نص غيره فظهر عظم تناقضهم ولقد شاهدت بعض أهل مساجد الجانب الشرقي بقرطبة أيام تغلب البربر عليها يستفتون شيوخ المالكيين في تعجيل العتمة قبل وقتها خوف القتل إذ كان متلصصة البرابر يقفون لهم في الظلام في طرق المسجد فربما أوذوا إيذاء شديدا فما فسحوا لهم في ذلك ولم يقيسوا ضرورة خوف الموت على ضرورة خوف بلل الثياب في الطين وهذا كما ترى وبالله تعالى التوفيق وقال قوم إن العمل المأمور به في وقت محدود الطرفين هو في أول الوقت ندب وفي آخره فرض قال علي وهذا خطأ فاحش لأنه لو كانت تأديته في أول الوقت ندبا لما أجزأه ذلك لأن الندب غير الفرض ولا ينوب عمل عن عمل آخر غيره من غير نوعه إلا بنص ولكن هذا بمنزلة الأشياء المخير فيها في الكفارات أيها أدى فهو فرضه وكذلك من صلى أول الوقت فقد أدى فرضه وإن صلى في وسطه فقد أدى فرضه وإن صلى في آخره فقد أدى فرضه فإن قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 الآمرون من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها بالقضاء إنما فعلنا ذلك قياسا على قضاء الصلاة المنسية والتي نيم عنها قيل لهم وبالله تعالى التوفيق أكثركم لا يرى على الحالف على الحنث عمدا كفارة ولا على القاتل عمدا كفارة قياسا على المخطىء غير المعتمد وهذا تناقض منكم وحتى لو طردتم خطأكم لكان ذلك زيادة في الخطأ لأن القياس عن القائلين به إنما هو الحكم للشيء بحكم شيء آخر لعلة جامعة بينهما ولا علة تجمع بين الناسي والعامد وهذا هو قياس الشي على ضده لا على نظيره وهذا خطأ عندكم وعند جميع الناس وبالله تعالى التوفيق فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي قال علي النهي مطابق لمعنى الأمر لأن النهي أمر بالترك وترك الشيء ضد فعله وليس عن الشيء أمرا بخلافه الأخص ولا بضده الأخص وتفسير الضد الأخص أنه المضاد في النوع وتفسير الضد الأعم أنه المضاد في الجنس فإذا قلت للإنسان لا تتحرك فقد ألزمته السكون ضرورة لأنه لا واسطة بين الضد الأعم وبين ضده فمن خرج من أحدهما دخل في الآخر وهذا الذي سميناه في كتاب التقريب المنافي وأما من نهيته عن نوع من أنواع الحركة فليس ذلك أمرا بضده مثال ذلك لو قلت لآخر لا تقم فإنك لم تأمره بالجلوس ولا بد لأن بين الجلوس والقيام وسائط من الاتكاء والركوع والسجود والانحناء والاضطجاع فأيها فعل فليس عاصيا لك في نهيك إياه عن القيام وكذلك لو قيل لإنسان لا تلبس السواد فليس في ذلك إيجاب لباسه البياض ولا بد بل إن لبس الحمرة والصفرة أو الخضرة لم يكن بذلك عاصيا بل مؤتمرا في تركه السواد وبالله تعالى التوفيق وأما الأمر فهو نهي عن فعل كل ما خالف العمل المأمور وعن كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 ضد له خاص أو عام فإنك إذا أمرته بالقيام فقد نهيته عن القعود والاضطجاع والاتكاء والانحناء والسجود وعن كل هيئة حاشا القيام وإنما كان هكذا لأن ترك أفعال كثيرة مختلفة في وقت واحد واجب موجود ضرورة لأن من قام فقد ترك كل فعل خالف القيام كما أخبرنا في حال قيامه وأما الإتيان بأفعال كثيرة في وقت واحد وهي مختلفة متنافية ومتضادة فمحال لا سبيل إليه ألا ترى من سافر فإنما يمشي إلى جهة واحدة وهو تارك لكل جهة غير التي توجه نحوها ولا يمكنه أن يتوجه إلى جهتين في وقت واحد بفعله نفسه وتخالف أيضا بنية النهي بنية الأمر في وجه آخر وهو أن ما ورد نهيا بلفظ أو فهو نهي عن الجميع مثل قوله تعالى {فصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا} ومثل قولك لا تقتل زيدا أو عمرا أو خالدا فهو يقتضي النهي عن قتلهم كلهم وما ورد أمرا بلفظ أو فهو تخيير في أحد الأقسام المذكورة مثل قولك كل خبزا أو تمرا أو لحما وخذ هذا أو هذا والنهي يقتضي اجتناب المنهى عنه كما أن الأمر يقتضي إتيان المأمور به وقد بينا أن النهي عن الشيء أمر بتركه والأمر بالترك يقتضي وجوب الترك وبينا أن الأمر بالشيء نهي عن تركه فالنهي عن الترك يقتضي الفعل الذي بوقوعه يرتفع تركه وبالله تعالى التوفيق وقد اعترض في هذا بعض أهل الشغب فقال لو كان الأمر بالشيء نهيا عن تركه أو كان النهي عن الشيء أمرا بتركه لكان العلم بالشيء جهلا بضده قال علي وحكاية هذا الكلام الساقط تغني عن تكلف الرد عليه لأنه رام التشبيه بين ما لا تشابه بينه وهو بمنزلة من قال لو كان الموت ضد الحياة لكان السمع ضد البصر ومثل هذا من الغثائث ينبغي لمن كان به رمق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 أن يرغب بنفسه عنه ولكن من لم يعد كلامه من عمله كثرت أهذاره ومن لم يستح فعل ما شاء وأما العلم بالشيء فهو على الحقيقة عدم العلم بضده لأن علمك بأن زيدا حي وهو عدم العلم وبطلان العلم بأنه ميت وقول القائل لا نأكل لا شك عند كل ذي حس أن معناه اترك الأكل ولا فرق وهذا من المتلائمات وقد أفردنا لهذا بابا في كتاب التقريب وبطل مما ذكرنا قول من قال النهي نوع من أنواع الأمر وقول من قال الأمر نوع من أنواع النهي وصح أن كل أمر فهو أيضا نهي وكل نهي فهو أيضا أمر فإن قال قائل قد يرد أمر ليس فيه نهي عن شيء أصلا وهو أمر الإجابة وقال آخر قد يرد نهي ليس فيه معنى من الأمر أصلا وهو نهي عن الاختيار للترك قال علي كلاهما مخطىء أما الأمر بالإباحة فإنما معناه إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل فليس مائلا إلى الأمر إلا كميله إلى النهي ولا فرق وكذلك القول في نهي الاختيار للترك وهو الكراهية ولا فرق وهكذا أمر الندب ولا فرق وفيه معنى إباحة الترك موجود وبالله تعالى التوفيق فصل في الأمر هل يتكرر أبدا أو يجري منه ما يستحق به المأمور اسم فاعل لما أمر به قال علي اختلف الناس في الأمر إذا ورد بفعل ما هل يخرج من فعله مرة عن اسم المعصية أو يتكرر عليه الأمر أبدا فيلزمه التكرار له ما أمكنه فبكلا القولين قال القائلون قال علي والصواب أن المطيع غير العاصي ومحال أن يكون الإنسان مطيعا عاصيا من وجه واحد فمن أمر بفعل ما ولم يأت نص بإيجاب تكراره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 ففعله فقد استحق اسم مطيع وارتفع عنه اسم عاص بيقين وكل شيء بطل فلا يعود إلا بيقين من نص أو إجماع وإنما تكلم في هذه المسألة القائلون بقول الشافعي رحمه الله في تكرار الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل صلاة لأجل قوله تعالى {إن لله وملائكته يصلون على لنبي يأيها لذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} قال علي ولو كان ما احتجوا به من وجوب التكرار صحيحا لما كان موضع الجلوس الآخر من الصلاة أحق به من القيام والسجود وسائر أحوال الإنسان وهم إنما أوجبوا ذلك بعد التشهد الأخير من الصلاة فقط وقد ورد حديث في لفظه إبعاد لمن ذكر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه فإن صح لقلت هو فرض متى ذكر عليه السلام وإن لم يصح فقد صح أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا ولا يزهد في هذا إلا محروم والذي يوقن فهو أنه من يرغب عن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن السلام عليه فهو كافر مشرك ومن صلى عليه وسلم ثم ترك غير راغب عن ذلك ولكن عالم بأنه مقصر باخس نفسه حظا جليلا فلا أجر له في ذلك ولا إثم عليه فإن قالوا فما تقولون في الجهاد قلنا قد صح أن الجهاد فرض علينا إلى ألا يبقى في الدنيا إلا مؤمن أو كتابي يغرم الجزية صاغرا بأمر الله تعالى لنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ويؤمن المشركون كلهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويعطي أهل الكتاب الجزية وهم صاغرون فالقتال ثابت علينا أبدا حتى يكون ما ذكرنا وحسبنا أنه فرض على الكفاية وتركه للمطبق مكروه ما لم يقو للعدو أو لم يستنفر الإمام فأي ذلك كان فالجهاد فرض على كل مطيق في ذات نفسه متعين عليه ويبطل قول من قال بالتكرار أنه لو كان قوله صحيحا للزم من سلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 عليه أن يرد أبدا ولا يمسك عن تكرار الرد لقوله تعالى {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منهآ أو ردوهآ إن لله كان على كل شيء حسيبا} ولا خلاف في أن بمرة واحدة يخرج من فرض الرد وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فالمنكر الذي يرى غدا غير المنكر الذي يرى اليوم وفرض علينا تغيير كل منكر وكذلك القول في الأمر بالمعروف لأن المعروف الذي يأمر به غدا غير الذي أمر به اليوم وقد جاء النص مبينا بقوله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره ومما يبطل قول من قال بالتكرار قوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} وأمره تعالى بأداء الزكاة وما أشبه ذلك لا يلزم تكراره إلا ما جاء النص مبينا بإيجاب تكراره وإلا فوفاء واحد يجزي ودية واحدة ورقبة واحدة قال علي وقد احتج على القائلين بالتكرار بعض من سلف ممن يقول بأنه يخرج المأمور بذلك بفعله مرة واحدة بأن قال لما أجمع الناس على أن التكرار لا يلزم حتى يمتنع المرء من الأكل والنوم والنظر في أسبابه فلما صح ذلك لم يكن من حد في ذلك حدا أولى ممن حد حدا آخر فوجب أنه يخرج من المعصية بفعل ما أمر بفعله مرة واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام إذ سئل عن الحج أفي كل عام فقال عليه السلام دعوني ما تركتكم قالوا فلو كان الأمر يجب تكراره لما أنكر عليه السلام على السائل عن الحج أفي كل عام لأنه كان يكون واضعا للسؤال موضعه أو سائلا تخفيفا عما يقتضيه اللفظ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشي أن يكون سؤاله موجبا لنزول زيادة على ما اقتضاه لفظ الأمر بالحج فيدخل ذلك السائل في جملة من ذم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله أعظم الناس جرما في الإسلام من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته قال علي وهذا احتجاج صحيح ظاهر قال علي وقد تعلق بالتكرار من قال بإيجاب التيمم لكل صلاة قال أبو محمد وهذا خطأ لأن نص الآية لا يوجب التيمم إلا على من أحدث بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} فلو تركنا ظاهر هذه الآية لوجب الوضوء فرضا على كل قائم إلى الصلاة ولما وجب ذلك في التيمم لأن نص الآية بإيجاب الوضوء على قائم إلى الصلاة وليس فيه إيجاب التيمم إلا على من أحدث فقط ولكن لما صلى عليه السلام الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد علمنا أن المأمور بالوضوء هو المحدث فقط وأما تكرار التيمم فنص الآية يبطله قال علي واحتج القائلون بالتكرار بأن قالوا وافقتمونا على أن النهي متكرر ثابت أبدا وأنه متجدد كل وقت فهلا قلتم إن المنهي يخرج عن النهي بترك ما نهي عنه ساعة من الدهر فقط كما قلتم إن يفعل مرة واحدة يخرج عن الأمر وإن الأمر لا يعود عليه قال علي هذه شغبة دقيقة وقد قدمنا فيما خلا أن النهي هو أمر بالترك وأن الترك ممكن لكل أحد وليس يمتنع الترك على مخلوق والفعل بخلاف ذلك منه ممكن ومنه ما لا يقدر عليه وقدمنا أن ترك المرء لأفعال كثيرة في وقت واحد موجود واجب وأن فعله بخلاف ذلك وأن المرء في حال نومه وأكله وصلاته ونظره في أسبابه تارك لكل ما نهي عن تركه إن أراد الترك وليس الأمر كذلك بل لا يقدر على أداء أكثر الأوامر في الأحوال التي ذكرنا وقد أمرنا عليه السلام أن نجتنب ما نهانا عنه وأمرنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 أن نفعل ما أمرنا به ما استطعنا ولم يقل عليه السلام فأتوه ما استطعتم وكان حينئذ يلزم التكرار وإنما قال عليه السلام فأتوا منه ما استطعتم ومن إنما هي للتبعيض المقدور فلما امتنع تكرار الأمر بما قدمنا قبل من أن التكرار لوازم لكان تكليفا لما لا يطاق وأنه لما بطل ذلك كان من اقتصر في ذلك على حد ما يجده أو عدد من التكرار يوجبه أو على وقت ما متحكما بلا دليل لم يلزم منه إلا ما اتفق عليه وهو مرة واحدة يقع عليه بها اسم فاعل مطيع ويرتفع بها عنه اسم عاص وكان ذلك فرقا صحيحا بين ما لا يقدر عليه مما ذكرنا وبين ما يقدر عليه من الترك في كل وقت وفي كل حال ومن أدى من الأمر ما استطاع فقد فعل ما أمر به ومن فعل ما أمر فقد سقط عنه الأمر وبالله تعالى التوفيق والقائلون بالتكرار إنما اضطروا إليه في مسألتين أو ثلاث وهم في سائر مسائلهم تاركون له وقد قدمنا أن القوم إنما حسبهم نص المسألة الحاضرة بما لا يبالون أن يهدموا به سائر مسائلهم وبالله تعالى التوفيق قال علي وصحيح القول في هذه المسألة هو ما قلنا من أن يفعل مرة واحدة يؤدي المرء ما عليه ولا يلزمه تكرار الفعل لما ذكرنا إلا أن ترتفع تلك الحال التي فيها ذلك الأمر ثم تعود فإن الأمر يعود ولا بد كمرض المسلم تجب عيادته فبمرة واحدة يخرج من الفرض ما دام في تلك العلة فإن أفاق ثم مرض عاد حكم العيادة أيضا وفك العاني متى صار عانيا وجب فكه كإطعام الجائع متى عاد جوعه عاد وجوب إطعامه وكالتعوذ متى قطع الإنسان القراءة ثم ابتدأ القراءة وكالوضوء متى أحدث وكالصلاة في كل يوم ولا يلزم تكرار شيء من ذلك بعد فعله في حال واحدة وبالله تعالى التوفيق والقول بالتكرار باطل لأنه تكليف ما لا يطاق أو القول بلا برهان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 وكلاهما باطل لأننا نسألهم عن تكرار الأوامر المختلفة وبعضها يقطع عن فعل بعض فلا بد ضرورة من ترك جميعها إلا واحدا فأيها هو الواحد وهذا هو القول بلا برهان وكل ما كان هكذا فهو باطل بلا شك وبالله تعالى التوفيق فصل في التخيير قال علي واختلفوا في الأشياء إذا خير الله عز وجل بينها وأوجب على المخير أن يقصد أيها شاء فيفعله ككفارة الأيمان وكفارة الحلق في الحج قبل يوم النحر لمرض أو أذى من الرأس وفي العمرة كذلك قبل تمامها وفي جزاء الصيد وما أشبه ذلك فقال قوم هي كلها واجبة فإذا فعل أحدها سقط سائرها قال علي وهذا خطأ فاحش لوجهين أحدهما أن أو لا توجب تساوي ما عطف بها واجتماعه وإنما يوجب ذلك الواو والفاء وثم هذا ما لا يجهله من له أدنى بصر باللغة العربية والثاني أنها لو وجبت كلها لما سقطت بفعل بعضها وما لزم فرضا فإنما يسقط بأن يفعل لا بأن يفعل غيره وهذا شيء يعلم بالضرورة لأن ما أوجب الله تعالى عليك عمله فلم يرد منك أن تقيم مقامه غيره إلا بنص وارد في ذلك وإلا فأنت عاص إن لم تفعل الذي أمرت به فلو أوجب تعالى عليه عتق رقبة لم يخرج منها بكسوة وهذا الذي لا يعقل سواه وذهب قوم إلى أنه تعالى إنما أوجب في ذلك شيئا واحدا مما خير فيه تعالى لا بعينه ولكن أيها شاء المخير ونحن لا ننكر هذا لأن عقولنا ليست عيارا على ربنا عز وجل ولا في العقل ما يمنع من أن يريد الله تعالى إيجاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 ما شاء إلى الموجب عليه فإذا فعل المخير المكفر أي الكفارات التي خوطب بها شاء فقد أدى فرضه وهو الذي سبق في علم الله عز وجل أنه به يسقط عنه الإثم والتخيير ينقسم قسمين أحدهما الذي ذكرنا وهو أن يلزم المرء أحد وجهين أو أحد وجوه لا بد من أن يأتي ببعضها أيها شاء فهذا فرضه الذي يأتي به مما خير فيه والقسم الثاني أن يقال للمرء إن شئت أن تفعل كذا وإن شئت ألا تفعله أصلا وهذا النوع لا يجوز أن يكون فرضا أصلا ولا يكون إلا تطوعا لأن كل شيء أبيح للمرء تركه جملة أو فعله فهو تطوع بلا خلاف من أحد وهذا لازم لمن قال إن المرء مخير في السفر بين إتمام الصلاة أو قصرها لأن من قول هذا القائل أن الركعتين الزائدتين أن من تركهما لم يأثم فهي إذن تطوع وإذا كانتا تطوعا فغير جائز أن يصليهما بركعتي الفرض اللتين لا بد له من أن يأتي بهما وليس يلزمهم هذا في قولهم في الصيام إن شاء صام في رمضان في السفر وإن شاء أفطر لأنهم لا يسقطون عنه الصيام جملة كما يسقطون عنه الركعتين اللتين تتم بهما الصلاة أربعا لكن يقولون إن شاء صام رمضان فيه وإن شاء صامه في أيام أخر ولا بد عندهم من صيامه فإنما هذا تخيير في أحد الوقتين لا في ترك الصيام أصلا وهناك خيروه في الإتيان بالركعتين أو تركهما البتة فافهم فصل في الأمر بعد الحظر ومراتب الشريعة قال علي قد بينا في غير موضع أن مراتب الشريعة خمسة حرام وفرض وهذان طرفان ثم يلي الحرام المكروه ويلي الفرض الندب وبين الندب والكراهة واسطة وهي الإباحة فالحرام ما لا يحل فعله ويكون تاركه مأجورا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 مطيعا وفاعله آثما عاصيا والفرض ما لا يحل تركه ويكون فاعله مأجورا مطيعا ويكون تاركه آثما والمكروه هو ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر وإن تركه أجر والندب هو ما إن فعله المرء أجر وإن تركه لم يأثم ولم يؤجر والإباحة هي ما إن فعله المرء لم يأثم ولم يؤجر وإن تركه لم يأثم ولم يؤجر كصبغ المرء ثوبه أخضر أو أصفر فإذا نسخ الحظر نظرنا فإن جاء نسخه بلفظ الأمر فهو فرض واجب فعله بعد أن كان حراما وإن كان أتى فعل لشيء تقدم فيه النهي فهو منتقل إلى الإباحة فقط والنهي باق على الاختيار وكذلك الأمر إذا أتى بعده فعل بخلافه فهو منتقل إلى الإباحة والأمر باق على الندب كما قلنا في أمره عليه السلام الناس إذا صلى إمامهم جالسا أن يصلوا وراءه جلوسا ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي توفي فيه جالسا والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم فعلمنا أن نهيه عليه السلام عن القيام للمذكر خاصة ندب واختيار إلا أن يفعل ذلك تعظيما للإمام فهو حرام وعلمنا أن الوقوف له مباح وإنما هذا فيما تيقنا فيه للمتقدم والمتأخر وأما ما لم يعلم أي الخبرين كان قبل فالعمل بذلك الأخذ بالزائد والاستثناء على ما قدمناه وبالله تعالى التوفيق قال علي وقد ادعى بعض من سلف أنه تقرأ الأوامر كلها الواردة بعد الحظر فوجدها كلها اختيارا أو إباحة وذكر من ذلك قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} {ويسألونك عن لمحيض قل هو أذى فعتزلوا لنسآء في لمحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم لله إن لله يحب لتوابين ويحب لمتطهرين} ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وعن الانتباذ في الظروف فانتبذوا {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 قال علي وقد أغفل هذا القائل قد قال الله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} فكان الفطر بالأكل والشرب فرضا لا بد منه بين ذلك النهي عن الوصال وكذلك قوله تعالى لله الآية إلى قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تدخلوا بيوت لنبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فدخلوا فإذا طعمتم فنتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي لنبي فيستحيي منكم ولله لا يستحيي من لحق وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من ورآء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول لله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند لله عظيما} فالانتشار المذكور في هذه الآية هو الخروج عن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو فرض لا يحل لهم القعود فيها بعد أن يطعموا ما دعوا إلى طعامه وأما الأوامر التي ذكرنا قبل فإن دلائل النصوص قد صحت على أنها ندب ونحن لا نأبى الإقرار بما أتى به نص بل نبادر إلى قبوله وإنما ننكر الحكم بالآراء الفاسدة والأهواء الزائغة بغير برهان من الله عز وجل أما قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل من عمرته ومن حجه ولم يصطد فعلمنا أنه ندب وإباحة وأما قوله تعالى {فإذا قضيت لصلاة فنتشروا في لأرض وبتغوا من فضل لله وذكروا لله كثيرا لعلكم تفلحون} فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لا تزال تصلي على المرء ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث ولم يخص صلاة من صلاة فصح أن الانتشار مباح إلا للحدث والنظر في مصالح نفسه وأهله فهو فرض وأما قوله عليه السلام في القبور فزوروها فإن الفرض لا يكون إلا محدودا وإما موكولا إلى المرء ما فعل منه أو محمولا على الطاقة والمعروف وليس في زيارة القبور نص بشيء من هذه الوجوه ثم لو كان فرضا لكان زائرها مرة واحدة قد أدى فرضه في ذلك لما قدمنا في إبطال التكرار وأما قوله عليه السلام فانتبذوا فإنه عليه السلام لم ينتبذ لكن كان ينتبذ له فصح أن الانتباذ ليس فرضا لكنه إباحة وأما قوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} والمباشرة من الرجل لزوجته فرض ولا بد ولا يحل له هجرها في المضجع ولا الامتناع من وطئها إلا بتجافيها له عن ذلك على ما بينا في كتاب النكاح من كلامنا في الأحكام والحمد لله رب العالمين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 قال علي وقد ذهب بعض المالكيين إلى أن ههنا واجبا ليس فرضا ولا تطوعا قال علي وهذا هذيان فاسد لا يعقل أصلا لأن الواجب هو الذي لا بد من فعله وغير الواجب هو ما إن شاء فعله المرء وإن شاء تركه ولا يعرف ههنا شيء يتوسط هذين الطرفين فإن راعوا ما ورد به لفظ الفرض في الشريعة فهم أول عاص لما ورد فيها لأن الله عز وجل يقول {إنما لصدقات للفقرآء ولمساكين ولعاملين عليها ولمؤلفة قلوبهم وفي لرقاب ولغارمين وفي سبيل لله وبن لسبيل فريضة من لله ولله عليم حكيم} فقالوا هم هذه القسمة ليست فريضة بل جائز أن يعطى من الصدقات غير هؤلاء وجائز أن توضع في بعض هذه الأصناف دون بعض وقال ابن عمر فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على كل صغير أو كبير ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا من المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير فقالوا ليس هذا فرضا ولا الشعير أيضا ولا التمر فيها فرضا فما نعلم أحدا ترك لفظ الفرض الوارد في الشريعة منهم ثم احتجوا في البرسام الذي ادعوه من وجوه أنه شيء واجب ليس فرضا ولا تطوعا فقالوا ذلك مثل الأذان والوتر وركعتي الفجر وصلاة العيدين والصلاة في جماعة ورمي الجمار للمبيت ليالي منى بمنى قال علي وكل هذا فدعوى فاسدة أما الصلاة في جماعة والأذان ورمي الجمار ففرائض واجبة يعصي من تركها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بها وأما صلاة العيدين والوتر وركعتا الفجر والمبيت ليالي منى بمنى فليست فرائض ولكنها تطوع يكره تركها فلو تركها تارك دهره كله متعمدا ما أثم ولا عصى الله عز وجل ولا قدح ذلك في عدالته وقد قال عليه السلام في الذي حلف ألا يزيد على الصلوات الخمس الفرائض أفلح والله إن صدق دخل الجنة إن صدق وقد سأل هذا القائل النبي صلى الله عليه وسلم إذ وصف له الصلوات الخمس فقال يا رسول الله هل علي غيرها فقال لا إلا أن تطوع فسمى النبي صلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 الله عليه وسلم تارك كل صلاة ما عدا الخمس مفلحا ولم يعنفه وأخبر عليه السلام أن كل صلاة ما عدا الخمس فهي تطوع فحرام على كل أحد خلاف النبي صلى الله عليه وسلم ولولا أن الأمر ورد بصلاة الجنائز فصارت فرضا لا بد منه لكانت تطوعا ولكن من هذه الخلال أشياء يكره تركها فمن تركها لم يأثم ولم يؤجر ومن فعلها أجر فبطلت بما ذكرنا قسمتهم الفاسدة والحمد لله رب العالمين فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور قال علي اختلف الناس فقالت طائفة إذا ورد الأمر بصورة خطاب الذكور فهو على الذكور دون الإناث إلا أن يقوم دليل على دخول الإناث فيه واحتجوا بأن قالوا إن لكل معنى لفظا يعبر عنه فخطاب النساء افعلن وخاطب الرجال افعلوا فلا سبيل إلى إيقاع لفظ على غير ما علق عليه إلا بدليل قال علي وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره والدليل الذي استدلت به الطائفة الأولى هو أعظم الحجة عليهم وهو دليلنا على إبطال قولهم لأن لكل معنى لفظا يعبر به كما قالوا ولا بد ولا خلاف بين أحد من العرب ولا من حاملي لغتهم أولهم عن آخرهم في أن الرجال والنساء وأن الذكور والإناث إذا اجتمعوا وخوطبوا أخبر عنهم أن الخطاب والخبر يردان بلفظ الخطاب والخبر عن الذكور إذا انفردوا ولا فرق وأن هذا أمر مطرد أبدا على حالة واحدة فصح بذلك أنه ليس لخطاب الذكور خاصة لفظ مجرد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 في اللغة العربية غير اللفظ الجامع لهم وللإناث ألا أن يأتي بيان زائد بأن المراد الذكور دون الإناث فلما صح لم يجز حمل الخطاب على بعض ما يقتضيه دون بعض إلا بنص أو بإجماع فلما كانت لفظة افعلوا والجمع بالواو والنون وجمع التكسير يقع على الذكور والإناث معا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الرجال والنساء بعثا مستويا وكان خطاب الله تعالى وخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء خطابا واحدا لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال دون النساء إلا بنص جلي أو إجماع لأن ذلك تخصيص الظاهر وهذا غير جائز وكل ما لزم القائلين بالخصوص فهو لازم لهؤلاء وسيأتي ذلك مستوعبا في بابه إن شاء الله تعالى فإن قالوا فأوجبوا الجهاد فرضا على النساء قيل لهم وبالله تعالى التوفيق لولا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة إذ استأذنته في الجهاد لكن أفضل الجهاد حج مبرور لكان الجهاد عليهن فرضا ولكن بهذا الحديث علمنا أن الجهاد على النساء ندب لا فرض لأنه عليه السلام لم ينهها عن ذلك ولكن أخبرها أن الحج لهن أفضل منه ومما يبين صحة قولنا أن عائشة وهي حجة في اللغة لما سمعت الأمر بالجهاد قدرت أن النساء يدخلن في ذلك الوجوب حتى بين النبي صلى الله عليه وسلم لها أنه عليهم ندب لا فرض وأن الحج لهن أفضل منه ونحن لا ننكر صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة بدليل من نص أو إجماع أو بضرورة طبيعة تدل على أنه مصروف عن موضوعه وإنما يبطل دعوى من ادعى صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة بلا دليل فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليها حملها الخطاب بلفظ خطاب الذكور على عموم دخول النساء في ذلك وفي هذا كفاية لمن عقل فإن قالوا فأوجبوا عليهن النفار للتفقه في الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قلنا وبالله تعالى التوفيق نعم هذا واجب عليهن كوجوبه على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 الرجال وفرض على كل امرأة النفقة في كل ما يخصها كما ذلك فرض على الرجال ففرض على ذات المال منهن معرفة أحكام الزكاة وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة والصلاة والصوم وما يحل وما يحرم من المآكل والمشارب والملابس وغير ذلك كالرجال ولا فرق ولو تفقهت امرأة في علوم الديانة للزمنا قبول نذارتها وقد كان ذلك فهؤلاء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وصواحبه قد نقل عنهن أحكام الدين وقامت الحجة بنقلهن ولا خلاف بين أصحابنا وجميع أهل نحلتنا في ذلك فمنهن سوى أزواجه عليه السلام أم سليم وأم حرام وأم عطية وأم كرز وأم شريك وأم الدرداء وأم خالد وأسماء بنت أبي بكر وفاطمة بنت قيس ويسرة وغيرهن ثم في التابعين عمرة وأم الحسن والرباب وفاطمة بنت المنذر وهند الفراسية وحبيبة بنت ميسرة وحفصة بنت سيرين وغيرهن ولا خلاف بين أحد من المسلمين قاطبة في أنهن مخاطبات بقوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} و {يأيها لذين آمنوا تقوا لله وذروا ما بقي من لربا إن كنتم مؤمنين} و {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} و {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} و {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} و {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} و {ثم أفيضوا من حيث أفاض لناس وستغفروا لله إن لله غفور رحيم} و {إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون} و {وبتلوا ليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فدفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوهآ إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بلمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بلله حسيبا} وسائر أوامر القرآن وإنما من لجأ إلى هذه المضايق في مسألة أو مسألتين تحكموا فيها وقلدوا فاضطروا إلى مكابرة العيان ودعوى خروج النساء من الخطاب بلا دليل ثم رجعوا إلى عمومهن مع الرجال بلا رقبة ولا حياء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 قال علي وقد قال الله تعالى {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون} وقال أيضا {وأنذر عشيرتك لأقربين} فنادى عليه السلام بطون قريش بطنا بطنا ثم قال يا صفية بنت عبد المطلب يا فاطمة بنت محمد فأدخل النساء مع الرجال في الخطاب الوارد كما نرى فإن قال قائل فقد قال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نسآء من نسآء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بلألقاب بئس لاسم لفسوق بعد لإيمان ومن لم يتب فأولئك هم لظالمون} وقال زهير وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن اللفظ إذا جاء مرادا به بعض ما يقع تحته في اللغة وبين ذلك دليل فلسنا ننكره فقد قال تعالى {يأيها لناس تقوا ربكم إن زلزلة لساعة شيء عظيم} فلا خلاف بين لغوي وشرعي أن هذا الخطاب متوجه إلى كل آدمي من ذكر أو أنثى ثم قال تعالى {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} فقام الدليل على أن المراد ههنا بعض الناس لا كلهم فوجب الوقوف عند ذلك لقيام الدليل عليه ولولا ذلك لما جاز أن يكون محمولا إلا على عموم الناس كلهم قال أبو محمد وقد سأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أحب إليك فقال عائشة قال ومن الرجال قال أبوها ثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج أنبأ يحيى ثنا خالد بن عبد الله عن خالد هو الحذاء عن أبي عثمان هو النهدي قال أخبرني عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس باللغة التي بعث بها فحمل اللفظ على عمومه في دخول النساء مع الرجال حتى أخبره السائل أنه أراد بعض من يقع عليه الاسم الذي خاطب به فقبل ذلك منه عليه السلام وهذا هو نص مذهبنا وهو أن نحمل الكلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 على عمومه فإذا قام دليل على أنه أراد به الخصوص صرنا إليه ولا خلاف بين المسلمين في أن قوله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} واقع على إناث الخنازير كوقوعها على ذكورها بنفس اللفظ للنوع كله وقد اعترض بعضهم بحديث ذكروه من طريق أم سلمة رضي الله عنها فيه أن النساء شكون وقلن ما نرى الله تعالى يذكر إلا الرجال فنزلت {إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما} قال علي وهذا حديث لا يصح البتة ولا روي من طريق يثبت حدثنا محمد بن سعيد بن نبات قال أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن إصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا أبو داود الطيالسي ثنا شعبة عن حصين قال سمعت عكرمة يقول قالت أم عمار يا رسول الله يذكر الرجال في القرآن ولا يذكر النساء قال فنزلت {إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما} قال علي وهذا مرسل كما نرى لا تقوم به حجة وثناه أيضا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا محمد بن المثنى حدثنا مؤمل ثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال قالت أم سلمة يذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر فنزلت {فستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فلذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها لأنهار ثوابا من عند لله ولله عنده حسن لثواب} وقالت أم سلمة يا رسول الله لا نقطع الميراث ولا نغزو في سبيل الله فنقتل فنزلت {ولا تتمنوا ما فضل لله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما كتسبوا وللنسآء نصيب مما كتسبن وسألوا لله من فضله إن لله كان بكل شيء عليما} وقالت أم سلمة يذكر الرجال ولا نذكر فنزلت {ورد لله لذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى لله لمؤمنين لقتال وكان لله قويا عزيزا} قال علي ويقال إن التفسير لم يسمعه ابن أبي نجيح من مجاهد ثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن عن أحمد بن دحيم عن إبراهيم بن حماد عن إسماعيل بن إسحاق ولم يذكر مجاهد سماعا لهذا الخبر عن أم سلمة ولا يعلم له منها سماع أصلا وإنما صح أنهن قلن يا رسول الله غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما فجعل لهن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 عليه السلام يوما وعظهن فيه وأمرهن بالصدقة وكذلك صح ما روي في خطبته عليه السلام في العيد وأمره النساء أن يشهدن ثم رأى عليه السلام أنه لم يسمعهن فأتاهن فوعظهن قائما أتاهن عليه السلام إذ خشي أنهن لم يسمعن وإلا فقد كان يكفيهن جملة كلامه على المنبر قال أبو محمد والصحيح من هذا ما حدثناه عبد الله بن يوسف بالسند المتقدم ذكره إلى مسلم حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي وأبو معن الرقاشي وأبو بكر نافع وعبد الله بن حميد قال هؤلاء الثلاثة ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي ثنا أفلح بن سعيد حدثنا عبد الله بن رافع وقال يونس بن عبد الأعلى ثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو هو ابن الحارث أن بكيرا حدثه عن القاسم بن عباس الهاشمي عن عبد الله بن رافع مولى ابن أم سلمة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان يوما من ذلك والجارية تمشطني فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيها الناس فقلت للجارية استأخري عني قالت إنما دعا الرجال ولم يدع النساء فقلت إني من الناس ثم ذكرت الحديث قال علي في هذا بيان دخول النساء مع الرجال في الخطاب الوارد بصيغة خطاب الذكور قال أبو محمد واحتج بعضهم بقوله تعالى {إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما} فالجواب وبالله التوفيق أنه لا ينكر التأكيد والتكرار وقد ذكر الله تعالى الملائكة ثم قال {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن لله عدو للكافرين} وهما من الملائكة ويكفي من هذا ما قدمناه من أوامر القرآن المتفق على أن المراد بهذا الرجال والنساء معا بغير نص آخر ولا بيان زائد إلا اللفظ وكذلك قوله {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} بيان جلي على أن المراد بذلك الرجال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 والنساء معا لأنه لا يجوز في اللغة أن يخاطب الرجال فقط بأن يقال لهم {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} وإنما كان يقال من أنفسكم فإن قالوا قد تيقنا أن الرجال مرادون بالخطاب الوارد بلفظ الذكور ولم نوقن ذلك في النساء فالتوقف فيهن واجب قيل له قد تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال وإن الشريعة التي هي الإسلام لازمة لهن كلزومها للرجال وأيقنا أن الخطاب بالعبادات والأحكام متوجه إليهن كتوجهه إلى الرجال إلا ما خصهن أو خص الرجال منهن دليل وكل هذا يوجب ألا يفرد الرجال دونهن بشيء قد صح اشتراك الجميع فيها إلا بنص أو إجماع وبالله تعالى التوفيق قال علي وإن العجب ليكثر ممن قال بخلاف قولنا من الحنفيين والمالكيين ثم هم يأتون إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الواطىء في رمضان بالكفارة فقالوا الواجب على المرأة من مثل ذلك ما على الرجل فأي مجاهرة أشنع من مجاهرة من يأتي إلى خطاب عام لجميع أهل الإسلام فيريد إخراج النساء منه ثم يأتي إلى خطاب لرجل منصوص عليه لم يذكر معه غيره فيريدون إلزامه النساء بلا دليل ثم تناقضوا في ذلك فألزموا الموطوءة الواطىء ولا نص في الموطوءة ولم يلزموا المظاهرة ما ألزموا المظاهر والعلة على قولهم واحدة وهي قوله {لذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا للائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من لقول وزورا وإن لله لعفو غفور} والمظاهرات قد قالت ذلك وقد أوجب عليها مثل ما يجب على المظاهر قوم كثير من العلماء وهكذا أحكام من تعدى حدود الله عز وجل واتبع الرأي والقياس وبالله تعالى التوفيق فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الأحرار دون العبيد أم يدخل فيه العبيد معهم قال علي ذهب قوم إلى أن قوله تعالى {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 أنه للأحرار دون العبيد واحتجوا بقوله تعالى {وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم} قال ما ندري أيهما أشد إقداما على الله وجرأة أتخصيصهم الأحرار في الآية الأولى دون العبيد أم استشهادهم بالآية الثانية في ذلك فأول إبطال قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى العبيد والأحرار بعثا مستويا بإجماع جميع الأمة ففرض استواء العبيد مع الأحرار إلا ما فرق فيه النص بينهم كوجوب استواء العرب والعجم من قريش إلا ما فرق فيه النص بينهم من كون الخلافة لقريش دون العرب ومن تحريم الصدقة على بني هاشم وبني المطلب دون سائر قريش والعرب وكوجوب خمس الخمس لهم دون سائر قريش والعرب وإنما خاطبنا الله تعالى في آية الإنكاح لأنه عز وجل لم يجعل للعبد أن ينكح نفسه وجعله للحر وهذا مكان نص فيه على الفرق ثم نعارضهم بقول الله تعالى {وتقوا فتنة لا تصيبن لذين ظلموا منكم خآصة وعلموا أن لله شديد لعقاب} وبقوله {يأيها لذين آمنوا لا تتخذوا ليهود ولنصارى أوليآء بعضهم أوليآء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} وبقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تتخذوا آبآءكم وإخوانكم أوليآء إن ستحبوا لكفر على لإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم لظالمون} وبقوله تعالى {ومنهم لذين يؤذون لنبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بلله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم ولذين يؤذون رسول لله لهم عذاب أليم} وبقوله تعالى {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طآئفة منكم نعذب طآئفة بأنهم كانوا مجرمين} وبقوله تعالى {كلذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كلذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في لدنيا ولآخرة وأولئك هم لخاسرون} وبقوله تعالى {سوآء منكم من أسر لقول ومن جهر به ومن هو مستخف بلليل وسارب بلنهار} وبقوله تعالى {ولقد علمنا لمستقدمين منكم ولقد علمنا لمستأخرين} وبقوله تعالى {ثم إذا كشف لضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون} وبقوله تعالى {ولله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل لعمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن لله عليم قدير} وبقوله تعالى {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا} هل خص بهذا الخطاب الأحرار دون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 العبيد أو عم الجميع فلا بد من أنه عموم للأحرار والعبيد فكل خطاب ورد فهو هكذا ولا فرق إلا ما فرق النص فيه بين الأحرار والعبيد وكذلك قالوا في قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} فقالوا هذا للأحرار دون العبيد قال علي وهذه أعجوبة شنيعة أترى العبيد ليسوا من رجالنا إن هذا الأمر كان ينبغي أن يستحيى منه وأن من جاهر بأن العبيد ليسوا من رجالنا الواجب أن يرغب عن الكلام معه وأيضا فإن أول الآية المذكورة {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} والآية الأخرى من قوله {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} الآية ولا خلاف بين أحد في أنهما متوجهتان إلى الأحرار والعبيد وأن هذا حكم عام للمتبايعين من الأحرار والعبيد وللمطلقين من الأحرار والعبيد فإذا قد صح ذلك فكيف يسوغ لذي عقل ودين أن يقول إن قوله تعالى {من رجالكم} وقوله تعالى {منكم} مخصوص به الأحرار دون العبيد والآيتان كلتاهما لا خلاف منهم مخاطب بهما والأحرار والعبيد سواء فصل في أمره عليه السلام واحدا هل يكون أمرا للجميع قال علي قد أيقنا أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان حيا في عصره في معمور الأرض من إنسي أو جني وإلى من ولد بعده إلى يوم القيامة وليحكم في كل عين وعرض يخلقهما تعالى إلى يوم القيامة فلما صح ذلك بإجماع الأمة المتيقن المقطوع به المبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالنصوص الثابتة بما ذكرنا من بقاء الدين إلى يوم القيامة ولزومه الإنس والجن وعلمنا بضرورة الحس أنه لا سبيل إلى مشاهدته عليه السلام من يأتي بعده كان أمره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 صلى الله عليه وسلم لواحد من النوع وفي واحد من النوع أمرا في النوع كله وللنوع كله وبين هذا أن ما كان من الشريعة خاصا لواحد أو لقوم فقد بينه عليه السلام نصا وأعلم أنه خصوص كفعله في الجذعة بأبي بردة بن نيار وأخبره عليه السلام أنها لا تجزي عن أحد بعده وكان أمره عليه السلام للمستحاضة أمرا لكل مستحاضة وإقامته ابن عباس وجابرا عن يمينه في الصلاة حكما على كل مصل وحده مع إمام ولا خلاف بين أحد في أن أمره لأصحابه رضي الله عنهم وهم حاضرون أمر لكل من يأتي إلى يوم القيامة وأما إخواننا فاضطربوا في هذا اضطرابا شديدا فقالوا في فتياه عليه السلام للواطىء في رمضان إن ذلك الحكم جار على كل واطىء وأصابوا في ذلك ثم لم يقنعوا بالصواب حتى تعدوه إلى الخطأ فقالوا وذلك الحكم أيضا جار على كل مفطر بغير الوطء ثم لم يقنعوا بذلك حتى قالوا هو على النساء كما هو على الرجال ثم أتوا إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم في محرم مات فأمر عليه السلام ألا يمس طيبا ولا يغطي وجهه ولا رأسه وأن يكفن في ثوبه فقالوا هو خصوص لذلك الواحد وليس هذا حكم من مات وهو محرم أفسمع السامعون بأعجب من هذا التحكم واحتجوا في ذلك بابن عمر وقد تركوا ابن عمر في أزيد من مائة قضية وتركوا في ذلك قول من خالف ابن عمر في ذلك من أصحابه واحتجوا بانقطاع عمل الميت تمويها وشغبا وليس هذا للميت ولكنه عمل الأحياء المأمورين بذلك كما أمروا بغسله ومواراته ولا عمل للميت في ذلك ولا فرق فإن احتجوا في ذلك بقول علي رضي الله عنه نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول نهاكم فقد قال كعب بن عجرة في أمر فدية حلق الرأس نزلت في خاصة وهي لكم عامة وأيضا فقد بينا في آخر كتابنا أنه لا يجوز التقليد وقد بين علي رضي الله عنه أن قوله هذا ليس على ما ظن الظان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 من أن ذلك النهي لا يتعداه ذلك إذ سئل أعهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعهده إلى غيرك فقال لا ما خصني رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا ما في هذه الصحيفة وكان فيها العقل وأشياء من الجراحات ولا يقتل مؤمن بكافر فصح أن قول علي نهاني إنما هو تحر للفظه عليه السلام فقط وبالله تعالى التوفيق وهو الموفق للصواب فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه عليه السلام السبب المحكوم فيه قال علي وإذا ورد خبر صحيح وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أمرا كذا فحكم فيه بكذا فإن الواجب أن نحكم في ذلك الأمر بمثل ذلك الحكم ولا بد لأنه كسائر أوامره التي قدمنا وجوبها وذلك مثل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي منفردا خلف الصفوف فأمره بالإعادة ورأى رجلا يحتجم فقال أفطر الحاجم والمحجوم وأتي بشارب فجلده فاعترض قوم فقالوا لعله عليه السلام إنما أمره بالإعادة ليس من أجل انفراده ولكن لغير ذلك وأن الحجام والمحجوم كانا يغتابان الناس قال علي وهذا لا يجوز لوجوه خمسة أحدها أنه عليه السلام مأمور بالتبليغ فلو أمر إنسانا بإعادة صلاة أبطلها عليه ولم يبين عليه السلام وجه بطلانها لكان عليه السلام غير مبلغ وقد نزهه الله تعالى عن ذلك ولكان غير مبين ومن نسب هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر والوجه الثاني أن يقول القائل لعله عليه السلام قد بين ذلك ولم يصل إلينا قال علي فمن قال ذلك أكذبه الله عز وجل بقوله {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وبقوله تعالى عن نبيه عليه السلام {وما ينطق عن الهوى * الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 إن هو إلا وحي يوحى} فصح أن كلامه كله صلى الله عليه وسلم وحي وأن الوحي محفوظ لأنه ذكر فلو بينه عليه السلام ولم ينقل إلينا لكان غير محفوظ وقد أكذب الله تعالى هذا القول لأنه لم ينقل أحد أنه أمره بالإعادة لغير الانفراد والوجه الثالث أن أحاديث كثيرة ثبتت بفرض تسوية الصفوف فيها وفيها إبطال صلاة من صلى منفردا وقد ذكرناها في الفصل الذي فيه ترجيح الأحاديث في باب الأخبار من كتابنا هذا والرابع إن نقل الناقل الثقة أنه صلى منفردا فأعاد نقل وإنذار ببطلان صلاة المنفرد عنه عليه السلام فواجب قبوله والخامس أن قول القائل لعله كان هنالك سبب لم ينقل إلينا ظن وقد قال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} وقال عليه السلام الظن أكذب الحديث ولا يحل ترك نقل الثقات لظنون زائفات وأما تخريج من خرج منهم أن الحاجم والمحجوم كانا يغتابان الناس فإنهم استجاروا من الرمضاء بالنار وهم لا يرون إفطار الصائم بالغيبة فقد عصوا على كل حال ولولا أن الرخصة وردت صحيحة من الحجامة للصائم لأوجبنا الإفطار بها ولكن استعمال الأحاديث يوجب قبول الرخصة لأنها متيقنة بعد النهي إذ لا تكون لفظة الرخصة إلا عن شيء تقدم التحذير منه ولهذا الحديث أجزنا الحجامة للصائم وأن يكون حاجما ومحجوما على ظاهر لفظ الأحاديث لا بالحديث الذي يقول احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صائم لأنه ليس في ذلك الحديث دليل على أنه كان بعد النهي فهو موافق لمعهود الأصل ولا فيه بيان أيضا أنه كان في صيام فرض لا يجوز الإفطار فيه بل لعله كان في تطوع يجوز الإفطار فيه أو في سفر كما جاء في بعض تلك الأحاديث أنه كان صائما محرما عليه السلام وبالله تعالى التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين قال علي روي أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وهو يقول احترقت وأنه وصف أنه وطأ امرأته وهو صائم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفارة موصوفة وروي من تلك الطريق بعينها أن رجلا أفطر في رمضان فأمره عليه السلام بتلك الكفارة بعينها وذكر باقي الحديث الأول فعلمنا بذلك أنهما حديث واحد لأن الرواة لهذا هم أولئك الذين رووا بأي شيء كان الإفطار وسياق الحديثين واحد فصح أن بعض الرواة عن الزهري فسر القصة وهم سفيان ومعمر والليث والأوزاعي ومنصور بن المعتمر وعراك بن مالك وأن بعضهم عن الزهري أجملها وهم مالك وابن جريج إلا أنهم كلهم عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال علي وليس هكذا حديث السارقة والمستعيرة لأن الوطء في حال الصوم إفطار صحيح يقع عليه في الشريعة اسم إفطار على الحقيقة ولا يقع على السارق اسم مستعير جاحدا البتة ولا يقع على المستعير الجاحد اسم البتة وأيضا فقد روى حديث قطع المستعيرة ابن عمر ولم يذكر سرقة وإنما ذكر أمر السرقة عن عائشة فصح أنهما حديثان متغايران وهذا أيضا ما تعلق به المانعون من المسح على العمامة في حديث المغيرة فقالوا ذكره المسح على العمامة هو حديث واحد مع الذي فيه ذكر المسح على الناصية والعمامة قال علي وهذا خطأ لأن الوضوء لم يكن مرة واحدة منه عليه السلام بل كانت آلافا من المرار فمن ادعى أن ذلك كله وضوء واحد في وقت واحد فقد دخل تحت الكذب والقول بما لا يعلم وهذا لا يحل لمسلم وأيضا فقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 روى المسح على العمامة والخمار من لم يذكر مسحا على الناصية أصلا وهم سلمان وبلال وكعب بن عجرة وعمرو بن أمية الضمري لا سيما المالكيين المانعين من الاقتصار على المسح للناصية فقط فإنهم لا متعلق لهم بحديث المغيرة أصلا وكل ما تعلقوا به بهذا الباب فهو حجة عليهم فصح بما ذكرنا أن حديث المغيرة وحديث من ذكرنا متغايران وبالله تعالى التوفيق فينبغي مراعاة هذا في النصوص ومثل ذلك من القرآن قول الله عز وجل {برآءة من لله ورسوله إلى لذين عاهدتم من لمشركين * فسيحوا في لأرض أربعة أشهر وعلموا أنكم غير معجزي لله وأن لله مخزي لكافرين} ثم قال تعالى في تلك السورة نفسها بعد يسير {وأذان من لله ورسوله إلى لناس يوم لحج لأكبر أن لله بريء من لمشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فعلموا أنكم غير معجزي لله وبشر لذين كفروا بعذاب أليم * إلا لذين عاهدتم من لمشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن لله يحب لمتقين * فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} قال علي فوجدناه تعالى قد جعل مدة من عاهدوا من المشركين أربعة أشهر ثم وجدناه تعالى قد جعل مدة المشركين من يوم الحج الأكبر وهو يوم النحر بنص تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك انسلاخ الأشهر الحرم فليس بين الأمدين إلا خمسون يوما فعلمنا يقينا أن هؤلاء المشركين الذين جعل أمدهم شهرين غير عشرة أيام هم غير المشركين الذين عوهدوا أربعة أشهر وهذا ينبغي أن يتفقد جدا فإنه برفع الإشكال كثير وبالله تعالى التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 فصل في عطف الأوامر بعضها على بعض قال علي وقد يعطف أوامر مفروضات على غير مفروضات ويعطف غير مفروضات على مفروضات والأصل في ذلك أن كل أمر فهو فرض إلا ما خرج عن ذلك بضرورة حس أو بنص أو إجماع فإذا كانت أوامر معطوفات فخرج بعضها بأحد الدلائل التي ذكرنا عن الوجوب بقي سائرها على حكم المفهوم من الأوامر في الجملة ولا نبالي كان الخارج عن معهود حكمه هو الأول في الذكر أو الآخر أو الأوسط كل ذلك سواء وهو بمنزلة ما لو خرج بنسخ فإن سائرها يبقى على حكم الوجوب والطاعة فمن ذلك قوله تعالى {وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} فلولا الإجماع على أن الأكل من الثمر ليس فرضا لقلنا إنه فرض ولكن لما خرج عن أن يكون فرضا بدليل الإجماع بقي الفعل المعطوف عليه على حكم الوجوب وهو قوله تعالى {وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} قال علي وإنما آتينا بما يوافقنا عليه أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وإلا فقد تناقضوا في مثل هذا إلا أن الحقيقة ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق ومن ذلك أيضا فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا وزوروها يعني القبور ولا تقولوا هجرا الأمر الأول ندب الإجماع والثاني فرض وبالله تعالى التوفيق وكذلك قوله {يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} كان السعي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 خاصا للرجال دون النساء ولم يمنع ذلك الأمر بترك البيع من أن يكون فرضا فرضا على ظاهره وعاما لكل أحد من رجل أو امرأة ووافقنا على ذلك أصحاب مالك ومثل هذا كثير وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل فصل في تناقض القائلين بالوقف هاك نبذ من تناقض القائلين بالوقف وحملهم أوامر كثيرة على وجوبها وعن ظاهرها بغير قرينة ولا دليل إلا مجرد الأمر وصيغة اللفظ فقط وما تعدوا فيه طريق الحق إلى أن أوجبوا فرائض لا دليل على إيجابها يدل على كثير تناقضهم وفساد قولهم قال علي إن القائلين بالوقف من المالكيين والشافعيين والحنفيين قد أوجبوا أحكاما كثيرة بأوامر وردت لا قرينة معها فكان نقضا لمذهبهم في الوقف وما قنعوا بذلك حتى أوجبوا فرائض بلا أوامر أصلا فمن أعجب ممن لم يوجب بأمر الله تعالى إنفاذ ما أمر به وأوجب أحكاما بغير أمر من الله تعالى فمن ذلك أن المالكيين قالوا في قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} فأبطلوا البيع بمجرد هذا الأمر ولم يقنعوا بذلك حتى أبطلوا ما لم يبطل الله عز وجل من النكاح والإجازة تعديا لحدوده تعالى وقد تعلل بعضهم في هذا بأن لفظة {يأيها لذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم لجمعة فسعوا إلى ذكر لله وذروا لبيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} لا يقع إلا للفرض قال علي وهذا ما لا يعرفه حامل لغة من العرب وقد قال تعالى {وما قدروا لله حق قدره إذ قالوا مآ أنزل لله على بشر من شيء قل من أنزل لكتاب لذي جآء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل لله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} أفترى ذر في هذا المكان موجبة ترك الكفارة دون وعظ ودعاء إلى الإيمان وقتل موسى وإغرام جزية وصغار وقال في قوله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} و {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 القصاص في لقتلى لحر بالحر ولعبد بلعبد ولأنثى بلأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن عتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} و {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لصيام كما كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون} هذه فرائض وقالوا في قوله {كتب عليكم إذا حضر أحدكم لموت إن ترك خيرا لوصية للوالدين ولأقربين بلمعروف حقا على لمتقين} فقالوا ليس هذا فرضا مع أمره عليه السلام من عنده شيء يوصي فيه أن لا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ففرقوا بلا دليل وقالوا في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} هذا فرض وفي قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} قالوا هذا فرض وكذلك قالوا في هدي العمرة وجزاء الصيد وقالوا بفرض التكبير في أول الصلاة والتسليم منها ذلك فرض وقالوا في حكم المصراة ذلك فرض وقالوا في التقويم على الشريك المعتق ذلك فرض وأوجبوا الزكاة في أموال الصغار بعموم قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وبقوله عليه السلام إن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ولم يوجبوا صدقة الفطر فرضا وقد جاء النص بأنه عليه السلام فرضها وهي داخلة في جملة قوله عليه السلام إن عليهم صدقة وفي جملة قوله تعالى {وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} وأجبوا الزكاة في الزيتون بقوله تعالى {وهو لذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ولنخل ولزرع مختلفا أكله ولزيتون ولرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذآ أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} ولم يروها في الرمان وقد ذكرهما تعالى في الآية ذكرا واحدا وأوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا لو ورد الأمر بذلك فقط وأما الحنفيون فإنهم رأوا ألا تقف المرأة مع الرجل في الصلاة فرضا ورأوا الاستسعاء فرضا ولم يروا الإيتاء من مال الله للمكاتب فرضا ولا مكاتبة من دعا إلى المكاتبة فرضا وكل ذلك مأمور به ورأوا تمتيع المطلقة التي لم تمس ولم يفرض لها صداق فرضا بقوله {فمتعوهن} ولم يروا ذلك فرضا لسائر المطلقات وقد قال تعالى {وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين} ومثل هذا كثير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 ورأى الشافعيون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرضا ولم يروا التكبير في الركوع والرفع فرضا وقد جاء به الأمر ورأوا النية في الوضوء فرضا ولم يروا فعل الاستنثار فرضا وبكل ذلك جاء الأمر سواء ورأوا الخيار قبل التفرق في البيع فرضا ولم يروا الإشهاد فيه فرضا وبكل ذلك جاء الأمر ومثل هذا كثير ورأوا الإيتاء من مال الله للمكاتب فرضا ولم يروا كتابة من دعا إلى المكاتبة مما ملكت أيمانكم فرضا وكلاهما جاء به الأمر مجيئا مستويا وفيم ذكرنا طرف يستدل به على تناقض من قال بالوقف وبالله تعالى التوفيق وقد ذكرنا أقسام الأوامر في كتاب التقريب فأغنى عن إعادتها وسنذكر إن شاء الله تعالى الدلائل المخرجة للأمر عن موضوعه في الإيجاب إلى سائر أقسامه في فصل آخر باب العموم التالي لكلامنا في هذا إن شاء الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله الموفق للصواب الباب الثالث عشر في حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم وإبطال قول من قال في كل ذلك بالوقفأو الخصوص إلا ما أخرجه عن العموم دليل حق قال علي اختلف الناس في هذا الباب فقالت طائفة لا تحمل الألفاظ إلا على الخصوص ومعنى ذلك حملها على بعض ما يقتضيه الاسم في اللغة دون بعض وقال بعضهم بل نقف فلا نحملها على عموم ولا خصوص إلا بدليل فالقول الأول هو لبعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين والثاني لبعض الحنفيين وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وهو كل ما يقع عليه لفظه المرتب في اللغة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 للتعبير عن المعاني الواقعة تحته ثم اختلفوا على قولين فقالت طائفة منهم إنما يفعل ذلك بعد أن ينظر هل خص ذلك اللفظ شيء أم لا فإن وجدنا دليلا على ذلك صرنا إليه وإلا حملنا اللفظ على عمومه دون أن نطلب على العموم دليلا وهذا قول بعض الشافعيين وبعض الحنفيين وقالت طائفة الواجب حمل كل لفظ على عمومه وكل ما يقتضيه اسمه دون توقف ولا نظر لكن إن جاءنا دليل يوجب أن نخرج عن عمومه بعض ما يقتضيه لفظه صرنا إليه حينئذ وهذا قول جميع أصحاب الظاهر وبعض المالكيين وبعض الشافعيين وبعض الحنفيين وبهذا نأخذ وهو الذي لا يجوز غيره وإنما اختلف من ذكرنا على قدر ما بحضرتهم من المسائل على ما قدمنا من أقوالهم فيما خلا فإن وافقهم القول بالخصوص قالوا به وإن وافقهم القول بالعموم قالوا به فأصولهم معكوسة على فروعهم ودلائلهم مرتبة على ما توجبه مسائلهم وفي هذا عجب أن يكون الدليل على القول مطلوبا بعد اعتقاد القول وإنما فائدة الدليل وثمرته إنتاج ما يجب اعتقاده من الأقوال فمتى يهتدي من اعتقد قولا بلا دليل ثم جعل يطلب الأدلة بشرط موافقة قوله وإلا فهي مطرحة عنده قال علي وكل ما ذكرنا أنه يدخل على القائلين بالوقف أو التأويل في صرف الأوامر عن الوجوب وصرف الألفاظ عن ظواهرها فهو أدخل على من قال بالوقف أو الخصوص ههنا ويدخل عليهم أيضا أشياء زائدة قال علي فما احتج به من ذهب إلى أن اللفظ لا يحمل على عمومه إلا بعد طلب دليل على الخصوص أو إلا بدليل على أنه على العموم أن قالوا ليست الألفاظ مقتضية للعموم بصيغها لما وجدت أبدا إلا كذلك كما لا يوجد اسم السواد على البياض فلما وجدنا ألفاظا ظاهرها العموم والمراد بها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 الخصوص علمنا أنها لا تحمل على العموم إلا بدليل قال علي وقد تقدم إفسادنا لهذا الاستدلال فيما خلا من القول بالوجوب وبالظاهر ونقول ههنا إنه ليس وجودنا ألفاظا منقولة عن موضوعها في اللغة بموجب أن يبطل كل لفظ ويفسد وقوع الأسماء على مسمياتها ولو كان ذلك لكان وجودنا آيات منسوخة لا يجوز العمل بها موجبا لترك العمل بشيء من سائر الآيات كلها إلا بدليل يوجب العمل بها من غير لفظها ومن قال هذا فقد كفر بإجماع ومن لم يقله فقد تناقض ودل على فساد مذهبه وأما قولهم كما لا يوضع اسم السواد على البياض فقد يوضع أسود على غير اللون فيقال فلان أسود من فلان من معنى السيادة وليس ذلك بمبطل أن يكون السواد موضوعا لعدم الألوان وقد يقال للأسود أبو البيضاء وليس ذلك بمبطل أن يكون البياض موضوعا للون المفرق للبصر وقد احتج عليهم بعض من تقدم من القائلين بالعموم فقال ليس إلى وجود لفظ عام يراد به الخصوص سبيل البتة إلا بدليل وارد يبين أنه منقول عن مرتبته إلى غيرها كالدليل على تخصيص قوله تعالى {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين} فصح بالنص وبالظاهر وبمقتضى اللفظ أنها لم تدمر من الأشياء إلا ما أمرت بتدميره وهذا لفظ خصوص لبعض الأشياء لا لفظ عموم لجميعها لكنه عموم لما قصد به قال وكذلك كل لفظ عموم أريد به الخصوص قال فلما صح ذلك بطل ما احتجوا به من وجودهم لفظا ظاهره العموم المطلق ويراد به الخصوص قال علي واحتجوا أيضا فقالوا لم نجد قط خطابا إلا خاصا لا عاما فصح أن كل خطاب فإنما قصد به من بلغه الخطاب من العاقلين البالغين خاصة دون غيرهم قال علي هذا تشغيب جاهل متكلم بغير علم ليت شعري أين كان عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 قوله {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وأيضا فإن الذي ذكر من توجه الخطاب إلى البالغين العقلاء العالمين بالأمر دون غيرهم فإنما ذلك بنص وارد فيهم فهو عموم لهم كلهم ولم نعن بقولنا بالعموم كل موجود في العالم وإنما عنينا كل من اقتضاه اللفظ الوارد وكل ما اقتضاه الخطاب فعلى هذا قلنا بالعموم وإنما أردنا حمل كل لفظ أتى على ما يقتضي ولو لم يقتض إلا اثنين من النوع فإن ذلك عموم لهما وإنما أنكرنا تخصيص ما اقتضاه اللفظ بلا دليل أو التوقف فيه بلا دليل مثل قوله تعالى {ولا تقتلوا لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في لقتل إنه كان منصورا} فقلنا هذا عموم لكل نفس حرمها الله من إنسان ملي أو ذمي لم يأتنا ما يوجب القتل لهما ومن قتل حيوانا نهي عن قتله إما لتملك غيرنا له أو لبعض الأمر ومثل قوله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا} فإنما أنكرنا استباحة نفس بلا دليل ونكاح ما نكح الآباء ومن خالفنا لزمه ألا ينفذ تحريم قتل نفس إلا بدليل وألا يحرم كثيرا مما نكح الآباء إلا بدليل من غير هذه الآية مبين لكل عين في ذاتها وهذا يخرج إلى الوسواس وإلى إبطال التفاهم وبطلان اللغة وبطلان الدين ومثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم البر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء والملح بالملح ربا إلا هاء وهاء والذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء والفضة بالفضة ربا إلا هاء وهاء فوجب حمل كل ذلك على كل بر وكل شعير وكل تمر وكل ملح وكل ذهب وكل فضة وكقوله عليه السلام كل مسكر حرام فوجب أن يحمل على كل مسكر وكل من تعدى هذا فقد أبطل حكم اللغة وحكم الديانة قال علي وشغبوا أيضا بآيات الوعيد مثل قوله تعالى {وإن لفجار لفي جحيم} {إنآ أنزلنا لتوراة فيها هدى ونور يحكم بها لنبيون لذين أسلموا للذين هادوا ولربانيون ولأحبار بما ستحفظوا من كتاب لله وكانوا عليه شهدآء فلا تخشوا لناس وخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لكافرون} قالوا وهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 غير محمولة على عمومها قال علي ولولا النصوص الواردة بقبول التوبة وبالموازنة وبغفران السيئات باجتناب الكبائر لوجب ضرورة حمل آيات الوعيد على ظاهرها وعمومها ولكن صرنا إلى بيان خطاب آخر وكذلك القول في الآية الأخرى وفي كل آية وخطاب حديث وخبر ونحن لا ننكر تخصيص العموم بدليل نص آخر أو ضرورة حس وإنما أنكرنا تخصيصه بلا دليل قال علي وسألونا أيضا فقالوا تعتقدون في أول سماعكم الآية والحديث قبل تفهمكم فالجواب إننا نعتقد العموم ولا بد من ذلك وإلا أننا في أول سماعنا وقبل تفقهنا لسنا مفتين ولا حكاما ولا منذرين حتى نتفقه فإذا تفقهنا حملنا حينئذ كل لفظ على ظاهره وعمومه وحكمنا بذلك وأفتينا وتدينا إلا ما قام عليه دليل أنه ليس على ظاهره وعمومه فنصير إليه ولو أن حاكما أو مفتيا لم يبلغه تخصيص ما بلغه من العموم لكان الفرض عليهما الحكم بالذي بلغهما من العموم والفتيا به وإلا فهما فاسقان حتى يبلغهما الخصوص فيصير إليه ثم نعكس عليهم هذا السؤال فنقول ماذا تعتقدون في الآية والحديث إذا سمعتموها قبل تفقهكم أتعتقدون في بطلان الطاعة لهما وأنهما منسوخان أو تعتقدون وجوب الطاعة لهما وأنهما مستعملان محكمان ما لم يقم دليل على نسخهما فإن قالوا نعتقد أنهما منسوخان وأنهما على الوقف فارقوا قول جميع المسلمين وأدى ذلك إلى إبطال جميع الشرائع ومفارقة الإسلام لأن الدليل الذي يطلب على بطلان النسخ ليس إلا آية أخرى أو نصا أو إجماعا ويلزمهم من الوقف في الآية الأخرى وفي الحديث الآخر أو من القول بأنهما منسوخان ما لزم في الخطاب الأول ولا فرق وهكذا أبدا ولزمهم الوقف أيضا في دعواهم الإجماع لعل ههنا خلافا فبطلت الديانة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 قولهم ووجب بهذا القول ألا يعمل أحد بشيء من الدين إذ لعل ههنا شيئا خصه أو شيئا نسخه وهذا خلاف دين الإسلام ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل قول أدى إلى هذا وإن قالوا بل على أنهما محكمان حتى يقوم دليل على أنهما منسوخان رجعوا إلى الحق وهذا يلزمهم في القول بالوقف أو الخصوص ولا فرق قال علي وشغبوا أيضا فقالوا نحن في الخطاب الوارد كالحاكم شهد عنده شاهدان فلا بد له من السؤال عنهما والتوقف حتى تصح عدالتهما قال علي وهذا تشبيه فاسد لأن الشاهدين لو صح عندنا قبل شهادتهما أنهما عدلان فهما على تلك العدالة ولا يحل التوقف على شهادتهما والفرض إنفاذ الحكم بها ساعة يشهدان وكذلك ما أيقنا أنه خطاب الله تعالى أو خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم لنا وإنما نتوقف في الشاهدين إذا لم نعلمهما وكذلك نتوقف في الخبر إذا لم يصح عندنا أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحكم بشيء من ذلك قال علي ومما احتجوا به أن قالوا قال الله تعالى {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين} قال تعالى {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كلرميم} وقال تعالى {إني وجدت مرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} وقد علمنا أن الريح تدمر كل شيء في العالم وأن بلقيس لم تؤت كل شيء لأن سليمان عليه السلام أوتي ما لم تؤت هي قال علي وهذا كله لا حجة لهم فيه أما قوله تعالى {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين} فإنا قد قلنا إن الله تعالى لم يقل ذلك وأمسك بل قال تعالى {تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي لقوم لمجرمين} فصح بالنص عموم هذا اللفظ لأنه تعالى إنما قال إنها دمرت كل شيء على العموم من الأشياء التي أمرها الله تعالى بتدميرها فسقط احتجاجهم بهذه الآية وأما قوله {ما تذر من شيء أتت عليه إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 جعلته كلرميم} فهذه الآية مبطلة لقولهم لأنه إنما أخبر أنها دمرت كل شيء أتت عليه لا كل شيء لم تأت عليه فبطل تمويههم وأما قوله تعالى {إني وجدت مرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} فإنما حكى تعالى هذا القول عن الهدهد ونحن لا نحتج بقول الهدهد وإنما نحتج بما قاله الله تعالى مخبرا به لنا عن علمه أو ما حققه الله تعالى من خبر من نقل إلينا خبره وقد نقل تعالى إلينا عن اليهود والنصارى أقوالا كثيرة ليست مما تصح فإن قال قائل فإن سليمان عليه السلام قال للهدهد {قال سننظر أصدقت أم كنت من لكاذبين} قلنا نعم ولكن لم يخبرنا الله تعالى أن الهدهد صدق في كل ما ذكر فلا حجة لهم في هذه الآية أصلا ثم نقول لهم وبالله تعالى التوفيق إذا احتججتم بهذه الآيات في حمل القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص لا على العموم فالتزموا ذلك ولسنا نبعدكم عن هذه الآية التي احتججتم بها فنقول لكم قول الله تعالى {ولقد مكناهم فيمآ إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فمآ أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات لله وحاق به ما كانوا به يستهزئون} فأخبرونا على قوله تعالى في هذه الآية إن سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم لم تغن عنهم شيئا أهو على عمومه أم يقولون إنها أغنت عنهم شيئا فإن قلتم كذبتم ربكم وإن لم تقولوا تركتم مذهبكم الفاسد ومثل هذا في القرآن كثير جدا بل هو الذي لا يوجد غيره أصلا في شيء من القرآن والكلام إلا في مواضع يسيرة قد قام الدليل على خصوصها ولولا قيام الدليل على خصوصها لم يحل لأحد أن يحملها إلا على العموم وبالله تعالى التوفيق قال علي وموهوا أيضا بما هو عليهم لا لهم وهو تردد بني إسرائيل في أمره تعالى لهم بذبح البقرة قال علي ومن كان هذا مقداره في العلم فحرام عليه الكلام فيه لأن الله تعالى ذمهم بذلك التوقف أشد الذم أفيسوغ لمسلم أن يقوي مذهبه بأنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 موافق لأمر ذمه الله عز وجل ولو لم يكن في ترددهم إلا قولهم لموسى عليه السلام {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} جوابا لقوله {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} ومن خاطبه نبي عن الله عز وجل بأمر ما فجعله المخاطب هزوا فقد كفر قال علي فحسبهم وحسبنا لهم اقتداؤهم باليهود الحاملين كلام ربهم تعالى على أنه هزء واحتجوا بقوله {بديع لسماوات ولأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم} وهو عز وجل غير مخلوق وبقوله تعالى {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} قال علي وإنما قال ذلك لهم بعض الناس وإنما كان الجامعون لهم بعض الناس لا كلهم قال علي نحن لا ننكر أن يرد دليل يخرج بعض الألفاظ عن موضوعها في اللغة بل أجزنا ذلك وهاتان الآيتان قد قام البرهان الضروري على أن المراد بخلقه تعالى كل شيء أن ذلك في كل ما دونه عز وجل على العموم وهذا مفهوم من نص الآية لأنه لما كان تعالى هو الذي خلق كل شيء ومن المحال أن يحدث أحد نفسه لضرورات براهين أحكمناها في كتاب الفصل صح أن اللفظ لم يأت قط لعموم الله تعالى فيما ذكر أنه خلقه وكذلك لما كان المخبرون لهؤلاء بأن {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} ناسا غير الناس الجامعين وكان الناس الجامعون لهم غير الناس المخبرين لهم وكانت الطائفتان معا غير المجموع لها علمنا أن اللفظ لم يقصد به إلا ما قام في العقل وإنما ننكر دعوى إخراج الألفاظ عن مفهومها بلا دليل وكذلك لا ننكر نسخ الأمر كله بدليل يقوم على ذلك وإنما ننكر دعوى النسخ بلا دليل قال علي وموهوا أيضا بأن قالوا لو كان للعموم صيغة تقتضيه ولفظ موضوع له لما كان لدخول التأكيد عليه معنى لأنه كان يكتفى في ذلك باللفظ الدال على العموم قال علي وهذا تعليم منهم لربهم أشياء استدركوها لا ندري ما ظنهم فيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 أنسيان أم فوات أم عمد وكل هذا كفر وهذا جري منهم على عادتهم في الحكم بالقياس في أشياء ادعوا أن ربهم تعالى لم يذكرها ولا حكم فيها ونحن نبرأ إلى الله تعالى من ذلك ونقول إنه لا علم لنا إلا ما علمنا وأن التأكيد في اللغة موجود كثير كتكراره تعالى ما كرر من الأخبار وكتكراره عز وجل سورة واحدة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} وغيرها إحدى وثلاثين مرة {يثبت لله لذين آمنوا بلقول لثابت في لحياة لدنيا وفي لآخرة ويضل لله لظالمين ويفعل لله ما يشآء} و {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} ولهذا أعظم الفائدة لأنه تعالى علم أنه سيكون في خلقه قوم أمثالهم يرومون إبطال الحقائق فحسم من دعاويهم ما شاء بالتأكيد وليقيم بذلك الحجة عليهم وترك التأكيد فيما شاء ليضلوا فيها ويستحق منهم من قلد وعاند العذاب الأليم ويؤجر من أطاع وسلم الأجر الجزيل بمنه وطوله لا إله إلا هو ولو أنه تعالى لم يكرر ما كرر من أخبار الأمم السالفة ومن أمره فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة في غير ما موضع ومن أمره تعالى بالإيمان واجتناب الكفر في غير ما سورة ومن ذكر النار والجنة في غير ما سورة فما كان ذلك مسقطا لوجوب ما وجب من ذلك كله إذ كرره ولكان ذلك واجبا بذكره مرة واحدة كوجوبه إذا ذكر ألف ألف مرة ولا فرق ولكان الشك في خبر ذكر مرة واحدة أو تكذيبه يوجب الكفر كوجوب الكفر بالشك فيما كرره ألف مرة وكوجوب الكفر بتكذيبه ولا فرق وقد ذكر تعالى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن ولم يذكر قصة يوسف عليه السلام إلا مرة واحدة ولا فرق عند أحد من الأمة بين صحة قصة يوسف وبين صحة قصة موسى عليهما السلام ومن شك في ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال فالتأكيد كالتكرار ولا فرق ولو لم يؤكد تعالى ما أكد لكان واجبا وعاما لا يقتضيه اسمه كوجوبه مع التأكيد ولا فرق وإنما معنى التأكيد كمعنى قول القائل أنا شهدت فلانا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 ونظرت إليه بعيني هاتين وهو يفعل أمر كذا وقد علمنا أن النظر لا يكون إلا بالعينين وكذلك يقول سمعت بأذني والسمع لا يكون إلا بالأذنين ولو سكت عن ذلك لعلمنا من خبره كالذي علمنا إذا ذكر العينين والأذنين ولا فرق وأيضا فإن الاستثناء جائز بعد التأكيد كجوازه قبل التأكيد فنقول رأيت الوجوه إلا فلانا فلو كان التأكيد مخرجا للكلام عن الخصوص إلى العموم لما جاز فيه الاستثناء فصح أنه بمنزلة التكرار ولا فرق قال علي ثم نعكس عليهم سؤالهم الفاسد فنقول لهم لو جاز أن تكون صيغة العموم للخصوص لما جاز أن يدخل عليها للتأكيد فينقلها إلى العموم وهذا لهم لازم لأنهم صححوا هذا السؤال فكل من صحح القضية فهي لازمة له وليست لازمة لمن يصححها ولا ابتدأ السؤال قال علي ولو صح قولهم لوجب أن يكون كل شيء انتقل عن حاله باطلا وأن يكون ذلك الانتقال دليلا على أن المنتقل لم يكن حقا لأنه يلزمهم أن الشيء لو كان حقا لما صار باطلا ولما قام دليل على بطلانه ونحن نجد الحياة للإنسان باتصال النفس في الجسد ثم تذهب تلك الحياة وتبطل بيقين فيلزمهم إذ قالوا لو كان العموم حقا لما انتقل لفظه إلى خصوص أن يقولوا لو كانت الحياة حقا لما انتقل حاملها إلى الموت هذا مع افتقار دليلهم هذا إلى دليل وأنه دعوى مجردة ساقطة لأن دعواهم أن انتقال الشيء عن مرتبته مبطل لكونها مرتبة لها دعوى ساقطة يشبه سؤال السوفسطائية واليهود وقد أبطلنا استدلالهم في ذلك في كتاب الفصل بحمد الله تعالى قال علي وقالوا أيضا لو كان العموم حقا لما حسن الاستثناء منه وصرفه بذلك إلى الخصوص قال علي وهذا غاية التمويه لأن العموم صيغة ورود اللفظ الجامع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 لأشياء ركب ذلك اللفظ عليها فإذا جاء الاستثناء كان ذلك اللفظ مع الاستثناء معا صيغة للخصوص وهذا نص قولنا فورود الاستثناء عبارة عن الخصوص وعدم الاستثناء عبارة عن العموم قال علي ثم يعكس عليهم هذا السؤال نفسه فيقال لهم لو كان للخصوص صيغة لما كان للاستثناء معنى لأنه لم يكن يستفاد به فائدة أكثر مما يفهم من اللفظ قبل ورود الاستثناء وقد قدمنا أنه إنما يلزم القضية من صححها وسأل بها وأما نحن فهذه كلها سؤالات فاسدة ولكنها لهم لازمة إذا ابتدؤوا بالسؤال بها وقالوا أيضا لو كان اللفظ يقتضي العموم ما حسن فيه الاستفهام أخصوصا أراد أم عموما فلما حسن فيه الاستفهام علمنا أنه لا يقتضي العموم بنص لفظه قال علي وهذا كالأول وإنما يحسن الاستفهام من جاهل بحدود الكلام واستفهام المستفهم عن الآية أو الحديث مذموم وقد أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اتركوني ما تركتكم ثم نعكس عليهم هذا السؤال نفسه فنقول لهم لو كان اللفظ يفهم منه الخصوص لما كان للاستفهام معنى قالوا ألا ترى أن السؤال والاستفهام لا يحسن في الخبر عن الواحد لأنه مفهوم من نص لفظه قال علي وهذا خطأ لأن الاستفهام يحسن في الواحد كحسنه في العموم وذلك أن يقول القائل أتاني اليوم زيد فيقول السامع أجاءك زيد نفسه إما على سبيل الإكبار وإما على سبيل السرور أو على بعض الوجوه المشاهدة وهذا أمر معلوم لا ينكره ذو عقل وقد يحسن ذلك الشريعة أيضا من طالب راحة أو تخفيف كما سأل ابن أم مكتوم إذ نزلت آية المجاهدين فطلب أن يخرج له عذر من عموم اللفظ الوارد وقد كان له كفاية في غير هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 الآية في قوله تعالى {ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم} وما أشبه ذلك وكسؤال العباس في الإذخر فاستثنى من العموم في النهي عن أن يختلى خلا الحرم بمكة وقد يحسن أيضا الاستفهام في العدد كقول القائل أتاني عشرة من الناس في أمر كذا فيقول له السامع أعشرة فيقول نعم وذلك نحو قول الله عز وجل {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} فقد كنا نعلم لو لم يذكر تعالى العشرة إن ثلاثة وسبعة عشرة وقد كنا نعلم بقوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} إنها عشرة ولكنه تعالى ذكر {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} 2 كما شاء فلما صح كل ما ذكرناه وحسن الاستفهام عن اسم واحد وعن العدد وهو لا يحتمل صرفا عن وجهه أصلا ولم يكن ذلك مجيزا لوقوع اسم الواحد على أكثر من واحد وكذلك في العدد لم يكن أيضا وقوع الاستفهام في العموم موجبا لإسقاط حمله على العموم وبالله تعالى التوفيق وقالوا أيضا أرأيتم قولكم بالعموم أبعموم قلتموه وعلمتم صحته أم بغير عموم قال علي وهذا من الهذيان الذي قد تقدم إبطالنا إياه في كلامنا في حجة العقل وهو سخف أتى به بعض السوفسطائيين القاصدين إبطال الحقائق وهو ينعكس عليهم في قولهم بالخصوص وفي قولهم بالوقف فيقال لهم أرأيتم قولكم بالوقف أبوقف قلتموه وعلمتموه أم بغير وقف وأرأيتم قولكم بالخصوص أبخصوص قلتموه وعلمتموه أم بغير خصوص والجواب الصحيح المبين لجهلهم هو أننا نقول وبالله تعالى التوفيق إنما قلنا بالعموم استدلالا بضرورة العقل الحاكم بأن اللغة إنما هي رتبت لكل معنى في العالم عبارة مبينة عنه موجبة للتفاهم بين المخاطب والمخاطب ولأننا وجدنا الأجناس العامة للأنواع الكثيرة ووجدنا الأنواع العامة للأشخاص الكثيرة يخبر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 عنها بأخبار وترد فيها شرائع لوازم فلا بد ضرورة من لفظ يخبر به عن الجنس كله وهذا لا بد منه وإلا بطل الخبر عن الأجناس وهذا ما لا سبيل إليه أصلا ولا بد أيضا من لفظ يحضر به عن بعض ما تحت الجنس ليفهم المخاطب بذلك ما يريد ومبطل هذا مبطل للعيان جاحد للضرورات وسألوا أيضا فقالوا إن كان قولكم بالعموم والظاهر حقا فما قولكم فيمن سمع آية قطع يد السارق وآية جلد الزناة وآية تحريم المرضعات لنا والراضعات معنا ولم يسمع أحاديث التخصيص لكل ذلك ولا آية التخصيص للإماء أتأمرونه بقطع يد من سرق فلسا من ذهب وبجلد الأمة والعبد مائة مائة إذا زنيا وتحرمون من أرضعت رضعتين وتقولون إنه مأمور من عند الله تعالى بذلك فلزمكم القول بأنه مأمور بما لم يأمر به والقول بأنه مأمور بالباطل أو تأمرونه بألا ينفذ شيئا من ذلك حتى يطلب الدليل فيتركون القول العموم بالظاهر قال علي فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى لم يأمر قط بقطع سارق أقل من ربع دينار ذهبا ولا حرم قط من أرضعت أقل من خمس رضعات ولا أمر قط بجلد العبد والأمة أكثر من خمسين لأن الرسول عليه السلام قد بين كل ذلك وكلامه عليه السلام وكلام ربه سواء في أنه كله وحي وفي أنه كله لازمة طاعته فالآيات التي ذكروا والأحاديث المبينة لها مضموم كل ذلك بعضه إلى بعض غير مفصول منه شيء عن آخر بل هو كله كآية واحدة أو كلمة واحدة ولا يجوز لأحد أن يأخذ ببعض النص الوارد دون بعض وهذه النصوص وإن فرقت في التلاوة فالتلاوة غير الحكم ولم تفرق في الحكم قط بل بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع ورود الآي معا ولا يفرق بين قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} مع قوله عليه السلام لا قطع في أقل من ربع دينارفصاعدا وبين قوله تعالى {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون} وكذلك لا فرق بين قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وبين نزول خمس رضعات محرمات ناسخة لعشر محرمات وبين قول القائل لا إله إلا الله فلا يجوز أن يفصل شيء من ذلك في الحكم عن بيانه كما لا يحل لأحد أن يأخذ القائل لا إله إلا الله في بعض كلامه دون بعض فيقضي عليه بقوله لا إله بالكفر لكن نضم كلامه كله بعضه إلى بعض فنأخذه بكلامه وكذلك إذا نزلت الآية المجملة أتى بعقبها الأحاديث المفسرات فكان ذلك مضمونا بعضه إلى بعض ومستثنى بعضه من بعض ومعطوفا بعضه على بعض فبطل ما راموا أن يموهوا به وصح أنه سؤال فاسد وأن الذين خوطبوا بالآيات المذكورات خوطبوا ببيانها معا وأما نحن فكل إنسان منا فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون لم يتفقه في الدين أو يكون قد تفقه في الدين ولا سبيل إلى وجه ثالث فالذي لم يتفقه في الدين وليس من الذين خاطبهم الله بقوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} ولا من الذين خوطبوا بالفتيا والحكم في تحريم المرضعات ولا من المأمورين بجلد الزناة وإنما أمر بذلك كله الفقهاء والحكام العالمون باللغة والفقه بلا خلاف من أحد من المسلمين في ذلك وقد بين تعالى ذلك بقوله {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فصح بالنص أنه ليس كل أحد مأمورا بالتفقه في غير ما يخصه في نفسه فصح بما ذكرنا أن المأمورين بتنفيذ الأحكام والفتيا في الدين الفقهاء الذين قد سمعوا النصوص كلها وعرفوها وعرفوا الإجماع والاختلاف وأن كل من كان بخلاف هذه الصفة فلم يأمر قط بقطع من سرق جبالا من ذهب ولا بأن يفتي في تحريم من أرضعت ألف رضعة ولا بجلد زان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 حرا أو عبدا وكل متفقه فقبل أن يكمل تعلم النصوص والإجماع فهو غير مأمور ولا مخاطب بالحكم في شيء ولا بالفتيا في شيء لكنه مأمور بالطلب والتعليم فإذا فقه فحينئذ لزمه تنفيذ ما سمع على عمومه وظاهره ما لم يأت نص بنسخ أو تخصيص أو تأويل فبطل سؤالهم بطلانا ظاهرا والحمد لله تعالى ولكنا نقول لو أن امرأ سمع هذه الآيات ولم يسمع ما خصصها لكان حكى العمل بما يبلغه التخصيص فيلزمه حينئذ كما قلنا في المنسوخ سواء بسواء وليس بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أحاط بجميع العلم وإنما يلزم كل واحد ما بلغه وقد رجم عثمان التي ولدت لستة أشهر وقد أمر عمر برجم مجنونة حتى نهاه علي عن ذلك وأخبره بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن القلم مرفوع عن المجنون قال علي وهم تناقضوا في هذه الآيات بلا دليل فحملوا بعضها على العموم وبعضها على الخصوص فتركوا قولهم بالوقف وحملوا على العموم ما قد صح الخصوص فيه واعترضوا أيضا بأن قالوا لما كان المعهود أن يقول القائلون جاءني بنو تميم وفسد الناس ولا خير في واحد وذهب الخلق وذهب الوفاء ولا يكون ذلك كذبا وقد تيقنا أنه لم يرد بذلك جميع بني تميم ولا جميع الناس ولا جميع الأحدين ولا جميع الخير ولا جميع الخلق ولا الوفاء كله صح الخصوص قال علي وهؤلاء القوم لا ندري مع من يتكلمون ونحن لم ننكر أن يكون في اللغة ألفاظ يقوم الدليل على أنها مخصوصات وكل ما ذكروا فقد قام الدليل على أنه ليس على عمومه كما قام الدليل على أن آيات كثيرة أنها منسوخة لا يحل العمل بها فلما لم يكن كل ذلك واجبا أن تحمل النسخ من أجله على سائر الآيات لم يكن أيضا واجبا أن نحمل التخصيص على كل لفظ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 أجل وجودنا ألفاظا كثيرة قد قام الدليل على أنها مخصوصة ولكن القوم يسوموننا إذا وجدنا لفظا منقولا عن موضوعه في اللغة أن نحكم بذلك في كل لفظ وفي هذا إبطال اللغة كلها وإبطال التفاهم وإيجاب للحكم بلا دليل والدليل الذي قام على تخصيص ما ذكروا علمنا أنه لو أراد به العموم لكان كاذبا وأما لو أمكن أن يكون صادقا لما انتقل عن عمومه إلا بدليل قال علي وقالوا أيضا قد اتفقنا على وجوب استعمال الخطاب على بعض ما اقتضاه واختلفنا في سائره فلا يلزمنا إلا ما اتفقنا عليه قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا اعتراض فاسد من وجوه كثيرة أحدها أنه خلاف النصوص والعقول والإجماع لأن الأمة مجمعة والعقول قاضية والنصوص من القرآن والسنن واردة كل ذلك متفق أن ما قام عليه دليل برهاني فواجب المصير إليه وإن اختلف الناس فيه وواجب ألا نقتصر على ما أجمع عليه دون ما اختلف فيه إلا في المسائل التي لا دليل عليها إلا الإجماع المجرد المنقول إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فقد قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فأمر تعالى عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة ودلائلهما قد قامت بوجوب حمل الألفاظ على موضوعها في اللغة وأيضا فإن هذا من سؤالات اليهود إذ قالوا قد وافقتمونا على نبوة موسى عليه السلام وخالفناكم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا سؤال فاسد لأن الدلائل التي أوجبت تصديق موسى عليه السلام هي التي أوجبت تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فإن لم يجب بها تصديق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يجب بها تصديق نبوة موسى عليه السلام وكذلك الدلائل التي دلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 على حمل لفظ الخصوص هي التي دلت على حمل العموم على العمل والدلائل التي دلت على حمله على سائره الذي خالفتمونا فيه ولا فرق وأيضا فإنهم مناقضون لهذا القول لأنه كان يلزمهم على ذلك ألا يقتلوا مشركا إلا مشركا اتفقوا على قتله وهم لا يفعلون لأن قائل هذا إن كان مالكيا فقد ناقض لأنه لم يقتل المرأة المرتدة ولم يتفق على قتلها ويقتل ولد المرتد الحادث له الردة إذا بلغ ولم يسلم وابن ابنه كذلك ولم يتفق على قتلهم ويقتل المشرك إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتفق على قتله وإن كان شافعيا فكذلك أيضا ويقتل زائدا على من ذكرنا من خرج من اليهودية إلى النصرانية ومن خرج من النصرانية إلى اليهودية إلا أن يسلم وإن كان حنفيا فهم يقتلون المسلم المختلف في قتله إذا قتل كافرا بعموم قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} وأن من تورع عن قتل كافر قد أباح الله تعالى قتله وجاء النص بقتله وأقدم على قتل مسلم قد حرم الله دمه عموما وخصوصا بعموم آية لم نخاطب بها ولا ألزمنا الحكم بما فيها لعظيم الجرم قليل الورع مقدم على أكبر الكبائر وبالله تعالى التوفيق وكذلك إن قال لا أقطع إلا سارقا اتفق على قطعه فهم أيضا ينكرون ذلك لأنهم نعني المالكيين يقطعون في أقل من عشرة دراهم وليس متفقا عليه ويقطعون في الزرنيخ والنورة والفاكهة واللحم وليس القطع في ذلك إجماعا والحنفيون يقطعون من سرق شيئا مغصوبا من مال الغاصب وليس قطعهم إجماعا ويلزمهم بهذا القول إلا يقولوا إلا بما أجمع عليه قال علي وهم لا يفعلون ذلك البتة فقد أفسدوا دليلهم وبالله تعالى التوفيق فإنه يقال لهم أبنص صح عندكم هذا القول أم بإجماع فإن قالوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 بنص أو ذكروا دليلا ما كذبوا وادعوا ما لا يجدون أبدا وكانوا مع كذبهم قد تركوا قولهم بألا يقولوا إلا بما أجمع عليه لأنهم يقولون بالنص وإن خالف الإجماع وإن قالوا قلنا ذلك بإجماع كذبوا وجاهروا وبالجملة فهذا مذهب لم يخلق له معتقد قط وهو ألا يقول القائل بالنص حتى يوافقه الإجماع بل قد أصبح الإجماع على أن قائل هذا القول معتقدا له كافل بلا خوف لرفضه القول بالنصوص التي لا خلاف بين أحد في وجوب طاعتها قال علي وقالوا أيضا إن على المراد بالكلام دلائل تدل على الرضا والسخط من تغيير اللون وحدة الأمر والنجه والبشر قيل لهم وبالله تعالى التوفيق ليس هذا مما نحن فيه ولا كون هذه الأحوال مما يمنع من إخراج الأمر على العموم ثم نعكس عليهم هذا في قولهم بالخصوص والوقف فيلزمهم الوقف إلى أن يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وفي هذا إبطال الدين والخروج عن الإسلام وتشبه هذه التساؤلات أن تكون سؤالات ملحد جاهل قليل الحياء وقالوا أيضا إنكم اعتقدتم العموم فيما أراد الله تعالى به الخصوص فقد خالفتموه عز وجل قيل لهم وأنتم إن أردتم الخصوص فيما أراد الله تبارك وتعالى العموم فقد خالفتموه عز وجل وإن اعتقدتم الوقف فيها حكم الله تعالى فيه بما حكم من عموم أو خصوص فلا بد من أحدهما فقد خالفتم الله عز وجل بيقين لا شك فيه ولا شك في أن الله تعالى لم يرد قط في شيء من أحكامه وقفا بل أنفذ تعالى الحكم بما أنفذ وأيضا فنحن قاطعون على أن كل أمر لم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على عمومه فهو على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 عمومه بلا شك ولا مرية نقطع على ذلك عند الله عز وجل ونقطع أيضا بأن كل من بلغه العموم ولم يبلغه الخصوص أو بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ فإن الله تعالى لم يلزمه قط إلا ما بلغه لا ما لم يبلغه قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} ونقطع بأن هذا كله هو الحق عند الله عز وجل لنصه تعالى على أن عليه بيانه فما لم يبين على غير وجهه فقد تيقنا على أنه مراد منا على اقتضاء لفظه ولا بد قال علي فهذه اعتراضاتهم كلها قد استوعبناها ونقضناها وبينا فسادها كلها وانعكاسها عليهم من فسادها بحمد الله تعالى ونحن الآن شارعون بتوفيق الله تعالى لنا وعونه إيانا في إيراد البراهين على بطلان قولهم ووجوب حمل الألفاظ على عمومها وبالله تعالى التوفيق قال علي واحتج من سلف من القائلين بالعموم المخالفين في ذلك فقال لو كان الخطاب على الوقف أو الخصوص حتى يقوم الدليل على العموم لكان ذلك الدليل لا ينفك ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما وإما أن يكون لفظا بخطاب أو معنى مستخرجا من خطاب فإن كان خطابا فالخطاب الثاني كالأول ولا فرق إن كان يدل بنفسه على العموم فالأول مثله وإن كان الأول لا يدل بنفسه على أنه على العموم فالثاني لا يدل أيضا وإن كان معنى مستخرجا من خطاب فلا يجوز أن يكون المعنى المستخرج من الخطاب أقوى من الخطاب الذي منه استخرج وهذا يقتضي وجوب خطابات لا نهاية لها وهذا ممتنع لا سبيل إليه ويؤدي أيضا إلى إبطال فهم كل خطاب أصلا وقالوا أيضا إننا وجدنا في اللغة أسماء للواحد لا تتعداه كزيد وكرجل من شأنه وصفته فلا يعقل منه أكثر من واحد ووجدنا فيها أسماء التثنية لا تقع على واحد ولا على أكثر من اثنين ووجدنا أيضا لفظا للجمع الزائد على الاثنين فكان ذلك واقفا على كل ما يقتضيه الجمع إلا أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 يأتي بيان باستثناء أو بصفة أو بعدد يختص بذلك بعض الجمع دون بعض فتصير إليه وقالوا يقال لمن قال بالخصوص ما معنى قولكم هذا خصوص فلا جواب لهم إلا أن يقولوا هو حمل للاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض مثل قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} فيقولون هذا على بعض المشركين دون بعض فيقال لهم فبأي شيء استحق عندكم هذا البعض الذي حملتم اللفظ عليه أن يكون محمولا عليه ذلك اللفظ دون سائر من أخرجتم عنه وما الفرق بينكم وبين من قال بل اللفظ محمول على الذي أخرجتم عنه أنتم وغير محمول على الذين حملتموه أنتم عليه فإن قالوا الدليل كذا صاروا إلى أن التخصيص إنما كان بدليل غير حمل اللفظ على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل وهذا الأمر لا ننكره بل نقول متى قام الدليل على التخصيص صرنا إليه وبطل بهذا حمل الاسم على بعض ما يقتضيه دون بعض بغير دليل فذلك ما أردنا أن نبين وهذا ترك منهم لمذهبهم الفاسد وإن لم يكن بأيديهم إلا الاقتصار على التخصيص لمن خصوا بلا دليل حصلوا على التحكم والدعوى وكل دعوى بلا دليل فهي ساقطة وبالله تعالى التوفيق احتجوا على القائلين بالوقف فقالوا هذا القول إلى متى يكون فإن حدوا حدا كانوا متحكمين بلا دليل وإن قالوا حتى ننظر في دلائل القرآن والسنة سألناهم فقلنا لهم فإن لم تجدوا دليلا على عموم ولا خصوص ولم تجدوا غير اللفظ الوارد ماذا تصنعون فإن قالوا نقف أبدا أقروا بالعصيان ومخالفة الأوامر وأدى قولهم إلى أن الله يبين مراده وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين ولم يبلغ وهذا كفر وإن قالوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 إن لم نجد دليل على الخصوص صرنا إلى العموم فقد رجعوا إلى ما نكروا وأقروا بأنهم إنما حملوا الكلام على العموم بصيغته ولفظه وبعدم الدليل على الخصوص وهذا هو نفس قولنا الذي أبوه أولا عادوا إليه من قريب فإن قال قائل إن هذا لا يوجد لزمهم السؤال الذي سألنا به أولا من قولنا لهم هل يخلو الدليل من أن يكون لفظا آخر أو معنى مستخرجا من لفظ وألزمهم إيقاظ التفاهم أبدا وأيضا فإن ذلك موجود وقد قال تعالى {إن لله يأمركم أن تؤدوا لأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين لناس أن تحكموا بلعدل إن لله نعما يعظكم به إن لله كان سميعا بصيرا} ولم تؤكد بشيء أصلا وهذا عندهم محمول على عمومه وقد قال تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا} ولم يأت بتوكيد زائد فحملوه على عمومه دون دليل غيره وارد اللفظ فقط ومثل هذا كثير جدا بل هو الأكثر في القرآن والسنة وإنما ادعوا الخصوص في مسائل يسيرة وليس هذا مكان احتجاجهم بقرينة الوعيد لأننا إنما نكلمهم في عموم كل ما اقتضاه اللفظ لا في الوجوب وقد حمل مالك قوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} على عموم جميع المساجد بنص اللفظ لا بدليل زائد ولا بيان وارد وحمل قوله تعالى {ولذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بلله إنه لمن لصادقين} على جميع الأزواج بلا دليل زائد وليس شيء من ذلك إجماعا وحمل هو وأبو حنيفة قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} على عمومه في النكاح والوطء بملك اليمين وحملوا كلهم أيضا قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} على عموم بلا دليل بل الدليل قام على خصوص ذلك فأبوا من قبوله فبان تناقضهم في ذلك وبالله تعالى التوفيق قال علي ويلزمهم أيضا ألا يحكموا بالإجماع إذ لعل ههنا خلافا لم يبلغهم ولا يحكموا بنص إذ لعله منسوخ ولا يقاس لأن القياس لا يكون إلا على نص أو إجماع والوقف واجب في النقص والإجماع فبطل الدين كله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 على قول هؤلاء القوم قال علي ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من خص بالخطاب بعض الأزمان دون بعض كما خصصتم أنتم بعض الأعيان دون بعض فإن قالوا إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليحكم في كل زمان قيل لهم وكذلك أيضا بعث عليه السلام ليحكم على كل أحد في كل عين ولا فرق قال علي وقد بينا في غير ما مكان أن اللغة إنما وضعت ليقع بها التفاهم فلا بد لكل معنى من اسم مختص به فلا بد لعموم الأجناس من اسم ولعموم كل نوع من اسم وهكذا أبدا إلى أن يكون لكل شخص اسمه ومن سعى في إبطال هذا فهو سوفسطائي على الحقيقة عاكس للأمور على وجوهها مفسد للحقائق ويأبى الله إلا أن يتم نوره قال علي ولا فرق بين الأخبار بالأوامر في كل ذلك وكل اسم فهو يقتضي عموم ما يقع تحته ولا يتعدى إلى غير ما يقع تحته والوعد والوعيد في كل ذلك كسائر الخطاب ولا فرق والحديث والقرآن كله كاللفظة الواحدة فلا يحكم بآية دون أخرى ولا بحديث دون آخر بل بضم كل ذلك بعضه إلى بعض إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من قال لعل الخطاب الوارد إنما خص به الصحابة دون غيرهم فكل ما قالوا ههنا فهو مردود عليهم في دعواهم خصوص بعض ما يقع عليه الخطاب دون بعض ويقال لهم بأي شيء استجزتم قتل من قتلتم من المشركين وقطع من قطعتم من السراق وجلدتم من جلدتم من الزناة وحد من حددتم من القذفة وخصصتموهم بإيقاع هذه الأحكام عليهم دون سائر من يقع عليه اسم زان أو قاتل أو قاذف أو سارق فهل ههنا إلا أنهم سرقوا وقتلوا وزنوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وقذفوا فهكذا فعل غيركم ممن أخرجتموه من الخطاب وأسقطتم عنه ما حملتم على هؤلاء فلأي معنى خصصتم من أمضيتم عليه الحكم دون من لم تمضوه عليه فإن قالوا بدلائل دلت على ذلك لم نأب ذلك وقلنا لهم هذا قولنا وحسبنا أننا قد أزلناكم عن الحكم بالخصوص المجرد الذي هو الافتراء على الله عز وجل في الحكم عنه تعالى بما لم يأذن به وقد رام قوم أن يفرقوا بين الأوامر والأخبار واحتجوا بأنهم مضطرون إلى العمل بالأوامر وليست الأخبار كذلك وقال علي وهذا فرق فاسد لأننا مضطرون إلى وجوب اعتقاد صحة الأخبار وإلى الإقرار بها وهي التي وردت بها النصوص كما نحن مضطرون إلى العمل بالأوامر ولا فرق والاعتقاد الصحيح فعل الله تعالى في النفس والإقرار بالمعتقد فعل النفس بتحريكها آلات الكلام من اللسان والحنك ومخارج الحروف فلا بد لها من أن تخص بالإقرار بما اعتقدت أو تعم وخوف الخطأ في العمل في الأوامر كخوف الخطأ في الاعتقاد للأخبار على ما لا يجوز واعتقاد الباطل لا يجوز كما لا يجوز العمل بالباطل فصح أن الأخبار كالأوامر ولا فرق واحتج بعض من سلف من القائلين بالعموم على القائلين بالخصوص فقال ما تقولون في قوله تعالى {لله وخاتم} للنبيين من العرب دون غيرهم أم عموم بنفس اللفظ فإن قالوا خصوص كفروا وإن قالوا عموم بنفس اللفظ تركوا لمذهبهم الفاسد فإن ادعوا أن ذلك إجماع لزمهم ألا يقولوا إلا بما أجمع عليه فقط وقد قدمنا إفساد هذا القول فإنهم لو قالوا لكانوا بذلك خارجين عن الإجماع لأن الأمة مجمعة على أن الاقتصار على القول بالإجماع فقط دون الائتمار للنصوص وإن وقع فيها اختلاف حرام لا يفعله مسلم ولا يسع مسلم فعله والنص من القرآن والسنن جاء بوجوب طاعة النبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 صلى الله عليه وسلم وتحكيمه عند التنازع والاختلاف وأيضا فهم لا يفعلون ذلك فسقط تعلقهم بكل وجه بحمد الله تعالى فإن قالوا علمنا أنه عليه السلام آخر النبيين بقوله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي قيل لهم وبالله تعالى التوفيق وهذا يحتمل من الخصوص ما تحمله سائر النصوص ولا فرق ولعله أنه أراد لا نبي بعدي من العرب أو في الحجاز أو إلى مائة عام أو ما أشبه ذلك كما زعمت العيسوية من اليهود والجرمدانية القائلون بتواتر الرسل والغالية التي قالت بنبوة علي ونزيع والمغيرة ومنصور الكسف بالكوفة وبيان وأبي الخطاب وأيضا فإن الإجماع إذ قد صح على ذلك فهو أعظم الحجج عليهم لإجماع الأمة على حمل هذا الخطاب على عمومه وكذلك يسألون عن قوله صلى الله عليه وسلم بعثت إلى الأحمر والأسود وهذا يحتمل من الخصوص ما احتمله {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} وما احتمله قوله عز وجل {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فاجلدوهم ثمانين جلدة} فلأي معنى خصصتم أحد الخطابين بلا دليل وحملتم الآخر على عمومه بلا دليل إلا نفس اللفظ فقط واحتج عليهم بعض من سلف من القائلين بالعموم بأن قال إنكم متفقون على أن اللفظ إذا ورد فيه تأكيد فإنه محمول على عمومه قال فيقال لهم إن التأكيد يحتمل من الخصوص مثل ما يحتمل الخطاب المؤكد ولا فرق وقد جاء النص بذلك فقال تعالى {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} فجاء الاستثناء بعد تأكيدين اثنين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 قال علي قال تعالى {ولكن حق لقول مني لأملأن جهنم من لجنة والناس أجمعين} ثم جاء الاستثناء بقوله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون} وقال تعالى مخاطبا لإبليس {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} ثم جاء الاستثناء فيمن تاب عن اتباع إبليس وفيمن تساوت حسناته وسيئاته التي اتبع فيها إبليس فجاء التخصيص كما ترى بعد التأكيد فبطل احتجاجهم بالتأكيد ولزمهم ألا يحملوا خطابا على عمومه أبدا أكد أو لم يؤكد ولزمهم الوقف أبدا وألا ينتفعوا بتأكيد ولا غيره فإن قالوا إنه يلزمهم إذا ورد الاستثناء أن تقرروا بأن ذلك الخطاب أريد به الخصوص قلنا لهم وكذلك نقول ولسنا معترضين على ربنا تعالى ولا على نبينا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم إلا ما علمنا تعالى ولا ننكر صرفهما الألفاظ عن وجوهها ولا شرعهما الشرائع علينا ولا تحريم ما حرما ولا تحليل ما حللا ولو أمرانا بقتل آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا لسارعنا إلى ذلك مبادرين أو أمسكنا مقرين بالمعصية غير داعين إلى ضلالة ولا مصوبين لذنوبنا بل مستغفرين الله تعالى من ذلك راغبين في التوبة قال علي وما أخوفني أن يكون ملقي هاتين النكتتين من القول بالوقف في اتباع الظاهر وفي الوجوب وفي العموم وفي الفور ومن القول بصرف الألفاظ الواردة عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى تأويل بلا دليل وإلى سقوط الوجوب بلا دليل وإلى الخصوص بلا دليل وإلى التراخي بلا دليل كافرا مشركا زنديقا مدلسا على المسلمين ساعيا في إبطال الديانة فإن هذه الملة الزهراء الحنيفية السمحة كيدت من وجوه خمسة وبغيت الغوائل من طرق شتى ونصبت لها الحبائل من سبل خفية وسعي عليها بالحيل الغامضة وأشد هذه الوجوه سعي من تزيا بزيهم وتسمى باسمهم ودس لهم سم الأساود في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 الشهد والماء البارد فلطف لهم في مخالفة القرآن والسنة فبلغ ما أراد ممن شاء الله تعالى خذلانه وبه تعالى نستعيذ من البلاء ونسأله العصمة بمنه لا إله إلا هو فلتسؤ ظنونكم أيها الناس بمن يحسن لكم مفارقة ظاهر كلام ربكم تعالى أو كلام نبيكم صلى الله عليه وسلم بغير بيان منها أو إجماع من جميع الأمة وبمن يزين لكم التأخر عن طاعتها ويسهل عليكم ترك الانقياد لهما ويقرب لديكم التحكم في خطابهما والفرق بينهما بطاعة بعض ومعصية بعض وهذا هو التخصيص الذي يدعونه بلا دليل وبالله نعتصم قال علي ويلزمهم إذا أجازوا تخصيص ألفاظ القرآن والسنن بلا دليل أو الوقف فيها أن يجيزوا مثل ذلك في الأعداد ولا فرق فيقفوا فيما أوجب الله تعالى من صيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار وكفارة القتل وكفارة الواطىء في شهر رمضان فلعله تعالى قد استثنى من الشهرين عشرة أيام في حديث لم يبلغهم أو بقياس لم ينتبهوا له بعد كما استثنى تعالى من مدة نوح عليه السلام في قومه خمسين عاما بعد ذكره عز وجل ألف سنة ومثل هذا لازم لهم في جميع ما خوطبوا به وهذا قول كما قدمنا ليس فيه إلا إبطال الديانة مع فاحش تناقضهم وأنه دعوى بأيديهم بلا دليل فإن قالوا هذا لا يجوز في الأعداد لأنه لو لم يكن الاستثناء متصلا بها لكانت كذبا قيل لهم وكذلك الأخبار إن لم يكن على عمومها ولم يأت نص آخر أو إجماع بتخصيصها كانت كذبا ولا فرق وكذلك الأوامر إن كان المراد بها الخصوص ولم يأت نص آخر ولا إجماع بتخصيصها كانت تعنيتا تعالى الله عن ذلك كله قال لهم بعض من سلف القائلين بالعموم فإذا لم يفهم من كل خطاب بمجرده ما اقتضاه لفظه فلعل قولك نقول بالوقف وقول من قال منكم نقول بالخصوص إنما أردتم به في بعض المواضع دون بعض ولعلكم أردتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 غير ما ظهر إلينا من كلامكم فإنكم تناظرونا دأبا في ألا نحمل الألفاظ على ظواهرها ولا على عمومها فأول ما ينبغي أن يستعمل هذا فيه ففي كلامكم فتجعلون في نصاب من لا يفهم عنهم مرادهم ولا يصح خطابهم وصحت السفسطة بعينها عليهم قال علي وكذلك يقال أيضا للقائلين بالوقف أو الندب أموجبون أنتم لحمل الأشياء الواردة من الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم على أنها غير واجبة وعلى الوقف فيها أم أنتم نادبون إلى ذلك فإن قالوا نحن موجبون لذلك قيل لهم فما الذي جعل كلامكم محمولا على الوجوب وكلام ربكم تعالى محمولا على غير الوجوب وهذا كفر شديد ممن اعتقده وضلال عظيم ممن تقلده وإن قالوا بل نحن نادبون إلى ذلك أقروا أنهم لا يلزمنا قبول قولهم وبالله تعالى التوفيق وأيضا قال علي قولهم بحمل الألفاظ على الخصوص إنما معناه بحملها على بعض ما يقتضيه لفظها قال علي وهذا أمر ليس في طاقة أحد فهمه والوقوف على حقيقته أبدا لأنه لا ندري أي أبعاض تلك الجملة يقبل ولا أيها يرد وليس بعضها أولى بحمل الحكم عليه من بعض فصار ذلك تكليفا لما ليس في الوسع وهذه هي السفسطة نفسها وإبطال الحقائق جملة وقد أكذبهم تعالى بقوله {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} ويقال لهم أيضا أرأيتم قول الله تعالى {وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} لهذا التعليم الذي امتن الله تعالى به على أبينا آدم عليه السلام فائدة أم لا فائدة له فإن قالوا لا فائدة له كفروا وكذبتم الملائكة في إقرارهم بأن ذلك علم عظيم لم يكن عندهم حتى علمهم إياه الخالق عز وجل وإن قالوا إن لذلك التعليم فائدة سئلوا ما هي ولا سبيل إلى أن تكون تلك الفائدة إلا إيقاع الأسماء على مسمياتها والفصل بين المسميات بالأسماء ومعرفة صفات المسميات التي باختلافها وجب تخالف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 الأسماء ليقع بذلك التفاهم بين النوع الذي أسكنه الله أرضه وأرسل إليهم الأنبياء بالشرائع ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإذ قد ثبت هذا وصح فكل من أراد أن يثبت أن الأسماء لا تفهم منها مسمياتها على عموم ما يقتضيه اللفظ ولا يعرف بها ما علقت عليه فهو مبطل للعقل والشريعة معا وبالله تعالى التوفيق وله الحمد على جميع نعمه لا إله إلا هو ويلزمهم في قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} أن يكون لعل ذلك في بعض الأمهات دون بعض وفي بعض الأخوات والبنات دون بعض أو لعل الذي حرم هو بيعه أو أكلهن دون جماعهن كما حملتم قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} عن بعض المشركين دون بعض فلم تبيحوا قتل الرهبان ولا قتل المرتدات ولا أولاد المرتدين إذا بلغوا كفارا وكما فعلتم في القذف فلم تحدوا قاذف الكافرة والأمة المسلمة وسائر ما حملتموه على الخصوص ومثل هذا لازم لهم في كل خطاب في القرآن والسنن وبالله تعالى التوفيق ويقال لمن قال منهم إن الذي يدل على حمل الألفاظ على عمومه إنما هو للتأكيد الوارد قال علي يقال لهم لو كان التأكيد ما ذكرتم لكان كلامهم متناقضا لأنا نجد التأكيد يأتي مرتين وثلاثا الأول يأتي لإخراج اللفظ من الخصوص إلى العموم الثاني مثله أيضا ولو وجب أن يكون مخرجا للكلام المؤكد والتأكيد الأول عن الخصوص إلى العموم فكان يكون التأكيد الأول خصوصا وعموما معا وهذا ولا يعلل الصحيح في ذلك ما قدمناه من أن التأكيد إنما هو حسم لشغب أمثالهم فقط وليس التأكيد مخرجا للكلام المؤكد عن خصوص إلى عموم أصلا وقد قال الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 { فسجد لملائكة كلهم أجمعون} وقد أجاب بعض القائلين بالوقف عن هذه المسألة فقال معنى قوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ي بعد ذكر {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ى هو غير المعنى في {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ى لأن {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ى هو مخرج لقوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} وعن الخصوص إلى العموم و {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} ي دال على أنهم سجدوا مجتمعين لا مفترقين قال علي وهذا جهل شديد وكذب مفرط لأن جميعا ليس معناه الاجتماع ولا هو من بابه وهذه مجاهرة في اللغة ولا يعرفها أهل اللغة ولا يعرف أحد من أهل اللسان أن قول القائل أتاني القوم أجمعون أنه أراد مجتمعين بل جائز أن يكون الذين أتوا أفرادا مفترقين وهذه هي السفسطة التي حذر منها الأوائل وجملة الأمران أن هؤلاء قوم تعلقوا بأنهم وجدوا ألفاظا خارجة عن موضوعها في اللغة إما إلى مجاز وإما إلى معان مشتركة فرأوا بذلك إبطال الحقائق كلها وإبطال وقوع الأسماء على مسمياتها واختصاص كل اسم بمنعها وعمومه لكل ما علق عليه كانوا بمنزلة من قال لما وجدت في الكلام كذبا كثيرا فأنا أحمله كله على الكذب ووجدت في الشريعة منسوخا كثيرا لا يحل العمل به إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه ووجدنا العمل بجميعه ولا فرق بين هذا وبين قولهم وجدنا ألفاظا على غير ظاهرها فنحن نقف في كل لفظ فلا نستعمله على مفهومه إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه ووجدنا ألفاظا لا يراد بها عمومها فنحن نقف في كل لفظ فلا نمضيه على ما علق عليه قال علي وقد قال بعض أهل الوقف إذ سئل فأي شيء نعرف بأن اللفظ على عمومه بلفظ أم بمعنى وألزم أن احتمال التخصيص داخل في الثاني كدخوله في الأول وهكذا أبدا وكلف والفرق بين اللفظ الثاني والأول فبلح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 عند ذلك إذ لا سبيل إلى فرق فقال إن الأشياء التي بها يلوح العموم لا تحد ولا تحصر ولا سبيل إلى بيانها قال علي وهذه ثنية الانقطاع التي من بلغها سقط حسيرا وعلم أنه لا حيلة عنده ولا قوة لديه وهو دليل من دلائل العجز والضعف وكل من أقر بأنه لا يقدر على بيان قوله فقد حصل في محل لا يعجز عن مثله ذو لسان إذا استجاز لنفسه الفضائح فلا يعجز أحد عن أن يدعي ما شاء من المحالات والدعاوى فإذا كلف بيانا أو دليلا قال هذا لا يطاق عليه قال علي ونظر ذلك هذا المبلح بأن قال كما أن العدد الذي وجب ضرورة العلم في الأخبار لا سبيل إلى حده قال علي وقد كذب بل ذلك محدود وقد بينا فيما خلا وهو أنه إذا ورد اثنان من جبهتين مختلفتين فحدثا غير مجتمعين وقد تيقن أنهما لم يلتقيا ولا توطآ فأخبرا بحديث طويل لا يمكن اتفاق خاطر اثنين على توكيده ولم يكن هناك لهما ولا لمن حدثا رغبة فيما حدثا به وعنه ولا رهبة ولا هوى وذكرا مشاهدة أو سماعا من اثنتين فصاعدا كما وصفنا أيضا أنهما شاهدا فهو خبر ضروي يوجب العلم واليقين بلا شك وأن عشرات الألوف إذا حشدوا وكلفوا خبرا ما ولهم في ذلك رغبة أو رهبة أو هوى فجائز اجتماعهم على فعل الكذب وقد شاهدنا ذلك في شكر الولاة وذمهم إلا أن هذا لا يخفى بل هو معلوم ضرورة من قبلهم لأنهم وإن اجتمعوا على ما جمعوا له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 فكلهم يخبر صديقه وامرأته وجاره قبل أن يجمع وبعد أن ينفض من ذلك الجمع بحقيقة الأمر وجلية الخبر وهذا مشاهد كل يوم من أحوال الناس ونقل أخبارهم من موت أو ولادة أو نكاح أو طلاق أو عزلة أو ولاية أو وقفة أو ما شبه ذلك وإنما أغفل الناس هذا لقلة المتفقدين لمثل هذا وشبهه ولكثرة من ينسى ما يمر عليه من ذلك وأصيخوا رحمكم الله إلى ما نقول لكم فصل في بيان العموم والخصوص قال علي الكلام ينقسم ثلاثة أقسام فمنه خصوص يراد به الخصوص بقوله زيد وعمرو وما أشبه ذلك وعموم يراد به العموم ومعنى ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 حمله على كل ما يقتضيه لفظه فمنه ما يكون اسما لجنس يعم أنواعا كثيرة كقوله تعالى {أولم ير لذين كفروا أن لسماوات ولأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من لمآء كل شيء حي أفلا يؤمنون} فيقع تحت الحي المذكور الإنس وأنواع الطير كلها وأنواع ذوات الأربع كلها وأنواع الهوام كلها وقد خرج من هذا العموم الملائكة لإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خلقوا من نور وأما الجن فمن النار بنص القرآن إلا أننا نبعد أن يكون في تركيبهم شيء من الماء وإن كان العنصر هو النار كما في تركيبنا الماء والنار والهواء وإن كان عنصرنا التراب ومنها ما يكون اسما لنوع ما كقوله تعالى {ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} فهذا عموم لجميع الخيل ولجميع البغال والحمير دون سائر الأنواع وليس هذا خصوصا لأن معنى قولنا عموم وإنما هو ما اقتضاه اللفظ فقط دون ما تقتضيه فمن سمى هذا خصوصا فقد شغب وشبك وإنما يسمى ما بقي من الجملة بعد أن يستثنى منها خصوصا وما استثني منها مما بقي خصوصا لأن العموم الذي ذكرنا قد ارتفع ضرورة لأن اللفظ حينئذ ليس محمولا على كل ما يقتضيه لفظه فلما بطل أن يسمى ذلك عموما سمي خصوصا لأنه خص منه بعضه دون بعض بالاستثناء وبالإبقاء ومنه ما يقع لأهل صفة ما من النوع كقوله تعالى {ولذي لقربى} فلما كان هذا عموما لذوي القربى كلهم دون غيرهم وكان شاملا لكل ما وقعت عليه هذه التسمية بهذه الصفة وكقوله تعالى {إنما لصدقات للفقرآء ولمساكين ولعاملين عليها ولمؤلفة قلوبهم وفي لرقاب ولغارمين وفي سبيل لله وبن لسبيل فريضة من لله ولله عليم حكيم} الآية فكان ذلك عموما لكل صدقة فرض بدليل أخرج منها ما ليس فرضا وكان ذلك عموما لكل مسكين ولكل فقير ولكل عامل عليها ولكل مؤلف قلبه ولكل ما سمي رقبة إلا أن يخص شيئا من ذلك نص أو إجماع وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 فهذا عموم لكل قرشي إلا من خصه نص أو إجماع من النساء والصبيان وكذلك سائر النصوص والقسم الثالث عموم دل نص القرآن والسنة على أنه قد استثني منه شيء فخرج ذلك المستثنى مخصوصا من الحكم الوارد بذلك اللفظ قال علي ومن العموم أن يكون لفظه مشتركا يقع على معان شتى وقوعا مستويا في اللغة ومعنى قولنا مستو أنه وقوع حقيقي وتسمية صحيحة لا مجازية فإذا كان ذلك فحملها واجب على كل معنى وقعت عليه ولا يجوز أن يخص بها بعض ما يقع تحتها دون بعض بالبراهين التي أثبتنا آنفا في إيجاب القول بالعموم قال علي ومن خالف هذا من أصحاب الظاهرين فقد تناقض ولا فرق بين وقوع اسم على ثلاثة من نوع فصاعدا إلى تمام جميع النوع كقولك مساكين وفقراء وبين وقوع اسم على ثلاثة أشياء فصاعدا مختلفة الحدود يقع عليها كلها وقوعا مستويا ليس بعضها أحق به من بعض ولهذا قلنا في قوله تعالى {لزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ولزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على لمؤمنين} إن الآية على عمومها ولا يحل لمسلم زان أو عفيف أن ينكح زانية مسلمة لا بوطء ولا بعقد زواج فإن وقع فسخ أبدا ما لم تتب قبل أن يعقد معها النكاح ولا يحل لمسلمة زانية أو عفيفة أن تنكح زانيا ما لم يتب فإن وقع الزواج فسخ أبدا وأبحنا للزاني خاصة نكاح الذمية العفيفة فقط لأن النص لم يأت إلا بتحريم ذلك على المؤمنين خاصة والزناة والزواني مؤمنون فقد حرم ذلك عليهم بالنص ولم يأت في ذلك تحريم على المشركين وهذه كرامة المسلم والمسلمة لا يدخل فيها المشركون لأن حكمهم الصغار وقد تناقض في هذا أصحابنا فحملوا النكاح ههنا على الوطء خاصة وحملوه في قوله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا} على العموم لكل ما يقع عليه اسم نكاح وهذا كما ترى بلا دليل وأما من ادعى أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 قوله {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} الآية منسوخة بقوله تعالى {وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم} فمغفل لوجهين أحدهما إجماع الأمة على أنه لا يحل لأحد أن يقول في آية أو حديث إنهما منسوخان لا يجوز العمل بهما إلا بنص جلي أو إجماع والثاني أن قوله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} ليس فيه ما يرد قوله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} كما ليس فيها إباحة نكاح الأخت والبنت المحرمتين وإن كانتا من الأيامى ولكن إحدى الآيتين مضمومة إلى الأخرى فننكح الأيامى منا ما لم يكن زواني مع أنه يبعد عندنا في اللغة وقوع اسم أيم على الزانية فالواجب استعمال الآيتين معا لأن استثناء بعضها من بعض ممكن وقد قدمنا أنه لا يحل ترك آية لأخرى أصلا قال علي وكذلك قلنا نحن وسائر أصحابنا إن قوله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} فأوجبنا كلنا معشر القائلين بالظاهر إلا قوما توقفوا دون قطع وقلنا بإيجاب حد القذف كاملا على كل قاذف محصنة بأي معنى وقع عليها اسم محصنة من عفاف أو إسلام أو زواج فأوجبنا الحد على قاذف الأمة والكافرة والصغيرة وكذلك أوجبنا الزكاة في القمح والشعير والتمر دون سائر الحبوب والثمار لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة ولفظة دون في اللغة التي بها خوطبنا تقع على معنيين وقوعا مستويا حقيقيا لا مجازيا وهما بمعنى أقل وبمعنى غير كما قال تعالى {أم تخذوا من دون لله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون} يريد غير الله تعالى وقوله تعالى {وأعدوا لهم ما ستطعتم من قوة ومن رباط لخيل ترهبون به عدو لله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم لله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل لله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} فذكر تعالى المجاهرين بالعداوة للمسلمين وآخرين من غيرهم مكاتمين بها فلم يكن حمل لفظة دون في الحديث المذكور على معنى أقل أولى من حملها على معنى غير فوجب حملها على كلا المعنيين جميعا وقد تناقض في ذلك أصحابنا فلم يحملوها إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 على معنى أقل فقط قال علي وهذا ترك منهم لقولهم بالعموم وحمل لفظة دون على معنى غير أولى لأن حملها على معنى غير يقضي في جملته أقل فهو القول بالعموم لأن الأقل من خمسة أوسق هو أيضا غير الخمسة الأوسق وبالله تعالى التوفيق قال علي فهذه أقسام مفهوم الكلام وقد جعل قوم قسما رابعا فقالوا وخصوص يراد به العموم قال علي وهذا خطأ وليس هذا موجودا في اللغة وسنستوعب الكلام في هذا إن شاء الله تعالى في باب الكلام في القياس وفي باب دليل الخطاب بحول الله وقوته فإن اعترضوا علينا بأحاديث وردت في رجال بأعيانهم ثم صار حكمها عندنا على جميع الناس فليس ذلك بما ظنوا ولكن جميع تلك الأحاديث فيها أحكام في أحوال توجب الأخذ بذلك في أنواع تلك الأحوال اتباعا للفظ الحكم المعلق على المعنى المحكوم فيه وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث ليحكم على أهل عصره فقط لكن على كل من يأتي إلى يوم القيامة وفي كل ما يحدث من جسم أو عرض إلى انقضاء الدنيا ولا سبيل إلى أن يبقي عليه حيا إلى أن يلقى كل أحد فكان حكمه على إنسان في حال ما حدثت له أو منه حكما في وقوع تلك الحال كما قلنا ويبين ذلك الحديث الذي فيه هو جبريل أتاكم يعلمكم دينكم أجل بيان وأوضحه في أن كل خطاب منه صلى الله عليه وسلم لواحد فيما يفتيه به ويعلمه إياه هو خطاب لجميع أمته إلى يوم القيامة وتعليم منه عليه السلام لكل من يأتي إلى انقضاء الدنيا لأن ذلك الحديث إنما خرج بلفظ تعليم الواحد في قوله صلى الله عليه وسلم أن تعبد الله كأنك تراه ويكفينا من هذا الحديث قوله عليه السلام أثر جوابه لجبريل عليه السلام إن هذا الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 ذكر تعليم لهم فأشار إلى الخطاب المتقدم للواحد وبين ذلك أيضا قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} فبدأ بالجماعة ثم خاطب خطاب واحد وقد صح أن المراد بهذا الخطاب كل مسلم والحكم على الأسماء فكل اسم حكم فيه عليه السلام فهو على كل ما تحت ذلك النوع الذي يقع عليه ذلك الاسم قال علي وهم أولى الناس بالهروب عن هذا السؤال لأنهم أتوا إلى حديث الواطىء في رمضان وهو المأمور بما يجب في ذلك من الكفارة فلم يقنعوا بأن جعلوه عاما لكل واطىء حتى تعدوا فجعلوه على كل آكل وشارب ثم على كل موطوءة وآكلة وشاربة من الناس وأتوا إلى حديث الميت في إحرامه فقالوا لا يتعدى به ذلك الميت بعينه وأتوا إلى أمره صلى الله عليه وسلم في غسل ابنته فقالوا هو عام لكل ميتة وأتوا إلى صلاته على قبر المسكينة فقالوا هو خاص لتلك المسكينة ولهم من مثل هذا أزيد من ألف حكم كلها ينقض بعضها بعضا والعجب كل العجب في قياسهم إفطارا على إفطار فجعلوا في الأكل الكفارة كالواطىء ولم يقيسوا صياما على صيام فلم يروا على المفطر عمدا في قضاء رمضان كفارة ولا على المفطر في قضاء النذر أيضا وليس شيء من ذلك إجماعا لأن إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير لا يريان الكفارة على الواطىء وأصحاب الشافعي كلهم لا يرون الكفارة على المفطر بغير الوطء وقتادة يرى الكفارة على المفطر في قضاء رمضان كهي على المفطر في رمضان ولا فرق لأنه فرض وفرض وصوم وصوم وفطر وفطر وقد ادعى قوم في أحاديث وردت أنها خصوص مثل حديث رضاع سالم قال علي وليس كما قالوا بل كل رضاع فمحرم بظاهر القرآن إلا ما استثني بالسنة من الأربع رضعات فأقل وأما رضاع سالم فقد قال قوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 إنما كان حكما في التبني والتبني قد نسخ بقوله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} فلما سقط التبني سقط الحكم المرتبط به ولما لم يعلم أي الأمرين كان قبل أحديث سالم أم قوله صلى الله عليه وسلم الرضاعة من المجاعة وجب الأخذ بالزائد على معهود الأصل وكان قوله صلى الله عليه وسلم إنما الرضاعة من المجاعة مع قوله تعالى {نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم وتقوا لله وعلموا أنكم ملاقوه وبشر لمؤمنين} زائدا على معهود الأصل في التحريم بعموم الرضاع فوجب الأخذ بالزائد قال علي بل حديث سالم هو الزائد فيلزم الأخذ به لأن قوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} مسقط لحكم ما زاد على الحولين فصار حديث سالم زائدا على الآية وحاكما بتمادي التحريم بالرضاعة أبدا وما ندري في المصائب أطم من قول من عصى النبي صلى الله عليه وسلم في التحريم برضاع سالم وسمع وأطاع لتحريم برضاع شهرين بعد الحولين فقط ولتحريم أبي حنيفة برضاع ستة أشهر بعد الحولين فقط ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال علي ومما يبين قولنا قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في الأضحية بعناق جذعة تجزيك ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم خصوصا لأبي بردة ولو كان فتياه لواحد لا يكون فتيا في نوع تلك الحال لما احتاج عليه السلام إلى بيان تخصيصه ومثله قوله تعالى {يأيها لنبي إنآ أحللنا لك أزواجك للاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء لله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك للاتي هاجرن معك ومرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد لنبي أن يستنكحها خالصة لك من دون لمؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان لله غفورا رحيما} فخرج عليه السلام في نكاحه في جملة قوله تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} ومثله أمره تعالى بقوله {يأيها لذين آمنوا ستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن لله يحول بين لمرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} فخرج بذلك عليه السلام من جملة قوله صلى الله عليه وسلم إن هذه الصلاة لا يحل فيها شيء من كلام الناس وقد تناقض أبو يوسف فرأى قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 خصوصا له عليه السلام ولم ير قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} خصوصا له عليه السلام وهذا تناقض ظاهر وصلاة الخوف لازمة لنا لقوله صلى الله عليه وسلم صلوا كما تروني أصلي وأخذ الزكاة لازمة للأمة لقوله صلى الله عليه وسلم أرضوا مصدقيكم وبقوله عليه السلام فمن سألها عن وجهها فليعطها ومن سئل أكثر منها فلا يعطها فإذا سألها أولو الأمر المأمور في القرإن بطاعتهم بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} لزم فرض أدائها إليهم وكذلك أمره تعالى بقتال المشركين حتى يعطوا الجزية موجب كل ذلك على الأئمة قبضها وإرسال السعاة والولاة فيها وأما خصوص لفظ في نوع يراد به نوع آخر فهذا خطأ لا سبيل إليه وهو باطل بالطبيعة والشريعة واللغة أما الشريعة فقوله تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} وحدوده تعالى ما نص على تحريمه أو إيجابه أو إباحته فمن حرم غير ما نص الله تعالى على تحريمه أو أوجب غير ما نص الله تعالى على إيجابه فقد تعدى حدود الله تعالى وأما الطبيعة فقد علمنا علم ضرورة أن الأسماء إنما وضعت ليعبر بها عن المعاني التي علقت عليها وسميت بها لا عما لم يعلق عليه ولا سمي بها هذا ما لا يثبت في عقل أحد غيره وما عداه فسفسطة وتخليط وإفساد للعالم ولبنية الحس والعقل وأما اللغة فإنا نسأل كل عالم وجاهل ما البر فيقول القمح فإن قلنا له عن الشعير ما هذا قال شعير فإن قلنا هو بر أنكر ذلك وهزأ بقائله هذا ما لا يختلف فيه أحد من شرق الدنيا وغربها حتى إذا أتى الدين الذي هو المحتاط فيه الواجب تحقيقه حكموا للشعير بحكم البر وخالفوا ما أقروا أنه الحقيقة وحكموا بما أثبتنا نحن وهم أنه باطل وتعدوا الحدود وأوقعوا الأسماء على غير مسمياتها وبالله تعالى التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها فيخرج بذلك الأمر عن وجوبه إلى سائر وجوهه وعن الفور إلى التراخي وعن الظاهر إلى التأويل وعن العموم لكل ما يقتضي إلى تخصيص بعضه وذكر الدلائل التي تدل على أن الأسماء قد انتقلت عن مسمياتها إلى ما ذكرناه قال علي هذا باب كثر فيه التخليط وعظمت فيه الأغاليط ولو قلنا إنه أصل لكل خطأ وقع في الشرائع لم يبعد عن الصواب فلنقل بحمد الله وعونه فيه قولا يرفع إن شاء الله تعالى الإشكال فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الأسماء المنقولة عن معانيها تكون بأربعة أوجه أحدها نقل الاسم عن بعض معناه الذي يقع دون بعض وهذا هو العموم الذي استثني منه شيء ما فبقي سائر مخصوصا من كل ما يقع عليه كقوله تعالى {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} وكسائر ما ذكرنا والوجه الثاني نقل الاسم عن موضوعه في اللغة بالكلية وإطلاقه على شيء آخر كنقل الله تعالى اسم الصلاة عن الدعاء فقط إلى حركات محدودة من قيام وركوع وسجود وجلوس وقراءة ما وذكر ما لا يتعدى شيء من ذلك إلى غيره وكنقله تعالى اسم الزكاة عن التطهر من القبائح إلى إعطاء مال محدود بصفة محدودة لا يتعدى وكنقله تعالى اسم الكفر عن التغطية إلى الجحد له عز وجل أو لنبي من أنبيائه أو لشيء صح عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بلوغ كونه كذلك إلى الجاحد له وكنقل الأمر الوارد عن الوجوب إلى الندب أو الإباحة لأن هذا هو وضع اللفظ المرتب للإيجاب في غير معناه ونقل له عن موضوعه إلى الندب الذي هو غير معناه بل له صيغة أخرى تدل على أنه التخيير وكنقل الأمر عن إلزام العمل به إلى المهلة فيه قال علي فقد بان بما ذكرنا أن نقل الأمر عن الوجوب والفور إلى الندب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 والتراخي هو باب واحد مع نقل اللفظ عما يقتضيه ظاهره إلى معنى آخر وهذا الباب يسمى في الكلام وفي الشعر الاستعارة والمجاز ومنه قوله تعالى {ذق إنك أنت لعزيز لكريم} ومثل هذا كثير والوجه الثالث نقل خبر عن شيء ما إلى شيء آخر اكتفاء بفهم المخاطب كقوله تعالى {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى لله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو لعليم لحكيم} وإنما أراد تعالى أهل القرية وأهل العير فأقام الخبر عن القرية والعير مقام الخبر عن أهلها وكقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} فأقام ذكر السفر والمرض مقام الحديث لأن المراد فأحدثتم وكقوله تعالى {لا يؤاخذكم لله بللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم لأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وحفظوا أيمانكم كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تشكرون} فأوقع تعالى الحكم على الحلف وإنما هو على الحنث أو إرادته لا على الحلف ومثل هذا كثير والوجه الرابع نقل لفظ عن كونه حقا موجبا لمعناه إلى قوله باطلا محرما وهذا هو النسخ كنقله تعالى الأمر بالصلاة إلى بيت المقدس إلى أن يحل ذلك اليوم أصلا بالعمد لغير ضرورة قال علي وإنما فرقنا بين النسخ وبين نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب أو غيره وإن كان كل ذلك نقلا لأن النسخ كان الأمر المنسوخ مرادا منا العمل به قبل أن ينسخ وأما المحمول على الندب فلم يرد قط منا إلزامنا العمل به وهذا فرق ظاهر قال علي وكل ما ذكرنا فلا يحل أن يتعدى به موضوعه لأنه كما ترى أنواع يجمعها جنس النقل للأسماء على مراتبها فمن استجاز منها واحدا بغير برهان لزمه أن يجيز جميعها وفي ذلك القضاء بالنسخ على كل شريعة وبأنه لا يفهم عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم لفظ أصلا إذ لعله قد نقل إلى معنى آخر وهذا خروج عن الإسلام قال علي وإذا قد ذكرنا وجود النقل للأسماء عن معانيها ومثلنا منها أمثلة تدل عليها وتنبه على أمثالها مما لم نذكره بحول الله تعالى وقوته فلنذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 إن شاء الله تعالى بتوفيقه لنا وعونه إيانا الدلائل التي بها تعلم صحة الوجوه التي ذكرنا وبها يثبت عندنا أن الاسم قد نقل إلى بعض الوجوه التي ذكرنا والتي متى لم توجد لم يحل لمسلم أن يقول إن هذا اللفظ على غير موجبه وبالله تعالى التوفيق فلنقل وبالله نعتصم إن البرهان الدال على النقل الذي ذكرنا ينقسم قسمين لا ثالث لهما إما طبيعة وإما شريعة فالطبيعة هو ما دل العقل بموجبه على أن اللفظ منقول من موضوعه إلى أحد وجوه النقل الذي قدمنا مثل قوله تعالى {لذين قال لهم لناس إن لناس قد جمعوا لكم فخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا لله ونعم لوكيل} فصح بضرورة العقل أن المراد بذلك بعض الناس لأن العقل يوجب ضرورة أن الناس كلهم لم يحشروا في صعيد واحد ليخبروا هؤلاء بما أخبرهم به ولأن العقل يوجب ضرورة أن المخبرين لهم بأن الناس قد جمعوا لهم غير الجامعين لهم وغير المجموع لهم بلا شك وأن الجامعين غير المخبرين بالجمع وغير المجموع لهم بلا شك ومثل قوله تعالى {قل كونوا حجارة أو حديدا} {صلى الله عليه وسلم} الإسراء 50 علمنا بضرورة العقل أنه أمر تعجيز لأنه لا يقدر أحد على أن يصير حجارة أو حديدا ولو كان أمر تكوين لكانوا كذلك فلما وجدهم العقل لم يكونوا حجارة ولا حديدا علم أنه تعجيز وأما الشريعة فهي أن يأتي نص قرآن أو سنة أو نص فعل منه عليه السلام أو إقرار منه عليه السلام أو إجماع على أحد وجوه النقل الذي ذكرنا كما دل الإجماع على أن اسم أب في قوله تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من لنسآء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وسآء سبيلا} منقول عن الاقتصار على الأب وعلى الأجداد من الأب والأم وإن بعدوا إلى الآباء من الرضاعة والأجداد من الرضاعة لقوله عليه السلام يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب كما دل نص أيضا على نقل اسم الأب إلى العم في قوله حاكيا عن القائلين {أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب لموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} وإنما كان إسماعيل عما لا أبا ولم يجب من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 أجل هذا أن ننقل اسم أب في المواريث إلى الجد من الأم أصلا وكما دل النقل المتواتر أيضا على نقل اسم ابن في قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} عن الاقتصار على الابن وبني البنين وبني البنات وإن بعدوا إلى البنين من الرضاعة أيضا ولم يجب من ذلك أن ننقل اسم الابن في المواريث إلى ابن الرضاعة وبني البنات ولا يحجب بابن الرضاعة ولا ببني البنات الأم عن الثلث ولا الزوج عن النصف ولا الزوجة عن الربع إلى السدس والربع والثمن ولم يوجب شيء مما ذكرنا أن ننقل اسم الأم عن الوالدات اللاتي حملن الإنسان في بطونهن في كل حكم إلى أمهات الرضاعة لأن العلم واجب ضرورة بأن الناس ماتوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم بنو البنات والأجداد من قبل الأمهات وكذلك من الرضاعة فلم يرث أحد منهم شيئا بالنقل عن الكواف عصرا عصرا وكم يجب إذا خص الجد من الأب والابن من الولادة والأم من الولادة بالميراث أن يتعدى ذلك فيخص بعض الوالدات وبعض الأبناء وبعض الأجداد بلا دليل ولذلك ورثنا الجد للأب إذا لم يكن هنالك أب دون الإخوة ولأنه متفق على أنه في تلك الفرائض والإخوة مختلف فيهم ولا نص في ذلك فلزم ألا نورث أحدا بلا نص ولا إجماع وهم الإخوة ولزم أن يورث الجد لأنه متفق على أنه يرث في تلك الفرائض مع النص على أنه أب وكان يلزم من يقول بالخصوص أن يخرج بعض النبيين على أن يورثهم مع سائر النبيين قياسا على الإجماع في ألا يورث بنو البنات لأنهم بنون ولا يحرم على آباء أمهاتهم نكاح حلائلهم ومن قال إن الجدة قيست على الأم في التحريم لزمه أن يقيسها عليها في التوريث وإلا كان متناقضا وبالله تعالى التوفيق فصح بما ذكرنا أن إخراج الأسماء عن مواضعها إذا قام دليل من الأدلة التي ذكرنا واجب لأنه أخذ في كل ذلك بالظاهر الوارد وبالنص الزائد فلم يخرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 عن الظاهر في كل ذلك ووجب إذا عدم دليل منها ألا ينقل شيء من الخطاب عن ظاهره في اللغة وأما من خصص الظاهر أو العموم بقياس أو بدليل خطاب أو بقول صاحبه فذلك باطل وسنبين ذلك في الأبواب المذكورة إن شاء الله تعالى وقد قال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فلاح أن لا بيان إلا بنص أو بضرورة عقل كما قدمنا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التالي علينا القرآن فهو المبين به وهو الآمر لنا بالسنن المبينة علينا وهو الآمر باتباع القرآن والسنن والإجماع وهو عليه السلام الذي نص علينا في القرآن إيجاب استعمال العقل والحس وقد ذكرنا في باب الأخبار من هذا الكتاب كيف التخصيص بالآية للآي وللحديث وبالحديث للآي وللحديث قال علي ومن التخصيص بالإجماع قوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} فلما أجمعت الأمة بلا خلاف أن 9 هم إن بذلوا فلسا أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم ولا خرجوا عن إيجاب قتلهم وحتى لو كثر القائلون بذلك واشتهر فضلهم ما وجب أن يعتد بهذا القول لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولكن لما قال تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} بالألف واللام وهما في اللغة التي بها نزل القرآن للعهد والتعريف علمنا أنه أراد تعالى جزية معلومة معهودة وبين ذلك بقوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} بالألف واللام والألف واللام في لغة العرب لا يقع إلا على معهود وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بأخذ دينار من كل محتلم منهم ومحتلمة علمنا أن ما دون الدينار ليس هو الجزية المحرمة لدمائهم وأموالهم ولم يكن لأقصى الجزية وأكثرها حد يوقف عنده فيدعى فيه وجوبه بالإجماع فإن يحيى بن آدم وعطاء بن رباح وعمرو بن دينار وسفيان الثوري كلهم يقول ليس لأكثر الجزية حد وإنما هو ما ترضوا به فلما كان اسم الجزية يقع على الدينار وجب قبوله ممن لا يقدر على أكثر منه ولزم المصالحين ما صالحوا عنه وهو أكثر من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 الدينار ووجب أن يفرض على من يطيق أكثر من دينار من أهل العنوة ما أطاق ما لا يجحف به وأما نقل الأمر عن الوجوب إلى الندب فإنه لا مدخل للعقل فيه وإنما يؤخذ من نص آخر أو إجماع فقط كما قلنا في قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} أنه إباحة لما ذكرنا في ذلك للإجماع على ذلك وقلنا في الوتر إنه ندب لقول الله تعالى له ليلة أسري به هن خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي ولأنه عليه السلام كان ينتقل على البعير فإذا أراد الفريضة نزل وكان يوتر على البعير وأما النهي عن القران بين التمرتين في الأكل والإشهاد على التبايع وكتاب الديون والانتشار بعد الصلاة للنوم والأكل وطلب الرزق والأكل من الهدي والإطعام منه ومن الأضحية والمكاتبة لمن طلبها ممن فيه خير من الرقيق وإيتاؤهم من مالنا ففرائض كلها لأنه لا نص في إخراجها عن الوجوب ولا إجماع وأما أمره تعالى لأهل النار بالدخول فيها وأن يخسؤوا وبصليها فأمر اضطرار لا محيد لهم عنه وأما أمره تعالى لأهل الجنة بالأكل وبالشرب وقبول النعيم فأمر إيجاب لا بد لهم من قبوله مختارين مغتبطين كما تفعل الملائكة فيما يؤمرون به وبالله تعالى التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه قال علي وأما النص الذي يصح البرهان على أنه ليس على عمومه فقد قال قوم الباقي على عمومه وقال بعضهم وهو عيسى بن أبان الحنفي قاضي البصرة لا نأخذ منه إلا ما اتفق عليه قال علي والصحيح من ذلك أنه كان من النصوص التي لو تركنا وظاهرها لم يفهم منه المراد فإننا لا نأخذ منها إلا ما يبينه نص آخر أو إجماع وذلك مثل أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأيضا فإن الله تعالى نص لنا على الصلاة والزكاة بالألف واللام والألف واللام إنما يقعان على معهود ولا يفهم من هذا الظاهر كيفية الصلاة والزكاة الواجبين علينا فوجب أن يطلب بيانهما من نصوص أخر أو إجماع وقد أخبرنا تعالى أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها وليس في وسعنا أن نفهم استقبال الكعبة والإتيان بأربع ركعات للظهر في كل ركعة سجدتان وثلاث للمغرب من قوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} ولا في وسعنا أن نفهم إعطاء شاة من خمس من الإبل وما يجب من الزكاة من البقر والغنم من قوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} ولأجل هذا النص منعنا من أن يكون تعالى يكلفنا ما لا نطيق وأما لو شاء ذلك تعالى لكان حسنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 في العقل ولو أنه تعالى كلفنا شرب ماء البحر في جرعة ثم يعذبنا إن لم نفعل لكان ذلك عدلا وحقا ولكنه تعالى قد تفضل علينا وآمننا من ذلك ولم يكلفنا ما لا نطيق فله الحمد والشكر لا إله إلا هو وكذلك قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} ليس فيها بيان كيفية تلك الصدقة ولا متى تؤخذ أفي كل يوم أم في كل شهر أم في كل عام أم مرة في الدهر ولا مقدار ما يؤخذ ولا من أي مال ففي قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} عمومان اثنان أحدهما الأموال والثاني الضمير الراجع إلى أرباب الأموال فأما عموم الأموال فقد صح الإجماع المنقول جيلا جيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يوجب الزكاة إلا في بعض الأموال دون بعض مع أن نص الآية يوجب ذلك لأنه إنما قال تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} فالظاهر يقتضي أن ما أخذ مما قل أو كثر فقد أخذ من أموالهم كما أمر وقوله عليه السلام إذ سئل عن الحمير أفيها زكاة أم لا على أن هذا اللفظ ليس مرادا به جميع الأموال وقد قال عليه السلام إن أموالكم عليكم حرام وقال عليه السلام كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ونص عليه السلام على أنه لا يحل له أخذ مال أحد إلا بطيب نفسه وليست الزكاة كذلك بل هم مقاتلون إن منعوها وأيضا فإن لفظة {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} في قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} إنما هي للتبعيض وأيضا فلو كانت الأموال مرادة على عمومها لكان ذلك ممتنعا لأن ذلك كان يوجب الأخذ من كل برة ومن كل خردلة ومن كل سمة لأن كل ذلك أموال فلما صح بكل ما ذكرنا أنه تعالى لم يرد كل مال وجب طلب معرفة الأموال التي تجب فيها الزكاة ومقدار ما يؤخذ منها ومتى يؤخذ من نص آخر أو من الإجماع إذ قد ثبت أن المأخوذ هو شيء من بعض ما يملكونه فلا بد من بيان ذلك الشيء المراد فإنه إذا أخذ شيء يقع عليه اسم شيء واحد من جميع أموالهم فقد أخذ من أموالهم وكان هذا أيضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 موافقا للظاهر وغير مخالف له البتة وليس إلا هذا الوجه إلا أن يوجب أكثر منه نص أو إجماع لأنه قد تعذر الوجه الثاني وهو أن يؤخذ من كل مال جزء وإذا لم يكن لشيء إلا قسمان فسقط أحدهما ثبت الآخر فلو لم تأت نصوص وإجماع على الأخذ من المواشي والذهب والفضة والبر والشعير والتمر لما وجب إلا ما يقع عليه اسم أخذ لأجزأ إعطاء برة واحدة أو شعيرة واحدة أو أي شيء أعطاه المرء ولكن النصوص والإجماع على ما ذكرنا فرض الوقوف عندهما وأما العموم الثاني وهو عموم أرباب الأموال فبين واضح وهو من كل إنسان ذي مال فوجب استعماله على عمومه إذ عرف مقدار ما يؤخذ ومتى يؤخذ ومما يؤخذ فلا مخرج من ذلك إلا ما أخرجه نص أو إجماع على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى وأما النص المفسر الذي يفهم معناه من لفظه وكان يمكننا استعماله على عمومه ولو لم يأتنا غيره فأتى نص آخر أو إجماع فخص منه بعض ما يقع عليه الاسم فإنه لا يخرج منه إلا ما أخرج النص والإجماع والحجة في ذلك هي الحجج التي أثبتنا بها القول بالعموم في أول هذا الباب الذي نحن الآن في فصوله ويلزم من قال لا أبقي منه إلا ما جاء نص أو إجماع في بقائه أن يبيح دماء جميع الأمة إلا ما اتفق على تحريم دمه لأن قوله عليه السلام دماؤكم وأموالكم عليكم حرام لقد اتفق على أنه ليس على عمومه بل لخص منه كثير كالزناة المحصنين وقتلة الأنفس وغيرهم فيلزمهم أن يقتلوا شارب الخمر في الرابعة هذا لو لم يأت فيه نص ولكن على أصلهم الفاسد وأن يقتل الساحر إن كان حنفيا أو شافعيا وأن يقتل السيد بعبده والمؤمن بالكافر إن كان مالكيا وإلا فقد تناقضوا وأقروا بأن العموم الذي قد خص بعضه فإن باقيه على العموم أيضا إلا أن يخصه نص أو إجماع ونحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 نرى إن شاء الله تعالى مسألة فيها تخصيص مترادف مرآة لكيفية العمل فيما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فنقول قال الله عز وجل {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} فلا نص أكثر معاني ولا أعلم من هذا وفيه إباحة النساء والمآكل كلها وكل ما في الأرض وقال تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون} فلا شيء بعد النص المذكور آنفا أعم ولا أكثر معاني من هذا النص الثاني فلو لم يرد غيرهما لحرم النكاح جملة والوطء بالبتة ولكان النساء كلهن مستثنيات مما أبيح النص الأكثر المذكور آنفا فلو لم يرد غير هذين النصين لحرم النساء جملة وقال تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} فكان هذا مبيحا لما حظر النص المذكور الذي فيه حفظ الفروج لو لم يرد غير هذه النصوص لوجب الأخذ بالتحريم لأن الآية التي فيها إباحة النكاح موافقة للنص الأكثر الذي فيه إباحة كل ما في العالم وإنما هي تأكيد وتكرار كسائر ما في القرآن من التكرار والتأكيد الذي أورده الله تعالى كما شاء {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} كما كرر تعالى أخبار الأنبياء عليهم السلام {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} و {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فكرر إباحة نكاح النساء كما شاء ولسنا نقول إن شيئا من هذه النصوص قبل كل شيء ولا أن شيئا منها بعد شيء وسواء نزل بعضها قبل بعض أو نزلت معا لا فرق عندنا بين شيء من ذلك وليس شيء مما نزل بعد رافعا لشيء نزل قبل إلا بنص جلي في أنه رافع له أو بإجماع على ذلك وإلا فهو مضاف إليه ومعمول به معه ضرورة لا بد من ذلك فلما صح ما قلنا من استثناء تحريم النكاح جملة مما أباح تعالى لنا ووجدناه تعالى قد استثنى إباحة النكاح من حفظ الفروج استثناء تاما بقوله تعالى {ولذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن بتغى ورآء ذلك فأولئك هم لعادون} فصح يقينا أن الزواج وملك اليمين مستثنى مما حرم من إهمال الفروج ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وجدها هذا الاستثناء يحتمل أن يؤخذ به على عمومه فيخص به من آية التحريم أشياء كثيرة منها الأختان بملك اليمين والأم والابنة بملك اليمين والكتابية بملك اليمين والحائض والمحرمة والصائمة فرضا والحريمة بصهر أو رضاع ويحتمل ألا يخرج من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج جملة إلا ما خص نص جلي أو إجماع متيقن على إخراجه منه فلو أخرجنا من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج كل ما يحتمل إخراجه لكنا قد أسقطنا ما تيقنا وجوبه بما شككنا في إباحته ونحن إذا لم نخرج منه إلا ما جاء نص جلي أو إجماع بإخراجه منه كنا قد علمنا بما تيقنا لزومه لنا من النص المبيح للوطء وعلمنا أيضا بما تيقنا وجوبه من النص الذي فيه التحريم إذ في استعمالنا ما في إية إباحة الوطء كله رجوع إلى الأصل الأول الذي فيه إباحة كل ما في الأرض وترك ما قد لزم إخراجه منه بيقين فلو فعلنا ذلك لكنا متناقضين لأنها ثلاثة نصوص كما ترى نص عام ثم آخر دونهما في العموم ثم ثالث دونهم معا في العموم فإن قال قائل بل نأخذ بالنص الأخص قلنا له وبالله التوفيق إنك إن فعلت ذلك رجعت إلى قولنا لأننا نوجد لا نصا أخص من النص الذي فيه إباحة الوطء فيلزمك أن تغلب هذا الأخص الذي هو نص رابع وإلا نقضت قولك وهو قول الله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} والمشركات من الكتابيات هن بعض من تملك أيماننا وكذلك الأختان إذ ملكناهما وأما أصحابنا القياسيون فتناقضوا تناقضا فاحشا ظاهر الخطأ لأنهم عمدوا إلى قوله عز وجل {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} إلى قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وإلى قوله سبحانه وتعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وهذه كما ترى آيات محرمات لنساء موصوفات وعمدوا إلى قوله تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 ملومين} فاستثنوا الأختين بملك اليمين والأم وابنتها بملك اليمين والعمة وبنت أخيها بملك اليمين والخالة وبنت الخالة بملك اليمين من الآية التي فيها إباحة ملك اليمين إلا أن يكون أختان معا أو أم وابنة أو عمة وبنت أخيها فإن أولئك لا يحل وطؤهن ثم إن يستثنوا الإماء الكتابيات بما أباحوه من ملك اليمين فلو أن عاكسا عكس فأباح الأختين والأم والابنة بملك اليمين وحرم الأمة الكتابية بقوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} أي فرق كان يكون بينهم إلا التحكم بلا دليل فإن قالوا قد أبيحت الكتابية قيل لهم أخطأتم إنما أبيحت بالزواج لقوله تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} فإنما أباح المحصنات الكتابيات بشرط إيتائهن الأجور وإيتاؤهن الأجور لا يكون إلا في الزواج لا في ملك اليمين وهذا ما لا شك فيه عند أحد فبطل أن يكون المراد بالإباحة المذكورة الإماء الكتابيات فبقين على أصل التحريم ولو أننا رضينا لأنفسنا من الحجة بنحو ما يرضون به لأنفسهم لقلنا لهم إن قوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} إنما قصد به الإماء لقوله تعالى في أثر ذلك {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} ولكنا في ذلك نبين بأقوى مما يحتاجون به في أكثر مسائلهم مثل احتجاجهم في إيجاب الخطبة بقوله تعالى {وإذا رأوا تجارة أو لهوا نفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند لله خير من للهو ومن لتجارة ولله خير لرازقين} ومثل احتجاجهم في عتق الأخ بقوله تعالى {قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ففرق بيننا وبين لقوم لفاسقين} ومثل احتجاجهم في المنع من النفخ في الصلاة بقوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} ومثل احتجاجهم في القسامة ببقرة بني إسرائيل ومثل هذا من التمويه البارد الفاسد الداخل في حدود هذيان المبرسمين ولكن الله عز وجل قد أغنانا بالنصوص الظاهرة التي لا مجال للتأويل فيها وبنصره تعالى لنا عن تكلف بنيات الطرق وادعاء ما لا يصح ومن أمكنته السيوف لم يفتقر إلى المحاربة بحطام التبن ولا سيما من قال منهم إن النص إذا خص بعضه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 لم يؤخذ من باقيه إلا ما أجمع عليه فإنه يقال له في هذا المكان إباحة ملك اليمين قد خرج منه بالنص بالإجماع أشياء كثيرة فمنها الذكور والبهائم والأم من الرضاع والأخت من الرضاع وكل حريمة بصهر ورضاع وكل حائض وكل صائمة فرض وأخرجت أنت منه الأختين والأم والابنة والعمة والخالة فيلزمك ألا تبيح مما بقي إلا ما اتفق عليه ولم يتفق على إباحة الأمة الكتابية بملك اليمين ولا جاء بها نص فواجب عليك القول بتحريمها ويقول لسائرهم أنتم أهل القياس فقيسوا ما اختلفنا فيه من وطء الأمة الكتابية بملك اليمين على ما اتفقنا عليه من تحريم الأختين بملك اليمين وسائر ما ذكرنا ويقال للمالكيين منهم أنتم تدخلون التحريم بأدق سبب ولا تدخلون التحليل إلا بأبين وجه فحرموا الوطء للأمة الكتابية إذ لا سبب معكم في تحليلها لا دقيق ولا جليل ولكم في تحريمها أبين سبب فإن ادعوا إجماعا أكذبهم ابن عمر فقد صح عنه تحريم الكتابيات جملة وتلا الآية التي ذكرنا قال علي وأما جمهور أصحابنا الظاهريين فإنهم سلكوا طريقة لهم في ترك ما ظاهره التعارض قد بينا بطلانها فجعلوا قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} معارضا لقوله تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} ورجعوا إلى الأصل بالإباحة قال علي وهذا خطأ شديد من كل وجه وحتى لو كان التعارض موجودا وكان العمل صحيحا لكان ههنا باطلا فكيف والتعارض غير موجود لقوله تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} ولقوله تعالى والعمل المذكور عنهم فاسد بترك ما قد ثبت اليقين بوجوب الطاعة له قال علي ولو كان العمل المذكور صحيحا لكان الرجوع إلى قوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون} أولى منه إلى إباحة قد خص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 منها حفظ الفروج ولكن الصواب ما بينا من استثناء الأقل معاني من الأكثر والعجب كل العجب من تحريمهم الأمة الوثنية بملك اليمين بلا خلاف منهم بقوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} وإباحتهم لأمة الكتابية بملك اليمين بلا نص فيها أصلا ولا إجماع فخصوا قوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} بلا دليل وفرقوا بين الأمة الوثنية والكتابية بلا دليل فإن قالوا إن قوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} إنما قصد به الزواج اخطؤوا من وجهين أحدهما تخصيص العموم بلا دليل والثاني تناقضهم وتحريمهم الأمة الوثنية بملك اليمين وإنما جاء نص الإباحة من الكتابيات بالزواج فقط فحرام أن يستثنى من تحريم المشركات بشيء غير الزواج وحده الذي استثني بالنص ولا سيما وهم يبطلون القياس إنما أباح الإماء بملك اليمين من أباحهن قياسا على الحرائر منهن في الزواج والقياس باطل فلم يبق إلا أن يقولوا إن المشركات اسم لا يقع على الكتابيات فإن قالوا هذا وكان القائل مالكيا أو شافعيا تناقض في أنهم حملوا قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إنما لمشركون نجس فلا يقربوا لمسجد لحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم لله من فضله إن شآء إن لله عليم حكيم} على الكتابي كما حملوه على الوثني وإن كان حنفيا تناقض في حمله قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} الآية على الكتابي كحملهم إياها على الوثني وبرهان ذلك قبولهم إسلامهم إن أسلم وليس في آية حرب أهل الكتاب إلا {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} فقط وبالله التوفيق ومما احتج به عيسى بن أبان في قوله إن النص إذا خص منه شيء وجب حمل سائره على الخصوص أن قال إن ذلك مثل شاهدين جرحا بقصة ما فوجب على سائر شهادتهما في كل شيء قال علي بن أحمد وهذا القول فمع ما فيه من الاضطراب وتشبيهه بشيء لا يشبهه إقدام عظيم على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولو كان القياس حقا وقد أعاذ الله تعالى من ذلك لكان هذا القياس أحمق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 قياس في الأرض فكيف والقياس كله باطل ولله تعالى الحمد فيقال لعيسى ليت شعري ما الذي شبه كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم الذي ألزمنا الله تعالى توقيره والطاعة له وحرم علينا معصيته بكلام فاسقين قد ثبت جرحتهما وقد أمرنا تعالى ألا نقبل خبرهما بل لقائل هذا القول المردود مثل السوء ولله تعالى ولرسوله المثل الأعلى وهلا قال إذ لم يوفقه الله تعالى لقبول الحق إن النص الذي خص بعضه بمنزلة شاهدين عدلين شهدا لأبيهما فلم يقبلا على مذهبه الفاسد فلا يكون ذلك موجبا لرد شهادتهما في سائر ما شهدا به لغير أبيهما فهذا قياس أصح من قياسه لو كان القياس حقا فكيف والقياس باطل كله فاسد إلا أن الذي علمناهم أمثل لأننا مأمورون بقبول شهادة العدلين كما نحن مأمورون بقبول النص الوارد من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم والعمل به فإذا سقط عنا قبول ما شهدا به لدليل قام على ذلك في بعض المواضع لم يوجب ذلك سقوط سائر شهادتهما في سائر المواضع وكذلك النص اللازم لنا قبوله إذا قام دليل على سقوط بعضه في بعض المواضع لم يكن ذلك موجبا لسقوط باقيه وسائره فهذا أشبه مما قال لأن الجرح الذي نظر به مسقط العدالة بالجملة وليس خصوص النص بمسقط للعمل به جملة ولو شبه الشاهد المجرح عدالته بالمنسوخ من الملك والشرائع فأوجب بذلك سقوط جميعها عنا لكان أدخل في التمويه وألطف في التشبيه ولكنهم مع قولهم بالقياس وتركهم له كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فإنك تجدهم أجهل الخلق بترتيب باطلهم وأشدهم اضطرابا فيه وهكذا يكون ما كان من عند غير الله ولله الحمد على ما وفق بمنه قال علي ونسي عيسى نفسه إذ قال بما ذكرنا من أن النص إذا خص بعضه لم يؤخذ من باقيه إلا ما اتفق على الأخذ به منه فهلا تذكر على هذا الأصل إذ قال في نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء إن المرتدة لا تقتل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وهذا نص قد خص منه الزانية المحصنة والقاتلة فهلا أسقط أيضا منه المرتدة ولم يأخذ منه إلا ما اتفق عليه من المنع من قتل الحربيات المأسورات ولكن القوم إنما هم ناصرون لما حضرهم من مسائلهم لا يبالون بما أصلوا في ذلك ولا بما احتجوا ولا يستحيون من نقضه بعد ساعة وإبطاله بأصل مضاد للأصل الأول على حسب ما يرد عليهم من المسائل كل ذلك طاعة لمالك وأبو حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وقلة مبالاة لمخالفة القرآن وترك كلام النبي صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى نستعين من الخذلان ونسأل المزيد من التوفيق قال علي ولا فرق بين تخصيص بعض آية أو حديث لم يرد في ذلك البعض تخصيص لكن لأنه قد خص بعض آخر منهما وبين من أراد من ذلك أن يخص كل آية وكل حديث لأنه قد وجد آيات مخصوصات وأحاديث مخصوصة وكل هذا تحكم بلا دليل أو بدليل فاسد وفي هذا إبطال الشريعة ومن استجاز ما ذكرنا وصوبه لزمه أن يقول بنسخ كل آية لأنه قد وردت آيات منسوخات وهذا يخرج إلى إبطال الإسلام ويقال لهم ما الفرق بينكم وبين من خص سورة بكمالها أو قال بنسخ كل ما فيها لأنه وجد بعضها منسوخا ومخصوصا وهذا ما لا يقولونه وهو موجب قولهم الفاسد قال علي واحتج بعض من ذهب هذا المذهب فقال من حلف أن هذه الآية أو الحديث مخصوصا فيما قد قام الدليل على تخصيص بعضهما لم يحنث قال علي يقال له صدقت ومن نازعك في هذا حتى تلحقه ونحن نقر لك بأن هذا النص مخصوص إذا قام الدليل على خصوص بعضه ولكن الباقي بعد ما خص مأخوذ على موجبه وعلى كل ما اقتضاه لفظه بعد ما خرج منه ونحن على ما لزمنا من وجوب الطاعة له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 قال علي ويلزم من قال بهذا أن يقول متى وجدت عددا قد استثني منه شيء وجب أن أسقطه كله ومتى وجدت إنسانا قد وجب أخذ بعض ماله لم أمتنع من أخذ باقته إلا أن يمنعني منه إجماع ومن قال هذا لزمه في قول الله تعالى {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون} أن يقول لعله قد خصت منها خمسون أخر بالاستثناء فيكون مقامه فيهم تسعمائة عام فقط أو أقل وهذا فساد في العقل وكفر في الإسلام فإن قال قائل قد رخص للزبير وعبد الرحمن في الحرير لحكة كانت بهما فقلتم أنتم هو عام لكل من كان في مثل حالهما قيل له هذا هو نص قوله تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فكل مضطر إلى محرم فهو له حلال وهذا الحديث الذي فيه إباحة الحرير لعبد الرحمن والزبير هو بعض الآية المذكورة وهو بمنزلة مفت سمع أن اليمين على من ادعي عليه فأوجب اليمين بذلك على زيد وعلى عمرو وعلى خالد لأنهم مدعى عليهم فأصاب في ذلك وكل هؤلاء قد اقتضاهم الحديث المذكور فإن قال قائل فهلا عممتم الآية التي ذكرتم في قوله {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فأبحتم به أكل الميتة للباغي إذا اضطر إليها وأنتم لا تفعلون ذلك قيل له وبالله تعالى التوفيق إنما منعناه لوجهين أحدهما أن الباغي مستثنى من جملة المضطرين وقد قلنا إنه يجب استثناء الأقل معاني من الأكثر معان والوجه الثاني أن الباغي مضطر لأنه لو ترك البغي لارتفعت ضرورته من أجله فهو مختار لحاله غير مضطر إلى الميتة لأنه لو أراد ترك البغي لكان قادرا على ذلك ولحلت له الميتة حينئذ لضرورة إن كانت به إنما المضطر الذي لا يقدر على دفع ضرورته ومن سلك طريقا وهو باغ وتحصن في حصن وهو باغ فهو المختار لعدم التصرف فليس مضطرا فليس له دخول في جملة من أبيحت له الميتة وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 فصل في مسائل من العموم والخصوص قال علي ومما تناقض فيه القائلون بتخصيص النصوص بالقياس أن قالوا بعموم قوله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} فقالوا المدخول بها وغير المدخول بها سواء ولم يقيسوا غير المدخول بها في الوفاة على غير المدخول بها في الطلاق كما قاس بعضهم الإحداد على المطلقة ثلاثا على الإحداد على المتوفى عنها زوجها فإن كان القياس حقا فليستعملوه في كل مشتبهين وإن كان باطلا فليجتنبوه قال ومما خص بالإجماع قوله تعالى {يوصيكم لله في أولادكم للذكر مثل حظ لأنثيين فإن كن نسآء فوق ثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها لنصف ولأبويه لكل واحد منهما لسدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه لثلث فإن كان له إخوة فلأمه لسدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من لله إن لله كان عليما حكيما} فخص بنص السنة العبد بأنه لا يرث وخصت السنة أيضا الكافر بأنه لا يرث المسلم ولا المسلم الكافر وقال تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فخص الكتاب قائل الخطأ بوجوب الكفارة عليه وخص الإجماع المنقول من أحدث ناسيا أنه منتقض الوضوء وقد ادعى قوم أن حد العبد مخصوص بالقياس على حد الأمة قال علي وقد أفكوا في ذلك بل جاء النص بأن حد العبد مخالف لحد الحر في حديث دية المكاتب من طريق علي رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما وقالوا أيضا في قوله تعالى {ولبدن جعلناها لكم من شعائر لله لكم فيها خير فذكروا سم لله عليها صوآف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا لقانع ولمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون} أنه خص منها جزاء الصيد في أنه لا يؤكل منه بالإجماع وهدي المتعة قيس عليه قال علي هذا خطأ إنما أمر تعالى بالأكل من التطوع ما لم يعطب قبل محله وأما كل هدي واجب فقد قال تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن لله كان بكم رحيما} فلما كانت هذه الواجبات كلها مأمورا بإخراجها من أموالنا وكان ذلك مسقطا لملكنا عنها كانت قد انتقلت إما إلى ملك المساكين وإما إلى ملك الله عز وجل لا بد من أحد الوجهين المذكورين وما خرج عن ملكنا فلا يحل لنا أن ننصرف فيه إلا بنص مبيح أو إجماع والعجب من حملهم أمر الله تعالى بالأكل منها والإطعام على أن ذلك غير واجب ثم أرادوا أن يخصموا منها بقياس لا يشبه ما أرادوا تشبيهه به نعني هدي المتعة بهدي الجزاء فهلا إذ قاسوا هدي المتعة على هدي الجزاء قاسوا صيام الجزاء على صيام المتعة ولكن هذا في تناقضهم يسير جدا وأيضا فلا إجماع في تحريم الأكل من جزاء الصيد وقد روينا عن بعض التابعين إباحة الأكل منه قال علي وقال بعضهم كيف تتركون ظاهر القرآن الذي من أنكره أو شك فيه كفر لخبر واحد لا تكفرون ما خالفكم فيه ولا تفسقونه قال علي فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق القطع على وجوب الائتمار لهما معا واحد بالدلائل التي قد ذكرناها في باب إثبات العمل بخبر الواحد من هذا الكتاب وكلاهم وحي من عند الله تعالى والقطع في المراد منهما بالمغيب منهما معا إنما هو على حسب الظاهر منهما وإنما يكفر من أنكر تنزيل القرآن أو تنزيل بعضه فقط وأما إن أنكر الأخذ بظاهره وتأول في آياته تأويلات لا يخرج بها عن الإجماع فإننا لا نكفره ما لم تقم الحجة عليه كما لا نكفر من خالفنا في قبول خبر الواحد ما لم تقم الحجة عليه وكلا الأمرين سواء ولو أن امرأ يقول لا أقبل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان كافرا مشركا كمن أنكر القرآن أو شك فيه ولا فرق وبالله تعالى التوفيق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 فصل من الكلام في العموم قال علي وإذا ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فعلا كذا نظرنا فإن كان عرضا منتهكا أو دما مسفوحا أو مالا مأخوذا علمنا أن ذلك واجب لأنه عليه السلام حرم الدماء والأموال والأعراض جملة إلا بحق فما أخذ عليه السلام من ذلك علمنا أنه فرض أخذه وأنه مستثنى من التحريم المذكور من ذلك جلد الشارب وهمه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة وهو عليه السلام لا يهم إلا لحق واجب لو أصر عليه المهموم فيهم لأنفذه عليهم لا يحل لأحد أن يظن غير ذلك ومن قال إنه عليه السلام يتوعد بما لا يفعل فقد نسب إليه الكذب وناسب ذلك إليه كافر ومثل ذلك القضاء باليمين مع الشاهدين وغير ذلك كثير فصل من العموم قال علي العموم قسمان منه مفسر ومنه مجمل فالمجمل هو الذي لا يفهم من ظاهره معناه والمفسر قد ذكرناه وأما المجمل فلا بد من طلب المراد فيه من أحد موضعين إما من نص آخر وإما من إجماع فإذا وجدنا تفسير تلك الكلمة في نص آخر قلنا به وصرنا إليه ولم نبال من خالفنا فيه ولا استوحشنا منه كثروا أو قلوا صغروا أو جلوا ولم نتكثر بمن وافقنا فيه كائنا من كان من قديم أو من حديث وقليل وكثير وليس ممن كان معه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قلة ولا ذلة ولا وحشة إلى أحد ولا فاقة إلى وفور عدد فإذا لم نجد نصا آخر نفسر هذا المجمل وجب علينا ضرورة فرض طلب المراد من ذلك المجمل في الإجماع المتيقن المنقول عن جميع علماء الأمة الذين قال تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 فيهم {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وكيفية العمل في ذلك أن نأخذ بما أجمعوا عليه من المراد بمعنى ذلك المجمل ونترك ما اختلفوا فيه فهذا هو حقيقة ما أمرنا به من الأخذ بالإجماع وترك كل قول لم يقم عليه دليل وهذا الذي نسميه استصحاب الحال وأقل ما قيل فإن قال قائل إن هذان اسمان مختلفان في المعنى فما الفرق بينهما ولم صرتم إلى أحدهما في بعض الأمكنة وإلى الآخر في أمكنة أخرى وما حد المواضع التي تأخذون فيها باستصحاب الحال وما حد المواضع التي تأخذون فيها بأقل ما قيل وأنتم تسمون فعلكم في كلا الموضعين اتباعا للإجماع وإجماعا صحيحا وأنتم لا تسمون من أنفسكم بإجمال لا تستطيعون تفسيره وتعيبون بذلك أصحاب القياس أشد عيب قيل له وبالله تعالى التوفيق صدقت في صفتك وأحسنت في سؤالك والجواب عما سألت عنه إن الذي عملنا فيه بأن سميناه أقل ما قيل فإنما ذلك في حكم أوجب غرامة مال أو عملا بعدد لم يأت في بيان مقدار ذلك نص فوجب فرضا ألا نحكم على أحد لم يرد ناقض في الحكم عليه إلا بإجماع على الحكم عليه وكان العدد الذي قد اتفقوا على وجوبه وقد صح الإجماع في الحكم به وكان ما زاد على ذلك قولا بلا دليل لا من نص ولا إجماع فحرام على كل مسلم الأخذ به وأما الذي عملنا فيه بأن سميناه استصحاب الحال فكل أمر ثبت إما بنص أو إجماع فيه تحريم أو تحليل أو إيجاب ثم جاء نص مجمل ينقله عن حاله فإنما ننتقل منه إلى ما نقلنا النص فإذا اختلفوا ولم يأت نص ببرهان على أحد الوجوه التي اختلفوا عليه وكانت كلها دعاوى فإذا ثبت على ما قد صح الإجماع أو النص عليه ونستصحب تلك الحال ولا ننتقل عنها إلى دعاوى لا دليل عليها وهذا القسم موجود كثيرا فهذا الجواب مستوعب لبيان جميع الوجوه التي سألت عنها ومبين للحد الذي سألت عنه وللفرق الذي سألت عنه ولوجوب المصير إلى ما سألت عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 دليل وجوب المصير إليه وبيان كون كلا الوجهين إجماعا وبالله تعالى التوفيق قال علي ومن خالف الطريق التي ذكرنا فلا بد له ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقول برأيه بلا دليل في دين الله عز وجل وإما أن يقلد وكل ذلك باطل فلا بد له من الباطل قال علي ونحن نمثل من ذلك أمثله لتكون أبين للطالب فنقول وبالله تعالى التوفيق إن ذلك مثل قوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} ومثل ذلك قوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} وقوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} وقوله تعالى {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بلله ورسوله وتلك حدود لله وللكافرين عذاب أليم} وقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وقوله تعالى {للذين يؤلون من نسآئهم تربص أربعة أشهر فإن فآءوا فإن لله غفور رحيم} وقوله تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} وقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها وما من صاحب بقر لا يؤدي حقها وما من صاحب فضة أو ذهب لا يؤدي حقها إلا فعل به يوم القيامة كذا وكذا وجاء النص بإيجاب النفقة على الزوجات وذوي الرحم وملك اليمين فأما قوله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} فإنه حكم في مشركين قد أمرنا بقتلهم وأخذ أموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم وأوجب كل ذلك علينا وصح بالنص إيجاب دينار على الواحد منهم فصح أن من بذل منهم أقل من دينار لم يجز حقن دمائهم بذلك فكان الدينار أقل ما قال قائلون إنه جزية يلزم قبولها بالنص وليس في أكثر من ذلك حد ووقف عنده فيقول القائل هو أكثر ما قيل فلو لم يكن ههنا حد يوقف عنده لما وقع عقد ذمته أبدا لأنهم كانوا يكونون إنما بذلوا شيئا طلب منهم أكثر وهذا لا نهاية له وليس من حد حدا بأولى ممن حد حدا آخر فهذا لا ينضبط أبدا فصح أن الحد الأول هو الواجب أخذه وهو الدينار إذا بذلوه ولم يطيقوا أكثر منه وليس في النص لأخذ أكثر من الدينار ممن أطاقه وبالله تعالى التوفيق وأما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 زكاة البقر فقد قدمنا ذكر خبر معاذ رضي الله عنه وأن مسروقا أدركه وحضر حكمه وشاهده هذا ما لا شك فيه ولم يكن أخذ زكاة البقر من عمل معاذ نادرا ولا خفيا بل كان فاشيا ظاهرا معلنا مرددا كل عام كثيرا فهذا غاية صحة النقل الموجب للعلم والعمل وكذلك عمله ونقله في الجزية فصح أن زكاة البقر والجزية مسندان صحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق معاذ وأما عدد الجزية ومقدارها فقد ذكرناه آنفا فهو اللازم إلا أن يتفقوا معنا باختيارهم على أكثر أو يتملكوا دون عهد فيلزموا ما يطيقون ويحرم بذلك دماؤهم وسبيهم وأما الصغار عليهم فإن النص قد ورد بإلزامه إياهم فكل ما وقع عليه اسم صغار فنحن نأتيه فيهم إلا ما منعنا منه نص أو إجماع فقط ولذلك أبحنا دماءهم إن ركبوا فرسا أو حملوا سلاحا أو تكنوا بكنى المسلمين أو تشبهوا بهم أو سبوا مسلما أو أهانوه أو خالفوا شيئا من الشروط التي قد جمعناها في كتاب ذي القواعد لأنه عموم واجب أخذه كله وحمله على كل ما اقتضاه اسمه وهذا بخلاف ما جاء عن المسلمين فإن المسلمين قد جاء النص فيهم بتحريم دمائهم وأموالهم وأعراضهم والإضرار بهم وأوجب الله علينا كرامة كل مسلم بنهينا عن التحاسد والتنازع وأن يحقر أحدنا أخاه المسلم وأمرنا بالتراحم والتعاطف وهذا بخلاف ما أمرنا به في المشركين فلا يحل من مال مسلم ولا من عرضه ولا من دمه ولا من أذاه إلا ما صح بإيجابه فلذلك قلنا في الدية المأخوذة من المسلمين بأقل ما قيل ولما صح تحريم أموال أهل الذمة بالجزية المتفق على قبولها وجب أيضا ألا نحكم عليهم بعد تيقنا تحريم دمائهم وأموالهم وسبيهم إلا بأقل ما قيل عليهم واستصحابا للحال التي قد تيقنا وجوبها علينا فيهم وإنما حرم بعد الجزية مال الذمي استصحابا للحال التي قد تيقنا وجوبها عليهم فيها فلذلك لم نقل أيضا في الدية المأخوذة منهم في قتل بعضهم بعضا إلا بأقل ما قيل وذلك ثلثا عشر دية المسلم إما ثمانمائة درهم وإما ستة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 أبعرة وثلثا بعير ما لم ينقضوا ذمتهم فيعودوا بنقضها إلى ما كانوا عليه قبل الذمة بالإجماع والنص وبالله التوفيق وأما قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} فقد بين ذلك نص عن النبي صلى الله عليه وسلم جلي وأما قوله تعالى {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتمآسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بلله ورسوله وتلك حدود لله وللكافرين عذاب أليم} فإننا صرنا في تفسير مقدار هذا الإطعام إلى نص ورد في الواطىء خاصة وصرنا في كفارة الظهار إلى أقل ما قيل في ذلك وهو موافق للنص الوارد في كفارة الواطىء وأما قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} فإننا صرنا في ذلك إلى بيان نصوص وردت في ذلك وتركنا ما لم يأت فيه نص من الأموال فلم نأخذ منه شيئا لما ذكرنا من تحريم أخذ مال مسلم بغير طيب نفسه فحرم أن يؤخذ من مال مسلم شيء أصلا إلا بنص بين جلي أو إجماع لأن قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} هو مستثنى من جملة تحريم أموالهم فلا يخرج من ذلك النص الأكثر الأعم إلا ما بينه نص أو إجماع وأما قوله تعالى {لا جناح عليكم إن طلقتم لنسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على لموسع قدره وعلى لمقتر قدره متاعا بلمعروف حقا على لمحسنين} فإنما نأخذ في مقدار متعة المطلقة بما أوجبه البرهان قبل استصحابا لما قلنا من تحريم مال المسلم جملة وأما قوله {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} فإنا لا نجبر السيد على قبول أقل من قيمة المكاتب ولا نجبر المكاتب على أكثر مما يطيق لإجماع القائلين بإيجاب ذلك وهم أهل الحق على إيجاب المقدار الذي ذكرناه وأما قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} فإنا صرنا في ذلك إلى مقتضى ظاهر الآية على ما بيناه في كتابنا في المسائل لأن الأصل ما قد ذكرنا من تحريم مال المسلم جملة ومن أنه لا يحل لأحد أن يفرض شريعة على أحد لا من صيام ولا من غيره إلا ما أوجبه نص وأما قوله عليه السلام ما من صاحب إبل وما من صاحب غنم وما من صاحب بقر وما من صاحب ذهب فإنا صرنا في بيان مقدار الإبل والغنم والبقر المأخوذ منها ومقدار الحق المأخوذ منها إلى نصوص واردة في ذلك مبينة بيانا جليا ولذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 أوجبنا حلبها يوما وردها فرضا وأما الذهب فإنه لا نص في مقدار ما يؤخذ منه الحق منها ولا في مقدار الحق المأخوذ منها فصرنا في ذلك إلى الإجماع ضرورة وقد قدمنا أنه لا يحل من مال مسلم إلا ما أوجبه نص أو إجماع فلم نوجب في الذهب إلا أقل ما قيل فلم نأخذ أقل من أربعين دينارا من ذهب ولا من الزيادة حتى يبلغ أربعين دينارا أبدا بخلاف الفضة لأن الفضة ورد فيها نص فوجب حمله على عمومه بخلاف الذهب الذي لم يرد في مقدار ما يؤخذ منه نص يصح البتة وبالله تعالى التوفيق وأما حلي الذهب فإنه قد أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في الذهب قبل أن يصاغ حليا إذا بلغ المقدار الذي ذكرنا ثم اختلفوا في سقوطها إذا صيغ فاستصحبنا الحال الذي أجمعنا عليها ولم نسقط الاختلاف ما قد وجب باليقين والإجماع وأما النفقات الواجبات فقد أوجبها تعالى بالمعروف وأمرنا بالإحسان في ذلك وهذا يقتضي الشبع والسكن والكفاية وستر العورة بما لا يكون شهرة ولا مثلة فقد رأينا في هذا كله وجه العمل الذي من حفظه ووقف عليه كفي تعبا عظيما ولاح له الحق دون تخطيط ولا إشكال بحول الله وقوته قال علي وأما إذا ورد لفظ لغوي فواجب أن يحمل على عمومه وعلى كل ما يقع في اللغة تحته وواجب ألا ندخل فيه ما لا يفيده لفظه مثل قوله تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} فالخير في اللغة يقع على الصلاح في الدين وعلى المال فلا يجوز أن نخص بهذا النص بعض ما يقع عليه دون بعض إلا بنص فلما قال تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} } ولم يقل معهم ولا قال تعالى عندهم أنه إنما أراد الدين فقط فلذلك قلنا إنه لا يجوز مكاتبة كافر لأنه لا خير فيه البتة وأما المسلم فقوله لا إله إلا الله محمد رسول الله خير كثير ففيه خير على كل حال ولم يقل تعالى خير وبعض الخير خير وبالله تعالى التوفيق ومن ذلك قوله عليه السلام ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة فوجب حمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 دون على كل ما يقتضيه من أقل ومن غير فسقت بذلك الزكاة عن الخضراوات كلها والقطاني والفاكهة وسائر الثمار كلها لأنها غير الحب والتمر ووجب حمل الحب على ما يقع عليه في اللغة لا يقع على القمح والشعير فقط ذكر ذلك الكسائي وغيره من ثقات أهل اللغة في علمهم ودينهم ومثل ما جاء أنه عليه السلام كان يجعل فضل المال في الكراع والسلاح فوجب وضعه في كل ما يسمى كراعا وسلاحا ولذلك لم يجز تحبيس شيء من الأموال إلا ما جاء فيه نص لأنه شرع شريعة فلا يحل الحكم بها إلا بنص وأجزنا أن يحبس المرء على نفسه لأنه داخل في عموم قوله عليه السلام إن شئت حبست الأصل وتصدقت بالثمرة فجائز للمرء أن يتصدق على نفسه وعلى غيره لأنه كله تصدق وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله ابدأ بنفسك فتصدق عليها قال أبو محمد وذكر بعض أهل الكلام في هذا الباب حديثا رواه أبو عبيد في غريب الحديث وهو أمره عليه السلام قوما من جهينة بإدفاء رجل كان أصابه البرد والإدفاء في لغتهم القتل فقتلوه قال علي وهذا حديث مكذوب لا يصح البتة بل نحن على يقين من كذب مفتري لأنه عليه السلام أفصح العرب وأعرفهم في لغتهم ومأمور بالبيان وليس من البيان أن يأمرهم بكلام يقتضي عندهم غير مراده صلى الله عليه وسلم ولا حجة لهم في قصة عدي في الخيطين لأن عديا من قبله أتى سوء الفهم وقد كان لعدي في قوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} كفاية في أن المراد خيط الفجر من خيط الليل وقد كان نزل بعد {دد وقد فعل فعل عدي سائر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل اللغة وأصابوا في ذلك حتى نزل {لل وانتقلوا عن الظاهر الأول إلى الظاهر النازل بعده وهذا هو الذي لا يجوز لأحد تعديه وبالله تعالى التوفيق وهو الموفق للصواب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 الباب الرابع عشر في أقل الجمع قال علي اختلف الناس في أقل الجمع فقالت طائفة أقل الجمع اثنان فصاعدا وهو قول جمهور أصحابنا وقالت طائفة أقل الجمع ثلاثة وهو قول الشافعي وبه نأخذ واحتج أصحابنا لقولهم بأن قالوا الجمع في اللغة ضم شيء إلى شيء آخر فلما ضم الواحد إلى الواحد كان ذلك جمعا صحيحا قال علي هذا خطأ ولا حجة فيه لأنه يلزمهم على ذلك أن يكون الجسم الواحد مخبرا عنه بالخبر عن الجمع واقعا عليه اسم الجمع لأنه جمع جزء إلى جزء وعضو إلى عضو وليس المراد باسم الجمع الذي اختلفنا فيه هذا المعنى من معاني الضم وإنما المقصود به ما عدا الإفراد والتثنية وليس ذلك إلا ثلاثة أشخاص متغايرة فصاعدا بلا خلاف من أهل اللغة وحفاظ ألفاظها وضباط إعرابها واحتجوا أيضا بأن قالوا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة قال علي لا حجة لهم فيه لأنه حديث لم يصح حدثني أحمد بن عمر بن أنس بن عبد الله بن حسين بن عقال ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا محمد بن أحمد بن الجهم ثنا بشير بن موسى ثنا يحيى بن إسحاق ثنا عليلة بن بدر هو الربيع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 بن بدر عن أبيه عن جده عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة وبه إلى ابن الجهم قال ثنا عبد الكريم بن الهيثم حدثنا أبو توبة ثنا مسلمة بن علي عن يحيى بن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اثنان فما فوقهما جماعة وقال أبو محمد رحمه الله عليلة ساقط بإجماع وأبوه مجهول ومسلمة بن علي ضعيف بلا خلاف وكذلك القاسم عن أبي أمامة فسقط الحديثان وإنما المعتمد عليه في حكم الصلاة قوله عليه السلام لمالك بن الحويرث وابن عمه فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وبإمامته في النافلة صلى الله عليه وسلم ابن عباس وحده واحتجوا أيضا بأن قالوا خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الكثير عن أنفسهم ولا فرق فيقول الاثنان فعلنا وصنعنا كما يقول الجماعة سواء بسواء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 قال علي لا حجة لهم في ذلك في إيجابهم بهذا أن يكون الخبر عن الاثنين كالخبر عن الجماعة لأن ذلك قياس والقياس فاسد وأيضا فإن الخبر عن الاثنين بخلاف الخبر عن الجماعة فنقول عن الاثنين فعلا وعن الجماعة فعلوا وأيضا فإن المرأتين تخبران عن أنفسهما كما يخبر الرجلان عن أنفسهما فتقول المرأتان فعلنا وصنعنا وليس ذلك بموجب أن يخبر عنهما كما يخبر عن الرجلين فيقال فعلا بمنزلة فعلنا ولا يجوز في اللغة قياس بإجماع عن أهلها وإنما هي مسموعة والضمائر مختلفة عن الغائب والحاضر والمخبر عن نفسه والتثنية والجمع والمؤنث والمذكر وقد تتفق الضمائر أيضا في مواضع فليس اتفاقها فيها بموجب لاتفاقها في كل موضع ولا اختلافها في بعض المواضع بموجب اختلافها في كل موضع بل كل ذلك مأخوذ عن أهل اللغة كما سمعوه عن العرب وقد يخبر الواحد عن نفسه كما يخبر الاثنان وكما يخبر الجماعة فيقول فعلنا وصنعنا ونفعل ونصنع ونحن نقول وهذا عندنا وليس ذلك بموجب أن يكون الواحد جمعا فبطل احتجاجهم بأن خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الجمع وهو حجة في كون الاثنين جمعا واحتجوا أيضا بقوله تعالى {إن تتوبآ إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} وإنما كان لهما قلبان قال علي ولا حجة لهم في هذا لأن هذا باب محفوظ في الجوارح خاصة وقد نقل النحويون هذا الباب وقالوا إن كل اثنين من اثنين فإنه يخبر عنهما كما يخبر عن الجمع كأن العرب عدت الشيئين المخبر عنهما ثم أضافتهما إلى الشيئين اللذين هما منهما فصارت أربعة فصح الجمع وأنشدوا في ذلك ومهمهين فدفدين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين وهذا باب لا يتعدى فيه مسموعه من العرب فقط ولا يجوز أن يقاس عليه واحتجوا أيضا بقوله عز وجل {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن الضمير في حكم العربية أن يكون راجعا إلى أقرب مذكور إليه وأقرب مذكور إلى الضمير قوله تعالى {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} فالقوم وداود وسليمان جماعة بلا شك فكأنه تعالى قال وكنا لحكم القوم في ذلك أي للحكم عليهم كما تقول هذا حكم أمر كذا أي الحكم فيه وعليه واحتجوا أيضا بقوله تعالى {وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط} وبين تعالى أنهما اثنان بقوله {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب} ويقول أحدهما {إن هذآ أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب} قال علي لا حجة لهم فيه لأن الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة وقوعا مستويا وكذلك الزور على الزائر الواحد والاثنين والجماعة وكذلك الإلب والحرب تقول هو إلب علي وهو حرب علي وهما حرب علي وإلب علي وهم حرب علي وإلب علي فلا يسوغ لأحد أن يقول إن المتسورين على داود صلى الله عليه وسلم كانا اثنين دون أن يقول بل كانوا جماعة وقد قال ذلك بعض المفسرين وقال تعالى {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم} وإنما نزلت في ستة نفر علي وحمزة وعبيد بن الحارث رضي الله عنهم وفي عتبة وشيبة والوليد بن عتبة إذ تبارزوا يوم بدر وقد أخبر تعالى في آخر الآية بما يبين أنهم جماعة يقول تعالى {هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم} إلى منتهى قوله {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن محمد بن عيسى عن إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم بن الحجاج ثنا عمرو بن زرارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 ثنا هشام عن أبي هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد قال سمعت أبا ذر يقسم قسما {إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة رضي الله عنهم وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة وإذا لم يأت نص بين في أن الخصمين المختصمين إلى داود صلى الله عليه وسلم كان إذ تسورا اثنين فقط لا ثالث لهما فليس لأحد أن يحتج بذلك في إبطال ما قد صح في اللغة ولا في إثبات أمر لم يثبت بعد واحتجوا أيضا بقوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم} قال علي ولا حجة لهم في ذلك وليس كما ظنوا بل هذا جمع صحيح لأن لكل واحد من السارقين يدان فهي أربع أيد بيقين وقطع يدي السارق جميعا واجب يدا بعد يد إذا سرق سرقة بعد سرقة بنص القرآن واحتجوا أيضا بقوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نسآء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بهآ أو دين آبآؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} قال علي وهذا عليهم لا لهم أنه لا يجوز أن تحط الأم عن الثلث إلى السدس عندنا إلا بثلاثة من الإخوة لا باثنين وقولنا في ذلك هو قول ابن عباس وهو في اللغة بحيث لا يجهل محله إلا جاهل وإنما حكم من حكم برد الأم إلى السدس باثنين من الإخوة إما بقياس وإما بتقليد وكل ذلك فاسد فإن قيل قد قال بذلك عثمان قيل له قد خالفه ابن عباس وأنكر عليه ذلك وبين عليه أن اللغة خلاف ما يحكم به فلم يقدر عثمان على إنكار ذلك ولم نرد على أن قال لا أقدر أن أرد ما قد توارث به الناس واحتجوا بقوله تعالى حاكيا عن يعقوب عليه السلام في قوله {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم} قالوا وإنما كان يوسف وأخاه قال علي هذا خطأ بل ما كانوا إلا ثلاثة يوسف وأخاه الذي حبس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 من أجل الصواع الذي وجد في رحله والأخ الكبير الذي قال {فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين * ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يأبانا إن ابنك سرق وما شهدنآ إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين} فلما فقد يعقوب ثلاثة من بنيه تمنى رجوعهم كلهم واحتجوا أيضا بقوله تعالى {وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} والطائفة تقع على الواحد وعلى الاثنين وعلى الأكثر فأخبر تعالى عن الطائفتين مرة بلفظ الجمع بقوله {وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} ومرة بلفظ الاثنين {وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فآءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} وقال تعالى في الآية التالية لها {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} فأمر بالإصلاح بين الاثنين كما أمر بالإصلاح بين الجماعة قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأن الطائفة كما ذكروا تقع على الواحد والاثنين والأكثر فإذا أخبر عنهما بلفظ الجمع فالمراد بهما الجمع والمراد بالطائفتين في أول الآية المذكورة الكثير منهم ومعنى قوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} أي بين الجماعتين المقتتلتين ثم علمنا تعالى وجوب الإصلاح بين الاثنين كوجوبه بين الكثيرين بقوله تعالى {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون} وحمل الآية على ما نقول هو الذي لا يجوز غيره لأنه عموم لكيفية الإصلاح بين الكثير والقليل ولو كان ما ظن مخالفنا لما علمنا فيها الإصلاح بين الاثنين فقط وهذا خطأ واحتجوا بقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام {قال كلا فاذهبا بآياتنآ إنا معكم مستمعون} ولم يقل معكما قال علي وهذا لا حجة لهم فيه لأنهم ثلاثة بلا شك المرسلان وفرعون المكلم المرسل إليه فالمستمعون ثلاثة بيقين قال علي فإن قد بطل احتجاجهم بكل ما احتجوا به فلنقل في بيان صحة مذهبنا وبالله تعالى التوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 فنقول إن الألفاظ في اللغة إنما هي عبارات عن المعاني ولا خلاف بين القرب في أن الاثنين لهما صيغة في الإخبار عنهما غير الصيغة التي للثلاثة فصاعدا وإن للثلاثة فصاعدا إلى ما لا نهاية له من العدد صيغة غير صيغة الخبر عن الاثنين وهي صيغة الجمع ولا خلاف بين أحد من أهل اللسان في أنه لا يجوز أن يقال قام الزيدون وأنت تريد اثنين ولا جاءني الهندات وأنت تريد اثنتين وضمير الغائب موضوع بلا خلاف بين أحد من أهل اللسان في موضع اسم الغائب ومبدل منه فلا يجوز أن يبدل ضمير الجماعة إلا من الجماعة ولا ضمير الاثنين إلا من الاثنين ولو كان ذلك لوقع الإشكال وارتفع البيان وكذلك المخاطبات لا يجوز البتة أن نقول لاثنين قمتم وقعدتم وإنما يقال قمتما وقعدتما ولا يقال لاثنين قمتن ولا يقال للنساء قمتما وإنما قال قمتن فصح ما قلنا بحكم ظاهر اللغة التي بها نزل القرآن وبها تكلم النبي صلى الله عليه وسلم وإلى مفهومها نرجع في أحكام الديانة إلا ما نقلنا عنه نص جلي وبالله تعالى التوفيق وهذا ما لا يجوز خلافه والله الموفق للصواب فصل من الخطاب الوارد بلفظ الجمع قال علي وإذا ورد لفظ بصورة جمع وقدر على استيعابه فلا بد من استيعابه ضرورة وإلا فقد صحت المعصية وخلاف الأمر فإن لم يقدر على ذلك ولم يكن إلى استيعابه سبيل فللناس قولان أحدهما أنه واجب أن يؤدي من ذلك ما أمكن وما انتهى إليه الوسع ولا يسقط عنه إلا ما عجز عنه أو ما قام نص أو إجماع بسقوطه وبهذا نأخذ وقالت طائفة لا يلزم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 من ذلك إلا أقل ما يقع عليه اسم ذلك الجمع وهو ثلاثة فصاعدا وما زاد على ذلك فليس فرضا قال علي والحجة للقول الأول هي حجتنا على القائلين بالخصوص أو الوقف وقد لزم عموم ذلك الجمع بيقين فلا يسقط بشك ولا بدعوى فأما ما عجز عنه فساقط وأما ما لم يعجز عنه فباق على وجوب الطاعة له ويبين ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم قال علي فمن ذلك قول الله عز وجل {إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} الآية وقوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين} فنقول إن الإمام القادر على استيعاب جميع مساكين المسلمين وفقرائهم وغازيتهم وسائر الأصناف المسماة ففرض عليه استيعابهم وأما من عجز عن ذلك فمن دونه فقد أجمعت الأمة بلا خلاف على أن له أن يقتصر على بعض دون بعض ودل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود إذ سألته أيجزي عني أن أتصدق على زوجي وولدي منه من الصدقة فقال عليه السلام نعم قال علي فبهذه النصوص صرنا إلى هذا الحكم والاستيعاب والعموم معناهما واحد وهذا كله من باب استعمال الظاهر والوجوب وقد رام قوم أن يفرقوا بين الاستيعاب والعموم وهذا خطأ ولا يقدرون على ذلك أبدا وقال هؤلاء القوم العموم لبعض ما يقع عليه الاسم عموم ذلك الجزء الذي عم به قال علي فيقال لهم وكذلك الاستيعاب لبعض ما يقع عليه الاسم استيعاب لذلك الجزء الذي استوعب به ولا فرق قال علي والجمع بلفظ المعرفة والنكرة سواء في اقتضاء الاستيعاب كقوله تعالى {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} فهذا عموم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 لكل قوم لا يؤمنون وهو بلفظ النكرة كما ترى وقد ظن قوم أن الجمع إذا جاء بلفظ النكرة فإنه لا يوجب العموم فقالوا قولك جاء رجال لا يفهم منه العموم كما يفهم من قولك جاء الرجال قال علي وهذا ظن فاسد لا دليل عليه وإنما هو ألفه لما وقع في أنفسهم في عادات سواء استعملوها في تخاطبهم وبخلاف معهود اللغة في الحقيقة وقد أبطلنا ذلك بالآية التي ذكرنا آنفا وبالله تعالى التوفيق الباب الخامس عشر في الاستثناء قال علي قد بينا في باب الأخبار وفي باب العموم والخصوص كيفية الاستثناء ونحن الآن متكلمون إن شاء الله عز وجل بتأييده لنا في ماهية الاستثناء وأنواعه فنقول وبالله تعالى التوفيق إن الاستثناء هو تخصيص بعض الشيء من جملته أو إخراج شيء ما مما أدخلت فيه شيء آخر إلا أن النحويين اعتادوا أن يسموا بالاستثناء ما كان من ذلك بلفظ حاشا وخلا وإلا وما لم يكن وما عدا وما سوى وأن يجعلوا ما كان خبرا من خبر كقولك اقتل القوم ودع زيدا مسمى باسم التخصيص لا استثناء وهما في الحقيقة سواء على ما قدمنا قال علي واختلفوا في نحو من أنحاء الاستثناء فقالت طائفة لا يجوز أن يستثنى الشيء من غير جنسه أو نوعه المخبر عنه وقالت طائفة جائز أن يستثنى الشيء من غير جنس أو المخبر عنه وبكلا هذين القولين قالت طوائف من أصحابنا الظاهرين ومن إخواننا القياسيين قال علي ونحن نقول إن استثناء الشيء من غير جنسه ونوعه المخبر عنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 جائز واسمه في العربية عند النحويين الاستثناء المنقطع وهو حينئذ ابتداء خبر آخر كقائل قال أتاني المسلمون إلا اليهود فهذا جائز كأنه قال إلا اليهود فإنهم لم يأتوني وهذا لا ينكره نحوي ولا لغوي أصلا إذا كان على الوجه الذي ذكرناه قال علي والبرهان القاطع في ذلك قوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس ستكبر وكان من لكافرين} وقال تعالى {وإذا قلنا للملائكة سجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من لجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أوليآء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا} فلم يدع تعالى للشك ههنا مجالا إلا بينه وأخبر أن إبليس كان من الجن وقد حمل التهور قوما راموا نصر مذهبهم ههنا فقالوا إن الملائكة يسمون جنا لاجتنانهم قال علي وهذا قول فاحش من وجوه أحدها وأوضحها قول الله عز وجل إذ سأل الملائكة {ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} فقالت الملائكة {قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون لجن أكثرهم بهم مؤمنون} ففرق تعالى بين الملائكة والجن فرقا كما ترى والوجه الثاني إخباره عليه السلام إن الملائكة خلقت من نور والجن خلقت من نار ففرق بين النوعين فرقا من خالفه كفر حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم والثالث إجماع الأمة على أن من سمى جبريل أو ميكائيل جنيا فقد كفر فقد ظهر بطلان هذا القول الفاسد وكان أقصى ما احتج له القائلون به أن قالوا الاجتنان هو الاستتار ومن ذلك يسمى المجن مجنا والجنة جنة فالملائكة والجن مستترون عنا فهم جن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 قال علي وهذا هذيان لبعض أهل اللغة وفي كل قوم جنون فلو أن عاكسا عكس عليهم فقال ما اشتق الاجتنان الذي هو الاستتار إلا من الجن بماذا كانوا ينفصلون وأيضا فيقال لهم حتى لو صح قولكم إن الجن اشتقوا من الاجتنان فمن أي شيء اشتق الاجتنان فإن جروا هكذا إلى غير غاية وهذا يوجب أشياء موجودات لا أوائل لها ولا نهاية لعددها وهذا محال ممتنع وموافقة أهل الكفر وإن قالوا ليس للفظ الذي اشتق منه اشتقاق قيل لهم فما الذي جعل تلك اللفظة بأن تكون مبتدأة أولى من هذه الثانية وقد سقط في هذا كبار النحويين منهم أبو جعفر النحاس فإنه ألف كتابا في اشتقاق أسماء الله عز وجل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا يلزمهم القول بحدوث أسماء الله عز وجل لأن كل شيء مشتق فهو مأخوذ مما اشتق منه وكل مأخوذ فقد كان قبل أن يوجد غير مأخوذ فقد كانت الأسماء على أصلهم غير موجودة والكلام ههنا يطول ويتشعب ويخرجنا عن غرض كتابنا وأسماء الله عز وجل إنما هي أسماء أعلام كقولك زيد وعمرو والمراد بها الله تعالى الذي لم يزل وحده لا شريك له ولا يزال خالق كل شيء لا إله إلا هو رب العرش العظيم وأما الأصوات المسموعة المعبر بها فمخلوقة لم تكن ثم كانت ومنهم أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي فإنه قال في نوادره العشقة نبت يخضر ثم يصفر ثم يهيج ومنه سمي العاشق عاشقا أو ما علم هذا الرجل أن كل نبت في الأرض فهذه صفته فهلا يسمى العاشق باقلا مشتقا من البقل الذي يخضر ثم يصفر ثم يهيج فإن ركب هذا الطريق اتسع له جدا وأخرجه ذلك إلى بعض خرق من أدركناه من أهل الجنون وأدخله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 في باب المضاحك والمطايب والمجون والذي نعتقد ونقول ونقطع على صحته أن الاشتقاق كله باطل حاشا أسماء الفاعلين من أفعالهم فقط وأسماء الموصوفين المأخوذة من صفاتهم الجسمانية والنفسانية وهذا أيضا لا ندري هل أخذت الأسماء من الصفات أو أخذت الصفات من الأسماء إلا أننا نوقن أن أحدهما أخذ من صاحبه مثل ضارب من الضرب ومثل آكل من الأكل ومثل أبيض من البياض وغضبان من الغضب وما أشبه ذلك وأما سائر الأسماء الواقعة على الأجناس والأنواع كلها فلا اشتقاق لها أصلا وليس بعضها قبل بعض بل كلها معا وقد كنت أجري في هذا مع شيخنا أبي عبده حسان بن مالك رحمه الله وكان أذكر من لقينا للغة مع شدة عنايته بها وثقته وتحريه في نقلها فكان يقول لي قد قال بهذا الذي تذهب إليه كثير من أهل اللغة قديم وسماه لي وشككت الآن في اسمه لبعد العهد وأظن أنه نفطويه وكيف يسوغ لذي عقل أن يسمي الملائكة جنا وهو يسمع قول الله عز وجل {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق لقول مني لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} وما علمنا مسلما يقول إن أحدا من الملائكة يدخل جهنم وقد قال تعالى {قل أعوذ برب لناس * ملك لناس * إله لناس * من شر لوسواس لخناس * لذى يوسوس في صدور لناس * من لجنة ولناس} أفتراه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ من شر الملائكة هذا ما لا يظنه ذو عقل وقد اعترض على بعض من كلمني في هذا المعنى بقوله تعالى {وجعلوا بينه وبين لجنة نسبا ولقد علمت لجنة إنهم لمحضرون} وقال إنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الرحمن قال علي وهذا ليس بشي لأنه قد روي عن ابن عباس أن قريشا كانت تقول سروات الجن هم بنات الرحمن فإنما عنى تعالى الجن على الحقيقة في هذا المكان لا الملائكة ونسأل من ذهب إلى هذا أيجوز أن يقول قائل والجن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 حافون من حول العرش وهذا ما لا يجيزه مسلم وقد أخبر تعالى أن الجن عن السمع لمعزولون ودون السماء بالشهب مقذوفون وأن الملائكة بخلاف ذلك ويلزم من سمى الجن جنا من أجل اجتنانهم أن يسمي دماغه جنيا ويسمي مصيره جنيا لأن كل ذلك مجتن وقد اعترض بعضهم بأن إبليس دخل مع الملائكة في الأمر بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم قال علي وهذا باطل لأن الله تعالى أخبر أنه كان من الجن ولا تدخل الجن مع الملائكة فيما خصت به الملائكة فلا بد أنه تعالى أمر إبليس أيضا بالسجود وقد جاء النص بذلك فقال تعالى {قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من لعالين} فقد أيقنا أن الله تعالى أمره بالسجود كما أمر الملائكة فقد وجدنا الله تعالى استثنى إبليس من غير نوعه فلا مجال للشك في هذا المعنى بعد هذا ووجدناه تعالى قد قال أيضا {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} أي لكن خطأ وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن لله كان بكم رحيما} وقال تعالى {لا يذوقون فيها لموت إلا لموتة لأولى ووقاهم عذاب لجحيم} فاستثنى عز وجل الموتة الأولى وليست الموتة فيما يذاق أصلا في الجنة واستثنى تعالى التجارة وهي حق من الباطل واستثنى تعالى الخطأ من القتل المحرم وليس المخطىء قاتلا من العمد الحرم واستثنى تعالى القول الطيب سلاما سلاما من قول الإثم ومن هذا الباب لا إله إلا الله واستثنى الله تعالى من جملة الآلهة التي عبدها من سوانا وليس تعالى من جنسها ولا نوعها ولا له عز وجل نوع ولا جنس أصلا وقد قال تعالى {وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا بتغآء وجه ربه لأعلى} وقال النابغة الذبياني ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب فاستثنى الفخر من المعائب وقال أيضا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد فاستثنى الأثافي والنؤى من الأحدين وقال آخر وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وقال تعالى {ولئن شئنا لنذهبن بلذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا * إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا} فاستثنى عز وجل رحمته من الوكيل عليه الذي لا سبيل إليه فأي شيء قاله من أبى استثناء الشيء من غير جنسه في هذه الآيات وفي هذه الآي فهو قولنا وهو أنه استثناء منقطع وعطف خبر على خبر بمعنى لكن أو حتى وقد صح بلا ضرورة أن يخبر بخبر إيجاب عن واحد وبخبر نفي عن آخر ولا فرق بين أن يرد أحد الخبرين على الآخر بحرف العطف وبين أن يرد بحرف الاستثناء وقد جاء كل ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فصل من الاستثناء قال علي واختلفوا في نوع من أنواع الاستثناء وهو أن يستثنى من الجملة أكثرها ويبقى الأقل فأجازه قوم وهو قول جميع أصحابنا أهل الظاهر وبه نأخذ وبه قال جمهور الشافعيين وأباه قوم وهو قول جمهور المالكيين ولا نعلم لهؤلاء القوم حجة أصلا في المنع من ذلك إلا أن يقول بعضهم إنكم قد وافقتمونا على جواز استثناء ولا نوافقكم على جواز استثناء الأكثر قال علي وهذه حجة إنما تصح فيما لا نص فيه أو فيما لم يقم عليه برهان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 وأما كل ما قام فيه برهان عقلي أو شرعي فلا نبالي من وافقنا فيه ولا من خالفنا وقد قامت البراهين على جواز استثناء الأكثر من جملة لا يبقى منها بعد ذلك إلا الأقل قال الله عز وجل {قم لليل إلا قليلا * نصفه أو نقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل لقرآن ترتيلا} فأبدل تعالى النصف من القليل وهو بدل البيان ولم يختلف قط أحد أنه لم يفرض عليه قيام الليل كله وإنما فرض عليه القيام في الليل وهذا البدل يحل محل المبدل منه فالمفهوم أنه قال تعالى قم الليل إلا نصفه ثم زادنا الله تعالى فائدة عظيمة وهي أن النصف قليل بالإضافة إلى الكل قال علي فإن قال قائل كيف تحتجون بهذا وأنتم تقولون إن قيام أكثر من ثلث الليل لا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنه لا قيام فوق داود وكان يقوم ثلث الليل بعد أن ينام نصفه ثم ينام سدسه قيل له وبالله تعالى التوفيق معنى قوله تعالى {نصفه أو نقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل لقرآن ترتيلا} إنما هو والله أعلم إعلام بوقت القيام لا بمقدار القيام ليتفق معنى الآية والحديث فكل من عند الله تعالى وما كان من عنده تعالى فلا اختلاف فيه قال الله عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فصح أن معنى قوله تعالى {قم لليل إلا قليلا} قم في الليل إلا في قليل في نصفه وهكذا قوله تعالى {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي لليل ونصفه وثلثه وطآئفة من لذين معك ولله يقدر لليل ولنهار علم ألن تحصوه فتاب عليكم فقرءوا ما تيسر من لقرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في لأرض يبتغون من فضل لله وآخرون يقاتلون في سبيل لله فقرءوا ما تيسر منه وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وأقرضوا لله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند لله هو خيرا وأعظم أجرا وستغفروا لله إن لله غفور رحيم} إنما معناه في أدنى وقوله تعالى {كانوا قليلا من لليل ما يهجعون} مع نهيه على لسان نبيه عن قيام أكثر من ثلث الليل بيان أن الثلثين قبل الإضافة إلى الكل لأنهم كانوا يهجعون قليلا وهو الثلثان ويخرج أيضا على أن ما ههنا جحد محقق فيكون معناه كانوا ما يهجعون قليلا من الليل وهو الثلث فأقل فيكون هذا أيضا حسنا موافقا لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الثلث وكلا القولين متفق لأنه إذا هجع الثلثين وقام الثلث فإن الثلثين قليل بالإضافة إلى الكل والثلث أيضا كذلك وبالله تعالى التوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 فإن اعترض معترض بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث كثير قيل له صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث كثير بالإضافة إلى ما هو أقل منه وهكذا كل عدد من العالم فألف ألف كثيرا بالإضافة إلى عشرة آلاف وألف ألف قليل بالإضافة إلى عشرة آلاف ألف قال علي ونقدر أن الذي أقحم هؤلاء القوم في هذه الورطة تجويزهم للمحتبس استثناء أقل من الثلث ولم يجوزوا له استثناء الأكثر من ذلك فقادهم الخطأ إلى ما هو أشد خطأ منه وإن أولى الناس بالتقنع إذا ذكر هذا الحديث الذي اعترضوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلث كثير فالمالكيون لأنهم يجعلون الثلث كثيرا في الاستثناء من الحبس كما ذكرنا ثم يجعلونه في حكم المرأة ذات الزوج في مالها قليلا فيجوزون لها الثلث دون رأي زوجها ويمنعونها من أكثر من الثلث إلا برأيه ثم يجعلون الثلث كثيرا في الجائحة إذا أصابت من الثمرة ثلثها فصاعدا ويجعلون ما دون الثلث قليلا لا حكم له ثم يجعلون الثلث قليلا في استثناء البائع من حائطه المبيع أو زرعه المبيع مكيلة تبلغ الثلث فأقل ويجعلون ما زاد على الثلث في ذلك كثيرا ممنوعا ثم يجعلون الثلث كثيرا في الشاة تباع ويستثنى منها أرطال فمنعوا من ذلك إن كانت الأرطال مقدار الثلث وأجازوه إن كانت أقل من الثلث ثم يجعلون الثلث قليلا في الدار تكترى وفيها نخل لم يظهر بعد فيه ثمرة أو ظهرت ولم يبد صلاحها فأجازوا دخول تلك الثمرة في الكراء قالوا فإن كانت أكثر من الثلث لم يجز ذلك ويجعلون العشر قليلا وما زاد عليه كثيرا فيمن أمر آخر أن يشتري له جارية بثلاثين فاشترى له جارية بثلاثة وثلاثين قالوا هي لازمة للآمر فإن كان أكثر فهي غير لازمة للآمر وقد قالوا أيضا إن ما زاد على نصف العشر كثير فيمن أمر آخر أن يشتري له عبدا بمائة دينار فاشتراه له بمائة وخمسة دنانير أنه يلزمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 ولا يلزمه إن اشتراه بأكثر ومرة يجعلون النصف قليلا فيمن كان له عند آخر دينارا فصارفه في نصفه بدراهم فأخذ بالنصف الثاني طعاما أن ذلك جائز فإن صارفه بأكثر من النصف وأخذ بالباقي لم يجز ذلك لأنه كثير وقالوا من ابتاع سلعا فوجد بعضها فاسدة لا يجوز بيعها كشاة ميتة بين مذكيات ونحو ذلك فإن كان وجه الصفقة والذي يرجى فيه الربح فسخت الصفقة كلها وإن كان أقل من ذلك فسخ الحرام ونفذ العقد في الحلال وحدوا الكثير في ذلك بالسبعين من المائة فجعلوا ما دون الثلاثة الأرباع قليلا وجعلوا نقص النصف من الأذن والذنب مانعا من جواز التضحية ونرجح في الثلث فما فوقه إلى النصف ثم يجعلون الثلث قليلا في الحلي والسيف والمصحف يكون فيه فضة تقع في ذلك قيمته ما هي فيه فيجيزون بيعه كله أو بعضه أو يكون فيه ذهب يقع في ثلث قيمة ما هو فيه فيباع بالذهب قالوا فإن كان مقدار ذلك أكثر من الثلث مما هو فيه لم يجز بيعه إن كان فضة بفضة أصلا وإن كان ذهبا بذهب أصلا قالوا والسكين بخلاف الحلي والسيف المصحف في ذلك قال علي فمرة كما ترى يجعلونه الثلث قليلا ومرة يجعلونه كثيرا ومرة يجعلون النصف قليلا ومرة يجعلون ما زاد على العشر كثيرا تحكما بآرائهم الفاسدة بلا دليل وإن سماع هذه القضايا الفاسدة التي لم يأذن بها الله عز وجل لعبرة لمن اعتبر وآية لمن تفكر والعجب يتضاعف من قوم قبلوا ذلك ودانوا به كما ترى وتركوا له دلائل القرآن والسنة ونصوصهما وحسبنا الله ونعم الوكيل قال علي وقد جاء في نص القرآن استثناء الأكثر من جملة يبقى منها الأقل بعد ذلك فبطل كلام كل من خالفه قال الله عز وجل لإبليس {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من تبعك من لغاوين} وقد أخبر رسول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 الله صلى الله عليه وسلم أنا في الأمم التي تدخل النار كالشعرة السوداء في الثور الأبيض وأنه عليه السلام يرجو أن يكون نصف أهل الجنة وأن بعث أهل النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون للنار واحد إلى الجنة هذا حكم جميع ولد آدم عليه السلام ويكفي من ذلك قوله تعالى {ومآ أكثر لناس ولو حرصت بمؤمنين} فقد استثنى الغاوين من جملة الناس وهم أكثر الناس فاستثنى كما ترى ألفا غير واحد من ألف قال علي وأيضا فإن الاستثناء إنما هو إخراج للشيء المستثنى مما أخبر به المخبر عن الجملة المستثنى منها ولا فرق بين إخراجك من ذلك الأكثر وبين إخراجك الأقل وكل ذلك خبر يخبر به فالخبر جائز عن الأكثر كجوازه عن الأقل ولا يمنع من ذلك إلا وقاح معاند أو جاهل وأيضا فلا شك بضرورة التمييز أن عشرة آلاف أكثر من عشرة آلاف حاشا واحدا فإذا كان ذلك فعشرة آلاف غير واحد قليل بالإضافة إلى عشرة آلاف كاملة وإذا كان ذلك فاستثناء القليل من الكثير جائز لا تمانع فيه وأيضا فإنه لا فرق بين قول القائل ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين وبين قوله واحد ولا فرق بين قول القائل سبعمائة وثلاثمائة وبين قوله ألف وهذا كله من المتلائمات وهي ألفاظ مختلفة معناها واحد وإذا كان ذلك فلا فرق بين استثناء ثلاثمائة من ألف لأنها بعض الألف وبين استثناء تسعة وتسعمائة وتسعين من الألف أيضا لأنها بعض الألف ولا فرق فإن قال قائل إن ربك ألف غير تسعمائة وتسعة وتسعين إذا كان ذلك بمعنى واحد قيل له وبالله تعالى التوفيق لو عقلت معنى تسمية ربك تعالى لم تسمنا هذا ونحن لا يحل عندنا أن نقول إن الله تعالى فرد ولا أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 فذ ولا نقول إلا واحد وتر كما جاء النص فقط لأن كل ذلك تسمية ولا يحل تسمية الباري تعالى بغير ما سمى به نفسه ومن فعل ذلك فقد ألحد في أسمائه وهو تعالى ليس عددا وإنما يسمى ما دونه واحدا على المجاز وإلا فليس في العالم واحد أصلا لأن الواحد الذي لا يتكثر البتة وليس هذا في العالم البتة حاشا الله تعالى وحده وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل فأخر استثناء الجملة كلها قيل له هذا لا يجوز لأنه كان يتكون أحد الخبرين مبطلا للآخر ومكذبا له كله لأنه إذا قال أتاني إخوتك إلا إخوتك كأن قد قال إتاني إخوتك لم يأتني إخوتك وهذا تناقض وتكاذب وخلف من الكلام ومحال لا يجوز أصلا وليس هذا المحال موجودا في استثناء الأكثر من جملة يبقى منها الأقل ولا في استثناء الشيء من غير جنسه ألا ترى أنك إذا قلت أتاني إخوتك ولم يأتني بنو عمك وأتاني إخوتك ولم يأتوني كلهم لكن بعضهم فهذان الخبران صدق إذا صدق فيهما والإخبار بهما صحيح حسن فهذا فرق ما بين استثناء الجملة كلها وبين استثناء أكثرها واستثناء الشيء من غير جنسه وقد قال قائلون إن من لفظ بعموم في خبره فلا بد له أن يبقي إن استثنى من جنس تلك الجملة ما يقع عليه اسم عموم ولم يجوزوا أن يقول القائل أتاني إخوتك لم يأتني كلهم ولكن أتاني واحد منهم وقالوا إن الآتي ليس إخوة ولكنه أخ فلا يستثنى إلا بأن يبقى ثلاثة فصاعدا قال علي وهذا لا معنى له لأن ألف سنة ليس مطابقا لتسعمائة فإن قال هو مطابق لتسعمائة وخمسين قيل له ومجيء الأخ الواحد مطابق لعدم مجيء جميعهم حاشاه ولا فرق فإن قال قائل فإذا لا تجوزون استثناء الجملة كلها فكيف قلتم إن من قال لفلان عندي مائة دينار إلا عبدا قيمته مائة دينار أو قال لفلان عندي مائة دينار إلا مائة دينار إن هذا الإقرار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 لا يحكم عليه بشيء منه ولا يقضى لذلك لفلان عليه بشيء قيل له وبالله تعالى التوفيق وهذا موافق لأصلنا لأنه لما كان استثناء جميع الجملة محالا وكان الناطق بذلك ناطقا بمحال لا يجوز فكان كلامه ذلك باطلا وإقراره فاسدا والإقرار لا يجوز إلا صحيحا مجردا من كل ما يبطله فلذلك لم نحكم عليه بهذا الإقرار لأنه متناقض وقد وافقنا خصومنا في ذلك على أن رجلا لو قال بحضرة عدول إني زنيت الساعة أمامكم بامرأة كانت معنا وقتلت الساعة بحضرتكم رجلا مسلما حرام الدم بلا سبب وكذلك لو قال رفعت رجلا مسلما إلى السحاب ثم أرسلته فسقط في البحر فمات أو قال أخذت عصا موسى عليه السلام وطعنت بها رجلا فقتلته فإنه لا يؤخذ بشيء من ذلك ولا يحكم عليه إلا بالهوس والجنون ولا فرق بين ما ذكرنا وبين ما حكمنا نحن به من إسقاط كل إقرار فاسد متناقض يسقط آخره أوله ويبطله ولا فرق بين إسقاط بعض الجملة المقر بها الاستثناء وبين إسقاط جميعها بالتناقض أو بذكر البراء منها وبالله تعالى التوفيق فصل من الاستثناء قال علي وإذا وردت أشياء معطوفات بعضها على بعض ثم جاء الاستثناء في آخرها فإن لم يكن في الكلام نص بيان على أن ذلك الاستثناء مردود على بعضها دون بعض فواجب محله على أنه مردود على جميعها والبرهان على ذلك أنه ليس بعضها أولى بها من بعض فإن قال قائل فهلا قلتم إنه مردود عن أقربها منه لأن الألفاظ التي تقدمت قد حصلت على عمومها فواجب ألا ينتقل عنه إلا بنص أو إجماع فالجواب وبالله تعالى التوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 إن كل ألفاظ جمعت في حكم واحد فلم يكمل بعد أمرها حتى ينقضي الكلام فإذا جاء بعقبها استثناء فقد صح الاستثناء يقينا وإذا صح يقينا فقد حصل التخصيص بالنص وصار الاقتصار به على بعض ما قبله دون بعض دعوى مجردة لا دليل عليه فإن قال قائل فإن رده على أقرب ما يليه يقين ورده على كل ما قبله شك قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس شكا إذا قام الدليل على صحته بل هو يقين وأيضا فظاهر اللفظ رده على كل ما قبله وتخصيص الظاهر بلا دليل لا يجوز قال علي وكذلك نقول في آية القذف في قوله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون * إلا لذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن لله غفور رحيم} راجع إلى كل ما تقدم ومسقط للفسق عنهم وموجب لقبول شهادتهم فإن قال قائل فهلا أسقطتم به الحد قلنا منع من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لقاذف امرأته البينة وإلا فحد في ظهرك لأنه عليه السلام لم يسقط الحد إلا ببينة لا بالتوبة وقد حد حمله ومسطحا في قذفهم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ولا شك في توبتهم حين نزول الآية ببراءتها ولو لم يتوبوا لارتدوا وكفروا ولحلت دماؤهم فصح أنهم حدوا بعد يقين توبتهم وكذلك قلنا في قوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} فلولا بيان الاستثناء أنه مردود إلى الأهل فقط لسقطت به الرقبة ولكن لا حق للأهل في الرقبة ولا صدقة لهم فيها وقد قال تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وكذلك قلنا في قوله عز وجل {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} فهذا الاستثناء مردود على المخاطبين أنفسهم وهذا القليل عندنا مستثنى من الفضل والرحمة لا من اتباع الشيطان والآية على ظاهرها دون تكلف تأويل ومعناها أن الله رحمكم وتفضل عليكم حاشا قليلا منكم لم يرحمهم ولا تفضل عليهم وهم الكفار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 منكم والمنافقون الذين فيكم فلم تتبعوا الشيطان بفضل الله تعالى ورحمته وأما الذين لم يتفضل الله عليهم ولا رحمهم فاتبعوا الشيطان وهذا الذي قلنا هو العيان المشهود والنص المسموع فإن الأقل من المخاطبين الحاضرين مع الصحابة رضي الله عنهم كانوا منافقين خارجين عن الفضل والرحمة متبعين الشيطان فهم القليل المستثنون بقوله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} واستثنوا من جملة المتفضل عليهم والمرجومين والممتنعين بذلك من اتباع الشيطان فهو راجع على كل من ذكر في الآية وبالله تعالى التوفيق وللناس في هذه الآية أقوال فقوم قالوا هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} قال علي وهذا خطأ لأن رد الاستثناء إلى أبعد مذكور دعوى ساقطة فاسدة لم يقل بها قط أحد من النحويين وأهل اللغة الذين إليهم يرجع في مثل هذا وإنما الناس على قولين كما قدمنا قوم قالوا الاستثناء مردود إلى أقرب مذكور وقوم قالوا إلى الجملة كلها فإن وجد استثناء راجع إلى أبعد مذكور فلا يحمل غيره على حكمه لأنه بمنزلة ما خرج عن معهود أصله وكلفظ نقل عن موضوعه وقال بعضهم {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} راجع إلى قوله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} أي أذاعوا به إلا قليلا قال علي ويبطل قول هؤلاء بما بطل به قول من ذكرنا قبلهم ولا فرق وقال بعضهم فضل الله ورحمته المذكوران في الآية هما محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن أي لولاهما لكنتم كفارا متبعين الشيطان إلا قليلا ممن هديناه قبل ذلك كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة قال علي وهذا تأويل فاسد النية لأن زيدا وقسا لولا فضل الله ورحمته لهما لاتبعا الشيطان والاستثناء إنما هو مخرج لما استثنى من جملة ما استثنى منه فلا يجوز أن يكون هذا الاستثناء إلا من الفضل والرحمة والامتناع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 من اتباع الشيطان الذي ذكر كل ذلك في الآية وبالله تعالى التوفيق قال علي وحتى لو لم يجز في الاستثناء إلا رده إلى أقرب مذكور لما كان في ذلك ما يوجب ألا نقبل شهادة القاذف إذا تاب لأن الفسق مرتفع عنه بالتوبة بنص الآية بإجماع الأمة وإذا ارتفع الفسق ثبتت العدالة ضرورة لأنه ليس في العالم من المخاطبين إلا فاسق أو عدل وإذا ثبتت العدالة وجب قبول الشهادة لقوله تعالى {جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا رضى لله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه} فحرام علينا ألا نرضى عمن رضي الله عنه وإذا كان حراما علينا ففرضنا الرضا عنه وإذا كان الرضا عنه فرضا ففرض علينا قبول شهادته لأنه ممن نرضى من الشهداء بنص القرآن في إيجاب شهادة {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} فقد صح أن سقوط الفسق عنه موجب لقبول شهادته والعجب من أصحاب أبي حنيفة في تركهم ظاهر الآية وميلهم إلى رأيهم الفاسد فإن نص الآية إنما يوجب ألا تقبل شهادته بنص القذف وليس في ذلك أن شهادته لا تسقط إلا بعد أن يحد وقالوا هم إن شهادته لا تسقط إلا أن يحد فزادوا في رأيهم ما ليس في القرآن وخالفوا الآية في كل حال فقبلوا شهادته أفسق ما كان قبل أن يحد وردوها بعد أن ظهر الحد وقد أخبر عليه السلام في كثير من الحدود أن إقامتها كفارة لفاعليها وهم أهل القياس بزعمهم فهلا قاسوا المحدود في القذف على المحدود في السرقة والزنى وقد شاركهم المالكيون في بعض ذلك فردوا شهادة المحدود فيما حد فيه وأجازوها فيما لم يحد فيه وهذا كله افتراء على الله لم يأذن به وحكم في الدين بغير نص وبالله تعالى التوفيق قال علي وكذلك قوله عز وجل {ولذين لا يدعون مع لله إلها آخر ولا يقتلون لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له لعذاب يوم لقيامة ويخلد فيه مهانا * إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل لله سيئاتهم حسنات وكان لله غفورا رحيما} إلى قوله تعالى فإن الاستثناء الذي في آخرها راجع بإجماع إلى كل ما تقدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 قال علي والاشتراط هو معنى الاستثناء في كل ما قلنا من ذلك قوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} فهذا كما تراه استثناء صحيح لمن خشي العنت مع كل ما تقدم من الشروط دون ذكر من لم يخش العنت وكذلك قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} في كفارات الأيمان فكان هذا الشرط عن عدم كل مذكور في الآية من رقبة وكسوة وإطعام لا على أقرب مذكور فيها وكذلك قوله تعالى في آية المحاربة {إلا لذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فعلموا أن لله غفور رحيم} فكان ذلك راجعا على سقوط كل ما ذكر في الآية من قتل وصلب ونفي وقطع وخزي وعذاب لا على بعض ذلك دون بعض بإجماع فإن اعترض معترض بقوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وأننا نقول إنه راجع إلى أقرب مذكور قال علي وإنما وجب ذلك لضرورة بينة في تلك الآية فإنه لا يجوز البتة في نصها أن يرد الشرط على كل مذكور فيها لأنه تعالى قال {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} فكان ذكر الدخول من صلة وصف النساء اللواتي هن أمهات الربائب لا بوصف أمهات النساء إذ من المحال الممتنع أن يقول تعالى وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لأنه كلام فاسد البتة لا يفهم فلما صح أن الدخول المذكور إنما هو مراد به أمهات ربائبنا ضرورة لأنه من صلة اللاتي واللاتي صفة للنساء اللواتي هن أمهات ربائبنا ضرورة كان قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} مردودا إليهن ضرورة أيضا لأنه أحد قسميهن اللذين هما دخول ولا دخول وهو صلة الكلام المتصل به لا مما قبله فإن قال قائل أنتم تجيزون أن يستثنى الشيء من خير جنسه فكيف تقولون فيمن باع بدينار إلا درهما أو إلا قفيز قمح أو ما أشبه هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 قلنا له وبالله تعالى التوفيق هذا عندنا ممتنع في البيع حرام لأنه يرجع إلى بيعتين في بيعة لأن الدرهم والعرض لا يستثنى من غير جنسه عندنا إلا على معنى الاستثناء المنقطع كما بينا في أول هذا الباب فإن كان ذلك فإنما مرجعه إلى القيمة فإن كان ذلك في البيع فقد وجب أنه باعه بدينار إلا ما قابل صرف الدرهم من الدينار وهذه بيعة أو ثمن مجهول وكلاهما حرام في البيوع وهو جائز في الإقرار لأنه أقر له بدينار وذكر أن له عنده درهما فخرج الدرهم أو قيمته مما أقر به وكذلك لو قال مقر له عندي دينار ولي عنده ديناران أو إلا دينارين لي عنده لم يحكم عليه بشيء أصلا لأنه بعد أن أقر له أتى بما سقط به عند الإقرار جملة ولو كان ذلك في البيع لم يجز عند أحد من المسلمين وبالله تعالى التوفيق الباب السادس عشر في الكناية بالضمير قال علي والضمير راجع إلى أقرب مذكور لا يجوز غير ذلك لأنه مبدل من مخبر عنه أو مأمور فيه فلو رجع إلى أقرب مذكور لكان ذلك إشكالا رافعا للفهم وإنما وضعت اللغات للبيان فإذا كانت الأشياء المحكوم فيها أو المخبر عنها كثيرة وجاء الضمير يعقبها ضمير جمع فهو راجع إلى جميعها كما قلنا في الاستثناء ولا فرق ألا ترى أنك لو قلت أتاني زيد وعمرو وخالد فقتلته أنه لا خلاف بين أحد من أهل اللغة في أن الضمير راجع إلى خالد وأنه لا يجوز رده إلى زيد أو إلى عمرو فإن وجد يوما ما في شيء من النصوص رجوع ضمير إلى أبعد مذكور فهو بمنزلة ما ذكرنا من نقل اللفظ عن موضوعه في اللغة ولو قال أتاني زيد وعمرو وخالد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وعبد الله ويزيد فقتلتهم لكان راجعا بلا خلاف بين أحد من أهل اللغة إلى جميعهم وكلهم قال علي وما يبين أن الشرط في آية التحريم إنما هو في الربائب لا في أمهات النساء ما ذكرنا من أن الضمير راجع إلى أقرب مذكور والضمير بجمع المؤنث في قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسآئكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما} راجع لما قدمنا إلى أقرب مذكور إليه لا يجوز غير ذلك وأقرب مذكور إليه أمهات ربائبنا فوجب أن يكون راجعا إليهن على ما قدمنا وبالله تعالى التوفيق الباب السابع عشر في الإشارة قال علي والإشارة بخلاف الضمير وهي عائدة إلى أبعد مذكور وهذا حكمها في اللغة إذا كانت الإشارة بذلك أو تلك أو هو أو أولئك أو هم أو هي أو هما فإن كانت بهذا أو هذه فهي راجعة إلى حاضر قريب ضرورة وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من أهل اللغة ولا يعرف نحوي أصلا غير ما ذكرنا ولذلك أوجبنا أن يكون القرء في حكم العدة هو الطهر خاصة دون الحيض وإن كان القرء في اللغة واقعا على الحيض كوقوعه على الطهر ولا فرق ولكن لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء فكان قوله عليه السلام تلك إشارة تقتضي بعيدا وأبعد مذكور في الحديث قوله عليه السلام تطهر فلما صح أن الطهر بهذا الحديث هو العدة المأمور أن تطلق لها النساء صح أنه هو العدة المأمور بحفظها لإكمال العدة وبالله تعالى التوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 الباب الثامن عشر في المجاز والتشبيه قال علي اختلف الناس في المجاز فقوم أجازوه في القرآن والسنة وقوم منعوا منه والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق أن الاسم إذا تيقنا بدليل نص أو إجماع أو طبيعة أنه منقول عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقوف عنده فإن الله تعالى هو الذي علم آدم الأسماء كلها وله تعالى أن يسمي ما شاء بما شاء وأما ما دمنا لا نجد دليلا على نقل الاسم عن موضوعه في اللغة فلا يحل لمسلم أن يقول إنه منقول لأن الله تعالى قال {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} فكل خطاب خاطبنا الله تعالى به أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو على موضوعه في اللغة ومعهوده فيها إلا بنص أو إجماع أو ضرورة حس نشهد بأن الاسم قد نقله الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عن موضوعه إلى معنى آخر فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه قال علي وهذا الذي لا يجوز غيره ومن ضبط هذا الفضل وجعله نصب عينيه ولم ينسه عظمت منفعته به جدا وسلم من عظائم وقع فيها كثير من الناس قال علي فكل كلمة نقلها تعالى عن موضوعها في اللغة إلى معنى آخر فإن كان تعالى تعبدنا بها قولا وعملا كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك فليس شيء من هذا مجازا بل هي تسمية صحيحة واسم حقيقي لازم مرتب من حيث وضعه الله تعالى وأما ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم فهذا هو المجاز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 كقوله تعالى {وخفض لهما جناح لذل من لرحمة وقل رب رحمهما كما ربياني صغيرا} فإنما تعبدنا تعالى بأن نذل للأبوين ونرحمهما ولم يلزمنا تعالى قط أن ننطق ولا بد فيما بيننا بأن للذل جناحا وهذا لا خلاف فيه وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام لأنه لا خلاف في أن فرضا علينا أن ندعو إلى هذه الأعمال بهذه الأسماء بأعيانها ولا بد وبالله تعالى التوفيق واحتج من منع من المجاز بأن قال إن المجاز كذب والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يبعدان عن الكذب قال علي فيقال له صدقت وليس نقل الله تعالى الاسم عما كان علقه عليه في موضع ما إلى موضع آخر كذبا بل هو الحق بعينه لأن الحق هو ما فعله تعالى والباطل هو ما لم يأمر به أو لم يفعله ومن ظن أن هنا حقا هو عيار على الله تعالى وزمام على أفعاله يلزمه عز وجل أن يجري أفعاله عليه فقد كفر وقد تكلمنا في هذا في باب إثبات حجج العقول ونستوعب الكلام فيه إن شاء الله تعالى في باب إبطال العلل من كتابنا هذا وقد تكلمنا على ذلك أيضا في كتابينا الموسومين بالتقريب والفصل كلاما كافيا وبالله تعالى التوفيق وليست الأسماء موضوعة على المسميات إلا إما بتوقيف وإما باصطلاح ولا موقف إلا الله عز وجل فإذا أوقع الموقف الأول جل وعز اسما ما على مسمى ما في مدة ما أو في معنى ما ثم نقل ذلك الاسم إلى معنى آخر في مكان آخر فلا كذب في ذلك ولا للكذب ههنا مدخل وإنما يكون كاذبا من نقل منا اسما عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر يلبس به بلا برهان فهذا هو الكاذب الآفك الأثيم وكذلك لو اصطلح اثنان على أن يسميا شيئا ما اسما ما مخترع من عندهما أو منقول عن شيء آخر يتفاهما به لا ليلبسا به فلا كذب في ذلك فإذا جاز هذا فيما بيننا فهو للذي يلزم للجميع أن يعبدوه ويطيعوه ما أمكن وهو بذلك تعالى أولى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 والتلبيس في هذا هو من قال العسل حلال والمسكر من مصراة عسل فهو حلال فهذا كاذب فإنه أتى إلى عين سماها الله عز وجل خمرا والخمر حرام فسماها بغير اسمها ليستحلها بذلك وقد أنذر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن إسحاق القاضي عن ابن الأعرابي عن سليمان بن أشعث عن أحمد بن حنبل ثنا زيد بن الحباب ثنا معاوية بن صالح عن حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم ثنا عبد الرحمن بن غنم قال أنبأ أبو مالك الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن معاوية المرواني عن أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى ثنا خالد هو ابن الحارث عن شعبة سمعت أبا بكر بن حفص يقول سمعت ابن محيريز يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله قال علي فقد بينا وجه الحقيقة في هذا ثم نذكر إن شاء الله تعالى طرفا من الآي التي تنازعوا فيها فإن الشيء إذا مثل سهل فهمه فمن ذلك قوله عز وجل {وسأل لقرية لتي كنا فيها ولعير لتي أقبلنا فيها وإنا لصادقون} فقال قوم معناه واسأل أهل القرية واسأل أهل العير وقال آخرون يعقوب نبي فلو سأل العير أنفسها والقرية نفسها لأجابته قال علي وكلا الأمرين ممكن ومنه قوله تعالى {فنطلقا حتى إذآ أتيآ أهل قرية ستطعمآ أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا} فقد علمنا بضرورة العقل أن الجدار لا ضمير له والإرادة لا تكون إلا بضمير الحي هذه هي الإرادة المعهودة التي لا يقع اسم إرادة في اللغة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 على سواها فلما وجدنا الله تعالى وقد أوقع هذه الصفة على الجدار الذي ليس فيه ما يوجب هذه التسمية علمنا يقينا أن الله عز وجل قد نقل اسم الإرادة في هذا المكان إلى ميلان الحائط فسمى الميل إرادة وقد قدمنا أن الله تعالى يسمي ما شاء بما شاء إلا أن ذلك لا يوجب نقل الحقائق التي رتب تعالى في عالمه عن مراتبها ولا نقل ذلك الاسم في غير المكان الذي نقله فيه الخالق عز وجل ولولا الضرورة التي ذكرنا ما استجزنا أن نحكم على اسم بأنه منقول عن مسماه أصلا وقد أنشد أبو بكر محمد بن يحيى الصولي في نقل اسم الإرادة عن موضوعها في اللغة إلى غيره قول الراعي قلق الفؤوس إذا أردن نضولا وذكر أبو بكر الصولي رحمه الله أن ابن فراس الكاتب وكان دهريا سأله في هذه الآية فأجاب أبو بكر بهذا البيت وقد قال قوم إنه تعالى قادر على أن يحدث في الجدار إرادة وبلى هو قادر على ما يشاء وكل ما يتشكل في الفكر ولكن كل ما لم يأتنا نص أنه خرق تعالى فيه ما قد تمت به كلماته من المعهودات فهو مكذب كما أن لكل مدع ما لم يأت بدليل فهو مبطل وكذلك قوله تعالى {وهي تجري بهم في موج كلجبال ونادى نوح بنه وكان في معزل يبني ركب معنا ولا تكن مع لكافرين} فإنه تعالى سمى حركة السفينة جريا وحركة السفينة اضطرارية وهذا مما قلنا من أنه تعالى يسمي ما شاء بما شاء فهو خالق الأسماء والمسميات كلها حاشاه لا إله إلا هو وأما قوله تعالى {وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم لطور خذوا مآ آتيناكم بقوة وسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم لعجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين} فإنما عنى تعالى حب العجل على ما ذكرنا من الحذف الذي أقيم لفظ غيره مقامه وأما قوله تعالى {يوم نقول لجهنم هل متلأت وتقول هل من مزيد} وهو عندنا حقيقة وإنطاق لها وقد احتج علينا قوم بقول الله تعالى {إنا عرضنا الأمانة على السماوات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} قال علي وهذا أيضا عندنا على الحقيقة وأن الله تعالى وضع فيها التمييز إذ خيرها فلما أبت حمل الشرائع وأشفقت من تحمل الأمانة سلبها إياه وسقطت الكلف عنها وممكن أن يكون على نقل اللفظ أيضا والمراد بذلك أنها لم يحملها إذا لم يركب تعالى فيها قوة الفهم والعقل ولا النفس المختارة المميزة وهذا موجود في كلام العرب وأشعارها فإن العرب تقول إذا أرادت أن تمدح أبى ذلك سؤددك وإذا أرادت الذم أبى ذلك لؤمك أي إن سؤددك غير قابل لهذه الفعلة لمضادتها له وكذلك في الذم أي إن لؤمك غير قابل لهذه المكرمة لمضادتها له فعلى هذا كانت إباية السموات والأرض لا على ما سواه إلا أن الأول أصح وبه نقول وإنما فرقنا بين هذا في هذا الوجه وبين ما قلنا آنفا في إنطاق جهنم لأن كلام الله عز وجل كله عندنا بيان لنا وجار على معهود ما أوجبه فهمنا بإدراك عقولنا وحواسنا وإنما قلنا ذلك لقول الله عز وجل {ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة قليلا ما تشكرون} وحضنا تعالى على التفكير والتدبر للقرآن وأخبرنا بأنه بيان لنا وكل ذلك يكون إلا بما تميزه عقولنا لا بما يضادها فلما صح ذلك كله وأدانا التدبير والبصر والسمع والعقل إلى أن السموات جمادات لا تعقل وأن الأرض كذلك وأن حد النطق هو التمييز للأشياء وأن التمييز لا يكون إلا في حي وأن الحي هو الحساس المتحرك بإرادة وأن المميز هو بعض الحي لا كله وأن حد التمييز هو إمكان معرفة الأشياء على ما هي عليه وإمكان التصرف في الصناعات والأعمال المختلفة بإرادة وأيقنا أن كل هذه الصفات ليست الأرض ولا الأفلاك ولا الجبال له حاملة علمنا أن هذه اللفظة التي أخبرنا بها تعالى عن هذه التي ليست أحياء لفظة منقولة عن معهودها عندنا إلى معان أخر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 من صفات هذه الأشياء المخبر عنها الموجودة فيها على الحقيقة ومن تعدى هذه الطريقة فقد لبس الأشياء ورام إطفاء نور الله تعالى الموضوع فينا وبالجملة فمن أراد إخراج الأمور عن حقائقها في المبادىء ثم عن حقائقها في المعاهد فينبغي أن يتهم في دينه وسوء أغراضه فإن سلم من ذلك فلا بد من وصمة في عقله أو قوة في جهله إلا أن هذا كله لا يعترض على الوجه الأول لأن الإنطاق الذي كان وضعه الله تعالى فيها حينئذ قد سلبها إياه إذ أبت قبول الأمانة وإنما يعترض بهذا كله على من يقول إنها باقية على نطقها إلى اليوم فهذا باطل لا شك فيه بما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وقد ذكر رجل من المالكيين يلقب خويز منداذ أن للحجارة عقلا ولعل تمييزه يقرب من تمييزها وقد شبه الله قوما زاغوا عن الحق بالأنعام وصدق تعالى إذ قضى أنهم أضل سبيلا منها فإن الأنعام لا تعدوا ما رتبها ربها لها من طلب الغذاء وإرادة بقاء النوع وكراهة فسادها بعد كونها وهؤلاء رتبهم خالقهم عز وجل ليعرفوا قدرته وإنها بخلاف قدرة من خلق وليعرفوا رتبة ما خلق على ما هي عليه فبعدوا ذلك فمن مشبه قدرة ربه تعالى حكم عقله فيصرفه به تعالى الله عما يقول أهل الظلم علوا كبيرا ومن مفسد رتب المخلوقات وساع في إبطال حدودها وإفساد الاستدلال بها على التوحيد {من لذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} وسيرد الجميع إلى عالم الغيب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 والشهادة فيحكم بيننا فيما فيه نختلف وتالله لتطولن ندامة من لم يجعل حظه من الدين والعلم إلا نصر قول فلان بعينه ولا يبالي ما أفسد من الحقائق في تلك السبيل العضلة وبالله تعالى نعوذ من الخذلان فقال هذا الجاهل إن من الدليل على أن الحجارة تعقل قوله تعالى {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كلحجارة أو أشد قسوة وإن من لحجارة لما يتفجر منه لأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه لمآء وإن منها لما يهبط من خشية لله وما لله بغافل عما تعملون} قال فقد أخبر تعالى أن منها ما يهبط من خشية الله فدل ذلك على أن لها عقلا أو كلاما هذا معناه قال علي ونحن نقول إن من العجب العجيب استدلال هذا الرجل بعقله على أنه لا يخشى الله تعالى إلا ذو عقل فهلا استدل بذلك العقل نفسه على ما شاهد بحسه من أن الحجارة لا عقل لها وكيف يكون لها تمييز وعقل والله تعالى قد شبه قلوب الكفار التي لم تنقد إلى معرفته عز وجل بالحجارة في أنها لا تذعن للحق الوارد عليها فكذب الله تعالى في نفيه المعرفة عن الحجارة نصا إذ جعلها تعالى بمنزلة قلوب الكفار في عنود تلك القلوب عن الطاعة له عز وجل فكيف يكون للحجارة عقل أو تمييز بعد هذا فإن قال قائل فما وجه إضافة الخشية إلى الحجارة قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد قدمنا أن الله تعالى رتب الأسماء على المسميات وجعل ذلك سببا للتفاهم ولولا ذلك ما كان تفاهم أبدا ولا فهمنا عنه تعالى شريعة ولا علمنا مراده عز وجل في أمر ولا نهي ولا في خبر أخبرنا به وعرفنا تعالى بذلك التمييز الذي وضع فينا من صفات المخلوقات ما قد عرفناه وجعل لتلك الصفات أسماء نعبر بها عنها ونفاهم بها الأخبار عنها فكان مما رتب لنا من ذلك في اللغة العربية إن سمينا تمييزا حال من رأيناه يفهم ويتكلم ويسأل عن وجوه الأشياء المشكلة فيجاب فيفهم ويسأل عما علم منها فيجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 ويحدث بما رأى وشاهد وسمع ويؤمر بالكلام وينهى عن ضروب مختلفة من الأفاعيل فيفهم ما يزاد منه كل ذلك وكان مما رتب لنا أيضا عز وجل أن لم تكن فيه هذه الصفات سميناه غير مميز فإن كان من الحيوان مما سوى الملائكة والجن والإنس سميناه حيا غير مميز وإن كان من غير الحيوان سميناه جمادا غير حي إن كان من الشجر أو الحجارة أو الأرض أو الماء أو النار أو الهواء أو غير ذلك وأقر تعالى هذه الرتب في أنفسنا بما وضع فيها من التمييز إقرارا صار من أنكر شيئا منه ربما آل به إلى أن نسقط عنه الحدود ولا يقتص منه إن قتل وتسقط عنه الشرائع ويصير في محل من لا يخاطب لعدم عقله وتمييزه فإن زاد ذلك لم يؤمن عليه أن يغل ويداوي دماغه الذي هو منبعث الحس والحركة بأنواع كريهة من العلاج فلما أيقنا أن تلك الصفات المسماة برتبة الله تعالى تمييزا ليست في الحجارة وجب ضرورة أن تسمى مميزة وأيضا فقد قال تعالى مصدقا لإبراهيم خليله عليه السلام في قوله {إذ قال لابيه يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} وإنما كان يعبد الحجارة فصح بالنص أنها لا تفهم ولا تعقل فلما رأيناه تعالى قد أوقع عليها خشية له علمنا أن هذه اللفظة هنالك منقولة عن موضعها عندنا إلى صفة أخرى من صفات الحجارة وهي تصريفه لها تعالى كيف شاء لا تخرج تلك الخشية عن هذه الجملة التي فسرنا البتة فهذا وجه إضافة الخشية إلى الحجارة إذ الخشية المعهودة عندنا هي الخوف من وعيد الله عز وجل والائتمار لأمره تعالى والحجارة خالية بيقين من كل ذلك وكيف يخشى من لم يؤمر ولا ينهى ولا كلف ولا وعد أم أي شيء يخشى غير العقاب ولا عقاب إلا على عاص ولا عاصي إلا مأمور والحجارة ليست بمأمورة فليست عاصية فلا عقاب عليها ولا خشية عليها نعني الخشية المعهودة فيما بيننا ولا مميز إلا حي والحجارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 ليست حية فليست مميزة ومما ذكرنا من نقل بعض الأسماء إلى غير معهودها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفرس إن وجدناه لبحرا فأوقع عليه السلام لفظة بحر على الفرس الجواد وكذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفق بالقوارير يعني النساء كان ذلك نقلا لاسم القوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى النساء وكذلك قوله تعالى {قواريرا من فضة قدروها تقديرا} هو نقل أيضا للقوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى الفضة إلا أنه لا يحل لمسلم أن يقول في لفظه لم يأت نص ولا ضرورة حس بأنها منقولة عن موضوعها إنها منقولة ولا يتعدى بكل ذلك ما جاء في نص أو ضرورة حس ولا يصرف لفظ عن موضوعه إلا بأحد هذين الوجهين وإلا فهي باقية في مرتبتها في اللغة وليس لأحد أن يصرف عنه وجهه إذ لم يصرفه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وإن العجب ليكثر ممن يقول إن الشحم يسمى ندى فإذا سئل من أين قلت ذلك أنشد قول أعرابي جلف كثوب العداب الفرد يضربه الندى تعلى الندى في متنه وتحدرا فيكون ذلك قاطعا لخصمه يستشهد أن الجواري يسمين القوارير وأن الفرس الجواد يسمى بحرا وأن الخشية قد يسمى بها الوقوع تحت التدبير بأن خالق اللغات والمتكلمين أوقع هذا الاسم على هذا المعنى وبأن أفصح العرب سمى النساء قوارير والفرس بحرا ولعمري لو أنه عليه السلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 يقول ذلك قبل بلوغه أربعين عاما وقبل أن ينبأ لكان قوله أعظم حجة لفصاحته وعلمه بلغة قومه وأنه من وسيطة قريش ومسترضع في بني سعد بن أبي بكر بن هوازن فجمع فصاحة الحيين خندف وقيس أهل تهامة والحجارة العالية الذين إليهم انتهت الفصاحة في اللغة العربية الإسماعيلية والذي لا شك فيه فهو أنه عليه السلام أفصح من امرىء القيس ومن الشماخ ومن حسن البصري وأعلم بلغة قومه من الأصمعي وأبي عبيدة وأبي عبيد فما في الضلال أبعد من أن يحتج في اللغة بألفاظ هؤلاء ولا يحتج بلفظة فيها عليه السلام فكيف وقد أضاف ربه تعالى فيه إلى ذلك العصمة ومن الخطأ فيها القول والتأييد الإلهي والنبوة والصدق المقطوع على غيبه الذي صحبه خرق العادات والآيات والمعجزات وفي أقل من هذا كفاية لمن كانت فيه حشاشة فكيف أن يظن به عليه السلام أن يخبر عن ربه تعالى خبرا يكلفنا فهمه وهو بخلاف ما يفهم ويعقل ويشاهد ويحس ما ينسب هذا إليه صلى الله عليه وسلم إلا ملحد في الدين كائد وأعجب العجب أن هؤلاء القوم يأتون إلى الألفاظ اللغوية فينقلونها عن موضوعها بغير دليل فيقولون معنى قوله تعالى {وثيابك فطهر} ليس للثياب المعهودة وإنما هو القلب ثم يأتون إلى ألفاظ قد قام البرهان الضروري على أنها منقولة عن موضعها في اللغة إلى معنى آخر وهو إيقاع الخشية على الحجارة فيقولون ليس هذا اللفظ ههنا منقولا عن موضوعه مكابرة للعيان وسعيا في طمس نور الحق وإقرارا لعيون الملحدين الكائدين لهذا الدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره وبالله تعالى التوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 فصل في التشبيه قال علي التشبيه بين الأشياء المشتبهة حق مشاهد فإذا شبه الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا بشيء فهو صدق وحق وتنبيه على قدرة عظيمة لأنه ليس في العالم شيئان إلا وهما مشتبهان من وجه ما وغير مشتبهين من وجه آخر وقد قال الله تعالى {لذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق لرحمن من تفاوت فرجع لبصر هل ترى من فطور} فهذا الذي قلنا هو ارتفاع التفاوت لأن التماثل هو ضد التفاوت وإذا بطل التفاوت صح التماثل ولذلك افتقر الناس إلى معرفة حدود الكلام وضبط الصفات التي تتفق فيها الموصوفات التي سعى قوم من النوكى في إبطالها وهيهات من إبطال الحقائق فإن قال قائل إنه عليه السلام قد شبه ديون الله تعالى بديون الناس في وجوب قضائها وأنتم لا تقولون بقضاء الصلاة عن الميت فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا بتوفيق الله عز وجل لنا أهل الطاعة لهذا الحديث وغيره وقد نسب إلينا الباطل من ظن أننا نخص هذا الحديث أو غيره بلا نص فنقول يقضى الصوم والحج والصلاة المنذورة والمنسية والتي نيم عنها وأما الصلاة المفروضة المتروكة عمدا والصوم المفروض في رمضان المتروك عمدا فإن الذي فرط فيها لا يقدر على قضائها أبدا وليس عليه صيام يقضيه ولا صلاة يقضيها وإنما عليه إثم أمره فيه إلى ربه تعالى فلا يقضى عنه ذلك وبالله تعالى التوفيق قال علي وهذه أيضا من عجائب هؤلاء القوم فإنهم يأتون إلى أشياء لم يشبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بعضها ببعض فيحكون لها بحكم واحد لادعائهم أنها مشتبهة فيقولون لا يجوز للنكاح بأقل مما يقطع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 في اليد في السرقة وقد علم كل ذي عقل أنه لا شبه بين السرقة والنكاح ثم يأتون إلى ما أكد الله تعالى شبهه وساوى بينهما فيبطلون التساوي فيهما فيقولون إن ديون الناس تقضى عن الميت وديون الله تعالى لا تقضى عنه فهل في تقحم الباطل أعظم من هذا قال علي وهذا الذي قلنا في المجاوز والتشبيه هو عين الحقيقة بالبراهين التي ذكرنا لم نترك فيه علقة لمتعقب منصف وبالله تعالى التوفيق فأما أهل الشغب فهم بمنزلة التائه في الفلوات وإنما علينا بعون الله تعالى نهج الطريق القصد وإيضاحه حتى لا يوجد بحول الله تعالى وقوته طريق أنهج ولا أخصر منه والحمد لله رب العالمين ويوفق الله تعالى من يشاء بما يشاء وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب التاسع عشر في أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الشيء يراه عليه السلام أو يبلغه فيقره صامتا عليه لا يأمر به ولا ينهى عنه قال علي بن أحمد رحمه الله قال قوم من المالكيين أفعاله عليه السلام على الوجوب وهي آكد من أوامره وقال آخرون منهم من الحنفيين الأفعال كالأوامر وقال آخرون من كلتا الطائفتين ومن الشافعيين الأفعال موقوفة على دليلها فما قام منها على أنه واجب صير إليه وما قام دليل أنه منها ندب أو إباحة صير إليه وممن قال بهذا من الشافعيين أبو بكر الصيرفي وابن فورك وقال سائر الشافعيين وجميع أصحاب الظاهر ليس شيء من أفعاله عليه السلام واجبا وإنما ندبنا إلى أن نتأسى به عليه السلام فيها فقط وألا نتركها على معنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 الرغبة عنها ولكن كما نترك سائر ما ندبنا إليه مما إن فعلناه أجرنا وإن تركناه لم نأثم ولم نؤجر إلا ما كان من أفعاله بيانا لأمر أو تنفيذا لحكم فهي حينئذ فرض لأن الأمر قد تقدمها فهي تفسير الأمر قال علي وهذا هو القول الصحيح الذي لا يجوز غيره واحتج من قال إنها على الوجوب وإنها أوكد من الأوامر بما حدثنا سعيد الجعفري قال ثنا أبو بكر بن الأدفوي ثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن النحاس النحوي عن أحمد بن شعيب النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن الزهري قال وثبتني معمر بعد عن الزهري عن عروة بن الزبير أن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فذكر الحديث وفيه طول فلما فرغ من قصة الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا قال فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة يا رسول الله أتحب ذلك اخرج ثم لا تكلم منهم أحدا حتى تنحر وتحلق فخرج عليه السلام فنحر بدنة ودعا بحالقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما قال علي وما نعلم حجة أشنع عليهم من هذا الحديث الذي احتجوا به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 لأن الذي أوجب الله علينا طاعته وأمرنا باتباعه هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنكر عليهم التأخر عما أمرهم به ولم يأمر باتباع الذين خالفوه حتى فعل ما أمرهم به والذين أوهموه حتى جعلوه يشكوا ما لقي منهم ومن أخذ بفعل الناس وترك أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وعمل بما أنكره عليه السلام ولم يلتفت إلى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وصوب فعل من أغضبه وتعمد ذلك فقد ضل ضلالا ولم نأمن عليه مفارقة الإسلام وليعلم كل ذي لب أن ذلك الفعل من أهل الحديبية رضي الله عنهم خطأ ومعصية ولكنهم مغفور لهم بيقين النص في أنه لا يدخل النار أحد شهد بدرا والحديبية وليس غيرهم كذلك ولا يحل لمسلم أن يقتدي بهم في ذلك فلا بد لكل فاضل من زلة وكل عالم من وهلة وكل أحد من الخيار فإنه يؤخذ من قوله وفعله ويترك ويرغب من كثير من قوله وفعله إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن اقتدى بأهل الحديبية في هذا الفعل الذي أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد هلك رضي الله عنهم مضمون لهم المغفرة في ذلك وغيره ولم يضمن ذلك لغيرهم وقد أقر بعضهم رضي الله عنهم على نفسه الخطأ العظيم في هذا الباب كما حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح قال ثنا عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ومحمد بن عبد الله بن نمير قالا أنبأنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول اتهموا رأيكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأعمش عن أبي وائل عن سهل لرددته قال علي ويوم أبي جندل هو يوم الحديبية فقد أقر سهل رضي الله عنهم أنهم أساؤوا الرأي يوم الحديبية حتى لو استطاعوا رد أمر رسول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 الله صلى الله عليه وسلم لردوه حدثنا أبو سعيد الجعفري حدثنا ابن الأدفوي ثنا أبو جعفر بن الصفار عن النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري قال وثبتني معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم فذكرا حديث الحديبية وفيه أن عمر بن الخطاب قال والله ما شككت مذ أسلمت إلا يومئذ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت ألست نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطى الدنية في ديننا إذا قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري قلت أو ليس وعدتنا أنا سنأتي البيت فنطوف به قال بلى أفأخبرتك أنك تأتيه العام قلت لا قال إنك تأتيه وتطوف به قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا قال بلى قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل قال بلى قلت فلم نعطى الدنية إذا قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه حتى تموت فوالله إنه لعلى الحق قلت أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به قال بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام قلت لا قال إنك ستأتيه وتطوف به قال الزهري قال عمر فعملت لذلك أعمالا قال علي لم يشك عمر قط مذ أسلم في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومعاذ الله من أن يظن ذلك به ذو مسكة ولكنه شك في وجوب اتباع ما أمرهم به من الحلق والنحر وإمضاء القضية بينه وبين قريش ثم ندم على ذلك كما ترى وعمل لذلك أعمالا مستغفرا مما سلف منه من الأمر الذي ينصره الآن من أضله الله تعالى بالتقليل الفاسد ومثل هذا من غير أهل الحديبية فسق شديد ولكنهم بشهادته صلى الله عليه وسلم مغفور لهم لا يدخله النار منهم أحد إلا صاحب الجمل الأحمر وحده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 قال علي وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم دينهم في هذا الباب كما ثنا يحيى بن عبد الرحمن ثنا ابن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا نصر بن علي ثنا وهب بن جرير ثنا أبي عن ابن إسحاق قال ثنا عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال حلق يوم الحديبية رجال وقصر آخرون فذكر ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم ترحم على المحلقين ثلاثا وعلى المقصرين واحدة بعد أن ذكر بهم ثلاث مرات فقالوا ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم فقال صلى الله عليه وسلم إنهم لم يشكوا قال علي لم يشكوا في وجوب تنفيذ أمره وشك المترددون فعوقبوا كما ترى وإن كانوا مغفورا لهم كلهم وكذلك الذين فروا من الزحف يوم أحد فأخبر تعالى أنه إنما استفزهم الشيطان ببعض ما كسبوا ثم أخبر تعالى أنه عفا عنهم فمن اقتدى بهم في الفرار من الزحف فهو غير حاصل على ما حصلوا عليه من العفو بل يبوء بغضب من الله تعالى ولا عجب أعجب ممن يقتدي بأهل الحديبية في خطيئة وقعت منهم قد ندموا عليها واعترفوا بها وينهى عن الاقتداء بهم في فعل فعلوه كلهم موافق لرضا الله عز وجل ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم في نحرهم البدنة في ذلك اليوم عن سبعة والبقرة عن سبعة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم نحروا سبعين بدنة عن سبعمائة إنسان ما سوى البقر فيقول هؤلاء لا يجوز الاقتداء بهم في ذلك تقليدا لما ثم يحض على الاقتداء بهم في خطيئة أخطؤوها قد تابوا منها فهل في عكس الحقائق والمجاهرة بالباطل أشنع من هذين المذهبين وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ومن العجائب التي لا يفهم منها إلا الاستخفاف بالدين والخنا احتجاج ابن خويز منداذ المالكي إيجاب أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 فرضا بحديث الأنصاري الذي قبل امرأته وهو صائم فأمرها أن تستفتي في ذلك أم سلمة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فوجد المرأة فسأل عنها فأخبرته أم سلمة بخبرها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرتها أني أفعل ذلك فقالت قد فعلت فزاده ذلك شرا وقال يحل الله لرسوله ما شاء فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أما والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما أتقي قال أبو محمد وإن احتجاج ابن خويز منداذ بهذا الحديث وهو لا يقول به ولا يستحبه ولا يبيحه بل يكره القبلة للصائم ويرغب عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ويسخط الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لرغبته عما كان عليه السلام يفعله لآية من الآيات الشنيعة وهو لا يرى هذا الفعل واجبا ولا مستحبا ولا مطلقا ثم يحتج به في إيجاب أفعاله صلى الله عليه وسلم وليس العجب ممن يطلق لسانه بمثل هذا الخنا فإنه قد عدم الرقبة والحياء والخوف ولا يبالي بالإثم ولا بالعار وإنما العجب ممن يسمعه ثم يقبله ويكتبه مصدقا له مستحسنا وإنا لله وإنا إليه راجعون على دروس العلم وذهابه وهذا الحديث الذي ذكر أعظم حجة في أن أفعاله عليه السلام ليست على الوجوب ولكنها مستحبة مندوب إليها يأتي من تركها راغبا عنها كما يأثم ابن خويز منداذ ونظراؤه في رغبتهم عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في التقبيل وهو صائم ولا يأثم من تركها مستحبا لها غير راغب عنها ولا يؤجر أيضا وأما من فعلها مؤتسيا فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو مأجور والحمد لله رب العالمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 واحتج من قال إن أفعاله عليه السلام كأوامره بأن قال قد أمرنا باتباعه عليه السلام بقوله تعالى {قل يأيها لناس إني رسول لله إليكم جميعا لذي له ملك لسماوات ولأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بلله ورسوله لنبي لأمي لذي يؤمن بلله وكلماته وتبعوه لعلكم تهتدون} قالوا وهذا إيجاب علينا اتباعه في فعله وأمره سواء قال علي الاتباع لا يفهم منه محاكاة الفعل في اللغة أصلا وإنما يقتضي الامتثال لأمره عليه السلام والطاعة لما علم عن ربه عز وجل وقد بين ذلك عليه السلام في قوله من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وبقوله صلى الله عليه وسلم كل أحد يدخل الجنة إلا من أبى قيل ومن يأبى يا رسول الله قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى قال علي والمعصية إنما هي مخالفة الأمر لا ترك محاكاة الفعل وما فهم قط من اللغة أن يسمى تارك محاكاة الفعل عاصيا إلا بعد أن يؤمر بمحاكاته فإنما استثنى عليه السلام من دخول الجنة من خالف الأمر فقط وبقي من لا يحاكي الفعل غير راغب عنه على دخول الجنة فقد صح أنه ليس عاصيا وإذا لم يكن عاصيا فلم يجتنب فرضا فقد صح أن محاكاة الفعل ليست فرضا وأيضا فما فهم عربي قط من خليفة يقول اتبعوا أمري هذا أنه أراد افعلوا ما يفعل وإنما يفهم من هذا امتثال أمره فقط وأيضا فإن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم لا يختلف أحد في أنها غير فرض عليه بمجردها ومن المحال أن يكون كذلك ويكون فرضا علينا وهذا هو خلاف الاتباع حقا وقد هذر قوم بأن قالوا من الحجة في ذلك قول الله عز وجل {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} قال علي وهذا تخليط لأن الإيتاء في اللغة إنما هو الإعطاء والفعل لا يعطى وإنما يعطينا أوامره فقط ولا سيما وقد اتبع ذلك النهي وإنما توعد الله على مخالفة الأمر بقوله تعالى {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 وقال بعضهم الضمير في أمره راجع إلى الله عز وجل قال علي فيقال لهم لا عليكم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أمر من الله عز وجل نفسه بقوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فنطقه كله أمر الله عز وجل قال علي الآية كافية في أن اللازم إنما هو الأمر فقط لا الفعل لأن الله عز وجل إنما أخبر أن الوحي من قبله تعالى هو النطق والنطق إنما هو الأمر وأما الفعل فلا يسمى نطقا البتة فصح أن فعله عليه السلام كله إباحة وندب لا إيجاب إلا ما كان منه بيانا لأمر قال علي وقال بعضهم معنى أمره ههنا حاله كما تقول أمر فلان اليوم على إقامة أو أمره على عوج يعني حاله قال علي وهذا يبطل بأن هذه الآية إنما جاءت بإيجاب ما ذكر قبلها من الأمر الذي هو النطق قال الله عز وجل {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فصح أن هذا الوعيد في أمره لهم بالبقاء معه وكذلك كان عليه السلام لا يؤذن لشيء من صلوات التنفل كالعيدين والكسوف تفريقا بين الفعل والأمر إذ لو دعوا إلى الصلاة لكان أمرا والأمر فرض وقد حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا زهير بن حرب ثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة أم المؤمنين قالت صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا نترخص فيه فبلغ ذلك ناسا من أصحابه فكأنهم كرهوه وتنزهوا عنه فبلغه ذلك فقام خطيبا فقال ما بال رجال بلغهم عني أمر ترخصت فيه فكرهوه وتنزهوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 عنه فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية قال علي فهذا نص جلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهم ترك فعل ما فعل فصح أنه ليس ذلك واجبا ولو كان واجبا لأنكر تركه وإنما أنكر عليهم إنكاره والتنزه عنه وهذا منكر جدا وقد أنكر عليهم ترك أمره فوضح الفرق بين الفعل والأمر لمن عقل وبالله تعالى التوفيق وبه إلى مسلم حدثنا محمد بن رافع وعبيد الله بن معاذ وابن أبي عمر وقتيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب وأبو بكر بن أبي شيبة قال ابن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه وقال ابن معاذ ثنا أبي ثنا شعبة عن محمد بن زياد وقال ابن أبي عمر ثنا سفيان وهو ابن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج وقال قتيبة ثنا المغيرة الخرامي عن أبي الزناد عن الأعرج وقال ابن نمير ثنا أبي عن الأعمش عن أبي صالح السمان وقال ابن أبي شيبة وأبو كريب ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح ثم اتفق همام ومحمد بن زياد والأعرج وأبو صالح كلهم عن أبي هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم عن أنبيائهم ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم وهذه رواية كل من ذكرنا ولم يخالفهم همام في شيء إلا أنه قال ما تركتكم قال أبو محمد وهذا خبر منقول نقل التواتر عن أبي هريرة فلم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد إلا ما استطاع مما أمر به واجتناب ما نهى عنه فقط ولا يجوز البتة في اللغة العربية أن يقال أمرتكم بما فعلته وأسقط عليه السلام ما عدا ذلك وأمرهم بتركه ما تركهم وقد علمنا بضرورة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 الحس والمشاهدة أنه عليه السلام وكل حي في الأرض لا يخلو طرفة عين من فعل إما جلوس أو مشي أو وقوف أو اضطجاع أو نوم أو اتكاء أو غير ذلك من الأفعال فأسقط عليه السلام عنا كل هذا وأمرنا بتركه فيه حاشا ما أمر به أو نهى عنه فقط فوضح يقينا أن الأفعال كلها منه عليه السلام لا تلزم أحدا وإنما فيها الائتساء المتقدمة فقط قال أبو محمد وصح بالحديث الذي قبل هذا أنه لا حجة في فعل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولا في قوله لأن أولئك الذين كرهوا ما فعله عليه السلام قصدوا بذلك الخير في اجتهادهم وقد أنكر عليه السلام ذلك فصح أنه لا حجة إلا فيما جاء عنه عليه السلام فقط والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وإنما حضنا الله تعالى في أفعاله عليه السلام على الائتساء به بقوله تعالى {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} وما كان لنا فهو إباحة فقط لأن لفظ الإيجاب إنما هو علينا لا لنا نقول عليك أن تصلي الخمس وتصوم رمضان ولك أن تصوم عاشوراء وتتصدق تطوعا ولا يجوز أن يقول أحد في اللغة العربية عليك أن تصوم عاشوراء وتتصدق تطوعا ولك أن تصلي الخمس وتصوم رمضان هذا الذي لا يفهم سواه في اللغة التي بها خاطبنا الله تعالى بما ألزمنا من شرائعه قال أبو محمد وقال بعضهم قوله تعالى بعقب الآية المذكورة {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} بيان أن ذلك إيجاب لأن هذا وعيد قال أبو محمد التأويل خطأ لأن الائتساء المندوب إليه في الآية المذكورة إنما هو للمؤمنين الذين يرجون الله واليوم الآخر ولم يقل تعالى هو على الذين يرجون الله واليوم الآخر وأما الكفار الذين لا يرجون الله واليوم الآخر فراغبون عن الائتساء به عليه السلام وكذلك قوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 صلى الله عليه وسلم إني أصوم وأفطر وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني وصدق عليه السلام أن من ترك شيئا من أفعاله راغبا عنها فهو كافر وأما من تركها غير راغب عنها لكن اقتصارا على الفرض وتخفيفا من التطوع عالما بأنه يترك فضلا كثيرا فقد أفلح كما قال عليه السلام للأعرابي الذي حلف لا يزيد على الأوامر الواجبات شيئا فقال عليه السلام أفلح والله إن صدق دخل الجنة قال أبو محمد وفي هذا الحديث بيان كاف في أن الأوامر هي الفروض وأن أفعاله عليه السلام ليست فرضا لأن الأعرابي إنما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أمر به لا عما يفعل ثم حلف ألا يفعل غير ذلك فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله وحسن فعله وهذا كاف لمن عقل إذ لم يلزمه عليه السلام اتباع أفعاله وهذا ما لا إشكال فيه قال أبو محمد بل أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضي الله عنهم التزام المماثلة لأفعاله كما حدث عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية القرشي ثنا أبو خليفة ثنا أبو داود الطيالسي هو هشام بن عبد الملك عن حماد بن سلمة عن أبي نضلة السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى خلع نعليه فوضعهما يساره فخلع القوم نعالهم فلما قضى صلاته قال ما لكم خلعتم نعالكم قالوا رأيناك خلعت فخلعنا قال إني لم أضعهما من بأس ولكن جبريل أخبرني أن فيهما قذرا وأذى فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن كان فيهما أذى فليمسحه قال أبو محمد فهذا عدل من الصحابة أبو سعيد الخدري شهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم التزام مماثلة أفعاله فبطل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 كل تعلل بعد هذا وصح ألا يلزم إلا أمره عليه السلام فقط قال أبو محمد وإنما تعلق بما ذكرنا قوم من أصحاب مالك على أنهم أترك خلق الله لأفعاله عليه السلام فقد تركوا فعله عليه السلام في صلاته بالناس وهم وراءه قيام أو جلوس وتركوا فعله عليه السلام في دخوله وإمامته بالناس بعد ابتداء أبي بكر بالتكبير بهم والصلاة وجوزوه في الاستخلاف حيث لم يأت به نص ولا إجماع ورغبوا عن فعله عليه السلام في الصب على بول الصبي واختاروا الصوم في رمضان في السفر ورغبوا عن فعله عليه السلام في الفطر ورغبوا عن فعله عليه السلام في التقبيل وهو صائم وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على من رغب عن ذلك أو تنزه عنه وخطب الناس ناهيا عن ذلك ورغبوا عن فعله عليه السلام في قراءته {والطور} في المغرب وتركوا فعله عليه السلام في تطيبه في حجة الوداع وأخذوا بأمر له متقدم لو كان على ما ظنوه كان منسوخا بآخر فعله عليه السلام وتركوا فعله عليه السلام حكمه بالسلب للقاتل وتركوا فعله عليه السلام في سجوده في سورة {والنجم} وفي {إذا السماء انشقت} وتركوا فعل جميع الصحابة في هذين الموضعين وكل من أسلم من الجن والإنس قال أبو محمد فأما ما كان من أفعاله عليه السلام تنفيذا لأمر فهو واجب فمن ذلك قوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم وهمه بإحراق منازل المتخلفين عن الصلاة في الجماعة وجلده شارب الخمر لأنه عليه السلام لما أخبر أن الأموال والأعراض حرام ثم أن ينتهك شر منها أو بأنه يريد انتهاكها علمنا أن ذلك حق وأما بعد الأمر فواجب لا إباحة لأنه عليه السلام لا يهم إلا بأمر حق وقد أمر بجلد الشارب ثم كان فعله بيانا للجلد الذي أمر به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 وكذلك ما كان من أفعاله عليه السلام نهيا عن شيء أو أمرا بشيء فهو على الوجوب كإزالته صلى الله عليه وسلم ابن عباس عن يساره ورده إلى يمينه فهذا وإن كان فعلا فهو أمر لابن عباس للوقوف عن يمينه ونهي له عن الوقوف عن يساره وإنما الفعل المجرد هو الذي ليس فيه معنى الأمر فإن قال قائل فهلا قلتم إن همه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة إباحة لا فرض على أصلكم في انتقال الشيء إذا نسخ إلى أقرب المراتب منه لا إلى أبعدها عنه قيل له وبالله تعالى التوفيق كذلك نقول ما لم يأت دليل على أنه منقول إلى أبعد المراتب عنه ولكن لما قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم أخبر عليه السلام أنه قد هم بحرق بيوت المتخلفين علمنا بالنص المذكور أن ذلك حق واجب إنفاذه إذ قد نص أنه لا يستبيح دما ولا مالا إلا بحق والحق فرض ما لم يأت دليل على أنه إباحة قال أبو محمد قد قلنا إن القائلين بأن أفعاله عليه السلام على الوجوب هم أشد الناس خلافا لهذا الأصل الفاسد فإن المالكيين يقولون إن خطبة الإمام يوم الجمعة خطبتين قائما يجلس بينهما ليست فرضا وإنما الفرض خطبة واحدة وما روي قط أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب إلا خطبتين قائما يجلس بينهما فلم يروا فعله عليه السلام ههنا على الوجوب ويقولون إن ترتيب الوضوء ليس فرضا ولا شك في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتب وضوءه ولا ينكسه لا يشك مسلم في ذلك ويرون أن الصلاة للصبح بمزدلفة ليس فرضا ولا يبطل حج من تركه ورسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها هناك وآذن أن من لم يدركها هنالك فلا حج له ويرون أن من صلى المغرب قبل مزدلفة ليلة النحر فصلاته تامة ورسول الله صلى الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 عليه وسلم أخرها إلى المزدلفة فلم يصلها إلا فيها ولا يرون رمي جمرة العقبة فرضا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد رماها ولا يرون الضجعة بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح فرضا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعلها دائما عليها مواظبا لها وكذلك فقهاء المدينة السبعة وأهل المدينة وكل هذه المسائل فجماهير الصحابة والتابعين والفقهاء يرونها فرضا وإنما أتينا بهذه المسائل لئلا يدعو إجماعا على أنها ليست فرضا ومثل هذا لو تتبع كثير وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فإن تعارض فعل وقول مثل أن يحرم عليه السلام شيئا ثم يفعله فإن هذا إن علمنا أن الفعل كان بعد القول فهو نسخ له وبيان أن حكم ذلك القول قد ارتفع لأنه عليه السلام لا يفعل شيئا محرما ولا يجوز أن يقال في شيء فعله عليه السلام أنه خصوص له إلا بنص في ذلك لأنه عليه السلام قد غضب على من قال ذلك وكل شيء أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حرام وذلك مذكور في حديث الأنصاري الذي سأله عن قبلة الصائم فأخبره عليه السلام أنه يفعل ذلك فقال الأنصاري يا رسول الله إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال والله إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 أذر أو كما قال عليه السلام فلا يحل لأحد بعد هذا أن يقول في شيء فعله عليه السلام إنه خصوص له إلا بنص مثل النص الوارد في الموهبة بقوله تعالى {يأيها لنبي إنآ أحللنا لك أزواجك للاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ممآ أفآء لله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك للاتي هاجرن معك ومرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد لنبي أن يستنكحها خالصة لك من دون لمؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان لله غفورا رحيما} ومثل وصاله عليه السلام في الصوم وقوله ناهيا لهم إني لست كهيئتكم ومثل نومه عليه السلام وصلاته دون تجديد وضوء فسئل عليه السلام عن ذلك فقال عيناي تنامان ولا ينام قلبي فما جاء فيه بيان كما ذكرنا فهو خصوص وما لم يأت فيه نص كما قلنا فلنا أن نتأسى به عليه السلام ولنا في ذلك الأجر الجزيل ولنا أن نترك غير راغبين عن ذلك فلا نأثم ولا نؤجر فمما جاء كما ذكرنا نهيه عليه السلام عن الصلاة قائما إذا صلى الإمام جالسا ثم هو عليه السلام صلى جالسا في مرضه الذي مات فيه وصلى أبو بكر مذكرا إلى جانبه قائما فأقر فعلمنا أن ذلك نسخ لإيجاب الجلوس عن المذكر خاصة فإن شاء صلى جالسا وذلك أفضل عندنا وإن شاء قائما كل ذلك جائز حسن وكذلك قلنا في حضه عليه السلام على صيام يوم عرفة ثم أفطر عليه السلام فيه فقلنا صيامه أفضل للحاج وغيره وإفطاره مباح حسن وقد روت عائشة أنه عليه السلام كان يترك الفعل وهو يحبه خشية أن يفعله الناس فيفرض عليهم كما فعل عليه السلام في قيام الليل في رمضان قام ثم ترك خوفا أن يفرض علينا وإنما قلنا هذا لئلا يقول جاهل أيجوز أن يترك عليه السلام الأفضل ويفعل الأقل فضلا فأعلمناه عليه السلام يفعل ذلك رفقا منه كما أخبر عليه السلام أنه لولا رجال من أصحابه لا يتخلفون عنه أصلا وأنه لا يجد ما يحملهم عليه ما تخلف عن سرية يوجهها في سبيل الله فأخبر عليه السلام أنه يتخلف عن الجهاد وهو أفضل خوفا أن يشق على أمته وهذا كثير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 قال أبو محمد وأما إذا لم يعلم أي الحكمين قبل الأمر أم الفعل فإنا نأخذ بالزائد كما فعلنا في نهيه عليه السلام عن الشرب قائما وروي عنه عليه السلام أنه شرب قائما وفي نهيه عليه السلام عن الاستلقاء ووضع رجل على رجل وروي عنه أنه عليه السلام رئي مضطجعا في المسجد كذلك فأخذنا ههنا بالزائد وهو النهي في كلا الموضوعين لأن الأصل إباحة الاضطجاع على كل حال والاستلقاء كما يشاء وإباحة الشرب على كل حال فقد تيقنا أننا نقلنا عن هذه الإباحة إلى نهي عن كلا الأمرين بلا شك في ذلك ثم لا ندري هل نسخ ذلك النهي أو لا ولا يحل لمسلم أن يترك شيئا هو على يقين من أنه قد لزمه لشيء لا يدري أهو ناسخ أم لا واليقين لا يبطل بالشك والظن لا يغني من الحق شيئا فنحن على ما صح لدينا أنه قد لزمنا حتى يقيم المدعي لبطلانه علينا البرهان في صحة دعواه وإلا فهي ساقطة وبالله تعالى التوفيق وهكذا قلنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مما يليك مع ما قد صح من تتبعه الدباء من نواحي القصعة ولا فرق على أن هذا الخبر ليس فيه أنه عليه السلام تناول الدباء مما لا يليه بل يمكن تتبعه من نواحي الصحفة مما يليه وليس هكذا الأقوال فإنه صلى الله عليه وسلم إذا قال قولا فيه إباحة ثم جاء بعد عموم تحريم إلا أنه ممكن استثناء إباحة قبل فواجب ضم القولين جميعا إلى واحد واستثناء الأقل من الأكثر لأن القول بيان جلي وليس في الفعل بيان المراد لا بتخصيص ولا بغيره قال أبو محمد فالحاصل من هذا أن القولين إذا تعارضا وأمكن أن يستثنى أحدهما من الآخر فيستعملان جميعا لم يجز غير ذلك وسواء أيقنا أيهما أول أو لم نوقن ولا يجوز القول بالنسخ في ذلك إلا ببرهان جلي من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 نص أو إجماع أو تعارض لا يمكن معه استثناء أحدهما من الآخر وأما القول والفعل إذا تعارضا فإن كان الفعل قبل القول أو لم يعلم أقبله أم بعده فالحكم القول ويكون الفعل حينئذ منسوخا ولا يجوز أن يستثنى منه الفعل لأننا لا ندري أحاله نخص أم زمانه أم مكانه إذ ليس في الفعل بيان عموم ولا تفسير حد وإن كان الفعل بعد القول فحينئذ نخص تلك الحال بيقين فقط لأننا من ذلك على يقين ولسنا من تخصيص الزمان والمكان على يقين ولا يجوز أن نحكم في الدين بالشك كما فعلنا فيما قد صح من أن المرأة تقطع الصلاة ثم صح أن عائشة ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة فتكره أن تقعد فتؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمسك كما هي فصح بهذا النص أن هذا الفعل كان بعد النهي لأنها أخبرت أنها لو قعدت لآذت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ودل أيضا هذا الخبر على المداومة على ذلك فاستثناء حال الاضطجاع من قطع المرأة الصلاة على سائر أحوالها وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد لو كانت الأفعال على الوجوب لكان ذلك تكليفا لما لا يطلق من وجهين ضروريين أحدهما أنه كان يلزمنا أن نضع أيدينا حيث وضع صلى الله عليه وسلم يده وأن نضع أرجلنا حيث وضع عليه السلام رجله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 وأن نمشي حيث مشى وننظر إلى ما نظر إليه وهذا كله خروج عن المعقول والوجه الثاني أن أكثر هذه الأشياء التي تصرف عليه السلام بأفعاله فيها فقد ثبت فكنا من ذلك مكلفين ما لا نطيق فبطل كل قول في هذا الباب حاشا ما ذكرنا من الائتساء به عليه السلام في أفعاله وأما من قال نطلب الدليل فإن وجدنا دليلا على وجوب الفعل صرنا إليه وإن لم نجد دليلا حملنا الأفعال على الائتساء فقط فهي نفس قولنا إلا أننا نحملها على الائتساء أبدا ما لم نجد دليلا على الوجوب فإن وجدناه صرنا إليه وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد وأما الشيء يراه عليه السلام أو يبلغه أو يسمعه فلا ينكره ولا يأمر به فمباح لأن الله عز وجل وصفه عليه السلام فقال {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} فلو كان ذلك الشيء منكرا لنهى عنه عليه السلام بلا شك فلما لم ينه عنه لم يكن منكرا فهو مباح المباح معروف وما عرفه عليه السلام فهو معروف ولا معروف إلا ما عرف ولا منكر إلا ما أنكر فمن ذلك غناء الجاريتين في بيته وهو عليه السلام يسمع ولا ينكر فأنكر ذلك أبو بكر فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر إنكاره فصح بذلك ما ذكرنا نصا ووجب الإنكار على كل ما أنكر ما علمه عليه السلام فأقره ومن ذلك زفن السودان فنهاهم عمر فأنكر عليه السلام على عمر إنكاره عليهم ومن ذلك اللعب التي رأى عليه السلام عند عائشة وفيها فرس ذو أجنحة مع نهيه عليه السلام عن الصور فكان ذلك إذا مستثنى مما نهى عنه ومثل إنكاره عليه السلام الصور في الستر مع إباحته لذلك إذا كان رقما في ثوب واستثناءه إياه من جملة ما نهى عنه من الصور فلما قطعت عائشة الستر وسادتين اتكأ عليه السلام عليهما ولم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 ينكرهما فصح من ذلك أن المعلق من الثياب التي فيها الصور مكروه ليس حراما ولا مستحبا لكن من تركها أجر ومن استعملها لم يأثم واختار ههنا عليه السلام الأفضل واختاره لعائشة وفاطمة رضي الله عنهما وصح بذلك أن الثياب التي فيها الصور وإذا كانت وسائد فذلك حسن مباح ولا مستحب لا نكرهه أصلا بل نحبه وكذلك الشيء إذا تركه عليه السلام ولم ينه عنه ولا أمر به فهو عندنا مباح مكروه ومن تركه أجر ومن فعله لم يأثم ولم يؤجر كمن أكل متكئا ومن استمع زمارة الراعي فلو كان ذلك حراما لما أباحه عليه السلام لغيره ولو كان مستحبا لفعله عليه السلام فلما تركه كارها له كرهناه ولم نحرمه فإن قال قائل فقد ناموا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلوا ولم يأمرهم بإعادة الوضوء وأنتم لا ترون ذلك قيل له وبالله التوفيق ما روى أحد قط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآهم نياما ولا أعلم أنهم ناموا وإنما جاء الحديث أنه عليه السلام أبطأ بالعشاء الآخرة حتى نام الناس وسمع لهم غطيط وصاح عمر نام النساء والصبيان فالحديث كما تسمع بين في أنهم ناموا وهو عليه السلام غائب غير حاضر وإنما أعلمه عمر بنوم النساء والصبيان وهذان الصنفان ليس عليهم حضور الصلاة في الجماعة فرضا وأيضا فمن أين للمحتج بهذا أن يقول ناموا قعودا نوما قليلا بلا أن يرد ذلك في الحديث ولعل فيهم من نام مستندا إلى صاحبه أو إلى الحائط أو مضطجعا نوما طويلا ما يدري من لم يحضر نومهم كيف كان نومهم ومثل هذا من الدعاوى لا يستجيزها ذو دين متهم بالصدق فلما صح أنه عليه السلام كان غائبا ولم يأتنا نص في أنه عليه السلام علم نومهم وصح أمره عليه السلام في حديث صفوان بن عسال المرادي بالوضوء من النوم جملة لزمنا ألا نزول عما أمرنا لأمر لا ندري أعلمه عليه السلام أم لم يعلمه ولو صح عندنا أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 عليه السلام علم أنهم ناموا وأقرهم على ذلك لقلنا به ولأسقطنا الوضوء عمن نام جملة على أي حال نام ولو صح في ذلك الخبر أن عمر قال نام الناس لما كان لهم فيه متعلق لأنه كان يكون معناه نام الناس الذين ينتظرونه عليه السلام وكيف وكل طائفة منهم تخالف هذا الخبر لأنهم يخصون بعض أحوال النوم دون بعض وليس بيننا في الخبر أصلا فإن قال قائل أيجوز أن يخفى ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له نعم كما جاز عندكم معاشر الشافعيين والمالكيين والحنفيين قول جابر كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله على أن بيع أمهات الأولاد أشهر من نوم قوم في الليل والقوم في عوزة من المصابيح بركن المسجد وكما يقول المالكيون إنه خفي عليه ذبح آل أبي بكر الفرس وأكلهم إياه بالمدينة وهذا أشيع من نوم قوم في ركن المسجد لقلة الخيل عندهم بالمدينة في أيامه صلى الله عليه وسلم ولشدة العيش عندهم وقلة الإدام وشدة امتزاج أهل بيت أبي بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم ومجاورتهم له فكيف يخفى عليه أنهم ذبحوا فرسا فأكلوه ولا يخفى عليه نوم قوم في ركن المسجد وهو غائب عنهم ولو صح أنه عليه السلام كان حاضرا في المسجد لأمكن أن يختفي نوم من في ركن المسجد عنه فكيف وقد صح أنه عليه السلام كان غائبا عنهم مع أن تخصيص نومهم بأنهم كانوا قعودا لا مستندين ولا مضطجعين ولا متكئين كذب من أقدم عليه وبالله التوفيق قال أبو محمد وفي باب القول بالأخبار من كتابنا في أول الباب المذكور أشياء قاطعة من الكلام في أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وفي الشيء يعلمه فيقر عليه إذا استضافت إلى ما ههنا تم الكلام في ذلك وكرهنا تكرارها وبالله تعالى التوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 الباب العشرون الكلام في النسخ قال أبو محمد علي بن أحمد حد النسخ أنه بيان انتهاء زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر وأما ما علق بوقت ما فإذا خرج ذلك الوقت أو أدى ذلك الفعل سقط الأمر به فليس هذا نسخا فلو كان هذا نسخا لكانت الصلاة المنسوخة إذا خرج وقتها والصيام منسوخا بالإحراج والحيض والصيام والحج منسوخا وهذا ما لا يقوله أحد بالإجماع المقطوع به على ألا يسمى نسخا يكفي من الإطالة فيه وبالله تعالى التوفيق مع من سمى هذا نسخا فعليه البرهان على وجوب تسميته نسخا ولا سبيل إلى وجوبه فهو باطل قال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} قال أبو محمد وقد قال بعض من تقدم إن النسخ هو تأخير البيان نفسه قال أبو محمد والنسخ على ما فسرناه قبل نوع من أنواع تأخير البيان لأن تأخير البيان ينقسم قسمين أحدهما جماعة غير مفهومة المراد بذاتها مثل قوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند لله إن لله بما تعملون بصير} إذا جاء وقت تكليف ذلك بين لنا الحكم المراد منا في ذلك اللفظ المجمل بلفظ آخر مفسر والقسم الثاني عمل مأمور به في وقت ما وقد سبق في علم الله عز وجل أنه سيحيلنا عنه إلى غيره في وقت آخر فإذا جاء ذلك الوقت بين لنا تعالى ما كان مستورا عنا من النقل عن ذلك العمل إلى غيره وبالجملة فإن اسم البيان يعم جميع أحكام الشريعة كلها لأنها كلها إعلام من الله تعالى لنا وبيان المراد منا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 فإن قال قائل ليس النسخ من البيان لأن البيان يقع في الأخبار والنسخ لا يقع في الأخبار قيل له وبالله تعالى التوفيق إننا لم نقل إن النسخ هو البيان وإنما قلنا هو نوع من أنواع البيان فكل نسخ بيان وليس كل بيان نسخا فمن البيان ما يقع في الأخبار وفي الأوامر ومنه ما يقع في الأوامر فقط فمن هذا النوع الواقع في الأوامر النسخ هو رفع لأمر متقدم وقد يكون أيضا بيان يقع في الأوامر ليس نسخا لكنه تفسير لجلة إلا أنه لا يجوز لأحد أن يحمل شيئا من البيان على أنه نسخ رافع لأمر متقدم إلا بنص جلي في ذلك أو إجماع أو برهان ضروري على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى في باب كيفية معرفة المنسوخ من المحكم ألا ترى أن قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} فلسنا نقول إنه نسخ أهل الكتاب من هذا الحكم لكنا نقول إن المراد بقوله تعالى في هذه الآية {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} لله إنما هم من عدا أهل الكتاب وبين ذلك تعالى في استثنائه أهل الكتاب في الآية الأخرى وهكذا قولنا في آية الرضاع وآية قطع السارق وقوله تعالى {ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم لطوفان وهم ظالمون} فنقول بلا شك إن الله تعالى لم يرد بذلك كل رضاعة ولا كل سارق ثم نسخ ذلك عن بعضهم وكذلك قوله تعالى {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} فإنه تعالى لم يرد بذلك العبيد والإماء ثم نسخ خمسين عنهم ولا ألف سنة كاملة ثم استدرك تعالى إسقاط الخمسين عاما لكنه تعالى أراد في كل ما ذكرناه ما بقي عندما استثنى عز وجل وخص من كل ذلك وكذلك قولنا في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} أنه تعالى لم يرد كل ما يقع عليه اسم نسك أو صدقة أو صيام لكن أراد ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث لكعب بن عجرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 فإن قال قائل إن البيان يقع موصولا بعضه ببعض والنسخ لا يقع موصولا فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا قد قلنا في هذا ما يقع فيه من أنه ليس كل بيان نسخا فما كان من البيان نسخا لم يقع موصولا وما كان منه غير نسخ لكن تفسيرا لمراده تعالى في جملة ما فجائز أن يقع موصولا وجائز أن يقع في مكان آخر من القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق والنسخ ينقسم في اللغة إلى قسمين أحدهما التعفية تقول انتسخت دولة فلان ونسخت الربح أو القوم أي عفته جملة والقسم الثاني تجديد الشيء وتكثير أمثاله تقول نسخت الكتاب نسخا كثيرة فالقسم الأول الذي هو التعفية هو الذي قصدناه بالكلام في هذا الباب ولم نقصد القسم الثاني وإنما ذكرناه ليوقف عليه وليعلم أنا لا نقصده بالكلام في هذا الباب فيرتفع التخليط والإشكال إن شاء الله تعالى فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها قال أبو محمد الأوامر نسخها وإثباتها تنقسم أقساما أربعة لا خامس لها فقسم ثبت لفظه وحكمه وقسم ارتفع حكمه ولفظه وقسم ارتفع لفظه وبقي حكمه وقسم ارتفع حكمه وبقي لفظه ففي هذه الأقسام الثلاثة الأواخر يقع النسخ وأما القسم الذي صدرنا به فلا نسخ فيه أصلا وأما القسم الذي ارتفع حكمه ولفظه فقد روينا أن رجلا قرأ آية وحفظها ثم أراد قراءتها فلم يقدر فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر عليه السلام أنها رفعت ومن ذلك العشر الرضعات المحرمات ومن ذلك السورة التي ذكر أبو موسى الأشعري أنهم كانوا يقرؤونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت في طول سورة براءة وأنها نسيت فارتفعت من الحفاظ إلا آية منها وهي لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب والسورة التي ذكرها أيضا أبو موسى أنها كانت تشبه إحدى المسبحات فنسيت ولم يحفظ منها إلا آية ذكرها وقد نص الله تعالى على ذلك إذ يقول {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} وقد روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة فأسقط منها آية فلما سلم قال أثم أبي أو كما قال عليه السلام فأجابه فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عما منعه أن يلقنه الآية فقال أبي ظننت أنها رفعت فقال عليه السلام لم ترفع فهذا بيان صحة ما ذكرنا من أنه يرفع لفظ الآية جملة وأما القسم الذي رفع لفظه وبقي حكمه فآية الرجم وآية الخمس رضعات المحرمات وقد تعلل قوم في رد هذا الحديث بقول عائشة رضي الله عنها فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهما لمما يقرأ من القرآن قال أبو محمد وهذا لا تعلل فيه وإنما معناه أنه يقرأ من القرآن الذي سقط رسمه وإثباته في المصحف ولم تقل قط عائشة إنه من القرآن المتلو في المصحف فبطل تعللهم وأما القسم الذي رفع حكمه وبقي لفظه فقوله تعالى {وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا} وقوله تعالى {أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى لذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} وآيات كثيرة جدا وأما الذي ثبت لفظه وحكمه فسائر الآيات المحكمات والأوامر الواردة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منقسمة على الأقسام الأربعة التي ذكرنا أيضا ولا يظن ظان أن قولنا هذا معارض لقولنا إنه ليس له عليه السلام لفظ إلا قد بلغ إلينا فإننا إنما نفينا بقولنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 هذا أن يكون له عليه السلام لفظ لم ينسخ حكمه فيسقط فلا يبلغ إلينا لا لفظه ولا حكمه فهذا الذي نفينا جملة بقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وبقوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وبقوله {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} والحفظ يكون بتبليغ المعنى فكل حكم نقل إلينا كيفية فعله صلى الله عليه وسلم فيه وصفة حكمه ولم ينقل إلينا نص لفظه في ذلك فهو مما ارتفع لفظه وبقي حكمه وذلك نحو ما روي من قسمه عليه السلام مال البحرين وحكمه بالتمييز مع الشاهد ومساقاته ومزارعته أهل خيبر وما أشبه ذلك فهذا لا بد من أنه قد كان له من ذلك لفظ إلا أنه لم ينقل ونقل الحكم فهم بمنزلة ما ذكرنا أنه رفع لفظه من التلاوة وبقي حكمه ولا فرق وكل ذلك وحي من الله تعالى وأما المنسوخ لفظه وحكمه فمرفوع عنا علمه وتتبعه وطلبه فصل في رد المؤلف على القائلين قال أبو محمد قال بعض القائلين وقد ذكر النسخ وارتفاع اللفظ المنسوخ فقال وهذا وجه من وجوه الحكمة يجوز أن يكون علم الله تعالى أن يرفع هذا اللفظ يصلح ما لا يصلح ببقائه وذلك أنه إذا رفع تعالى الكل فقد علم أننا سنقبل على الأمر الناسخ ولا تتداخلنا فيه الشكوك لأن الله تعالى علم أن سيكون قوم من خلقه يبطلون النسخ فكانوا يضلون ببقاء اللفظ المنسوخ فرفعه لهذا المعنى قال أبو محمد وهذا من أفسد قول في الأرض وأسقطه ويقال لمن قال بهذا الهجر أكان الله تعالى غير قادر من وجوه الصلاح على أكثر من أن يرفع بعض كلامه لئلا يضل به قوم من خلقه أو كان قادرا على أن يكفيهم هذه المؤنة كلها ويهديهم بأن يبين لهم المنسوخ بيانا جليا يرفع به عنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 الشكوك والحيرة فإن قال لم يقدر الله تعالى على أكثر كفر ووصف نفسه من القدرة بأكثر مما وصف به خالقه عز وجل لأنه دائبا يشرح بزعمه ويبين ليهدي الناس فيما يدعي وإن قال بل إنه تعالى قادر على ما ذكرت قيل له فقد فعل ما غيره أصلح لهم منه وهذا ضد مذهبك الفاسد ويقال له أيضا إذا كانت الحكمة عندك رفع لفظ بعض المنسوخ جملة لئلا يضل به قوم فلأي شيء أبقى تعالى لفظا آخر منسوخا حتى ضل به جماعة أنت أحدهم في أشياء كثيرة تدعي أنت فيها النسخ ويخالفك فيها غيرك وأشياء كثيرة تدعي أنت أنها غير منسوخة ويدعي غيرك فيها النسخ فأين تلك الحكمة التي تطالب بها ربك تعالى وما الذي جعل رفع ما رفع أولى بالرفع من المنسوخ الذي أبقي لفظه حتى تحيرت فيه طوائف من أهل الملة وما الذي جعل إبقاء ما أبقي لفظه المنسوخ أولى بالإبقاء مما رفع لفظه من المنسوخ وما الذي أوجب نقض الحكم بما كان أمس فرضا ثم حرم اليوم أو ما كان حراما أمس ثم أبيح اليوم وهل هذا هنا حال استحالت أو طبيعة انتقضت فأوجب ذلك تبديل الشرائع إن هذا لهو الضلال البعيد والغناء الشديد والجهل المظلم والقحة الزائدة وما ههنا شيء أصلا إلا أن الله تعالى أراد أن يحرم علينا بعض ما خلق مدة ما ثم أراد تعالى أن يحرمه علينا ولا علة لشيء من ذلك كما لا علة لبعثه محمدا عليه الصلاة والسلام في العصر الذي بعثه دون أن يبعثه في العصر الذي كان قبله وكما لا علة لكون الصلوات خمسا دون أن تكون ثلاثا أو سبعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 فصل في قول الله تعالى ما ننسخ من آية قال أبو محمد قال الله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} وقد قرىء أو ننسها ومعنى اللفظين مختلف فالنسخ قد بينا معناه وهو رفع الحكم وأما ننسها فمعناه من النسيان وهو رفع اللفظ جملة وأما ننسأها فهو من التأخير ومعناه أن يؤخر العمل بها إلى مدة معلومة ويفعل الله من كل ذلك ما شاء لا معقب لحكمه فصل في اختلاف الناس على النسخ اختلف الناس في النسخ على ما يقع أعلى الأمر أم على المأمور به قال أبو محمد والصحيح من ذلك أن النسخ إنما يقع على الأمر ولا يجوز أن يقع على المأمور به أصلا لأن المأمور به هو فعلنا وفعلنا لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون قد وقع منا بعد وإما أن يكون لم يقع منا بعد فإن كان قد وقع منا بعد فقد فني لأن أفعالنا أعراض فانية ولا يجوز أن ينهى عما قد فني إذ لا سبيل إلى عودته أبدا وكذلك لا يجوز أن يؤمر أيضا بما قد فني لأنه لا يجوز أن يعود أيضا ولا أن يباح لنا ما قد فني أيضا لأن كل هذا محال وإن كان لم يقع منا فكيف ينسخ شيء لم يكن بعد فصح أن المرفوع إنما هو الأمر المتقدم لا الفعل الذي لم تفعله بعد فإذا قد صح أن الأمر هو المرفوع فهو المنسوخ والنسخ إنما يقع في الآمر لا في الأمر ولا في المأمور به وبالله تعالى التوفيق وبرهان ما ذكرناه قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} فأخبر تعالى أن الآية هي المنسوخة لا أفعالنا المأمور بها والمنهي عنها والآية هي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 الأمر الوارد من قبله تعالى بإيجاب ما أوجب أو تحريم ما حرم وأما المأمور به فهي حركاتنا وأعمالنا من صلاة وصيام وإقامة حد وغير ذلك فصح ما ذكرنا نصا وبالله تعالى التوفيق فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ وقد تشكك قوم في معاني النسخ والتخصيص والاستثناء فقوم جعلوها كلها نوعا واحدا قال أبو محمد وهذا خطأ لأن النسخ هو رفع حكم قد كان حقا وسواء عرفنا أنه سيرفع عنها أو لم نعرف بذلك وقد أعلم الله تعالى موسى وعيسى عليهما السلام أنه سيبعث نبيا يسمى محمدا بشرائع مخالفة لشرائعهما فهذا نسخ قد علمنا به وأما التخصيص فهو أن يخص شخص أو أشخاص من سائر النوع كما خص عليه السلام بفرض التهجد وإباحة تسع نسوة وكما خص أبو هاشم وبنو المطلب بتحريم الصدقة وأبو بردة تجزىء عنه الجزعة في الأضحية وأما الاستثناء فهو ما جاء بلفظ عام ثم استثني منه بعض ما يقع عليه ذلك اللفظ كقوله تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} وما أشبه ذلك إلا أن التخصيص إذا حقق فيه النظر فهو استثناء صحيح والفرق بين النسخ والاستثناء هو أن الجملة المستثنى منها بعضها ولم يرد قط تعالى إلزامنا إياها بعمومها ولا أراد إلا ما بقي منها بعد الاستثناء وأما النسخ فالذي نهينا عنه اليوم قد كان مراد منا بالأمس بخلاف الاستثناء وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إن النسخ استثناء الزمان الثاني من إطلاق الفعل على التأييد قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس هذا مما نجعله مع الاستثناء المطلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 نوعا واحدا لما ذكرنا من أن المستثنى لم يرد قط منا بوجه من الوجوه وأن المنسوخ قد كلفناه هذا فرق ظاهر بين فإن كان هذا المخالف يريد أن يقول إن النسخ نوع من أنواع الاستثناء لأن استثناء زمان تخصيصه بالعمل سائر الأزمان لم نأب عليه ذلك ويكون حينئذ صواب القول إن كل نسخ استثناء وليس كل استثناء نسخا وهذا صحيح فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه قال أبو محمد أنكر بعض اليهود النسخ جملة وقد تكلمنا في هذا في كتابنا الموسوم بالفصل ونعيد ههنا منا ما يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق إن منكري النسخ قالوا ليس من الحكمة أن يأمر الله تعالى بشيء أمس ثم ينهى عن مثله اليوم وهذا من نظائر قول أصحابنا بالعلل وهؤلاء قوم يتعقبون على ربهم تعالى فيقال لهم أخبرونا أي حكمة وجبت عليه تعالى أن يأمر أمس بما أمر به أترى لو لم يأمر تعالى بما أمر به لكانت تبطل حكمته أو لو أمر بغير ما أمر به لكانت تبطل حكمته أو ترون إذ قدس الأرض المقدسة ولعن أريحا ولعن أورشليم أكان ذلك مفسدا لحكمته وإذ حظر العمل في السبت وأباحه في الأحد أرأيتم لو عكس الأمر أكان ذلك مبطلا لحكمته فإن راموا فرقا بين شيء من ذلك لحقوا بالمجانين وجاهروا بما لا يفهم وبما يعلم بطلانه ثم يقال لهم أليس الله تعالى قد ملك قوما من الكفار العصاة الظلمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 ومكنهم وأذل قوما من الكفار العصاة الظلمة وملك غيرهم رقابهم وملك قوما صالحين فضلاء مؤمنين ومكنهم وبسط أيديهم وأذل قوما صالحين فضلاء مؤمنين وملك غيرهم رقابهم ومد أعمار قوم كفار طغاة واخترم آخرين منهم قبل بلوغ الاكتهال وفعل مثل ذلك بقوم مؤمنين أفاضل ومكن قوما عصاة مردة من البيان والكلام في العلوم حتى أضلوا أمما من الخلق وجعل آخرين منهم بلداء أغبياء وفعل مثل ذلك أيضا بالمؤمنين سواء بسواء فما الذي جعل هذا حكمه دون عكس كل ذلك وما الفرق بين هذا من أفعاله تعالى وبين أن يأمر اليوم بأمر ثم ينهى عن مثله غدا وما يفرق بين كل ما ذكر إلا عديم عقل أو وقح سخيف فإن قالوا إن هذا هو البداء لزمهم مثل ذلك في كل ما ذكرنا آنفا وفي إحيائه من يحيي ثم إماتته وفي إغنائه من يغني ثم إفقاره وفي تصحيحه جسم من يرزقه العافية ثم يمرضه وفي الهرم بعد الفتوة فإن قال قائل ما الفرق بين البداء والنسخ قيل له وبالله تعالى التوفيق الفرق بينهما لائح وهو أن البداء هو أن يأمر بالأمر والأمر لا يدري ما يؤول إليه الحال والنسخ هو أن يأمر بالأمر والأمر يدري أنه سيحيله في وقت كذا ولا بد قد سبق ذلك في عمله وحتمه من قضائه فلما كان هذان الوجهان معنيين متغايرين مختلفين وجب ضرورة أن يعلق على كل واحد منها اسم يعبر به عنه غير اسم الآخر ليقع التفاهم ويلوح الحق فالبداء ليس من صفات الباري تعالى ولسنا نعني الباء والدال والألف وإنما نعني المعنى الذي ذكرنا من أن يأمر بالأمر لا يدري ما عاقبته فهذا مبعد من الله عز وجل وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا وأما النسخ فمن صفات الله تعالى من جهة أفعاله كلها وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 القضاء بالأمر قد علم أنه سيحيله بعد مدة معلومة عنده عز وجل كما سبق في علمه تعالى ولسنا نكابر على النون والسين والخاء وإنما نعني المعنى الذي بينا وسواء سموه نسخا أو بداء أو ما أحبوا من الأسماء ولكن اسمه عند النسخ وبهذه العبارة نعبر عن هذا المعنى الذي لا يخلو الله تعالى فعل منه أصلا في دار الابتلاء وكل شيء منها كائن فاسد وهذا هو النسخ وهو نوع من أنواع الكون والفساد الجاريين في طبيعة العالم بتقدير خالقه ومخترعه ومدبره ومتممه لا إله إلا هو واسم الصفة الأولى عندنا البداء فيها يعبر عن هذا المعنى الذي هو من صفات المختارين من الإنس والجن وسائر الحيوان وهو خلق مذموم لأنه نتيجة الملل والندم والسآمة وهذه الأخلاق منفية عن الملائكة بنص القرآن فكيف عن الباري تعالى فهذا فرق ما بين البداء والنسخ قد لاح والحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم قال أبو محمد والنسخ قبل حلول الوقت الذي علم الله عز وجل أنه يحيل فيه الحال ممتنع في الوجود لا في قدرته تعالى على ذلك وهو عندنا في ظاهر الأمر ممكن قال أبو محمد وهو في وقت حلوله وبلوغ أمده الذي قدره تعالى كائنا فيه واجب وهو بعد أن علمنا الله عز وجل أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ممتنع لا سبيل إليه في الوجود لا على معنى أنه تعالى لا يوصف بالقدرة على ذلك بل نعوذ بالله من الفكر في هذا أو التشكيك بل هو عز وجل قادر الآن وأبدا على أن يبعث نبيا آخر بدين آخر ولكنه أخبرنا أنه لا يفعل ذلك مريدا لتركه وقوله الحق فعلمنا أن كون ما لا يريد تعالى كونه ممتنع أن يكون أبدا ويقال لمن أبى النسخ ما الفرق بين أن يأمرنا الله بشيء في وقت ما ويبينه لنا ويعلمنا أنه إذا أتى وقت كذا وجب الانتقال إلى شيء آخر وبين أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 يأمرنا ولا يعلمنا أنه سينقلنا إلى شيء آخر وهذا ما لا سبيل إلى وجود فرق فيه أبدا لذي تمييز وعقل لأنه ليس لنا على الله تعالى شرط ولا عليه أن يطلعنا على علمه ولا يتقمن مسارنا ولا أن يأخذ آراءنا في شيء ومدعي هذا ملحد في دين الله عز وجل كافر به مفتر عليه وقد نص تعالى على ذلك بقوله تعالى {لله لا إله إلا هو لحي لقيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في لسماوات وما في لأرض من ذا لذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء وسع كرسيه لسماوات ولأرض ولا يؤوده حفظهما وهو لعلي لعظيم} وبقوله عز وجل {عالم لغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من رتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} وهذا ما لا يخالفنا فيه إلا بعض اليهود وأما أهل الإسلام فكلهم يجيزون النسخ إلا بعض من منع من هذه اللفظة وأجاز المعنى وهذا ما لا ننازعه فيه إذا سلم لنا الصفة المسماة فلسنا ممن يشتغل بالاسم إلا حيث أوجب ذلك النص وأما اليهود فغير منكر من شدة جهلهم وضعف عقولهم وعظيم بهتهم وكذبهم وتناقض أقوالهم وصلابة وجوههم ورخاوة قلوبهم وفرط غيظهم على ربهم عز وجل إذا أحل بهم من البلاء والذل والمهانة والخسة ما أحل أن يدعوا أن لهم على ربهم شروطا أكثر من هذا فهم يدعون لكلب من أخبارهم يسمى إشماعيل لعنة الله عليه وعليهم أن الله تعالى عما يقول اليهود المشركون علوا كبيرا تعلق في خرب بيت المقدس بثياب إشماعيل وهو يعنون ربهم يبكي ويئن كما تئن الحمامة وأنهم يعنون ربهم رغب إلى إشماعيل هذا الرذل أن يبارك عليه بمعنى أن ربهم طلب من إشماعيل البركة فمن كان ربه عنده في نصاب من يطلب بركة إشماعيل لنفسه غير منكر أن يسفهوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 فيما أحبوا وهذه صفة جني لعب بعقولهم وسخر منهم لا صفة الباري تعالى عز وجل على أنه قد بين لهم في التوراة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنذروا به فصح بذلك أن شريعتهم إنما علقت لهم بشرط ما لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر الذي هو رجاء الأمم والذي يستعلي من جبار فاران ومعه ألوف من الصالحين والذي يجعل الله تعالى كلامه في فمه ومن عصاه انتقم منه فصار ذلك بمنزلة ما أمروا به من العمل في التيه بأوامر ما وفي البيت والشام بأوامر أخر ومثله ما أمروا به من العمل في غير السبت ثم تحريم العمل في السبت وبمنزلة صيام وقت ما والمنع منه في وقت آخر ومثل إباحة الوطء في وقت ما وتحريمه في وقت الحيض وسائر الشرائع المرتبطة بأوقات ما فإذا عدمت تلك الأوقات انتقل حكم تلك الشرائع وكل ذلك لا علة له ولا شيء يوجبه أصلا لا مصلحة ولا غيرها إلا أنه تعالى أراد ذلك كما أراد خلق ما خلق من الخلائق المختلفات فقط وبالله تعالى التوفيق فكيف وفي توراتهم أن الله تعالى أباح لآدم وبنيه أكل حيوان حاشا الدم وهذا خلاف شريعة موسى عليه السلام فقد صح النسخ عندهم فصل فيما يجوز النسخ فيه وفيما لا يجوز فيه النسخ قال أبو محمد النسخ لا يجوز إلا في الكلام الذي معناه الأمر أو النهي وقد بينا في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب لحدود المنطق أن الكلام كله ينقسم أربعة أقسام أمر ورغبة وخبر واستفهام فالاستفهام والخبر والرغبة لا يقع فيها نسخ وإنما يسمى الرجوع عن الخبر وعن الاستفهام استدراكا فكل ذلك منفي عن الله عز وجل لأن الرجوع عنهما إنما هو تكذيب للخبر المرجوع عنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 ومعرفة وكراهية لما رجع عن الاستفهام عنه لعرض حدث أو لعلم بشيء كان يجهل وأما الرجوع عن الرغبة فإنما يسمى استقالة أو تنزها عما انحط إليه قبل ذلك وقد قدمنا أن المعاني إذا اختلفت فواجب أن يخالف بين أسمائها لئلا يقع الإشكال وليلوح البيان ويصح الفهم والإفهام فبقي الرجوع عن الأمر بإحداث أمر غيره فيسمى نسخا وهو فعل من علم أن سيرفع أمره ويحيله فإذا ورد الكلام لفظه لفظ الخبر ومعناه معنى الأمر جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى لحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ولله عزيز حكيم} وفي هذا توجد منا المعصية مثل قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} فإنما هذا أمر لنا بأن نؤمن كل من دخل مقام إبراهيم وليس هذا خبرا ولو كان خبرا لكان كذبا لأنه قد قتل الناس حوله ظلما وعدوانا قال أبو محمد وموجود في كل لغة أن يرد الأمر بلفظ الخبر وبلفظ الاستفهام كقول القائل لعبده أتفعل أمر كذا أو ترى ما يحل بك وإنما ذلك أن الخبر عن الشيء إيجاب لما يخبر به عنه والأمر إيجاب لفعل المأمور به فهذا اشتراك بين صيغة الخبر وصيغة الأمر فإذا قال قائل حق عليك القيام إلى زيد فهذا خبر صحيح البنية معناه قم إلى زيد وكذلك قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} معناه ليحج الناس منكم من استطاع وكذلك إذا قال القائل قد أوجبت عليك القيام إلى زيد فهذا خبر صحيح البنية معناه قم إلى زيد وكذلك قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لصيام كما كتب على لذين من قبلكم لعلكم تتقون} معناه صوموا فما كان من الأخبار هكذا فالنسخ فيها جائز وأما ما كان خبرا مجردا مثل قام زيد وهذا عمرو ووقع أمس خطب كذا وزيد الآن قائم وغدا يكون أمر كذا فهو لا يجوز النسخ فيه البتة لأنه تكذيب لهذا الخبر والله تعالى منزه عن الكذب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 بإخباره تعالى أن قوله الحق وبقوله تعالى {قال فلحق ولحق أقول} وهو موصوف بأنه ينسخ ويحيل ويبدل الأمور بقوله تعالى {يمحو لله ما يشآء ويثبت وعنده أم لكتاب} وبقوله تعالى {قل للهم مالك لملك تؤتي لملك من تشآء وتنزع لملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك لخير إنك على كل شيء قدير} وبقوله تعالى {قل للهم مالك لملك تؤتي لملك من تشآء وتنزع لملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك لخير إنك على كل شيء قدير} بإخباره تعالى أنه كل يوم في شأن وقد اختلف أصحابنا في بعض الأوامر أيجوز فيها النسخ أم لا فقالوا كل ما علم بالعقل فلا يجوز أن ينسخ مثل التوحيد وشبهه قال أبو محمد وهذا فاسد من القول لأنه مجمل لما لا يجوز مع ما لا يجوز ولكن يسأل قائل هذا القول فيقال ما أردت بقولك لا يجوز نسخ التوحيد فإن كنت تريد أنه بعد أن أعلمنا الله تعالى أنه لا ينسخ هذا الدين أبدا لا يجوز تبديله وإن كنت تريد أنه لما سلف في سابق علم الله تعالى أنه لا ينسخه أبدا علمنا أنه لا يجوز نسخه فنعم هذا قوله صحيح وهكذا إباحة الكبش وتحريم الخنزير وجميع شرائع الملة الحنيفة المستقرة لا يجوز نسخ شيء منها أبدا ولا فرق بين التوحيد وسائر الشرائع في ذلك البتة وإن كنت تريد أنه تعالى غير قادر على نسخ التوحيد أو أنه تعالى قادر على نسخه والأمر بالتثنية أو التثليث إلا أنه لو فعل ذلك لكان ظلما وعبثا فاعلم أنك مخطىء ومفتر على الله تعالى لأنك معجز له متحكم عليه وقاض بأنك مدبر لخالقك عز وجل وموقع له تحت رتب وقوانين بعقلك إن خالفها عبث وظلم وهذا كلام يؤول إلى الكفر المجرد والشرك المحض مع عظيم ما فيه من الجهل والجنون بل نقول إن الله عز وجل قادر على أن ينسخ التوحيد وعلى أن يأمر بالتثنية والتثليث وعبادة الأوثان وأنه تعالى لو فعل ذلك لكان حكمة وعدلا وحقا ولكان التوحيد كفرا وظلما وعبثا ولكنه تعالى لا يفعل ذلك أبدا لأنه قد أخبرنا أن لا يحيل دينه الذي أمرنا به فلما أمنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 ذلك صار ما تبرأ الله منه كفرا وظلما وعبثا وصار ما أمر به حقا وعدلا وحكمة فقط وليس اعتقادنا التوحيد حقا ولا حكمة بذاته دون أن يكون لله فيه أمر ولكن إنما صار حقا وعدلا وحكمة لأن الله تعالى أمر به ورضيه وسماه حقا وعدلا وحكمة فقط فهذا دين الله عز وجل الذي نص عليه بأن يفعل ما يشاء وأنه {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وأنه لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء وهذا هو القول الذي دلت العقول على صحته وبطلان ما عداه لأن العقل يشهد أن الله تعالى خلقه وأنه كان تعالى حقا واحدا أولا إذ لا نفس حيوانية ولا عقل مركب فيها ولا في غيرها ولا جوهر ولا عرض ولا عدد ولا معدود ولا رتبة من الرتب وأنه تعالى خلق النفوس بعد أن لم تكن وخلق العقول على ما هي عليه بعد أن لم تكن ورتب فيها الرتب على ما هي عليه بعد أن لم يكن شيء منها وأنه لو شاء أن يخلق العقول على غير ما هي عليه وأن يرتب الأمور فيها على خلاف ما رتبها لفعله ولما تعذر ذلك عليه ولكان حينئذ هو الحق والعدل والحكمة وما عداه الظلم والجور والعبث لا معقب لحكمه ومن ادعى غير هذا فقد ادعى أن رتبة العقل المجهول في النفس كانت موجودة إذ لا عقل ولا نفس وهذا عين التناقض والخبال والخلف والمحال ومن أنار الله تعالى عقله وسيره لأن يستضيء به وتصور له حدوث العالم بعد أن لم يكن أشرف على صحة ما ذكرناه وأيقنه وشاهده وعلمه ضرورة ولم يكن عنه له محيد أصلا ومن أصحب الله تعالى نفسه والحيرة وتمييزه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 الضعف تحير وتصور الأمور بخلاف ما هي عليه ولم يخرج إلى طرف وظن الظنون المردية ولله تعالى الحمد على ما علم وهدى لا إله إلا هو الرحمن الرحيم قال أبو محمد ومن بديع ما قطع أصحابنا على أنه لا يجوز نسخه شكر المنعم وأن كفر المنعم لا سبيل إلى إباحته في العقل أصلا قال أبو محمد فنسأل قائل هذا القول الفاسد فنقول له ما تقول في رجل استنقذ طفلا قد أشرف الأسد على افتراسه فرباه ولا أب له ولا أم ولا مال فأحسن تربيته ثم علمه العلوم وأكرمه وبره ولم يذله ولا استخدمه وموله وزوجه وخوله ثم إن ذلك المحسن إليه زنى وهو محصن وسرق وقذف ثم تاب من كل ذلك وتعبد ثم قامت عليه بذلك بينة عدل وقدم إلى يتيمه وهو بعد حاكم من حكام المسلمين فما ترى أن يفعل فيه أيشكر فيعفو عنه ولا سيما وقد تاب أو يأمر بأن يوجع متناه بالسياط ثم يقطع يده ثم يأمر بشدخ هامته بالحجارة حتى يموت فإن قال أرى أن يعفو عنه كفر إن اعتقد ذلك أو فسق إن أشار بذلك غير معتقد له وإن قال أرى أن يوقع به أنواع العذاب الذي ذكرنا فقد ترك مذهبه الفاسد في ألا يكفر إحسان المنعم فإن قال إن هذا الفعل هو شكره على الحقيقة قال خلاف ما ادعى أن العقل يوجبه وسمى غاية الإساءة إحسانا فإن رجع إلى أن يقول إنما يحسن في العقول شكر المنعم الذي أمر الله تعالى بشكره لا شكر المنعم الذي أمر الله تعالى بالإضرار به وألا يقارض على إحسانه رجع إلى الحق وإلى أنه لا حسن إلا ما فعل الله تعالى ولا قبيح إلا ما نهى الله عنه وهذا الذي لا يجوز غيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 والعجب من ذهاب هؤلاء القوم عن نور الحق في هذه المسألة وهم يسمعون الله تعالى يقول {لا تجد قوما يؤمنون بلله وليوم لآخر يوآدون من حآد لله ورسوله ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم لإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها لأنهار خالدين فيها رضي لله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب لله ألا إن حزب لله هم لمفلحون} وقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا كونوا قوامين بلقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو لوالدين ولأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فلله أولى بهما فلا تتبعوا لهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن لله كان بما تعملون خبيرا} فأوجب تعالى القيام عليهم بمر الحق وإن أدى إلى صلبهم وقتلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وأعضائهم وضربهم بالسياط وشدخهم بالحجارة وهتك أستارهم وسبي نسائهم وذراريهم وبيع أملاكهم وبيعهم مماليك وأخذ أموالهم وإن كانوا آباءنا المحسنين إلينا إذا كفروا فأين شكر المنعم وبر الأب على الإطلاق وهذا كله محال وإنما الذي يجب فهو بر الوالدين الأبوين الذين أوجب الله برهما وإنما الذي يجب أيضا فهو شكر المنعم الذي أمر الله بشكره ولم يأمرنا الله تعالى ببر الوالدين لما وجب برهما ولا عقوقهما ولو لم يأمرنا بشكر المنعم لما لزم شكره ولا كفره كما لا يلزم بر الوالدين الحربيين أو المحاربين وكذلك المنعم الحربي أو المحارب ولو لم يأمرنا بالرحمة لما وجبت أيضا كما أننا نضجع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 الخروف الصغير ونذبحه ونطبخ لحمه ونأكله ونفعل ذلك أيضا بالفصيل الصغير ونثكل أمه إياه ونولد عليها من الحنين والوله أمرا ترق قلوب سامعيه له وتؤلم نفوس مشاهديها وقد شاهدنا كيف خوار البقر وفعلها إذا وجدت دم ثور قد ذبح وكل هذا حلال بلا مأمور به ويكفر من لم يستحله ويجب بذلك سفك دمه فأي فرق في العقول بين هذا وبين ذبح صبي آدمي لو أبيح لنا ذلك وقد جاء في بعض الشرائع أن موسى عليه السلام أمر في أهل مدين إذا حاربهم بقتل جميع أطفالهم أولهم عن آخرهم من الذكور وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين يصابون في البيات فقال هم من آبائهم فهل في هذا كله شيء غير الأمور الواردة من الله عز وجل وقد قال قوم إذا جاء أمر بشريعة ما وجاء على فعلها وعد وعلى تركها وعيد ثم نسخ ذلك الأمر فقد نسخ الوعد والوعيد عليه قال أبو محمد فيقال له وبالله تعالى التوفيق لم ينسخ الوعد ولا الوعيد لأنهما إنما كانا متعلقين بثبات ذلك الأمر لا على الإطلاق وإنما يصح النسخ فيها لو بقي ذلك الأمر بحبسه ثم يأتي خبر بإسقاط ذلك الوعيد وهذا ما لا سبيل إليه بعد ورود الخبر به ولا نسخ في الوعد ولا في الوعيد البتة لأنه كان يكون كذبا وإخلافا وقد تنزه الله تعالى عن ذلك ولكن الآيات والأحاديث الواردة في ذلك مضموم بعضها إلى بعض ولا يجوز أن نقتصر منها على بعض دون بعض على ما بينا في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد وقد غلط قوم غلطا شديدا وأتوا بأخبار ولدها الكاذبون والملحدون منها أن الداجن أكل صحيفة فيها آية متلوة فذهب البتة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 ومنها أن قرآنا أخذه عثمان بشهادة رجلين وشهادة واحدة ومنها أن قراءات كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقطها عثمان وجمع الناس على قراءة واحدة قال أبو محمد وهذا كله ضلال نعوذ بالله منه ومن اعتقاده وأما الذي لا يحل اعتقاد سواه فهو قول الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} فمن شك في هذا كفر ولقد أساء الثناء على أمهات المؤمنين ووصفهن بتضييع ما يتلى في بيوتهن حتى تأكله الشاة فيتلف مع أن هذا كذب ظاهر ومحال ممتنع لأن الذي أكل الداجن لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظا له أو كان قد أنسيه فإن كان في حفظه فسواء أكل الدواجن الصحيفة أو تركها وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنسيه فسواء أكله الداجن أو تركه قد رفع من القرآن فلا يحل إثباته فيه كما قال تعالى {سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شآء لله إنه يعلم لجهر وما يخفى} فنص تعالى على أنه لا ينسى أصلا شيئا من القرآن إلا ما أراد تعالى رفعه بإنسائه فصح أن حديث الداجن إفك وكذب وفرية ولعن الله من جوز هذا أو صدق به بل كل ما رفعه الله تعالى من القرآن فإنما رفعه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قاصدا إلى رفعه ناهيا عن تلاوته إن كان غير منسي أو ممحوا من الصدور كلها ولا سبيل إلى كون شيء من ذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجيز هذا مسلم لأنه تكذيب لقوله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} ولكان ذلك أيضا تكذيبا لقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} ولكان ما يرفع منه بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرما في الدين ونقصا منه وإبطالا للكمال المضمون ولكان ذلك مبطلا لهذه الفضيلة التي خصصنا بها والفضائل لا تنسخ والحمد لله رب العالمين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وأما فعل عثمان رضي الله عنه فلم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والقرآن مجموع كما هو مرتب لا مزيد فيه ولا نقص ولا تبديل والقراءات التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باقية كلها كما كانت لم يسقط منها شيء ولا يحل حظر شيء منها قل أو كثر قال الله تعالى {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} ولبيانه هذا وتقصي الكلام فيه مكانه من باب الإجماع من كتابنا هذا إن شاء الله تعالى قال أبو محمد وقد قال قوم في آية الرجم إنها لم تكن قرآنا وفي آيات الرضعات كذلك قال أبو محمد ونحن لا نأبى هذا ولا نقطع أنها كانت قرآنا متلوا في الصلوات ولكنا نقول إنها كانت وحيا أوحاه الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم مع ما أوحى إليه من القرآن فقرىء المتلو مثبوتا في المصاحف والصلوات وقرىء سائر الوحي منقولا محفوظا معمولا به كسائر كلامه الذي هو وحي فقط ولسنا ننكر رفع آيات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدور جملة لقوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} ولا نجيز ذلك بعد موته لقوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} فإنما اشترط الله تعالى لنا رفعها معلقا بأن يأتينا بخير منها أو مثلها وهذا ما لا سبيل إليه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الإتيان بآية بعده لا سبيل إليه إذ قد انقطع الوحي بموته ومن أجاز ذلك فقد أجاز كون النبوة بعده ومن أجاز ذلك فقد كفر وحل دمه وماله ولا سبيل إلى أن ينسى عليه السلام شيئا من القرآن قبل أن يبلغه فإذا بلغه وحفظه للناس فلسنا ننكر أن ينساه عليه السلام لأنه بعد محفوظ مثبت وقد جاء مثل ذلك في خبر صحيح أنه سمع رجلا يتلو القرآن فدعا له بالرحمة وأخبر عليه السلام أنه أذكره آية كان نسيها ولأنه قد بلغه كما أمر كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا ثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ من الليل فقال رحمه الله لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتها من سورة كذا وكذا ورواه عبدة وأبو معاوية عن هشام أذكرني آية كنت أنسيتها فصل هل يجوز نسخ الناسخ قال أبو محمد ولا فرق بين أن ينسخ تعالى حكما بغيره وبين أن ينسخ ذلك الثاني بثالث وذلك الثالث برابع وهكذا كل ما زاد كل ذلك ممكن إذا وجد برهان على صحته وقد جاء في بعض الآثار أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فكان عاشوراء فرضا ثم نسخ فرضه بصيام رمضان بشرط أن من شاء صام ومن شاء أطعم مسكينا وأفطر هو ثم نسخ ذلك بإيجاب الصيام على الحاضر المطيق الصحيح البالغ العاقل وكان من نام لا يحل له الأكل ولا الوطء ثم نسخ ذلك بإباحة كل ذلك في الليل والحظر لصيام الليل إلى الفجر وقد أوردنا في كتاب النكاح من ديواننا الكبير المسمى بالإيصال بأصح أسانيد أن نكاح المتعة أباحه الله تعالى ثم نسخه ثم أباحه ثم نسخه ثم أباحه ثم نسخه إلى يوم القيامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 فصل في مناقل النسخ قال أبو محمد مراتب الأوامر في الشريعة كلها خمسة لا سادس لها وهي حرام وهو الطرف الواحد وفرض وهو الطرف الثاني وبين هذين الطرفين ثلاث مراتب فيلي الحرام مرتبة الكراهة وهي الأشياء التي تركها خير من فعلها إلا أن من تركها أجر ومن فعلها لم يأثم وذلك نحو الأكل متكئا والتمسح من الغسل في ثوب معد لذلك وما أشبه ذلك ويلي مرتبة الفرض مرتبة الندب وهي الأشياء التي فعلها خير من تركها إلا أن من فعلها أجر ومن تركها غير راغب عنها لم يأثم وفي هذا الباب يدخل التطوع كله بأفعال الخير وبين هاتين المرتبتين مرتبة المباح المطلق وهو ما تركه وفعله سواء إن فعله لم يؤجر ولم يأثم وإن تركه لم يؤجر ولم يأثم كجلوس الإنسان مربعا أو مرفوع الركبة الواحدة وصباغة ثوبه أخضر أو أسود وحسه الشيء بيده وما أشبه ذلك فإذا نسخ الفرض نظر فإن كان بلفظ لا تفعل بعد أن أمرنا بفعله فهو منتقل إلى التحريم لأن هذه صيغة للتحريم وإن نسخ بأن قال {يأيها لذين آمنوا إذا جآءكم لمؤمنات مهاجرات فمتحنوهن لله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى لكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم لكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم لله يحكم بينكم ولله عليم حكيم} أو بلفظ تخفيف أو بترك أو بفعل لم ينتقل إلا إلى أقرب المراتب وهو الندب وذلك مثل صيام عاشوراء فإنه لما نسخ وجوبه انتقل إلى الندب وكذلك إن نسخ التحريم فإن كان نسخه بلفظ افعل انتقل إلى الفرض لأن هذه صيغة الفرض وإن نسخ بلا جناح أو بتخفيف انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة وإذا نسخت الكراهة أو الندب بلفظ افعل انتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الكراهة وإذا نسخت الكراهة أو الندب بلفظ افعل انتقلا إلى الفرض فإن نسخا بلفظ لا تفعل انتقلا إلى التحريم فإن نسخا بتخفيف انتقلا إلى الإباحة المطلقة لأن الإباحة أقرب إليهما من الفرض والتحريم لأن المكروه والمندوب إليه مباحان ولكنهما معلقان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 بشرط كما ترى وقد نسخ تحريم وطء النساء بعد النوم في ليالي الصوم إلا الإباحة بالندب ونسخ المنع من القتال بإيجابه ونسخ فرض استقبال بيت المقدس بالتحريم وقد نسخ فرض بفرض آخر كنسخ حبس الزواني إلى الجلد والرجم أو الجلد والتغريب فصل في آية ينسخ بعضها ما حكم سائرها قال أبو محمد إذا جمعت الآية أو الحديث حكمين فصاعدا فجاء نص أو إجماع بنسخ أحد الحكمين أو تخصيصه أو إخراجه إلى الندب وقف عنده ولم يحل لمسلم أن يقول إن الحكم الآخر منسوخ من أجل هذا الحكم المذكور معه في الآية أو الحديث ولا أنه مخصوص ولا أنه ندب بل يبقى على حكمه كما كان وعلى ما يوجبه ظاهره لقول الله عز وجل {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} ومن ادعى أن هذا الحكم مرتبط بيانه أو نسخه بحكم آخر فقد افترى على الله عز وجل وادعى ما لا دليل عليه ولزمه أن متى وجد في سورة واحدة آية منسوخة أن يقول إن تلك السورة منسوخة كلها من أجل الآية المنسوخة منها ولزمه ما هو أفحش من هذا وهو أن يقول إن القرآن كله منسوخ من أجل وجوده فيه أحكاما كثيرة منسوخة ولا فرق بين عطف حكم على حكم وبين عطف آية على آية ولا فرق بين ذكر حكمين في آية وبين ذكرهما في سورة فإذا وجب أن يكون أحد الحكمين المذكورين في الآية منسوخا لزم مثل ذلك في أحكام السورة كلها لأن الحكم المذكور معها منسوخ أيضا ولا فرق وهذا إبطال للشريعة جملة وخروج عن الإسلام ومن الله تعالى العافية علينا من ذلك وبالله تعالى التوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 قال أبو محمد مثال ذلك قوله تعالى {وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا} ثم نسخ تعالى الإمساك في البيوت وأثبت استشهاد الأربعة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي وحلوان الكاهن وكسب الحجام وثمن الكلب فخرج كسب الحجام عن التحريم بحديثه عليه السلام أطعمه رقيقك وناضحك فيلزم من خالفنا أن يبيح من أجل ذلك مهر البغي وحلوان الكاهن وهذا ما لا يقوله مسلم وقد قال الطحاوي إن النهي عن ثمن الكلب منسوخ بنسخ إيجاب قتل الكلاب قال أبو محمد ولا أدري في أي عقل أم في أي نص وجد هذا الرجل أنه إذا حرم قتل حيوان حل بيعه أتراه جهل أن يبيعه وبيع كل حر حرام وقتله حرام ما لم يقترف ما حل دمه إن هذه لغباوة شديدة وعصبية لمذهبه الفاسد قبيحة ونعوذ بالله من التقليد المؤدي إلى القول على الله تعالى بمثل هذا بغير علم ولا هدي ولا كتاب منير وليت شعري ما الفرق بينه وبين من عارضه فقال بل لما حرم الله أكلها حرم بيعها فصل في كيف يعلم المنسوخ والناسخ مما ليس منسوخا قال أبو محمد لا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء من القرآن والسنة هذا منسوخ إلا بيقين لأن الله عز وجل يقول {وما أرسلنا من رسول ألا ليطاع بإذن لله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فستغفروا لله وستغفر لهم لرسول لوجدوا لله توابا رحيما} وقال تعالى {قل من حرم زينة لله لتي أخرج لعباده والطيبات من لرزق قل هي للذين آمنوا في لحياة لدنيا خالصة يوم لقيامة كذلك نفصل لآيات لقوم يعلمون} فكل ما أنزل الله تعالى في القرآن أو على لسان نبيه ففرض اتباعه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 فمن قال في شيء من ذلك إنه منسوخ فقد أوجب ألا يطاع ذلك الأمر وأسقط لزوم اتباعه وهذه معصية لله تعالى مجردة وخلاف مكشوف إلا أن يقوم برهان على صحة قوله وإلا فهو مفتر مبطل ومن استجاز خلاف ما قلنا فقوله يؤول إلى إبطال الشريعة كلها لأنه لا فرق بين دعواه النسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره والنسخ في آية ما أو حديث ما وبين دعوى غيره النسخ في آية أخرى وحديث آخر فعلى هذا لا يصح شيء من القرآن والسنة وهذا خروج عن الإسلام وكل ما ثبت بيقين فلا يبطل بالظنون ولا يجوز أن تسقط طاعة أمر أمرنا به الله تعالى ورسوله إلا بيقين نسخ لا شك فيه فإذا قد صح ذلك وثبت فلنقل في الوجوه التي بها يصح نسخ الآية أو الحديث فإذا عدم شيء من تلك الوجوه فقد بطلت دعوى من ادعى النسخ في شيء من الآيات أو الأحاديث قال أبو محمد فإذا اجتمعت علماء الأمة كلهم بلا خلاف من واحد منهم على نسخ آية أو حديث فقد صح النسخ حينئذ فإن اختلفوا نظرنا فإن وجدنا الأمرين لا يمكن استعمالهما معا أو وجدنا أحدهما كان بعد الآخر بلا شك أو وجدنا نصا جليا على منسوخ ووجدنا نصا في ذلك من نهي بعد أمر أو أمر بعد نهي أو نقل من مرتبة إلى مرتبة على ما قدمنا فقد أيقنا بالنسخ مثل قوله عليه السلام نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ونهيتكم عن الانتباذ في الأسقية فانتبذوا وأباح الانتباذ في كل ظرف ومثل قول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار ومثل ما روي أنه رخص في الحجامة للصائم والترخيص لا يكون إلا بعد النهي والحجامة هكذا فعل الحاجم والمحجوم معا فهذان وجهان أو نجد حالا قد أيقنا بإبطالها وارتفاعها وحالا أخرى قد أيقنا بنزولها ووجوبها ورفعها للحال الأولى ثم جاء نص من قرآن أو حديث موافق للحال المرفوعة التي قد سقطت بيقين إلا أننا لا ندري هل جاء هذا النص الموافق لتلك الحال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 المرفوعة قبل مجيء الحال الرافعة أو بعدها فإذا كان مثل هذا ففرض ألا يترك ما أيقنا بوجوبه علينا وصح عندنا لزومه لنا وحرم علينا أن نرجع إلى حال قد أيقنا بارتفاعها عنا وصح عندنا بطلانها إلا بنص جلي راد لنا إلى الحالة الأولى ورافع عنا الحالة الثانية ومن تعدى هذا فقد قفا ما لا علم له به وترك الحق واليقين واستعمل الشك والظنون وذلك ما لا يحل أصلا فكيف وقول الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وقوله تعالى {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} وقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} شواهد قاطعة بأنه لا يجوز البتة أن يكون الله تعالى تركنا في عمياء وضلالة لا ندري معها أبدا هل هذا الحكم منسوخ أو غير منسوخ هذا أمر قد أمنا وقوعه أبدا إذ لو كان ذلك لكان الدين قد بطل أكثره ولكننا في شك متصل لا ندري أنعمل بالباطل في نصوص كثيرة من القرآن والسنن أم نعمل بالحق وهل نحن في طاعات كثيرة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم على ضلال أو على هدى حاشا لله من هذا فصح يقينا أن حكم تيقنا بطلانه فهو باطل أبدا بلا شك حتى يأتي نص ثابت بأنه قد عاد بعد بطلانه هكذا ولا بد وإلا فلا والحمد لله رب العالمين فمن هذا الباب ما قد أيقنا من أن إباحة زواج أكثر من أربع نسوة قد ارتفعت وأن نكاح أكثر من أربع حرام على كل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيقين وقد جاء حديث بتخيير من أسلم وعنده أكثر من أربع فكان هذا الحديث موافقا لحال ما نسخ من ترك التحريم لزواج أكثر من أربع وما كان عليه من أسلم وعنده أكثر من أربع لأنهم نكحوهن وذلك غير محظور عليهم فلما نزل التحريم خيروا في أربع منهن وكان من ابتدأ نكح خامسا فصاعدا وأكثر من أربع معا أو أختين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 أو أم وابنتها بعد نزول تحريم كل ذلك عاصيا لله عز وجل وعاملا عملا ليس عليه أمره فهو رد ففعله ذلك كله مردود وعقده ذلك فاسد مفسوخ محلول غير ماض أصلا فصح بذلك ارتفاع التخيير وأنه إنما كان ذلك للذين نكحوا أكثر من أربع قبل أن يحظر ذلك وأيضا فلو صح تخيير من ابتدأ نكاح خمس في كفر بعد ورود النهي عن ذلك لما كان في ذلك إباحة تخيير من أسلم وعنده أختان أو حريمتان ومع ذلك أيضا أننا قد أيقنا أنه قد كان في صدر الإسلام إذا نام الرجل في ليل رمضان حرم عليه الوطء والأكل والشرب ثم نسخ ذلك وجاء حديث أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أدركه الصبح وهو جنب فقد أفطر فكان هذه الحديث موافقا لتلك الحال المنسوخة وقد أيقنا برفعها وبإباحة الوطء إلى تبين طلوع الفجر فلا سبيل إلى الرجوع إلى حظر الوطء إلا ببيان جلي ومن ذلك أننا قد أيقنا بأن الوصية لم تكن مدة من صدر الإسلام فرضا ثم أيقنا نزول وجوب الوصية للوالدين والأقربين ثم جاء حديث عمران بن الحصين في الستة الأعبد فكان هذا الحديث موافقا للحال المرفوعة من ألا يلزم المرء أن يوصي لوالديه وأقربيه فلم يجز لنا أن نرفع به حكم الآية التي أيقنا أنها ناسخة للحال الأولى ولا جاز لنا أن نرجع إلى حالة قد أيقنا أنها حظرت علينا إلا بنص جلي إن هذا الحديث كان بعد نزول الآية وبأن أولئك الأعبد لم يكونوا أقارب الموصي بعتقهم ولا سبيل إلى وجود بيان بذلك أبدا وبالله تعالى التوفيق فصح أن كل ما كان في معنى الحال المتقدمة من إباحة ترك الوصية للوالدين والأقربين منسوخ بيقين ولم يصح أنه عاد بعد أن نسخ ولا يحل الحكم بالظنون وأيضا فقد ملك قوم من العرب أقاربهم وقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 كان هراسة أخا عنترة واستلحف شداد عنترة وكان هراسة عبدا لأخيه وقد كان في نساء الصحابة رضي الله عنهم من باعها عمها أخو أبيها وهي أم ولد أبي اليسر الأنصاري قال أبو محمد ومن استجاز أن يترك اليقين من الآية المذكورة بأن يقول لعل حديث عمران في الأعبد الستة نسخها فليقنعوا من أصحاب أبي حنيفة بقولهم لعل حكم العرايا نسخ بالنهي عن المزابنة وبقولهم لعل القصاص بغير نسخ بالنهي عن المثلة وليقولوا بقول من منع أن يمسح على الخفين وقال لعل ذلك نسخ بآية الوضوء التي بالمائدة وليأخذوا بقول ابن عباس في إباحة الدرهم بالدرهمين ويقولوا لعل النهي عن ذلك نسخ بقوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة وليأخذوا بقول عثمان البتي في إبطال العاقلة ويقولوا لعل حكم العاقلة نسخ بقوله تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وليبطلوا السلم ويقولوا لعله نسخ بنهيه عليه السلام عن بيع ما ليس عندك ويستحلوا أكل الحمير والسباع ويقولوا لعل النهي عنها منسوخ بقوله تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} فإن أبوا من كل ما ذكرنا وقالوا لا نقول في شيء من ذلك إنه منسوخ إلا بيقين فكذلك يلزمهم أن يقولوا أيضا بقول ابن عباس إن الآية القصرى نسخت الآية الطولى فيوجبوا خلود القاتل من المسلمين في نار جهنم أبدا فإن أبوا ألزمهم مثل ذلك في آية الوصية ولا فرق وكذلك القول فيمن قال في رضاع سالم فإنه لما كان مرتبطا بالتبني وكان التبني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 منسوخا بطل حكم التعلق به لبطلانه وكل سبب بطل فإن مسببه يبطل بلا شك فإن هذا أيضا خطأ لأنه لم يأت نص ولا إجماع ولا ضرورة مشاهدة بأن هذا الحكم مخصوص به التبني فقط بل هو عموم على ظاهره ولا يجوز تخصيصه بالدعوى بلا نص ولا إجماع فهذه الوجوه الأربعة لا سبيل إلى أن يعلم نسخ آية أو حديث بغيرها أبدا إما إجماع متيقن وإما تاريخ بتأخر أحد الأمرين عن الآخر مع عدم القوة على استعمال الأمرين وإما نص بأن هذا الأمر ناسخ للأول وأمر نتركه وإما يقين لنقل حال ما فهو نقلي لكل ما وافق تلك الحال أبدا بلا شك فمن ادعى نسخا بوجه غير هذه الوجوه الأربعة فقد افترى إثما عظيما وعصى عصيانا ظاهرا وبالله تعالى التوفيق فمما تبين بالنص أنه منسوخ قوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم} ثم قال تعالى {قد نرى تقلب وجهك في لسمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر لمسجد لحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن لذين أوتوا لكتاب ليعلمون أنه لحق من ربهم وما لله بغافل عما يعملون} فهذا تأخير لائح أن القبلة التي كانت قبل هذه منسوخة وأن التوجه إلى الكعبة كان بعد تلك القبلة وهذا أيضا له إجماع ومثل قوله تعالى {فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن لله يتوب عليه إن لله غفور رحيم} فنسخ بذلك النهي عن الوطء في ليل رمضان ومثل قوله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} نسخ به قوله تعالى {أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى لذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون} وهذا نقل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع يعني نسخ إباحة الفطر والإطعام من ندب إلى فرض ومثل نسخ قيام الليل فإنه نسخ بالنص المنقول بإجماع من فرض إلى ندب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 قال أبو محمد وقد ادعى قوم في قوله تعالى {لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين} إنه نسخ لقوله تعالى {يأيها لنبي حرض لمؤمنين على لقتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من لذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} قال أبو محمد وهذا خطأ لأنه ليس إجماعا ولا فيه بيان نسخ ولا نسخ عندنا في هذه الآيات أصلا وإنما هي فرض البراز للمشركين وأما بعد اللقاء فلا يحل لواحد منا أن يولي دبره جميع من على وجه الأرض من المشركين إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة على ما نبين في موضعه إن شاء الله تعالى أو من كان مريضا أو زمنا بقوله تعالى {ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم} فإن قالوا إن الضعيف القلب معذور لأنه دخل في جملة الضعفاء قيل لهم هذا خطأ لأن من رضي أن يكون مع الخوالف لضعف قلبه ملوم بالنص غير معذور وأيضا فإن ضعف القلب قد نهينا عنه بقوله تعالى {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} ولا يجوز أن يكون تعالى أراد وهن البدن لأنه لا يستطاع دفعه أصلا والله تعالى لا يكلف إلا ما نطيق وضعف القلب مقدور على دفعه ولو أراد الجبان أن يثبت لثبت ولكنه آثر هواه والفرار على ما لا بد له من إدراكه من الموت الذي لا يعدو وقعه ولا يتقدم ولا يتأخر وهذا بين وبالله تعالى التوفيق والعجب ممن يقول إن هذه الآية مبيحة لهروب واحد أمام ثلاثة فليت شعري من أين وقع لهم ذلك وهل في الآية التي ذكروا فرارا أو تولية دبر بوجه من الوجوه أو إشارة إليه ودليل عليه ما في الآية شيء من ذلك البتة وإنما فيها أخبار عن الغلبة فقط بشرط الصبر وتبشير بالنصر مع الثبات ولقد كان ينبغي أن يكون أشد الناس حياء من الاحتجاج بهذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 الآيات في إباحة الفرار عن ثلاثة أصحاب القياس المحتجين علينا بقول الله تعالى {ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون} ويقول لنا إن ما فوق القنطار بمنزلة القنطار فهلا جعلوا ههنا ما فوق الاثنين بمنزلة الاثنين ولكن هكذا يفعل الله بمن ركب ردعه واتبع هواه وأضرب عن الحقيقة جانبا وأما نحن فلو رأينا في الآيات المذكورة ذكر إباحة فرار لقلنا به ولسلمنا لأمر ربنا ولكنا لم نجد فيها لإباحة الفرار أثرا ولا دليلا بوجه من الوجوه وإنما وجدنا فيها أننا إن صبرنا غلب المائة منا المائتين وصدق الله عز وجل فليس في ذلك ما يمنع أن يكون أقل من مائة أو أكثر من مائة يغلبون العشرة آلاف منهم وأقل وأكثر كما قال تعالى {فلما فصل طالوت بلجنود قال إن لله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من غترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو ولذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا ليوم بجالوت وجنوده قال لذين يظنون أنهم ملاقوا لله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن لله ولله مع لصابرين} وهكذا كله إخبار عن فعل الله تعالى ونصره عز وجل لمن صبر منا فتلك الآية التي فيها أن المائة منا تغلب المائتين وهي إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها أن المائة منا تغلب الألف وهاتان الآيتان معا هما إخبار عن بعض ما في الآية التي فيها {فلما فصل طالوت بلجنود قال إن لله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من غترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو ولذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا ليوم بجالوت وجنوده قال لذين يظنون أنهم ملاقوا لله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن لله ولله مع لصابرين} فلم يخص في هذه الآية عددا من عدد بل عم عموما تاما فإن قال قليل التحصيل فأي معنى لتكرار ذلك وما فائدته قيل له قد ذكرنا الجواب عن هذا الفضول من السؤال السخيف في باب دليل الخطاب من ديواننا هذا ولكن لا بد من إيراد بعض ذلك لورود هذا السؤال فيقول وبالله تعالى التوفيق هذا اعتراض منك على الله عز وجل والمعنى في ذلك والفائدة كالمعنى والفائدة في تكرار قصة موسى عليه السلام في عدة مواضع بعضها أتم في الخبر من بعض وبعضها مساو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 لبعض وكما كرر تعالى العنب والرمان والنخل بعد ذكر الفاكهة وكما كرر تعالى وأقيموا الصلاة والصلاة الوسطى بعد ذكر المحافظة على جميع الصلوات وكما كرر تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة ولم يكررها ثلاثين مرة لا ثمانية وعشرين مرة ولا كررها أيضا في غير تلك السورة وكما أخبر تعالى في مكان بأنه رب السموات والأرض وما بينهما في مكان آخر بأنه رب الشعرى ولم يذكر معها غيرها ولا يسأل رب العالمين عما قال ولا ما فعل وإنما علينا الإيمان بكل ما أتى من عند الله وقبوله كما هو واعتقاده في موجبه ولا نتعداه ولنا الأجر على الإقرار به وعلى تلاوته وعلى قبوله كما ذكرنا فأي حظ أعظم من هذا الحظ المؤدي إلى الجنة وفوز الأبد وهل يبتغي أكثر من هذا الأمر إلا من لا عقل له ولا يسأل الله عما يفعل إلا ملحد أو جاهل أو سخيف أو فاسق لا بد من أحد هذه وما فيها حظ لمختار فإن قال قائل فما معنى قول الله تعالى {لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين} في الآيات المذكورات وما هذا التخفيف وهو شيء قد خاطبنا الله تعالى به وامتن به علينا فلا بد من طلب معناه والوقوف على مقدار النعمة علينا في ذلك وما هذا الشيء الذي خفف عنا لنحمد الله تعالى عليه ونعرف وجه الفضل علينا فيه فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا السؤال صحيح حسن ووجه ذلك أن أول الآية يبين وجه النعمة عليه وموضع التخفيف وهو قوله تعالى {يأيها لنبي حرض لمؤمنين على لقتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من لذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} فكان في هذه الآية التحريض لنا على قتالهم وإيجاب نهوضنا إليهم وهجومنا على ديارهم ونحن في عشر عددهم هذا هو ظاهر الآية ومفهومها الذي لا يفهم منها أحد غير ذلك ثم خفف عنا تعالى ذلك وجعلنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 في سنة من ترك التعرض للقصد إلى محالهم إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة أكثر من ضعيفنا وكنا بالآية الأولى في حرج إن لم نغزهم ونحن في عشر عددهم فنحن الآن في حرج إن لم نقصدهم إذا كان المقاتلون من الجهة المقصودة مثلينا فأقل فإن كانوا ثلاثة أمثالنا فصاعدا فنحن في سعة من أن لا نقصدهم ما لم ينزلوا بنا وما لم يستنفر الإمام أو أميره إلا أن نختار النهوض إليهم وهم في أضعاف عددنا فأي هذه الوجوه الثلاثة كان قد حرم علينا الفرار جملة ولو أنهم جميع أهل الأرض والملاقي لهم مسلم واحد فصاعدا فهذا هو وجه التخفيف وبهذا تتآلف الآيات المذكورة مع قوله تعالى {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد بآء بغضب من لله ومأواه جهنم وبئس لمصير} ومع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا استنفرتم فانفروا ومع إجماع الأمة على أنه إذا نزل العدو ساحتنا ففرض علينا الكفاح والدفاع وأيضا فقول الله عز وجل {لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين} يبين وجه التخفيف وإنما هو عمن فيه ضعف فقط فصار هذا التخفيف إنما هو عن الضعفاء فقط كقوله تعالى {لا يستوي لقاعدون من لمؤمنين غير أولي لضرر ولمجاهدون في سبيل لله بأموالهم وأنفسهم فضل لله لمجاهدين بأموالهم وأنفسهم على لقاعدين درجة وكلا وعد لله لحسنى وفضل لله لمجاهدين على لقاعدين أجرا عظيما} وكقوله تعالى {ليس على لضعفآء ولا على لمرضى ولا على لذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على لمحسنين من سبيل ولله غفور رحيم} ومن النسخ الذي بينه النص قول رسول الله صلى الله عليه وسلم المنقول بالإجماع لا وصية لوارث فنسخ بذلك الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون وبقي الولدان والأقربون الذين لا يرثون على وجوب فرض الوصية لهم قال أبو محمد وقد بينا في كتابنا هذا في باب الكلام في الأخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في فصل أفردناه للكلام فيما ادعاه قوم من تعارض الأخبار كلاما استغنينا عن تكراره ههنا فيه بيان غلط قوم فيما ظنوه نسخا وليس بنسخ ولكن اكتفينا بأن نبهنا عليه ههنا لأنه لا غنى بمزيد معرفة فقه النسخ عنه وبالله تعالى التوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب قال أبو محمد ولا يضر كون الآية المنسوخة في ترتيب المصحف في الخط والتلاوة متقدمة في أول السورة أو في سورة متقدمة في الترتيب وتكون الناسخة لها في السورة أو في سورة متأخرة في الترتيب لأن القرآن لم ترتب آياته وسوره على حسب نزول ذلك لكن كما شاء ذو الجلال والإكرام منزله لا إله إلا الله ومرتبه الذي لم يكل ترتيبه إلى أحد دونه فأول ما نزل من القرآن {} قرأ بسم ربك لذي خلق ثم {يأيها لمدثر} وهما متأخرتان قرب آخر المصحف في الخط والتلاوة وآخر ما نزل آية الكلالة في سورة النساء وسورة براءة وهما في صدر المصحف في الخط والتلاوة فلا يجوز مراعاة رتبة التأليف في معرفة الناسخ والمنسوخ البتة وقد نسخ الله قوله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى لحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف ولله عزيز حكيم} بقوله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} بإجماع الأمة كلها والناسخة في المصحف في الخط والتلاوة والترتيب والتأليف قبل المنسوخة وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل قال أبو محمد وقد أخطأ هؤلاء القائلون وجائز نسخ الأخف بالأثقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 والأثقل بالأخف والشيء بمثله ويفعل الله ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وإن احتج محتج بقوله الله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} وبقوله تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} وبقوله تعالى {وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير} وبقوله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} فلا حجة لهم في شيء من ذلك أما قوله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} {وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير} فنعم دين الله كله يسر والعسر والحرج وهو ما لا يستطاع إما ما استطيع فهو يسر وأما قوله تعالى {يريد لله أن يخفف عنكم وخلق لإنسان ضعيفا} فنعم ولا خفيف في العالم إلا وهو ثقيل بالإضافة إلى ما هو أخف منه ولا ثقيل البتة إلا وهو خفيف بالإضافة إلى ما هو أثقل منه هذا أمر يعلم حسا ومشاهدة ولا يشك ذو عقل أن الصلوات الخمس المفروضة علينا أخف من خمسين صلاة وأنها لو كانت صلاة واحدة كانت أخف علينا من الخمس وقد خفف الله تعالى عن المسافر فجعلها ركعتين وعن الخائف فجعلها ركعة واحدة ولو شاء ألا يكلفنا صلاة أصلا لكان أخف بلا شك وقد نص الله تعالى في الصلاة على أنها كبيرة إلا على الخاشعين ولا يشك ذو عقل وحس أن صيام شهر أخف من صيام عام وأن صيام ساعة أخف من صيام يوم فكل ما كلفنا الله تعالى فهو يسر وتخفيف بالإضافة إلى ما هو أشد مما حمله من كان قبلنا كما قال الله تعالى آمرا لنا أن ندعوه فنقول {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وكما نص تعالى أنه وضع بنبيه صلى الله عليه وسلم الإصر الذي كان عليهم والأغلال التي كانوا يطوقونها إذ يقول تعالى {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 والأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} فهذا هو عين اليسر وعين التخفيف وإسقاط الحرج وأين يقع ما كلفناه نحن مما كلفه بعض قوم موسى من قتل أنفسهم بأيديهم فكل شيء كلفناه يهون عند هذا وكذلك ما في شرائع اليهود من أنه من خطر على ميت تنجس يوما إلى الليل وسائر الثقائل التي كلفوا وحرم عليهم وخفف عنا ذلك كله ولله الحمد والمنة وأما قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} فإنما معناه بخير منها لكم وكلام الله لا يتفاضل في ذاته فمعناه أكثر أجرا ولو احتج بهذه الآية من يستجيز أن يقول لا ننسخ الأخف إلا بالأثقل لكنا أقوى شغبا ممن خالفه لأنه لا خلاف أن الأثقل فاعله أعظم أجرا وقد قال عليه السلام لعائشة في العمرة هي على قدر نصبك ونفقتك كانت الناسخة أعظم أجرا فلا يكون ذلك إلا لثقلها فهذه الآية عليهم لا لهم فسقط احتجاجهم بكل ما شغبوا به ثم نقول إن من قال إن الله تعالى إنما يلزمنا أخف الأشياء فإنه يلزمه إسقاط الشرائع كلها لأنها كلها ثقال بالإضافة إلى ترك عملها والاقتصار على عمل جزء من كل عمل منها وهذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة فصار قول من خالفنا مؤديا إلى الخروج عن الإسلام جملة ولا عمل في الدنيا إلا وفيه كلفة ومشقة وقد قال الشاعر هل الولد المحبوب إلا تعلة وهل خلوة الحسناء إلا أذى البعل وفي الأكل والشرب مشقة فلو أن الإنسان يصل إلى ذوق الطعوم المستطابة والشبع دون تكلف تناول ومضغ وبلع لكان أخف عليه وأقل مشقة وأيسر غررا فرب مختنق بأكله كان في ذلك حتفه أو الإشراف على الحتف ورب متأذ بما يدخل من ذلك في جوفه وبما يدخل بين أضراسه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 ومغث لمعدته فيتقيأ فيألم لذلك ومن ملوث لثوبه بما يسقط من يده ولو تتبعنا ما في اللذات من عسر ومشقة لطال ذلك جدا فكيف بالأعمال المكلفة ولكن العسر والمشقة تتفاضل فإنما رفع الله عز وجل عنا في بعض المواضع ما لا نطيق وخفف تعالى في بعضها تخفيفا أكثر من تخفيف آخر وقد جاء في الأثر حفت الجنة بالمكاره فبطل بهذا الحديث نصا قول من قال إن الله تعالى لا ينسخ الأخف بالأثقل وصح أن الله تعالى يفعل ما يشاء فينسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف والشيء بمثله والشيء بإسقاطه جملة ويزيدنا شريعة من غير أن يخفف عنا أخرى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل فإن اعترضوا بقوله تعالى {لآن خفف لله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن لله ولله مع لصابرين} فهذه حجة عليهم بينة لا محيد عنها لأن التخفيف لا يكون إلا بعد تثقيل فإذا ثقل علينا تعالى أولا فما الذي يمنع من أن يثقل علينا آخرا إن شاء وقد كنا برهة خالين من ذلك التثقيل الأول ثم ثقلنا به فما المانع من أن يعود علينا ثانية كما كان أولا وأن نزاد تثقيلا آخر أشد منه ويكفي من هذا كله وجودنا ما لا سبيل لهم إلى دفع نسخه تعالى أشياء خفافا بأشياء ثقال فمن ذلك نسخه تعالى صيام يوم عاشوراء بصيام شهر رمضان ونسخ إباحة الإفطار في رمضان وإطعام مساكين بدل ما يفطر من أيامه بوجوب صيامه فرضا على كل حاضر صحيح بالغ عاقل عالم بالشهر ولزوم الصيام فيه ونسخ سقوط الغسل عن المولج العامد الذاكر لطهارته بإيجاب الغسل عليه ونسخ تعالى إباحة الكلام للمصلي بعد أن كان حلالا بتحريمه وقد كان الكلام فيها فيما ناب الإنسان أخف بلا شك ونسخ تعالى سقوط فرض الجهاد وبيعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء بإيجاب القتال وحرم الخمر بعد إحلالها وقال تعالى {كل لطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بلتوراة فتلوها إن كنتم صادقين} فصح أنه تعالى حرم عليهم أشياء كانت لهم حلالا وقد كان المنسوخ من كل ما ذكرنا أخف من الناسخ بالحس والمشاهدة وقد بين الله تعالى ذلك بإخباره أن في الخمر والميسر منافع للناس فأبطل تعالى علينا تلك المنافع ولا يشك ذو عقل أن عدم المنفعة أثقل من وجودها ونسخ تعالى الأذى والحبس عن الزواني والزناة والرجم والتغريب ولا شك عند من له عقل أن الحجارة والسياط أثقل من السب والسجن وقد اعترض بعض من يخالف قولنا في هذه المسألة بأن قال في نسخ الحبس عن الزواني إن الحبس لم يكن مطلقا وإنما كان مقيدا بوقت منتظرا لقوله تعالى {وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا} قال أبو محمد وهذا الاعتراض ساقط من وجوه ثلاثة أحدها أنه لا يجد مثل هذا الشرط في أذى الزناة وتبكيتهم ولا في سائر ما ذكرنا من الخفائف المنسوخة بالثقائل والثاني أن كل نسخ في الدنيا فهذه صفته وإنما هو مقيد عند الله تعالى بوقت محدود في علمه تعالى كما قالت عائشة في فرض قيام الليل إنه تعالى أمسك خاتمة الآية في السماء اثني عشر شهرا ثم أنزلها ولا فرق بين أن يبدي إلينا ربنا تعالى أنه سينسخ ما يأمرنا به بعد مدة وبين ألا يبدي إلينا ذلك حتى ينسخه وكل ذلك نسخ ولا فرق بين معجل النسخ ومؤجله في أن كل ذلك نسخ والثالث أن السبيل الذي انتظر بهن هو أثقل مما كان عليهن أولا لأنه شدخ بالحجارة حتى يقع الموت بعد الإيلام بالسوط أو نفي في الأرض بعد الإيلام بالسوط فكانت السبيل المحمولة لهن سبيل الهلاك أو البلاء وكل ذلك أشد من الحبس وهذا نفس ما اختلفنا فيه فأجزناه نحن وأبوه هم وقد اعترض بعضهم في نسخ البيعة على بيعة النساء بإيجاب القتال بأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 قال كان القتال أثقل علينا في صدر الإسلام لقلتنا فلما كثر عددنا صار تركه أثقل قال أبو محمد ولو كان لهذا القائل علم بكيفيات الأسماء وحدود الكلام لم يأت بهذا الهذر ويقال له أخبرنا أزاد الناس حين نزول آية إيجاب القتال زيادة قووا بها قوة ثانية أكثر مما كانوا أم لا فإن قال لا نقص قوله وتبرأ منه وأخبر أن الحال بعد نزول هذه الآية الموجبة للقتال بعد أن كان غير واجب كالحال التي كانت قبل نزول إيجاب القتال وبطل ما قدر من التفاضل في القوة الموجبة لنزول إيجاب القتال وإن قال نعم جمع أمرين أحدهما أنه يقفو ما ليس له به علم ويكذب والثاني أنه لم يتخلص بعد من إلزامنا ويقال له لا بد أنه قد كان بين بلوغهم العدد الذي بلغوه حين نزول آية إيجاب القتال عليهم وبين نزول الآية وقت ما لا بد منه فقد كان العدد موجودا ولا قتال عليهم ثم نسخ بإيجاب القتال وأيضا فإنه ليس في المعقول أصلا ولا في الوجود عدد إذا بلغته الجماعة قويت على محاربة أهل الأرض كلهم وقد ألزم الله تعالى المسلمين إذا أمرهم بالقتال مجاهدة كل من يسكن معمور العالم من الناس والمسلمون يومئذ لم يبلغوا الألف وقد علم كل ذي عقل أنه لا فرق في القوة على محاربة أهل الأرض كلهم بين ألف وألفين وبين واحد واثنين وإنما ههنا نزول النصر فإذا أنزل الله تعالى على الإنسان الواحد قوي ذلك الواحد على محاربة أهل الأرض كلهم وعجزوا كلهم عنه كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {هههه المائدة 67 وأيقنا بذلك لو بارزوه كلهم لسقطوا أمامه ولقدر على جميعهم وقد قال بعض المخالفين لقولنا إن الصبر على القتال أثقل لذي النفس الآنفة قال أبو محمد ويكفينا من الرد على هذه المقالة تكذيب الله عز وجل لها فإنه تعالى خاطب الصحابة رضي الله عنهم وهم آنف الناس نفوسا وأحماهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 قلوبا وأعزهم همما أو خاطب أيضا كل مسلم يأتي إلى يوم القيامة وهم أعز الأمم نفوسا وأقرها على الضيم بأن قال تعالى {كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} وكفانا عز وجل الشغب والتعب وبين أن الكتاب مكروه عندنا والمكروه أثقل شيء وأخبرنا سبحانه وتعالى أن المكروه الذي هو أثقل قد يكون لنا فيه خير أكثر مما في الأخف فقد حكم الله تعالى لنا في هذه المسألة حكما جليا لا يسوغ لأحد أن يتكلم بعد سماعه في هذا المعنى بكلمة مخالفة لقولنا والحمد لله رب العالمين واعترض بعضهم بأن قال لم تكن الخمر مباحة بل كانت حراما بالعقل فلم ينسخ إباحتها قال أبو محمد فنقول وبالله تعالى التوفيق إذ هذا القائل لو اشتغل بقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم لكان ذلك أولى به من الكلام في الدين قبل النفقة فيه وقد روينا في الحديث الصحيح تحليلها قبل أن تحرم حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج قال ثنا عبيد الله بن عمر القواريري ثنا أبو همام عبد الأعلى ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا أيها الناس إن الله يعرض بالخمر ولعل الله سينزل فيها أمرا فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال صلى الله عليه وسلم إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده شيء فلا يشرب ولا يبع وروينا من الأطراف الصحاح شربها معلنا بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ذلك عن حمزة وسعد وأبي عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وعبد الرحمن بن عوف وأبي أيوب وأبي طلحة وأبي دجانة سماك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 بن خرشة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فكيف يقول هذا الجاهل إنها لم تكن حلالا وإن العقل حرمها وأين عقل هذا الجنون العديم العقل على الحقيقة من عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يراهم يشربونها ولا ينكر ذلك عليهم أزيد من ستة عشر عاما بعد مبعثه عليه السلام فإن الخمر لم تحرم إلا بعد أحد وأحد كانت في الثالث من الهجرة وتنادم الصحابة في المدينة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما وقع لبعضهم من العربدة على بعض ومن الجنايات في شارفي علي ومن التخليط في الصلاة أشهر من أن يجهله من له علم بالأخبار وكل ذلك يعلمه ولا ينكره عليه السلام ولا يحل لمؤمن أن يقول إنه عليه السلام أقر على حرام أصلا ويكفي من هذا ما قدمنا من أمره عليه السلام يبيعها قبل أن تحرم وبأن ينتفع بها والشرب يدخل في الانتفاع وبالله التوفيق فصل في نسخ الشيء قبل أن يعمل به قال أبو محمد أكثر المتقدمون في هذا الفصل وما ندري أن لطالب الفقه حاجة ولكن ما تكلموا ألزمنا بيان الحق في ذلك بحول الله وقوته والصحيح من ذلك أن النسخ بعد العمل به وقبل العمل به جائز كل ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 وقد نسخ تعالى عنا إيجابه خمسة وأربعين صلاة في كل يوم وليلة قبل أن يعمل بها أحد قال أبو محمد ومن جعل هذا بداء فقد جعل النسخ بداء ولا فرق وكل ما دخلوه في نسخ الشيء قبل أن يعمل به راجع عليهم في نسخه بعد أن يعمل به ولا فرق والله تعالى يفعل ما يشاء والذي نقدر أن الذي حداهم إلى الكلام في هذه المسألة مذهبهم الفاسد في المصالح ونحن لا نقول بها بل نفوض الأمر إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء ليس عليه زمام ولا له متعقب وسنبين ذلك في باب العلل من هذا الديوان إن شاء الله تعالى فإن قال قائل فماذا أراد الله عز وجل منا إذ قال خمسين صلاة في كل يوم وليلة ثم نسخها وردها إلى خمس قبل أن نصلي الخمسين قيل له وبالله تعالى التوفيق إنه أراد منا الطاعة والانقياد والعزيمة على صلاتها والاعتقاد لوجوبها علينا فقط ولم يرد تعالى قط منا كون تلك الصلوات ولا أن نعملها ونحن لا ننكر أن يأمر تعالى بما لم يرد قط منا كونه بل يوجب ذلك ونقول إنه تعالى أمر أبا طالب بالإيمان ولم يرد قط تعالى كون إيمانه موجودا وقد نص تعالى على ذلك بقوله {يأيها لرسول لا يحزنك لذين يسارعون في لكفر من لذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن لذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون لكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فحذروا ومن يرد لله فتنته فلن تملك له من لله شيئا أولئك لذين لم يرد لله أن يطهر قلوبهم لهم في لدنيا خزي ولهم في لآخرة عذاب عظيم} وقوله تعالى {إنك لا تهدي من أحببت ولكن لله يهدي من يشآء وهو أعلم بلمهتدين} فأخبر تعالى أنه لم يجب هداية أبي طالب وأنه أراد ألا يهدي قوما وكلهم مأمور بالاهتداء وقد بينا هذا في كتاب الفصل ولو أنه تعالى لم ينسخها حتى نصليها لعلمنا حينئذ أنه تعالى أراد كونها منا كما علمنا أنه تعالى أراد إسلام أبي بكر وعمر وسائر من أسلم وإنما نعلم ما أراد تعالى كونه بعد ظهوره أو أخبرنا الله تعالى بأنه سيكون والله أعلم وهو الذي أطلعنا عليه من غيبه ونحن كنا مأمورون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 بالصلاة وقد يموت كثير من الناس قبل أن يتأتى عليه وقت صلاة بعد بلوغه إنه تعالى إنما أراد من هؤلاء الانقياد والعزيمة فقط والله تعالى لم يرد قط ممن مات قبل حلول وقت الصلاة أن يصليها واحتج بعض من تقدم في إجازة نسخ الشيء قبل العمل به بحديث الزبير إذ خاصم الأنصاري في سيل مهزور ومذينب وجعل الأمر الآخر منه عليه السلام ناسخا للأول وأبطل قول من قال كان الأمر الأول على سبيل الصلح وترك الزبير بعض حقه وقال إن هذا لا يحل أن يقال لأن حكمه عليه السلام كله حق واجب لقول الله تعالى {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فلم يخص أمرا دون أمر ولو ساغ ذلك في هذا الحديث لساغ لكل أحد أن يقول في أي حكم حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا على سبيل الصلح لا على سبيل الحقيق وهذا كفر من قائله قال أبو محمد وقد صدق هذا المحتج فيما قال قال بعضهم لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد قال أبو محمد وهذا قياس والقياس باطل ولو كان القياس حقا لكان هذا فاسدا إذ ليس سقوط العقل موجبا لسقوط الاعتقاد وقد يعتقد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 وجوب الشيء وتصحيحه من لا يفعله من المسلمين العصاة وقد يفعله من لا يعتقده من المنافقين والمرائين وهذا أمر يعلم بالمشاهدة فبطل أن يكون الاعتقاد مرتبطا بالعمل وبطل ما موه به هذا المعترض من أنه لو جاز النسخ قبل العمل لجاز قبل الاعتقاد فإن قالوا لو جاز نسخ الشيء قبل العمل به لكان اعتقاده حسنا وطاعة وفعله قبيحا ومعصية وهذا محال فالجواب إن هذا شغب ضعيف لأنهم جمعوا بين حكم زمانين مختلفين وإنما يكون اعتقاد الشيء حقا إن فعل إذا لم ينسخ فأما إذا نسخ فإنما الواجب اعتقادا أنه معصية إن فعل واعتقاد أنه قد كان طاعة في وقت آخر وهذا ليس محالا فإن قالوا الاعتقاد فعل قيل لهم الاعتقاد فعل النفس منفردة لا شركة للجسد معها فيه والعمل فعل النفس بتحريك الجسد فهو شيء آخر غير الاعتقاد وقد فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم العمل بالنيات فجعل النية وهي الاعتقاد غير العمل قال أبو محمد وقد احتج القدماء من القائلين بقولنا في هذه المسألة بحجج منها أمره تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وقول إبراهيم عليه السلام {إن هذا لهو لبلاء لمبين} وقالوا هذا بيان جلي أن الذي أمر به نسخ قبل أن يكون لأن قوما قالوا إنما أمر بتحريك السكين على حلق ولده فقط فأبطل تعالى قولهم بقول إبراهيم {إن هذا لهو لبلاء لمبين} ولو لم يؤمر بقتله لما كان في تحريك السكين على حلقه بلاء فصح بقول إبراهيم عليه السلام أنه إنما أمر بقتل ولده وإماتته بالذبح ثم نسخ ذلك قبل فعله قال أبو محمد وهذا احتجاج صحيح لا ينفك منه أصلا فإن قال قائل عرفونا ما الذي أراد الله تعالى منا إذا أمرنا بالشيء ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 نسخه قبل فعله أراد العمل به ثم بدا له قبل فعله أم أراد ألا يعمل به والشيء إذا لم يرده تعالى فقد سخطه وكرهه ولم يرضه فعلى قولكم إنه تعالى يأمرنا بما يكره ويسخط ويلزمنا ما لا يرضى كونه منا قال أبو محمد فيقال وبالله تعالى التوفيق إنه تعالى أمر بما أمر من ذلك ولا مراد له إلا الانقياد في المأمور فقط ولم يرد قط وقوع الفعل ونهانا عنه قبل أن يكون منا ولا يسأل عما يفعل ولسنا ننكر أن يأمرنا تعالى الآن بأمر قد علم أنه بعد مدة ينهى عنه ويسخطه وإنما الذي ننكر أن يأمر تعالى بما هو ساخط له في حين أمره فهذا لا سبيل إليه وأما أن يأمرنا بأمر قد علم أنه سينهانا عنه في ثاني الأمر ويسخطه بعد مرور وقت الأمر به فهذا واجب وهذه صفة كل نسخ وكل أمر مرتبط بكل وقت وبالله تعالى التوفيق وقد اعترض بعضهم في أمره تعالى بخمسين صلاة ثم جعلها تعالى إلى خمس بأن قال إنما يلزمنا الأمر إذا بلغنا وكان ذلك الأمر لم يبلغ بعد إلى المسلمين فأجاب بعض من سلف القائلين بقولنا إنه تعالى قد أبلغ أمره بذلك إلى رسوله فهو سيدنا وإمامنا فكان الخمسون اللازمة له لبلوغ الأمر إليه ثم نسخت عنه قبل أن يعمل بها قال أبو محمد فإن قالوا لم يرد الله تعالى قط بالخمسين إلا خمسا يعطي بكل واحدة عشر حسنات واحتجوا بما في آخر الحديث من قوله تعالى هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا الكلام هو بيان قولنا لا قولهم لأن الخمس لا تكون خمسين في العدد أصلا وإنما هي خمسون في العدد وخمسون في الأجل وكنا ألزمنا أولا خمسين في العدد وهي خمسون في الأجر فقط فأسقط عنا التعب وبقي لنا الأجر فصح أن الساقط غير اللازم ضرورة وبرهان ذلك حطه تعالى إلى خمس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وأربعين وإلى أربعين ثم إلى خمس وثلاثين ثم ثلاثين وهكذا خمسا خمسا حتى بقيت خمسا وهذا لا إشكال فيه في أن الملزم غير المستقر آخرا فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين ومن طريق ما اعترض به بعضهم أن قال لعله عليه السلام قد صلى الخمسين صلاة قبل نسخها أو لعل الملائكة صلتها قبل نسخها قال أبو محمد وهذا جهل شديد ولو كان لقائل هذا أدنى علم بالأخبار لم يقل هذا الهجر لأن الإسراء إنما كان في جوف الليل ولم يأت الصباح إلا وهو صلى الله عليه وسلم قد رجع إلى مكة وكان بها قبل مغيب الشفق وبعد غروب الشمس وقبل طلوع الشمس من تلك الليلة وإنما لزمت الخمسون في يوم وليلة وأيضا فهو عليه السلام يذكر بلفظه في الحديث أنه لم ينفك راجعا وآتيا من ربه تعالى إلى موسى عليه السلام وأما الملائكة فلم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم بل بعضهم هم الرسل من الله تعالى إليه وإنما بعث إلى الجن والإنس الساكنين دون سماء الدنيا وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين مع النصوص الواردة في القرآن والحديث في خطاب هذين النوعين فقط وإنما بعث إليهما فقط والملائكة في مكان لا ليل فيه وإنما هي في السموات التي هي الأفلاك وفي الكرسي وتحت العرش وحوله والليل إنما يبلغ إلى فلك القمر الذي هو سماء الدنيا فقط والجن مرجومون بالشهب إذا دنوا منها بنص القرآن بقوله تعالى {ولقد زينا لسمآء لدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب لسعير} فصح يقينا أن الملائكة لا تلزمهم صلاتنا لأنهم لا ليل عندهم ولا نهار وإنما هو أنوار بسيطة صافية وإنما تلزم الصلوات في أوقات الليل والنهار وقد احتج في هذا بعض من تقدم بأن قال يقال لمن أبى ذلك ما الذي أنكرتم أنسخ ما قد فعل أم نسخ ما لم يفعل أن نسخ الأمر الوارد بالفعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 ولا سبيل إلى قسم رابع فإن قالوا نسخ ما قد فعل أحالوا ولا سبيل إلى نسخ ما قد فعل لأنه قد فعل وفني فلا سبيل إلى رده وإن قالوا نسخ ما لم يفعل فقد أثبتوا نسخ الشيء قبل فعله وهذا هو نفس ما أبطلوا لأن الذي لم يفعل هو غير الذي فعل ضرورة فإن قالوا نسخ الأمر فلا فرق بين نسخ الأمر قبل أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الأمر وبين نسخه بعد أن يفعل الناس ما أوجب ذلك الأمر والفعل المأمور به على كل حال غير الأمر به فلا يتعلق الأمر بالفعل لأنه غيره لأن الأمر هو فعل الله مجردا والفعل هو فعلنا نحن فبينهما فرق كما ترى قال أبو محمد وهذه حجة ضرورة لا محيد عنها واحتج أيضا بأن قال إن الأمر إذا ورد ففعله فاعلون ثم نسخ فلا خلاف في جواز ذلك ولا شك في أنه قد بقي خلق كثير لم يعملوا به ممن لم يأت بعد وقد كانوا مخاطبين بذلك الأمر حين نزوله فقد نسخ قبل أن يعمل به الذين لم يعملوا به ولا فرق بين أن يجوز نسخه قبل أن يعمل به بعض المأمور وبين نسخه قبل أن يعمل به أحد منهم قال أبو محمد وهذه أيضا حجة ضرورية لا محيد عنها قال أبو محمد وسألني سائل فقال لو أمر الله تعالى بأمر فقال اعملوا بهذا الأمر ثمانية متصلة أو قال أبدا أيجوز نسخ هذا أم لا فقلت إن النسخ جائز في هذه لأنه من باب نسخ الشيء قبل أن يعمل به ولا فرق بين أن يأمرنا بخمسين صلاة نصليها وبين أن يأمرنا بعمل ما أبدا أو ثمانية أيام ثم ينسخه عنا قبل أن يتم عمل ذلك وليس الكذب في الأمر والنهي مدخل وإنما يدخل الكذب في الأخبار فلو أن الأمر خرج بهذا التحديد بلفظ الخبر لم يجز نسخه لأنه كان يكون كذبا مجردا إذ في الأخبار يقع الكذب وهذا بخلاف الأمر إذا خرج بلفظ الخبر غير مرتبط بتحديد وقت فالنسخ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 جائز فيه لأنه ليس يكون حينئذ كذبا وإنما يكون النسخ حينئذ بيانا للوقت الذي لزمنا ذلك العمل فما جاء بلفظ الخبر على التأييد فلا يجوز نسخه قول الله هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فلو بدل لكان هذا القول كذبا ومنه لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة والقول في المتعة فهي حرام بحرمة الله ورسوله إلى يوم القيامة فلو نسخ هذان الأمران لكان هذان القولان كذبا إذ كان يبطل وجوده ما أخبرنا بوجوده إلى يوم القيامة وبالله تعالى التوفيق فصل في نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن قال أبو محمد اختلف الناس في هذا بعد أن اتفقوا على جواز نسخ القرآن بالقرآن وجواز نسخ السنة بالسنة فقالت طائفة لا تنسخ السنة بالقرآن ولا القرآن بالسنة وقالت طائفة جائز كل ذلك والقرآن ينسخ بالقرآن وبالسنة والسنة تنسخ بالقرآن وبالسنة قال أبو محمد وبهذا نقول وهو الصحيح وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر والسنة المنقولة بأخبار الآحاد كل ذلك ينسخ بعضه بعضا وينسخ الآيات من القرآن وينسخه الآيات من القرآن وبرهان ذلك ما بيناه في باب الأخبار من هذا الكتاب من وجوب الطاعة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كوجوب الطاعة لما جاء في القرآن ولا فرق وأن كل ذلك من عند الله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فإذا كان كلامه وحيا من عند الله عز وجل والقرآن وحي فنسخ الوحي بالوحي جائز لأن كل ذلك سواء في أنه وحي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 واحتج من منع ذلك بقوله تعالى {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال لذين لا يرجون لقآءنا ئت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لم نقل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدله من تلقاء نفسه وقائل هذا كافر وإنما نقول إنه عليه السلام بدله بوحي من عند الله تعالى كما قال آمرا له أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} فصح بهذا نصا جواز نسخ الوحي بالوحي والسنة وحي فجائز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن واحتجوا أيضا بقوله تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} قالوا والسنة ليست مثلا للقرآن ولا خيرا منه قال أبو محمد وهذا أيضا لا حجة لهم فيه لأن القرآن أيضا ليس بعضه خيرا من بعض وإنما المعنى نأت بخير منها لكم أو مثلها لكم ولا شك أن العمل بالناسخ خير من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ وقد يكون الأجر على العمل بالناسخ مثل الأجر على العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ وقد يكون أكثر منه إلا أن فائدة الآية أننا قد أمنا أن يكون العمل بالناسخ أقل أجرا من العمل بالمنسوخ قبل أن ينسخ لكن إنما يكون أكثر منه أو مثله ولا بد من أحد الوجهين تفضلا من الله تعالى لا إله إلا هو علينا وأيضا فإن السنة مثل القرآن في وجهين أحدهما أن كلاهما من عند الله عز وجل على ما تلونا آنفا من قوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} والثاني استواؤهما في وجوب الطاعة بقوله تعالى {من يطع لرسول فقد أطاع لله ومن تولى فمآ أرسلناك عليهم حفيظا} وبقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وإنما افترقا في ألا يكتب في المصحف غير القرآن ولا يتلى معه غيره مخلوطا به وفي الإعجاز فقط وليس في العالم شيئان إلا وهما يشتبهان من وجه ويختلفان من آخر لا بد من ذلك ضرورة ولا سبيل إلى أن يختلفا من كل وجه ولا أن يتماثلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 من كل وجه وإذ قد صح هذا كله فالعمل بالحديث الناسخ أفضل وخير من العمل بالآية المنسوخة وأعظم أجرا كما قلنا قبل ولا فرق وقد قال تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} وقد تكون المشركة خيرا منها في الجمال وفي أشياء من الأخلاق ونحوها وإن كانت المؤمنة خيرا عند الله تعالى وهذا شيء يعلم حسا ومشاهدة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقوله تعالى {يمحو لله ما يشآء ويثبت وعنده أم لكتاب} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فالله عز وجل هو المثبت له وهو تعالى الماحي به لما شاء أن يمحو من أوامره وكل من عند الله وهذه الآية حجة لنا عليهم في أنه تعالى يمحو ما شاء بما شاء عن العموم ويدخل في ذلك السنة والقرآن واحتجوا أيضا بقوله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} قالوا والمبين لا يكون ناسخا قال أبو محمد وهذا خطأ من وجهين أحدهما ما قد بينا في أول الكلام في النسخ من أن النسخ نوع من أنواع البيان لأنه بيان ارتفاع الأمر المنسوخ وبيان إثبات الأمر الناسخ والثاني أن قولهم إن المبين لا يكون ناسخا دعوى لا دليل عليها وكل دعوى تعرت من برهان فهي فاسدة ساقطة واحتجوا بقوله تعالى {وإذا بدلنآ آية مكان آية ولله أعلم بما ينزل قالوا إنمآ أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يقل تعالى إني لا أبدل آية إلا مكان آية وإنما قال لنا إنه يبدل آية مكان آية ونحن لم ننكر بل أثبتناه وقلنا إنه يبدل آية ويفعل أيضا غير ذلك وهو تبديل وحي غير ذلك متلو مكان آية ببراهين أخر وكل ما أبطلنا به أقوالهم الفاسدة في دليل الخطاب فهو مبطل لاحتجاجهم بهذه الآية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 واحتجوا بقوله تعالى {فتعالى لله لملك لحق ولا تعجل بلقرآن من قبل إن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما} قالوا فإذا منعه الله تعالى من أن يبين القرآن من قبل أن يقضي إليه وحيه فهو من نسخه أشد منعا قال أبو محمد وهذا شغب وتمويه لأننا لم نجز قط أن يكون الرسول عليه السلام ينسخ الآيات من القرآن قبل أن يقضى إليه وحي نسخها وقائل ذلك عندنا كافر وإنما قلنا إنه عليه السلام إذا قضى إليه ربه تعالى وحيا غير متلو بنسخ آية أبداه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس حينئذ بكلامه فكان سنة مبلغة وشريعة لازمة ووحيا منقولا ولا يضره أن يسمى قرآنا ولا يكتب في المصحف كما لم يضر ذلك سائر الشرائع التي ثبتت بالسنة ولا بيان لها في القرآن من عدد ركوع الصلوات ووجوه الزكوات وما حرم من البيوع وسائر الأحكام وكل ذلك من عند الله عز وجل واحتج بعضهم بقوله تعالى {قل نزله روح لقدس من ربك بلحق ليثبت لذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} قال وهذا لا يطلق إلا على القرآن قال أبو محمد وهذا كله كذب من قائله وافتراء وكل وحي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشريعة من الشرائع فإذا نزل به الروح القدس من ربه وقد جاء نص الحديث بأن جبريل عليه السلام نزل فصلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا حتى علمه الصلوات الخمس وليس هذا في القرآن وقد نزله روح القدس كما ترى قال أبو محمد فبطل كل ما احتجوا به وبالله تعالى التوفيق وقد قال الشافعي رحمة الله عليه إذا أحدث الله تعالى لنبيه عليه السلام أمرا برفع سنة تقدمت أحدث النبي عليه السلام سنة تكون ناسخة لتلك السنة الأولى فأنكر عليه بعض أصحابه هذا القول فقال لو جاز أن يقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 في وحي نزل ناسخا لسنة تقدمت فعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم أن عمله هذا نسخ السنة الأولى لكان إذا عمل عليه السلام سنة فنسخ بها سنة سالفة له فعمل بها الناس إن عمل الناس نسخ السنة الأولى وهذا خطأ قال أبو محمد وهذا اعتراض صحيح والرسول صلى الله عليه وسلم مفترض عليه الانقياد لأمر ربه عز وجل فإنما الناسخ هو الأمر الوارد من الله عز وجل لا العمل الذي لا بد منه والذي إنما يأتي انقيادا لذلك الأمر المطاع قال أبو محمد فيقال لمن خالفنا في هذه المسألة أيفعل الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقول شيئا من قبل نفسه دون أن يوحى إليه به فإن قال نعم كفر وكذبه ربه تعالى بقوله عز وجل {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وبقوله تعالى آمرا له أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} فلما بطل أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم أو قوله إلا وحيا وكان الوحي ينسخ بعضه بعضا كانت السنة والقرآن ينسخ بعضها بعضا قال أبو محمد ومما يبين نسخ القرآن بالسنة بيانا لا خفاء به قوله تعالى {وللاتي يأتين لفاحشة من نسآئكم فستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في لبيوت حتى يتوفاهن لموت أو يجعل لله لهن سبيلا} ثم قال صلى الله عليه وسلم خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فكان كلامه صلى الله عليه وسلم الذي ليس قرآنا ناسخا للحبس الذي ورد به القرآن فإن قال قائل ما نسخ الحبس إلا قوله تعالى {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} قيل له أخطأت لأن هذا الحديث يوجب بنصه أنه قبل نزول آية الجلد لأنه بيان السبيل الذي ذكر الله تعالى وأمر لهم باستماع تلك السبيل وأيضا فإن في الحديث التغريب والجلد وليس ذلك في الآية التي ذكرت فالحديث هو الناسخ على الحقيقة لا سيما إذا كان خصمنا من أصحاب أبي حنيفة والشافعي أو مالك فإنهم لا يرون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 على الثيب جلدا إنما يرون الرجم فقط فوجب على قولهم الفاسد ألا مدخل للآية المذكورة أصل في نسخ الأذى والحبس الذي كان حد الزناة والزواني فإن قال قائل منهم ما نسخ الأذى والحبس إلا ما روي مما كان نازلا وهو الشيخ والشيخة فارجموهما البتة قيل له وبالله تعالى التوفيق قد تركت قولك ووافقتنا على جواز نسخ القرآن المتلو بما ليس مثله في التلاوة وبما ليس مثله في أن يكتب في المصحف فإذا جوزت ذلك فكذلك كلامه صلى الله عليه وسلم بنص القرآن وحي غير متلو وليس ذلك بمانع من أن ينسخ به وقد بلح بعضهم ههنا فقال إنما عنى بقوله {لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} غير المحصنين فقط وقال كما خرج العبد والأمة من هذا النص فكذلك خرج المحصن والمحصنة منه قال أبو محمد فيقال له إذا جوزت خروج حكم ما من أجل خروج حكم آخر بدليل فلا ننكر على أبي حنيفة قوله من تزوج أمه وهو يعلم أنها أمه فوطئها خارج عن حكم الزناة ولا ننكر على مالك قوله إن من وطىء عمته وخالته بملك اليمين وهو يعلم أنهما محرمتان عليه خارج عن حكم الزناة ولا تدخل أنت فيهم اللوطي ولا ذكر له فيهم وهذا من غلطهم أن يخرجوا من الزناة من وقع عليه اسم زان وأن يدخلوا فيهم من لا يقع عليه اسم زان وهذا جهار بالمعصية لله تعالى وخلاف أمره وتحكم في الدين بلا دليل نعوذ بالله من ذلك قال أبو محمد ومما نسخت فيه السنة القرآن قوله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} فإن القراءة بخفض أرجلكم وفتحها كلاهما لا يجوز إلا أن يكون معطوفا على الرؤوس في المسح ولا بد لأنه لا يجوز البتة أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بخبر غير الخبر عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 المعطوف عليه لأنه إشكال وتلبيس وإضلال لا بيان لا تقول ضربت محمدا وزيدا ومررت بخالد وعمرا وأنت تريد أنك ضربت عمرا أصلا فلما جاءت السنة بغسل الرجلين صح أن المسح منسوخ عنهما وهكذا عمل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم كانوا يمسحون على أرجلهم حتى قال عليه السلام ويل للأعقاب والعراقيب من النار وكذلك قال ابن عباس نزل القرآن بالمسح قال أبو محمد والنسخ تخصيص بعض الأزمان بالحكم الوارد دون سائر الأزمان وهم يجيزون بالسنة تخصيص بعض الأعيان مثل قوله عليه السلام لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وما أشبه ذلك فما الفرق بين جواز تخصيص بعض الأعيان بالسنة وبين جواز تخصيص بعض الأزمان بها وما الذي أوجب أن يكون هذا ممنوعا وذلك موجودا فإن قالوا ليس التخصيص كالنسخ لأن التخصيص لا يرفع النص والنسخ يرفع النص كله قيل لهم إذا جاز رفع بعض النص بالسنة وبعض النص نص فلا فرق بين رفع بعض نص آخر بها وكل ذلك سواء ولا فرق بين شيء منه قال أبو محمد وقد أقروا وثبت الخبر بأن آيات كثيرة رفع رسمها البتة ولا يجوز أن ترفع بقرآن إذ لو رفعت بقرآن لكان ذلك القرآن موجودا متلوا وليس في شيء من المتلو ذكر رفع لآية كذا مما رفع البتة فوجب ضرورة أن ما ارتفع وهذا نفس ما أجزنا من نسخ القرآن بالسنة فإن قالوا إنما رفع بالإنساء قيل لهم الإنساء ليس قرآنا وإنما ذلك هو فعل منه تعالى وأمر بألا يتلى قال أبو محمد ومما نسخ من القرآن بالسنة قوله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم لموت إن ترك خيرا لوصية للوالدين ولأقربين بلمعروف حقا على لمتقين} نسخ بعضها قوله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 وقد قال قوم إن آيات المواريث نسخت هذه الآية قال أبو محمد وهذا خطأ محض لأن النسخ هو رفع حكم المنسوخ ومضاد له وليس في آية المواريث ما يمنع الوصية للوالدين والأقربين إذ جائز أن يرثوا ويوصى لهم مع ذلك من الثلث ومن بديع ما يقع لمن قال إن القرآن لا تنسخه السنة أنهم نسوا أنفسهم فجعلوا حديث عمران بن الحصين في الستة الأعبد ناسخا لوصية الوالدين والأقربين فأثبتوا ما نفوا وصححوا ما أبطلوا وقد تكلمنا في بطلان ذلك فأغنى عن ترديده ولا فرق بينهم في دعواهم لذلك وبين من قال بل الآية نسخت حديث الستة الأعبد ومما نسخ من السنة بالقرآن صلحه صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية إلى المدة التي كانت ثم نسخ الله تعالى ذلك في سورة براءة ولم يجز لنا صلح مشرك إلا على الإسلام فقط حاشا أهل الكتاب فإنه تعالى أجاز صلحهم على أداء الجزية مع الصغار وأبطل تعالى تلك الشروط كلها وتلك المدة كلها وبالله تعالى التوفيق فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل قال أبو محمد قد بينا أن كل ما فعله صلى الله عليه وسلم من أمور الديانة أو قاله منها فهو وحي من عند الله عز وجل بقوله تعالى {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} وبقوله تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} والله تعالى يفعل ما يشاء فمرة ينزل أوامره بوحي يتلى ومرة بوحي ينقل ولا يتلى ومرة بوحي يعمل به ولا يتلى ولا ينقل لكنه قد رفع رسمه وبقي حكمه ومرة أن يري نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه ما شاء ومرة يأتيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 جبريل بالوحي لا معقب لحكمه فجائز نسخ أمره صلى الله عليه وسلم بفعله وفعله بأمره وجائز نسخ القرآن بكل ذلك وجائز نسخ كل ذلك بالقرآن وكل ذلك سواء ولا فرق وكذلك الشيء يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقره ولا ينكره وقد كان تقدم عنه تحريم جلي فإن ذلك نسخ لتحريمه لأنه مفترض عليه التبليغ وإنكار المنكر وإقرار المعروف وبيان اللوازم وهو معصوم من الناس ومن خلاف ما أمره به ربه تعالى فلما صح كل ما ذكرنا أيقنا أنه إذا علم شيئا كان قد حرمه ثم علمه ولم يغيره أن التحريم قد نسخ وأن ذلك قد عاد حقا مباحا ومعروفا غير منكر وأما إن كان قد تقدم في ذلك الشيء نهي فقط ثم رآه صلى الله عليه وسلم أو علمه فأقره فإنما ذلك بين أن ذلك النهي على سبيل الكرامة فقط لأنه لا يحل لأحد أن يقول في شيء من الأوامر إن هذا منسوخ إلا ببرهان جلي إذ كلها على وجوب الطاعة لها وما تيقنا وجوب طاعتنا له فحرام علينا مخالفته لقول قائل هذا منسوخ ولو جاز قبول ذلك ممن ادعاه بلا برهان لسقطت الشرائع كلها لأنه ليس قول زيد وعمر ومالك والشافعي وأبي حنيفة هذا منسوخ بأولى من قول كل من على ظهر الأرض فيما يستعمله من ذكرنا هذا أيضا منسوخ وقد قال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ومن قال في شيء من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم هذا منسوخ أو هذا متروك أو هذا مخصوص أو هذا ليس عليه العمل فقد قال دعوا ما أمركم به ربكم أو نبيكم ولا تعملوا به وخذوا قولي وأطيعوني في خلاف ما أمرتم به قال أبو محمد فحق من قال ذلك أن يعصى ولا يلتفت إلى كلامه إلا أن يأتي ببرهان من نص أو إجماع كما قدمنا في فصل كيفية معرفة المنسوخ من المحكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 قال أبو محمد ومما ذكرنا أنه نهى عنه صلى الله عليه وسلم ثم رآه فلم ينكره نهيه المصلين خلف الجالس عن القيام ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي مات فيه جالسا والناس وراءه قيام ولم ينكر عليه السلام ذلك فصح أن ذلك النهي الأول ندب إلا من فعل ذلك إعظاما للإمام فهو حرام على ما بين عليه السلام يوم صلاته إذ ركب فرس أبي طلحة فسقط فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي قال أبو محمد قال قوم النسخ يقع حين نزول الوحي لأن المنسوخ على ما بينا إنما هو أمر الله المتقدم لا أفعال المأمورين إلا أن الغائب لا يقع عليه الملامة ولا الوعيد إلا بعد بلوغ الأمر الناسخ إليه وكذلك سائر الأوامر التي لم تنسخ هي لازمة لكل من قرب وبعد ولكل من لم يخلق بعد لكن الملامة والوعيد مرفوعان عمن لم يبلغه حتى يبلغه فإذا بلغته فأطاع حمد وأجر وإن عصى ليم واستحق الوعيد وأجره على فعل ما نسخ مما لم يبلغه نسخه أجر واحد لأنه مجتهد مخطىء كما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك والذي نقول به إن النسخ لا يلزم إلا إذا بلغ وبين ما قلنا قوله تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فإما أوجب الحكم بعد البلوغ فلو أن من بلغه المنسوخ ممن بعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يبلغه الناسخ أقدم على ترك المنسوخ الذي بلغه دون علم الناسخ وعمل بالناسخ كان عليه إثم المستسهل لترك الفرض لا إثم تارك الفرض إنه لا يجوز لمن علم نسخ الحكم أن ينفذ عليه حكم ما بلغه تحريم الحكم على الجاهل لم يجز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 له أن يحكم عليه بحكم العالم مثال ذلك رجل لقي رجلا فقتله على نية الحرابة فإذا بذلك المقتول هو قاتل والد الذي قتله أو وجده مشركا محاربا فهذا ليس عليه إثم قاتل مؤمن عمدا ولا قود عليه ولا دية لأنه لم يقتل مؤمنا حرم الدم عليه وإنما عليه إثم مريد قتل المؤمن عمدا ولم ينفذ ما أراد وبين الإثمين بون كبير لأن أحدهما هام والآخر فاعل وكإنسان لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها فإذا بها زوجته فهذا ليس عليه إثم الزنى ومن قذفه حد حد القذف لكن عليه إثم مريد الزنى ولا حد عليه ولا يقع عليه اسم فاسق بذلك وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ولو أن رجلا ممن بلغه فرض استقبال بيت المقدس ولم يبلغه نسخ ذلك وصلى إلى الكعبة لكان مفسدا لصلاته بعبثه فيها لا بصلاته إلى غير القبلة ولأن الائتمار إنما يكون بعد العلم بالأمر اللازم له لا قبل ولا تكون طاعة أصلا إلا بنية وقصد إلى عمل بعدما أمر به علمه بأنه لازم له وإلا فهو عبث لا يسمى ذلك في اللغة طائعا أصلا ولكتب عليه اسم المستسهل للصلاة إلى غير القبلة ومثاله الآن بينما رجل في صحراء أداه اجتهاده إلى جهة ما فخالفها متعمدا فوافق في الوجهة التي صلى إليها إن كانت القبلة على حق فهذا عابث في صلاته فاسق وليس مصليا إلى غير القبلة قال أبو محمد كذلك كانت صلاة أهل قباء ومن كان بأرض الحبشة إلى بيت المقدس صلاة تامة وإن كان النسخ قد وقع بالقبلة إلى الكعبة على من بلغه لأنهم لم يعلموا ذلك ولكن أجرهم على صلاتهم كذلك أجران وأما من بلغه ذلك ثم نسيه أو تأول فيه فأجرهم على صلاته كذلك أجرا واحدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 لأنهم مجتهدون أخطؤوا ما عند الله عز وجل وهم مأمورون باستقبال الكعبة ولكنهم غير ملومين ولا آثمين في ترك ذلك لأنهم معذورون بالجهل وهذا بين وبالله تعالى التوفيق وليس كذلك أهل قباء ومن كان بأرض الحبشة لأن فرضهم البقاء على ما بلغهم حتى ينتقل بلوغ النسخ إليهم قال أبو محمد وقد تبين بهذا ما قلناه في غير موضع من كتابنا أن المخطىء أفضل عند الله من المقلد المصيب وكذلك قلنا في جميع العبادات فإن سأل سائل عن قولنا في الوكيل يعزله موكله أو يموت فينفذ الوكيل ما كان وكل عليه بعد عزله وهو يعلم أنه معزول أو بعد موت الذي وكله وهو لا يعلم بموته قلنا له وبالله تعالى التوفيق قال الله عز وجل {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وقال 9 صلى الله عليه وسلم دماؤكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام فكل أمر انفذه الوكيل بعد عزله وهو غير عالم فنافذ لأن عازله ولا يعلمه مضار وقد قال صلى الله عليه وسلم من ضار أضر الله به فهو منهي عن المضارة وأما ما أنفذ بعد موت موكله وهو عالم أو غير عالم فهو مردود منسوخ لأنه كاسب على غيره بغير نص ولا إجماع ولا يجوز القياس أصلا ولكل حكم حكمه وليست هذه الأمور بابا واحدا فيستوي الحكم فيها إلا أن يكون وكله على دفع وديعة أو دين أو حق لآخر فهذا نافذ عزله أو علم الوكيل أنه عزله أو أنه مات أو لم يعلم لأن الذي فعل حق للمدفوع إليه لا للدافع فليس كاسبا على غيره بل فعل فعلا واجبا على كل أحد أن يفعله أمر بذلك أو لم يؤمر لأنه قيام بالقسط قال الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا كونوا قوامين بلقسط شهدآء لله ولو على أنفسكم أو لوالدين ولأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فلله أولى بهما فلا تتبعوا لهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن لله كان بما تعملون خبيرا} وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تحلوا شعآئر لله ولا لشهر لحرام ولا لهدي ولا لقلائد ولا آمين لبيت لحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن لمسجد لحرام أن تعتدوا وتعاونوا على لبر ولتقوى ولا تعاونوا على لإثم ولعدوان وتقوا لله إن لله شديد آلعقاب} ومن البر إيصال كل أحد حقه وأما القاضي والأمين يعزله الأمير فليس للإمام أن يضيع أمور المسلمين فيبقيهم دون من ينفذ أحكامهم لكن يكتب أو يوصي إلى القاضي أو الوالي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 إذا أتاك عهدي فاعتزل عملنا فإن لم يفعل كذلك فكل حكم أنفذه المعزول قبل أن يعلم العزل بحق فهو نافذ لأنه لم يكلف علم الغيب وقد ظلم الإمام إذ عزله دون تقديم غيره والظلم مردود ومن باع مال غيره أو تأمر فحكم فوافق أن صاحب ذلك المال المبيع قد كان وكله قبل أن يبيع ما باع ولم يعلم الوكيل بذلك أو وافق أن الإمام قد كان ولاه ما تأمر عليه ولم يعلم هو بذلك فكل ما فعل فمردود منسوخ لأنهما غير مطيعين بما فعلا بل هما عاصيان لأن الطاعة عمل من الأعمال والأعمال بالنيات ولا نية لهذين فيما فعلا لأنهما لم يفعلا كما أمرا بل كما لم يؤمرا كما قلنا قبل فيمن صلى إلى جهة ولا يشك أنها غير القبلة فوافق أنها القبلة فصلاته فاسدة لأنه لم ينو الطاعة المأمور بها وكذلك من باع فوافق أنه ماله ولا يعلم أو قد ورثه أو استحقه فبيعه ذلك مردود أبدا وكذلك هبته وصدقته لو وهبه أو تصدق به وكذلك لو كان عبدا فأعتقه ويرد كل ذلك لأنه عمل لم يعمل بالنية التي أبيح له أن يعمله بها ولا عمل إلا بنية وأما من لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها فإذا هي زوجته فإنها تستحق بذلك جميع المهر وتحل لمطلقها ثلاثا لأن الوطء لا يحتاج فيه إلى نية وقد رجم النبي صلى الله عليه وسلم بوطء في الكفر ولو تزوجها وهو عاقل ثم جن فوطأها في حال جنونه لاستحقت في ماله جميع الصداق بلا خوف ويلحق به الولد بلا خوف فصح أن الوطء لا يحتاج فيه إلى نية بإجماع وأما من صام رمضان وهو لا يدري فوافق رمضان فلا يجزيه وكذلك الصلاة يصليها وهو لا يدري أدخل وقتها أم لا لأن هذه الأعمال تقضي نية مرتبطة بها لا يصلح العمل إلا بها فإن امتزجت بغير تلك النية أو عدمت ارتباط النية بها بطلت وكذلك الصلاة خاصة فإنها قد دخل فيها عمل يبطلها وهو العبث وكذلك الزكاة يعطيها بغير نية أنها زكاة قال أبو محمد وموت الموكل عزل لوكيله البتة وموت الإمام بخلاف ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وليس موته عزلا لعماله حتى يعزلهم الإمام الوالي بعده لأن مال الموكل قد انتقل إلى وراثة غيره وقد قال تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات وله عمال باليمن والبحرين وغيرهما فلم يختلف مسلمان في أن موته صلى الله عليه وسلم لم يكن عزلا لمن ولى حتى عزل أبو بكر من عزل منهم والقياس باطل وهاتان مسألتان قد فرق بينهما النص والإجماع ولا سبيل إلى الجمع بينهما فصل في النسخ بالإجماع قال أبو محمد النسخ بالإجماع المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم جائز لأن الإجماع أصله التوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إما بنص قرآن أو برهان قائم من آي مجموعة منه أو بنص سنة أو برهان قائم منها كذلك أو بفعل منه عليه السلام أو بإقرار منه عليه السلام لشيء علمه فإذا كان الإجماع كذلك فالنسخ به جائز قال أبو محمد وقد ادعى قوم أن الإجماع صح على أن القتل منسوخ على شارب الخمر في الرابعة قال أبو محمد وهذه دعوة كاذبة لأن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو يقولان بقتله ويقولان جيئونا به فإن لم نقتله فنحن كاذبان قال أبو محمد وبهذا القول نقول وبالله تعالى التوفيق فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس قال أبو محمد وقد أجاز قوم نسخ القرآن والسنة بالقياس قال أبو محمد وهذا قول تقشعر منه الجلود والقياس باطل والكلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 في إبطاله مكان من هذا الديوان إن شاء الله تعالى ومن العجب العجيب أن القائلين بهذا الأمر العظيم يمنعون من نسخ القرآن بالسنة فهل في عكس الحقائق أعظم من هذا وإذا كان القياس باطلا فالباطل لا يحل استعماله ولا ترك الحقائق له وقد أجاز قوم نسخ السنة بقول الصاحب قال أبو محمد وهذا كفر من قائله وخروج عن الإسلام لقوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} ولقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فهذا تكذيب للباري تعالى ومن كذب وأجاز لأحد أن يزيد في الدين أو يبدله أو ينقص منه فقد كفر فمن أضل ممن دان بأن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يبطل برأيه وإرادته دينا أتى به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن الأمة مجمعة بلا خلاف على أن خبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لأحد أن يعارضه بنظر وخبر الواحد إذا صح عند القائلين به كخبر التواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الطاعة ولا فرق فمن أجاز نسخه بنظر أو معارضته بقياس فقد تناقض وخرج عن الإجماع وفي هذا ما فيه وبالله تعالى التوفيق الباب الحادي والعشرون في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام قال الله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} وأنبأنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت تلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله تعالى فاحذروهم وبه إلى مسلم قال ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني قال حدثنا زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن حمى الله محارمه وقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وقال تعالى {وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} قال أبو محمد فوجدناه تعالى قد حض على تدبر القرآن وأوجب التفقه فيه والضرب في البلاد لذلك ووجدناه تعالى قد نهى عن اتباع المتشابه منه ووجدناه صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن المتشابهات التي بين الحرام البين والحلال البين لا يعلمها كثير من الناس فكان ذلك فضلا لمن علمها فأيقنا أن الذي نهى عز وجل عن تتبعه هو غير الذي أمر بتتبعه وتدبره والتفقه فيه وأيقنا بلا شك أن المشتبه الذي غبط صلى الله عليه وسلم عالمه هو غير المتشابه الذي حذر من تتبعه هذا الذي لا يقوم في المعقول سواه إذ لا يجوز أن يكلفنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 تعالى طلب شيء وينهانا عن طلبه في وقت واحد فلما علمنا ذلك وجب علينا طلب المتشابه الذي أمرنا بطلبه لنتفقه فيه وأن نعرف أي الأشياء هو المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فنمسك عن طلبه فنظرنا في القرآن وتدبرناه كما أمرنا تعالى فوجدناه جاء بأشياء منها التوحيد وإلزامه فكان ذلك مما أمرنا باعتقاده والفكرة فيه فعلمنا أنه ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها صحة النبوة وإلزامنا الإيمان بها فعلمنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها الشرائع المفترضة والمحرمة والمندوب إليها والمكروهة والمباحة وذلك كله مفترض علينا تتبعه وطلبه فأيقنا أن ذلك مما أمرنا بالتفكير فيه بقوله تعالى {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت} وبقوله تعالى {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنآ ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار} مثنيا عليهم فأيقنا أنه ليس من المتشابه ومنها أخبار سالفة جاءت على معنى الوعظ لنا وهي مما أمرنا بالاعتبار به بقوله تعالى {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه ومنها وعد أمرنا وحضضنا على العمل لاستحقاقه ووعيد حذرنا منه وكل ذلك مما أمرنا به بالفكرة فيه لنجتهد في طلب الجنة ونفر عن النار فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فلما علمنا أن كل ما ذكرنا ليس متشابها وعلمنا يقينا أنه ليس في القرآن إلا محكم ومتشابه وأيقنا أن كل محكم فلما أيقنا ذلك ضرورة علمنا يقينا أن ما عدا ما ذكرنا هو المتشابه فنظرنا لنعلم أي شيء هو فنجتنبه ولا نتتبعه وإنما طلبناه لنعلم ماهيته لا كيفيته ولا معناه فلم نجد في القرآن شيئا غير ما ذكرنا حاشا الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور وحاشا الأقسام التي في أوائل بعض السور أيضا فعلمنا يقينا أن هذين النوعين هما المتشابه الذي نهينا عن اتباعه وحذر النبي صلى الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 عليه وسلم من المتبعين له وكذلك وجدنا عمر رضي الله عنه قد أوجع صبيا على سؤاله عن تفسير والذاريات فصح ضرورة أن هذين القسمين هما المتشابه الذي نهينا عن ابتغاء تأويله إذ لم يبق بعد ما ذكرنا مما أمرنا بتتبعه إلا هذان النوعان فلم يبق غيرهما فحرام على كل مسلم أن يطلب معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور مثل {كهيعص} و {حم عسق} و {ن} و {الم} و {ص} و {طسم} وحرام أيضا على كل مسلم أن يطلب معاني الأقسام التي في أوائل السور مثل {والنجم} و {الذاريات} {والطور} {والمرسلات عرفا} {والعاديات ضبحا} وما أشبه ذلك قال أبو محمد وقد قال قوم إن المتشابه هو ما اختلف فيه من أحكام القرآن قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش لأن هذا القول دعوى ورأي من قائله لا برهان على صحته وأيضا فإن ما اختلف فيه فلا بد من أن الحق في بعض ما قيل فيه موجود واضح لمن طلبه برهان ذلك قوله تعالى {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} وقوله تعالى {بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فالبيان مضمون موجود فمن طلبه طلبا صحيحا وفقه الله تعالى وأيضا فإن الأحكام المختلف فيها فرض علينا تتبعها وابتغاء تأويلها وطلب حكمها الحق فيها والعناية بها والعمل بها وأما المتشابه فحرام علينا بالنص تتبعه وطلب معناه فبطل بذلك أن يكون المختلف فيه متشابها وإذا بطل ذلك صح أنه محكم ولا يضر الحق جهل من جهل ولا اختلاف من اختلف فيه وقال آخرون المتشابه هو ما تقابلت فيه الأدلة قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش لأنه دعوى من قائله بلا برهان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 ورأي فاسد ولأن تقابل الأدلة باطل وشيء معدوم لا يمكن وجوده أبدا في الشريعة ولا في شيء من الأشياء والحق لا يتعارض أبدا وإنما أتى من أتى في ذلك لجهله بيان الحق ولإشكال تمييز البرهان عليه مما ليس ببرهان وليس جهل من جهل في إبطال الحق ودليل الحق ثابت لا معارض له أصلا وقد بينا وجوه البراهين في كتابنا التقريب وكتابنا الموسوم بالفصل وفي كتابنا هذا ولا سبيل إلى أن يأمرنا تعالى بطلب أدلة قد ساوى فيها بين الحق والباطل ومن نسب هذا إلى الله تعالى فقد ألحد وأكذبه ربه تعالى إذ يقول {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} وإذ يقول تعالى {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم} وبقوله تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين} فصح أن متشابه الأحكام الذي ذكر صلى الله عليه وسلم أنها لا يعلمها كثير من الناس مبينة بالقرآن والسنة يعلمها من وفقه الله تعالى لفهمه من الفقهاء الذين أمر عز وجل بسؤالهم إذ يقول تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} وقد قال قوم إن قوله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} معطوف على الله عز وجل قال أبو محمد وهذا غلط فاحش وإنما هو ابتداء وخبره في {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} والواو لعطف جملة على جملة وبرهان ذلك أن الله حرم تتبع ذلك المتشابه وأخبر أن متبعه وطالب تأويله زائغ القلب مبتغي فتنة وحذر النبي صلى الله عليه وسلم ممن اتبعه ولا سبيل إلى علم معنى شيء دون تتبعه وطلب معناه فإذا كان التتبع حراما فالسبيل إلى علمه مسدود وإذا كانت مسدودة فلا سبيل إلى علمه أصلا فصح أن الراسخين لا يعلمونه أبدا وأيضا فإن فرضا على العلماء بيان ما علموا الناس كلهم يقول الله تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه ورآء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون} وبقوله عز وجل {إن الذين يكتمون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} قال أبو محمد فلو علمه الراسخون في العلم لكان فرضا عليهم أن يبينوه للناس ولو لم يبينوه لكانوا ملعونين ولو بينوه لعلمه الناس ولو علمه الناس لكان محكما لا متشابها ولتساوى فيه الراسخون وغيرهم وهذا ضد ما قال تعالى فبطل بذلك قول من ظن أن الراسخين يعلمونه وأما ذمه عليه السلام من جهل تلك المتشابهات إن وقع حولها فإنما ذلك بنص الحديث خوف مواقعة الحرام البين فصح أن تلك المتشابهات ليست حراما في ذاتها على من جهلها خاصة ليست حراما عليه إذ لم يبلغه تفصيل تحريمها عليه ولكن الورع أن يتركها خوف وقوعه في الحرام البين قال أبو محمد وبين صحة قولنا في هذا الباب ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى بن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم قال أبو محمد فقد حذر عليه السلام ممن اتبع ما تشابه من القرآن وقد علمنا أن اتباع أحكامه كلها فرض فصح أن المتشابه هو غير ما أمرنا بتدبيره الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 والتفقه فيه كما ذكرنا وقد تأول قوم في قوله تعالى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} إن ذلك نزل في قوم من المنافقين كانوا يعترضون على التنازل من القرآن ويقولون لعله سينزل غدا نسخه فيحملون معنى تأويله على أنه مآله أي لا يعلم النازل من القرآن أينسخ أم لا إله إلا الله تعالى قال أبو محمد وهذا فاسد لأنه دعوى بلا برهان وما كان هكذا هو باطل بيقين لقول الله تعالى {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وتخصيص ما يقتضيه كلام الله تعالى ما لم يقل وكذب عليه نعوذ بالله من هذا وليكن هذا تخصيصا للآية بلا دليل وقد أبطلنا تخصيص الظواهر بلا دليل فيما خلا من كتابنا هذا لأننا الآن قد علمنا ما لكل آية في القرآن وغيرها ما قد نسخ منها وما لم ينسخ بعد أبدا وقال قوم أيضا إن معنى {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} أي وما يعلم علة نزول الآيات إلا الله قال أبو محمد وهذا أيضا فاسد كالذي قبله لأنه دعوى بلا برهان وتقويل لله ما لم يقل وإخبار عنه تعالى بما لم يخبر به عن نفسه ولأنه لو كان كما ذكروا لكان لنزول الآيات علل لا يعلمها إلا الله عز وجل وقد أبطلنا قول من قال إن الله تعالى يفعل لعلة في باب إبطال العلل من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 الباب الثاني والعشرون في الإجماع وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع قال أبو محمد اتفقنا نحن وجميع أهل الإسلام جنهم وإنسهم في كل زمان إجماعا صحيحا متيقنا على أن القرآن الذي أنزله الله على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حق لازم لكل أحد وإنه دين الإسلام ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فاعلموا رحمكم الله أن من اتبع نص القرآن وما أسند من طريق الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الإجماع يقينا وأن من عاج عن شيء من ذلك فلم يتبع الإجماع وكذلك إجماع أهل الإسلام كلهم جنهم وإنسهم في كل زمان وكل مكان على أن السنة واجب اتباعها وأنها ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك اتفقوا على وجوب لزوم الجماعة فاعلموا رحمكم الله أن ما اتبع ما صح برواية الثقات مسندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اتبع السنة يقينا ولزوم الجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان ومن أتى بعدهم من الأئمة وأن من اتبع أحدا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتبع السنة ولا الجماعة وأنه كاذب في ادعائه السنة والجماعة فنحن معشر المتبعين للحديث المعتمدين عليه أهل السنة والجماعة حقا بالبرهان الضروري وأننا أهل الإجماع كذلك والحمد لله رب العالمين ثم اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة وحق مقطوع به في دين الله عز وجل ثم اختلفنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 فقالت طائفة هو شيء غير القرآن وغير ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه لكن برأي منهم أو بقياس منهم عن منصوص وقلنا نحن هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين في أي قول المختلفين هو الحق لا بد من هذا فيكون من وافق ذلك النص هو صاحب الحق المأجور مرتين مرة على اجتهاده وطلبه الحق ومرة ثانية على قوله بالحق واتباعه له ويكون من خالف ذلك النص غير مستجيز لخلافه لكن قاصدا إلى الحق مخطئا مأجورا أجرا واحدا على طلبه للحق مرفوعا عنه الإثم إذا لم يعمد له وقد تيقن ألا يختلف المسلمون في بعض النصوص ولكن يوقع الله عز وجل لهم الإجماع عليه كما أوقع تعالى بينهم الاختلاف فيما شاء أن يختلفوا فيه من النصوص واحتجت الطائفة المخالفة لنا بأن قالت قال الله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قالوا فافترض الله طاعة أولي الأمر كما افترض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وكما افترض طاعة نفسه عز وجل أيضا ولا فرق فلو كان عز وجل إنما افترض طاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان لتكرار الأمر بطاعتهم بمعنى لأنه يكتفي عز وجل بذكر طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط لأنها على قولكم معنى واحد فصح أنه إنما افترض عز وجل طاعتهم فيما قالوه برأي أو قياس مما ليس فيه نص عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وجمعوا في استدلالهم بهذه الآية إلى تصحيح الإجماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 تصحيح القول بالرأي والقياس فيما ظنوا وقالوا أيضا قال عز وجل {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} قالوا وهذه كالتي قبلها وقالوا أيضا قال الله عز وجل {ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا} قالوا فتوعدوا على مخالفة سبيل المؤمنين أشد الوعيد فصح فرض اتباعهم فيما أجمعوا عليه من أي وجه أجمعوا عليه لأنه سبيلهم الذي لا يجوز ترك اتباعه وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا سعيد بن منصور وأبو الربيع العتكي وقتيبة قالوا حدثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبى عن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله زاد العتكي وسعيد في روايتهما وهم كذلك وبه إلى مسلم حدثنا منصور بن أبي مزاحم ثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية على المنبر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفريري ثنا البخاري ثنا الحميدي ثنا الوليد هو ابن مسلم ثنا ابن جابر هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني عمير بن هاني قال سمعت معاوية يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قالوا فصح أنه لا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غير الحق أبدا لأنه صلى الله عليه وسلم قد أنذر بأنه لا يزال منهم قائم بالحق أبدا قال أبو محمد وقد روي أنه عليه السلام قال لا تجتمع أمتي على ضلالة وهذا وإن لم يصح لفظه ولا سنده فمعناه صحيح بالخبرين المذكورين آنفا قال أبو محمد هذا كل ما احتجوا به ما لهم حجة غير هذا أصلا قال أبو محمد وكل هذا حق لا ينكره مسلم ونحن لم نخالفهم في صحة الإجماع وإنما خالفناهم في موضعين من قولهم أحدهما تجويزهم أن يكون الإجماع على غير نص والثاني دعواهم الإجماع في مواضع ادعوا فيها الباطل بحيث لا يقطع أنه إجماع بلا برهان أما في مكان قد صح فيه الاختلاف موجودا وإما في مكان لا نعلم نحن فيه اختلافا إلا أن وجود الاختلاف فيه ممكن نعم وقد خالفوا الإجماع المتيقن على ما تبين بعد هذا إن شاء الله تعالى فإذا الأمر هكذا فلا حجة لهم في شيء من هذه النصوص أصلا فيما أنكرناه عليهم إنما الأخبار التي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما فيها أن أمته عليه السلام لا تجتمع ولا ساعة واحدة من الدهر على باطل بل لا بد أن يكون فيهم قائل بالحق وقائم بالحق وقائم به وهكذا نقول وهذا الخبر إنما فيه بنص لفظه وجود الاختلاف فقط وأن مع الاختلاف فلا بد فيهم من قائل بالحق وأما قوله تعالى {ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا} فإنها حجة قائمة عليهم والحمد لله رب العالمين وذلك أن الله تعالى لم يتوعد في هذه الآية متبع على غير سبيل المؤمنين فقط لا مع مشاقته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تبين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 الهدى وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين واعلم أنه لا سبيل للمؤمنين البتة إلا طاعة القرآن والسنن الثابتة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما إحداث شرع لم يأت به نص فليس سبيل المؤمنين بل هو سبيل الكفر قال الله تعالى {إنما كان قول لمؤمنين إذا دعوا إلى لله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم لمفلحون} قال أبو محمد هذه سبيل المؤمنين بنص كلام الله تعالى لا سبيل لهم غيرها أصلا فعادت هذه الآية حجة لنا عليهم وأما قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وقوله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} فإن هذا مكان قد اختلف الصدر الأول فيه في من هم أولي الأمر كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا محمد بن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور ثنا أبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال هم الأمراء وروينا عن مجاهد والحسن وعكرمة وعطاء قال هم الفقهاء وروينا ذلك بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور عن هشيم وسفيان بن عيينة قال هشيم أخبرنا أبو معاوية ومنصور وعبد الملك بن معاوية عن الأعمش عن مجاهد ومنصور عن الحسن وعبد الملك عن عطاء وقال سفيان عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال أبو محمد فإذا لم يأت قرآن ببيان أنهم العلماء المجمعون ولا صح بذلك إجماع فالواجب حمل الآيتين على ظاهرهما ولا يحل تخصيصهما بدعوى بلا برهان لأنه مع ذلك تقويل لله عز وجل ما لم يقل ونحن نقطع بأنه تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 لو أراد بعض أولي الأمر دون بعض لبينه لنا ولم يدعنا في لبس فوجب ما قلناه من حمل الآيتين على عمومهما فنقول إن أولي الأمر منا وإذ هذا هو الحق فمن الباطل المتيقن أن يقول قائل إن الله تعالى أمرنا بقبول طاعة الأمراء العلماء فيما لم يأمر به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فصح أن طاعة العلماء الأمراء إنما تجب علينا فيما أمرنا به مما أمر الله به تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقط وأما قولهم إن الله تبارك وتعالى لو أراد هذا لاكتفى بالأمر بطاعة الرسول عليه السلام على أن يذكر تعالى أولى الأمر فكلام فاسد لأنه يقال لهم إن قلتم إن ذكره تعالى طاعة أولي الأمر منا فيما قالوا برأي أو قياس لا فيما نقلوه إلينا عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قد أغنى أمره تعالى بطاعة الرسول عن تكراره فيلزمكم سواء بسواء أن تقولوا أيضا إن أمره تعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أمره بطاعة نفسه عز وجل دليل على أنه عز وجل إنما أمرنا بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله من عند نفسه لا فيما أتانا به من عند ربه عز وجل إذ قد أغنى أمر بطاعة نفسه عن تكراره لا فرق بين القولين فإن أبيتم من هذا ظهر تناقضكم وتحكمكم بالباطل بلا برهان وإن جسرتم وقلتموه أيضا كنتم أتيتم بعظائم مخالفة للقرآن وللرسول عليه السلام وللإجماع المتيقن إذ جوزتم أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع لم يوح الله تعالى بشيء منها إليه قط والله تعالى قد أكذب هذا القول إذ أمره أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} وإذ يقول عز وجل مخبرا عنه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فأخبر تعالى عن أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق البتة إلا بوحي يوحى إليه وأنه لا يتبع البتة إلا ما يوحي الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 إليه فقط فمن كذب ربه فلينظر أين مستقره وإذا جوزتم أن يجمع الناس على شرائع يحدثونها لم يوح بها الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ولا بينها رسوله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يكذب من قال هذا إذ يقول {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فالدين قد كمل وما كمل فلا مزيد فيه أصلا وأما تكرار الله تعالى الأمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أمره بطاعة نفسه تعالى وتكراره الأمر بطاعة أولي الأمر بعد أمره بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان كل ذلك ليس فيه إلا طاعة ما أمر الله به فقط لا ما لم يأت به الوحي منه عز وجل فوجه ذلك واضح وهو بيان زائد لولا مجيئه لالتبس على بعض الناس فهم ذلك الأمر وذلك أنه لو لم يأمرنا الله تعالى إلا على الأمر بطاعته فقط لتوهم بعض الجهال أنه لا يلزمنا إلا ما قاله تعالى في القرآن فقط وأنه لا يلزمنا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاءنا به مما ليس في نص القرآن فلما أمر تعالى مع طاعته بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ليظهر البيان ولم يمكن أن يمنع من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمرنا إلا معاند له ولو لم يأمرنا تعالى إلا على الأمر بطاعة أولي الأمر منا لأمكن أن يهم جاهل فيقول لا يلزمنا طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما سمعنا منه مشافهة فلما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر منا ظهر البيان في وجوب طاعة ما نقله إلينا العلماء عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط فبطل أن يكون لهاتين الآيتين متعلق والحمد لله رب العالمين فإن قالوا لو كان هذا لما كان قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} معنى لأن ما جاءنا عن الله تعالى وعن النبي صلى الله عليه وسلم فواجب قبوله اتفق عليه أو اختلف فيه فأي معنى للفرق وبين أمره تعالى بطاعة أولي الأمر ثم أمره بالرد عند الشارع إلى الله ورسوله قلنا ليس في قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 خلاف لأمره تعالى بطاعة أولي الأمر بل كل ذلك ليس فيه إلا طاعة القرآن والسنن المبلغة إلينا فقط ولكن في قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بلله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} معنى زائد ليس فيما تقدم من الآية وهو نهيه تعالى عن تقليد أحد واتباعه والأمر بالاقتصار على القرآن والسنة فقط ولا مزيد وأيضا والكل من المسلمين متفقون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نصلي إلى بيت المقدس مدة ثم أمرنا بترك تلك القبلة وبالصلاة إلى مكة فوجب ذلك وأنه عليه السلام لو نهانا عن أن نصلي الخمس وعن صوم رمضان لحرم علينا أن نصليها أو نصومه وهكذا في سائر الشرائع أفهكذا القول عندكم وأمرنا بذلك بعد جميع أهل الأرض فإن قالوا نعم كفروا وإن قالوا لا فرقوا بين طاعته عليه السلام وطاعة أولي الأمر فإن قالوا هذا محال لا يجوز أن يجمع الناس على ذلك لأنه كفر وضلال قلنا صدقتم وكذلك أيضا محال لا يجوز أن يجمعوا على إحداث شرع لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم برأي أو بقياس ولا فرق فبطل أن يكون لهم في شيء من النصوص المذكورة متعلق بوجه من الوجوه والحمد لله رب كثيرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 وقالوا لو كان الإجماع لا يكون إلا عن نص وتوقيف لكان ذلك النص محفوظا لأن الله تعالى قال {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} فلما لم يوجد ذلك النص علمنا أن الإجماع ليس على نص قال أبو محمد وهذا كلام أوله حق وآخره كذب ونحن نقول لا إجماع إلا عن نص وذلك النص إما كلام منه صلى الله عليه وسلم فهو منقول ولا بد محفوظ حاضر وإما عن فعل منه عليه السلام فهو منقول أيضا كذلك وإما إقراره إذ علمه فأقره ولم ينكره فهي أيضا حال منقولة محفوظة وكل من ادعى إجماعا علمه على غير هذه الوجوه كلفناه تصحيح دعواه في أنه إجماع لا سبيل إلى برهان على ذلك أبدا بأكثر من دعواه وما كان دعوى بلا برهان فهو باطل فإن لجأ إلى ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع قلنا له وهذا تدبير من الكذب والدعوى الأفيكة بلا برهان وتمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب بعد هذا مفرد لبعض قول من قال إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فكيف وفيما ذكرنا ههنا من أنها دعوى بلا برهان كفاية قال أبو محمد وإذا قد بطل كل ما اعترضوا به فلنقل بعون الله تعالى على إيراد البراهين على صحة قولنا قال عز وجل {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} فأمرنا تعالى أن نتبع ما أنزل ونهانا عن أن نتبع أحدا دونه قطعا فبطل بهذا أن يصح قول أحد لا يوافق النص وبطل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 بهذا أن يكون إجماع على غير نص لأن النص باطل والإجماع حق والحق لا يوافق الباطل وقد ذكرنا قوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فصح أنه لا يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم شيء من الدين وهذا باطل أن يجمع على شيء من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ويصح بضرورة العقل أنه لا يمكن أن يعرف أحد ما كلفه الله تعالى عباده إلا بخبر من عنده عز وجل وإلا فالخبر عنه تعالى بأنه أمر بكذا ونهي عن كذا كاذب على الله عز وجل إلا أن يخبر بذلك عنه تعالى من يأتيه الوحي من عند ربه فقط وصح أيضا بضرورة العقل أن من أدخل في الدين حكما يقر بأنه لم يأت به وحي من عند الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقد ذم الله تعالى ذلك وأنكره في نص القرآن فقال {أم لهم شركاء شرعوا لهم من لدين ما لم يأذن به لله ولولا كلمة لفصل لقضي بينهم وإن لظالمين لهم عذاب أليم} قال أبو محمد ومن طريق النظر الضروري الراجع إلى العقل والمشاهدة والحس أننا نسأل من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه فيكون حقا لا يسع خلافه فنقول له وبالله تعالى التوفيق أفي الممكن عندك أن يجتمع علماء جميع الإسلام في موضع واحد حتى لا يشذ عنهم منهم أحد بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في الأمصار أم هذا ممتنع غير ممكن البتة فإن قال هذا ممكن كابر العيان لأن علماء أهل الإسلام قد افترق الصحابة رضي الله عنهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم وهلم جرا لم يجتمعوا مذ أن افترقوا فصار بعضهم في اليمن في مدنها وبعضهم في عمان وبعضهم في البحرين وبعض في الطائف وبعض بمكة وبعض بنجد وبعض بجبل طيىء وكذلك في سائر جزائر العرب ثم اتسع الأمر بعده عليه السلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 فصاروا من السند وكابل إلى مغارب الأندلس وسواحل بلاد البربر ومن سواحل اليمن إلى ثغور أرمينية فما بين ذلك من البلاد البعيدة واجتماع هؤلاء ممتنع غير ممكن أصلا لكثرتهم وتنائي أقطارهم فإن قال ليس اجتماعهم ممكنا قلنا صدقت وأخبرنا الآن كيف الأمر إذا قال بعضهم قولا لا نص فيه أتقطع على أنه حق وأنت لا تدري أيجمع عليه سائرهم أم لا أم تقف فيه فإن قال أقطع بأنه حق قلنا حكمت بالغيب وبما لا تدري وحكمت بالباطل بلا شك فإن قال بل أقف فيه حتى يجمع عليه سائرهم قلنا فإنما يصح إذ قال به آخر قائل منهم فلا بد من نعم فيقال لهم فلو خالفهم فعلى قولك لا يكون حقا فمن قوله نعم فيقال له فكيف يكون حقا ما يمكن أمس أن يكون باطلا وهذا حكم على الله تعالى وليس هذا حكم الله وكفى بهذا بيانا وأيضا فإن اليقين قد صح بأن الناس مختلفون في هممهم واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه وينفرون عما سواه متباينون في ذلك تباينا شديدا متفاوتا جدا فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف ومنهم جانح إلى لين العيش يميل إلى الترفيه ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة ومنهم معتدل في كل ذلك إلى التوسط ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الإنكار ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلا لاختلاف دعاويهم ومذاهبهم فيما ذكرنا وإنما يجمع ذو الطبائع المختلفة على ما استووا فيه من الإدراك بحواسهم وعلموه ببدائة عقولهم فقط وليست أحكام الشريعة من هذين القسمين فبطل أن يصح فيها إجماع على غير توقيف وهذا برهان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 قاطع ضروري وأما الإجماع على القياس فيبطل من قرب لأنهم لم يجمعوا على صحة القياس فكيف يجمعون على ما لم يجمعوا عليه قال أبو محمد فاعترض فيها بعض المخالفين فقال قد اختلف الناس في القول بخبر الواحد وقد أجمع على بعض ما جاء به خبر الواحد قال أبو محمد وهذا باطل ومخرقة ضعيفة لأن المسلمين لم يختلفوا قط في وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما اختلفوا في الطريق المؤدية إليه صلى الله عليه وسلم والذين لا يقولون بخبر الواحد ثم أجمعوا على حكم ما جاء من أخبار الآحاد فإنهم يقولون إنما قلنا به لأنه نقل كافة لا لأنه خبر واحد فإن قلتم إن من القياس ما يوافق النص قلنا لكم المتبع حينئذ إنما هو النص ولا نبالي وافقه القياس أو خالفه فلم نتبع القياس قط وافق النص أو خالفه وكذلك لا يجوز الإجماع على قول إنسان دون النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا أحد بعده إلا وقد خالفه طوائف من المسلمين في كثير من قوله وأيضا فإن كان من بعده عليه السلام فممكن أن يصيب وأن يخطىء فاتباع خطأ من أخطأ باطل وأما صواب المصيب في الدين فإنما هو باتباع النص فالنص هو المتبع حينئذ لا قول الذي اتبع النص وإنما يجب اتباع النص سواء وافقه الموافق أو خالفه المخالف وأيضا فإنه يقال لمن أجاز الإجماع على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرونا عما جوزتم من الإجماع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير نص هل يخلو من أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يجمعوا على تحريم شيء مات صلى الله عليه وسلم ولم يحرمه أو على تحليل شيء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حرمه أو على إيجاب فرض مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوجبه أو على إسقاط فرض مات رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجبه وكل هذه الوجوه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 كفر مجرد وإحداث دين بدل به دين الإسلام ولا فرق بين هذه الوجوه وبين من جوز الإجماع على إسقاط الصلوات الخمس أو بعضها أو ركعة منها أو على إيجاب صلوات غيرها أو ركوع زائدة فيها أو على إبطال صوم رمضان أو على إيجاب صوم شهر رجب أو على إبطال الحج إلى مكة أو على إيجابه إلى الطائف أو على إباحة الخنزير أو على تحريم الكبش كل هذا كفر صراح لا خفاء به فإن قالوا كل هذه نصوص وإنما جوزنا الإجماع على ما لا نص فيه قلنا وكل ما ذكرنا لا نص فيه وإنما هي شرائع زائدة في دين الله تعالى أو ناقصة منه هذه صفة ما لا نص فيه لا سبيل إلى أن يكون حكم لا نص فيه يخرج من أحد هذين الوجهين فإن قالوا هذا لا يجوز رجعوا إلى قولنا من قرب ومن أجاز شيئا من هذا كفر وبالله تعالى التوفيق وهذا أيضا برهان قاطع في إبطال القول بالقياس بالرأي والاستحسان لا مخلص منه واعلموا أن قولهم هذه المسألة لا نص فيها قول باطل وتدليس في الدين وتطريق إلى هذه العظائم لأن كل ما يحرمه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن مات صلى الله عليه وسلم فقد حلله بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وقوله {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} وكل ما لم يأمر به عليه السلام فلم يوجبه وهذه ضرورة لا يمكن أن يقوم في عقل أحد غيرها وأما كل ما نص يأمر به صلى الله عليه وسلم بالأمر به أو النهي عنه فقد حرمه أو أوجبه فلا يحل لأحد مخالفته فصح أنه لا شيء إلا وفيه نص جلي فصح أنه لا إجماع إلا على نص ولا اختلاف إلا في نص كما ذكرنا ولا قياس يوجب في نص إلا وهو زائد في الدين أو ناقص منه ولا بد ثم نقول لهم أيضا أخبرونا عن الإجماع جملة هل يخلو من أحد ثلاثة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 أوجه لا رابع لها بضرورة العقل أما أن يجمع الناس على ما لا نص فيه كما ادعيتم فقد أريناكم بطلان ذلك وأنه محال ذلك وأنه محال وجوده لصحة وجود النصوص في كل شيء من الدين أو يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا كفر مجرد كما قدمنا أو يكون إجماع الناس على شيء منصوص فهذا قولنا هذه قسمة ضرورية لا محيد عنها أصلا وإذ هو كما ذكرنا فاتباع النص فرض سواء أجمع الناس عليه أو اختلفوا فيه لا يزيد النص مرتبة في وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه ولا يوهن وجوب اتباع اختلاف الناس فيه بل الحق حق وإن اختلف فيه وإن الباطل باطل وإن كثر القائلون به ولولا صحة النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل لقلنا والباطل باطل وإن أجمع عليه لكن لا سبيل إلى الإجماع على باطل قال أبو محمد فإذا الأمر كذلك فإنما علينا صلب أحكام القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس في الدين سواهما أصلا ولا معنى لطلبنا هل أجمع على ذلك الحكم أو هل اختلف فيه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فإن قيل فقد صححتم الإجماع آنفا ثم توجبون الآن أنه لا معنى له قلنا الإجماع موجود كما الاختلاف موجود إلا أننا لم يكلفنا الله تعالى معرفة شيء من ذلك إنما كلفنا اتباع القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نقله إلينا الأمر منا على ما بينا فقط ولأن أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما وحي مثبت في المصحف وهو القرآن وإما وحي غير مثبت في المصحف وهو بيان رسول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى {بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقال تعالى {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها إما شيء نقلته الأمة كلها عصرا بعد عصر كالإيمان والصلوات والصيام ونحو ذلك وهذا هو الإجماع ليس من هذا القسم شيء لم يجمع عليه وإما شيء نقل نقل تواتر كافة عن كافة من عندنا كذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ككثير من السنن وقد يجمع على بعض ذلك وقد يختلف فيه كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بجميع الحاضرين من أصحابه وكدفعه خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم إذا شاء وغير ذلك كثير وإما شيء نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنه ما أجمع على القول به ومنه ما اختلف فيه فهذا معنى الإجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البتة ومن ادعى غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري ويقول ما لا علم له ويقول بما لا يفهم ويدين بما لا يعرف حقيقته وبالله تعالى التوفيق وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع قال أبو محمد ثم اختلف الناس في وجوه من الإجماع لا علينا أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 نذكرها إن شاء الله تعالى وإن كنا قد بينا آنفا أنه لا حاجة بأحد إلى طلب إجماع أو اختلاف وإنما الفرض على الجميع والذي يحتاج إليه الكل فهو معرفة أحكام القرآن وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط كما بينا أن أهل العلم مالوا إلى معرفة الإجماع ليعظموا خلاف من خالفه ويزجروه عن خلافه فقط وكذلك مالوا إلى معرفة اختلاف الناس لتكذيب من لا يبالي بادعاء الإجماع جرأة على الكذب حيث الاختلاف موجود فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه فقط وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فقالت طائفة الإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط وأما إجماع من بعدهم فليس إجماعا وقالت طائفة إجماع أهل كل عصر إجماع صحيح ثم اختلف هؤلاء فقالت طائفة منهم إذا صح إجماع كل عصر ما فهو إجماع صحيح وليس لهم ولا لأحد بعد أن يقول بخلافه وقالت طائفة منهم أخرى بل يجب مراعاة ذلك العصر فإن انقرضوا كلهم ولم يحدثوا ولا أحد منهم خلافا لما أجمعوا عليه فهو إجماع قد انعقد لا يجوز لأحد خلافه وإن رجع أحد منهم عما أجمع مع أصحابه فله ذلك ولا يكون ذلك إجماعا وقالت طائفة إذا اختلف أهل عصر في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا وقالت طائفة بل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما ثم أجمع أهل العصر الذي بعدهم على بعض قول أهل العصر الماضي فهو إجماع صحيح لا يسع أحدا خلافه أبدا وقالت طائفة إذا اختلف أهل العصر على عشرة أقوال مثلا أو أقل أو أكثر فهو اختلاف فيما اختلفوا فيه وهو إجماع صحيح على ترك ما لم يقولوا به من الأقوال فلا يسع أحدا الخروج على تلك الأقوال كلها له أن يتخير منها ما أداه إليه اجتهاده وقالت طائفة ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع صحيح لا يجوز خلافه لأحد وقالت طائفة ليس إجماعا وقالت طائفة إذا اتفق الجمهور على قول خالفهم واحد من العلماء فلا يلتفت إلى ذلك الواحد وقول الجمهور هو إجماع صحيح وهذا قول محمد بن جرير الطبري وقالت طائفة ليس هذا إجماعا وقالت طائفة قول الجمهور والأكثر إجماع وإن خالفهم من هو أقل عددا منهم وقالت طائفة ليس هذا إجماعا وقالت طائفة إجماع كل أهل المدينة هو الإجماع وهذا قول المالكيين ثم اختلفوا فقال ابن بكير منهم وطائفة معه سواء كان عن رأي أو قياس أو نقلا وقال محمد بن صالح الأبهري منهم وطائفة معه إنما ذلك فيما كان نقلا فقط وقالت طائفة إجماع أهل الكوفة وهذا قول بعض الحنفيين وقالت طائفة إذا جاء القول عن الصاحب الواحد أو أكثر من واحد من الصحابة ولم يعرف له مخالف منهم فهو إجماع وإن خالفه من بعد الصحابة رضي الله عنهم وهو قول بعض الشافعيين وجمهور الحنفيين والمالكيين وقال بعض الشافعيين إنما يكون إجماعا إذا اشتهر ذلك القول فيهم وانتشر ولم يعرف له منهم مخالف وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فليس إجماعا بل خلافه جائز ثم ههنا أقوال هي داخلة في باب الهوس إن سلم أصحابها من القصد إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 التلاعب بالدين كقول بعض الحنفيين ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وأن اختيارات الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود بن علي وسائر العلماء شذوذ خرق الإجماع وكقول بكر بن العلاء القشيري المالكي إن بعد سنة مائتين قد استقر الأمر وليس لأحد أن يختار وكقول إنسان ذكره أبو ثور في رسالة ورد عليه وكان قوله إنه ليس لأحد أن يخرج عن اختيارات الأوزاعي وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح قال أبو محمد أصناف الحمق أكثر من أصناف التمر ويكفي في بطلان كل قول من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقوله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فصح أنه لا برهان في الدين إلا ما حده الله تعالى وأن حدود الله ليست إلا في كلامه وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأن من لم يأت في قوله في الدين ببرهان من القرآن وأن حكم مستند ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس من الصادقين بل هو كاذب آفك ضال مضل وبالله تعالى التوفيق إلا أنه لا بد بحول الله تعالى من بيان شبه هذه الأقوال الفاسدة التي قد عظم خطأ أهلها وكثر اتباعها لعل الله تعالى يهدي بهداه لنا أحدا فيكون خيرا لنا من حمر النعم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبي ونعم الوكيل واعلموا أن جميع هذه الفرق متفقة على أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وقائلون بأن كل ما اشتهر فيهم رضي الله عنهم ولم يقع منهم نكير له فهو إجماع صحيح فاعلموا أن إجماع هذه الفرق على ما ذكرنا حاكم لنا عليهم وموجب لنا أننا المتبعون للإجماع وأن مخالفينا كلهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 مخالفون للإجماع بإقرارهم والحمد لله رب العالمين كما نذكر في الباب المتصل بهذا إن شاء الله تعالى فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم أم الأعصار بعدهم وأي شيء هو الإجماع وبأي شيء يعرف أنه إجماع قال أبو محمد قال سليمان وكثير من أصحابنا لا إجماع إلا إجماع الصحابة رضي الله عنهم واحتج في ذلك بأنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح أنه لا إجماع إلا عن توقيف وأيضا فإنهم رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين لا مؤمن من الناس سواهم ومن هذه صفته فإجماعهم هو إجماع المؤمنين وهو الإجماع المقطوع به وأما كل عصر بعدهم فإنما بعض المؤمنين لا كلهم وليس إجماع بعض المؤمنين إجماعا إنما الإجماع إجماع جميعهم وأيضا فإنهم كانوا عددا محصورا يمكن أن يحاط بهم وتعرف أقوالهم وليس من بعدهم كذلك قال أبو محمد أما قوله إنهم شهدوا التوقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال وهذا إنما هو حجة في أنه لا إجماع إلا عن توقيف ولا شك في أن إجماع الصحابة رضي الله عنهم إجماع صحيح وإنما الكلام في الأعصار بعدهم وقد عارضه مخالفوه بأن قالوا قد يجوز أن يحمل أهل عصر بعدهم على دليل نص قرآن أو سنة فهذا يدخل في التوقيف وأما قوله إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا جميع المؤمنين وإن من بعدهم إنما هو بعض المؤمنين فقول صحيح يعرف صدقه بالعيان والمشاهدة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 إلا أنه قد عارض مخالفوه في نكتة من هذه الجملة وهو أنه قال إن كان هكذا فإنه مذ ماتت خديجة رضي الله عنها أو بعض قدماء الصحابة رضي الله عنهم فإن الباقين منهم إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم أيضا فقل إن الإجماع إنما هو إجماع من أسلم منهم بمكة قبل أن يموت منهم أحد فعارضه بعض أصحابنا بأن قال نعم هذا حق ما جاء قط نص قرآن ولا سنة بتسمية ما اتفق عليه من بقي من بعد من مات إجماعا قال بعض أصحابنا لا ولكن نقول إن كل من مات منهم رضي الله عنهم فنحن موقنون قاطعون بأنه لو كان حيا لسلم الوحي المنزل من القرآن أو البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لم يمت إلا مؤمنا بكل ما ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده بلا شك وليس كذلك من بعدهم لأنه حدث فيمن بعدهم من لا يقول بخبر الواحد الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نقطع عليهم بطاعة ما حكم به صلى الله عليه وسلم بخلاف الصحابة الذين من مات منهم فهو داخل في الإجماع بهذه الجملة فعارضه المخالف فقال إن الأمر وإن كان كذلك فمع ذلك فقد كان يمكن أن يخالف الوحي متأولا باجتهاده كما فعل عمر وخالد وأبو السنابل وغيرهم فإن لم يعتد هذا خلافا لأنه وهم من صاحبه فلا يعتد بخلاف أحد من أهل الإسلام للنص إذا خالفه متأولا باجتهاده لأن كل مسلم كان أو يكون فإنه مسلم لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكم به وإن خالف بعد ذلك متأولا باجتهاده مخطئا قاصدا إلى الخير في تقديره فقد صار على هذا القول كل حكم إجماعا وبطل الاختلاف قال أبو محمد وهذا اعتراض غير صحيح ولا يمنع مما أوجبه أبو سليمان من أن من بعد الصحابة إنما هم بعض المؤمنين لا كلهم لأن كل حكم نزل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 من الله تعالى بعد موت من مات من الصحابة رضي الله عنهم فلم يكلفوا قط ألا يخالفوا ذلك الحكم لأنه لم يبلغهم وإنما يلزمهم الحكم بعد بلوغه قال عز وجل {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} وإنما كان يراعي إجماعهم عليه أو خلافهم له لو بلغهم وليس من بعدهم إذا بلغ الحكم كذلك بل إن اتبعوه لقد أجمعهم عليه ومن خالفه منهم مجتهدا فقد وجب الاختلاف في ذلك الحكم وأما قوله إن عدد الصحابة رضي الله عنهم كان محصورا ممكنا جمعه وممكنا ضبط أقوالهم وليس كذلك من بعدهم فإنما كان هذا إذا كانوا كلهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل تفرقهم في البلاد وأما بعد تفرقهم فالحال في تعذر حصر أقوالهم كالحال فيمن بعدهم سواء ولا فرق هذا أمر يعرف بالمشاهدة والضرورة قال أبو محمد وأما من قال إن إجماع أهل كل عصر فهو إجماع كل صحيح فقول الباطل لما ذكرنا من أنهم بعض المسلمين لا كلهم لكنه حق لما ذكرنا قبل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى أن يأتي أمر الله قال أبو محمد ونحن إن شاء الله مبينون كيفية الإجماع بيانا ظاهرا يشهد له الحس والضرورة وبالله تعالى التوفيق فنقول إن الإجماع الذي هو الإجماع المتيقن ولا إجماع غيره لا يصح تفسيره ولا ادعاؤه بالدعوى لكن ينقسم قسمين أحدهما كل ما لا يشك فيه أحد من أهل الإسلام في أن من لم يقل به فليس مسلما كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وكوجوب الصلوات الخمس وكصوم شهر رمضان وكتحريم الميتة والدم والخنزير والإقرار بالقرآن وجملة الزكاة فهذه أمور من بلغته فلم يقر بها فليس مسلما فإذا ذلك كذلك فكل من قال بها فهو مسلم فقد صح أنها إجماع من جميع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 أهل الإسلام والقسم الثاني شيء شهده جميع الصحابة رضي الله عنهم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تيقن أنه عرفه كل من غاب عنه صلى الله عليه وسلم منهم كفعله في خيبر إذ أعطاها يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم المسلمون إذا شاؤوا فهذا لا شك عند كل أحد في أنه لم يبق مسلم في المدينة إلا شهد الأمر أو وصل إليه يقع ذلك الجماعة من النساء والصبيان الضعفاء ولم يبق بمكة والبلاد النائية مسلم إلا عرفه وسر به على أن هذا القسم من الإجماع قد خالفه قوم بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم وهما منهم وقصدا إلى الخير وخطأ باجتهادهم فهذان قسمان للإجماع ولا سبيل إلى أن يكون الإجماع خارجا عنهما ولا أن يعرف إجماع بغير نقل صحيح إليهما ولا يمكن أحدا إنكارهما وما عداهما فدعوى كاذبة وبالله تعالى ومن ادعى أنه يعرف إجماعا خارجا من هذين النوعين فقد كذب على جميع أهل الإسلام ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا قال أبو محمد نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج نا ابن الورد نا أحمد بن حماد زغبة نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب الغد حين بايع المسلمون أبا بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استوى أبو بكر على المنبر ثم استوى يعني عمر فتشهد قبل أبي بكر فقال أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله تعالى ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا فاختار الله لرسوله الذي عنده على الذي عندكم وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 بما هدي له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فهذا عمر رضي الله عنه على المنبر بحضرة جميع الصحابة رضي الله عنهم يعلن ويعترف بأنه يقول القول لم يجده في قرآن ولا في سنة وأنه ليس كما قال ولا ينكر ذلك أحد من الصحابة ويأمر باتباع القرآن ولا يخالفه في ذلك أحد منهم فصح أن قولنا بألا يتبع ما روي عن أحد من الصحابة إلا أن يوجد في قرآن أو سنة هو إجماع الصحابة الصحيح وأن وجوب اتباع النصوص هو الإجماع الصحيح وهو قولنا والحمد لله رب العالمين وأن من خالف هذين القولين فقد خالف الإجماع الصحيح وكذلك من قلد إنسانا بعينه في جميع أقواله أو جهل وكده الاحتجاج بجميع أقوال إنسان بعينه كما فعل الحنفيون والمالكيون والشافعيون خلاف متيقن لجميع عصر الصحابة ولجميع عصر التابعين ولجميع عصر تابعي التابعين أولهم عن آخرهم فنحن ولله الحمد المتبعون للإجماع وهم المخالفون للإجماع المتيقن نسأل الله تعالى أن يفيء بهم إلى الهدى وأن يثبتنا عليه فصل في من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه وأما من قال إن الإجماع لا يجوز لأحد خلافه فقول صحيح وضعوه موضع تلبيس وأخرجوه مخرج تدليس وصارت كلمة حق أريد بها باطل وذلك أنهم أوهموا أن ما لا إجماع فيه فإن الاختلاف فيه سائغ جائز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 قال أبو محمد وهذا باطل بل كل ما أجمع عليه أو اختلف فيه فهما سواء في هذا الباب فهلا يحل لأحد خلاف الحق أصلا سواء أجمع عليه أو اختلف فيه فإن قيل فهلا عذرتم من خالف الإجماع كما عذرتم من خالف فيم فيه خلاف قلنا كلا لعمري ما فعلنا شيئا مما تقولون ولا فرق عندنا فيما نسبتم إلينا الفرق بينه بل قولنا الذي ندين الله تعالى به هو أنه لا حق في الدين فيما جاء به كلام الله تعالى في القرآن أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للوحي المنزل إليه وأنه لا يحل لأحد خلاف شيء من ذلك فمن جهل وأخطأ قاصدا إلى الخير لم يتبين له الحق ولا فهمه فخالف شيئا من ذلك فسواء أجمع عليه أو اختلف فيه هو مخطىء معذور مأجور مرة كمن أسلم ولم يبلغه فرض الصلاة أو كمن أخطأ في القرآن الذي لا إجماع كالإجماع عليه فأسقط آية أو بدل كلمة أو زادها غير عامد لكنه مقدر أنه كذلك فهذا لا إثم عليه ولا حرج وهكذا في كل شيء ومن عمد فخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم غير مسلم بقلبه أو بلسانه أنه كحكمه عليه السلام فهو كافر سواء كان فيما أجمع عليه أو فيما اختلف فيه قال تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وإن خالف ما صح عنده من ذلك بعلمه وسلم له بقلبه ولسانه فهو مؤمن فاسق كالزاني وشارب الخمر وسائر العصاة سواء كان مما أجمع عليه أو مما اختلف فيه فهذه الحقائق التي لا يقدر أحد على معارضتها لا الأقوال المموهة وبالله تعالى التوفيق فصل في من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع وأما من قال بمراعاة انقراض العصر في الإجماع فمن أحسن قول قيل لأن عصر الصحابة رضي الله عنهم اتصل مائة عام وثلاثة أعوام لأن سمية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 أم عمار رضي الله عنها ماتت في أول الإسلام ثم لم يزالوا يموت منهم من بلغ أجله كأبي أمامة وخديجة وعثمان بن مظعون وقتلى بدر وأحد وأهل البعوث عاما عاما ومن مات في خلال ذلك إلى أن مات أنس سنة إحدى وتسعين من الهجرة وكان عصر التابعين مداخلا لعصر الصحابة رضي الله عنهم لأنه لما أسلم الاثنا عشر رجلا من الأنصار رضي الله عنهم قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر كاملة لأنهم أسلموا في ذي الحجة في أيام الحج وحملوا مع أنفسهم مصعب بن عمير رضي الله عنه معلما لهم القرآن والدين وبقوا كذلك تمام عام ثم حج منهم سبعون مسلما وثلاث نسوة مسلمات كلهم يعرف اسمه وحسبه وهم أهل بيعة العقبة وتركوا بالمدينة إسلاما كثيرا فاشيا يتجاوز المائتين من الرجال والنساء ثم هاجر صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول فلا شك في أنه قد مات في تلك الخمسة عشر شهرا منهم موتى من نساء ورجال لأنهم أعداد عظيمة وكلهم من جملة التابعين وهم الجمهور إلا من شاهد منهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم الأقل وهكذا كل مسلم ممن أسلم ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم من جميع جزيرة العرب كبلاد اليمن والبحرين وعمان والطائف وبلاد مصر وقضاعة وسائر ربيعة وجبلي طيىء والنجاشي فكل من لم يلق منهم النبي صلى الله عليه وسلم فهو من التابعين فلم يزل التابعون يموت منهم الواحد والاثنان والعشرات والمئون والآلاف من قبل الهجرة بسنة وشهرين إلى أن مات آخرهم في حدود ثمانين ومائة من الهجرة كخلف بن خليفة الذي رأى عمرو بن حريث وكمن ذكر عنه أنه رأى أنس بن مالك رضي الله عنه فمن هذا الواهي دماغه الذي يتعاطى مراعاة انقراض أهل عصر مقدار مائة عام وثلاثة أعوام ثم عصر آخر مقدار مائة سنة وثمانين سنة ويضبط أنفاسهم وإجماعهم هل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 اختلفوا بعد ذلك أم لا فكيف أن يوجب ذلك على الناس لا سيما وأهل ذينك العصرين متداخلان مضى كثير من أهل العصر الثاني قبل انقراض العصر الأول بدهر طويل أكثر من مائة عام وقد أفتى جمهورهم من الصحابة كعلقمة ومسروق وشريح وسليمان وربيعة وغيرهم ماتوا في عصر الصحابة وهكذا تتداخل الأعصار إلى يوم القيامة وقد اعترض بعضهم في هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فقلت بين الأمرين فرق كما بين النور والظلمة لأن الذي تباينت به الأعصار المذكورة هو شفوف في الفضل لا يلحقه الآخرون معروف لمن تأخر من قرن الصحابة على من تقدم من قرن التابعين وليس كذلك جواز الفتيا لأنه إن لم تجز الفتيا لتابع حتى ينقرض عصر الصحابة لم تجز فتيا من ذكرنا ممن مات من التابعين في عصر الصحابة وهذا باطل أو يقولون إنه يراعي انقراض عصر التابعين مع عصر الصحابة معا ففي هذا مراعاة كل عصر إلى يوم القيامة مع عصر الصحابة لتداخل الأعصار وهذا محال والذي يدخل هذا القول من الجنون أكثر من هذا لأنه يجب على قولهم أنه إذا لم يبق من الصحابة إلا أنس وحده فإنه كان له ولغيره من التابعين أن يرجعوا عما أجمعوا عليه قالها أنس انسد عليهم هذا الباب وألقيت المعلقة فحرم عليهم من الرجوع ما كان مباحا لهم قبيل ذلك وكفى بهذا جنونا وليت شعري متى يمكنه التطوف عليهم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 آفاقهم بل ألا يزايلهم إلى أن يموتوا ومتى جمعوا له في صعيد واحد ما في الرعونة أكثر من هذا ولا في الهزل والتدين بالباطل ما يفوق هذا ونعوذ بالله العظيم من الضلال فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما فقد ثبت الاختلاف ولا ينعقد في تلك المسألة إجماع أبدا فإنه كلام فاسد لأن الاختلاف لا حكم له إلا الإنكار له والمنع منه وإيجاب القول على كل أحد بما أمر الله تعالى به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فقط ولا مزيد فالاختلاف لا يحل أن يثبت ولا يسع أحدا خلاف الحق أصلا لكن من خالفه جاهلا متأولا فهو مخطىء معذور مأجور أجرا واحدا كما ذكرنا آنفا وفرض على كل من بلغه الحق أن يرجع إليه فإن عانده بقلبه أو بلسانه عالما بالحق فهو كافر وإن عانده بفعله عالما ففاسق كما قدمنا وبالله تعالى التوفيق فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان وأما من قال إذا اختلف أهل عصر ما ثم أجمع أهل عصر ثان على أحد الأقوال التي اختلف عليه أهل الماضي فليس لأحد خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الثاني فقد قلنا في تعذر علم هذا بما قلنا آنفا وسنزيد في ذلك بيانا لا يحيل إن شاء الله تعالى عن ذي لب وقد قلنا إنه لا معنى لمراعاة ما أجمع عليه مما اختلف فيه إنما هو حق أو خطأ والحق في الدين ليس إلا في كلام الله تعالى أو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه بنقل الثقات مسندا فقط وهذا لا يسع أحدا خلافه ولا يقويه ولا يزيده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 رتبة في أنه حق أن يجمع عليه ولا يوهنه أن يختلف فيه والخطأ هو خلاف النص ولا يحل لأحد أن يخطىء لأنه يعذر بتأوله وجهله كما قدمنا أو يكفر بعناده أو بقلبه أو بلسانه أو يفسق بمخالفته بعمله فقط وبالله تعالى التوفيق ولا سبيل إلى إجماع أهل عصر ما على خلاف نص ثابت لأن خلاف النص باطل ولا يجوز إجماع الأمة على باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق فصح أن هذا القول الذي صدرنا في الباب فاسد فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة وأما قول من قال إن افترق أهل العصر على أقوال كثيرة جدا أو أكثر من واحد فإن ما لم يقولوه قد صح الإجماع منهم على تركه فقد قلنا في تعذر معرفة ذلك وحصره ونقول أيضا إن شاء الله تعالى وقد قلنا إنه لا يمكن مع ذلك أن يجمع أهل عصر طرفة عين فما فوقها خطأ على خطأ لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق فهذه الأقوال كلها متخاذلة غير موضوعة وضعا صحيحا خارجة عن الإمكان إلى الامتناع وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به قال أبو محمد فموهوا ههنا بأن قالوا قد صح الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنع من بيع أمهات الأولاد وكان بيعهم على عهده صلى الله عليه وسلم حلالا وقد صح إجماعهم على جلد شارب الخمر ثمانين جلدة ولم يكن ذلك على عهده صلى الله عليه وسلم وقد صح إجماعهم على إسقاط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا كذبتم وأفكتم أما جلد شارب الخمر ثمانين فيعيذ الله تعالى عمر من أن يشرع حدا لم يأت به وحي من الله تعالى ورسوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 صلى الله عليه وسلم ونحن نسألكم ما الفرق بين ما تدعونه بالباطل من إحداث حد لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر وبين إثبات حد في اللياطة بقطع الذكر أو في الزنى بجلد مائتين أو بقطع يد الغاصب أو بقلع أضراس آكل الخنزير وما الفرق بين هذا كله وبين إسقاط صلاة وزيادة أخرى وإبطال صوم رمضان وإحداث شهر آخر ومن أجاز هنا فقد خرج عن الإسلام وكفر كفرا صراحا ولحق بالباطنية وغلاة الروافض واليهود والنصارى الذين بدلوا دينهم وإنما جلد عمر الأربعين الزائدة تعزيرا كما صح عنه أنه كان إذا أتي بمن تتابع في الخمر جلده ثمانين وإذا أتي بمن لم يكن له منه إلا الوهلة ونحوها جلده أربعين ويا معشر من لا يستحي من الكذب أين الإجماع الذي تدعونه وقد صح أن عثمان وعليا وعبد الله بن جعفر بحضرة الصحابة جلدوا في الخمر أربعين بعد موت عمر كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن راهويه حدثنا يحيى بن حماد ثنا عبد العزيز بن المختار ثنا عبد الله بن الفيروز الداناج مولى ابن عامر ثنا حصين بن المنذر أبو ساسان قال شهدت عثمان أتى الوليد يشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر والثاني أنه قاءها قال عثمان يا علي قم فاجلده فقال علي يا حسن قم فاجلده فقال الحسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه فقال علي يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 وعمر ثمانين وكل سنة فإن كان ضرب الثمانين إجماعا فعثمان وعلي وأبي جعفر والحسن ومن حضرهم خالفوا الإجماع ومخالف الإجماع عندهم كافر فانظروا فيما تقحمهم آراؤهم وحاشا للأئمة الصحابة رضي الله عنهم من الكفر ومن مخالفة الحق ومن إحداث شرع لم يأذن به الله تعالى فإن قيل فما معنى قول علي وكل سنة قلبا صدق لأن التعزير سنة فإن قيل إن التعزير عندكم لا يتجاوز عشر جلدات قلنا يمكن أن يجلده عمر لكل كأس عشر جلدات تعزيرا فهذا جائز وقد تعلل في هذا الخبر بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه في نصر ضلاله فإن ذكر ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني حدثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا عبد الله بن عبد الوهاب ثنا خالد بن الحارث حدثنا سفيان الثوري عن أبي حصين أنه حدث قال سمعت ابن سعد النخعي قال سمعت علي بن أبي طالب قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأحد نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه قال أبو محمد فاعجبوا لعمى هذا الإنسان يعلل حديثا صحيحا لا مغمز فيه بحديث مملوء عللا أولها أن راويه مختلف فيه مرة عمير بن سعيد ومرة عمير بن سعد ومرة نخعي ومرة حنفي ثم الطامة الكبرى كيف يجعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 هذا المفتون حجة شيئا يخبر علي عن نفسه أنه يجد في نفسه ما لا يجد من سائر الحدود فإن كان حقا وسنة فلم يجد في نفسه أذى حتى يؤدي ديته إن مات من ذلك الجلد وهلا وجد في نفسه ممن مات في سائر الحدود وفي هذا كفاية ثم معاذ الله أن يثبت علي في الدين ما لم يسنه عليه السلام ثم لو صح لكان وجهه بينا وهو أنه إنما يجد في الأربعين الزائدة التي جلدوها تعزيرا ثم نقول لهم لو ادعى عليكم ههنا خلاف الإجماع لصدق مدعي ذلك عليكم لأنكم تقرون أن عمر أول من جلد في الخمر ثمانين وقد كان استقر الإجماع قبله على أربعين فقد أقررتم على أنفسكم بخلاف الإجماع ونسبتم عمر إلى خلاف الإجماع وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وأما أنتم فأنتم أعلم بأنفسكم وإقراركم على أنفسكم لازم لكم فإن لجأتم إلى مراعة انقراض العصر لزمكم مثله في جلد عثمان وعلي في الخمر أربعين بعدهم ولا فرق وأما أمهات الأولاد فكذبه في ذلك أفحش من كل كذب لأن عبد الله بن الربيع قال ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فلما كان عمر نهانا فانتهينا فهذا عمل الناس أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر أنبأنا محمد بن سعيد بن ثابت أنبأنا أحمد بن عون الله أنبأنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني أنبأنا محمد بن بشار أنبأنا محمد بن جعفر غندر أنبأنا محمد بن سعيد بن الحكم بن عتيبة عن زيد بن وهب قال انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد فإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه فلما صلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 سألاه فقال لأحدهما من أقرأك قال اقرأنيها أبو عبدة أو أبو الحكم المزني وقال الآخر أقرأنيها عمر بن الخطاب فبكى ابن مسعود حتى بل الحصى بدموعه وقال اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان للإسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الإسلام وقال وسألته عن أم الولد فقال تعتق من نصيب ولدها نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا سفيان بن عيينة عن الأعمش عن زيد بن وهب قال مات رجل منا وترك أم ولد فأراد الوليد بن عقبة بيعها في دينه فأتينا ابن مسعود فوجدناه يصلي فانتظرناه حتى فرغ من صلاته فذكرنا ذلك له فقال إن كنتم لا بد فاجعلوها في نصيب ولدها وبه إلى عبد الرزاق عن ابن جريج أنه حدثه قال أخبرنا عطاء بن أبي رباح أن ابن الزبير أقام أم حبي أم ولد محمد بن صهيب في مال ابنها وجعلها من نصيبه ويسمى ابنها خالدا قال عطاء وقال عباس لا تعتق أم الولد حتى يلفظ سيدها بعتقها نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم أخبرنا مغيرة بن مقسم عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أعتقا أمهات الأولاد قال علي بن أبي طالب فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم قضى بذلك عثمان حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن قال أبو محمد وهذا قول زيد بن ثابت وغيره فيقال لهؤلاء الذين قد أعمى الله تعالى أبصارهم أتقرون أن عمر هو أول من منع من بيعهن فمن قولهم نعم ويدعونه إجماعا من كل من معه من الصحابة رضي الله عنهم فيقال لهم قد أقررتم أن عمر قد خالف الإجماع بهذا الفعل إذا قلتم إن المسلمين كانوا على بيعهن حتى نهاهم عمر فهل في خلاف الإجماع أكثر من هذا أو كذبتم إذ قلتم إن عمر أول من حرم بيعهم لا بد من إحداهما وقد أعاذ الله عمر من خلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 الإجماع وأما أنتم فأعلم بأنفسكم وإقراركم بذلك على أنفسكم لازم لكم ثم لو صح لكم أن عمر رضي الله عنه وكل من أجمعوا على ذلك فصار إجماعا للزمكم أن ابن مسعود وعلي بن أبي طالب وابن عباس وابن الزبير وزيد بن ثابت خالفوا الإجماع وخلاف الإجماع عندكم كفر فانظروا أي مضايق تقتحمون ومن أي أحواف تتساقطون ولا بد من هذا أو من كذبكم في دعوى الإجماع على حكم عمر بذلك لا مخرج من أحدهما وأما نحن فدعوى الإجماع عندنا في مثل هذا إفك وكذب وجرأة على التجليح بالكذب على جميع أهل الإسلام ولا ينكر الوهم بالاجتهاد والخطأ مع قصد إلى طلب الحق والخير على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقول في شيء من الدين إلا بنص قرآن أو سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نبالي من خالف في ذلك ولا نتكثر بمن ولولا وما نا أحمد بن قاسم قال نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا مصعب بن محمد نا عبيد الله بن عمر الرقي عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال لما ولدت مارية إبراهيم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها ولدها مع دلائل من نصوص أخرى ثابتة قد ذكرناها في كتاب الإيصال ما قلنا إلا ببيع أمهات الأولاد لكن السنة الثابتة لا يحل خلافها وما نبالي خلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 ابن عباس لروايته فقد يخالفها متأولا أنه خصوص أو قد ينسى ما روي وما كلفنا الله تعالى قط أن نراعي أقوال القائلين إنما أمرنا بقبول رواية النافرين ليتفقهوا في الدين المنذرين لمن خلفهم المؤمنين مما بلغهم وصح عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق وأما دعواهم أن عثمان رضي الله عنه أسقط ستة أحرف من جملة الأحرف السبعة المنزل بها القرآن من عند الله عز وجل فعظيمة من عظائم الإفك والكذب ويعيذ الله تعالى عثمان رضي الله عنه من الردة بعد الإسلام ولقد أنكر أهل التعسف على عثمان رضي الله عنه أقل من هذا مما لا نكره فيه أصلا فكيف لو ظفروا له بمثل هذه العظيمة ومعاذ الله من ذلك وسواء عند كل ذي عقل إسقاط قراءة أنزلها الله تعالى أو إسقاط آية أنزلها الله تعالى ولا فرق وتالله إن من أجاز هذا غافلا ثم وقف عليه وعلى برهان المنع من ذلك وأصر فإنه خروج عن الإسلام لا شك فيه لأنه تكذيب لله تعالى في قوله الصادق لنا {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وفي قوله الصادق {إن علينا جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} فالكل مأمورون باتباع قرآنه الذي أنزله الله تعالى عليه وجمعه فمن أجاز خلاف ذلك فقد أجاز خلاف الله تعالى وهذه ردة صحيحة لا مرية فيها وما رامت غلاة الروافض وأهل الإلحاد الكائدون للإسلام إلا بعض هذا وهذه الآية تبين ضرورة أن جميع القرآن كما هو من ترتيب حروفه وكلماته وآياته وسوره حتى جمع كما هو فإنه من فعل الله عز وجل وتوليه جمعه أوحى به إلى نبيه عليه السلام وبينه عليه السلام للناس فلا يسع أحدا تقديم مؤخر من ذلك ولا تأخير مقدم أصلا ونحن نبين فعل عثمان رضي الله عنه ذلك بيانا لا يخفى على مؤمن ولا على كافر وهو أنه رضي الله عنه علم أن الوهم لا يعزى منه بشر وأن في الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 منافقين يظهرون الإسلام ويكنون الكفر هذا أمر يعلم وجوده في العالم ضرورة فجمع من حضره من الصحابة رضي الله عنهم على نسخ مصاحف مصححة كسائر مصاحف المسلمين ولا فرق إلا أنها نسخت بحضرة الجماعة فقط ثم بعث إلى كل مصر مصحفا يكون عندهم فإن وهم واهم في نسخ مصحف وتعمد ملحد تبديل كلمة في المصحف أو في القراءة رجع إلى المصحف المشهور المتفق على نقله ونسخه فعلم أن الذي فيه هو الحق وكيف كان يقدر عثمان على ما ظنه أهل الجهل والإسلام قد انتشر من خراسان إلى برقة ومن اليمن إلى أذربيجان وعند المسلمين أزيد من مائة ألف مصحف وليست قرية ولا حلة ولا مدينة إلا والمعلمون للقرآن موجودون فيها يعلمونه من تعلمه من صبي أو امرأة ويؤمهم به في الصلوات ي المساجد وقد حدثني يونس بن عبد الله بن مغيث قال أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي أحد مقرئين ثلاثة للعامة كانوا فيها وكان هذا القرشي لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما في سورة ق {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} فرده عليه القرشي تحيد التنوين فراجعه القارىء وكان يحسن النحو فلج المقرىء وثبت على التنوين وانتشر ذلك الخبر إلى أن بلغ إلى يحيى بن مجاهد الفزاري الألبيري وكان منقطع القرين في الزهد والخير والعقل وكان صديقا لهذا المقرىء فمضى إليه فدخل عليه وسلم عليه وسأله عن حاله ثم قال له إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فسارع المقرىء إلى ذلك فقال له الفزاري أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 ف فقال له المقرىء ما شئت فبدأ عليه من أول المفصل فلما بلغ سورة ق وبلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له يحيى بن مجاهد لا تفعل ما هي إلا غير منوتة بلا شك فلج المقرىء فلما رأى يحيى بن مجاهد لجاجه قال له يا أخي إنه لم يحملني على القراءة عليك إلا لترجع إلى الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها تنوين البتة فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال يحيى بن مجاهد بيني وبينك المصاحف فبعثوا فأحضرت جملة من مصاحف الجيران فوجدوها مشكولة بلا تنوين فرجع المقرىء إلى الحق وحدثني حمام بن أحمد بن حمام قال حدثني عبد الله بن محمد بن علي عن اللخمي الباجي قال نا محمد بن لبانة قال أدركت محمد بن يوسف بن مطروح الأعرج يتولى صلاة الجمعة في جامع قرطبة وكان عديم الورع بعيدا عن الصلاح قال فخطبنا يوم الجمعة فتلا في خطبته {لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم} فقرأها بنونين عننتم قال فلما انصرف أتيناه وكنا نأخذ عنه رأي مالك فذكرنا له قراءته للآية وأنكرناها فقال نعم هكذا أقرأناها وهكذا هي فلج فحاكمناه إلى المصحف فقام ليخرج المصحف ففتحه في بيته وتأمله فلما وجد الآية بخلاف ما قرأها عليه أنف الفاسق من رجوعه إلى الحق فأخذ القلم وألحق ضرسا زائدا قال محمد بن عمر فوالله لقد خرج إلينا والنون لم يتم بعد جفوف مدادها قال أبو محمد فالأول واهم مغفل والثاني فاسق خبيث فلولا كثرة المصاحف بأيدي الناس لتشكك كثير من الناس في مثل هذا إذا شاهدوه ممن يظنون به خيرا أو علما ولخفي الخطأ والتعمد فمثل هذا تخويف عثمان رضي الله عنه ولقد عظمت منفعة فعله ذلك أحسن الله جزاءه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 وأما الأحرف السبعة فباقية كما كانت إلى يوم القيامة مثبوتة في القراءات المشهورة من المشرق إلى المغرب ومن الجنوب إلى الشمال فما بين ذلك لأنها من الذكر المنزل الذي تكفل الله تعالى بحفظه وضمان الله تعالى لا يخيس أصلا وكفالته تعالى لا يمكن أن تضيع ومن البرهان على كذب أهل الجهل وأهل الإفك على عثمان رضي الله عنه في هذا أنبأناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا أمية هو ابن بسطام نا يزيد بن ربيع عن حبيب بن الشهيد عن ابن مليكة عن ابن الزبير قال قلت لعثمان {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} قال قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها قال يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه وبه إلى البخاري نا موسى بن إسماعيل نا إبراهيم حدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان بن عفان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أم المؤمنين أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بهما إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة إذا اختلفتم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق فهذان الخبران عن عثمان إذا جمعا صححا قولنا وهو أنه لم يحل شيئا من القرآن عن مكانه الذي أنزله الله تعالى عليه وأنه أحرق ما سوى ذلك مما وهم فيه واهم أو تعمد تبديله متعمد نا عبد الله بن الربيع التميمي نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا أبو سعيد الأعرابي العزي نا سليمان بن الأشعث نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن أبي ليلى عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال له إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرف فقال أسأل الله معافاته ومغفرته إن أمتي لا تطيق على ذلك ثم أتاه الثانية فذكر نحو هذا حتى بلغ سبعة أحرف فقال إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وبه إلى سليمان بن الأشعث نا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لففته بردائه فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرأ القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت ثم قال لي اقرأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 فقرأت فقال هكذا نزلت ثم قال صلى الله عليه وسلم إن القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه قال أبو محمد فحرام على كل أحد أن يظن أن شيئا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تطيق ذلك أتى عثمان فحمل الناس عليه فأطاقوه ومن أجاز هذا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لله تعالى إن أمته لا تطيق ذلك ولم ينكر الله تعالى عليه ذلك ولا جبريل عليه السلام وقال هؤلاء المجرمون إنهم يطيقون ذلك وقد أطاقوه فيا لله ويا للمسلمين أليس هذا اعتراضا مجردا على الله عز وجل مع التكذيب لرسوله صلى الله عليه وسلم فهل الكفر إلا هذا نعوذ بالله العظيم أن يمر بأوهامنا فكيف أن نعتقده وأيضا فإن الله تعالى آتانا تلك الأحرف فضيلة لنا فيقول من لا يحصل ما يقول إن تلك الفضيلة بطلت فالبلية إذا قد نزلت حاشا لله من هذا قال أبو محمد ولقد وقفت على هذا مكي بن أبي طالب المقرىء رحمه الله فمرة سلك هذه السبيل الفاسدة فلما وقفته على ما فيها رجع ومرة قال بالحق في ذلك كما تقول ومرة قال لي ما كان من الأحرف السبعة موافقا لخط المصحف فهو باق وما كان منها مخالفا لخط المصحف فقد رفع فقلت له إن البلية التي فررت منها في رفع السبعة الأحرف باقية بحسبها في إجازتك رفع حركة واحدة من حركات جميع الأحرف السبعة أكثر من ذلك فمن أين وجب أن يراعى خط المصحف وليس هو من تعليم رسول الله لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب واتباع عمل من دونه من غير توقيف منه عليه السلام لا حجة فيه ولا يجب قبوله وقد صححت القراءة من طريق أبي عمرو بن العلاء التميمي مسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن هذان لساحران} وهو خلاف خط المصحف وما أنكرها مسلم قط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 فاضطرب وتلجلج قال أبو محمد وقد قال بعض من خالفنا في هذا إن الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا عربا يصعب على كل طائفة منهم القراءة بلغة غيرهم فلذلك فسح لهم في القراءة على أحرف شتى من بعدهم كذلك فقلنا كذب هؤلاء مرتين إحداهما على الله تعالى والثانية على جميع الناس كذبا مفضوحا جهارا لا يخفى على أحد أما كذبهم على الله عز وجل فإخبارهم بأنه تعالى إنما جعله يقرأ على أحرف شتى لأجل صعوبة انتقال القبيلة إلى لغة غيرها فمن أخبرهم بها عن الله تعالى أنه من أجل ذلك حكم بما صح أنه تعالى حكم به وهل يستجيز مثل هذا ذو دين أو مسكة عقل وهل يعلم مراد الله تعالى في ذلك إلا بخبر وارد من عنده عز وجل اللهم عياذك من مثل هذا الترامي من حالق إلى المهالك ومن أخبر عن مراد غيره بغير أن يطلعه ذلك المخبر عنه على ما في نفسه فهو كاذب بلا شك والكذب على الله تعالى أشد من الكذب على خلقه وأما كذبهم على الناس فبالمشاهدة يدري كل أحد صعوبة القراءة على الأعجمي المسلم من الترك والفرس والروم والنبط والقبط والبربر والديلم والأكراد وسائر قبائل العجم بلغة العرب التي بها نزل القرآن أشد مراما من صعوبة قراءة اليماني على لغة المضري والربعي على لغة القرشي بلا شك وأن تعلم العربي للغة قبيلة من العرب غير قبيلته أمكن وأسهل من تعلم الأعجمي للعربية بلا شك والأمر الآن أشد مما كان حينئذ أضعافا مضاعفة فالحاجة إلى بقاء الأحرف الآن أشد منها حينئذ على قول المستسهلين للكذب في عللهم التي يستخرجونها نصرا لضلالهم ولتقليدهم من غلط قاصد إلى خلاف الحق ولاتباعهم وله عالم قد حدروا عنها ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق وبرهان كذبهم في دعواهم المذكورة أنه لو كان ما قالوه حقا لم يكن لاقتضاء نزوله على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 سبعة أحرف معنى بل كان الحكم أن تطلق كل قبيلة على لغتها وبرهان آخر على كذبهم في ذلك أيضا أن المختلفين في الخبر المذكور الذي أوردناه آنفا أنهما قرآ سورة الفرقان بحرفين مختلفين كانا جميعا بني عم قرشيين من قريش البطاح من قبيلة واحدة جاران ساكنان في مدينة واحدة وهي مكة لغتهما واحدة وهما عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قريظ بن رزاح بن عدي بن كعب وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب ويجتمعان جميعا في كعب بن لؤي بين كل واحد منهما وبين كعب بن لؤي ثمانية آباء فقط فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب وأبى ربك إلا أن يحق الحق ويبطل الباطل ويظهر كذب الكاذب ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ قال أبو محمد وقال آخرون منهم الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها إنما هي وعد ووعيد وحكم وزادوا من هذا التقسيم حتى بلغوا سبعة معان قال أبو محمد المقلدون كالغرقى فأي شيء وجدوه تعلقوا به قال أبو محمد وكذب هذا القول أظهر من الشمس لأن خبر أبي الذي ذكرنا وخبر عمر الذي أوردناه شاهدان بكذبه مخبران بأن الأحرف إنما هي اختلاف ألفاظ القراءات لا تغير القرآن ولا يجوز أن يقال في هذه الأقسام التي ذكرنا أيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا وأيضا فإنهم ليسوا في تقسيمهم هذا بأولى من آخر اقتصر على مبادىء الكلام الأول فجعل القرآن ثلاثة أقسام فقط خبرا وتقديرا وأمرا بشرع وجعل الوعد والوعيد تحت قسم الخبر ولا هم أيضا بأولى من آخر قسم الأنواع التي في اشخاص المعاني فجعل القرآن أقساما كثيرة أكثر من عشرة فقال فرض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 وندب ومباح ومكروه وحرام ووعد ووعيد والخبر عن الأمم السالفة وخبر عما يأتي من القيامة والحساب وذكر الله تعالى وأسمائه وذكر النبوة ونحو هذا فظهر فساد هذا وأيضا فإن هذه الأقسام التي ذكروا هي في قراءة عمر كما هي في قراءة هشام بن حكيم ولا فرق فهذا بيان زائد في كذب هذا التقسيم قال أبو محمد فإن ذكر ذاكر الرواية الثابتة بقراءات منكرة صححت عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم مثل ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه {وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد} ومثل ما صح عن عمر رضي الله عنه من قراءة {صراط لذين أنعمت عليهم غير لمغضوب عليهم ولا لضآلين} ومن أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعد المعوذتين من القرآن وأن أبيا رضي الله عنه كان يعد القنوت من القرآن ونحو هذا قلنا كل ذلك موقوف على من روى عنه شيء ليس منه عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة ونحن لا ننكر على من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطأ فقد هتفنا به هتفا ولا حجة فيما روي عن أحد دونه عليه السلام ولم يكلفنا الله تعالى الطاعة له ولا أمرنا بالعمل به ولا تكفل بحفظه فالخطأ فيه واقع فيما يكون من الصاحب فمن دونه ممن روى عن الصاحب والتابع ولا معارضة لنا بشيء من ذلك وبالله تعالى التوفيق وإنما تلزم هذه المعارضة من يقول بتقليد الصاحب على ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن فهم الذين يلزمهم التخلص من هذه المذلة وأما نحن فلا والحمد لله رب العالمين إلا خبرا واحدا وهو الذي رويناه من طريق النخعي والشعبي كلاهما عن علقمة بن مسعود وأبي الدرداء كلاهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقرأهما {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 قال أبو محمد وهذا خبر صحيح مسند عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد إلا أنهما قراءة منسوخة لأن قراءة عاصم المشهورة المأثورة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقراءة ابن عامر مسندة إلى أبي الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما جميعا {وما خلق لذكر ولأنثى} فهي زيادة لا يجوز تركها وأنبأنا يونس بن عبد الله بن مغيث القاضي قال حدثنا يحيى بن مالك بن عابد الطرطوشي أخبرنا الحسن بن أحمد بن أبي خليفة أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا إبراهيم بن أبي داود نا حفص بن عمر الحوضي نا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال اختلفوا في القراءات على عهد عثمان بن عفان حتى اقتتل الغلمان والمعلمون فبلغ ذلك عثمان فقال عندي تكذبون به وتختلفون فيه فما تأبى عني كان أشد تكذيبا وأكثر لحنا يا صحابة محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس قال فكتبوا قال فحدثني أنهم كانوا إذا تراودوا في آية قالوا هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلانا فيرسل إليه وهو على ثلاثة من المدينة فيقول كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول كذا وكذا فيكتبونها وقد تركوا لها مكانا قال أبو محمد فهذه صفة عمل عثمان رضي الله عنه بحضرة الصحابة رضي الله عنهم في نسخ المصاحف وحرق ما حرق منها مما غير عمدا وخطأ ومن العجب أن جمهرة من المعارضين لنا وهم المالكيون قد صح عن صاحبهم ما ناه المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي قال ابن مناس نا ابن مسرور نا يحيى نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب حدثني ابن أنس قال أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا {إن شجرة لزقوم * طعام لأثيم} فجعل الرجل يقول طعام اليتيم فقال له ابن مسعود طعام الفاجر قال ابن وهب قلت لمالك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 أترى أن يقرأ كذلك قال نعم أرى ذلك واسعا فقيل لمالك أفترى أن يقرأ بمثل ما قرأ عمر بن الخطاب فامضوا إلى ذكر الله قال مالك ذلك جائز قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرؤوا منه ما تيسر مثل تعلمون يعلمون قال مالك لا أرى في اختلافهم في مثل هذا بأسا ولقد كان الناس ولهم مصاحف والستة الذين أوصى لهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف قال أبو محمد فكيف يقولون مثل هذا أيجيزون القراءة هكذا فلعمري لقد هلكوا وأهلكوا وأطلقوا كل بائقة في القرآن أو يمنعون من هذا فيخالفون صاحبهم في أعظم الأشياء وهذا إسناد عنه في غاية الصحة وهو مما أخطأ فيه مالك مما لم يتدبره لكن قاصدا إلى الخير ولو أن أمرا ثبت على هذا وجازه بعد التنبيه له على ما فيه وقيام حجة الله تعالى عليه في ورود القرآن بخلاف هذا لكان كافرا ونعوذ بالله من الضلال قال أبو محمد فبطل ما قالوه في الإجماع بأوضع بيان والحمد لله رب العالمين فصل فيمن قال ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبسط الكلام فيما هو إجماع وفيما ليس إجماعا قال أبو محمد قد ذكرنا قبل قسمي الإجماع الذي لا إجماع في العالم غيرهما أصلا وهما إما شيء لا يكون مسلما من لا يعتقده كشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والبراءة من كل دين يخالف دين الإسلام كجملة القرآن وكالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان فإنه لا يشك مؤمن ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 كافر في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى هذه الشهادة وحكم باسم الإسلام وحكمه لمن أجابه إليها وحكم باسم الكفر وحكمه لمن لم يجبه إليه وأن أهل الإسلام بعده عليه السلام جروا على هذا إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات الخمس بكل من حضره خمس مرات كل يوم وليلة وصلاها النساء وأهل العذر في البيوت كذلك وصلاها أهل كل محلة وأهل كل قرية وأهل كل محلة في كل مدينة فيها إسلام في كل يوم من عهده عليه السلام إلى يومنا هذا لا يختلفون في ذلك وكذلك الأذان والإقامة والغسل من الجنابة والوضوء ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم صام شهر رمضان الذي بين شوال وشعبان في كل عام وصامه كل مسلم بالغ حاضر من رجل أو امرأة معه وفي زمانه وبعده في كل مكان وفي كل عام إلى يومنا هذا ولا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم حج إلى مكة في ذي الحجة وحج معه من لا يحصي عددهم إلا خالقهم عز وجل ثم حج الناس إلى يومنا هذا كل عام إلى مكة في ذي الحجة وهكذا جملة القرآن لا يشك مؤمن ولا كافر في أنه صلى الله عليه وسلم أتى به وذكر أن الله تعالى أوحاه إليه وكذلك تحريم الأم والابنة والجدة والخالة والعمة والأخت وبنت الأخت وبنت الأخ والخنزير والميتة وكثير سوى هذا فقطع كل مؤمن وكافر أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه وعلمه المسلمين وعلمه المسلمون جيلا في كل زمان وكل مكان قطعا إلا من أفرط جهله ولم يبلغه ذلك من بدوي أو مجلوب من أهل الكفر ولا يختلف في أنه إذا علمه فأجاب إليه فهو مسلم وإن لم يجب إليه فليس مسلما وأن في بعض ما جرى هذا المجرى أمورا حدث فيها خلاف بعد صحة الإجماع وتيقنه عليها كالخمر والجهاد وغير ذلك فإن بعض الناس رأى ألا يجاهد مع أئمة الجور وهذا يعذر لجهله وخطأه ما لم تقم عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 الحجة فإن قامت عليه الحجة وتمادى على التدين بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك حلال الدم والمال لقوله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} فإن قيل فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فهلا أخرجتم بهذه الأشياء من الإيمان كما أخرجتم من الإيمان بوجود الحرج مما قضى صلى الله عليه وسلم وترك تحكيمه قلنا لأنه صلى الله عليه وسلم أتى بالزاني والسارق والشارب فحكم فيهم بالحكم في المسلمين لا بحكم الكافر فخرجوا بذلك من الكفر وبقي من لم يأت بإخراجه عن الكفر على الكفر والخروج عن الإيمان كما ورد فيه النص فهذا أحد قسمي الإجماع والثاني شيء يوقن بالنقل المتصل الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه وفعله جميع من بحضرته ومن كان مستضعفا أو غائبا بغير حضرته كفتح خيبر وإعطائه إياها بعد قسمتها على المسلمين لليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر على أن المسلمين يخرجونهم متى شاؤوا وهكذا كل ما جاء هذا المجيء فهو إجماع مقطوع على صحته من كل مسلم علمه أو بلغه على أنه قد خالف في هذا بعد ذلك من وهم أو خطأ فعذر لجهله ما لم تقم عليه الحجة وكما ذكرنا قبل ولا فرق فلا إجماع في الإسلام إلا ما جاء هذا المجيء ومن ادعى إجماعا فيما عدا ما ذكرنا فهو كاذب آفك مفتر على جميع المسلمين قائل عليهم ما لا علم له به وقد قال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال تعالى ذاما لقوم قالوا {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} وقال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} فصح بنص كلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 الله تعالى الذي لا يعرض عنه مسلم أن الظن هو غير الحق وإذ هو غير الحق فهو باطل وكذب بلا شك إذ لا سبيل إلى قسم ثالث وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث قال أبو محمد فهذا هو الحق الذي لا يحيل عليه من سمعه ثم حدث بعد القرن الرابع طائفة قلت مبالاتها بما تطلق به ألسنتها في دين الله تعالى ولم تفكر فيما تخبر به عن الله عز وجل ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن جميع المسلمين قصرا لتقليد من لا يغني عنهم من الله شيئا من أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله الذين قد برئوا إليهم عما هم عليه من التقليد فصاروا إذا أعوزهم شغب ينصرون به فاحش خطأهم في خلافهم نص القرآن ونص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلحوا وبلدوا ونطحت أظفارهم في الصفا الصلد أرسلوها إرسالا فقالوا هذا إجماع فإذا قيل لهم كيف تقدمون على إضافة الإجماع إلى من لم يروا عنه في ذلك كله أما تتقون الله قال أكابرهم كل ما انتشر في العلماء واشتهر ممن قالته طائفة منهم ولم يأت على سائر خلاف له فهو إجماع منهم لأنهم أهل الفضل والذين أمر الله تعالى بطاعتهم فمن المحال أن يسمعوا ما ينكرونه ولا ينكرونه فصح أنهم راضون به هذا كل ما موهوا به ما لهم متعلق أصلا بغير هذا وهذا تمويه منهم ببراهين ظاهرة لا خفاء بها نوردها إن شاء الله عز وجل وبه نستعين قال أبو محمد أول ما نسألكم عنه أن نقول لكم هذا لا تعلمون فيه خلافا أيمكن أن يكون فيه خلاف من صاحب أو تابع أو عالم بعدهم لم يبلغكم أم لا يمكن ذلك البتة فإن قالوا عند ذلك إن قال هذا القول عالم كان ذلك إجماعا وإن قاله غير عالم لم يكن ذلك إجماعا قلنا لهم قد نزلتم درجة وسؤالنا باق لذلك العالم بحسبه كما أوردناه سواء بسواء فإن قالوا بل يمكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل يمكن أن يكون في ذلك خلاف لم يبلغ ذلك العالم قلنا فقد أقررتم بالكذب إذ قطعتم بأنه إجماع وجوزتم مع ذلك أن يكون الخلاف فيه موجودا فإن قالوا بل لا يمكن أن يكون في ذلك خلاف قلنا ومن أين لكم بأن ذلك العالم أحاط بجميع أقوال أهل الإسلام ونحن نبدأ لكم بالصحابة رضي الله عنهم فنقول بالضرورة ندري يقينا لا مرية فيه بأنهم كانوا عشرات ألوف فقد غزا صلى الله عليه وسلم حنينا في اثني عشر ألف إنسان وغزا تبوك في أكثر من ذلك وحج حجة الوداع في أضعاف ذلك ووفد عليه من كل بطن من بطون قبائل العرب وفودا أسلموا وسألوه عن الدين وأقرأهم القرآن وصلوا معه كلهم يقع عليه اسم الصحابة ولقد تقصينا من روى عنه فتيا في مسألة واحدة فأكثر فلم نجدهم إلا مائة وثلاثة وخمسين بين رجل وامرأة فقط مع شدة طلبنا في ذلك وتهممنا وليس منهم مكثرون إلا سبعة فقط وهم عمر وابنه عبد الله وعلي وابن عباس وابن مسعود وأم المؤمنين عائشة وزيد بن ثابت والمتوسطون فهم ثلاثة عشر فقط يمكن أن يوجد في فتيا كل واحد منهم جزء صغير فهؤلاء عشرون فقط والباقون مقلون جدا فيهم من لم يرو عنه إلا فتيا في مسألة واحدة فقط ومنهم في مسألتين وأكثر من ذلك يجتمع من فتيا جميعهم جزء واحد هو إلى أصغر أقرب منه الكبر أفترى سائرهم لم يفت ولا مسألة إلا هذا والله هو الكذب البحت والإفك والبهت ثم ما قد نص الله تعالى في قرآنه من أن طوائف من الجن أسلموا قال {قل أوحي إلي أنه ستمع نفر من لجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى لرشد فآمنا به ولن نشرك بربنآ أحدا} وقال تعالى حاكيا عنهم أنهم قالوا {وأنا منا لصالحون ومنا دون ذلك كنا طرآئق قددا} وأنهم قالوا {وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أخبر بأن وفدا من الجن أتوه وأسلموا وبايعوه وعلمهم القرآن فصح أن منهم مسلمين صالحين راشدين من خيار الصحابة هذا لا ينكره مسلم ومن أنكره كفر وحل دمه فيا هؤلاء هبكم جسرتم على دعوى العلم بقول عشرات ألوف من الناس من الصحابة وإن لم يبلغكم عنهم فيما ادعيتم إجماعهم عليه كلمة أتراكم يمكنكم الجسر على دعوى إجماع أولئك الصحابة من الجن على ما تدعون بظنكم الكاذب الإجماع عليه لئن أقدمكم على ذلك القاسطون من شياطين الجن فانقدتم لهم لتضاعفن فضيحة كذبكم وليلوحن إفككم لكل صغير وكبير ولئن ردعكم عن ذلك رادع ليبطلن دعواكم الإجماع وهذا لا مخلص منه فإنهم كسائر الصحابة مأمورون منهيون مؤمنون موعودون متوعدون ولا فرق فإن قالوا إن شرائعهم غير شرائعنا قلنا كذبتم بل شرائعنا وشرائعهم سواء لتصديق الله تعالى لهم في قولهم {وأنا منا لمسلمون ومنا لقاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا} والإسلام واحدا إلا ما جاء به نص صحيح بأنهم خصوا به كما خصوا أيضا طوائف من الناس كقريش بالإمامة وبني عبد المطلب بالخمس من الخمس ونحو ذلك ثم انقضى عصر الصحابة رضي الله عنهم وأتى عصر التابعين فملؤوا الأرض بلاد خراسان وهي مدن عظيمة كثيرة وقرى لا يحصيها إلا خالقها عز وجل وكابل وفارس وأصبهان والأهواز والجبال وكرمان وسجستان ومكران والسودان والعراق والموصل والجزيرة وديار ربيعة وأرمينية وأذربيجان والحجاز واليمن والشام ومصر والجزائر وإفريقية وبلاد البربر وأرض الأندلس ليس فيها قرية كبيرة إلا وفيها من يفتي ولا فيها مدينة إلا وفيها مفتون فمن الجاهل القليل الحياء المدعي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 إحصاء أقوال كل مفتي في جميع هذه البلاد مذ أفتوا إلى أن ماتوا إن كل واحد يعلم ضرورة أنه كذاب آفك ضعيف الدين قليل الحياء فبطل دعوى الإجماع كما بطل كل محال مدعي إلا حيث ذكرنا قبل فقط فإن قالوا إنما يقول المرء هذا إجماع عندي فقط قلنا قوله هذا كلا قول لأن الإجماع عنده إذا لم يكن إجماعا عند غيره فمن الباطل أن يكون الشيء مجمعا عليه عند غير مجمع عليه معا وأيضا فإن قوله هذا إجماع عندي باطل لأنه منهي عن القطع بظنه فمعنى قوله هذا إنما هو أنه يظن إجماع وقد مضى الكلام في المنع من القطع بالظن وقال تعالى {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند لله عظيم} الآية وقال تعالى {هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} وهذا مالك يقول في موطئه إذ ذكر وجوب رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه ثم قال هذا ما لا خوف فيه عن أحد من الناس ولا في بلد من البلدان قال أبو محمد وهذه عظيمة جدا وإن القائلين بالمنع من رد اليمين أكثر من القائلين بردها ونا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن مسرة نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن القاسم قال نا مالك ليس كل أحد يعرف أن اليمين ترد ذكر هذا في كتاب السرقة من المدونة هذا الشافعي يقول في زكاة البقر في الثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة لا أعلم فيه خلافا وإن الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وقتادة وعمال ابن الزبير بالمدينة ثم عن إبراهيم النخعي وعن أبي حنيفة لأشهر من أن يجهله من يتعاطى العلم إلى كثير لهم جدا من مثل هذا إلا من قال لا أعلم خلافا فقد صدق عن نفسه ولا ملامة عليه وإنما البلبلة والعار والنار على من أقدم على الكذب جهارا فادعى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 الإجماع إذ لم يعلم خلافا وقد ادعوا أن الإجماع على أن القصر في أقل من ستة وأربعين ميلا غير صحيح وبالله إن القائلين من الصحابة والتابعين بالقصر في أقل من ذلك لأكثر أضعافا من القائلين منهم بالقصر في ستة وأربعين ميلا ولو لم يكن لهؤلاء الجهال الذين لا علم لهم بأقوال الصحابة والتابعين إلا الروايات عن مالك بالقصر في ستة وثلاثين ميلا وفي أربعين ميلا وفي اثنين وأربعين ميلا وفي خمسة وأربعين ميلا ثم قوله من تأول فأفطر في ثلاثة أميال في رمضان لا يجاوزها فلا شيء عليه إلا القضاء فقط وادعوا الإجماع على أن دية اليهودي والنصراني تجب فيها ثلث دية المسلم لا أقل وهذا باطل روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أن ديتهما كدية المجوسي ثمانمائة درهم وادعوا الإجماع أنه يقبل في القتل شاهدان وقد روينا عن الحسن البصري بأصح طريق أنه لا يقبل في القتل إلا أربعة كالزنى ومثل هذا لهم كثير جدا كدعواهم الإجماع على وجوب خمس من الإبل في الموضحة وغير ذلك كثير جدا ولقد أخرجنا على أبي حنيفة والشافعي ومالك مئين كثيرة من المسائل قال فيها كل واحد منهم بقول لا نعلم أحدا من المسلمين قاله قبله فاعجبوا لهذا فقالوا إنما نقول ذلك إذا انتشر القول في الناس فلم يحفظ عن أحد من العلماء إنكار ذلك فحينئذ نقول إنه إجماع لما ذكرنا من أنهم يقرون على ما ينكرون كما نقول في أصحاب مذهب الشافعي وأصحاب مذهب مالك وأصحاب مذهب أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك عن واحد منهم وكما نقول ذلك في أهل البلاد التي غلبت عليها الشبه والروافض والاعتزال ومذهب الخوارج أو مذهب مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة وإن لم يرو لنا ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 عن كل واحد من أهلها قلنا لهم لم تخلصوا من هذا القول الذي هو حسبكم واحد منهم في كتابكم وآخرها إلا على كذبتين زائدتين على كذبكم في دعوى الإجماع كنتم في غنى عن اختفائهما إحداهما قولكم إنكم تقولون ذلك إذا انتشر قول طائفة من الصحابة أو من بعدهم فقالوا ههنا فمن هذا نسألكم من أين علمتم بانتشار ذلك القول ومن أين قطعتم بأنه لم يبق صاحب من الجن والإنس إلا علمه ولا يفتي في شرق الأرض ولا غربها عالم إلا وقد بلغه ذلك القول فهذه أعجوبة ثانية وسوأة من السوءات لا يجيزها إلا ممخرق يريد أن يطبق عين الشمس نصرا لتقليده وتمشية لمقولته المنحلة عما قريب ثم يندب حين لا تنفعها الندامة والكذبة الأخرى قولكم فلم ينكروها فحتى لو صح لكم أنهم كلهم علموها فمن أين قطعتم بأنهم لم ينكروها وأنهم رضوها وهذه طامة أخرى ونحن نوجدكم أنهم قد علموا ما أنكروا وسكنوا عن إنكاره لبعض الأمر نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم بن خليل نا إبراهيم بن حمادة نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا علي بن عبد الله هو ابن المديني نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبي عن محمد بن إسحاق الزهري محمد بن مسلم بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 مسعود أنه وزفر بن أوس بن الحدثان أتيا عبد الله بن عباس فأخبرهما بقوله في إبطال العول وخلافه لعمر بن الخطاب في ذلك قال فقال له زفر فما منعك يا ابن عباس أن تشير عليه بهذا الرأي قال هبته نا حمام بن أحمد نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي ثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا أيوب الأنصاري كان يصلي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر فلما استخلف عمر تركهما فلما توفي عمر ركعهما قيل له ما هذه قال إن عمر كان يضرب الناس عليهما نا جهم نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي الديري نا عبد الرزاق عن معمر أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب جاء عمر بن الخطاب بأمة سوداء كانت لحاطب فقال إن العتاقة أدركت وقد أصابت فاحشة وقد أحصنت فدعاها عمر فسألها عن ذلك فقالت نعم من مرعوش بدرهمين وهي حينئذ تذكر ذلك لا ترى به بأسا فقال عمر لعلي وعبد الرحمن وعثمان أشيروا علي فقال علي وعبد الرحمن نرى أن ترجمها فقال عمر لعثمان أشر فقال قد أشار عليك أخواك قال عزمت عليك إلا أشرت علي برأيك قال فإني لا أرى الحد إلا على من علمه وأراها تستهل به كأنها لا ترى به بأسا فقال عمر صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا عمن علمه فضربها عمر مائة وغربها عاما وبه عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه قال توفي عبد الرحمن بن حاطب وأعتق من صلى من رقيقه وصام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه فلم يرعها إلا حبلها وكانت ثيبا فذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحدثه فأرسل إليها عمر فسألها فقال أحبلت فقال نعم من مرعوش بدرهمين وإذا هي تستهل به لا تكتمه فصادف عنده علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وعثمان فقال أشيروا علي وكان عثمان جالسا فاضطجع فقال علي وعبد الرحمن قد وقع عليها الحد فقال عمر أشر علي يا عثمان قال قد أشار عليك أخواك قال أشر علي أنت قال عثمان أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه فأمر بها عمر فجلدت مائة وغربها ثم قال لعثمان صدقت والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه فهذا ابن عباس يخبر أنه منعته الهيبة من الإنكار على عمر فيما يقطع ابن عباس أنه الحق ويدعو فيه إلى المباهلة عند الحجر الأسود وهذا أبو أيوب رجل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعي الإنكار على عمر ضربه على الصلاة بعد العصر وبعيد ضربه وهذا عثمان سكت وقد رأي أمرا أنكره في أشنع الأشياء وأعظمها وهو دم حرام يسفك بغير واجب سأله عمر فتمادى على سكوته إلى أن عزم عليه وقد يسكت المرء لأنه لم يلح له الحق أو يسكت موافقا ثم يبدو له وجه الحق أو رأى آخر بعد مدة فينكر ما كان يقول ويرجع عنه كما فعل علي في بيع أمهات الأولاد وفي التخيير بعد موافقته لعمر على كلا الأمرين أو ينكر فلا يبلغنا إنكاره ويبلغ غيرنا في أقصى المشرق وأقصى المغرب أو أقصى اليمين أو أقصى إرمينية وأما تنظيركم بأهل مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة والبلاد التي ظهر فيها وغلب عليها قول ما فهذا أعظم حجة عليكم لأنه لا يختلف اثنان أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 جمهور القائلين بمذهب رجل ممن ذكرتم لم يخلو قط من خلاف لصاحبهم في المسألة والمسألتين والمسائل وكذلك لم تخل قط البلاد المذكورة من مخالف لمذهب أهلها ولا أكثر من غلبة مذهب مالك على الأندلس وإفريقية وقد كان طوائف علماء مخالفون له جملة قائلون بالحديث أو بمذهب الظاهر أو مذهب الشافعي وهذا أمر مشاهد في كل وقت ولا أكثر من غلبة الإسلام على البلاد التي غلب عليها ولله الحمد وإن فيها مع ذلك يهود ونصارى وملحدين كثيرا جدا فظهر فساد تنظيرهم عيانا وعاد ما موهوا به مبطلا لدعواهم وثبت بهذا حتى لو انتشر القول وعرفه جميع العلماء وإن في الممكن أن يخالفه جمهورهم أو بعضهم ثم هذا عمر قد جلد التي لم يرد عليها الرجم لجهلها وهي محصنة مائة وغربها عاما بحضرة علي وعبد الرحمن وعثمان ولم ينكروا عليه ذلك فإن كان عندهم إجماعا فيقولوا به وليس من خصومنا الحاضرين أحد يقول بهذا وإن كان سكوتهم ليس موافقة ولا رضى فليتركوا هذا الأصل الفاسد المهلك في الدين لمن تعلق به ولا بد من أحدهما بالتلاعب بدين الله عز وجل وقد أريناهم سكوتهم رضي الله عما يقولون به فمن الجاهل المنكر لهذا حتى لو صح لهم أنهم عرفوه فكيف وهذا لا يصح أبد الأبد على ما بينا فإن قال قائل فإذ هو كما قلتم فمن أين قطعتم بالخلاف فيه وإن لم يبلغكم وهلا أنكرتم ذلك على أنفسكم كما أنكرتموه علينا إذ قلنا إنه إجماع قلنا نعم فقلنا ذلك لبرهانين ضروريين قاطعين أحدهما أن الأصل من الناس وجود الاختلاف في آرائهم لما قدمنا قبل اختلاف أغراضهم وطبائعهم والثاني لأن الله تعالى بذلك قضى إذ يقول {ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} فصح إن الأصل هو الاختلاف الذي أخبر تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 أننا لا نزال عليه والذي له خلقنا إلا من استثنى من الأقل وبرهان ثالث وهو الذي لا يسع أحدا خلافه وهو أن ما ادعيتم فيه الإجماع بالظن الكاذب كما قدمنا لا يخلو ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا إما أن تدعوه في أمر موافق لنص القرآن أو السنة الثابتة المسندة فهذا أمر لا نبالي اتفق عليه أم اختلف فيه إنما الغرض أن يؤخذ بالنص في ذلك سواء أجمع الناس أم اختلفوا ولا معنى حينئذ للاحتجاج بدعوى الإجماع عليه والحجة قائمة بالنص الوارد فيه فلا حاجة إلى القطع بالظن الكاذب في دعوى الإجماع البتة وإما أن تدعوه في أمر لا يوافقه نص قرآن ولا سنة صحيحة مسندة بل هو مخالف لها في عمومها أو ظاهرهما لتصححوه بدعواكم الكاذبة في أنه إجماع فهذه كبيرة من الكبائر وقصد منكم إلى رد اليقين بالظنون وإلى مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بدعوى كاذبة مفتراة وهذا لا يحل وإذا كان هذا القسم فنحن نقطع حينئذ ونثبت أنه لا بد من خلاف ثابت فيما ادعيتموه إجماعا لأن الله تعالى قد أعاذ أمة نبيه صلى الله عليه وسلم من الإجماع على الباطل والضلال لمخالفة القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم لم تقتنعوا بأن كذبتم على جميع الأمة حتى نسبتم إليهم الإجماع على الخطأ في مخالفة القرآن والسنة الثابتة وهذه من العظائم التي نعوذ بالله العظيم من مثلها وليس ههنا قسم ثالث أصلا لما قد أوردنا من البراهين على أنه لا يمكن وقوع نازلة لا يكون حكمها منصوصا في القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم إما باسمها الأعم وإما باسمها الأخص قال أبو محمد واعلموا أن إقدام هؤلاء القوم وجسرهم على معنى الإجماع حيث وجد الاختلاف أو حيث لم يبلغنا ولكنه ممكن أن يوجد أو مضمون أن يوجد فإنه قول خالفوا فيه الإجماع حقا وما روي قط عن صاحب ولا عن تابع القطع بدعوى الإجماع حتى أتى هؤلاء الذين جعلوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 الكلام في دين الله تعالى مغالبة ومجاذبة وتحققا بالرياسة على مقلدهم وكفى بهذا فضيحة وأيضا قد تيقن إجماع المسلمين على أنه لا يحل لأحد أن يقطع بظنه اليقين فيه فهذا إجماع آخر فقد خالفوه في هذه المسألة نا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال قال رجل لابن مسعود أوصني بكلمات جوامع فقال له ابن مسعود اعبد الله ولا تشرك به شيئا وزل مع القرآن حيث زال ومن أتاك بحق فاقبل منه وإن كان بعيدا بغيضا ومن أتاك بالباطل فاردده وإن كان قريبا حبيبا قال أبو محمد هذه جوامع الحق اتباع القرآن وفيه اتباع بيان الرسول وأخذ الحق ممن أتى به ولئن كان لا خير فيه وممن يجب بغضه وإبعاده وألا يقلد خطأ فاضل وإن كان محبوبا واجبا تعظيمه نا حمام بن أحمد نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا معاوية بن هشام نا سفيان هو الثوري عن جبلة بن عامر بن مطر قال قال لي حذيفة في كلام فأمسك بما أنت عليه اليوم فإنه الطريق الواضح كيف أنت يا عامر بن مطر إذا أخذ الناس طريقا مع أيهما تكون قال عامر فقلت له مع القرآن أحيا مع القرآن وأموت قال له حذيفة فأنت إذا أنت قال أبو محمد اللهم إني أقول كما قال عامر أكون والله مع القرآن أحيا متمسكا به وأموت إن شاء الله متمسكا به ولا أبالي بمن سلك غير طريق القرآن ولو أنهم جميع أهل الأرض غيري قال أبو محمد وهذا حذيفة يأمر بترك طريق الناس واتباع طريق القرآن إذا خالفه الناس نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا أحمد بن فريس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن المنصور نا هشيم أخبرنا مغيرة عن الشعبي عن عبيدة السلماني أن عمر بن الخطاب وعليا أعتقا أمهات الأولاد قال عبيدة قال علي فقضى بذلك عمر حتى أصيب ثم ولي عثمان فقضى بذلك حتى أصيب فلما وليت رأيت أن أرقهن قال أبو محمد هذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم ير حكم عمر ثم حكم عثمان المشتهر المنتشر الفاشي والذي وافقهما عليه إجماعا بل سارع إلى خلافه إذ أراه اجتهاده الصواب في خلافه ولعمر الله إن أقل من هذا بدرجات ليقطع هؤلاء المجرمون بأنه إجماع والسند المذكور قيل إلى سعيد بن منصور نا عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي نا عبد الملك بن سليمان عن أبي إسحاق السبيعي عن الشعبي قال أحرم عقيل بن أبي طالب في موردتين فقال له عمر خالفت الناس فقال له علي دعنا منك فإنه ليس لأحد أن يعلمنا السنة فقال له عمر صدقت فهذا علي وعقيل لم ينكرا خلاف الناس ورجع عمر عن قوله إلى ذلك إذ لم يكن ما أضافه إلى الناس سنة يجب اتباعها بل السنة خلافه فلا ينكر خلاف جمهور الناس للسنة وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رياح قال قلت لابن عباس إن الناس لا يأخذون بقولي ولا بقولك ولو مت أنا وأنت ما اقتسموا ميراثنا على ما نقول قال ابن عباس فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا قال أبو محمد فهذا ابن عباس بأصح إسناد عنه لا يلتفت إلى الناس ولا إلى ما اشتهر عندهم وانتشر من الحكم بينهم إذا كان خلافا لحكم الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 في مثل هذا يدعي من لا يبالي بالكذب الإجماع وبه إلى سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي زيد أنه سمع ابن عباس يقول في قول الله عز وجل {يأيها لذين آمنوا ليستأذنكم لذين ملكت أيمانكم ولذين لم يبلغوا لحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة لفجر وحين تضعون ثيابكم من لظهيرة ومن بعد صلاة لعشآء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين لله لكم لآيات ولله عليم حكيم} قال ابن عباس لم يؤمن بهذه الآية أكثر الناس وإني لآمر هذه أن تستأذن علي يعني جارية له قال أبو محمد وهذا كالذي قبله نا يحيى بن عبد الرحيم نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا علي بن المديني نا سفيان بن عيينة نا مصعب بن عبد الله بن الزبير عن أبي مليكة عن ابن عباس قال أمر ليس في كتاب الله عز وجل ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وستجدونه في الناس كلهم ميراث الأخت مع البنت فهذا ابن عباس لم ير الناس كلهم حجة على نفسه في أن يحكم بما لم يجد في القرآن ولا في السنة نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا محمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعا لم أر أحدا من الصحابة يصنعها فقال وما هن يا ابن جريج قال رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين ورأيتك تلبس النعال السبتية ورأيتك تصبغ بالصفرة ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا أروا الهلال ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية فقال له ابن عمر أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيين وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها فأنا أحب أن ألبسها وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها فأنا أحب أن أصبغ وأما الإهلال فإني لم أر رسول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته قال أبو محمد فهذا ابن عمر رضي الله عنه بأصح إسناد إليه لم ينكر مخالفته لجميع أصحابه فيما اقتدى فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أنكر على ابن جريج إخباره بأن أصحابه يخالفونه فصح أنه لم ير أصحابه كلهم قدوة فيما وافق وحدانية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحق الذي لا يسع أحدا القصد إلى خلافه قال أبو محمد ثم هذا أبو حنيفة يقول ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعا وطاعة وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم ولم نخرج عنهم وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال فلم ينكر عن نفسه مخالفة التابعين وإنما لم ير الخروج عن أقوال الصحابة توقيرا لهم وهذا مالك يفتي بالشفعة في الثمار ويقول إثر فتياه به وإنه لشيء ما سمعته ولا بلغني أن أحدا قاله فهذا مالك لم ير القول بما لم يسمع عن أحد قال به خلافا للإجماع كما يدعي هؤلاء الذين لا معنى لهم وهذا الشافعي يقول في رسالته المصرية ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا قال حمام بن أحمد ويحيى بن عبد الرحمن بن مسعود قال حمام نا عباس بن أصبغ وقال يحيى نا أحمد بن سعيد بن حزم ثم اتفق عباس وأحمد قالا جميعا نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الرحمن بن حنبل قال سمعت أبي يقول ما يدعي فيه الرجل الإجماع هو الكذب من ادعى الإجماع فهو كذاب لعل الناس قد اختلفوا ما بد به ولم ينتبه إليه فليقل لا نعلم الناس اختلفوا دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغني ذلك قال أبو محمد صدق أحمد ولله دره وبئس القدوة بشر بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 عتاب المريسي وعبد الرحمن بن كيسان الأصم ولعمري إنهما لمن أول من هجم على هذه الدعوى وهما المرءان يرغب قولهما نا يوسف بن عبد الله النمري نا عبيد الله بن محمد نا الحسن بن سلمون نا عبد الله بن علي بن الجارود نا إسحاق بن منصور قال سمعت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه وقد ذكر له قول أحمد بن حنبل في مسألة فقال إسحاق أجاد لقد ظننت أن أحدا لا يتابعني عليها فهذا إسحاق لا ينكر القول بما يقع في تقديره أنه لا يتابعه أحد عليه إذا رأى الحق فيما قاله به من ذلك قال أبو إسحاق فهؤلاء الصحابة والتابعون ثم أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وداود كلهم يوجب القول بما أداه إليه اجتهاده أنه الحق وألا يعلم قائلا به قبله فبمن تعلق هؤلاء القوم ليت شعري بل بالمريسي والأصم كما قال أحمد رحمه الله قال أبو محمد ولئن كان ما اشتهر من قول طائفة من الصحابة أو التابعين ولم يعرف له خلاف إجماعا فيما في الأرض أشد خلافا للإجماع ممن قلدوه دينهم مالك والشافعي وأبي حنيفة ولقد أخرجنا لهم مئين من المسائل ليس منها مسألة إلا ولا يعرف أحد قال بذلك القول قبل الذي قاله من هؤلاء الثلاثة فبئس ما وسموا به من قلدوه دينهم وقد ذكر محمد بن جرير الطبري أنه وجد للشافعي أربعمائة مسألة خالف فيها الإجماع وهكذا القول حرفا حرفا في أقوال ابن أبي ليلى وسفيان والأوزاعي وزفر وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زيادة وأشهب وابن الماجشون والمزني وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد بن جرير ما منهم أحد إلا وقد صحت عنه أقوال في الفتيا لا يعلم أحد من العلماء قالها قبل ذلك القائل ممن سمينا وأكثر ذلك فيما لا شك في انتشاره واشتهاره ثم ليعلموا أن كل فتيا جاءت عن تابع لم يرو عن صاحب في تلك المسألة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 قول فإن ذلك التابع قال فيها بقول ولا يعرف أن أحدا قاله فالتابعون على هذا القول الخبيث مخالفون للإجماع كلهم أو أكثرهم ومخالف الإجماع عند هؤلاء الجهال كافر فالتابعون على قولهم كفار ونعوذ بالله العظيم من كل قول أدى إلى هذا واعلموا أن الذي يدعي ويقطع بدعوى الإجماع في مثل هذا فإنه من أجهل الناس بأقوال الناس واختلافهم وحسبنا الله ونعم الوكيل فظهر كذب من ادعى أن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع وبالله تعالى التوفيق وأعجب شيء في الدنيا أنهم يدعون في مثله هذا أنه إجماع ثم يأتون إلى الإجماع الصحيح المقطوع به المتيقن فيخالفونه جهارا وهو أنه لا شك عند أحد من أهل العلم أنه لم يكن قط في عصر الصحابة رضي الله عنهم أحد أتى إلى قول صاحب أكبر منه فأخذ به كله ورد لقوله نصوص القرآن وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يحتال لنصره بكل ما أمكنه من حق أو باطل أو مناقضة ثم لا شك عند أحد من أهل العلم في أنه لم يكن قط في عصر التابعين أحد أتى إلى قول تابع أكبر منه أو إلى قول صاحب فأخذ به كله كما ذكرنا ثم لا خلاف بين أحد من أهل العلم في أنه لم يكن في القرن الثالث أحد أتى إلى قول تابع أو قول صاحب فأخذ به كله فهذا الإجماع المقطوع به المتيقن في ثلاثة أعصار متصلة ثم هي الأعصار المحمودة قد خالفها المقلدون الآخذون بأقوال أبي حنيفة فقط أو بأقوال مالك فقط أو بأقوال الشافعي فقط وهو عمل محدث مخالف للإجماع الصحيح فلهذا أعجبوا فهو مكان العجب حقا أن يخالفوا الإجماع المتيقن جهارا ثم يدعون الإجماع حيث لا إجماع ونعوذ بالله العظيم من الضلال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافا وأن قول من سواه فيمن خالفهم فيه إجماع قال أبو محمد ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافا وحكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام وقال إن زيد بن ثابت لا يعد خلافا على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم قال أبو محمد فيقال لهم ما معنى قولكم لا يعد خلافا أتنفون وجود خلاف فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان أم تقولون إن الله تعالى أمركم ألا تسموه خلافا أو رسوله صلى الله عليه وسلم أمركم بذلك فهذه شر من الأولى لأنه كذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم أم تقولون إن قليل ذلك الخلاف من الضعة والسقوط في المسلمين إما لفسقه وإما لجهله بحيث لا يكون وجود قوله إلا كعدمه ففي هذا ما فيه إذ ينزلون زيد بن ثابت أو ابن عباس أو غيرهما من التابعين الأئمة في هذه المنزلة ولعمري إن من أنزل عالما من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين أو من أئمة المسلمين هذه المنزلة لأحق بهذه الصفة وأولى بها ولا يخرج قولكم من إحدى هذه الثلاث قبائح إذ لا رابع لها فإن قالوا إنما قلنا إنه خطأ وشذوذ قلنا قد قدمنا أن كل من خالف أحدا فقد شذ عنه وكل قول خالف الحق فهو شاذ عن الحق فوجب أن كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 خطأ فهو شذوذ عن الحق وكل شذوذ عن الحق فهو خطأ وليس كل خطأ خلافا للإجماع فليس كل شذوذ خلافا للإجماع ولا كل حق إجماعا وإنما نكلمكم ههنا في قولكم ليس خلافا ولكون ما عداه إجماعا فقد ظهر كذب دعواهم وفسادها والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد ووجدناهم احتجوا برواية لا تصح عليكم بالسواد الأعظم ووجدنا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني عن المسيب بن واضح عن المعتمر بن سليمان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تجتمع أمة محمد على ضلالة أبدا وعليكم بالسواد الأعظم فإنه من شذ شذ إلى النار قال أبو محمد المسيب بن واضح منكر الحديث لا يحتج به روى المنكرات منها أنه أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم من ضرب أباه فاقتلوه وهذا لا يعرف ولو صح الخبر المذكور لكان معناه من شذ عن الحق لا يجوز غير ذلك وبما أنبأناه أحمد بن عمر بن أنس العذري نا عبد الله بن الحسين نا عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أبو قلابة نا وهب بن جرير بن حازم قال سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن جابر بن سمرة قال خطبنا عمر بن الخطاب فقال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم فقال من أحب منكم بحبوحة الجنة فليلتزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن الحسن نا حجاج بن محمد نا يوسف بن أبي إسحاق عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن الزبير قال قام عمر بن الخطاب أمير المؤمنين على باب الجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم فقال يا أيها الناس أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف قبل أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 يستحلف ويشهد قبل أن يستشهد فمن سره أن ينال بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن يد الله فوق الجماعة ولا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما ألا إن الشيطان مع واحد وهو من الاثنين أبعد من سائته سيئته وسرته حسنته فهو المؤمن وبه إلى أحمد بن شعيب نا الربع بن سليمان نا إسحاق بن بكر عن يزيد بن عبد الله عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال إن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا كقيامي فيكم فقال أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم وهو ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن مالك بن عمر عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب فيحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وبه إلى أحمد بن شعيب نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه نا جرير هو ابن عبد الحميد عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف على اليمين قبل أن يستحلف ويشهد على الشهادة قبل أن يستشهد عليها فمن أراد منكم بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد لا يخلو رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان ألا من كان منكم تسوءه سيئته وتسره حسنته فهو مؤمن قال أبو محمد هذا الخبر لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح ولكنا نتكلم فيه على علاته فنقول وبالله تعالى نتأيد إنه إن صح فإن ما ذكر فيه من الجماعة إنما هي بلا شك جماعة الحق ولو لم يكونوا إلا ثلاثة من الناس وقد أسلمت خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين وسائر الناس كفار فكانت على الحق وسائر أهل الأرض على ضلال ثم أسلم زيد بن حارثة وأبو بكر رضي الله عنهم فكانوا بلا شك هم الجماعة وجميع أهل الأرض على الباطل وقد نبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فكان على الحق واحدا وجميع أهل الأرض على الباطل والضلال وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن زيد بن عمر بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده قال أبو محمد وذلك لأن زيدا آمن بالله تعالى وحده وجميع أهل الأرض على ضلالة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء قيل ومن هم يا رسول الله قال النزاع من القبائل وقال صلى الله عليه وسلم الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة وقال صلى الله عليه وسلم إن الساعة لا تقوم إلا على من لا خير فيهم نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن عباد وابن أبي عمر كلاهما عن مروان بن معاوية الفزاري عن يزيد بن كيسان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا فطوبى للغرباء وبه إلى مسلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 نا الفضل بن سهل نا شبابة به سوار نا عاصم هو ابن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن أبي دليم أخبرنا ابن وضاح أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء قال النزاع من القبائل وبالسند المتقدم إلى مسلم نا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقوم الساعة على أحد يقول لا إله إلا الله وقال الله عز وجل وذكر أهل الحق فقال {ركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب} وقال تعالى {وقال لذي شتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في لأرض ولنعلمه من تأويل لأحاديث ولله غالب على أمره ولكن أكثر لناس لا يعلمون} في سورة يوسف وقال تعالى {وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون} وقال تعالى {ومآ أكثر لناس ولو حرصت بمؤمنين} وكلام الله تعالى حق وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حق والحق لا يتعارض وهذه النصوص التي أوردناها هي قرآن منزل أو أثر في غاية الصحة منقول نقل التواتر وكلاهما في غاية البيان فالأقل في الدين هم أهل الحق وأن أكثر الناس على ضلال وعلى جهل وأن الواحد قد يكون هو المصيب وجميع الناس هم على باطل لا تحتمل هذه النصوص شيئا غير هذا البتة فلو صحت تلك الآثار التي قدمنا لوجب ضرورة أنها ليست في الدين لكن في شيء آخر وبالضرورة تدري أنها ليست على عمومها لأن انفراد الرجل وحده في بيته غير منكر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده وبرهان كاف قاطع لكل من له أقل فهم في أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد قط بالجماعة المذكورة كثرة العدد لا يشك في ذلك لأن النصارى جماعة واليهود جماعة والمجوس وعباد النار جماعة أفترونه صلى الله عليه وسلم أراد هذه الجماعات حاشا لله من هذا فإن قالوا إنما أراد جميع المسلمين قلنا فإن المنتمين إلى الإسلام فرق فالخوارج جماعة والروافض جماعة والمرجئة جماعة والمعتزلة جماعة أفترونه عليه السلام أراد شيئا من هذه الجماعات حاشا له من ذلك فإن قالوا إنما أراد أهل السنة قلنا أهل السنة فرق فالحنفية جماعة والمالكية جماعة والشافعية جماعة والحنبلية جماعة وأصحاب الحديث الذين لا يتعدونه جماعة فأي هذه الجماعات أراد صلى الله عليه وسلم وليس بعضها أولى بصحة الدعوى من بعض فصح يقينا قطعا كما أن الشمس طالعة من مشرقها أنه عليه السلام لم يرد قط إلا جماعة أهل الحق وهم المتبعون للقرآن ولما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من بيانه للقرآن بقوله وفعله وهذه هي طريق جميع الصحابة رضي الله عنهم وخيار التابعين من بعدهم حتى حدث التقليد المهلك فإذا لا شك في كل هذا وقد بينا أن أمره عليه السلام بلزوم الجماعة إنما أراد يقينا أهل الحق وإن كانوا أقل من أهل الباطل بلا شك لم يرد كثرة العدد قط فلنتكلم بعون الله تعالى وقوته على ما في تلك الآثار من أن الشيطان مع الفذ أو الواحد وهو من الاثنين أبعد وقد أوضحنا بما لا إشكال فيه أنه عليه السلام لم يرد بذلك الدين بما لو أوردنا آنفا من النصوص وببرهان آخر وهو قوله وهو من الاثنين أبعد فلو أراد الدين لكان المنفرد بقوله مصاحبا للشيطان فإن استضاف إليه آخر بعد عنه الشيطان فعاد الباطل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 حقا بدخول إنسان فيه وهذا باطل متيقن ليست هذه صفة الدين بل الباطل باطل وإن دخل فيه آلاف فصح بلا شك أنه لم يرد الدين ولا عموم التوحيد بكل حال فقد صح أنه إنما عنى خاصا من الأحوال بلا شك فإذا ذلك كذلك فلا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه أراد حال كذلك إلا بنص صحيح عنه بذلك وإن الناسب إليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقل كاذب عليه وقد أخبر عليه السلام أنه من كذب عليه فليتبوأ مقعده من النار فإذا كان الأمر كما قلنا يقينا فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي أن يسافر المرء وحده وفي تلك الأخبار أنفسها لا ينفرد رجل مع امرأة فإن الشيطان ثالثهما فنحن على يقين من أنه ههنا نهي عن الوحدة وأن الشيطان ههنا مع الواحد فإن كان اثنين فقد خرج عن النهي وبعد الشيطان عنهما فبطل التعلق بتلك الآثار فيما ذهب إليه من ذهب وأن خلاف الواحد لا يعد خلافا واعلموا أنه لا يمكن البتة للحنفيين ولا المالكيين ولا الشافعيين أن يحتجوا بشيء من ذلك الأثر لأن خلاف الواحد عندهم خلاف إلا من شذ منهم من مذاهب أصحابه وقد قلنا إننا أخرجنا لكل واحد من أبي بكر ومالك والشافعي مئين من المسائل انفرد كل واحد منهم بقوله فيها عن أن يعرف أحد قبله قاله بذلك القول وبرهان ضروري أيضا هو أنه قد بينا أن له لو صح ذلك القول عن النبي صلى الله عليه وسلم لعلمنا أنه لم يرد بذلك الدين أصلا لأن اليهود والنصارى والمجوس والملحدين ثم الرافضة والمعتزلة والمرجئة والخوارج جماعات عظيمة فالشيطان بعيد عنهم ومجانب لهم لأنهم أكثر من واحد يأبى الله تعالى هذا وتالله ما عش الشيطان ولا بحبوحته إلا فيهم وبلا شك أن أهل الباطل كلما كثروا فإن الشيطان أقوى فيهم منه مع المنفرد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا مؤمل بن إسماعيل البصري نا سفيان الثوري عن عبد الملك بن أبجر عن طلحة بن مصرف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ربع السودان من لا يلبس الثياب أكثر من جميع الناس فصح بكل هذا يقينا لا مجال للشك فيه أنه لا يرد قط بذلك الدين وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى في تلك الأخبار على أصحابه وعلى قرن التابعين ثم على القرن الثالث فإذا أثنى عليهم فهم الجماعة التي لا ينبغي أن تخالف وكل من خالفهم فهو أهل الباطل ولو كانوا أهل الأرض تلك القرون الثلاثة هي التي لم تقلد أحدا وإنما كانوا يطلبون القرآن والسنن فنحن معهم والحمد لله رب العالمين وكل من قلد إنسانا بعينه فقد خالف الجماعة والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وقد شغب بعضهم بأن قال لما أجمع نظراء هذا الواحد وعلمنا أنهم مؤمنون يقينا بالجملة وأنهم من الأمة بلا شك ولم نقطع هذا الواحد المخالف لهم بأنه من الأمة وكان واجبا علينا اتباع من نوقن أنهم من الأمة دون من لا نوقن أنه منها قال أبو محمد وهذا خطأ لأن الله تعالى أمرنا عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ومخالفة الواحد تنازع في المشاهدة والعيان ولم يقل تعالى فردوه إلى الأكثر ولا إلى من لم يخالفهم إلا واحد فصار من رد إلى غير القرآن والسنة عاصيا لله عز وجل مخالفا لأمره وقد حصل لذلك الواحد من ظاهر الإسلام في الحكم كالذي لكل واحد من مخالفيه ولا فرق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 قال أبو محمد واحتجوا أيضا بما رويناه من طريق ابن وهب أخبرني أبو فهد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبع الأقلون العلماء الأكثرين قال أبو محمد وهذا مرسل لا خير فيه وباطل بلا شك أول ذلك أنه محال وهو عليه السلام لا يأمر بالمحال لأنه لا يمكن أن يتبع الأقل والأكثر إلا بعد إمكان عد جميعهم وقد بينا أن عد جميعهم لا يمكن البتة بوجه من الوجوه ولا يقدر عليه إلا الخالق وحده لا شريك له ووجه آخر وهو أن الصحابة رضوان الله عنهم قد أصفقوا أثر موت النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يقاتل أهل الردة ولا ينفذ بعث أسامة بن زيد وخالفهم أبو بكر وحده فكان هو المحق وكانوا على الخطأ فإن قالوا قد رجعوا إلى قوله قلنا نعم وهذه حجتنا وإنما سألناكم عن الحال قبل أن يرجعوا إلى قول أبي بكر في ذلك وقد شغب بعضهم بما روي من أن الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب قلنا إنما هذا في نص الخبر نفسه في السفر فقط وإلا فالمصلي النافلة وحده على قولهم شيطان ومصلي الفريضة مع آخر شيطانان وفي هذا ما فيه نعوذ بالله العظيم من البلاء ثم نسألكم هل ذلك الواحد عندكم مخالف للإجماع أم لا فإن قالوا نعم قلنا لهم ومخالف الإجماع عندكم كافر فمن قولهم نعم قلنا لهم فعلى هذا فابن عباس كافر وزيد بن ثابت عندكم كافر إذ أقررتم أنهما خالفا الإجماع وبالله إن نسب ذلك إليهما فهو والله أحق منهما بل هما المؤمنان الفاضلان رضي الله عنهما وإن أبوا من تكفير من خالف هذا النوع من الإجماع تناقضوا وظهر فساد قولهم وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد أخبرنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 البلخي حدثنا الفريرى نا البخاري نا عبد العزيز بن عبد الله نا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن الأعرج عن أبي هريرة قال إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة ولو آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو {إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون * إلا لذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} إلى قوله {إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون * إلا لذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم} إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق وإن إخواننا من الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون قال أبو محمد ففي هذا أن الواحد قد يكون عنده من السنن ما ليس عند الجماعة وإذا كان عنده من السنة ما ليس عند غيره فهو المصيب في فتياه بهذا دون غيره قال أبو محمد وبالعيان ندري أن المسلمين أقل من غيرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنتم في الأمم قبلكم إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود وذكر عليه السلام الصلاة والسلام أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة ثم بالمشاهدة ندري أن الصالحين والعلماء أقل من الطالحين والجهال وأن هذين الصنفين هم الأكثر والجمهور وبالمشاهدة ندري أن الزكي من العلماء هم أقل منهم بخلاف قول المخالف وقد ذكر في باب إبطال التقليد قول ابن مسعود لا يقول أحدكم أنا مع الناس وذكرنا قبل هذا قول حذيفة كيف أنت إذا سلك القرآن طريقا وسلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 الناس طريقا آخر وبينا قبل وبعد أن العرض إنما هو اتباع القرآن وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا معنى لقول أحد دون ذلك كثر القائلون به أو قلوا وهذا باب ينبغي أن يتقى فقد عظم الضلال به وكثر الهالكون فيه ونعوذ بالله العظيم من البلاء قال أبو محمد وكلامنا هذا كله تطوع منا وإلا فلو اكتفينا من كل ذلك بما نذكره الآن إن شاء الله تعالى وهو أن نقول لهم إن كل من ادعى في أي قولة كانت لا نحاشي قولة من الأقوال أن العلماء كلهم أجمعوا عليها إلا واحدا خالفهم فقط أو إلا اثنين أو إلا ثلاثة أو أي عدد ذكروا فإنه كذاب مفتر آفك قليل الحياء لأنه لا سبيل بوجه من الوجوه إلى معرفة ذلك يقينا ولا إلى القطع به أصلا لما قدمنا من تعذر إحصاء عدد المفتين من المسلمين فوضح أن هذه مسألة فارغة ولا حجة للاشتغال بها أو كثرة من ضل بها فصل في قول من قال قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل قال أبو محمد في الباب الذي قبل هذا نقض هذه المقالة وفيه ذكرنا كل ما يمكن أن يشغبوا به فأغنى عن إعادته إلا أن هنا سؤالا رائدا وهو أن نقول لهم قلتم المحال وأتيتم في دينكم الباطل والذي لا يمكن وجوده وذلك إلى أنه لا سبيل إلى توفية حكمهم هذا حقه إلا إحصاء عدد جميع من تكلم في تلك المسألة من صاحب وتابع فمن بعدهم ثم يعرف الأثر ولو بواحد وهذا مع أنه محال فهو حمق وقول بلا برهان وأيضا فما الفرق بينكم وبين من قال قول الطائفة التي هي أفضل وأشهر في العلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 أولى وإن كانوا أقل عددا فحصل التعارض وبطل القولان لأنهم بلا دليل وبالله تعالى التوفيق فصل في إبطال قول من قال الإجماع هو إجماع أهل المدينة قال أبو محمد هذا قول لهج به المالكيون قديما وحديثا وهو في غاية الفساد واحتجوا في ذلك بأخبار منها صحاح ادعوا فيها أنها تدل على أن المدينة أفضل البلاد ومنها مكذوب موضوع في رواية محمد بن الحسن بن زبالة وغيره ليس هذا مكان ذكرها لأن كلامنا في هذا الكتاب إنما هو على الأصول الجامعة لقضايا الأحكام لا لبيان أفضل البلاد وقد تقصينا تلك الأخبار في كتابنا المعروف بالإيصال في آخر كتاب الحج منه وتكلمنا على بيان سقوط ما سقط منها ووجه ما صح منها بغاية البيان والحمد لله رب العالمين وبجمع ذلك أنهم قالوا المدينة مهبط الوحي ودار الهجرة ومجتمع الصحابة ومحل سكنى النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامها فأهلها أعلم بذلك ممن سواهم وهم شهداء آخر العمل من النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا ما نسخ وما لم ينسخ ثم اختلفوا فقالت طائفة منهم إنما إجماعهم إجماع وحجة فيما كان من جهة النقل فقط وقالت طائفة منهم إجماعهم إجماع وحجة من جهة النقل كان أو من جهة الاجتهاد لأنهم أعلم بالنصوص التي منها يستنبط وعليها يقاس فإذا هم أعلم بذلك فاستنباطهم وقياسهم أصح من قياس غيرهم واستنباط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 غيرهم وقالوا من المحال أن يخفى حكم النبي صلى الله عليه وسلم على الأكثر وهم الذين بقوا بالمدينة ويعرفه الأقل وهم الخارجون عن المدينة مع شغلهم بالجهاد وذكروا قول عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم إذ أراد أن يقوم بالموسم الذي بلغه من قول القائل لو قد مات عمر لقد بايعنا فلانا فقال عمر لأقومن بالعشية فلأحذرن الناس من هؤلاء الرهط يريدون يغصبونهم فقال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس ويغلبون على مجلسك فأخاف ألا ينزلوها على وجهها فيطيروا بها كل مطير فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلو بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ويحفظون مقالتك وينزلوها على وجهها نا بهذا عبد الرحمن بن عبد الله نا إبراهيم بن أحمد حدثنا الفربري نا البخاري نا موسى بن إسماعيل نا عبد الواحد نا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عتبة قال حدثني ابن عباس قال قال لي عبد الرحمن بن عوف لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل فقال له إن فلانا يقول لو قد مات عمر فبايعنا فلانا ثم ذكر نصه كما أوردنا قال أبو محمد هذا كل ما شغبوا به وكله لا حجة لهم في شيء منه على ما تبين إن شاء الله عز وجل أما دعواهم أن المدينة أفضل البلاد فدعوى قد بينا إبطالها في غير هذا المكان وبينا أن مكة أفضل البلاد بنص القرآن والسنن الثابتة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وليس هذا مكان الكلام في ذلك لكن نقول لهم هبكم أنه كما تقولون وليس كذلك فأي برهان في كونها أفضل البلاد على أن إجماع أهلها هو الإجماع ألا يستحي من يدري أن كلامه مكتوب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وأنه محاسب به بين يدي الله عز وجل من أن يموه هذا التمويه البارد ونحن نقول إن مكة أفضل البلاد وليس ذلك بموجب اتباع أهلها دون غيرهم ولا أن إجماعهم دون إجماع غيرهم ولا أنهم حجة على غيرهم إذ ليس فضل البقعة موجبا لشيء من ذلك وأيضا فإنه لا يختلف مسلمان في أنه قد كان في المدينة منافقون وهم شر الخلق قال تعالى {وممن حولكم من لأعراب منافقون ومن أهل لمدينة مردوا على لنفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وقال تعالى {إن لمنافقين في لدرك لأسفل من لنار ولن تجد لهم نصيرا} وكان فيها فساق كما في سائر البلاد وزناة وكذابون وشربة خمر وقذفة كما في سائر البلاد ولا فرق وأهلها اليوم وإنا لله وإنا إليه راجعون غلاة الروافض الكفرة أفترون لهؤلاء فضلا يوجب اتباعهم من أجل سكناهم المدينة فمن قولهم لا لكن إنما توجب الحجة بالفضلاء من أهل المدينة قلنا لهم ومن أين خصصتم فضلاء المدينة دون فضلاء غيرهم من البلاد وهذا ما لا سبيل إلى وجود برهان على صحته أبدا وأيضا فالمدينة فضلها باق بحسبه كما كان لم يتغير ولايتغير أبدا وأهلها أفسق الناس فقد بطل أن تكون للبقعة حكم في وجوب اتباع أهلها وصح أن الفاضل فاضل حيث كان والفاسق فاسق حيث كان وأما قولهم إن أهل المدينة أعلم بأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن سواهم فهو كذب وباطل وإنما الحق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم العالمون بأحكامه صلى الله عليه وسلم سواء بقي منهم من بقي بالمدينة أو خرج منهم من خرج لم يزد الباقي بالمدينة بقاؤه فيها درجة في علمه وفضله ولا حظ الخارج منهم عن المدينة خروجه عنها درجة من علمه وفضله وأما قولهم إنهم شهدوا آخر حكمه صلى الله عليه وسلم وعلموا ما نسخ مما لم ينسخ فتمويه فاحش وكذب ظاهر بل الخارجون من الصحابة عن المدينة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 شهدوا من ذلك كالذي شهده المقيم بها منهم سواء كعلي وابن مسعود وأنس وغيرهم ولا فرق والكذب عار في الدنيا ونار في الآخرة فظهر فساد كل ما موهوا به وبنوه على هذا الأصل الفاسد وأسموه بهذا الأساس المنهار وأما قولهم إن من المحال أن يخفى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأكثر وهم الباقون بالمدينة وبعلمه الأقل وهم الخارجون عن المدينة فتمويه ظاهر وشغب غث وإنما كان ممكن أن يموهوا بذلك لو وجدوا مسألة رويت من طريق كل من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم وأفتى بها كل من بقي بالمدينة من الصحابة وأما ولا يجدوا هذا أبدا ولا في مسألة واحدة وإنما وجد فتيا الواحد والاثنين والثلاثة ونحو ذلك وروايتهم كذلك فممكن أن يغيب حكم النبي صلى الله عليه وسلم عن النفر من الصحابة وبعلمه الواحد والأكثر منهم وقد يمكن أن يكون الذي حضر ذلك الحكم يخرج عن المدينة ويمكن أن يبقى بها ويمكن خلاف ذلك أيضا ولا فرق وإنما تفرق الصحابة في البلاد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأما قول عبد الرحمن لعمر الذي ذكرنا في تأخير الأمر حتى يقدم المدينة فيخلو بوجوه الناس وأهل الفقه وأهل العلم فوالله ما أدرك مالك من هؤلائك أحدا وإنما أخذ عنهم كما فعل أهل الأمصار سواء ولا فرق وأيضا فما كل قول قاله عبد الرحمن ووافقه عليه عمر رضي الله عنه حجة وقد علم جميع أهل الإسلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخطب الخطبة التي عهد فيها إلى الناس وجعلها كالوداع لهم وقررهم ألا هل بلغت وأشهد الله تعالى عليهم إلا في الموسم أحفل ما كان في الأعراب وغيرهم ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من رأي رآه عبد الرحمن وعمر رضي الله عنهما وبرهان ذلك أنه لو سلك الأئمة هذا الرأي ما تعلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 جاهل شيئا أبدا فصح أنه لا بد من مخاطبة الرعاع والجهال بما يلزم علمه والعجب كله أنهم يموهون إجماع أهل المدينة ثم لا يحصلون إلا على رأي مالك وحده ولا يأخذون بسواه وهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة كعمر وابن عمر وعائشة وعثمان ثم سعيد بن المسيب والقاسم وغيرهم ومن عجائب الدنيا التي لا نظير لها أن يتهالكوا على تقاليد رأي ابن القاسم المصري وسحنون التنوفي من إفريقية لأن ابن القاسم أخذ عن مالك ولأن سحنون أخذ عن ابن القاسم المصري عن مالك ولا يرون لأخذ مسروق والأسود وعلقمة عن عائشة أم المؤمنين وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما وجها ولا معنى ثم لا يستحيون مع هذا من أهل التمويه بأهل المدينة وإنما ذكرنا من أخذ عن هؤلاء المدنيين تنكيتا لهم وكشفا لتناقضهم وهم أترك خلق الله لإجماع أهل المدينة أجمعوا كلهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على إعطاء أموالهم التي قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مفتتحي خيبر إلى اليهود على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم يقرونهم ما أقرهم الله تعالى ويخرجونهم متى شاؤوا وبقي كذلك إلى أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة أربعة أعوام ثم مدة أبي بكر رضي الله عنه إلى آخر عام من خلافة عمر رضي الله عنه فقال المدعون إنهم على مذهب أهل المدينة هذا عقد فاسد وعمل باطل مفسوخ تقليدا لخطأ مالك حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا وهب بن ميسرة نا ابن وضاح بن يحيى نا مالك عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا محمد بن حاتم نا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال نحرنا يومئذ تسعين بدنة اشتركنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 كل سبعة في بدنة فهذا إجماع أهل المدينة حقا وعملهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة حقا فقال هؤلاء المنتسبون إلى اتباع أهل المدينة هذا عمل لا يجوز ولا يجزىء تقليدا لخطأ مالك وخلافا لأهل المدينة وتمويها برواية عن ابن عمر قد جاء عنه خلافها وتركوا عمل أهل المدينة كل من حضر منهم مع عمر في سجوده في {إذا لسمآء نشقت} وسجودهم مع عمر إذ قرأ السجدة وهو يخطب يوم الجمعة فنزل عن المنبر فسجد وسجدوا معه ثم رجع إلى خطبته فقال هؤلاء المنتمون إلى اتباع أهل المدينة هذا لا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك ولا سبيل إلى أن يوجد عمل لأهل المدينة أعم من هذا وتركوا إجماع أهل المدينة إذ صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر صلاة صلاها بالناس فقالوا هذه صلاة فاسدة تقليدا لخطأ مالك في ذلك والعجب احتجاجهم كلهم في ترك إجماع أهل المدينة على هذا وعملهم برواية الجعفي الكذاب الكوفي عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن أحد بعدي جالسا وهذه رواية ليس في رواية أهل المدينة أنتن منها فهل في العجب أكثر من هذا وهم يقولون إن إجماع أهل الكوفة هو الإجماع فإن روايات أهل الكوفة الصحاح مدخولة حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرنا أبو أيوب بن محمد الوزان نا عمرو بن أيوب نا أفلح بن حميد نا محمد بن حميد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن سليمان بن عبد الملك عام حج جمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 ناسا من أهل العلم فيهم عمر بن عبد وخارجة بن زيد بن ثابت والقاسم بن محمد وسالم وعبد الله ابنا عبد الله بن عمر وابن شهاب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة فكلهم أمره بالطيب وقال القاسم أخبرتني عائشة أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله حين حل قبل أن يطوف بالبيت ولم يختلف عليه أحد منهم إلا أن عبد الله بن عبد الله قال كان عبد الله رجلا حادا محدا كان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض قبل أن يأتي منزله قال سالم صدق فهذه فتيا أهل المدينة وفقهائها عن سلفهم فقال هؤلاء المدعون إنهم يتبعون أهل المدينة لا يجوز ذلك تقليدا لخطأ مالك واحتجوا برواية كوفية ليست موافقة لقولهم أيضا لكن موهوا بإيرادها وذكر قيس بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير وآل أبي بكر وآل عمر وآل علي وعامل عمر بن الخطاب الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر فله الشطر وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا وكذا ورأى ذلك الزهري قال أبو محمد فهل يكون عمل يمكن أن يقال إنه إجماع أظهر من هذا أو أفشى منه فقال هؤلاء المموهون باتباع أهل المدينة هذا لا يحل ولا يجوز تقليدا لخطأ مالك في ذلك والعجب أن مالكا لم يدع إجماع أهل المدينة إلا في نيف وأربعين مسألة فاستحل هؤلاء القدر بنفحة وقمحوا جميع آرائه في إجماع أهل المدينة وإنا لله وإنا إليه راجعون على فشو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 الكذب واختداع أهل الغفلة والاغترار بالباطل ثم إن المسائل المذكورة التي ذكر مالك أنها إجماع أهل المدينة تنقسم قسمين أحدهما لا يعلم فيه خلاف من أحد من الناس في سائر الأمصار وهو الأقل والثاني قد وجدنا فيه الخلاف كما هو موجود في غير المدينة قال أبو محمد ونقول لهم لا يخلو ما ادعيتموه من إجماع أهل المدينة من أن يكون عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يكون عن اجتهاد وقد تقدم إبطالنا لكل اجتهاد أدى إلى ما لا نص فيه أو إلى خلاف النص ثم لو صح لهم فمن أين جاز أن يكون اجتهاد أهل المدينة أولى من غيرهم والنصوص التي يقيسون عليها معروفة عند غيرهم كما هي عندهم إذ كتمانها محال غير ممكن ولا فرق بين دعواهم هذه ودعوى غيرهم أو يكون إجماعهم عن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق إلا هذا الوجه فلا يخلو ذلك التوقيف من أن يكون علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو جهلوه أو علمه من علمه من أهل المدينة سائر الناس أو كتموه فإن كان علمه الخارجون من المدينة من الصحابة أو علمه من علمه ممن بقي في المدينة من سائر الناس فقد استوى في العلم به أهل المدينة وغيرهم ضرورة وإن كان من بقي في المدينة كتمه عن سائر أهل البلاد فهذا محال غير ممكن لأن كل سر جاوز اثنين شائع فكيف ما علمه جميع أهل المدينة بزعمهم وحتى لو صح أنهم كتموه لسقطت عدالتهم قال الله عز وجل {إن لذين يكتمون مآ أنزلنا من لبينات ولهدى من بعد ما بيناه للناس في لكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون} ولقد أعاذهم الله من هذا فبطل ضرورة ما ادعوه من إجماع أهل المدينة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 وأيضا فإن الإجماع لا يصح نقله إلا بإجماع مثله أو بنقل تواتر وهم لا يرجعون في دعواهم الكاذبة لإجماع أهل المدينة إلا إلى إنسان واحد وهو مالك فهو نقل واحد كنقل غيره من العلماء ولا فرق وأيضا فيقال لهم أخبرونا هل خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغ أحكام الدين أو بعضها أو حكم واحد منها المقيمين بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم عمن علم الله عز وجل أنهم سيخرجون عن المدينة فإن قالوا نعم كفروا وكذبوا إذ جعلوه صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الدين عمن يلزمه من علم الديانة كالذي يلزم غيره وصاروا إلى أقوال الروافض من كثب وإن قالوا لا ثبت أن السنن هي بيان الدين في غير المدينة كما هي في المدينة ضرورة ولا فرق وأيضا فإن من بقي بالمدينة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجاهدون ويحجون ومن خرج عن المدينة منهم كانوا يفدون على عمر وعثمان فقد وجب التداخل بينهم وهكذا صحت الآثار بنقل التابعين من سائر الأمصار عن أهل المدينة وبنقل التابعين من أهل المدينة ومن بعدهم عن أهل الأمصار فقد صحب علقمة ومسروق عمر وعثمان وعائشة أم المؤمنين واختصوا بهم وأكثروا الأخذ عنهم وكذلك صحب عطاء عائشة أم المؤمنين وصحب الشعبي وابن سيرين بن عمر وصحب قتادة بن المسيب وأخذ الزهري عن أنس وأخذ مالك عن أيوب وحميد المكي وأخذ عبيد الله بن عمر عن ثابت البناني وأخذ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس وأخبرني يوسف بن عبد الله النمري قال نا عبد الوارث بن حسرون نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير بن حرب نا أحمد بن حنبل نا عبد الرحمن بن مهدي سمعت مالك بن أنس يقول قال سعيد بن المسيب إن كنت لأسير الأيام والليالي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 في طلب الحديث الواحد فاستوى الأمر في المدينة وغيرها بلا شك وأيضا فنقول لهم هل تعمد عمر وعثمان رضي الله عنهما أن يبعثا من يعلم أهل البصرة والكوفة والشام ومصر دينهم وأحكامهم أم أغفلا ذلك وضيعاه وعمالهما يترددون على هذه البلاد ووفود هذه البلاد يفدون عليهما كل عام أم لم يتركا ذلك بل علماهم كل ما يجب علمه من الدين ولا بد من أحد هذه الأقسام فإن قالوا تعمدنا كتمان الدين عنهم أو ضيعوا ذلك كذبوا جهارا ونسبوا الخليفتين الفاضلين إلى ما قد نزههما الله تعالى عنه مما هو أعظم الجور وأشد الفسق بل هو الانسلاخ من الإسلام وإن قالوا ما تركا ذلك علماهم كل ما يجب علمه والعمل به من الدين قلنا صدقتم وقد ثبت بهذا أن أهل المدينة وغيرهم سواء في المعرفة والعلم والعدالة وظهر فساد دعواهم الكاذبة في دعوى إجماع أهل المدينة أنبأنا محمد بن سعيد بن بنات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة نا أبو إسحاق السبيعي قال سمعت حارثة بن مضرب قال قرأت كتاب عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة إني بعثت عليكم عمارا أميرا وعبد الله معلما ووزيرا وهما من النجباء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر فخذوا عنهما واقتدوا بهما فإنني آثرتكم بعبد الله على نفسي إثرة حدثني أحمد بن عمر بن أنس العدوي نا عبد الله بن الحسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن محمد بن الجهم نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا أحمد بن يونس نا قيس بن أشعث عن الشعبي قال ما جاءك عن عمر فخذ به فإنه كان إذا أراد أمرا استشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإذا أجمعوا على شيء كتب به فهذا تعليم عمر ما عنده من العلم لأهل الأمصار فصار الأمر في المدينة وغيرها سواء وأيضا فنقول لهم إذا كان إجماع أهل المدينة عندكم هو الإجماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 ومن قولكم إن من خالف الإجماع كافر فتكفرون كل من خالف إجماع أهل المدينة بزعمكم أم لا فإن قالوا نعم لزمهم تكفير ابن مسعود وعلي وكل من روي عنه فتيا مخالفة لما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من صاحب أو تابع فمن دونهم وفي هذا ما فيه وإن أبوا من ذلك قلنا لهم كذبتم في الدعوى إن إجماعهم هو الإجماع فارجعوا عن ذلك واقتصروا على أن تقولوا صوابا أو حقا ونحو ذلك قال أبو محمد وأيضا فلا شيء أظهر ولا أشهر ولا أعلن ولا أبين ولا أفشى من الأذان الذي هو كل يوم وليلة خمس مرات برفع الأصوات في مساجد الجماعات في الصوامع المشرفات لا يبقى رجل ولا امرأة ولا صبي ولا عالم ولا جاهل إلا تكرر على سمعه كذلك ولا يستعمله المسافرون كما يستعمله الحاضرون ولا يطول به العهد فينسى وفي المدينة فيه من الاختلاف كالذي خارج المدينة صح عن ابن عمر أن الأذان وتر وروي عنه وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قولهما في الأذان حي على خير العمل نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن منهال نا حماد بن سلمة نا أيوب السختياني وقتادة كلاهما عن محمد بن سيرين عن ابن عمر أنه مر على مؤذن فقال له أوتر أذانك نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الديري نا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول الأذان ثلاثا ثلاثا وبه إلى عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل عن ابن عمر أنه كان إذا قال في الأذان حي على الفلاح قال حي على خير العمل ومن ادعى أن الصحابة في الكوفة والبصرة ومكة بدلوا الأذان فلكافر مثله أن يدعي ذلك على الصحابة بالمدينة وكلاهما كاذب ملعون وحق صحابة المدينة والكوفة والبصرة جائز واجب فرض سواء على كل مسلم ولا فرق من ادعى ذلك على التابعين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 بالكوفة والبصرة فالفاسق مثله أن يدعي على التابعين بالمدينة إذ لا فرق بينهم ومن ادعى ذلك على الولاة بالبصرة والكوفة فلغيره أن ينسب مثل ذلك إلى الولاة بالمدينة فقد وليها من الفساق كالذين ولوا البصرة والكوفة كالحجاج وخالد القسري وطارق وعثمان بن حيان المري وكلهم نافذ أمره في الدماء والأموال والأحكام وموضعهم من الفسق بالدين بحيث لا يخفى فهذا أصل عظيم ثم الزكاة فالزهري يراها في الخضر ومالك لا يراها وابن عمر لا يرى الزكاة مما أنبتت الأرض إلا في البر والشعير والتمر والزيت والسلت ومالك يخالفه ولا شيء بعد الأذان بالصلاة أشهر من عمل الزكاة وابن عمر لا يجيز في زكاة الفطر إلا التمر والشعير ومالك يخالفه وقال ابن عمر وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وأبو سليمان وعبد الرحمن بن عوف والزهري وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عدل الناس بصاع شعير في صدقة الفطر مدين من بر وروي ذلك أيضا عن عمر وعثمان وأسماء بنت أبي بكر فخالفهم مالك فصح أنهم أترك الناس لعمل أهل المدينة وقال بعضهم من خرج عن المدينة اشتغل بالجهاد قلنا لا يشغل الجهاد عن تعليم الدين فقولكم هذا مجاهدة بالباطل وقالوا إن كان ابن مسعود إذا أفتى بفتيا أتى المدينة فيسأل عنها فإن أفتى بخلاف فتياه رجع إلى الكوفة ففسخ ما عمل قال أبو محمد وهذا كذب إنما جاء أنه أفتى بمسألتين فقط فأمر عمر بفسخ ذلك وعمر الخليفة فلم يمكنه خلافه نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد قال نا إسماعيل بن إسحاق نا حجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عمرو الشيباني أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 رجلا سأل ابن مسعود عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها قال نعم فتزوجها فولدت له فقدم على عمر فسأله فقال فرق بينهما قال ابن مسعود إنها ولدت قال عمر وإن ولدت عشرا ففرق بينهما قال أبو محمد والخلاف في هذا موجود بالمدينة نا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عنان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال إن طلق الابنة قبل أن يدخل بها تزوج أمها وإن ماتت موتا لم يتزوج أمها نا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا أحمد بن دحيم نا إبراهيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا إسماعيل بن أبي أويس نا عبد الرحمن بن أبي الموال عن عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة أن رجلا من بني ليث يقال له الأجدع تزوج جارية شابة فكان يأتيها فيتحدث مع أمها فهلكت امرأته ولم يدخل بها فخطب أمها وسأل عن ذلك ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمنهم من رخص له ومنهم من نهاه قال أبو محمد هذا والمسألة المذكورة منصوصة في القرآن الذي هو عند جميع الناس كما هو عند أهل المدينة لا يمكن أن يدعوا فيها توفيقا حتى خفي عمن هو خارج المدينة لكن من أباح ذلك حمل الأم على حكم الربيبة ومن منع أخذ بظاهر الآية وعمومها وهو الحق فلا مزية ههنا لأهل المدينة على غيرهم أصلا وقد صح أن عمر استفتى ابن مسعود بالبتة وأخذ بقوله وهذا مدني إمام أخذ بقول كوفي وذكر غريبة تضحك الثكالى ويدل على ضعف دين المموه وقلة عقله وهي أنهم ذكروا خبر ابن عمر إذ رأى سعدا وهو يمسح فلم يأخذ بعمله حتى رجع إلى المدينة فسأل أباه قال أبو محمد وهذا عليهم لا لهم لأن ابن عمر مدني وقد خفي عليه حكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 المسح وسعد مدني فلم يأخذ ابن عمر بفعله إلا أن يقولوا إنه لا يجوز أن يؤخذ بقول مدني إلا إذا كان بين جدران المدينة فهذا حمق لا يقوله من لا مسكة له وموهوا بما أنبأنا عبد الله بن الربيع قال نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن المثنى نا خالد بن الحارث نا حميد عن الحسن قال قال ابن عباس وهو أمير البصرة في آخر الشهر أخرجوا زكاة صومكم فنظر الناس بعضهم إلى بعض فقال من هنا من أهل المدينة قوموا فعلموا إخوانكم فإنهم لا يعلمون أن هذه الزكاة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل ذكر أو أنثى حر أو مملوك صاعا من شعير أو تمر أو نصف صاع من قمح قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه أولها أنه خبر ساقط منقطع أخذه الحسن بلا شك من غير ثقة ذلك لأن الحسن لم يكن بالبصرة أيام ابن عباس أميرا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وإنما نزلها الحسن أيام معاوية لا خلاف في هذا وثانيها أن البصرة بناها عتبة بن غزوان المازني من بني مازن بن منصور أخي سليم بن منصور وهذا بدري من أكابر المهاجرين الأولين الممتحنين في الله تعالى في أول الإسلام سنة أربع عشرة من الهجرة في صدر أيام عمر رضي الله عنه وإنما وليها ابن عباس لعلي في آخر سنة ست وثلاثين بعد يوم الجمل بعد اثنتين وعشرين سنة من بنيانها وسكنها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم ووليها أبو موسى الأشعري بعد عتبة بن غزوان والمغيرة بن شعبة وغيرهما أيام عمر وطول أيام عثمان رضي الله عنهما وولي قبض زكاتها أنس بن مالك في تلك الأيام فكيف يدخل في عقل من له مسكة عقل أن مصرا يسكنه عشرات الألوف من المسلمين منهم مئون من الصحابة رضي الله عنهم تداوله الصحابة من قبل عمر وعثمان فلم يكن فيهم أحد يعلمهم زكاة الفطر التي يعلمها النساء والصبيان في كل مدينة وكل قرية لتكررها في كل عام في العيد إثر رمضان حتى بقوا المدة المذكورة ليس فيهم أحد علم ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وأهل المدينة يعرفونها فكيف يكتم مثل هذا والوفود من البصرة يفدون على الخليفتين بالمدينة وتالله إن هذه لمصيبة على عمر وعثمان وأهل المدينة أعظم منها على أهل البصرة إذ تعمدوا ترك تعليمهم أو ضيعوا ذلك وكل ذلك باطل لا يمكن البتة وكذب لا خفاء به ومحال ممتنع لما ذكرنا وثالثها أن المحتجين بهذا الخبر وهم المقلدون لمالك أول مبطل لحكم هذا الخبر فلا يرون ما فيه من نصف صاع قمح مكان صاع شعير في زكاة الفطر أفليس من الرزايا والفضائح والبلايا والقبائح من يموه بخبر يحتج به فيما ليس فيه منه شيء على من لا يراه حجة لو صح لأنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم المحتج به أول مخالف لما احتج به وأول مبطل ومكذب لما فيه مما لو صح ذلك الخبر لما حل لأحد خلافه لأنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله العظيم من مثل هذا المقال في الدنيا والآخرة وإذ قد صححوا ههنا رواية الحسن عن ابن عباس فقد نا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الرقي نا أحمد بن عروة بن عبد الخالق البزار نا محمد بن المثنى نا يزيد بن هارون نا حميد الطويل عن الحسن البصري قال خطبنا ابن عباس بالبصرة فقال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد صاع من تمر أو صاع من شعير أو بنصف صاع من بر ومن أتى بدقيق قبل منه ومن أتى بسويق قبل منه وهم أول عاص لما في هذا الخبر فيا للناس مرة يصححون رواية الحسن عن ابن عباس إذا ظنوا أنهم يموهون به في إثبات باطل دعواهم ومرة يبطلونهم ويكذبونها إذا خالفت رأي مالك فيزورون شاهدهم ويكذبون أنفسهم ألا ذلك هو الضلال المبين قال أبو محمد وهذا خبر رواه ابن سيرين وأبو رجاء عن ابن عباس وهما حاضران لولايته فلم يذكروا فيه ما ذكر ابن عباس من القول يا أهل المدينة قوموا علموا إخوانكم فصح أنها زيادة من لا خير فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 قال أبو محمد فبطل كل ما موهوا به ونحن ولله الحمد على ثقة من أن الله لو أراد أن يجعل إجماع أهل المدينة حجة لما أغفل أن يعين ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا لم يفعل فنحن نثبت بأنه لم يجعل قط إجماعهم حجة على أحد من خلقه هذا لو صح وجود إجماع لهم في شيء من الأحكام فكيف ولا سبيل إلى وجود ذلك أبدا إلا حيث يجمع سائر أهل الإسلام عليه أو حيث نقل إجماعهم كلهم ورضاهم بذلك الحكم وتسليمهم لهم وإلا فدعوى إجماعهم كذب بحت على جميعهم ونعوذ بالله العظيم من مثل هذا قال أبو محمد وهذا مالك يقول في موطئه الذي رويناه عنه من طرق في كتاب البيوع منه في أوله في باب ترجمته العيب في الرقيق قال مالك الأمر المجتمع عليه عندنا فيمن باع عبدا أو وليدة أو حيوانا بالبراءة فقد برىء من كل عيب إلا أن يكون علم في ذلك عيبا فكتمه فإن كان علم في ذلك عيبا فكتمه لم تنفعه تبرئته وكان ما باع مردودا عليه قال أبو محمد والذي عليه العمل عند أصحابه ومقلديه من قوله هو أن حكم الحيوان مخالف لحكم الرقيق وأن بيع البراءة لا يجوز البتة في الحيوان لكنه كالعروض لا يبرأ من عيب فيه علمه أو لم يعلمه قال أبو محمد فإذا كان عند هؤلاء المجرمين إجماع أهل المدينة إجماعا لا يحل خلافه وهذا مالك ههنا قد خالف ما ذكر أنه الأمر المجتمع عليه عندهم فلا بد ضرورة من أحد حكمين لا ثالث لهما أما إبطال تهويلهم بإجماع أهل المدينة وبخلافه وجواز مخالفته وإما أن يلحقوا بمالك الذي قلدوه دينهم ما يلحق مخالف الإجماع الذي يقر أنه إجماع وهذا صعب ممن خالف ما يقر أنه إجماع وفي هذا كفاية لمن له أدنى عقل ومن أراد الله تعالى توفيقه قال أبو محمد والقوم كما ترى يموهون بإجماع أهل المدينة فإن حقق عليهم لم يحصلوا من جميع أهل المدينة ومن إجماعهم إلا على ما انفرد به سحنون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 القيرواني وعيسى بن دينار الأندلسي عن ابن القاسم المصري عن مالك وحده من رأيه وظنه وكثير من ذلك رأي ابن القاسم واستحسانه وقياسه على أقوال مالك فاعجبوا لهذه الأمور القبيحة كيف يستحسنها ذو ورع أو من يدري أن الله سيسأله عن قوله وفعله ونعوذ بالله العظيم من الخذلان فإن موهوا بما روي من عمل قضاة المدينة الذين أدرك مالك فليعلم كل ذي فهم أن النازلة كانت تقع في المدينة وغيرها فلا يقضي فيها الأمير ولا القاضي حتى يخاطب الخليفة بالشام ثم لا ينفذ إلا من خاطبه به فإنما هي أوامر عبد الله والوليد وسليمان ويزيد وهشام والوليد بحسبكم والقليل من ذلك من عهد عمر بن عبد العزيز أقصر مدته هذا أمر مشهور في كتب الأحاديث فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة قال أبو محمد إنما نتكلم بما يمكن أن يموه قائله بشغب يخفى على الجهال أو فيما يمكن أن يخفى وجه الحق فيه على بعض أهل العلم لخفاء الدلائل أو لتعارضها وإما ما لا شبه فيه غير الأحموقة والعصبية فلا ولا فرق بين إجماع أهل الكوفة وإجماع أهل البصرة وإجماع أهل الفسطاط هذا إن أرادوا إجماع من كان بها من الصحابة أو من بعدهم من التابعين أو على أن يسمح لهم في العصر الثالث وأما إن نزلنا عن ذلك فلا فرق بين أهل الكوفة وأهل أوقانية وأهل أوطانية وفساونسا ولو أن امرأ نصح نفسه فأقصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 عن التلبيس في الدين وإضلال المساكين المغترين وشغل نفسه بالقرآن كلام الله تعالى وبيان رسوله صلى الله عليه وسلم افترض الله تعالى علينا طاعته وترك التعصب لقول فلان وفلان كان أسلم لمعاده وأبعد له من الفضيحة في العاجلة وما توفيقنا إلا بالله تعالى فصل في إبطال قول من قال إن قول الواحد من الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع وإن ظهر خلافه في العصر الثاني قال أبو محمد قال بهذا طوائف من المالكيين والحنفيين ثم أقحم هذا الشغب معهم الشافعيون ثم اختلفوا فقالت طائفة سواء انتشر أو لم ينتشر فهو إجماع وقالت طائفة إنما يكون إجماعا إذا اشتهر وانتشر وأما إذا لم يشتهر ولا انتشر فلا يكون إجماعا وقالت طائفة إنما يكون إجماعا إذا كان من قول أحد الأئمة الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم فقط وانتشر مع ذلك وإلا فليس إجماعا وإن كان من قول غيرهم فلا يكون حجة وإن انتشر وقالت طائفة ليس شيء من ذلك إجماعا ولكنه حجة قال أبو محمد فإنما قال من قال منهم هذه الأقوال عند ظفره بشيء منها مع انقطاع الحبل بيده وعدمه شيئا ينصر به خطأه وتقليده ثم هم أترك الناس لذلك إذا خالف تقليدهم لا مؤنة عليهم في إبطال ما صححوا وتصحيح ما أبطلوا في الوقت إنما حسب أحدهم نصر المسأل بينه وبين خصمه في حينه ذلك فإذا انتقلا إلى أخرى فأخف شيء على كل واحد منهم تصحيح ما أبطل في المسألة التي انقضى الكلام وإبطال ما صحح فيها فقد ذكر الأجهري محمد بن صالح المالكي عن ابن بكير وكل واحد منهم من جملة مذهب مالك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 ومقلديه أنه كانت أصوله مبنية على فروعه إذا خرج قوله في مسألة على العموم قال من قولي العموم وإذا خرج قوله في أخرى على الخصوص قال من قولي الخصوص ولقد رأيت لعبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي في كتابه المعروف بشرح الرسالة في باب من يعتق على المرء إذا ملكه فذكر قول داود لا يعتق أحد على أحد وذكر قول أبي حنيفة يعتق كل ذي رحم محرم فقال من حجتنا على داود قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم فهو حر وهذا نص جلي ثم صار إلى قول أبي حنيفة بعد ستة أسطار فقال فإن احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من ملك ذا رحم محرم فهو حر قلنا هذا خبر لا يصح ولا أحصي كم وجدت للحنفيين والمالكيين والشافعيين تصحيح رواية ابن لهيعة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا كان فيها ما يوافق تقليدهم في مسألتهم تلك ثم ربما أتى بعدها بصفحة أو ورقة أو أوراق احتجاج خصمهم عليهم برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أو برواية ابن لهيعة فيقولون هذه صحيفة وابن لهيعة ضعيف قال أبو محمد وهذا فعل من لا يتقي الله عز وجل ومن عمله يوجب سوء الظن بباطن معتقده ونعوذ بالله من الخذلان قال الله تعالى {إنما لنسيء زيادة في لكفر يضل به لذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم لله فيحلوا ما حرم لله زين لهم سوء أعمالهم ولله لا يهدي لقوم لكافرين} وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند لله أن تقولوا ما لا تفعلون} وقال تعالى {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بلإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض لكتاب وتكفرون ببعض فما جزآء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في لحياة لدنيا ويوم لقيامة يردون إلى أشد لعذاب وما لله بغافل عما تعملون} فأنكر الله تعالى على من صحح شيئا مرة ثم أبطله أخرى مع أن أقوالهم التي ذكرنا في هذا الباب دعاوى فاسدة بلا برهان ولا استدلال أصلا إلا ما تقدم إفسادنا له من قولهم إنهم لا يقرون على باطل فقلنا لهم ومن لكم بأنهم لم ينكروا ذلك وسائر ما ذكرنا هنالك وقد كتبنا في مناقضتهم في هذا الباب وغيره كتابا ضخما تقصينا فيه عظيم تناقضهم وفاحش تضاد حجاجهم وأقوالهم ونذكر هنا إن شاء الله تعالى يسيرا دالا على الكثير إذ لو جمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 تناقضهم لأتى منه ديوان أكبر من ديواننا هذا كله نعم وقد تعدوا عقدهم الفاسد في هذا الباب إلى أن قلدوا قول صاحب قد خالفه غيره من الصحابة في قولهم ذلك أو قد صح رجوع ذلك الصاحب عن ذلك القول فاحتجوا به وادعوا إجماعا فمن ذلك احتجاج المالكيين في التحريم على الناكح جاهلا في العدة يدخل بها أن يتزوجها أبدا احتجاجا بما روي عن عمر في ذلك وقد صح عن علي خلافه وصح رجوع عمر عن القول وكتعلقهم بما روي عن عمر في امرأة المفقودة وقد خالفه عثمان وعلي في ذلك وكتعليق الحنفيين بما روي عن ابن مسعود في جعل الآبق وخالفوه في تلك القضية نفسها في تحديد المسافة وكتوريثهم المطلقة ثلاثا في المرض تعلقا بعمر وعثمان وقد خالفهما ابن عباس وابن الزبير وقد اختلف عمر وعثمان في ذلك أيضا وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر بن الخطاب وتقليد الحنفيين له فيما صح عنه من طريق الشعبي عن شريح أنه كتب إليه أن يحكم في غير الدابة بربع ثمنها وكتقليد المالكيين والحنفيين له في جلده في الخمر أربعين وخالفه الشافعيون في ذلك وقد صح عن عمر وعثمان وعلي وأبي بكر جلد أربعين في الخمر وكتقليد المالكيين والحنفيين لعائشة أم المؤمنين في ما لم يصح عنها في إنكارها بيع شيء إلى أجل ثم يبتاعه البائع له بأقل من ذلك الثمن وخالفها الشافعي في ذلك وخالفها فيه أيضا زيد بن أرقم وكتقليدهم عمر في أجل العنين وقد خالفه في ذلك علي ومعاوية والمغيرة بن شعبة وكتقليد الحنفيين والمالكيين عمر في تقويم الدية بالذهب والفضة وخالفه الشافعي وخالفه الحنفيون والمالكيون أيضا في تقويم الدية بالبقر والغنم والحلل وكتقليد المالكيين والحنفيين ما روي عن أبي بكر وعمر وعثمان في حيازة الهبات وقد خالفهم ابن مسعود وروي الخلاف في ذلك عن أبي بكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وكتقليد المالكيين والشافعيين لعمر في رد المنكوحة بالعيوب وخالفوه في الرجوع بالصداق وخالفه في ذلك علي وغيره وكخلاف المالكيين والشافعيين عمر وابن مسعود في قولهما من ملك ذار رحم محرم فهو حر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة في ذلك وكخلاف المالكيين والزبير وقدامة بن مظعون وأبا الدرداء وابن مسعود في إباحة نكاح المريض ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف وكمخالفة الحنفيين والمالكيين أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وابن الزبير وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم في القود من اللطمة وكسر الفخذ لا يعرف لهم من الصحابة مخالف كخلافهم في إضعاف القيمة في ناقة المزني ولا يعرف من الصحابة مخالف في ذلك وكخلافهم عمر في قضائه في الترقوة بحمل وفي ضلع بحمل ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة ومثل هذا لهم كثير جدا جاوز المئين من القضايا قد جمعناها والحمد لله في كتابنا الموسوم بكتاب الإعراب عن الحيرة والالتباس الموجودين في مذاهب أهل الرأي والقياس قال أبو محمد وأما قول من قال منهم إذا كان ذلك من فعل الإمام فهم أترك الناس لذلك مع تعري قولهم من الدلالة ومما حضر ذكره من ذلك احتجاجهم في جلد الشاهد بالزنى والشاهدين والثلاثة إذ لم يتموا أربعة حد القاذف احتجاجا بجلد عمر أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد بحضرة الصحابة في ذلك المقام نفسه إذ قال أبو بكرة لما تم جلده وقام أشهد أن المغيرة زنى فأراد عمر جلده فقال له علي إن جلدته فارجم المغيرة فتركه وكلهم يرى جلده ثانية إذا قالها بعد تمام جلده أفلا حياء إذ لا تقوى وهل سمع بأفحش من هذا العمل وأفصح منه ومثل هذا لهم كثيرا جدا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 واما دعواهم وقولهم في الاشتهار والانتشار فطريف جدا وإنما هم قوم أتى أسلافهم كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وعيسى بن أبان ونظرائهم وكمالك وابن وهب وسحنون وإسماعيل ونظرائهم وكالشافعي والمزني والربيع وابن شريح ونظرائهم فاحتجوا لما قاله الأول منهم بمرسل أو رواية عن صاحب نجدها في الأكثر لا تصح أو تصح ونجد فيها خلافا من صاحب آخر أو لا نجد فأشاعوها في أتباعهم فتلقاها الأتباع عنهم وتدارسوها وتهادوها بينهم وأذاعوا عند القلة الآخذة عنهم فتداولوها على ألسنتهم ومجامعهم وفي تواليفهم وفي مناظرتهم بينهم أو مع خصومهم فوسموها بالانتشار والاشتهار والتواتر ونقل الكواف وهي في أصلها هباء منبث وباطل مولد أو خامل في مبدئه وإن كان صحيحا لم يعرف منتشرا قط فهذه صفة ما تدعون فيه الانتشار والتواتر كالخبر المضاف إلى معاذ رضي الله عنه في اجتهاد الرأي فما عرفه قط أحد في عصر الصحابة ولا جاء قط عن أحد منهم أنه ذكره لا من طريق صحيحة ولا من طريق واهية ولا متصلة ولا منقطعة ولا جاء قط عن أحد التابعين أنه عرفه ولا ذكره في رواية صحيحة ولا سقيمة لا موصولة ولا مقطوعة حتى ذكره أبو عون محمد بن عبيد الله وحده وإنما أخذه عن مجهول لا يعرفه أحد عن مثله فيما ادعى وزعم ذلك المجهول أيضا فأخذه عن أبي عون فيما بلغنا رجلان فقط شعبة وأبو إسحاق الشيباني ثم اختلفوا أيضا في كافة لفظه ومعناه على أبي عون فلما ظفر القائلون بالرأي عند شعبة وثبوا عليه وطاروا به شرقا وغربا وكادوا يضربون الطبول حتى عرفه من لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة وادعوا فيه التواتر ومعاذ الله من هذا فما أصله إلا مظلم ولا مخرجه إلا واه ولا منبعثه إلا من باطل وتوليد موضوع مفتعل ممن لا يعرف عمن لم يسم ممن لم يعرف قط في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين ولا ذكره أحد منهم غير أبي عون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 بن عبيد الله الثقفي وحده كما ذكرنا فهذه صفة جمهور ما يدعون فيه التواتر والانتشار بل صفة جميعه وأتوا إلى المشهور المنتشر الفاشي فخالفوه بلا كلفة ولا مؤنة كصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا بالأصحاب وككونه صلى الله عليه وسلم إمامنا في صلاة ابتدأها أبو بكر وكالمساقاة إلى غير أجل وغير ذلك من حكم عمر في إضعاف القيمة في ناقة المزني على رقيق حاطب وإضعاف عثمان الدية على القاتل في الحرم وغير ذلك كثير جدا قال أبو محمد وفي كلامنا في الفصل الذي ذكرنا آنفا في كلامنا في الإجماع الذي أبطلنا فيه قول من قال إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع إبطال لقولهم في هذا الباب لأنه إذا بطل القول بدعوى الإجماع فيما لا يعرف فيه خلاف والقول بدعوى الإجماع فيما يوجد فيه الخلاف العظيم أظهر بطلانا وأفحش سقوطا قال أبو محمد وليست منهم طائفة إلا وهي تضحك غيرها منهم بهذا الحجر يعني مخالفة الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم فإن كان هذا إجماعا ومخالف الإجماع عندهم كافر فكلهم كافر على هذا الأصل الفاسد إذ ليس منهم طائفة إلا وقد خالفت صاحبا فيما لا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف في أزيد من مائة قضية وتمادوا عليها مع احتجاج بعضهم على بعض بذلك وتنكيثهم لهم أبدا ويلزمهم تكفير فضلاء التابعين بمثل هذا نفسه ولا بد لهم ضرورة من هذا أو من ترك دعواهم في هذا الفصل الإجماع وهذا أولى بهم لأنه ترفيه عن أنفسهم وترك لدعوى الكذب وقصة واحدة تكفي في خلاف الإجماع إذا قامت به الحجة على مخالفه فكيف وقد جمعنا لهم من ذلك مئين من المسائل على كل طائفة من الحنفيين والمالكيين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 والشافعيين وبالله التوفيق وأما قول من قال منهم إن قول الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف حجة وليس إجماعا فهو أيضا عائد عليهم فيما خالفوا فيه الذي لا يعرف له منهم مخالف وسيأتي الرد على هذا القول في باب الكلام في إبطال التقليد إن شاء الله عز وجل وبه نستعين لا إله إلا هو ويكفي من إبطال ذلك أنه لم يأت قرآن ولا سنة بإيجاب تقليد الصاحب الذي لا يعرف له منهم مخالف لا سيما فيما خالف تلك الرواية عن ذلك الصاحب نص القرآن أو السنة الثابتة وفي هذا خالفناهم لا في رواية عن صاحب موافقة للقرآن أو السنة وإذا لم يأت بذلك قرآن ولا سنة فهو قول فاسد ودعوى باطلة وإنما جاء النص باتباع القرآن وبيان النبي صلى الله عليه وسلم فقط وبأن الدين قد كمل والحمد لله رب العالمين فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأما من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر بن الهذيل العنبري ومحمد بن الحسن مولى بني شيبان والحسن بن زياد اللؤلؤي وقول بكر بن العلاء ليس لأحد أن يختار بعد التابعين من التاريخ وقول القائل ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح الكلابي وعبد الله بن المبارك مولى بني حنظلة فأقوال في غاية الفساد وكيد الدين لا خفاء به وضلال مغلق وكذب على الله تعالى إذا نسبوا ذلك إليه أو دين جديد أتونا به من عند أنفسهم ليس من دين محمد صلى الله عليه وسلم في شيء وهي كما نرى متدافعة متفاسدة ودعاوى متفاضحة متكاذبة ليس بعضها بأولى من بعض ولا بعضها بأدخل في الضلالة والحمق من بعض ويقال لبكر من بينهم فإذا لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو من جاء بعد متعقبا عليه وعلى غيره ممن هو أعلم منه بالسنن وأصح نظرا أو مثله كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما ويقال له أيضا إن قولك هذا السخيف الدال على ضلالة قائله وجهالته وابتداعه ما لم يقله مسلم قبله يوجب أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأصبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل وهم أئمتك بإقرارك كان لهم أن يختاروا إلى أن انسلخ ذو الحجة من سنة مائتين فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقا لهم قبل ذلك من الاختيار فهل سمع بأسخف من هذا الاختلاط وليت شعري ما الفرق بين سنة مائتين وبين سنة ثلاثمائة أو أربعمائة أو غيرها من سني التاريخ ويقال للحنفيين أليس من عجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والقول في دين الله تعالى بالظن الكاذب والرأي الفاسد والشرع لما لم يأذن به الله تعالى لأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد بن الحسن واللؤلؤي على جهلهم بالسنن والآثار وفساد رأيهم وقياساتهم التي لم يوفقوا منها إلا لكل بارد متخاذل والتي هي في المضاحك أدخل منها في الجد ويجعلون تلك الأقوال الفاسدة خلافا على القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يجيزون الأخذ بالسنن الثابتة للشافعي ولا لأحمد بن حنبل ولا لإسحاق بن راهويه وداود بن علي وأبي ثور ومحمد بن نصر ونظرائهم على سعة علم هؤلاء بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وعلى تبحرهم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 معرفة أقوال الصحابة والتابعين وثقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل وأن من قال منهم بالقياس فقياسه من أعذب القياس وأبعده من ظهور الفساد فيه وأجرأه على علته مع شدة ورع هؤلاء وما منحهم الله تعالى من محبة المؤمنين لهم وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم وحلول أبي حنيفة وأصحابه في صدر هذه المنازل فإن موهوا بتقدم عصر أبي حنيفة وموه المالكيون بتقديم عصر مالك وتأخر عصر من ذكرنا قلنا هذا عجب آخر وقد علمنا وعلمتم أنه لم يكن بين آخر وقت فتيا أبي حنيفة وأول أوقات الشافعي إلا نحو ثلاثين عاما ولم يكن بين آخر فتيا مالك وبين أول فتيا الشافعي إلا عام أو نحوه ولعله قد أفتى في حياة مالك وقد أفتى الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن واللؤلؤي أحياء وكذلك أفتى المغيرة وابن كنانة وابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن الماجشون أحياء ومات الشافعي وأشهب في شهر واحد ومات الحسن بن زياد بعدهم بنحو عام ومات الماجشون ومطرف بعدهما بأعوام كثيرة فليت شعري من المبيح لبعضهم ما حجزوه عن بعض ثم لم يكن بين آخر فتيا مالك وأول وقت فتيا أحمد وإسحاق وأبي ثور إلا عشرين عاما أفي مدة عشرين عاما يغلق باب الاختبار تعالى الله عن قول المجانين وكل هؤلاء أفتى والحسن بن زياد حي فما الذي أباح للحسن بن زياد ولابن القاسم من الفتيا ما لم يبح لأحمد وإسحاق وأبي ثور وبالله إن بينهم وبين ذينك من التفاوت في العلم أكثر مما بين المشرق والمغرب ثم أفتى داود بن علي ومحمد بن نصر ونظراؤهما مع أحمد وإسحاق وأبي ثور ثم هكذا ينشأ العلماء ويموت العلماء عاما عاما وما هو إلا ليلة ثم جمعة ثم شهر إلى شهر وعام إلى عام حتى يرث الله الأرض ومن عليها فمن حد حدا أو وقف الاختيار عليه ومنعه بعده فقد سخف وكذب واخترع دين ضلالة وقال بلا علم ونعوذ بالله العظيم من مثل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 هذا قال الله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وقال تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} وقال تعالى {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} وقال تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} فلم يخص عز وجل عصرا من عصر ولا إنسانا من إنسان فمن خالف هذا فهو مضل داخل في أعداد النوكى لإطلاقه لسانه بالتخليط والحق في هذا الذي لا يحل خلافه فهو إن خالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى في القرآن وفي السنن المبينة للقرآن لا يحل لأحد أصلا ولا يجوز أن يعد قول قائل كائنا من كان خلافا لذلك بل يطرح على كل حال وأما خلاف أبي حنيفة ومالك ففرض على الأمة لا نقول مباح بل فرض لا يحل تعديه لأنهما لا يخلو أن في كل فتيا لهم من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا إما موافقة النص من القرآن والسنة الثابتة وإما مخالفة النص كذلك فإن كانت فتياهما أو فتيا أحدهما موافقة نص القرآن أو السنة فالمتبع هو القرآن والسنة لا قول أبي حنيفة ولا قول مالك لأن الله تعالى لم يأمرنا قط باتباعهما فمتبعهما مخالف لله تعالى وإن كانت فتياهما مخالفة للنص فلا يحل لأحد اتباع ما خالف نص القرآن والسنة وهكذا نقول في كل مفت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنبأنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال قال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي قال ولا على ملة عثمان أنا على ملة النبي صلى الله عليه وسلم نا يونس بن عبد الله بن مغيث نا يحيى بن عابد نا الحسين بن أحمد بن أبي خليفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا يوسف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 بن يزيد القراطيسي نا سعيد بن منصور نا هشيم عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال كان يكره أن يقال سنة أبي بكر وعمر ولكن سنة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نا حمام بن أحمد نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن بشر نا عبد الله بن الوليد نا عبيد بن الحسين قال قالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز تريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب قال عمر بن عبد العزيز قاتلهم الله ما أردت دون رسول الله إماما فهؤلاء الصحابة والتابعون فيمن تعلق المخالفون فإن موهوا بكثرة أتباع أبي حنيفة ومالك وبولاية أصحابهما القضاء فقد قدمنا أن الكثرة لا حجة فيها ويكفي من هذا قول الله عز وجل {وإن تطع أكثر من في لأرض يضلوك عن سبيل لله إن يتبعون إلا لظن وإن هم إلا يخرصون} وقال {قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من لخلطآء ليبغي بعضهم على بعض إلا لذين آمنوا وعملوا لصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فستغفر ربه وخر راكعا وأناب} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الدين بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء وأنذر عليه السلام بدروس العلم وظهور الجهل فلعمري لئن كان العلم ما هم عليه من حفظ رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي فما كان العلم قط أكثر مما هو منه الآن وهيهات إذا هبطت نجران من رمل عالج فقولا لها ليس الطريق هنالك ولكن الحق والصدق هو ما أنذر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دروس العلم والذي درس هو اتباع القرآن والسنن فهذا هو الذي قل بلا شك وأصحابه هم الغرباء القليلون جعلنا الله منهم ولا عدا بنا عنهم وثبتنا في عدادهم وأحشرنا في سوادهم آمين آمين وأما ولايتهم القضاء فهذه أخزى وأندم وما عناية جورة الأمراء وظلمة الوزراء خلة محمودة ولا خصلة مرغوب فيها في الآخرة وأولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من ملوك بني العباس وبني مروان بالعنايات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 والتزلف إليهم عند دروس الخير وانتشار البلاء وعودة الخلافة ملكا عضوضا وانبراء على أهل الإسلام وابتزازا للأمة أمرها بالغلبة والعسف فأولئك القضاة هم مثل من ولاهم من المبطلين سنن الإسلام المحيين لسنن الجور والمكر والقبالات وأنواع الظلم وحل عرى الإسلام وقد علمنا أحوال أولئك القضاة الذين يأخذون دينهم عنهم وكيف كانوا في مشاهدة إظهار البدع من المحنة في القرآن بالسيف والسياط والسجن والقيد والنفي ثم سائر ما كانوا يتشاهدونه معهم على ما استعانوا هم عليه من تسمية أمور ملكهم فمثل هؤلاء لا يتكثر بهم وإنما كان أصل ذلك تغلب أبي يوسف على هارون الرشيد وتغلب يحيى بن يحيى على عبد الرحمن بن الحكم فلم يقلد للقضاء شرقا وغربا إلا من أشار به هذان الرجلان واعتنيا به والناس حراص على الدنيا فتلمذ لهما الجمهور لا تدينا لكن طلبا للدنيا وولاية القضاء والفتيا والتديك على الجيران في المدن والأرياض والقرى واكتساب المال بالتسمي بالفقه هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره فاضطرت العامة إليهم في أحكامهم وفتياهم وعقودهم ففشا المذهبان فشوا طبق الدنيا قال الله عز وجل {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ولله عنده حسن المآب} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وصار من خالفهم مقصودا بالأذى مطلوبا في دمه أو مهجورا مرفوضا إن عجزوا عن أذاه لمنزلة له عند السلطان أو لكفه للسانه وسده لبابه إذ وسعته التقية والصبر صبر وكذلك إفريقية كان الغالب فيها السنن والقرآن إلى أن غلب أسد بن الفرات بن أبي حنيفة ثم ثار عليهم سحنون بن أبي مالك فصار القضاء فيهم دولا يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم الخيار وكان مالكيا فتوارثوا القضاء كما تورث الضياع فرجعوا كلهم إلى رأي مالك طمعا في الرياسة عند العامة فقط هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره قرب إلينا داء الأمم قبلنا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إننا سنركب سنن من قبلنا فقيل اليهود والنصارى يا رسول الله قال فمن إذا وهذا مما أنذر به رسول الله فهو من معجزات نبوته وبراهينه عليه السلام وهكذا قلدت هاتان الطائفتان أحبارهم وأساقفتهم فحملوهم على آرائهم قال أبو محمد وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الإجماع وهو أن يختلف المسلمون في مسألتين على أقوال فيقوم برهان من النص على صحة أحد تلك الأقوال في المسألة الواحدة فقال أبو سليمان إنه برهان على صحة قولهم في المسألة الأخرى وخالفه في ذلك ابنه أبو بكر وأبو الحسن بن المغلس وجمهور أصحابنا وقول أبي سليمان في هذه المسألة خطأ لا خفاء به لأنه قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 بلا برهان ثم يجب لو صح هذا أن يكون صواب من أصحاب في مسألة برهانا على أنه مصيب في كل مسألة قالها وهذا لا يخفى على أحد بطلانه وما ندري كيف وقع لأبي سليمان هذا الوهم الظاهر الذي لا يشكل وتكلموا أيضا في معنى نسبة هذا الإجماع وهو أن يصح إجماع الناس على أن حكم أمر كذا كحكم أمر كذا ثم اختلفوا فمن مانع لا من موجب ومن مبيح لكليهما أو من موجب حكما في كليهما فقال برهان من النص على حكم ما جاء في إحدى المسألتين فواجب أن يكون حكم الأخرى كحكمها لصحة الإجماع على أن حكمهما سواء قال أبو محمد لو أمكن ضبط جميع أقوال علماء جميع أهل الإسلام حتى لا يشذ منها شيء لكان هذا حكما صحيحا ولكن لا سبيل لضبط ذلك البتة وغير ما قدمنا مما لا يكون مسلما من لم يقل به وحتى لو أمكن معرفة قول العالم فقد كان يمكن رجوعه عن ذلك القول إذا ولى عنه السائل ليعرف قول غيره فوضح أنه لا سبيل البتة ولا إمكان أصلا في حصر أقوال جميع علماء أهل الإسلام في فتيا خارجة عن الجملة التي ذكرنا قال أبو محمد ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف وفي مناديح رحبة في هذا التعسف بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إلى وجود شرع لم ينص على حكمه والحمد لله رب العالمين والمتكلمون في هذه المسألة حكمهم فيها بالمساقاة والمزارعة على الثلث والربع فإنهم قالوا قد اختلف الناس في ذلك فمن مانع من المساقاة أو المزارعة جملة ومن مبيح لها جملة ثم صح النص بإباحتها عن النصف وقد صح الإجماع على أن حكمها أقل من النصف وأكثر من النصف كالحكم في النصف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 قال أبو محمد ما نحتاج إلى هذه الشغاب الحرجة والدعاوى المعوجة بل نقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح لأصحاب الضياع في تلك المعاملة النصف والمعاملين النصف فدخلها دون النصف ضرورة بالمشاهدة فيما جعل لكل طائفة من النصف فإذا تراضى الفريقان على أن يترك أحدهما مما يجعل له أخذه جزءا مسمى ويقتصر على بعضه فذلك له إذ كل أحد محكم في مثل ذلك مما جعل له كما لو وهب الوارث بعض ميراث لمن يشركه في الميراث أو لغيره فإن قيل فهلا أجزتم هذا بعينه في التراضي فيما يقع فيه الربا على خلاف التماثل قلنا لم يجز ذلك لأن النص الوارد في الربا مما عنى التماثل وحظره وتوعدنا عليه ولم يأت حكم نص المساقاة المزارعة والمواريث واشتراط مال المملوك المبيع والثمرة المأبورة بالمنع مما عدا ذلك بل أباح الاشتراط للنصف أو الكل ولم يمنع ما دخل في الإباحة المذكورة بالنص ما هو أقل من النصف أو الكل وبالله التوفيق قال أبو محمد علي وكثيرا ما نحتج مع المخالفين بما أجمعوا عليه معنا ثم ننكر عليهم الانتقال عنه إلى حكم آخر كقولنا لمن حرم الماء وحكم بنجاسته في إبل حرام حله فلم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه ومثل هذا كثير جدا فعاب ذلك علينا من لم يحصل وقال قد جمعتم في هذه الطريق وجهين من عظيمين أحدهما الاحتجاج بإجماعهم معكم وأنتم تنكرون دعوى معنى الإجماع وتجعلونها كذبا على الأمر أن يقال لكم فما الذي أنكرتم على اليهود إذ قالوا قد أجمعتم معنا على نبوة موسى عليه السلام وصحة التوراة وحكم السبت وخالفناكم في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة القرآن وشرائع دينكم قال أبو محمد فقلنا ما تناقضنا في شيء من ذلك وأما احتجاجنا على مخالفينا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 موافقتهم لنا على حكم ما وإنكارنا عليه الخروج مما أجمع معنا عليه فإنما فعلنا ذلك لخروجه عما قد حكم بصحته إلى قول آخر بلا برهان من قرآن أو سنة فقط فبينا عليهم القول في الدين بلا برهان وهذا حرام ومعيب بالقرآن والسنة ولم ندع إجماعا ولم نصححه إنما ادعينا على الخصم ما ينكره من إجماعه معنا بمعنى موافقته لنا فقط فلاح الفرق بين الدعوى المكذوبة وأما الذي أنكرناه على اليهود فإنه ضد المسألة التي تكلمنا فيها آنفا وهو امتناع اليهود من الإقرار بما ظهر البرهان بصحته وأقوى من برهانهم على ما ادعوا أننا أجمعنا معهم عليه وأنكرنا على المذكورين آنفا أن قالوا قولا بلا برهان وخروجهم عما قد صح البرهان بصحته وأنكرنا على اليهود تركهم القول بما قد صح برهانه وتماديهم على ما قد صح البرهان ببطلانه وسلكنا بين الطائفتين طريق الحق وشارع النجاة والحمد لله رب العالمين وهو الثبات مع البرهان إذا ثبت والانتقال معه إذا نقل فقط وبالله تعالى التوفيق فصل في معنى نسبوه إلى الإجماع وتكلموا أيضا في معنى نسبوه إلى الإجماع وهو أن ذكروا أن يختلف الناس على قولين فأكثر في مسألة فيشهد النص من القرآن والسنة بصحة قول من تلك الأقوال فيبطل سائرها ثم تقع فروع من تلك المسألة فقالوا يجب أن يكون المقول به هو ما قاله من شهد النص لصحه قوله في أصل تلك المسألة ونظروا ذلك بالحكم العاقلة قال بها قوم ولم يعرفها قوم منهم عثمان البتي فصح النص بقول من صححها فلما صرنا إلى من هم العاقلة وجب أن ينظروا إلى من أجمع القائلون بالعاقلة على أنه من العاقلة فيكون من العاقلة ومن اختلفوا فيه أهو من العاقلة أم لا ألا يكون من العاقلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 قال أبو محمد وقولنا ههنا هو قولنا فيما سلف من أنه إذا أمكن أن يعرف الإجماع في ذلك لكان حجة لكن لا سبيل إلى إحصائهم ولا إلى حصر أقوالهم لما قدمنا قبل ونحن في سعة والحمد لله عن التعلق بهذه الثنايا الأشبة والتورط في هذه المضايق القشبة بما قد بينه لنا ربنا عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من النص الذي لا دين لنا فيه وما عداه فليس من دين الله تعالى ولا من عنده عز وجل وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل بطن عقولة وألزم اليهودية من قتل بينهم لو اعترفوا أنه قتله بعضهم خطأ أو قام بذلك بينة فوجب بذلك أن العاقلة هم بطن القاتل خطأ الذي ينتمي إليه حتى بلغ إلى القبيلة التي تقف عندها وهكذا في كل شيء والحمد لله رب العالمين فصل واختلفوا هل يدخل أهل الأهواء أم لا قال أبو محمد قد أوضحنا قبل والحمد لله رب العالمين أن الإجماع لا يكون البتة إلا عن نص منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على باطل لم يأت من عند الله تعالى من رأي ذي رأي أو قياس من قائس يحكمان بالظن فإن ذلك كذلك والسؤال باق وهل نقبل نقل أهل الأهواء وروايتهم فقولنا في هذا وبالله تعالى التوفيق إن من يشهد بقلبه ولسانه أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن كل ما جاء به حق وأنه بريء من كل دين غير دين محمد صلى الله عليه وسلم فهو المؤمن المسلم ونقله واجب قبوله إذا حفظ ما ينقل ما لم يمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 عن إيمانه إلى كفر أو فسق وأهل الأهواء وأهل كل مقالة خالفت الحق وأهل كل عمل خالف الحق مسلمون أخطؤوا ما لم تقم عليهم الحجة فلا يكدح شيء من هذا في إيمانهم ولا في عدالتهم بل هم مأجورون على ما دانوا به من ذلك وعملوا أجرا واحدا إذا قصدوا به الخير ولا إثم عليهم في الخطأ لأن الله تعالى يقول {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} ونقلهم واجب قبوله كما كانوا وكذلك شهادتهم حتى إذا قامت على أحد منهم الحجة في ذلك من نص قرآن أو سنة ما لم تخص ولا نسخت فأيما تمادى على التدين بخلاف الله عز وجل أو خلاف رسوله صلى الله عليه وسلم أو نطق بذلك فهو كافر مرتد لقول الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وإن لم يدن لذلك بقلبه ولا نطق به لسانه لكن تمادى على العمل بخلاف القرآن والسنة فهو فاسق بعمله مؤمن بحقده وقوله ولا يجوز قبول نقل كافر ولا فاسق ولا شهادتهما قال الله تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} وقد فرق بعض السلف بين الداعية وغير الداعية قال أبو محمد وهذا خطأ فاحش وقول بلا برهان ولا يخلو المخالف للحق من أن يكون معذورا بأنه لم تقم عليه الحجة أو غير معذور لأنه قامت عليه الحجة فإن كان معذورا فالداعية وغير الداعية سواء كلاهما معذور مأجور وإن كان غير معذور لأنه قد قامت عليه الحجة فالداعية وغير الداعية سواء وكلاهما إما كافر كما قدمنا وإما فاسق كما وصفنا وبالله تعالى التوفيق ولا فرق فيما ذكرنا بين من يخالف الحق بنحلة أو بفتيا إذا لم يفرق الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بين ذلك إنما قال {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} عم عز وجل ولم يخص قال بعضهم إن الصحابة اختلفوا في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 الفتيا فلم ينكر بعضهم على بعض بل أنكروا على من خالف في ذلك قلنا ليس كما قلتم إنما لم ينكروا على من لم تقم الحجة عليه في المسألة فقط وأنكروا أشد الإنكار على من خالف بعد قيام الحجة عليه وكيف لم ينكروا وقد ضربوا على ذلك بالسيوف من خالفهم فأي إنكار أشد من هذا أو ليس عمر قد قال والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يموت حتى يكون آخرنا موتا وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم فما قدح هذا في عدالته إذ قال مخطئا ثم رجع إلى الحق إذ سمع القرآن {إنك ميت وإنهم ميتون} وإن المتمادي على هذا القول بعد قيام الحجة عليه كافر من جملة غالية السبائية أو ليس ابن عباس يقول أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر وكان إسحاق بن راهويه يقول فيما روى عنه محمد بن نصر المروزي في الإمام أنه سمعه يقول من صح عنده حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم خالفه يعني باعتقاده فهو كافر قال أبو محمد صدق والله إسحاق رحمه الله تعالى وبهذا نقول وقد روي عن عمر أنه قتل رجلا أبى عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي بحكم عمر وكيف لو أدرك عمر وابن عباس رضي الله عنهما وإسحاق رحمه الله من نقول له قال الله عز وجل كذا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا قال أبى سحنون ذلك ومن قلنا له هذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا في غنى عنه ما أحتاج إليه مع قول العلماء ومن قال لنا لو رأيت شيوخي يستدبرون القبلة في صلاتهم ما صليت إلى القبلة والله ما في بدع أهل البدع شيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 يفوق هذه وليت شعري إن كان هؤلاء القوم مؤمنون بالله تعالى وبالبعث وبأنهم موقوفون وأن الله سيقول لهم ألم آمركم باتباع كتابي المنزل وبنبي المرسل ألم أنهكم عن اتباع آبائكم ورؤسائكم ألم آمركم برد ما تنازعتم فيه إلي وإلى رسولي وقدمت إليكم الوعيد فماذا أعدوا من الجواب لذلك الموقف الفظيع والمقام الشنيع والله لتطولن ندامتهم حين لا ينفعهم الندم وكأن به قد أزف وحل نسأل الله أن يوزعنا شكر ما من علينا من اتباع كلامه وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ومن أن بغض إلينا اتباع من دونه ودون رسوله صلى الله عليه وسلم ونسأله أن يميتنا على ذلك وأن يفيء بأهل الجهالة والضلالة آمين آمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي الكريم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 الباب الثالث والعشرون في استصحاب الحال وبطلان جميع العقود والعهود والشروط إلا ما أوجبه منها قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة قال أبو محمد إذا ورد النص من القرآن أو السنة الثابتة في أمر ما على حكم ما ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد انتقل أو بطل من أجل أنه انتقل ذلك الشيء المحكوم فيه عن بعض أحواله أو لتبدل زمانه أو لتبدل مكانه فعلى مدعي انتقال الحكم من أجل ذلك أن يأتي ببرهان من نص قرآن أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة على أن ذلك الحكم قد انتقل أو بطل فإن جاء به صح قوله وإن لم يأت به فهو مبطل فيما ادعى من ذلك والفرض على الجميع الثبات على ما جاء به النص ما دام يبقى اسم ذلك الشيء المحكوم فيه عليه لأنه اليقين والنقلة دعوى وشرع لم يأذن الله تعالى به فهما مردودان كاذبان حتى يأتي النص بهما ويلزم من خالفنا في هذا أن يطلب كل حين تجديد الدليل على لزوم الصلاة والزكاة وعلى صحة نكاحه مع امرأته وعلى صحة ملكه لما يملك ويقال للمخالف في هذا أخبرنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 أتحكم أنت بحكم آخر من عندك أم تقف فلا تحكم بشيء أصلا لا بالحكم الذي كنت عليه ولا بغيره فإن قال بل أقف قيل له وقوفك حكم لم يأتك به نص وإبطالك حكم النص الذي قد أقررت بصحته خطأ عظيم وكلاهما لا يجوز وإن قال بل أحدث حكما آخر قيل له أبطلت حكم الله تعالى وشرعت شرعا لم يأذن به الله وكلاهما من الطوام المهلكة نعوذ بالله من كل ذلك ويقال له في كل حكم تدين به لعله قد نسخ هذا النص أو لعل ههنا ما يخصه لم يبلغك ويقال له لعلك قد قتلت مسلما أو زنيت فالحد أو القود عليك فإن قال أنا على البراءة حتى يصح علي شيء ترك قوله الفاسد ورجع إلى الحق وناقض إذ لم يكن سلك في كل شيء هذا المسلك ويلزمهم أيضا ألا يرثوا موتاهم إذ لعلهم قد ارتدوا أو لعلهم قد تصدقوا بها أو لعلهم أدانوا ديونا تستغرقها فيلزمهم إقامة البينة على براءة موتاهم في حين موتهم على كل ذلك والذي يلزمهم يضيق عنه جلد ألف بعير ويلزمهم ألا يقولوا بتمادي نبوة نبي حتى يقيم كل حين البرهان على صحة نبوته وأما نحن فلا ننتقل عن حكم إلى حكم آخر إلا ببرهان وكذلك نقول لكل من ادعى النبوة كمسيلمة والأسود وغيرهما عهدناكم غير أنبياء فأنتم على بطلان دعواكم حتى يصح ما يثبتها وكذلك نقول لمن ادعى أن فلانا قد حل دمه بردة أو زنى عهدناه بريئا من كل ذلك فهو على السلامة حتى يصح الدليل على ما تدعيه وكذلك نقول لمن ادعى أن فلانا العدل قد فسق أو أن فلانا الفاسق قد تعدل أو أن فلانا الحي قد مات أو أن فلانة قد تزوجها فلان أو أن فلانا طلق امرأته أو أن فلانا قد زال ملكه عما كان يملك أو أن فلانا قد ملك ما لم يكن يملكه وهكذا كل شيء على أننا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 ما كنا عليه حتى يثبت خلافه فإنما جاء قوم إلى هذه الحماقات في مواضع يسيرة أخطؤوا فيها فنصروا خطأهم بما يبطل كل عقل وكل معقول وذلك نحو قولهم إن الماء إذا حلته نجاسة فقد تنجس وإن من شك بعد يقينه بالوضوء فعليه الوضوء وأشباه هذا فقالوا إن الماء الذي حكم الله بطهارته لم يكن حلته نجاسة فقلنا لهم وإن الرجل الذي حرم الله دمه لم يكن شاب ولا حلق رأسه ولا عليه صفرة من مرض لم يكن فيه فبدلوا حكمه لتبدل بعض أحواله وقالوا عليه ألا يصلي إلا بيقين طهارة لم يتلها شك قلنا فحرموا على من شك أباع أمته أم لم يبعها أن يطأها أو يملكها لشكه في انتقال ملكه وحدوا كل من شككتم أزنى أم لم يزن وقد ذكرنا اعتراضهم بمسألة قول اليهود قد وافقتمونا على صحة نبوة موسى صلى الله عليه وسلم وبينا أننا لم ننتقل إلى الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ببراهين أظهر من براهين موسى لولاها لم نتبعه ونحن لا ننكر الانتقال من حكم أوجبه القرآن أو السنة إذ جاء نص آخر ينقلنا عنه إنما أنكرنا الانتقال عنه بغير نص أوجب النقل عنه لكن لتبدل حال من أحواله أو لتبدل زمانه أو مكانه فهذا هو الباطل الذي أنكرناه وقال المالكيون من شك أطلق امرأته أم لم يطلقها فلا شيء عليه فأصابوا ثم قالوا فإن أيقن أنه طلقها ثم شك أو واحدة أو اثنتين أو ثلاثا فهي طالق ثلاثا وقالوا من شك أطلق امرأة من نسائه أم لا فلا شيء عليه فإن أيقن أنه طلق إحداهن ثم لم يدر أيتهن هي فهن كلهن طلق ففرقوا بين ما لا فرق بينه بدعوى عارية عن البرهان فإن قالوا إن ههنا هو على يقين من الطلاق فقلنا نعم وعلى شك من الزيادة على طلاقها واحدة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 والشك باطل كسائر ما قدمنا قبل وكذلك ليس من نسائه امرأة يوقن أنه طلقها فقد دخلتم فما أنكرناه على المخالفين من نقل الحكم بالظنون بل وقعوا في الباطل المتيقن وتحريم يقين الحلال من باقي نسائه اللواتي لم يطلقهن بلا شك وفي تحليل الحرام المتيقن إذ أباحوا الفروج اللواتي لم تطلق للناس ولزمهم على هذا إذا وجدوا رجالا قد اختلط بينهم قاتل لا يعرفونه بعينه أو زان محصن لا يعرفونه بعينه أن يقتلوهم كلهم نعم وأن يحملوا السيف على أهل مدينة أيقنوا أن فيها قاتل عمد لا يعرفونه بعينه وأن يقطعوا أيدي جميع أهلها إذا أيقنوا أن فيها سارقا لا يعرفونه بعينه وأن يحرموا كل طعام بلد قد أيقنوا أن فيه طعاما حراما لا يعرفونه بعينه وأن يرجموا كل محصنة ومحصن في الدنيا لأن فيهم من قد زنى بلا شك ولزمهم فيمن تصدق بشيء من ماله ثم جهل مقداره أن يتصدق بماله كله ومثل هذا كثير جدا فظهر فساد هذا القول وبطلانه بيقين لا شك فيه فإن قيل وما الدليل على تمادي الحكم مع تبدل الأزمان والأمكنة قلنا وبالله تعالى التوفيق البرهان على ذلك صحة النقل من كل كافر ومؤمن على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا بهذا الدين وذكر أنه آخر الأنبياء وخاتم الرسل وأن دينه هذا لازم لكل حي ولكل من يولد إلى القيامة في جميع الأرض فصح أنه لا معنى لتبدل الزمان ولا لتبدل المكان ولا لتغير الأحوال وأن ما ثبت فهو ثابت أبدا في كل زمان وفي كل مكان وعلى كل حال حتى يأتي نص ينقله عن حكمه في زمان آخر أو مكان آخر أو حال أخرى وكذلك إن جاء نص بوجوب حكم في زمان ما أو في مكان أو في حال ما وبين لنا ذلك في النص وجب ألا يتعدى النص فلا يلزم ذلك الحكم حينئذ في غير ذلك الزمان ولا في غير ذلك المكان ولا في غير تلك الحال قال تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يدرك صلى أن يصلي حتى يكون على يقين من التمام وعلى شك من الزيادة لأنه على يقين من أنه لم يصل ما لزمه فعليه أن يصليه وهذا هو نص قولنا وأما إذا تبدل الاسم فقد تبدل الحكم بلا شك كالخمر يتخلل أو يخلل لأنه إنما حرمت الخمر والخل ليس خمرا وكالعذرة تصير ترابا فقد سقط حكمها وكلبن الخنزير والحمر والميتات يأكلها الدجاج ويرتضعه الجدي فقد بطل التحريم إذا انتقل اسم الميتة واللبن والخمر ومن حرم ما لا يقع عليه الاسم الذي جاء به التحريم فلا فرق بينه وبين من أحل بعض ما وقع عليه الاسم الذي جاء به التحريم وكلاهما متعد لحدود الله تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} وهذا حكم جامع لكل ما اختلف فيه فمن التزمه فقد فاز ومن خالفه فقد هلك وأهلك وبالله تعالى التوفيق وكل احتياط أدى إلى الزيادة في الدين ما لم يأذن به الله تعالى أو إلى النقص منه أو إلى تبديل شيء منه فليس احتياطا ولا هو خيرا بل هو هلكة وضلال وشرع لم يأذن به الله تعالى والاحتياط كله لزوم القرآن والسنة وأما العقود والعهود والشروط والوعد فإن أصل الاختلاف فيها على قولين لا يخرج الحق عن أحدهما وما عداهما فتخليط ومناقضات لا يستقر لقائلها قول على حقيقة فأحد القولين المذكورين إما أنها كلها لازم حق إلا ما أبطله منها نص والثاني أنها كلها باطل غير لازم إلا ما أوجبه منها نص أما ما أباحه منها نص فكان من حجة من قال إنها كلها حق لازم إلا ما أبطله منها نص أن قال قال الله عز وجل {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن لعهد كان مسؤولا} وقال عز وجل {هو لذي بعث في لأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم لكتاب ولحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو لعزيز لحكيم} وقال عز وجل {والذين هم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 لأماناتهم وعهدهم راعون} وقال تعالى {إن لله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه لحق من ربهم وأما لذين كفروا فيقولون ماذآ أراد لله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا لفاسقين * لذين ينقضون عهد لله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر لله به أن يوصل ويفسدون في لأرض أولئك هم لخاسرون} وقال تعالى {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} وقال تعالى {ليس لبر أن تولوا وجوهكم قبل لمشرق ولمغرب ولكن لبر من آمن بلله وليوم لآخر ولملائكة ولكتاب ولنبيين وآتى لمال على حبه ذوي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل ولسآئلين وفي لرقاب وأقام لصلاة وآتى لزكاة ولموفون بعهدهم إذا عاهدوا ولصابرين في لبأسآء ولضراء وحين لبأس أولئك لذين صدقوآ وأولئك هم لمتقون} وقال تعالى {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين * إن الذين يشترون بعهد لله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في لآخرة ولا يكلمهم لله ولا ينظر إليهم يوم لقيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} وقال تعالى {إن لذين يبايعونك إنما يبايعون لله يد لله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه لله فسيؤتيه أجرا عظيما} وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} وقال تعالى {وإما تخافن من قوم خيانة فنبذ إليهم على سوآء إن لله لا يحب لخائنين} وقال عز وجل {لذين يوفون بعهد لله ولا ينقضون لميثاق} وقال تعالى {ولا تشتروا بعهد لله ثمنا قليلا إنما عند لله هو خير لكم إن كنتم تعلمون} وقال تعالى {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} وقال تعالى {يوفون بلنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا} وقال تعالى {ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن لله يعلمه وما للظالمين من أنصار} وقال عز وجل {ومنهم من عاهد لله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من لصالحين * فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا لله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} وقال تعالى {وذكر في لكتاب إسماعيل إنه كان صادق لوعد وكان رسولا نبيا} وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ني زهير بن حرب ثنا وكيع نا سفيان هو الثوري عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 وسلم أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وبه إلى مسلم نا عبد الأعلى بن حماد ثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من علامات المنافق ثلاث وإن صلى وإن صام وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وبه إلى مسلم ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا أبي ثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة رفع لكل غادر لواء فقيل هذه غدرة فلان ابن فلان وبه إلى مسلم ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن خليد عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة وبه إلى مسلم ني زهير بن حرب ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ثنا المستمر بن الريان ثنا أبو نضرة عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمر عامة وبه إلى مسلم حدثني عبد الله بن هاشم ني عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان هو الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغفلوا ولا تغدروا وذكر باقي الحديث وبه إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 مسلم نا محمد بن المثنى نا يحيى بن سعيد القطان عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا أحمد بن صالح نا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره قال بعثتني قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألقي في قلبي الإسلام فقلت يا رسول الله إني والله لا أرجع إليهم أبدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع قال فذهبت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري ثنا البخاري نا إسحاق نا يعقوب نا ابن أخي ابن شهاب عن عمه أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة فذكرا جميعا خبر النبي صلى الله عليه وسلم وفيه إنه لما كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو يوم الحديبية على قضية المدة كان فيما اشترط سهيل بن عمرو أنه لا يأتيك منا أحد إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه وأبى سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على ذلك فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل بن أبي سهل يومئذ إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود حدثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثهم عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فذكر الحديث وفيه ثم رجع إلى المدينة فجاءه أبو بصير برجل من قريش يعني أرسلوا في طلبه فدفعه إلى رجلين فخرجا به فلما بلغا ذا الحليفة نزلوا يأكون من تمر لهم فقال أبو بصير لأحد الرجلين والله إني لأرى سيفك يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال أجل قد جربت به فقال أبو بصير أرني أنظر إليه فأمسكه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد رأى هذا ذعرا فقال قتل والله صاحبي وإني لمقتول فجاء أبو بصير فقال قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم قد نجاني الله منهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر وتفلت أبو جندل فلحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن الفتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة عن الوليد بن جميع نا أبو الطفيل نا حذيفة بن اليمان قال ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل فأخذنا كفار قريش فقالوا إنكم تريدون محمدا فقلنا ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم حدثني محمد بن سعيد نا نبات ثنا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد ابن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر نا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي والحكم بن عتيبة أن حذيفة بن الحسيل بن اليمان وأباه أسرهما المشركون فأخذوا عليهما ألا يشهدا بدرا فسألا النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 فرخص لهما ألا يشهدا حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك الخولاني نا محمد بن بكر نا سليمان بن الأشعث نا قبيصة نا الليث عن محمد بن عجلان أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيع العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر أنه قال دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت ها تعال أعطك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه قالت أعطيه تمرا فقال لها رسول الله أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا إبراهيم بن أحمد البلخي نا الفربري نا البخاري نا بشربن مرحوم نا يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا مسدد نا يحيى بن سعيد هو القطان نا شعبة حدثني أبو حمزة نا زهد بن مضرب قال سمعت عمران بن حصين يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون وذكر باقي الخبر وبه إلى البخاري نا محمد بن مقاتل أنا عبد الله بن المبارك أنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال عمر يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال أوف بنذرك حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود السجستاني نا سليمان بن داود المهري ثنا ابن وهب حدثني سليمان بن بلال ثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 وسلم المسلمون على شروطهم حدثنا المهلب الأسدي نا ابن مناس نا ابن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب نا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأي المؤمن واجب وبه إلى ابن وهب أخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول ولا تعد أخاك عدة وتخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة وبه إلى ابن وهب أخبرني الليث بن سعيد عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال لصبي تعال هاه لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة قالوا فهذه نصوص توجب ما ذكرنا إلا أن يأتي نص بتخصيص شيء من عمومها فيخرج ويبقى ما عداه على الجواز قال أبو محمد ووجدنا من قال ببطلان كل عقد وكل شرط وكل عهد وكل وعد إلا ما جاء نص بإجازته باسمه ويقولون قال الله عز وجل {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقال تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقال تعالى {ومن يعص لله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} حدثنا عبد الرحمن بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني ثنا أبو أسامة أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه قال أخبرتني عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب عشية فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني ثنا أبو إسحاق البلخي حدثنا الفربري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 نا البخاري نا علي بن عبد الله نا سفيان عن يحيى هو ابن سعيد الأنصاري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شروطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط قالوا فهذه الآيات وهذا الخبر براهين قاطعة في إبطال كل عهد وكل عقد وكل وعد وكل شرط ليس في كتاب الله الأمر به أو النص على إباحة عقده لأن العقود والعهود والأوعاد شروط واسم الشرط يقع على جميع ذلك قال أبو محمد وأيضا فيقال لمن أوجب الوفاء بعقد أو عهد أو شرط أو وعد ليس في نص القرآن أو السنة الثابتة إيجاب عقد وإنفاذه إننا بالضرورة ندري أنه لا يخلو كل عقد وعهد وشرط ووعد التزمه أحد لأحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون في نص القرآن أو السنة إيجابه وإنفاذه فإن كان كذلك فنحن لا نخالفكم في إنفاذ ذلك وإيجابه وإنما أن يكون ليس في نص القرآن ولا في السنة إيجابه ولا إنفاذه ففي هذا اختلفنا فنقول لكم الآن فإن كان هكذا فإنه ضرورة لا ينفك من أحد أربعة أوجه لا خامس لها أصلا إما أن يكون فيه إباحة ما حرم الله تعالى في القرآن أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا عظيم لا يحل قال تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} ونسألهم حينئذ عمن التزم في عهده وشرطه وعقده ووعده إحلال الخنزير والأمهات وقتل النفس فإن أباح ذلك كفر وإن فرق بين شيء من ذلك تناقض وسخف وتحكم في الدين بالباطل وإما أن يكون التزم فيه تحريم ما أباحه الله تعالى في القرآن أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا عظيم لا يحل قال تعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 {يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} ونسألهم حينئذ عمن حرم الماء والخبز والزواج وسائر المباحات وقد صح أن محرم الحلال كمحلل الحرام ولا فرق وإما أن يكون التزم ما أوجبه الله تعالى في القرآن أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا عظيم لا يحل ونسألهم حينئذ عمن التزم في عهده وعقده وشرطه إسقاط الصلوات وإسقاط صوم شهر رمضان وسائر ذلك فمن أجاز ذلك فقد كفر وإما أن يكون أوجب على نفسه ما لم يوجبه الله تعالى عليه فهذا عظيم لا يحل ونسألهم عمن التزم صلاة سادسة أو حج إلى غير مكة أو في غير أشهر الحج وكل هذه الوجوه تعد لحدود الله وخروج عن الدين والمفرق بين شيء من ذلك قائل في الدين بالباطل نعوذ بالله من ذلك فإن قد صح ما ذكرنا فلم يبق إلا الكلام على الآيات التي احتج بها أهل المقالة الأولى وعلى الأحاديث التي شغبوا بإيرادها وبيان حكمها حتى يتألف بعون الله تعالى ومنه مع هذه فإن الدين كله واحد لا تخالف فيه قال الله عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فنقول وبالله تعالى نتأيد إن كل ما ذكروا من ذلك فلا حجة لهم في شيء منه أما قول الله عز وجل {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن لعهد كان مسؤولا} و {كبر مقتا عند لله أن تقولوا ما لا تفعلون} {ولذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون} {ليس لبر أن تولوا وجوهكم قبل لمشرق ولمغرب ولكن لبر من آمن بلله وليوم لآخر ولملائكة ولكتاب ولنبيين وآتى لمال على حبه ذوي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل ولسآئلين وفي لرقاب وأقام لصلاة وآتى لزكاة ولموفون بعهدهم إذا عاهدوا ولصابرين في لبأسآء ولضراء وحين لبأس أولئك لذين صدقوآ وأولئك هم لمتقون} و {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} و {إن لذين يبايعونك إنما يبايعون لله يد لله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه لله فسيؤتيه أجرا عظيما} و {وذكروا نعمة لله عليكم وميثاقه لذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا وتقوا لله إن لله عليم بذات لصدور} و {يوفون بلنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا} و {ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن لله يعلمه وما للظالمين من أنصار} و {وذكر في لكتاب إسماعيل إنه كان صادق لوعد وكان رسولا نبيا} والحديثان اللذان فيهم أوف بنذرك وذم الذين ينذرون ولا يوفون والخبر فيم أعطى بي ثم غدر فإنها جمل قد جاء نص آخر يبين أنها كلها ليست على عمومها ولكنها في بعض العهود وبعض العقود وبعض النذور وبعض الشروط وهي قول رسول الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 صلى الله عليه وسلم لا نذر في معصية الله تعالى ولا فيما يملك العبد وقوله صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله تعالى فلا يعصه مع ما ذكرنا من قوله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فصح بهذه النصوص أن تلك الآيات والخبرين إنما هي فيمن شرط أو نذر أو عقد أو عاهد على ما جاء القرآن أو السنة بإلزامه فقط وقد وافقنا المخالفون ههنا على أن من نذر أو عقد أو عاهد أو شرط أن يزني أو يكفر أو يقتل مسلما ظلما أو أن يأخذ مالا بغير حق أو أن يترك الصلاة فإنه لا يحل له الوفاء بشيء من ذلك لأنه معصية ولا فرق بين هذا وبين شرط وعاهد وعقد أن يضيع حدا أو أن يبطل حقا أو أن يمنع مباحا والمفرق بين ذلك مبطل متناقض متحكم في الدين بالباطل فارتفع الإشكال في هذا الباب جملة والحمد لله رب العالمين وكذلك قول الله عز وجل {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم} فهذا غاية البيان في صحة قولنا والحمد لله رب العالمين وباليقين ندري أن من حرم على نفسه أن يتزوج على امرأته أو أن يتسرى عليها أو ألا يرحلها أو ألا يغيب عنها فقد حرم ما أحل الله تعالى له وما أمره تعالى به إذ يقول {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} وقال تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} وقال عز وجل {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} وقال تعالى {عندها جنة لمأوى} وقال تعالى {هو لذي يسيركم في لبر ولبحر حتى إذا كنتم في لفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم لموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا لله مخلصين له لدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من لشاكرين} وكذلك من عاهد على تأمين من لا يحل تأمينه وعلى إبقاء مال في ملك من لا يحل له تملكه وعلى اسقاط حد الله تعالى أو قود فإنه قد عقد على معصية وسمى الحلال حراما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 والقرآن قد جاء بتكذيب من فعل ذلك وبنهيه عن ذلك وهكذا ما لم يذكر ما ليس في القرآن أو السنة إمضاؤه ومن عجائب الدنيا احتجاج من احتج بالخبر الذي فيه أوف بنذرك وهو أو مخالف لهذا الخبر لأنه ورد في معنيين أحدهما الوفاء بما نذره المرء في جاهليته وكفره وهم لا يقولون بإنفاذ ذلك والثاني أنه ورد في اعتكاف ليلة وهم لا يقولون بذلك فمن أعجب شأنا ممن يحتج بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه منه شيء أصلا وهو قد عصى ذلك الخبر في كل ما فيه ونعوذ بالله من هذه الأحوال فليس في عكس الحقائق أكثر من هذا وأما نحن فنلزم من نذر في كفره طاعة الله عز وجل ثم أسلم أن يفي بما نذر من ذلك اتباعا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وكذلك من نذر اعتكاف ليلة فإنه يلزمه الوفاء به أيضا ومما قدمنا قبل من نذر الباطل وعقده من شرط لامرأته إن نكح عليها فالداخلة بنكاح طالق وإن تسرى عليها فالسرية حرة وإن غاب عنها مدة كذا أو أرحلها فأمرها بيدها تطلق نفسها أو تمسك فكل هذا معاص وخلاف لأمر الله تعالى وتعد لحدود الله لأن الله تعالى لم يجعل قط أمر امرأة بيدها إلا المعتقة ولها زوج فقط بل جعل أمر النساء إلى الرجال وبأيديهم فقال تعالى {لرجال قوامون على لنسآء بما فضل لله بعضهم على بعض وبمآ أنفقوا من أموالهم فلصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ لله وللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن وهجروهن في لمضاجع وضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن لله كان عليا كبيرا} وجعل الطلاق إلى الرجال لا إلى النساء فقال تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} ولم يجعل طلاقا قبل نكاح ولا عتقا قبل ملك فمسمى كل حكم مما ذكرنا حلالا مفتر على الله تعالى منهي عن كل ذلك فصح أنها عقود باطل لا يصح شيء منها وكذلك بين الله تعالى حكم الطلاق فجعله في كل حال واقعا إذا وقع حيث أطلق الله تعالى إيقاعه وغير واقع حيث لم يطلق الله تعالى إيقاعه فمن طلق إلى أجل أو أخرج طلاقه أو عتاقه مخرج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 اليمين فقد تعدى حدود الله تعالى وليس شيء من ذلك طلاقا واقعا ولا عتاقا واقعا أصلا لا حين يوقعه مخالفا لأمر الله تعالى ولا حيث لا يوقعه أصلا وهذا بيان لا يحيل على من نصح نفسه وبالله التوفيق قال أبو محمد ثم نظرنا فيما احتجوا به من قوله عز وجل {لذين ينقضون عهد لله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر لله به أن يوصل ويفسدون في لأرض أولئك هم لخاسرون} و {وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين} {ولا تشتروا بعهد لله ثمنا قليلا إنما عند لله هو خير لكم إن كنتم تعلمون} {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} فوجدنا هذه الآيات في غاية البيان في صحة قولنا {لحمد لله رب لعالمين} لأن عهد الله إنما هو مضاف إلى الله تعالى ولا يضاف إلى الله عز وجل إلا ما أمر به لا ما نهى عنه وما كان خلاف هذا فهو عهد إبليس لا عهد الله تعالى ومن أضافه إلى الله تعالى فقد كذب عليه ثم نظرنا في احتجاجهم بقول الله تعالى {وإما تخافن من قوم خيانة فنبذ إليهم على سوآء إن لله لا يحب لخائنين} فوجدنا حجة لنا عليهم لأن الله تعالى لم يأمره عليه السلام بالتمادي على عهد من خاف منه خيانة بل ألزمه تعالى أن ينبذ إليهم عهدهم فصح أن كل عهد أمر الله عز وجل بنبذه وطرحه فهو عهد منقوض مرفوض لا يحل التمادي عليه ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول الله عز وجل {ومنهم من عاهد لله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من لصالحين * فلمآ آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا لله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} فوجدناه لا حجة لهم فيه لأن هؤلاء قوم عاهدوا الله عز وجل لئن رزقهم مالا ليصدقن وليكونن من الصالحين وهذا فرض على كل أحد لأن الصدقة اسم يقع على الزكاة وعلى التطوع فواجب حمله على عمومه ما لم يمنع من شيء منه نص فدخل في ذلك مانع الزكاة وهذه كبيرة وكذلك سائر فروض المال وخرج منه صدقة التطوع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 لأنه نذر فيما لا يملك بعد وكذلك كون المرء من الصالحين فرض عليه نذره أو لم ينذره وقد قال تعالى {ولا يحسبن لذين يبخلون بمآ آتاهم لله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم لقيامة ولله ميراث لسماوات ولأرض ولله بما تعملون خبير} فهذا حكم من بخل بفرائض المال من الزكاة وغيرها مما جاءت بإيجابه النصوص حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا زهير بن حرب ثنا إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية ثنا أيوب هو السختياني عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم مره فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه وبه إلى البخاري ثنا أبو عاصم وأبو نعيم كلاهما عن مالك عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا ابن أبي عمر العدني ثنا مروان بن معاوية الفزاري ثنا حميد حدثني ثابت عن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم رأى سخيا يتهادى بين ابنيه فقال ما بال هذا قالوا نذر أن يمشي قال إن الله عن تعذيب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 هذا لنفسه لغني وأمره أن يركب ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن إخلاف الوعد خصلة من خصال النفاق فوجدناهم لا حجة لهم فيه أول ذلك الحنفيين والمالكيين المخالفين لنا في كثير من هذا الباب مع عظيم تناقضهم في ذلك مجمعون على أن من قال لآخر لأهبن لك غدا دينارا أو سأهبك اليوم هذا الثوب وما أشبه هذا فإنه لا يقضي عليه بشيء من ذلك عندهم فهم أول تارك لما احتجوا به وأما نحن فإننا رأينا الله عز وجل قد أسقط الحكم عمن وعد آخر أن يعطيه شيئا سماه وأكد ذلك باليمين بالله تعالى ثم لم يفعل فلم يلزمه الله عز وجل إلا كفارة اليمين فقط لا الوفاء بما وعد ولم يجعل عليه في ذلك ملامة ثم وجدنا الله تعالى يقول {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشآء لله وذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا} فصح بهذا أن من وعد وعدا ولم يقل إن شاء الله فهو عاص لله عز وجل مخالف لأمره وإذا كان قوله ذلك معصية لله تعالى فهو مردود غير نافذ ثم إننا وجدناه إن وعد وقال إن شاء الله فقد استثنى مشيئة الله تعالى وبالضرورة ندري أن كل ما شاء الله تعالى كونه فهو واقع لا محالة قال الله عز وجل {إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} وأن كل ما لم يكن فإن الله تعالى لم يشأ كونه فإذا لم يفت هذا الواعد بما وعد ولو يوجبه إلا أن يشاءه الله تعالى فقد أيقنا ضرورة أن الله تعالى لم يشأ كونه فلم يخالفه عقده لأنه لم يوجبه إلا بمشيئة الله تعالى لم يشأها عز وجل فصح بهذا يقينا أن الوعد الذي يكون إخلافه خصلة من خصال النفاق إنما هو الوعد بما افترض الله تعالى الوفاء به وألزم فعله وأوجب كونه كالديون الواجبة والأمانات الواجب أداؤها والحقوق المفترضة فقط لا ما عدا ذلك فإن هذه الوجوه قد أوجب الله تعالى الوعيد على العاصي في ترك أدائها وأوقع الملامة على المانع منها وأمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 بأدائها وإن كان عز وجل لم يرد كون ما لم يكن منها ولا حجة لنا على الله تعالى بل لله الحجة البالغة فلو شاء الله لهداكم أجمعين ووجدناهم أيضا قد أجمعوا على أن الوصايا أوعاد يعدها الموصي ثم يختلفوا أن له الرجوع عنها إن شاء إلا العتق فإنهم قد اختلفوا في جواز الرجوع عنه وهذا كله رجوع منهم إلى قولنا وتناقض في قولهم وأما نحن فلم نجز الرجوع في العتق في الوصية لأنه عقد حض الله تعالى عليه وغبط به وما كان هكذا فلا يجوز الرجوع فيه لأنه عقد قد لزم إذا التزمه فلا يسقط إلا بنص ولا نص في جواز الرجوع فيه والعتق المؤجل جائز بخلاف الهبات المؤجلة وسائر العقود المؤجلة لأن التأجيل شرط فلا يجوز إلا ما في كتاب الله تعالى فلما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم باع المدبر ولم ينكر التدبير صح أن العتق إلى أجل شرط في كتاب الله تعالى فهو نافذ لازم لا رجوع فيه بخلاف سائر العقود المؤجلة التي لا نص في إجازتها وأما الكلام في قوله صلى الله عليه وسلم كان منافقا خالصا وكانت فيه خصلة من النفاق فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فيه إنه يكون كافرا والمنافق أصله من نافقاء اليربوع وهو باب يعده اليربوع في جحره مخفيا مغطى بالتراب فلما كان المسر للكفر المظهر للإيمان يبطن غير ما يظهر سمي منافقا لما ذكرناه فليس كل منافق كافرا إنما المنافق الكافر الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان وأما من أسر شيئا ما وأظهر غيره ففعله نفاق وليس كفرا وهو بذلك الفعل منافق لا كافر فلما كان من إذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان يسرون خلاف ما يظهرون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 ويقولون ما لا يفعلون كان فعلهم ذلك نفاقا وكانوا بذلك منافقين ومما يصح هذا أن المرتد عن الإسلام إلى الكفر حكمه القتل وهؤلاء المذكورون من المخاصم الفاجر والواعد المخلف والمعاهد الغادر والمؤتمن الخائن والكذاب في حديثه لا قتل عليهم لأنه لا نص في قتلهم ولا قال به أحد فضلا عن أن يكون فيه إجماع فصح ما قلناه والحمد لله رب العالمين ثم نظرنا فيما احتجوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لكل غادر لواء يوم القيامة فهو داخل في هذا الخبر المتقدم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى أنه خصم من أعطى به تعالى ثم غدر وإنما ذلك كله فيمن عاهد على حق واجب عهدا أمر الله تعالى به نصا في القرآن أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم غدر فهذا عظيم جدا وكذلك من وعد بأداء دين واجب عليه وأداء أمانة قبله ثم أخلف فهي معصية نعوذ بالله تعالى منها وليس كذلك من عاهد أو وعد على معصية أو بمعصية كمن عاهد آخر على الزنى أو على هذم الكعبة أو على قتل مسلم أو على ترك الصلاة أو على ما ذكرنا قبل من إيجاب ما لم يجب أو اسقاط ما يجب أو تحريم ما أحل الله تعالى أو إحلال ما حرم الله تعالى أو وعد بشيء من ذلك فهذا كله هو الحرام المفسوخ المردود وبالله تعالى التوفيق وهكذا القول فيما احتجوا به من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج فإنما هذا بلا شك في الشروط التي أمر الله تعالى أن يستحل بها الفروج من الصداق المباح ملكه الواجب إعطاؤه والنفقة والكسوة والإسكان والمعاشرة بالمعروف وتدك المضارة أو التسريح بإحسان لا بما نهى الله تعالى عن أن يستحل به الفروج من الشروط المفسدة من تحليل حرام أو تحريم حلال أو إسقاط واجب أو إيجاب ساقط حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبيد الله بن موسى عن زكريا بن أبي زائدة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لامرأة أن تسأل طلاق أختها لتستفرغ صحفتها فإنما لها ما قدر لها وبه إلى البخاري ثنا محمد بن عرعرة عن شعبة عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التلقي وأن يبتاع المهاجر للأعرابي وأن تشترط المرأة طلاق أختها وذكر باقي الحديث فصح أن اشتراط المرأة في نكاحها طلاق غيرها ممن هي في عصمة الناكح لها أو طلاق من يتزوجها بعد أن تزوجها باطل وحرام منهي عنه وشرط مفسوخ فاسد لا يحل عقده ولا إمضاؤه وصح أن كل نكاح عقد على ما لا يحل فإنه لا يحل وهو مفسوخ أبدا ولو ولدت فيه عشرات من الأولاد لأنه عقد بصحة ما لا صحة له وعلى أنه لا يصح إلا بصحة ما لا يصح فهو لا يصح وهذا في غاية البيان والحمد لله رب العالمين وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ثم نظرنا فيما احتجوا به من حديث حذيفة فوجدناه ساقطا لا يصح سنده أما من طريق شعبة فهو مرسل ولا حجة في مرسل وأما الطريق الأخرى فمن رواية الوليد بن جميع وهو ساقط مطرح وأيضا فإن الله تعالى يأبى إلا أن يفضح الكاذبين والكذب في هذا الخبر ظاهر متيقن لأن حذيفة مدني الدار هو وأبوه قبله حليف لبني عبد الأشهل من الأنصار ولم يكن له طريق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤديه إلى قريش الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 أصلا لأن طريق المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرج إلى بدر خلفه لطريق قريش من مكة إلى بدر فوضع كذب ذلك الحديث يقينا وبالله تعالى التوفيق ثم لو صح وهو لا يصح لكان منسوخا بلا شك لما سنذكره إن شاء الله تعالى في خبر أبي جندل بعد هذا وبالله تعالى نتأيد ثم نظرنا في الحديث الذي فيه المسلمون عند شروطهم فوجدناه أيضا قد ثناه أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا محمد بن يحيى بن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت الرقي ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا عمرو بن علي ثنا محمد بن خالد ثنا كثير بن عبد الله بن زيد بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون عند شروطهم وبه إلى البزار ثنا محمد بن المثنى نا محمد بن الحارث نا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على شروطهم ما وافقوا الحق قال علي وكل هذا لا يصح منه شيء أما الطريق الأول ففيها كثير بن زيد وهو هالك تركه أحمد ويحيى والثاني عن الوليد بن رباح وهو مجهول والأخرى كثير بن عبد الله وهو كثير بن زيد نفسه مرة نسب إلى أبيه ومرة إلى جده ثم أبوه أيضا نحوه والثالثة من طريق محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني وهو ضعيف ثم لو صح وهو لا يصح لكان حجة لنا عليهم لأن فيه إضافة النبي صلى الله عليه وسلم الشروط إلى المسلمين ولا شروط للمسلمين إلا الشروط التي أباح الله تعالى في القرآن أو السنة الثابتة عقدها لا شروط للمسلمين غيرها لأن المسلمين لا يستجيزون إحداث شروط لم يأذن الله تعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 بها هذه شروط الشيطان وأتباعه لا شروط المسلمين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة والضلالة في النار والعجب كله من احتجاج الحنفيين والمالكيين بهذه الأخبار وهم أول مخالف لها فيقولون كل شرط في نكاح فهو باطل ما لم يعقده بيمين ثم يتناقضون في اليمين فيجعلون يمينا ما لم يجعل الله تعالى قط يمينا ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأي تناقض أكثر من هذا وأيضا ففي الخبر المذكور الناس على شروطهم ما وافقوا الحق ولعمري لو صح هذا لكان من عظيم حجتنا عليهم لأنه أبطل كل شرط لم يوافق الحق ولا يوافق الحق شيء إلا أن يكون في القرآن أو في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا القول فيما روي عن عمر الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا فعاد كل ما شغبوا فيه من صحيح ثابت أو باطل زائف حجة لنا عليهم والحمد لله رب العالمين ثم نظرنا في حديث أبي جندل فوجدناه لا حجة لهم فيه لوجوه ستة أولها أنه لم يكن عقد للنبي صلى الله عليه وسلم بعد رده من جاء من قريش إليه إذ جاء أبو جندل كما ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد حدثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن محمد هو المسندي نا عبد الرزاق حدثنا معمر أخبرني الزهري أنا عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه فذكر حديث الحديبية وفيه فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما فبينما هو كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال صلى الله عليه وسلم إنا لم نفض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 الكتاب بعد قال فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم فأجزه لي فقال ما أنا بمجيز ذلك لك قال بلى فافعل ما أنا بفاعل قال مكرز بلى قد أجزناه لك فهذا أمر لا يقول به المخالفون لنا أن يرد إليهم من جاء منهم قبل أن يتم التعاقد على ذلك فكيف يحتجون بما لا يحل عندهم أليس هذا من البلايا والفضائح والوجه الثاني أنه كما ترى لم يرده عليه السلام إلا حتى أجازه من لا تقدر قريش على معارضته وهو من رهط سهيل بن عمرو لأنه سهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي والذي أجار أبا جندل هو مكرز بن حنفص بن الأخيف بن علقمة بن عبد الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي من سادات بني عامر بن لؤي فبطل تعلقهم برد النبي صلى الله عليه وسلم أبا جندل إذ لم يرده إلا بجوار وأمان والوجه الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد إلى الكفار أحدا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 من المسلمين في تلك المدة إلا وقد أعلمه الله عز وجل أنهم لا يفتنون في دينهم ولا في دنياهم وأنهم سينجون ولا بد كما حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عفان نا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا قالوا يا رسول الله أتكتب هذا قال نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجا ومخرجا قال أبو محمد قد قال الله عز وجل واصفا لنبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فأيقنا أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن من جاءه من عند كفار قريش مسلما فسيجعل الله له فرجا ومخرجا وحي من عند الله صحيح لا داخلة فيه فصحت العصمة بلا شك من مكروه الدنيا والآخرة لمن أتاه منهم حتى تتم نجاته من أيدي الكفار لا يستريب في ذلك مسلم يحقق النظر وهذا أمر لا يعلمه أحد من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحل لمسلم أن يشترط هذا الشرط ولا أن يفي به إن شرطه إذ ليس عنده من علم الغيب ما أوحى الله تعالى به إلى رسوله وبالله تعالى التوفيق والوجه الرابع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد من رد المسلمين إلى المشركين إلا أحرارا إلى أهلهم وآبائهم وقومهم والمخالفون في هذا لا يردون المسلمين الأحرار إلا عبيدا إلى الكفار الذين يعذبونهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 أشد العذاب ويأتون الفاحشة المحرمة في النساء وربما قتلوهم فما ندري كيف يستسهل مثل هذا مسلم والوجه الخامس أن أبا سعيد الجعفري حدثنا قال نا محمد بن علي بن الأدفوي نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس عن أحمد بن شعيب عن سعيد بن عبد الرحمن نا سفيان عن الزهري قال سفيان وثبتني معمر بعد ذلك عن الزهري عن عروة بن الزبير قال إن المسور بن مخرمة ومروان أخبراه بخبر الحديبية فذكر الحديث وفي آخره خروج أبي بصير وهو عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي حليف بني نوفل بن عبد مناف إلى سيف البحر وانفلات أبي جندل بن سهيل إليه قال فجعل لا يخرج رجل من قريش قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة فوالله ما يسمعون بعير لقريش تخرج إلى الشام إلا اعترضوا لهم فيقتلونهم ويأخذون أموالهم فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله وبالرحم إلا أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم قال أبو محمد فهذا أبو بصير وأبو جندل ومن معهما من المسلمين قد سفكوا دماء قريش المعاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذوا أموالهم ولم يحرم ذلك عليهم ولا كانوا بذلك عصاة ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قادرا على منعهم من ذلك لو نهاهم فلم يفعل فصح يقينا أنه عهد منسوخ بخلاف ما يقوله المخالفون اليوم وإنه إنما لزم من كان بالمدينة فقط دون من كان خارجا عنها والوجه السادس وهو القاطع لكل شغب والحاسم لكل علقة وهو صحة اليقين بأن ذلك العهد منسوخ ممنوع منه محرم عقده في الأبد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 مما في سورة براءة من قول الله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} وبقوله تعالى أيضا في سورة براءة {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} وبقوله تعالى أيضا في سورة براءة {وإن أحد من لمشركين ستجارك فأجره حتى يسمع كلام لله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} وبقوله تعالى أيضا في سورة براءة {كيف يكون للمشركين عهد عند لله وعند رسوله إلا لذين عاهدتم عند لمسجد لحرام فما ستقاموا لكم فستقيموا لهم إن لله يحب لمتقين} وسورة براءة آخر سورة أنزلت كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري نا أبو الوليد هو الطيالسي ثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب قال آخر آية أنزلت {يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم} وآخر سورة نزلت براءة قال أبو محمد وبها عهد النبي صلى الله عليه وسلم آخر عهده إلى الكفار عام حجة أبي بكر الصديق بالناس وبعد الحديبية التي كانت فيها قصة أبي جندل بثلاثة أعوام وشهر لأن الحديبية كانت في ذي القعدة عام ست من الهجرة قبل خيبر فلما كان ذو القعدة المقبل بعد الحديبية بعام كامل اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء سنة سبع من الهجرة ثم كان فتح مكة في رمضان سنة ثمان من الهجرة بعد عمرة القضاء بعام غير شهرين وحج تلك السنة عتاب بن أسيد بالمسلمين ثم حج أبو بكر في ذي الحجة سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام وشهرين كما ثنا حمام ثنا الأصيلي ثنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا سعيد بن عفير نا الليث نا عقيل عن ابن شهاب أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال بعثني أبو بكر في تلك الحجة وذكر الحديث وفيه ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا علي رضي الله عنه يوم النحر في أهل منى ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فصح باليقين أنه لا يحل أن يعاهد مشرك عهدا ولا يعاقد عقدا إلا على الإسلام فقط أو على غرم بالجزية والصغار إن كان كتابيا وصح يقينا أن كل عهد أو عقد أو شرط عقد معهم أو عوهدوا عليه أو شرط لهم بخلاف ما ذكرنا فهو باطل مردود لا يحل عقده ولا الوفاء به إن عقد بل يفسخ ولا بد وأول ما نسخ الله عز وجل من العهد الذي كان يوم الحديبية فرد النساء كما حدثنا حمام بن أحمد ثنا الأصيلي ثنا المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن محمد ثنا عبد الرزاق ثنا معمر قال أخبرني الزهري أخبرني عروة عن المسور بن مخرمة ومروان فذكر حديث الحديبية وشرط سهيل الذي ذكرنا وفيه ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل {يأيها لذين آمنوا إذا جآءكم لمؤمنات مهاجرات فمتحنوهن لله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى لكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم لكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم لله يحكم بينكم ولله عليم حكيم} إلى قوله {يأيها لذين آمنوا إذا جآءكم لمؤمنات مهاجرات فمتحنوهن لله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى لكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم لكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم لله يحكم بينكم ولله عليم حكيم} حدثنا محمد بن سعيد بن نبات حدثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا عبد الله بن جعفر بن الورد ثنا عمرو بن أحمد بن سرح وأحمد بن زغبة قالا حدثنا يحيى بن بكير ثنا الليث بن سعد عن عقيل عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير ومروان بن الحكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 يعني يوم الحديبية فذكر الحديث وفيه فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله عز وجل فيهن {يأيها لذين آمنوا إذا جآءكم لمؤمنات مهاجرات فمتحنوهن لله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى لكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم مآ أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذآ آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم لكوافر واسألوا مآ أنفقتم وليسألوا مآ أنفقوا ذلكم حكم لله يحكم بينكم ولله عليم حكيم} حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله نا أبو إسحاق البلخي نا الفربري نا البخاري نا إسحاق ثنا يعقوب ثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة يخبران خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية وذكر الحديث وفيه أن سهيلا كاتب النبي صلى الله عليه وسلم على ألا يأتيه من المشركين أحد وإن كان على دين الإسلام إلا رده إلى المشركين قالا وجاءت المؤمنات مهاجرات فكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عاتق فجاء أهلها يسألون رسول الله أن يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا محمد بن عبيد أن محمد بن ثور حدثهم عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية فذكر الحديث وشرط قريش في رد من جاء مسلما إليهم وفيه ثم جاء نسوة مهاجرات مؤمنات فنهاهم الله أن يردوهن وأمرهم أن يردوا الصداق قال أبو محمد فإذا نسخ الله تعالى عهد نبيه عليه السلام وعقده وشرطه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 فمن هذا الجاهل الذي يجيز هذا الشرط لأحد بعده تبرأ إلى الله من ذلك قال أبو محمد وهكذا القول في حديث أبي رافع أنه منسوخ ببراءة على أنه حديث ننكره وإن كنا لا نعلم في سنده علة ولكنا نعجب منه لأن أبا رافع كان مولى النبي صلى الله عليه وسلم مولى عتاقة فكيف صار مع مشركي قريش رسولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزول براءة كان بعد إسلام جميع قريش وبعد حديث أبي رافع بلا شك قال أبو محمد فلما لاح بكل ما ذكرنا أنه لا حجة في شيء مما ذكرنا لمن أجاز النذور والعقود والشروط والعهود على الجملة إلا ما عين بنص أو إجماع على أنه لا يجوز منها رجعنا إلى القول الثاني فوجدناه صحيحا ووجدنا النصوص التي احتجوا بها مبينة مفسرة قاضية على هذه الجملة التي احتج بها خصومهم وجدنا النصوص شاهدة بصحة قولهم فمن ذلك نص النبي عليه السلام وهو الذي قال فيه الله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فقال عليه السلام ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله كل شرط في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط شرط الله أوثق وكتاب الله أحق فصح بهذا النص وقد ذكرنا في هذا الباب بسنده أن كل شرط اشترطه إنسان على نفسه أو لها على غيره فهو باطل لا يلزم من التزمه أصلا إلا أن يكون النص أو الإجماع قد ورد أحدهما بجواز التزام ذلك الشرط بعينه أو بإلزامه وليس ذلك إلا في شروط يسيرة قد ذكرناها في كتابنا المرسوم بذي القواعد وأما النذور فإن عبد الله بن يوسف حدثنا قال حدثنا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة بن منصور عن عبد الله بن مرة عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل قال ابن المثنى وحدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور عن عبد الله بن مرة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم به وبه إلى مسلم نا قتية نا عبد العزيز يعني الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل حدثنا عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك نا محمد بن بكر نا أبو داود ثنا مسلم بن إبراهيم نا هشام هو الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية قال إن الله لغني عن نذرها مرها أن تركب فبطلت بهذين النصين النذور كلها ولم يلزم منها شيء إلا ما أتى به النص إما بإيجابه وإما بإباحة التزامه وليس ذلك إلا فيما كان طاعة لله عز وجل فقط على ما بينه عليه السلام إذ يقول من نذر أن يطيع الله فليطعه وقد ذكرناه بسنده في هذا الباب وما عدا ذلك فلا يلزم من التزامه أصلا وأما العقود فإن عبد الله بن يوسف حدثنا قال نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم نا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد كلاهما عن أبي عامر العقدي نا عبد الله بن جعفر الزهري عن سعد بن إبراهيم أن القاسم بن محمد قال له أخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد فصح بهذا النص بطلان كل عقد عقده الإنسان والتزمه إلا ما صح أن يكون عقدا جاء النص أو الإجماع بإلزامه باسمه أو بإباحة التزامه بعينه وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبطال صلح الذين صالح الذي زنى ابنه بامرأته وأما وأي المؤمن واجب فمرسل وفيه أيضا هشام بن سعد وهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 ضعيف وكذلك لا تعد أخاك وتخلفه مرسل أيضا والمحتجون بذلك أشد الناس خلافا له فلا يقضون على من وعد بإنجازه وأما إذا قلت لصبي تعال هاه لك فمنقطع لأن ابن شهاب لم يلق أبا هريرة ولو صح لم يكن لهم فيه حجة لأن ذلك اللفظ هبة صحيحة لازمة وأما العهود فإن الله عز وجل يقول في سورة براءة التي هي آخر سورة أنزلها آخر عهد عهد به إلى المسلمين والمشركين نسخ به جميع ما تقدم فقال تعالى {كيف يكون للمشركين عهد عند لله وعند رسوله إلا لذين عاهدتم عند لمسجد لحرام فما ستقاموا لكم فستقيموا لهم إن لله يحب لمتقين} فأبطل عز وجل كل عهد يعهده أحد لمشرك إلا على ما نص في السورة المذكورة من غرم الجزية مع الصغار لأهل الكتاب خاصة واستثنى تعالى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المسجد الحرام خاصة وهم الذين ذكروا في أول السورة إذ يقول تعالى {برآءة من لله ورسوله إلى لذين عاهدتم من لمشركين * فسيحوا في لأرض أربعة أشهر وعلموا أنكم غير معجزي لله وأن لله مخزي لكافرين} فلما انقضت تلك الأربعة الأشهر لم يبق لمشرك على مسلم عهد إلا السيف أو الإسلام إلا أن يكون كتابيا فيرضى بغرم الجزية مع الصغار فيجاب إلى ذلك وإلا فالسيف فصح بهذا النص أن كل عهد عاهده مسلم مشركا على غير الجزية مع الصغار فهو عهد الشيطان مفسوخ مردود لا يحل الوفاء به ولا فرق بين من أخذ بحديث أبي جندل وبين من صلى إلى بيت المقدس وترك الكعبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كلا الأمرين ثم نسخا والعجب كل العجب ممن لا يراعي حدود الله تعالى فيعقد عقودا بخلافها ويراعي عهد كافر قد أمر الله ورسوله بفسخه والعجب كل العجب من المالكيين القائلين إنه إن نزل عندنا كفار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 حربيون بأمان وعندهم أسارى رجال ونساء مسلمون ومسلمات أنهم لا ينتزعون منهم ويتركون ويردونهم إلى بلادهم ولا يمنعون من الوطء قال أبو محمد ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من هذا القول الملعون الذي تقشعر أجساد المسلمين من سماعه فكيف من اعتقاده فليت شعري لو عاهدوهم على نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو على قلب المساجد كنائس أو على تعليق النواقيس في المآذن أتراهم كانوا يرون الوفاء لهم بهذه العهود مع ما يسمعون من قوله تعالى {كيف يكون للمشركين عهد عند لله وعند رسوله إلا لذين عاهدتم عند لمسجد لحرام فما ستقاموا لكم فستقيموا لهم إن لله يحب لمتقين} ثم يتعلقون بحديث أبي جندل وهو منسوخ لما نص الله تعالى في براءة مما قد تلوناه في هذا الباب فإن تعلقوا بقول الله تعالى {وإن أحد من لمشركين ستجارك فأجره حتى يسمع كلام لله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} فهذه حجة عليهم لا لهم لأن الله تعالى لم يبح في هذه الآية أن يطلقوا على مسلم ولا على ماله ولا على إذلاله وإنما أباح حقن دمائهم فقط ولا مزيد أما سمعوا قوله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} ومن أباح لكافر تملك مسلم فقد انقلبت صفتهم فصاروا رحماء على الكافرين أشداء بينهم نعوذ بالله من هذه الصفة القبيحة وقوله تعالى {ما كان لأهل لمدينة ومن حولهم من لأعراب أن يتخلفوا عن رسول لله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل لله ولا يطأون موطئا يغيظ لكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن لله لا يضيع أجر لمحسنين} حدثنا حمام ثنا الأصيلي نا المروزي نا الفربري نا البخاري نا محمد بن العلاء أنبأنا أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني نا أبو إسحاق البلخي نا الفربري حدثناالبخاري نا سعيد بن الربيع نا شعبة عن الأشعث سمعت معاوية بن سويد يقول سمعت البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع فذكر فيها نصر المظلوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم نا قتيبة نا الليث عن عقيل عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة وبه إلى مسلم نا عبد الله بن مسلمة بن قعب نا داود بعني ابن قيس عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله وبه إلى مسلم ثنا محمد بن عبد الله بن نمير نا أبي نا زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى وبه إلى محمد بن عبد الله بن نمير نا حميد بن عبد الرحمن عن الأعمش عن خيثمة عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله قال أبو محمد فأعرضوا عن هذا كله وقد علمنا أنه لا ظلم للمسلم ولا إسلام له ولا خذلان له ولا تضييع لحاجته ولا أتم لكربته ولا فضيحة له ولكل مسلم ولا أشد خلافا على الله تعالى وعلى رسول صلى الله عليه وسلم من ترك المسلم والمسلمة عند المشرك يذلها ويطؤها ووجب بهذا ضرورة أن الإمام إذا تعاصى عليه خارج عن طاعته ظالم طالب دنيا فلم يراجع الطاعة إلا بأمان وعهود وعقود على ألا يتعرض في شيء من حاله ولا مما بيده فإنه أمان فاسد وعقد باطل وعهود ساقطة وشروط مفسوخة كلها ولا يسقط عنه شيء إلا حد المحاربة فقط بنص القرآن إذ يقول تعالى {إلا الذين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فعلموا أن لله غفور رحيم} ولا يسقط بذلك قود لمسلم في نفس فما دونها ولا حد من حدود الله تعالى ولا حق لمسلم في مال أخذه بغير حق بل يقام عليه الحكم في كل ذلك بما أوجبه القرآن أو السنة وإلا فالإمام عاص لله تعالى إن أغفل ذلك قال أبو محمد وهم يقولون فيمن قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها إنها تطلق عليه ويحتجون ب {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} ويرون في رسول الله أتى من دار الحرب فأسلم أنه يرد إلى الكفار ثم يقولون في رجل كان له شريك مسلم في دار فعرض عليه شريكه أن يأخذ الشقص بما يعطى فيه أو يترك فيبيعه ممن يريده فأباح له شريكه أن يبيع وعقد معه وأشهد الناس طائعا على ترك شفعته وأنه لا يقوم بها فباع الشريك قالوا فذلك العهد وذلك العقد ساقطان لا يلزمان وله الأخذ بالشفعة قال أبو محمد أفيكون في عكس الحقائق أشنع من هذا وهذا شرط قد جاء النص بإلزامه فأبطلوه وهو حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وأجازوا شروطا منسوخة لا يحل عقدها الآن أصلا حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي نا مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب عن ابن جريج أن أبا الزبير أخبره أنه سمع جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل شرك في أرض أو ربع أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع فإن أبى فشريكه أحق به حتى يؤذنه وبه إلى مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير نا عبد الله بن إدريس نا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعه أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به فهذا حديث قد صح سماع أبي الزبير من جابر ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ أم الترك للشريك إلا قبل بيع شريكه ولم يجعل له بعد البيع حقا إلا إن كان الشريك لم يؤذنه قبل البيع فعكس هؤلاء القوم الحقائق كما ترى فيتركون احتجاجهم ب {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} حيث شاؤوا فيبطلونه العقود لا يحل لمسلم القرار على سماعها فكيف إمضاؤها مما قد جاء النص بإبطاله التي أمر الله تعالى بإمضائها ويحتجون ب {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} حيث شاؤوا فيمضون عقودا ويبطلون من النذور ما قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإنفاذه باسمه كالنذر في الجاهلية الذي أمر عليه السلام عمر بالوفاء به فعكس هؤلاء القوم في أقوالهم الحق عكسا ويقولون من باع بيعا فاشترط شروطا تفسده فقال أنا أسقط الشرط جاز ذلك وصح البيع قالوا فإن باع بيعا إلى أجل مجهول فقال أنا أعجل الثمن وأسقط الأجل قالوا فذلك لا يجوز والبيع فاسد قالوا ومن اشترى عبدا بشرط أن يعتقه فذلك جائز لازم له ولا يرده بعيب يجده فيه لكن يأخذ أرش العيب قالوا فإن أعتقه بشرط ألا يفارقه لم يجز ذلك قالوا ومن قال لآخر بعني عبدك للعتق بأربعين دينارا فقال لا بل بخمسين دينارا فأبى المشتري فقال العبد لسيده يعني منه بأربعين دينارا وأنا أعقد لك وأشرط لك على نفسي بالعشرة الدنانير الزائدة وأشهد لك بذلك فأجاب السيد إلى ذلك والتزم العبد العشرة الدنانير طائعا وأشهد البينة على نفسه بذلك فاشترى المشتري العبد فأعتقه قالوا لا يلزم العبد مما عقد على نفسه وأشهد عليها به شيء أصلا قالوا فلو قال لعبده أنت حر وعليك خمسون دينارا جاز ذلك ولزم العبد أن يؤديها شاء أم أبى قالوا ومن شارط عبده على أن يخدمه هذه السنة التي أولها شهر كذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 ثم أنت حر والتزم العبد ذلك فأبقى العبد تلك السنة كلها قالوا فهو حر ولا يلزمه من شرط الخدمة شيء وقد ذكرنا قولهم في الشفعة وقالوا فيمن باع ثمر حائطه وشرط للمشتري على نفسه ألا يقوم بالجائحة إن أجيح فأجيح قالوا لا يلزمه ذلك الشرط وله القيام بالجائحة ثم قالوا في مريض شاور ورثته في أن يوصي بأكثر من ثلثه وهم في غير كفالته فأجازوا له ذلك فأوصى بأكثر من الثلث ثم مات قالوا يلزمهم ما التزموا ولا قيام لهم عليه قال أبو محمد وهذا عكس الحقائق وإجازة ما لا يجوز وتحليل ما حرم الله تعالى وإبطال ما لا يجوز سواه وقالوا لو تراضى المكاتب وسيده وتشارطا أن المكاتب متى فعل أمرا كذا فمحو كتابته بيد سيده ففعل المكاتب ذلك الشيء وأقر بفعله أو قامت عليه بذلك بينة قالوا هذا شرط لا يلزم ولا يكون محو كتابته إلى سيده لكن إلى السلطان ثم قالوا إن حكم خصمان بينهما رجلا من عرض المسلمين لا سلطان له فحكم بينهما برضاهما ثم امتنع أحد الخصمين قالوا ذلك الحكم لازم لهما ورضاهما به أو لا جائز عليهما وهذا كله ينقض بعضه بعضا قالوا فإن شرط على مكاتبه وصفاء غير موصوفين قالوا ذلك شرط جائز لازم قالوا فإن تشارطا برضا منهما أن ما ولد للمكاتب بل تمام أداء كتابته من ولد فإنهم غير داخلين في الكتابة قالوا هذا شرط لا يلزم ولا يجوز هذا هو قولهم إن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وأنه إن عجز عاد رقيقا قالوا فإن شرط على مكاتبه أضاحي مسماة وعملا معروفا وخدمة محدودة وكسوة ثم أدى بالمكاتب نجومه مجموعة قبل حلول الأجل المشترط أجبر السيد على قبضها وعجل العتق للمكاتب وبطلت شروطهما في الآجال التي اتفقت الأمة على أنها شروط جائزة لازمة قالوا وسقط شرط الخدمة والعمل والسفر بلا عوض يكلفه المكاتب ولم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 يسقط شرط الأضحية والكسوة ولا يلزم أيضا لكن يقول كل ذلك ويدفع قيمته مع ما عجل من نجوم كتابته فأبطلوا شرط الآجال الذي صححه الله تعالى بلا دليل وتكلموا في سائر الشروط فأبطلوا بعضها وعوضوا من بعضها كل ذلك تحكم بلا دليل ولكن تناقض لا معنى له فإذا تعلقوا في إسقاط أجل المكاتب بعمر بن الخطاب إذ أجبر أنسا على تعجيل عتق مكاتبه إذ عجل له النجوم كلها قيل لهم هذا عجب من العجب هذه قضيتان اختلف فيهما عمر وأنس فخالفتم عمر حيث لا يحل خلافه واتبعتم أنسا في إحدى القضيتين ثم خالفتم أنسا حيث لا يحل خلافه في القضية الثانية وتعلقتم بعمر وذلك أن عمر أجبر أنسا على مكاتبة سيرين فكان القرآن يشهد لعمر في هذه القضية بالصواب بقوله تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} فخالفتم عمر وقلتم لا يجوز أن يجبر السيد على مكاتبة عبده وإن علم فيه كل خير ثم أجبر عمر أنسا على إسقاط الآجال في المكاتب وتعجيل عتقه إذا عجل المكاتب كل ما عليه وأنس يأبى ذلك والنص يشهد لأنس في هذه القضية بالصواب لأن هذا العقد في الآجال المشترطة في الكتابة داخلة في العقود التي اجتمعت الأمة على جوازها فهي داخلة في عموم قوله تعالى {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن لعهد كان مسؤولا} وكل عقد صح بنص أو إجماع فلا يجوز إبطاله إلا بنص آخر أو إجماع ولا نص ولا إجماع على إسقاط آجال المكاتب بتعجيل ما عليه فخالفتم أنسا في هذه القضية وخالفتم عمر في الأولى فلو قيل لكم اجتهدوا في الخطأ ما أمكنكم أكثر من هذا قالوا ومن وطىء مكاتبته فحملت خيرت بين التمادي على المكاتبة وبين إسقاطها ويذهب الشرط والعقد ضياعا قالوا ومن كان له على آخر دين إلى أجل من طعام وذهب إلى أجل مسمى فأتاه بهما قبل الأجل قالوا يجبر على قبض الذهب قبل الأجل ولا يجبر على قبض الطعام إلا حتى يحين الأجل فمرة يثبتون الشروط ويحتجون ب {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 والمسلمون عند شروطهم ومرة يبطلون كل ذلك كيفما وافقهم قالوا ومن كان له على آخر دين إلى أجل مسمى أو حال فقال له أنا أنظرك بالدين الذي لي عليك إلى عشرة أيام بعد الأجل الذي هو إليه وأهبك غدا دينارا قالوا يقضى عليه بالتأخير شاء أم أبى ولا يقضى عليه بالهبة الدينار الذي ذكر أصلا قالوا ولو قال لغريمه جئني بحقي قبلك والحق حال لا مؤجل وأنا أهبك نصفه فأتاه به لزمه ما وعده أن يهبه وقضى عليه بذلك قالوا ولو قال مالي في المساكين صدقة لزمه ثلث ماله ولم يقض عليه به أن يتصدق بالثلث فإن فرط حتى تلف الثالث ولم يؤمر أن يتصدق منه بشيء قالوا فلو تصدق على إنسان معين بدار قضي عليه بذلك قالوا فلو قال داري هذه صدقة على زيد أو قال على المساكين إن دخلت دار عمرو فدخلها عامدا ذاكرا ليمينه قالوا لا يقضى عليه بشيء ولا يحكم عليه بإمضاء ما تصدق به لا للمعين ولا للمساكين قالوا ولو قال ذلك في غير يمين قضي عليه بإمضاء ما تصدق به على المعين قالوا فلو قال عبدي حر إن دخلت دار عمرو فدخلها قضي عليه بعتق العبد قالوا ولو قال في نذر إن جاء أبي سالما فعلي أن أعتق عبدي هذا حرا لله فجاء أبوه سالما لم يقض عليه بعتق ذلك العبد فلو قال إن اشتريت عبد فلان فهو حر فاشتراه قالوا يقضى عليه بعتقه وهذا ضد النص وضد حكم النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول من نذر أن يطيع الله فليطعه وإذ يقول عليه السلام إنه لا نذر فيما لا يملك ابن آدم فقضوا هم عليه بإمضاء النذر فيما لم يملك إذ نذره ولم يقضوا عليه بالطاعة التي ألزمه الله تعالى إمضاءها والوفاء بها قالوا فلو قال أنا أهبك غدا درهما لم يقض عليه بذلك قالوا ولو قال له إن تبع هذا الثوب أنا أقويك بثمنه وبدرهم أهبه لك قالوا يقضى عليه بذلك قالوا ومن شرط لامرأته أن لا يرحلها ولا يتسرى عليها ولا يتزوج عليها لم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 يلزمه شيء من ذلك وجاز له النكاح وله أن يرحلها ويتسرى عليها ويتزوج قالوا فلو زاد في كل ذلك فإن فعل فأمرها بيدها أو قال فالسرية حرة والداخلة بنكاح طالق فإن كل ذلك يلزمه ويقضى عليه به قال أبو محمد وليس في التلاعب أكثر من هذا قالوا ومن شرط على نفسه نفقة امرأة ولده الناكح ولم يلزمه في الكبير وثبت النكاح واختلفوا في لزوم ذلك في امرأة الصغير قالوا فإن تزوج امرأة على أنه إن جاء بصداقها المسمى إلى أجل مسمى فذلك وإلا فلا نكاح بينهما فسخ أبدا جاء بالصداق إلى ذلك الأجل أو لم يجىء هذا مع قولهم إن من شرط في البيع شرطا يفسده فرضي إسقاط الشرط صح البيع وهم يقولون إن البيوع تشبه النكاح حتى إنهم أبطلوا النكاح حين النداء إلى الجمعة قياسا على بطلان البيع حينئذ ثم قالوا فإن تزوجها بصداق مسمى إلى الميسرة فإن رضي بإسقاط الشرط عجل الصداق جاز النكاح وإن أبى من إسقاط الشرط فسخ النكاح قالوا ومن قال لآخر إن جئتني بأمر كذا في وقت كذا فقد زوجتك ابنتي فلانة فأتى بذلك الشيء في ذلك الوقت قالوا لا يجوز له أن يفي بهذا الشرط فإن أنكحه بذلك الشرط فسخ النكاح أبدا قالوا ومن زوج أمته عبد غيره وتشارطا أن ما ولدت فهو حر فسخ النكاح ولزم سيدها تحرير ما ولدت بالشرط قالوا فلو تشارطا أن ما ولدت فهو رقيق بينهما قالوا ينفذ النكاح ويثبت والولد رقيق لسيد الأمة ويبطل الشرط ففي الأول بطل النكاح وثبت الشرط وفي الثانية عكس ذلك وهو ثبات النكاح وبطلان الشرط قالوا فلو تزوج المرأة على أن لها من النفقة كذا وكذا فدخل بها قالوا بطل الشرط وينفذ النكاح ولها نفقة أمثالها قالوا فلو تزوجها على أن أمرها بيدها إن تزوج عليها قالوا يثبت النكاح ويثبت الشرط ويكون أمرها بيدها إن تزوج قالوا إن تزوجها على ألا ينفق عليها ورضيت بذلك وأشهدت على نفسها فدخل بها ثم بدا لها قالوا ذلك لها ولا يلزم ذلك الشرط ويقضى لها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 عليه بالنفقة قالوا فلو تزوج امرأة على مائة فلما هموا بالفراغ قالوا يضع لك خمسين على ألا تخرجها من دارها أو قالوا من ولدها فقال نعم فزوجوه على ذلك الشرط وهو راض وهي راضية وتشاهدوا ثم بدا له فأراد إرحالها قالوا ذلك له ويوفيها المائة الكاملة ولا يلزم واحدا منهما ما تشارطاه فلو قالت له أتزوجك بمائة وأضع عنك خمسين على أن تخرجني فقال نعم وتشاهدا على ذلك فلما تزوجها أراد أن يرحلها قالوا فذلك له شرط على نفسه في ألا يرحلها مفسوخ وشرطها على نفسها فيما أسقطت عنه من الخمسين لازم لها لا ترجع عليه بشيء قالوا فلو قال لها إن رحلتك فأمرك بيدك فذاك لازم له قالوا ولو قال لها إن غبت عنك سنة فأمرك بيدك فله أن يطأها قبل أن يغيب ولا يسقط بذلك ما جعل لها من الشرط قالوا فلو قال لها وهي حامل إذا وضعت حملك فأمرك بيدك قالوا فإن وطئها بعد هذا القول وقبل أن تضع حملها فقد سقط ما جعل من لها الشرط وقالوا من خالع امرأته على أن عليها نفقة ولدها ست سنين لم يلزمها من ذلك إلا رضاع سنتين فقط ثم تعود النفقة على الأب ويسقط عنها ما شرطت على نفسها قالوا فإن طلقها طلقة سنة فأعطته مالا على أن لا رجعة له عليها قالوا ذلك لازم لها وله وكأنه خلع قالوا فلو تشارطا في الخلع إنك إن خاصمتني فأنت امرأتي فخاصمته فإن لها ذلك والشرط باطل لا يلزم قال أبو محمد فهلا قالوا هو لازم وكأنه رجعة كما قالوا في التي قبلها وكأنه خلع قالوا ومن كان لامرأته عليه دين فخالعها على أن يجعل لها نصف الدين وتبرئه من الباقي قالوا فالطلاق نافذ والإبراء جائز لازم وتجير على أن ترد إليه ما عجل فيبقى إلى أجله هذا وهم يجبرون سيد المكاتب والغريم على قبض ما عجل لها بضد ما فعلوه في المرأة قالوا وإن قالت أمة تحت عبد إن أعتقت فقد تخيرت نفسي أو قالت فقد تخيرت زوجي وأشهدت على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 نفسها بذلك قالوا فليس ذلك بشيء ولا يلزمها ولها استئناف الخيار إن أعتقت وهم يقولون في عبد أو حر قال إن تزوجت فلانة فهي طالق أو قال كظهر أمي فتزوجها القائل ذلك فهي طالق وكظهر أمه ويقولون في قائل قال إن وكلني زيد بطلاق امرأته فلانة فهي طالق فوكله زيد بطلاق تلك المرأة إنها لا تكون طالقا إلا أن يحدث لها الوكيل طلاقا إن شاء وإلا فلا ويقولون في قائل قال متى طلقت زوجتي أو قال إن طلقت زوجتي هذه فهي مراجعة مني فطلقها قالوا لا تكون مراجعة بذلك إلا أن يحدث لها رجعة إن شاء قالوا ومن باع جارية على أن تعتق فذلك جائز لازم قالوا فإن باعها على أن لا تباع قالوا لا يجوز ويفسخ البيع إلا أن يرضى البائع إسقاط الشرط فيتم البيع ويسقط الشرط وقالوا ومن باع بثمن مجهول فسخ البيع فإن باع نصف جارية له من زيد واشترط على المشتري نفقتها سنة قالوا إن كان ذلك ثابتا في الحياة والموت جاز الشرط وليس في الثمن المجهول أكثر من هذا لاختلاف الشبع وتناول النفقة في الصحة والمرض قالوا ومن باع سلعة بثمن مسمى على أن يتجر له في ثمنها سنة فلا بأس بذلك إذا كان ذلك ثابتا عليه إن تلف الثمن أخلف مكانه غيره وهم لا يجيزون القراض إلى أجل قالوا من عرف كيل صبرة له من طعام فابتاعها منه مبتاع جزافا وقال له المشتري ما أبالي عرفت أنت أيها البائع كيلها أم لم تعرف فتبايعنا على ذلك قالوا فلا يلزم هذا الشرط المشتري وله أن يرد إن شاء قالوا فلو لم يعلم البائع كيلها فباعها جزافا قالوا فذلك للمشتري لازم ولا رد له وتناقضهم فيما يلزمونه من العقود والشروط وما لا يلزمونه منها أكثر من أن يحصى أو يحاط به إلا في المدة الطويلة وفيما ذكرنا كفاية لمن عقل والحنفيون مثلهم في ذلك وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فلما قام البرهان بكل ما ذكرنا وجب أن كل عقد أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 شرط أو عهد أو نذر التزمه المرء فإنه ساقط مردود ولا يلزمه منه شيء أصلا إلا أن يأتي نص أو إجماع على أن ذلك الشيء الذي التزمه بعينه واسمه لازم له فإن جاء نص أو إجماع بذلك لزمه وإلا فلا والأصل براءة الذمم من لزوم جميع الأشياء إلا ما ألزمنا إياه نص أو إجماع فإن حكم حاكم بخلاف ما قلنا فسخ حكمه وورد بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد قال أبو محمد أبو محمد فإذ قد ثبت كل ما ذكرنا بالبراهين الضرورية فقد ثبت أن كل ما لا يصح بصفة ما وشرط ما وعقد ما ففسدت تلك الصفة وذلك الشرط وذلك العقد في حين التعاقد فإن ذلك الشيء لا يصح أبدا ويبطل ذلك العقد ويفسخ أبدا لأن ما تعلقت صحته بما لا يجوز فلا صحة له إذ لم يصح ما لا تمام له إلا به وهذا أمر يعم بالضرورة وبذلك وجب إبطال كل نكاح انعقد بشرط فاسد أو بصفة فاسدة وكذلك كل بيع انعقد على ما لا يجوز فإن كل ذلك يفسخ أبدا ووجب بذلك بطلان كل صلاة صليت في مكان مغصوب يعلم المصلي فيه أنه مغصوب وكل صلاة فعل فيها المرء ما لا يجوز له وبذلك حرمت ذبيحة الغاصب والسارق والمعتدي وبسكين مغصوبة وبالله تعالى التوفيق وصح بهذا كله أن كل عقد أو عهد أو نذر أو شرط أوجبها أو أباح إيجابها نص فإنها نافذة لازمة فمن ادعى سقوط شيء من ذلك فقوله باطل وكل ذلك باق بحسبه لازم كما كان إلا أن يأتي مدعي بطلانه بنص على بطلانه فيجب الوقوف حينئذ عند ما أوجبه النص مثال ذلك أن الإجارة عقد قد جاء النص بجوازه وإباحة التزامه وصح الدليل من النص والإجماع على أن الإجارة إلى غير أجل وعلى غير عمل محدود باطل مردودة لا تجوز لأنها أكل مال بالباطل والإجارة على ما ذكرنا حرام مردودة بإجماع الأمة كلها من مجيز لها ومن مانع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 منها وبالنص ولا بد أن تكون الإجارة إلى أجل معلوم أو إلى غير أجل ولا سبيل إلى قسم ثالث بوجه من الوجوه وقد بطل أحد القسمين المذكورين فوجب ضرورة إذ قد جاء النص بإباحة الإجارة أن يصح القسم الآخر فصح وجوب ذكر الأجل المسمى في الإجارة ضرورة بالنص وبمقدمتي الإجماع اللتين ذكرنا فإذ قد صح ذلك فذكر الأجل في عقد الإجارة شرط صحيح وإذا كان ذلك فقد ثبت عقده وما ثبت عقده الآن فلا يبطل في ثان إلا بنص فصح أن لا رجوع للمؤاجر ولا للمستأجر فيما عقدوه ما داموا أحياء وما لم ينتقل ملك الشيء المستأجر عن المؤاجر له وما كانت عين ذلك الشيء قائمة فإن انتقل الملك أو مات أحدهما بطل عقد الإجارة لقول الله عز وجل {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وليس صحة عقد الإجارة مانعا من إخراج المؤاجر عن ملكه الشيء الذي أجر وإن أدى ذلك إلى بطلان العقد لأن البيع مباح له بالنص وليس بيعه ماله نقضا لعقده وإنما ينقض ذلك العقد ملك غير العاقد للشيء المعقود فيه قال أبو محمد وقال بعضهم أنتم إذا منعتم من نقض عقد الإجارة والكتابة والتدبير والعتق بصفة ثم أجزتم للعاقدين أن يخرجوا عن ملكهم الأعيان التي عقدوا فيها هذه العقود وذلك مبطل للعقود فقد تناقضتم وأجزتم إبطالها قيل لهم وبالله تعالى التوفيق لم نمنع قط من أن يفعل الإنسان في ماله ما أبيح له قبل العقد الذي عقد فيه وليس ذلك العقد بمحرم عليه ما كان له حلالا من إخراج ذلك الشيء عن ملكه ومدعي هذا متحكم في الدين قائل بغير بيان من الله تعالى وإذا منعنا أن يفسخ بقوله ما عقد بقوله مما أبيح له عقده أو أمر به فقط وإنما يلزم هذا التعقب القائلين بالقياس الذي يحرمون به المسكوت عنه لتحريم المأمور بتحريمه والرهن وغيره سواء فيما ذكرنا إذا لم يمنع من إخراجه من الرهن بالبيع والعتق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 نص وأما المنكرون لهذا فقد تناقضوا فيه أقبح تناقض وقالوا بما أنكروه علينا يعني أصحاب مالك فقالوا لا تقبل شهادة النساء في عتق أصلا ثم قالوا إن شهدت امرأتان بدين على زيد لعمرو حلف عمرو معهما ورد عتق زيد لعبد الذي أعتقه ودين عمرو محيط بماله فقد أجازوا في رد العتق شهادة النساء وكذلك قالوا لو شهدت امرأتان بابتياع زيد وعمرو لأمة كانت تحت زيد قبلتا مع يمين البائع وفسخ نكاح الأمة ومثل هذا لهم كثير جدا قال أبو محمد ومن استؤجر على عمل معلوم فهو عقد قد جاء النص بإباحته واتفق القائلون بالإجارة على لزومه في حين عقده واختلفوا هل ينفسخ في ثانية أو لا فوجب أن يبقى على ما جاء الدليل به من صحته ما لم يأت نص بفسخه وهكذا القول في المدبر وفي الموصي بعتقه وفي المعتق بصفه وفي المكاتب أنها عقود قد اتفق الناس على ما جاءت به النصوص من صحتها في حين عقدها وعلى القضاء بها ما لم يرجع العاقد لها فيها ثم اختلفوا هل لعاقدها فسخها في ثاني عقده إياها أو لا فوجب ألا يكون له في شيء منها رجوع إلا بنص ولا نص ولا إجماع في إباحة الرجوع في ذلك لا بتراضيها ولا بغيره فلا يجوز أصلا بخلاف المؤاجرة وكان إخراجه لكل ما ذكرنا عن ملكه جائزا ويبطل بذلك العقد لانتقال الملك كما قلنا في الشيء المؤاجر ولا فرق وأما المكاتب فإنما يخرج عن الملك منه ما لم يؤد خاصة وفي ذلك المقدار يبطل العقد لا فيما أدى وهو قول علي وروايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء النص ببيع المدبر وبيع المكاتب ما لم يؤد فوجب إباحة ذلك وممن رأى للمؤجر والمستأجر أن يفسخ الإجارة أيهما شاء متى شاء قبل الأجل وإن كره الآخر مسروق وشريح والشعبي وممن رأى ألا رجوع لموصي في العتق خاصة الأوزاعي والثوري وأما العارية فبخلاف ما ذكرنا لأن العارية المطلقة التي ليست إلى أجل هي التي صحت بالنصوص وبالإجماع وأما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 شرط التأجيل فيها فهو باطل لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى ولا جاء به نص ولا إجماع فهو باطل وجمهور الفقهاء يقولون إن العارية التي يشترط التأجيل فيها ليست شيئا وهو شرط لا يلزم فلم يتفق على صحته فهو باطل وكذلك الوعد بالعارية لا يلزم لما ذكرنا وهكذا القول في ضمان ما لم يلزم بعد من المال وفي ضمان الوجه أن كل ذلك باطل لأنها شروط لم يأت بصحتها نص ولا إجماع ويبطل بما ذكرنا ضمان النفقة على زيد وعلى من لم يأت نص ولا إجماع بإيجاب النفقة عليه وهكذا ضمان الصداق عمن لم يتزوج بعد ووجب بما ذكرنا الرجوع في الشركة والقراض لأيهما شاء متى شاء وإن كره الآخر لأن شرط التأجيل فيها باطل إذ لم يأت بإباحته نص ولا إجماع وهكذا القول في كل شرط شرطه المحبس في الحبس من أجل محدود أو من بيعه إن احتيج كل ذلك باطل لما ذكرنا وكذلك إن شرط في الهبة والعمرى والرقبى استرجاع شيء منها فهو باطل كله لما ذكرنا بخلاف وجوب ذكر الأجل في الإجارة وبخلاف وجوب الرجوع في العارية وأما ضمان ما قد وجب من الأموال فهو عقد مجمع على صحته وقد جاء النص به وكذلك الحوالة وإذ هما كذلك فلا رجوع لأحد فيها لما ذكرنا من أن ما صح في أول لم يبطل في ثان إلا بنص أو إجماع وكذلك الحبس والهبات والصدقات والعمرى كل ذلك قد بان عن الملك فالرجوع فيه كسب على غيره وقد جاء النص ببطلان ذلك قال الله تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وأما القرض المؤجل فقد صح النص فيه بالأجل وإذا صح بالنص فهو ثابت فلا رجوع لأحد فيه إذا كان شرط الأجل في حيز القرض لقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} فإن انعقد حالا ثم شرط على نفسه أجلا فهو شرط فاسد لا يلزمه والدين حال كما كان لأنه شرط ليس في كتاب الله ولا أجمع على لزومه فهو باطل وأما المزارعة والمساقاة المعقودتان إلى أجل فقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 ادعى قوم أن كل من أجازهما وهم أهل الحق قد أجازوهما إلى أجل مسمى فالأجل فيهما شرط صحيح وإذا كان صحيحا في حين العقد فهو لازم وإذا كان لازما في وقته لم يبطل في ثانية إلا بنص أو إجماع ولا نص ولا إجماع في ذلك إلا بتراضيهما معا للإجماع على ذلك قال أبو محمد وهذا خطأ بل قد صح الإجماع على عقدهما بغير أجل ولم يأت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين تجويزهما إلى أجل فعقدهما إلى أجل لا يجوز البتة لأنه لم يوجد نص ولا إجماع فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وليس تراضي المتعاقدين عقدا صحيحا أو المتشارطين شرطا صحيحا بنص أو إجماع ثم تراضيا معا على فسخه أو تأجيله مجيزا لهما ذلك بل رضاهما بفسخه أو تأجيله باطل والعقد والشرط باق كما كان إلا أن يبيح لهما النص أن يتراضيا على فسخه فيكون لهما ذلك حينئذ وإلا فلا لأنه ليس لأحد أن يوجب ولا أن يحرم ولا أن يحلل إلا بنص ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى وشرع من الدين ما لم يأذن به الله قال الله تعالى {أم للإنسان ما تمنى} والكل عبيد لا أمر لهم ولا حكم إلا ما حكم به عليهم ولهم خالقهم ومولاهم عز وجل وأما النكاح والبيع فقد جاء النص بصفة عقدهما وبصفة فسخهما فليس لأحد أن يعقدها بغير تلك الصفة فإن فعل فليس نكاحا ولا بيعا وهو مردود مفسوخ أبدا ومن عقدهما كما أمر فليس له فسخهما إلا بالصفة التي أتى النص بفسخهما بها وإلا كان فسخه باطلا مردودا وثبت عقدهما كما كان وقد حرم بيع أم الولد بالنص الوارد في ذلك مما قد ذكرناه في كتاب الإيصال وفي المحلى فلم يلتفت إلى الخلاف في ذلك وقد صح النص بجواز الهبة ووجوب قبولها وتحريم الرجوع فيها فلم يجز الرجوع في شيء من الهبة ولا الصدقة من ذلك حاشا العطية للولد فقط للنص في ذلك ولم يأت نص ولا إجماع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 على رد الحبس لا بتراض ولا بغير تراض فلم يجز أصلا قال أبو محمد فإن قال قائل أنتم لا تلزمون أحدا الوفاء بعهده ووعده إلا أن يوجب ذلك عليه نص ومن مذهبكم أن وعد الله تعالى ووعيده نافذان لا سبيل إلى دخول خلف فيهما فالجواب أن هذا الذي نقول هو الذي لا يجوز تعديه لأننا متعبدون ليس لنا أن نلتزم شيئا إلا ما ألزمنا خالقنا تعالى فإلزامنا فعل شيء لم يأتنا نص ولا إجماع بأن نفعله باطل والله تعالى ليس كذلك لأنه ليس فوقه أمر فكل ما قضى به نافذ وكل ما قاله فحق وأيضا فوعدنا نحن ليس خبرا لأنه لا علم لنا بما يكون في المستأنف والله تعالى ليس كذلك لأنه عليم بما يكون قبل أن يكون فكل ما أخبر تعالى أنه يفعله فلا بد أن يفعله ومن أجاز غير ذلك أجاز على الله تعالى الكذب في خبره تعالى الله عن ذلك قال الله عز وجل {قال فلحق ولحق أقول} ما خالف الحق فهو باطل تعالى الله عن الباطل فوعد الله تعالى ووعيده خبر لا بد من كونه لأنه حق وصدق وعلم منه تعالى بما يكون من ذلك وعلمه صادق لا يخيس أصلا ولا يظن ظان أننا نقول بالوعيد كقول المعتزلة من إبطال سيئة واحدة للحسنات ومن الخلود على المصر على الكبائر ومعاذ الله من ذلك ولكنا نقول بما جاء به النص من الموازنة وذهاب السيئات بالحسنات بمعنى أن الحسنات تذهب السيئات وبأن من استوت حسناته وسيئاته أو رجحت حسناته لم ير نار أصلا ولكن من رجحت سيئاته وكبائره ممن مات مصرا فهؤلاء الذين يخرجون من النار بالشفاعة ولا خلود على مسلم في النار ولا يدخل الجنة كافر أبدا وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 الباب الرابع والعشرون وهو باب الحكم بأقل ما قيل قال أبو محمد رحمه الله ادعى قوم أن هذا أيضا نوع من أنواع الإجماع صحيح لا شك فيه وقالوا لأنه قد صح إلزام الله عز وجل لنا اتباع الإجماع والنص وحرم علينا القول بلا برهان فإذا اختلف الناس في شيء فأوجب قوم فيه مقدارا ما وذلك نحو النفقات والأروش والديات وبعض الزكوات وما أشبه ذلك وأوجب آخرون أكثر من ذلك واختلفوا فيما زاد على ذلك فالإجماع فرض علينا أن نأخذ به وأما الزيادة فدعوى من موجبها إن أقام على وجوبها برهانا من النص أخذنا به والتزمناها وإن لم يأت عليها بنص فقوله مطرح وهو مبطل عند الله عز وجل بيقين لا شك فيه ونحن محقون في الأخذ بأقل ما قيل عند الله عز وجل بيقين لأنه أمر مجتمع عليه والاتفاق من عند الله عز وجل ولزوم ما اجتمع عليه فرض لا شك فيه والاختلاف ليس من عند الله عز وجل قال الله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} قال أبو محمد كان يكون هذا حقا صحيحا لو أمكن ضبط أقوال جميع أهل الإسلام في كل عصر وإذ لا سبيل إلى هذا فتكلفه عناء لا معنى له ولا بد من ورود النص في كل حكم من أحكام الشريعة لكن إذا ورد نص بإيجاب عمل ما فبأقل ما يقع عليه اسم فاعل لما أمر به يسقط عنه الفرض كمن أمر بصدقة فبأي شيء تصدق فقد أدى ما أمر به ولا يلزمه زيادة لأنها دعوى بلا نص ولا غاية لذلك فهو باطل ولا سبيل إلى أن يكون الله تعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 حكم في الشريعة يلزمنا لم يجعل عليه دليلا من نص وقال الله تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} فما لم يكن في الكتاب فليس من الدين في شيء وهو ساقط عنا بيقين ومنهم من قال بل نأخذ بأكثر ما قيل لأنه لا يخرج من لزمه فرض عما لزمه إلا بيقين ولا يقين إلا بعد أن يستوعب كل ما قيل قال أبو محمد وهذا باطل لأنه صار بهذا القول قافيا ما ليس له به علم ومثبتا حكما بلا برهان وهذا حرام بنص القرآن وإجماع الأمة وكل من خالفنا في هذا الأصل فإنه يتناقض ضرورة ويرجع إلى القول به ألا ترى أننا اتفقنا كلنا على إيجاب خمس صلوات وادعى قوم أن الوتر فرض فوجب الانقياد لما اجتمعوا عليه وترك ما اختلفوا فيه إلا أن يأتوا بدليل على ما زادوا وكذلك اتفقنا على أن في خمسين من البقر بقرة وقال قوم في كل خمس بقرات شاة وقال قوم في الثلاثين تبيع وفي الأربعين وقال قوم فيما زاد على الأربعين بحساب ذلك بجزء من بقرة فوجب الأخذ بما اتفقوا عليه وترك ما اختلفوا فيه إذا لم يأتوا بدليل على ما ادعوا من ذلك ووجب أن يلزم أحدا إلا البقرة في خمسين وهي المتفق عليه منهم ومن غيرهم لا ما زاد في إيجاب الغرامة في ذلك ثم نقول لمن خالفنا في هذا الأصل أرأيت إن اجتمع الناس على مقدار ما ثم قال قوم بأزيد منه ولم يأتوا على صحة قولهم بدليل هل لك بد من ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن تقول بما أجمعوا عليه وبترك ما اختلفوا فيه وهو قولنا هذا الذي خالفتنا فيه أو تأخذ بأكثر ما قيل بلا دليل فتصير قافيا ما ليس لك به علم ومثبتا حكما بلا برهان فهذا حرام بنص القرآن وبإجماع الأمة لم يقل به أحد ويصير قائله منتهكا إما عرضا حراما وإما مالا حراما وإما موجبا شرعا لم يأذن به الله تعالى وكل ذلك حرام لا يحل أصلا وإما أن يترك هذين القولين فيفارق الإجماع جملة ويأتي أيضا بقول لم يقله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 أحد فإذ قد سقط هذان القولان بالضرورة البرهانية صح القول الأول ضرورة بيقين لا بد منه وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل لا يجوز أن يخلو أحد القولين من دليل عليه إما أن يقوم الدليل على صحة القول بالمقدار الأقل وإما أن يقوم الدليل على صحة الزيادة عليه قال أبو محمد لسنا نحتاج إلى التطويل معه ههنا لكنا نقول وبالله تعالى التوفيق لسنا ننازعك فيما قام الدليل عليه وإنما نسألك عن مسألة قال فيها قوم بمقدار ما وقال آخرون بزيادة لا دليل عليها بأيديهم شرط أن تكون المسألة من مسائل الإجماع المجرد التي قد أحال النص فيها على طاعة أولي الأمر منا على اتباع سبيل المؤمنين فإن قلت إن عدم الدليل على صحة الزيادة على أقل ما قيل هو دليل على صحة القول بأقل ما قيل فهذا هو نفس قولنا شئت أم أبيت وبالله تعالى التوفيق وقد احتج بعض من ضغط هذا الباب ممن اضطر إلى الشغب بمثل ما نذكره وشبهه إلى أن قال ما الفرق بينكم وبين من قال هذه قصة قد لزم فيها حكم بإجماع فلا يخرج المرء عما لزم بإجماع إلى سقوطه عنه إلا بإجماع آخر فالواجب أن يقال بأكثر ما قيل فيقال له هذا تمويه فاسد لأنهما أمران أردت مزجهما وتصييرهما أمرا واحدا ولا يصح ذلك لأن كون وجوب الحكم في مسألة ما هو شيء آخر غير وجوب مقدار ما في ذلك الحكم فليس اتفاق الأمة على أن ههنا حكما واجبا مما يوجب في ذلك مقدارا محدودا بل هذا هو باب آخر فإذا وجب الحكم نظرنا حينئذ في قدر الحكم فيه بنص وارد فإن لم يرد نص صرنا فيه إلى الإجماع فالعدد المتفق عليه واجب قبوله بإجماع ومن ادعى زيادة كلف الدليل فإن أتى به لزم اتباعه وإلا سقط قوله بقول الله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ومن هذا النوع هو علمنا أن علينا دينا وشرائع إلا أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 من ادعى وجوب شيء ما يدخله في الشرع لم يلتفت إليه ولم يجب قبوله إلا بنص أو إجماع وهكذا علمنا بوجوب حكم ما علينا ليس يوجب قبولنا من كل من حد لنا ذلك الحكم بحد ما إلا أن يأتي على حده بنص أو إجماع وهذا كله باب واحد والأصل أن لا حكم على أحد ولا شيئا حراما على أحد بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وبقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} وبقوله صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فلا يحل لأحد من مال أحد ولا من دمه ولا من عرضه ولا من بشرته إلا ما أباحه نص أو إجماع وما عدا ذلك فباطل بالنصوص التي ذكرنا فأقل ما قيل في كل ما ذكرنا هو واجب بالإجماع على وجوبه وكل زيادة على ذلك فباطل إلا أن يأتينا مدعيها بنص يصحح قوله وصح بالنص المذكور أنه إن اتفق الناس أو جاء نص بإيجاب مقدار منا من عرض مسلم أو بشرته أو ماله فهو وجوبه ثم إن ادعى مدع وجوب زيادة في ذلك ولم يأت على صحة دعواه بنص فهو باطل بيقين لأنه لا محل ما قد حرم الله تعالى وكذلك القول فيمن حرم شيئا مما في الأرض حاشا ما جاء في تحريمه نص أو إجماع وكذلك من فرض شيئا زائدا على ما أوجب أنه فرض نص أو إجماع وكفى بهذا بيانا ويلزمنا من قال بخلاف هذا إن كان مالكيا أو شافعيا أن يوجب الزكاة في العسل لأن الأمة مجمعة على أن في الأموال زكاة بقوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} فيلزمهم ألا يسقط هذا الحق اللازم بإجماع إلا بإجماع آخر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 ولزمه إن كان حنفيا أن يوجب الزكاة في الحلي والعوامل بما ذكرنا ومثل هذا كثير جدا مسقط أكثر مذاهبهم ومفسد لجمهور أقوالهم في الصلاة والطهارة والحج وسائر أبواب الفقه كلها وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إذا قلتم لو كان هذا القول الزائد واجبا لجاء به دليل فماذا تقولون لمن قال لكم لو كان ساقطا لجاء بإسقاطه دليل فالواجب أن هذا قول صحيح وقد نصصنا على الدلائل الواردة بإسقاط كل قول بتحريم أو بتحليل أو إيجاب حكم لم يأت بصحته نص أو إجماع وهي الآيات التي تلوناها آنفا فوجب بها أن كل مقدار اتفق على وجوبه أو أخذه فهو واجب ومن زاد على ذلك بدعواه شيئا فهو مفتر مبطل بتلك النصوص ما لم يأت على صحة دعواه بنص وهذا أمر جلي لا إشكال فيه ولا يذهب عنه إلا مخذول أو معاند وإنما هذا فيما لم يرد فيه نص وأما ما جاء فيه نص فلا نراعي فيه ما اتفق عليه منه ولا نبالي بمن خالفنا حينئذ ولا نراعي فيه استصحاب حال ولا أقل ما قيل فيه ولكن نأخذ بالنص زائدا كان على ما اتفق عليه أو ناقصا عنه أو موافقا له لأن الدليل قد قام حينئذ والبرهان صح على وجوب الانتقال إلى ما جاء به النص وصح بذلك الأخذ بالزائد على أقل ولو لم ينفرد بالرواية للزائد إلا إنسان واحد ثقة وخالفه جميع أهل الأرض لكان القول بما رواه ذلك الواحد واجبا لأنه محق ولكان فرضا علينا خلاف كل من خالف رواية ذلك الواحد ولو أنهم جميع أهل الأرض سواء لأنهم كلهم حينئذ مبطلون يلزمهم قبول رواية ذلك الواحد الحق أكثر من كل من خالفه وأولى أن يتبع قال الله تعالى {يأيها لذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا هتديتم إلى لله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} فعم تعالى ولم يخص وقال تعالى {فقاتل في سبيل لله لا تكلف إلا نفسك وحرض لمؤمنين عسى لله أن يكف بأس لذين كفروا ولله أشد بأسا وأشد تنكيلا} فإن قال قائل فما تقولون في شاهدين شهد أحدهما لزيد على عمرو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 بدينار وشهد له الآخر عليه بدينارين أتقولون بأقل ما اتفقنا عليه قال أبو محمد هذا قد قام البرهان من النص على وجوب القضاء له بالدينار بشهادتهما ومن نص آخر ثان يقضي له بالدينار الباقي إن حلف المدعى له ما شاهده فهذا من باب ما قام الدليل على وجوب الحكم بالزيادة فيه وقد قال بعض من خالفنا إن القائل بما أخذتم به من أقل ما قيل لم يقل به لأنه أقل ما قيل وإنما قال به لدليل ما أوجبه عنده فقولوا بدليله حتى نناظركم عليه قال أبو محمد فيقال من قال بهذا وبالله تعالى التوفيق إنا لا نتعنى باستدلال المستدلين لأنه قد يستدل المرء بدليل غير واجب فيخرجه البحث إلى قول صحيح كما عرض لابن مسعود إذ سئل عن امرأة توفي عنها زوجها قبل أن يدخل بها وقبل أن يفرض لها صداقا فقال بعد شهر أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فالله ورسوله بريئان ثم أفتى بما وافق الحق من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يكون علمه فنحن لا نبالي باستدلال ابن مسعود بل لا نقول به أصلا لكنا نقول بما أخرجه إليه السعد لأنه وافق قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا وجدنا القائل قد أوجب مقدارا ما ووافقه على إيجابه جميع العلماء أولهم عن آخرهم فقد أوجب الله تعالى علينا اتباع الإجماع وألا نخالف سبيل المؤمنين وأولي الأمر منا ولا نبالي باستدلاله في ذلك إذ لم يأمر الله تعالى باتباع استدلال الواحد أو الطائفة من العلماء وإنما أمرنا تعالى باتباع ما اتفقوا عليه وترك ما تنازعوا فيه حتى نرده فنحكم فيه القرآن والسنة فقد فعلنا ذلك فأخذنا بما أجمعوا عليه وهو أقل ما قيل لقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فلا يحل لمسلم خلاف هذا وكلفنا من زاد على ذلك المقدار زيادة يتورع فيها أن يأتي ببرهان من النص إن كان صادقا بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فإن جاء ببرهان من القرآن والسنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 قبلنا منه وإلا تركنا قوله لأن من لم يأت ببرهان فليس صادقا لقوله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وقد علم كل ذي حس صحيح من الناس أن الاستدلال على القول شيء آخر غير القول المستدل عليه فقد أدى التقليد أقواما إلى أقوال صحاح والتقليد فاسد لكن البحث أوقعهم عليها فصادفوا أقوالا فيها أحاديث صحاح لم تبلغهم قط ولا استدلوا بها ومن علم كيفية المقدمات علم أن من المقدمات الفاسدة تنتج إنتاجا صحيحا في بعض الأوقات ولكن ذلك لا يصحب بل يخون كثيرا وقد بينا هذا في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب بيانا كافيا والحمد لله رب العالمين كثيرا فقد صح بما ذكرنا أنه قد يخطىء في كيفية الاستدلال من يصيب في القول المستدل عليه وقد صح أيضا أنه قد يصيب المرء في ابتداء الاستدلال ثم لا يوفيه حقه فيخطىء في القول المستدل عليه فقد استدل قوم بنصوص صحاح ثم تأولوا فيها ما ليس فيها وقاسوا عليها ما لم يذكر فيها وأصابوا في الاستدلال بالنص وأخطؤوا في الحكم به فيما ليس موجودا في ذلك النص وقد استدل سعد رضي الله عنه على تحريم البيضاء جملة بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الرطب بالتمر فصح بهذا أنه ليس علينا اتباع استدلال القائلين بالفتيا وإنما علينا اتباع الفتيا إن أيدها نص أو إجماع ولا نبالي أخطأ قائلها في استدلاله عليها أم أصاب وكذلك يلزمنا ترك الفتيا إذا لم يقم عليها برهان من النص أو الإجماع وإن استدل قائلها بنص صحيح إلا أنه ظن أن ذلك النص يوجب ما أفتى به وذلك النص في الحقيقة غير موجب لتلك الفتيا وأيضا فإن من المسائل مسائل ليس يروى فيها نص وإنما هي إجماع مجرد على أمر أمره النبي صلى الله عليه وسلم كإجماع الناس على القراض وكإجماع طوائف من الناس على الإيجاب في دية الذمي إذا قتله ذمي ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثي بعير واختلف آخرون في الزيادة على ذلك إلى أن ساواه قوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 بدية المسلم وقال آخرون نصف دية المسلم وقال آخرون ثلث دية المسلم فاحتج الموجبون في ذلك ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثي بعير بأن قالوا هذا مجمع على وجوبه وما زاد على ذلك فمختلف فيه وذكروا ما رويناه من طريق يونس بن عبيد أن الحسن البصري قال دية اليهودي والنصراني ثمانمائة درهم وقال بهذا المقدار في دية المجوسي خاصة مالك والشافعي ورووه عن عثمان رضي الله عنه واحتج من أوجب في ذلك نصف الدية بروايات عن بعض الصحابة وآثار من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهي صحيفة لا تصح وقد اختلف الصحابة في هذا فبطل هذا القول واحتج من أوجب في ذلك ثلث الدية وهم الشافعي وأصحابه بأن رووا ذلك عن بعض الصحابة وقد قلنا إن الصحابة مختلفون في ذلك فليس بعضهم في ذلك حجة دون بعض واحتج في ذلك بعض أصحاب الشافعي بأن ادعى أنه أقل ما قيل وهذا باطل لما أوردناه من قول الحسن آنفا وقال بعضهم ممن يعرف الاختلاف لم نقل ذلك لشيء من هذا كله لكن لقوله تعالى {أعنده علم لغيب فهو يرى * أم لم ينبأ بما في صحف موسى} فوجب ألا يساوى به المسلم ولا المسلمة فوجب حطه إلى ثلث الدية وقال أبو محمد وهذا احتجاج فاسد البتة لأنهم يساوون بينهما في أنه إن غصب المسلم مال ذمي أن يغرمه الذمي ما غصب وفي قطعهما في السرقة ويحلف كل واحد منهما للآخر في الدعوى وأيضا فقد جعلوا دية الذمي أكثر من دية يد المسلمة ومن دية عينها وساووه بمأمومة الحر المسلم ولا شك في أن حرمة شعرة من مسلم أعظم من حرمة كل ذمي في الأرض فكيف عضو من أعضاء المسلم ونجدهم قد فضلوا على المسلم في بعض المواضع فقالوا لا يقتل الكافر الحر إذا قتل عبدا مسلما فجعلوه ههنا أعظم حرمة من المسلم وهذا قول سوء تقشعر منه الجلود ويلزمهم على هذا أن أبا جهل وأبا لهب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 كانا أعظم حرمة من زيد بن حارثة وبلال بعد إسلامهما وقبل عتقهما ومعاذ الله من هذا وإنما يجب استعمال قوله عز وجل {أعنده علم لغيب فهو يرى} في ألا يساوى بينهما في القود أصلا وأما في الحقوق الواجبة فيما دون الأجسام والكرامة والحرمة فليس التساوي فيها تساويا في القدر لأنه لا خلاف بين أحد من أن أحكام الأموال يستوي فيها أبو بكر والصحابة وأهل الذمة وبالله تعالى التوفيق فكان الواجب ألا يكلف الذمي غرما بعد الجزية إلا ما أوجبه نص أو إجماع وقد أوجب الإجماع المذكور عليه إما ثمانمائة درهم وإما ستة أبعرة وثلثي بعير ووقع التنازع في الزيادة فلما لم يأت بشيء من ذلك نص صحيح وجب أن يطرح ولا يلتفت إليه فإن قالوا بتقليد صاحب في ذلك قيل لهم ليس الصاحب الذي قلدتم بأولى من صاحب آخر خالفه في ذلك مع أن التقليد كله باطل على ما سنبينه في بابه من ديواننا هذا إن شاء الله تعالى فإن قال قائل أنتم متناقضون في قولكم بأقل ما قيل في المقادير اللازمة في الأموال والحدود وفي الأعداد كلها وترككم الزيادة إلا أن يوجبها نص مع قولكم إن من اتفق عليه من زمان ما ثم ادعى قوم ارتفاعه فإن الواجب التمادي عليه والثبات على ما قد اتفق على وجوبه حتى يأتي مدعي ارتفاعه ببرهان على ما ادعى من ذلك فهلا قلتم إنه لا يلزم هذا الحكم إلا مدة الزمان الذي اتفق على لزومه فيها دون الأزمان والأعيان التي اختلف في لزوم ذلك فيها ولها كما قلتم لا نأخذ في المقادير اللازمة في الأموال والحدود والأعداد إلا بما اتفق عليه دون ما اختلف فيه قال أبو محمد فيقال له وبالله تعالى التوفيق إن هذا شغب ضعيف وتمويه فاسد ولا تناقض بين القولين أصلا بل هما شيء واحد وباب واحد لأن الإجماع على وجوب الحكم وورود النص كالإجماع على أقل المقادير والأعداد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 كلاهما قد صح فيه الإجماع ثم إن الدعوى لانتقال الحكم عما كان علمه وللزوم النص بعض ما يقتضيه لفظه دون بعض الدعوى للزيادة على أقل ما قيل من المقادير والأعداد ولا فرق وكلا الأمرين إيجاب شرع وحكم بلا نص وذلك لا يحل اتباعه وثباتنا على ما اتفقنا على أنه واجب أو أنه مباح أو أنه حرام وتركنا من فارق ما اتفقنا على وجوبه من المقادير والأعداد ولا فرق ومسقط الحق بعد وجوبه كالزائد فيه أو الناقص منه وكالشارع غيره ولا فرق بين كل ذلك أصلا فهو كله باب واحد كما ترى ولا شغب من أراد التمويه بالفرق بين الأمرين وإنما موه من موه في ذلك وغلط من غلط لأنه رأى أحد الأمرين زيادة على ما اتفق عليه ورأى الآخر خروجا عما اتفق عليه فظن أنهما بابان مختلفان فأخطأ في ذلك بل هو كله باب واحد لأنه كله ممن خالفنا خروج عما اتفق عليه بلا دليل ومفارقة ما أجمع عليه بلا برهان وهو كله في مذهبنا نحن باب واحد لأنه كلها منا ثبات على ما اتفق عليه ولزوم لما صح الإجماع فيه وامتناع من مفارقته وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإنه لم يقل قط مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حكم اليوم بحكم ما أن هذا الحكم لا يلزم الناس غدا إلا باستئناف برهان مجدد بل الأمة كلها مجمعة على وجوب حكم النص وتماديه إلى يوم القيامة وكذلك حكمه عليه السلام على زان أو سارق هو حكم منه على كل زان أو سارق إلى يوم القيامة وهكذا كل ما حكم به النص في عين ما هو حكم في نوع تلك العين أبدا ولو كان خلاف ذلك ونعوذ بالله من هذا الظن لبطلت لوازم نبوته صلى الله عليه وسلم في الزمان الآتي بعده وهذا كفر من معتقده فصح أن حكمه صلى الله عليه وسلم في زمانه حكم باق في كل زمان أبد الأبد ولم يقل قط مسلم إنه صلى الله عليه وسلم إذا حكم بأخذ درهم أو ضرب عشرة أسواط أو إيجاب ركعتين أو صوم يوم إنه يجب بذلك أخذ درهمين وضرب عشرين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 سوطا أو إيجاب أربع ركعات وصوم يومين بل هذه حدود الله تعالى التي حرم تعديها وأخبر أن متعديها من الظالمين بقوله تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} فهذا فرق أوضح من الشمس لا يراها العميان وقد تغيب عن بعض الأماكن في بعض الأوقات وهذا برهان لا يغيب نوره أبدا ويراه كل ذي عقل وحس سليم ممن خوطب بالديانة وأيضا فإن أقل ما قيل حق ويقين لأنه إجماع وخصمنا موافق لنا على وجوبه والزيادة عليه شك ودعوى وظن ولا يحل رفع اليقين بالشك ولا ترك الحق بالظن ولا مفارقة الواجب بالدعوى وقد حرم الله تعالى ذلك إذ يقول عز وجل {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} وفيما ذكرنا كفاية لمن له عقل ونصح نفسه وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أنتم تقولون إن الإجماع والنص أصلان والعمل بهما فرض وأنتم تأخذون في النص بالزائد أبدا ولا تأخذون بالمتيقن عليه وتأخذون في الإجماع بأقل ما قيل وهو المتفق عليه فكيف هذا فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن الإجماع راجع إلى النص وإلى التوقيف كما بينا في أول الكلام في الإجماع وإنما أخذنا به لأنه نقل العمل أو إقرار على أمر معلوم علمه عليه السلام فأقره ولم ينكره وليس اختلاف الموجبين للمقادير المختلفة في الأحكام نقلا لشيء من ذلك وإنما هو أن ما عدم أن يقوم عليه دليل نص فإما رأى من قائله أو قياس أو تقليد وكل ذلك باطل ودعوى بلا دليل فلذلك لزم تركه وأما الزيادة في النص من أحد الرواة فهو نقل صحيح والأخذ بالنقل الصحيح واجب والسبب الموجب لقبول الزيادة من العدل في الرواية هو السبب نفسه الموجب لقبول أقل ما قيل في الإجماع إنما ذلك قبول ما صح من النقل فقط وأما ما اختلف فيه ولم يأت أحد من المختلفين فيه بنص فليس نقلا والسبب المانع من قبول التقليد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 هو السبب المانع من قبول ما زاده قائل على ما اتفق عليه هو وغيره من العلماء بأجمعهم دون دليل يأتي به يوجب زيادته ما زاد وهو كله تقليد وقد قال بعض الشافعيين محتجا في أخذ الشافعي رحمه الله في دية اليهودي والنصراني بأنها ثلث دية المسلم بأن ذلك أقل ما قيل قال أبو محمد وليس كذلك وقد روينا عن يونس بن عبيد عن الحسن أن دية النصراني واليهودي ثمانمائة درهم وقد صح عن بعض المتقدمين أنه لا دية له فليس ثلث الدية أقل ما قيل وأما نحن فإنا نقول إنه لا دية لذمي أصلا لا يهودي ولا نصراني ولا مجوسي إذا قتله مسلم خطأ أو عمدا وإن قتله عندنا يهوديا كان أو نصرانيا أو مجوسيا أقل ما قيل وهو ثمانمائة درهم أو ستة أبعرة وثلثا بعير وبرهاننا على ذلك أن الله تعالى إنما ذكر قبل الخطأ والدية فيه إن كان المقتول مؤمنا هذا هو نص الآيات الواردات في ذلك فلم يذكر الله تعالى لذمي دية وقال عليه السلام من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يأخذوا الدية وإما أن يستقيدوا أو كما قال عليه السلام ونهى عليه السلام أن يقتل مؤمن بكافر فبطلت الدية إن قتله مسلم لأنه عليه السلام إنما جعل الدية في العمد حيث يكون الخيار فيها أو في القود وليس ذلك بين المؤمن والكافر لكنه بين الكفار فيما بينهم وبين المؤمنين فيما بينهم فصح قولنا وبالله تعالى التوفيق وحرام أخذ شيء من مال مسلم إلا بنص أو إجماع وأما إن قتل ذمي مسلما عمدا فقد بطلت ذمته ولا بد من قتله وأخذ ماله كله ولا رأي في ذلك لولي المقتول ولا دية وحديث عبد الله بن سهل ثابت العمل وليس فيه ذكر أن الدية التي ذكر عليه السلام كانت في عمد إذ قد يقتلونه خطأ ولا في قوله عليه السلام في ذلك الحديث أتقسمون على رجل فيسلم برمته أنه لو أسلم لكان فيه لولي المقتول خيار فلا يجوز التزيد في الحديث ما ليس فيه وسورة براءة مبينة لأحكام أهل الذمة التي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 لا يجوز تعديها وهي ناسخة لكل ما كان قبلها وقد احتج بعض الموافقين لنا في هذا الفصل بأن قال يقال لمن قال قد اتفق على وجوب حكم ما في هذه المسألة فلا تبرأ من ذلك الحكم إلا بإجماع آخر على البراءة منه قال فيقال له لو شهد عدلان على أن زيدا غصب مالا من عمرو ولم يثبت قدر ذلك المال للزم على قولكم أن يقال للمشهود عليه قد ثبت عليك حق فلا تبرأ حتى يقر المغصوب منه ببراءتك من كل حق له عندك فلما أجمع الناس بلا خلاف على أنه لا يقال له ذلك لكن يقال له قد ثبت قبلك حق ما فأقر بما شئت واحلف على ما أنكرت ولا يلزمك غير ذلك صح قولنا بأقل ما قيل وبطل اعتراضكم وبالله تعالى التوفيق واحتج أيضا بأن قال من الدليل على الأخذ بأقل ما قيل إن شاهدين لو شهدا على زيد أنه سرق وقال أحدهما ربع دينار وقال آخر بل سدس دينار فإنه يؤخذ بأقل ما اتفقا عليه فلا يقطع ولا يغرم إلا سدس دينار فقط قال أبو محمد وهاتان حجتان تلزم أصحاب القياس وليس مما نرضى أن نحتج به وإنما اعتمادنا على البراهين الضرورية التي قدمنا وبالله تعالى نعتصم وقال هذا القائل أيضا إن المقدرين إذا اختلفا في تقدير السلعة فإننا نأخذ بما اتفقا عليه قال فإن قال لنا قائل فلم تأخذون بالزيادة في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وتقولون عند هذا الزائد علم لم يكن عند من لم يأت بتلك الزيادة فهلا قلتم وعند هذا المقدار الزائد علم زائد بقيمة هذه السلعة فهلا أخذتم به قال أبو محمد وهذا الذي اعترض به على القائل بما ذكرنا اعتراض فاسد لكنا نقول الجواب عن هذا أن تقدير المقدار ليس من باب الخبر في الدين لأن الخبر نقل عن مشاهدة يوجب حكما على الناس كلهم وتقدير المقدار إنما هو من باب الشهادة التي لا يقبل فيها إلا اثنان أو واحد مع يمين الطالب فلو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 كان مع هذا المقدار الزائد آخر عدل يشهد بتلك الزيادة لأخذنا بها وإن كان ذلك فيما يؤخذ فيه باليمين مع الشاهد حلف المشهود له مع ذلك المقدر الزائد واستحق الزيادة وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى قال {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} ثم أوجب تعالى الدية في قتل المؤمن خطأ فهي لازمة للمؤمن والذمي بعموم الخطاب ولزوم الدين لكل إنسي وجني ولم يأت نص بإيجاب دية لذمي إن قتل خطأ فهو معفو عنه جملة أصابه مسلم أو ذمي وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين وإما أن يودى وإما أن يقاد أو كلام هذا معناه وصح أنه عليه السلام قال لا يقتل مسلم بكافر فصح أن الدية لا تجب في العمد إلا حيث يجب التخيير فيها بين الدية وبين القود وليس ذلك في قتل المسلم الذمي أصلا فبطل أن يكون على المسلم دية في الذمي لا في عمد ولا في خطأ فإن قتل الذمي ذميا فهو داخل في هذا الخطاب والقود بينهما أو الدية وليس إلا أحد القولين إما ما اتفق على وجوبه كما قال الحسن وإما الدية التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلم فنظرنا في قول الحسن فوجدناه لا ينسند أصلا ولا وجه له فسقط ولا ندري أيضا هل أجمع على مقدار ذلك أو لا بل لعل من العلماء من قال لا دية لذمي أصلا ولعل في العلماء من يقول بأقل مما قال الحسن فسقط هذا القول ووجدنا الله يقول {وأن حكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم وحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل لله إليك فإن تولوا فعلم أنما يريد لله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من لناس لفاسقون} فصح أن دية الذمي على الذمي كدية المسلم على المسلم ولسنا في ذلك جاعلين لهم كالمسلمين حاشا لله من ذلك نحكم بينهم بالحكم بين المسلمين كما أمر الله تعالى ونحن وهم نقتل الذمي بالذمي كما نقتله بالمسلم وليس هذا مساواة المسلم بالمجرم وبالله تعالى حسبنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 الباب الخامس والعشرون في ذم الاختلاف قال أبو محمد قال قوم هذا مما يسع فيه الاختلاف قال أبو محمد وهذا باطل والاختلاف لا يسع البتة ولا يجوز لما نذكره بعد هذا وإنما الفرض علينا اتباع ما جاء به القرآن عن الله تعالى الذي شرع لنا دين الإسلام وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى ببيان الدين فقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ولا مزيد وقال تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فما صح في النصين أو أحدهما فهوالحق ولا يزيده قوة أن تجمع عليه أهل الأرض ولا يوهنه ترك من تركه فصح أن الاختلاف لا يجب أن يراعى أصلا وقد غلط قوم فقالوا الاختلاف رحمة واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قال أبو محمد وهذا من أفسد قول يكون لأنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق سخطا هذا ما لا يقوله مسلم لأنه ليس إلا اتفاق أو اختلاف وليس إلا رحمة أو سخط وأما الحديث المذكور فباطل مكذوب من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية أحدها أنه لم يصح من طريق النقل والثاني أنه صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يأمر بما نهى عنه وهو عليه السلام قد أخبر أن أبا بكر قد أخطأ في تفسير فسره وكذب عمر في تأويل تأوله في الهجرة وكذب أسيد بن حضير في تأويل تأوله فيمن رجع عليه سيفه وهو يقاتل وخطأ أبا السنابل في فتيا أفتى بها في العدة وقد ذكرنا هذا المعنى في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا مستوعبا فأغنى عن إيراده ههنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وفيما ذكرنا كفاية فمن المحال الممتنع الذي لا يجوز البتة أن يكون صلى الله عليه وسلم يأمر باتباع ما قد أخبر أنه خطأ فيكون حينئذ أمر بالخطأ تعالى الله عن ذلك وحاشا له صلى الله عليه وسلم من هذه الصفة وهو عليه السلام قد أخبر أنهم يخطئون فلا يجوز أن يأمرنا باتباع من يخطىء إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد نقلهم لما رووا عنه فهذا صحيح لأنهم رضي الله عنهم كلهم ثقات فعن أيهم نقل فقد اهتدى الناقل والثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول الباطل بل قوله الحق وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد وكذب ظاهر لأنه من أراد جهة مطلع الجدي قام جهة مطلع السرطان لم يهتد بل قد ضل ضلالا بعيدا وأخطأ خطأ فاحشا وخسر خسرانا مبينا وليس كل النجوم يهتدى بها في كل طريق فبطل التشبيه المذكور ووضح كذب ذلك الحديث وسقوطه وضوحا ضروريا قال أبو محمد وقد ذم الله تعالى الاختلاف في غير ما موضع من كتابه قال الله عز وجل {ذلك بأن لله نزل لكتاب بلحق وإن لذين ختلفوا في لكتاب لفي شقاق بعيد} وقال تعالى {كان لناس أمة واحدة فبعث لله لنبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم لكتاب بلحق ليحكم بين لناس فيما ختلفوا فيه وما ختلف فيه إلا لذين أوتوه من بعد ما جآءتهم لبينات بغيا بينهم فهدى لله لذين آمنوا لما ختلفوا فيه من لحق بإذنه ولله يهدي من يشآء إلى صراط مستقيم} وقال تعالى مفترضا للاتفاق وموجبا رفض الاختلاف {يأيها لذين آمنوا تقوا لله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون * وعتصموا بحبل لله جميعا ولا تفرقوا وذكروا نعمة لله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من لنار فأنقذكم منها كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تهتدون} إلى قوله تعالى {وعتصموا بحبل لله جميعا ولا تفرقوا وذكروا نعمة لله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من لنار فأنقذكم منها كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تهتدون} وقال تعالى {ولا تكونوا كلذين تفرقوا وختلفوا من بعد ما جآءهم لبينات وأولئك لهم عذاب عظيم} فصح أنه لا هدى في الدين إلا ببيان الله تعالى لآياته وأن التفرق في الدين حرام لا يجوز وقال تعالى {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} وقال تعالى {شرع لكم من لدين ما وصى به نوحا ولذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا لدين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 ولا تتفرقوا فيه كبر على لمشركين ما تدعوهم إليه لله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب} وقال تعالى {وأن هذا صراطي مستقيما فتبعوه ولا تتبعوا لسبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} وقال تعالى {إن لذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنمآ أمرهم إلى لله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} وقال تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدوي نا أحمد بن زيد ثنا أبو عمران الجوني قال كتب إلى عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله نا أبو إسحاق البلخي نا الفربري نا البخاري حدثنا أبو الوليد هو الطيالسي نا شعبة أخبرني عبد الملك بن ميسرة قال سمعت النزال بن سبرة قال سمعت عبد الله بن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافها فأخذت بيده فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كلاكما محسن قال شعبة أظنه قال لا تختلفوا فإن من قبلكم اختلفوا فهلكوا حدثنا محمد بن سعيد ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ أنبأنا محمد بن عبد السلام الخشني نا بندار نا غندر نا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث وذكر شعبة في آخره قال حدثني مسعر عنه فرفعه إلى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ولا تختلفوا حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم نا عبيد الله بن معاذ نا أبي نا شعبة عن محمد بن زياد سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم وبه إلى مسلم نا يحيى بن يحيى وإسحاق بن منصور وأحمد بن سعيد بن صخر الدارمي قال يحيى أنا أبو قدامة الحارث بن عبيد وقال إسحاق نا عبد الصمد هو ابن عبد الوارث التنوري ثنا همام وقال أحمد نا حبان نا أبان قالوا كلهم نا أبو عمران الجوني عن جندب بن عبد الله البلخي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا وبه إلى مسلم حدثني زهير بن حرب نا جرير عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال قال أبو محمد ففي بعض ما ذكرنا كفاية لأن الله تعالى نص على أن الاختلاف شقاق وأنه بغي ونهى عن التنازع والتفرق في الدين وأوعد على الاختلاف بالعذاب العظيم وبذهاب الريح وأخبر أن الاختلاف تفريق عن سبيل الله ومن عاج عن سبيل الله تعالى فقد وقع في سبيل الشيطان قال تعالى {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} وقد نص تعالى على أن الاختلاف ليس من عنده ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به وإنما أراده تعالى إرادة كون كما أراد كون الكفر وسائر المعاصي فإن قال قائل إن الصحابة قد اختلفوا وأفاضل الناس أفيلحقهم هذا الذم قيل له وبالله تعالى التوفيق كلا ما يلحق أولئك شيء من هذا لأن كل امرىء منهم تحرى سبيل الله ووجهة الحق فالمخطىء منهم مأجور أجرا واحدا لنيته الجميلة في إرادة الخير وقد رفع عنهم الإثم في خطئهم لأنهم لم يتعمدوه ولا قصدوه ولا استهانوا بطلبهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 والمصيب مأجور منهم أجرين وهكذا كل مسلم إلى يوم القيامة فيما خفي عليه من الدين ولم يبلغه وإنما الذم المذكور والوعيد الموصوف لمن ترك التعلق بحبل الله تعالى الذي هو القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النص إليه وقيام الحجة به عليه وتعلق بفلان وفلان مقلدا عامدا للاختلاف داعيا إلى عصبية وحمية الجاهلية قاصدا للفرقة متحريا في دعواه برد القرآن والسنة إليها فإن وافقها النص أخذ به وإن خالفها تعلق بجاهليته وترك القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فهؤلاء هم المختلفون المذمومون وطبقة أخرى وهم قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدين له غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فإن قال قائل فإذ لا بد من مواقعة الاختلاف فكيف التخلص من هذا الذم الوارد في المختلفين قيل له وبالله تعالى التوفيق قد علمنا الله تعالى الطريق في ذلك ولم يدعنا في لبس وله الحمد فقال تعالى {وأن هذا صراطي مستقيما فتبعوه ولا تتبعوا لسبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} وقال تعالى {وعتصموا بحبل لله جميعا ولا تفرقوا وذكروا نعمة لله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من لنار فأنقذكم منها كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تهتدون} وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فإذا وردت الأقوال فاتبع كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان عما أمرنا الله تعالى به وما أجمع عليه جميع المسلمين فهذا هو صراط الله تعالى وحبله الذي إذا تمسكت به أخرجك من الفرقة المذمومة ومن الاختلاف المكروه إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى وهذا هو الذي أجمع عليه جميع أهل الإسلام قديما وحديثا فإن لم يكن قط مسلم إلا ومن عقده وقوله إن كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام فرض قبوله وأنه لا يحل لأحد معارضته بشيء من ذلك ولا مخالفته وبقيت سائر الأقوال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 المأخوذة من تقليد فلان وفلان ومن القياس ومن الاستحسان وهي الاختلاف المذموم الذي لا يحل اتباعه فمن تركها فقد ترك الاختلاف وأصحاب أولئك الأقوال كلها مأمورون بتركها والرجوع إلى حبل الله تعالى وصراطه فإذا تركوها فقد تركوا الاختلاف والفرقة ورجعوا إلى الفرض عليهم من الاتفاق اللازم ولهذا قلنا بفسخ قضاء كل قاضي قضى به بخلاف النص وسواء قال به طوائف من العلماء أو لا قال الله عز وجل {ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} فاستثنى تعالى من رحم من جملة المختلفين وأخرج المرحومين من جملة المختلفين وعديدهم ومن ظن أن قوله تعالى {إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} أنه يعني وللرحمة خلقهم وأرادوا بذلك استباحة الاختلاف فهو في غاية الفساد ببرهانين ضروريين أحدهما أن الله تعالى استثنى من رحم فأخرجهم من جملة المختلفين فلو أنه تعالى خلق المختلفين للرحمة لاستثنى المرحومين من أنفسهم ولأخرجهم من جملة أنفسهم وهذا باطل لا يجوز ومحال في الكلام لا يفهم والبرهان الثاني أن المختلفين موجودون وكل موجود عن حالة ما فلا شك عند كل مسلم أنه تعالى إنما خلقه ليكون على تلك الحالة وصح يقينا بلا مرية أنه الاختلاف الذي هم عليه بالعيان خلقهم إلا أن يقول قائل إن الضمير الذي في خلقهم وهو الهاء والميم راجع إلى من رحم فيكون المراد حينئذ استثناء المرحومين من جملة المختلفين وأن أولئك الذين اعتصموا بحبل الله تعالى للرحمة فهذا صحيح لا شك فيه وذم الاختلاف وخروجه من الرحمة باق بحسبه وممن قال بهذا من السلف الصالح عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس كما كتب إلى المهلب عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الأعلى أخبرني ابن وهب أخبرني عبد الله بن يزيد عن المسعودي قال سمعت عمر بن عبد العزيز قرأ هذه الآية {ولو شآء ربك لجعل لناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من لجنة ولناس أجمعين} قال خلق أهل رحمته ألا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 يختلفوا قال ابن وهب وسمعت مالكا يقول فيها الذين رحمهم الله لم يختلفوا قال أبو محمد معنى قولنا الاختلاف في الدين غير جائز إنما هو أن طاعة أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز خلافها البتة وليس فيما جاء من عند الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم تخالف إنما هو محكم أو خاص من جملة مخصوصة منها أو ناسخ ومنسوخ فقط وإذ لا حق إلا فيما جاء من عند الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلاف الحق لا يحل هذا أمر لا يخفى صوابه على أحد كما أن الثلاثة أكثر من الاثنين وبالله تعالى التوفيق الباب السادس والعشرون في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها باطل قال أبو محمد علي بن أحمد ذهبت طائفة إلى أن كل مجتهد مصيب وأن كل مفت محق في فتياه على تضاده واحتجوا بما روي عن عثمان رضي الله عنه إذ سئل عن الجمع بين الأختين بملك اليمين فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية قال أبو محمد ولا حجة لهم في ذلك لوجوه أحدها أن قول عثمان وقول كل أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزم قبوله إلا بموافقة نص قرآن أو سنة له أو إجماع والثاني أن كل ما يأتي بعد هذا إن شاء الله عز وجل من البراهين في إثبات أن الحق في واحد مبطل لتأويلهم الفاسد وهي دلائل كثيرة جمة والثالث أن عثمان لم يرد ما ذهبوا إليه من كون الشيء حراما حلالا معا في وقت واحد على إنسان واحد فهذا غاية المحال الممتنع وإنما أراد أنه لم يلح له فيها حكم يقف عليه لأنه رأى قوله تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 أيمانهم فإنهم غير ملومين} ورأى قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} فلم يبن له أي الأمرين تغلب فأخبر عن ظاهر الآية الواحدة أنها قد تحتمل أن تكون محللة لهما مخصوصة من الأخرى وأن ظاهر الثانية قد يحتمل أن يكون محرما لهما مخصصا من الأخرى فوقف في ذلك واحتجوا بقوله عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر قال أبو محمد وهذا من طريق ما احتج به من لا يعقل ولا يحل له الكلام في العلم لأن نص الحديث بكلامه صلى الله عليه وسلم أن المجتهد يخطىء وإذا أخطأ فهذا قولنا لا قولهم وليس مأجورا على خطأه والخطأ لا يحل الأخذ به ولكنه مأجور على اجتهاده الذي هو حق لأنه طلب للحق وليس قول القائل برأيه اجتهادا وأما خطأه فليس مأجورا عليه لكنه مرفوع في الإثم بقوله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} واحتجوا بالصواب في اختلاف القراءات وبالأشياء المباحات في الكفارات وأنها كلها حق على اختلافها قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن القراءات المختلفة ليست متنافية ونحن لم ننكر الصواب فيما لا يتنافى ولا فيما أمر به تعالى وإنما أنكرنا أن يكون قول القائل لحم السبع على غير المضطر حلال حقا ويكون قال القائل لحم السبع على غير المضطر حرام حقا فيكون الشيء حراما حلالا طاعة معصية مأمورا به منهيا عنه في وقت واحد لإنسان واحد من وجه واحد فهذا الذي نفينا وأبطلنا وهذا لا يسع في عقل من له مسكة من عقل لأنه غاية الامتناع الذي لا يتشكل في النفس فضلا عن أن يطلق استعماله واختلاف القراءات التي ذكروا مثل {بسم الله لرحمن لرحيم} يقرأ بها بعض القراء في أوائل السور ويسقطها بعضهم فكل ذلك مباح من أسقطها فقد أبيح له ومن قرأها فقد أبيح له وكذلك المخبر في كفارة الأيمان هي العتق والإطعام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 والكسوة فليس شيء من ذلك متنافيا وأيها فعل المرء فقد فعل ما أبيح له ولم يقل أحد إنه لو فعل الوجه الذي ترك لكان مخطئا وهذا غير ما اختلفنا فيه لأنه قد تكون أشياء كثيرة مباحة وغير ممكن أن يكون شيء واجبا تركه وواجبا فعله على إنسان واحد في وقت واحد وهذا فرق لا يشكل إلا على جاهل واحتجوا أيضا بأن قالوا قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أثر غزوة الخندق ألا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم العصر إذ دخل وقتها قبل أن يبلغوا بني قريظة وقالوا لم يرد منا هذا وأخرها آخرون حتى صلوها في بني قريظة مع الليل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف إحدى الطائفتين قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن المجتهد المخطىء لا يعنف وكانت صلاة من صلى أمرا قد فات فلا وجه لتعنيفهم ولكن الصواب بلا شك في فعل إحدى الطائفتين ولو كنا معه ما صلينا العصر إلا في بني قريظة معه ولو نصف الليل وقد ذكرنا أيضا الكلام في هذا الحديث في باب الكلام في الأوامر الواردة في القرآن والحديث وحملها على ظاهرها وعلى الوجوب والفور في قرب آخر ذلك الباب قبل فصل ترجمته كيفية ورود الأوامر حدثنا النباتي نا ابن عون الله نا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني نا بندار ثنا ابن أبي عدي ثنا شعبة عن طارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال إني أجنبت فلم أصل قال أصبت وأتاه رجل فقال إني أجنبت فتيممت وصليت فقال أصبت قال أبو محمد وهذا كالأول سواء بسواء لأن كل مجتهد معذور ومأجور لأن الذي سأل أولا لم يكن عنده أمر التيمم بلا شك ومن هذه صفته فحكمه ألا يصلي أصلا وهو جنب حتى يتطهر والثاني كان عالما بالتيمم فأدى فرضه كما يلزمه وكان حكمهما مختلفا لا متفقا وكلاهما أصاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 وجه العمل فيما عليه بقدر علمه ولم ننكر هذا إنما أنكرنا أن يكون الشيء حقا باطلا من وجه واحد في وقت واحد وقالوا إن كان مخالفكم مخطئا ففسقوه كما يفسق الخوارج قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا لا نفسق الخوارج ولا غيرهم ولكننا نقول من قامت عليه الحجة بحديث لا معارض له أو آية لا معارض لها أو برهان ضروري فتمادى على قوله المخالف للحق أو تناقض فاحتج في مكان مما لا يصح مثله في غير ذلك المكان وبنى عليه ذلك فتمادى على قوله الفاسد في فتيا في شيء من الفقه أو في اعتقاد فهو فاسق وكل ذلك سواء وهذا ابن عباس يقول بتخليد القائل فمن فسق القائلين بإنفاذ الوعيد فليبدأ بتفسيق ابن عباس ومن فسق ابن عباس فهو والله الفاسق حقا وابن عباس البر ابن البر الفاضل ابن الفاضل رضي الله عنهما واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم قال أبو محمد وقد تقدم إبطالنا لهذا الحديث وبينا أنه كذب في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا فأغنى عن ترداده واحتجوا باختلاف الصحابة وأنهم لم ينقض بعضهم أحكام بعض ولا منعوا مخالفهم من الحكم بخلافهم قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنهم قد أنكر بعضهم على بعض الاختلاف في الفتيا كإنكارهم غير ذلك وقد قال ابن عباس من شاء باهلته عند الحجر الأسود في العول في الفرائض وفي تخليد القاتل وقال أما تخافون أن يخسف الله بكم الأرض أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر وقال ابن عباس أأنتم أعلم أم الله تعالى يقول {لذين آمنوا يقاتلون في سبيل لله ولذين كفروا يقاتلون في سبيل لطاغوت فقاتلوا أولياء لشيطان إن كيد لشيطان كان ضعيفا} فقلتم أنتم لها نصف ما ترك وإن كان له ولد وهذا ابن عمر يقول إذ أمر بالمتعة في الحج فقيل له أبوك نهى عنها فقال أيهما أولى أن يتبع كلام الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 أو كلام عمر وهذا عمران بن الحصين يقول في نهي عمر عن المتعة في الحج نزل بها القرآن وعملناها مع النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها رجل برأيه ما شاء وهذا ابن الزبير يقول لابن عباس في متعة النساء لئن فعلتها لأرجمنك فجرب إن شئت وهذا عمر قد فسخ بيع أمهات الأولاد وردهن حبالى من تستر وفسخ فعل أبي بكر في استرقاق نساء المرتدين وكان يضرب على الركعتين بعد العصر وكان طلحة وأبو أيوب وعائشة يصلونهما وتستر بها أبو أيوب وأبو طلحة مدة حياة عمر فلما مات عاوداهما وقال ابن مسعود إذ سمع فتيا أبي موسى الأشعري في ابنة وابنة وابن أخت ثم قال عن ابن مسعود إنه سيوافقني في هذا فقال ابن مسعود لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين فجعل الفتيا بالخطأ ضلالا وخلافا للهدى وهذا أكثر من أن يحاط به إلا في سفر ضخم جدا فبطل ما احتجوا به من ذلك وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله عليه السلام إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من الآخر فأقضي له على نحو ما سمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار أو كما قال عليه السلام قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هو حجة عليهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ما أمر به من الحكم الظاهر من البينة أو اليمين وأخبر الناس أن ذلك لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ولا يحيل شيئا عن وجهه فلو كان حكم أحد من الحكام حقا وإن كل ما خالفه حقا لكان ذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم ولكان هذا بيان واضح في أن الحق في واحد وأن ما خالفه خطأ وحكم النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر بأن المال لزيد هو غير وجوب كون ذلك المال ملكا على الحقيقة لزيد فهما شيئان متغايران وإذا كانا كذلك فمن الممكن أن يكون أحدهما حقا والآخر باطلا فبطل احتجاجهم بذلك في قول الحق في وجهين مختلفين بل قد أخبر عليه السلام أن الحق حق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 وأن حكمه لا يحيله عن وجهه ولا يوجب إحلال المقضي به لغير صاحبه فإن قالوا مشاغبين أحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظاهر الأمر بما نهى عن أخذه في الباطن حكم بحق أو حكم بباطل فإن قلتم بباطل كفرتم وإن قلتم بحق فهو قولنا قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق لا يحل لمسلم أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بباطل وهو يعلم أنه باطل ومن أجاز هذا أو ظن جوازه فهو كافر حلال الدم والمال ولكن القول أنه صلى الله عليه وسلم ما حكم بشهادة الشهود واليمين إلا بحق مقطوع على أنه حق كما أمره الله عز وجل وأمر المحكوم له بخلاف ما هو في باطنه حق بألا يأخذه ثم نقول إنه قد صح يقينا أنه عليه السلام يحكم بما هو عنده حق فيوافق خلاف ما أمر الله تعالى به وهذا لا يسمى باطلا ومن سمى هذا باطلا فهو كافر وذلك نحو سلامه صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر بالمدينة من ركعتين أو ثلاث وإعراضه عن الأعمى فنزل في ذلك من القرآن ما نزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قصد في كل ذلك ما هو حق عنده ولم يكن ذلك عند الله تعالى كذلك فصح أن الحق في واحد ولا بد فمن خالفه ناسيا أو هو يرى أنه حق فليس آثما ولكنه مأجور أجرا واحدا ومن خالفه عامدا عالما فهو إما فاسق وإما كافر إن كان خلافا للإسلام وبالله تعالى التوفيق ويسألون عن فقيهين رأى أحدهما إباحة دم إنسان ورأى الآخر تحريمه ورأى أحدهما تارك الصلاة كافرا ولم يره الآخر كافرا ورأى أحدهما الساحر كافرا ولم يره الآخر كافرا فإن أطلقوا أن كل ذلك حق عند الله عز وجل لحقوا بالمجانين وجعلوا إنسانا واحدا كافرا في جهنم مخلدا أبد الأبد مؤمنا في الجنة مخلدا أبد الأبد وهذا غاية الجنون وليس هذا الباب من نوع ما أمرنا بإعطائه وحرم على الآخذ أخذه فهذان حكمان على إنسانين مختلفين كسائل سأل وهو غني فأعطاه المسؤول فالمعطي محسن مأجور والآخذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 فاسق عاص آكل سحتا وكذلك فادي الأسير ومعطي الرشوة في دفع مظلمة وقد جاء النص بذلك في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المسألة وقالوا أيضا ما تقولون فيمن صلى أربعا وشك أصلى ثلاثا أم أربعا فأنتم تأمرونه بأن يصلي حتى يكون على يقين من أنه صلى أربعا فقد أمرتموه بركعة خامسة فأنتم قد أمرتموه بالخطأ فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا لم نأمره قط بأن يصلي خامسة وإنما أمرناه أن يصلي أربعا لا أكثر والخامسة التي زاد فيها هو فيها مخطىء بلا شك عند الله عز وجل وما أمر بها قط وهو يدري أنها خامسة ولكن أمر بها يقينا إذا لم يدر أنها خامسة والإثم عنه مرفوع فيها ولسنا ننكر رفع المأثم وإنما ننكر رفع الخطأ في الباطن فلو لم يصل الخامسة وهو غير موقن بأنه صلى أربعا لكان مفسدا لصلاته لأنه لم يصل الخامسة التي أمر بصلاتها ومن باب إقدامه على ترك إتمام صلاته قبل أن يوقن بتمامها فهما شيئان متغايران دخل الغلط على من أراد مزجهما وهكذا القول في الاجتهاد في القبلة إنما هو مأمور بمقابلة المسجد الحرام فقط وغير مأمور بالصلاة إلى جهة غيرها لكن الإثم عنه مرتفع إن وافق غيرها باجتهاده وهو مخطىء وغير مأجور في ذلك وإنما يؤجر على اجتهاده لا على ما أداه إليه الاجتهاد إلا أن يكون يؤديه إلى حق فحينئذ يؤجر أجرين أجرا على الطلب وأجرا على الإصابة ولسنا نقول إن كل مجتهد فهو مأمور بما أداه إليه اجتهاده بل هذا عين الخطأ ولكنا نقول كل مجتهد فهو مأمور بالاجتهاد وبإصابة الحق والاجتهاد فعل المجتهد وهو غير الشيء المطلوب فإذا أمرنا بالطلب لا بالشيء الذي وجد ما لم يكن عين الحق والاجتهاد كله حق وهو طلب الحق وإرادته وإنما غلط من غلط لأنه توهم أن الاجتهاد هو فعل المجتهد للشيء الذي أداه إليه اجتهاده فسقطوا سقوطا فاحشا وقال تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فأوجب تعالى التفقه وهو طلب الحقائق في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 واجبات الشريعة وقال عليه السلام أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا ففي هذا إيجاب إصابة الحق وفي نهيه تعالى عن الكلام بغير علم إيجاب لإصابة الحق حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج ثنا الصموت ثنا البزار وهو أحمد بن عمر بن عبد الخالق نا الحسين بن مهدي نا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبي سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإن حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر وقد شغب بعضهم في قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فقال معناه فتخطى صاحب الحق قال أبو محمد وهذا عليهم لا لهم لأنه ليس إلا خطأ أو صواب فإذا تخطى صاحب الحق فقد حصل في الخطأ ولم يأمر الله تعالى قط الحاكم بإصابة صاحب الحق لأنه تكليف ما ليس في وسعه إنما أمره بالحكم بالبينة العدلة عنده أو اليمين أو بالإقرار أو بعلمه فما حكم به من ذلك في موضعه فقد حكم بيقين الحق أصاب صاحب الحق أو لم يصب فإن قال قائل بل تخطى الخطأ قيل له هذا خروج عن المعقول لأنه إذا تخطى الخطأ قيل له هذا خروج عن المعقول لأنه إذا تخطى الخطأ فقد أصاب وإذا أصاب فمن الذي أعطي أجرا واحدا على صوابه ومن الذي أعطي أجرين على صوابه وهذا وسواس ورقة في الدين ودليل على فساد الاعتقاد وقال بعضهم لو كان الحق في واحد لكان ما خالفه ضلالا قال أبو محمد ونعم هو ضلال ولكن ليس كل ضلال كفرا ولا فسقا إلا إذا كان عمدا وأما إذا كان عن غير قصد فالإثم مرفوع فيه كسائر الخطأ ولا فرق وقال بعضهم لو كان الحق في واحد لنص الله على ذلك نصا لا يحتمل التأويل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 قال أبو محمد فالجواب أن الله تعالى قد فعل والآيات التي تلونا في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا وهو قبل هذا الباب الذي نحن فيه فإن تلك الآيات ناصة نصا جليا على أن الحق في واحد وأن سائر الأقوال كلها فاسدة وخطأ وأمره تعالى بالرد عند التنازع إلى القرآن والسنة بيان جلي أن القول الذي يشهد له النص هو الحق وهو من عند الله تعالى وما عداه باطل ليس من عنده وقد أخبر تعالى أن الاختلاف ليس من عنده عز وجل فصح أن ما لم يكن من عنده تعالى فهو باطل فصح أن الحق في واحد ضرورة وبالله تعالى التوفيق واحتج بعضهم في ذلك بأن الحاكم مأمور بإنفاذ ما يشهد به الشاهدان العدلان عنده وقد يشهدان على باطل فهو مأمور بما هو في الباطن باطل قال أبو محمد وهذا تمويه شديد ونعم قد أمره الله بإنفاذه شهادة هذين الشاهدين اللذين يشهدان بالباطل بل نهاه عن ردهما لأنه لا يدري أنهما فاسقان على الحقيقة أو مغفلان لا عدلان ولكن لما لم يعلمهما كذلك رفع عنه الإثم في الباطن وأمره بالحكم فهما في الظاهر وليس يدخل بهذا في جملة المجتهدين بل قد حكم بالحق المقطوع على أن الله تعالى أمره بالحكم به ولو رده لكان عاصيا لله تعالى فهذا بمنزلة ما أمرنا به من فك الأسير ففكه بالمال فرض علينا وأخذ العدو ذلك المال حرام عليه وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقوله فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من علم الحقيق عن أن ينفذ بخلاف ما يدرك أنه حق وسألت بعضهم فقلت له ما تقول فيمن لقي أجنبية فظنها زوجته فوطئها أمصيب هو محق أم مخطىء فقال لي ما حرمها الله قط عليه مع جهله بأنها أجنبية فقلت له لقد أقدمت على عظيمة في قولك إن الله تعالى لم يحرم عليه الأجنبية مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 بلوغ التحريم إليه وخرقت الإجماع والنص بكذبك في قوله تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن بتغى ورآء ذلك فأولئك هم لعادون} وهذه ليست بزوجة له ولا ملك يمين فهو عاد مخطىء واطىء حرام إلا أن الإثم عنه ساقط لجهله فقط وأيضا فإذا لم تكن حراما عليه فهي بلا شك حلال له إذ ليس في العالم إلا حلال أو حرام وقال ابن عباس ما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلا محرما ومحللا قال ذلك لإنسان سمعه يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الضب لا أحله ولا أحرمه فقال له ابن عباس ما ذكرنا أو كلاما هذا معناه فانقطع واحتج بعضهم باستخلاف أبي بكر على القضاء زيد بن ثابت وهو مخالفه في أقضية كثيرة قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لا نقلد أبا بكر ولا غيره وهم يخالفون أبا بكر في عدة قضايا بلا دليل فلا ينكروا علينا خلافه حيث قام الدليل على خلاف قوله وقال بعضهم لو كان الله تعالى كلفنا إصابة الحق وإدراك الصواب لكان تعالى قد كلفنا ما لا نطيق قال أبو محمد وهذا تمويه ضعيف وكذب القائل ما ذكرنا وما كلفنا عز وجل من ذلك إلا ما نطيق لأنه قد أدرك الصواب كثير من الناس ووجدوه وجودا صحيحا أيقنوا فيه أنهم محقون وما أمكن بعضنا فهو لسائرنا ممكن وما توفيقنا إلا بالله تعالى وقال بعضهم لو كان الناس مكلفين عين الصواب لكان على من خالفه الإعادة لكل ما عمل بغير الحق قال أبو محمد أما ما كان من الشرائع مرتبطا بوقت محدود الأول والآخر فلا إعادة على من تركه أصلا إلا حيث جاء النص بإعادته لأنه لا سبيل إلى رجوع وقت تلك الشريعة وهي لم نؤمر بها إلا في ذلك الوقت فلا سبيل إلى أدائها إذ لا سبيل إلى الوقت الذي لا تؤدى إلا فيه كالصلاة وما أشبهها والصيام ونحوه فلا يقضي شيئا من ذلك لا جاهل ولا عامد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 ولا متأول حاشى الناسي والنائم للصلاة وحاشا المريض والمسافر والمتقيىء عمدا للصوم فقط وأما ما كان مرتبطا بوقت محدود الأول غير محدود الآخر أو كان غير مرتبط بوقت فهو مؤدى أبدا ومعاد ولا بد كإنسان جهل الزكاة في البر فبقي سنين مسلما مالكا لمقدار تجب فيه الزكاة منه ثم علم بعد ذلك فعليه الزكاة للسنين الخالية وكإنسان لم يعلم أن السلم في غير المكيل والموزون لا يجوز فسلم سنين جمة في حيوان أو فيما لا يكال ولا يوزن ثم علم فعليه فسخ كل ما أخذ من ذلك ورده إلى أربابه والحكم فيه كحكم الغاصب فيما بيده إذا تاب ولا فرق وكإنسان أداه اجتهاده إلى أنه لا نفقة لموروثه وذي رحمه المحرمة عليه فأقام كذلك عشرات سنين ثم علم فهي دين عليه يؤديها إليهم أبدا ويخرج من رأس ماله إن مات وهكذا في كل شيء وبالله تعالى التوفيق وشغب بعضهم بأن العامي إذا اختلف عليه الفقهاء فإنه مخير في أقوالهم قال أبو محمد وهذا خطأ ولسنا نقول به وقد بينا هذه المسألة في باب التقليد من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته وموه بعضهم بأن قال الميتة عين واحدة وهي حلال للمضطر حرام على غير المضطر قال أبو محمد وهذا عين الشغب والتمويه لأننا لم ندفع نحن اختلاف حكم العين الواحدة على إنسانين متغايرين أو في وقتين مختلفين بل هذا لازم في كل عين فمال زيد حلال لزيد حرام على عمرو والأكل في شوال حلال للبالغين العقلاء وحرام عليهم في رمضان وهكذا جميع الشرائع أولها عن آخرها وهكذا كل أحد مرة تلزمه الصلاة إذا دخل وقتها ومرة تحرم عليه قبل دخول وقتها ومرة يحرم دم زيد ومرة يحل وإنما أنكرنا أن تكون الميتة حلالا لزيد حراما عليه في وقت واحد وأن يكون البيع تاما قبل التفرق بالأبدان غير تام قبل التفرق بالأبدان والقصاص من القاتل واجبا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 حراما في وقت واحد فمثل هذا الجنون أنكرنا لأنه لا يصدقه ذو عقل ولا من به طباخ ولأنه شيء لا يقدر عليه أحد لأنه يؤدي إلى الوسواس وإلى أن يقال لزيد إن فعلت هذا الفعل فأنت مأجور عليه وفي الجنة وأنت آثم عليه وفي النار وفي وقت واحد ولا سبيل إلى أن يكون أحد في النار وفي الجنة في وقت واحد ولا أن يكون بفعل واحد عاصيا لله عز وجل بذلك الفعل مطيعا له في وقت واحد فهذا الوسواس أبطلنا لا غيره مما يعقل وقال بعضهم لو كنا مكلفين إصابة الحق لكان تعالى قد نصب عليه دليلا من أصابه علم أنه أصابه ومن أخطأه علم أنه أخطأه قال أبو محمد والجواب عن هذا أن أوائل مذاهبنا كلها نحن نقول فيها بذلك وأصل مذهبنا أن الأخذ بظاهر القرآن والحديث الصحيح حق ونحن على يقين من أننا مصيبون في ذلك وفي كل قول أدانا إليه أخذنا بظاهر القرآن والحديث الصحيح وأن من خالفنا مخطىء عند الله عز وجل ونحن على يقين من ذلك لا نشك فيه ولا يكن خلافه وإنما يخفى علينا الحق في بعض الجزئيات مثل بناء حديثين بأعيانهما لا ندري أيهما الناسخ من المنسوخ ولسنا ننكر خفاء الحق علينا في بعض هذه المواضع وقد علم غيرنا بلا شك وجه الحق فيما خفي علينا كما علمناه نحن فيما خفي على غيرنا ومن شاهد النبي صلى الله عليه وسلم وورود الأوامر منه علم اليقين فيما غاب عنا بلا شك وقال بعضهم قد يكون الإنسان على مذهب يعضده ويقاتل عنه ويعتقد الحق فيه ثم ينتقل إلى غيره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 قال أبو محمد لو قال هذا من يبطل الحقائق لكان أشبه بقوله وهذا لا معنى له لأن كل من كان على مذهب ثم تركه لآخر فإنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما البتة إما أن يكون على حق ثم دخلت عليه شبهة لم ينعم فيها النظر ولا تقصي البرهان على شرائطه فترك الحق للباطل وأخطأ في ذلك أو كان على مذهب لم يقم له على صحته برهان وإنما اعتقده بشبهة لم يتقص فيها طرائق البرهان فتركه لشبهة أخرى دخلت عليه فانتقل من باطل إلى مثله أو تركه لشيء يقوم عليه برهان صحيح فانتقل من باطل إلى حق فهو لا بد مغفل ضرورة ومخطىء بلا شك ومضرب عن طلب البرهان الصحيح إما أنه لم يبلغه وإما لأنه لم يتقصه ولا تأمله فلا بد له من الخطأ كما قلنا إما في اعتقاده الأول الذي انتقل عنه وإما في اعتقاده الثاني الذي انتقل إليه أو في كليهما ونحن لم ننف الخطأ عن الناس بل أثبتناه وإنما نفينا التضاد على الحق وأن ينتقل من حق غير منسوخ إلى حق مضاد لذلك الحق الذي انتقل عنه فهذا هو المحال الذي لا سبيل إليه البتة وقد بينا وجوه البراهين الصحاح الذي لا يصح شيء إلا بها والبرهان الذي لا يكون أبدا إلا صحيحا وبينا ما يظن أنه برهان وليس ببرهان في كتابنا الموسوم بالتقريب لحدود المنطق وهو كتاب جليل المنفعة عظيم الفائدة لا غنى لطالب الحقائق عنه فمن أحب أثلج وأن يقف على علم الحقائق فليقرأه ثم ليقرأ كلامنا في وجوه المعارف من كتابنا الموسم بكتاب الفصل ثم ليقرأ كتابنا هذا فإنه يلوح له الحقائق دون إشكال وبالله تعالى التوفيق فإذا بطل كل ما شغبوا به بحمد الله فلنقل في إقامة البرهان على إبطال قولهم الفاسد وبالله تعالى نعتصم فمن ذلك أن القائلين بهذه المقالة إنما يقولون بها باتفاق منهم حيث لا يوجد نص من قرآن أو سنة صحيحة على حسب اختلافهم في صفة ما يجب قبوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 من السنن وأما حيث يوجد نص قرآن أو سنة فلا يسع أحدا عندهم اجتهد في خلافها بل هو مخطىء مخالفها عندهم قال أبو محمد فإذا كان هذا قولهم فقد كفينا بحمد الله تعالى مؤونتهم لأنه لا نازلة إلا وفيها نص موجود ولو لم يكن كذلك لكان ذلك الحكم شرعا في الدين ليس من الدين وهذا تناقض وموهوا أيضا بلفظه الاجتهاد فقالوا هذا مما يسوغ فيه الاجتهاد وهذا مما لا يسوغ فيه الاجتهاد قال أبو محمد حقيقة الأمر هي أنهم إن كانوا يعنون بالاجتهاد اجتهاد المرء نفسه في طلب حكم دينه في مظان وجوده ولا مظان لوجود الدين إلا القرآن والسنن فقد صدقوا والاجتهاد المذكور فرض على كل أحد في كل شيء من الدين فهو قولنا وإن كانوا يعنون بالاجتهاد أن يقول برأيه ما أداه إليه ظنه فهذا باطل لا يحل أصلا في شيء من الدين وإيقاع لفظه الاجتهاد على هذا المعنى باطل في الديانة وباطل في اللغة وتحريف للكلم عن مواضعه ونعوذ بالله من هذا ومما يبطل قولهم وإن كان فيما أوردنا كفاية أنهم يقولون إن كل قائل مجتهد فهو حق محق مصيب ونحن نقول إنهم في قولهم هذا مخطئون عند الله عز وجل بلا شك وإنهم فيه على باطل فإذا حكموا لنا بالصواب والصدق في قولنا فقد أقروا ببطلان قولهم لأننا محقون في قولنا أنهم مخطئون بإقرارهم وفي هذا كفاية لمن عقل ويقال لهم أفي المتكلمين في الفتيا أحد أخطأ أم لا فإن قالوا لا كابروا لأن الحس يشهد بأن الخطأ موجود وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد إن كل مجتهد مصيب ويسألون عن نهيه تعالى عن التفرق أنهي عن حق أم عن باطل فإن قالوا عن حق كفروا وإن قالوا نهي عن باطل تركوا قولهم الفاسد وكل آية تلوناها في باب ذم الاختلاف من كتابنا هذا فهي مبطلة لقولهم الفاسد في هذا الباب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 وبالله تعالى التوفيق ومن ذلك قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فلم يطلق لنا تعالى البقاء على التنازع وأمرنا بالرد إلى النص والأخذ به وأيضا فإن الدين ليس موكولا إلى ما أراد القائلون أن يقولوه وقائل هذا كافر وإنما الدين مردود إلى نص إجماع فمن خالف الوجه في ذلك فهو مخطىء وأيضا فإن الله تعالى يقول {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وليس في الوسع أن يعتقد أحد كون شيء واحد حراما حلالا في وقت واحد على إنسان واحد ولا أن الدين ينتقل حكمه من تحليل إلى تحريم إذا حرم الشي مفت ما وحلله مفت آخر وأيضا فإن المفتي ليس له أن يشرع ولا أن يحلل ولا أن يحرم وإنما عليه أن يخبر عن الله تعالى بحكمه في هذه النازلة ومن المحال أن يكون حكم الله تعالى فيها غير مستقر إما بتحليل وإما بتحريم وإما بوجوب قوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} مبين أن الحكم قد استقر في كل نازلة إما بتحريم وإما بتحليل وإما بإيجاب ومن حلل وحرم باختلاف الفقهاء فقد أقر أنهم يحرمون ويحللون ويوجبون فهذا كفر ممن اعتقده وقوله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} مبطل لقول من قال إن الشيء يكون حراما حلالا باختلاف الفقهاء فيه ومخبر أن قائل ذلك كاذب وأنه ما حرم الله تعالى فهو حرام لا حلال وما أحله تعالى فهو حلال لا حرام وكذلك القول فيما أوجب تعالى وقال صلى الله عليه وسلم إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فلو لم يكن علينا إصابة الحق وكنا لا يلزمنا شيء إلا الاجتهاد فقط لكان كل أحد من الناس عالما بحكم تلك المشتبهات بل كانوا ناقلين بأقوالهم للحرام البين إلى التحليل وللحلال البين إلى التحريم وهذا كفر وتكذيب للنبي صلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 الله عليه وسلم فصح لما ذكرنا أن من لم يعلم تلك المشتبهات فقد جهلها ومن جهلها فقد أخطأها ولم يصب الحق فيها وصح أن القائل في الحرام أنه حلال أو في الحلال أنه حرام مخطىء بيقين لا شك فيه وبالله تعالى التوفيق ويلزم من قال إن كل قائل مجتهد مصيب أن يقول إن من قال إن المتأولين كفار أن يكون محقا صادقا وأن يقول إن من قال إنهم مؤمنون فساق أن يكون محقا صادقا وأن يقول إن من قال إنهم مؤمنون غير فساق أن يكون محقا صادقا فيلزم من هذا أن يكون الرجل كافرا مؤمنا فاسقا فاضلا في وقت واحد وهذا لا يقوله من يقذف بالحجارة ويلزم من هذا أن يكون المرء في الجنة مخلدا وفي النار مخلدا في وقت واحد لأن الكافر مخلد في النار والمؤمن مخلد في الجنة فإذا كان المرء كافرا بقول من قال فيه إنه كافر ومؤمنا بقول من قال فيه إنه مؤمن فهو في الجنة وفي النار في وقت واحد وهذا ما لا يقوله إلا موسوس وكل ذلك قد قال به فضلاء أئمة من أهل العلم يعني تكفير أهل الأهواء وإبطال تكفيرهم من الصحابة والتابعين إلى هلم جرا ويكفي من هذا أن تعالى قد نص على أن سبيله واحدة وأن سائر السبل متفرقة عن سبيله وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على تخطئة جماعة من الصحابة رضي الله عنهم من المجتهدين كتخطئته عليه السلام أبا بكر في تفسيره للرؤيا وعمر في قوله في هجرة المهاجرين إلى الحبشة وأسيد بن الحضير في قوله بطل جهاد عامر بن الأكوع وسائر الفتاوى التي أخطؤوا فيها كأبي السنابل في وضعه على الحامل المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين ومثل هذا كثير وبالله تعالى التوفيق حدثنا محمد بن سعيد نا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشتي ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خالد بن سعد قال دخل أبو مسعود على حذيفة فقال اعهد إلي قال ألم يأتك اليقين قال بلى فإن الضلالة كل الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر أو تنكر ما كنت تعرف وإياك والتلون في دين الله أو في أمر الله فإن دين الله واحد فبين حذيفة ووافقه أبو مسعود رضي الله عنهما وهذا نص قولنا والذي لا يجوز غيره وهو ما استقر عليه الأمر إذا مات النبي صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب السابع والعشرون في الشذوذ قال أبو محمد الشذوذ في اللغة التي خوطبنا بها هو الخروج عن الجملة وهذه اللفظة في الشريعة موضوعة باتفاق على معنى ما واختلف الناس في ذلك المعنى فقالت طائفة الشذوذ هو مفارقة الواحد من العلماء سائرهم وهذا قول قد بينا بطلانه في باب الكلام في الإجماع من كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين وذلك أن الواحد إذا خالف الجمهور إلى حق فهو محمود ممدوح والشذوذ مذموم بإجماع فمحال أن يكون المرء محمودا مذموما من وجه واحد في وقت واحد وممتنع أن يوجب شيء واحد الحمد والذم معا في وقت واحد من وجه واحد وهذا برهان ضروري وقد خالف جميع الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر في حرب أهل الردة فكانوا في حين خلافهم مخطئين كلهم فكان هو وحده المصيب فبطل القول المذكور وقال طائفة الشذوذ هو أن يجمع العلماء على أمر ما ثم يخرج رجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 منهم عن ذلك القول الذي جامعهم عليه وهذا قول أبي سليمان وجمهور أصحابنا وهذا المعنى لو وجد نوع من أنواع الشذوذ وليس حدا للشذوذ ولا رسما له وهذا الذي ذكروا لو وجد شذوذ وكفر معا لما قد بينا في باب الكلام في الإجماع أن من فارق الإجماع وهو يوقن أنه إجماع فقد كفر مع دخول ما ذكر في الامتناع والمحال وليت شعري متى تيقنا إجماع جميع العلماء كلهم في مجلس واحد فيتفقون ثم يخالفهم واحد منهم والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إن حد الشذوذ هو مخالفة الحق فكل من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ وسواء كانوا أهل الأرض كلهم بأسرهم أو بعضهم والجماعة والجملة هم أهل الحق ولو لم يكن في الأرض منهم إلا واحد فهو الجماعة وهو الجملة وقد أسلم أبو بكر وخديجة رضي الله عنهما فقط فكانا هم الجماعة وكان سائر أهل الأرض غيرهما وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشذوذ وفرقة وهذا الذي قلنا لا خلاف فيه بين العلماء وكل من خالف فهو راجع إليه ومقربه شاء أو أبى والحق هو الأصل الذي قامت السموات والأرض به قال الله تعالى {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} فإذا كان الحق هو الأصل فالباطل خروج عنه وشذوذ منه فلما لم يجز أن يكون الحق شذوذا وليس إلا حق أو باطل صح أن الشذوذ هو الباطل وهذا تقسيم أوله ضروري وبرهان قاطع كاف ولله الحمد ويسأل من قال إن الشذوذ هو مفارقة الواحد للجماعة ما تقول في خلاف الاثنين للجماعة فإن قال هو شذوذ سئل عن خلاف الثلاثة للجماعة ثم يزاد واحدا واحدا هكذا أبدا فلا بد له من أحد أمرين إما أن يجد عددا ما بأنه شذوذ وإن ما زاد عليه ليس شذوذا فيأتي بكلام فاسد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 لا دليل عليه فيصير شاذا على الحقيقة أو يتمادى حتى يخرج عن المعقول وعن إجماع الأمة فيصير شاذا على الحقيقة أيضا ولا بد له من ذلك وبالله تعالى التوفيق فكل من أداه البرهان من النص أو الإجماع المتيقن إلى قول ما ولم يعرف أحد قبله قال بذلك القول ففرض عليه القول بما أدى إليه البرهان ومن خالفه فقد خالف الحق ومن خالف الحق فقد عصى الله تعالى قال تعالى {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} ولم يشترط تعالى في ذلك أن يقول به قائل قبل القائل به بل أنكر تعالى ذلك على من قاله إذ يقول عز وجل حاكيا عن الكفار منكرا عليهم أنهم قالوا {ما سمعنا بهذا فى الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق} قال أبو محمد ومن خالف هذا فقد أنكر على جميع التابعين وجميع الفقهاء بعدهم لأن المسائل التي تكلم فيها الصحابة رضي الله عنهم من الاعتقاد أو الفتيا فكلها محصور مضبوط معروف عند أهل النقل من ثقات المحدثين وعلمائهم فكل مسألة لم يرو فيها قول عن صاحب لكن عن تابع فمن بعده فإن ذلك التابع قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله بلا شك وكذلك كل مسألة لم يحفظ فيها قول عن صاحب ولا تابع وتكلم فيها الفقهاء بعدهم فإن ذلك الفقيه قد قال في تلك المسألة بقول لم يقله أحد قبله ومن ثقف هذا الباب فإنه يجد لأبي حنيفة ومالك والشافعي أزيد من عشرة آلاف مسألة لم يقل فيها أحد قبلهم بما قالوه فكيف يسوغ هؤلاء الجهال للتابعين ثم لمن بعدهم أن يقولوا قولا لم يقله أحد قبلهم ويحرم ذلك على من بعدهم إلينا ثم إلى يوم القيامة فهذا من قائله دعوى بلا برهان وتخرص في الدين وخلاف الإجماع على جواز ذلك لمن ذكرنا فالأمر كما ذكرنا فمن أراد الوقوف على ما ذكرنا فليضبط كل مسألة جاءت عن أحد من الصحابة فهم أول هذه الأمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 ثم ليضرب بيده إلى كل مسألة خرجت عن تلك المسائل فإن المفتي فيها قائل بقول لم يقله أحد قبله إلا أن بيننا نحن وبين غيرنا فرقا وهو أننا لا نقول في مسألة قولا أصلا إلا وقد قاله تعالى في القرآن أو رسوله عليه السلام فيما صح عنه وكفى بذلك أنسا وحقا وأما من خالفنا فإن أكثر كلامه فيما لم يسبق إليه فمن رأيه وكفى بهذا وحشة والحمد لله رب العالمين كثيرا وصلى الله على محمد خاتم النبيين وحسبنا الله ونعم الوكيل الباب الثامن والعشرون في تسمية الصحابة الذين رويت عنهم الفتيا وتسمية الفقهاءالمذكورين في الاختلاف بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم قال أبو محمد أما الصحابة رضي الله عنهم فهو كل من جالس النبي صلى الله عليه وسلم ولو ساعة وسمع منه ولو كلمة فما فوقها أو شاهد منه عليه السلام أمرا يعيه ولم يكن من المنافقين الذين اتصل نفاقهم واشتهر حتى ماتوا على ذلك ولا مثل من نفاه عليه السلام باستحقاقه كهيت المخنث ومن جرى مجراه فمن كان كما وصفنا أولا فهو صاحب وكلهم عدل إمام فاضل رضي فرض علينا توقيرهم وتعظيمهم وأن نستغفر لهم ونحبهم وتمرة يتصدق بها أحدهم أفضل من صدقة أحدنا بما يملك وجلسة من الواحد منهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من عبادة أحدنا دهره كله وسواء كان من ذكرنا على عهده عليه السلام صغيرا أو بالغا فقد كان النعمان بن بشير وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم أجمعين من أبناء العشر فأقل إذ مات النبي صلى الله عليه وسلم وأما الحسين فكان حينئذ ابن ست سنين إذ مات الرسول صلى الله عليه وسلم وكان محمود بن الربيع ابن خمس سنين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 إذ مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعقل مجة مجها النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه من ماء بئر دارهم وكلهم معدودون في خيار الصحابة مقبولون فيما رووا عنه عليه السلام أتم القبول وسواء في ذلك الرجال والنساء والعبيد والأحرار وأما من أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقله وسنه إلا أنه لم يلقه فليس من الصحابة ولكنه من التابعين وكأبي عثمان النهدي وأبي رجاء العطاردي وشريح بن الحارث القاضي وعلقمة والأسود ومسروق وقيس بن أبي حازم والرحيل الجعفي ونباتة الجعفي وعمرو بن ميمون وسلمان بن ربيعة الباهلي وزيد بن صوحان وأبي مريم الحنفي وكعب بن سور وعمرو بن يثربي وغيرهم وأعداد لا يحصهم إلا خالقهم عز وجل ومن هؤلاء من أفتى أيام عمر بن الخطاب وقضى بين الناس زمن عمر وعثمان وأما من ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد أن لقيه وأسلم ثم راجع الإسلام وحسنت حاله كالأشعث بن قيس وعمرو بن معدي كرب وغيرهما فصحبته له معدودة وهو بلا شك من جملة الصحابة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما سلف لك من خير وكلهم عدول فاضل من أهل الجنة قال الله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وقال تعالى {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل لله ولله ميراث لسماوات ولأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل لفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من لذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد لله لحسنى ولله بما تعملون خبير} وقال تعالى {إن لذين سبقت لهم منا لحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم في ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 شتهت أنفسهم خالدون * لا يحزنهم لفزع لأكبر وتتلقاهم لملائكة هذا يومكم لذي كنتم توعدون} قال أبو محمد هذه مواعيد الله تعالى ووعد الله مضمون تمامه وكلهم ممن مات مؤمنا قد آمن وعمل الصالحات وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقد قال قوم إنه لا يكون صاحبا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة لكن من تكررت صحبه قال أبو محمد وهذا خطأ بيقين لأنه قول بلا برهان ثم نسأل قائله عن حد التكرار الذي ذكر وعن مدة الزمان الذي اشترط فإن حد في ذلك حدا كان زائدا في التحكم بالباطل وإن لم يجد في ذلك حدا كان قائلا بما لا علم له به وكفى بهذا ضلالا وبرهان بطلان قوله أيضا إن اسم الصحبة في اللغة إنما هو لمن ضمته مع آخر حالة ما فإنه قد صحبه فيها فلما كان من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير منابذ له ولا جاحد لنبوته قد صحبه في ذلك الوقت وجب أن يسمى صاحبا وأما التابعون ومن بعدهم فإنما لنا ظواهر أحوالهم إذ لا شهادة من الله تعالى لأحد منهم بالنجاة وليس كل التابعين فمن بعدهم عدلا فإنما يراعى أحوالهم فمن ظهر منه الفضل والعلم فهو مقبول النقل قال أبو محمد وقد غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن بحنين في اثني عشر ألف مقاتل كلهم يقع عليهم اسم الصحبة ثم غزا تبوك في أكثر من ذلك ووفد عليه جميع البطون من جميع قبائل العرب وكلهم صاحب وعددهم بلا شك يبلغ أزيد من ثلاثين ألف إنسان ووفد عليه صلى الله عليه وسلم وفود الجن فأسلموا وصح لهم اسم الصحبة وأخذوا عنه صلى الله عليه وسلم القرآن وشرائع الإسلام وكل من ذكرنا ممن لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 فكل امرىء منهم إنسهم وجنهم فلا شك أفتى أهله وجيرانه وقومه هذا أمر يعلم ضرورة ثم لم ترو الفتيا في العبادات والأحكام إلا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط من رجل وامرأة بعد التقصي الشديد فكيف يسع من له رمق من عقل أو مسكة من دين وشعبة من حياء أن يدعي عليهم الإجماع فيما لا يوقن أن جميعهم قال به وعلمه لا سيما وإنما ننازعهم في دعوى الإجماع عليهم في الخطأ المخالف لكلام الله عز وجل في القرآن والثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا هو العجب وفيما ذكرنا يقين العلم بكذب من ادعى الإجماع على ما يمكن أن يخفى من أحكام القرآن والسنن فكيف على خلاف القرآن والسنن قال أبو محمد وهذا حين نذكر إن شاء الله تعالى اسم كل من روى عن مسألة فما فوقها من الفتيا من الصحابة رضي الله عنهم وما فات منهم إن كان فات إلا يسيرا جدا ممن لم يرو عنه أيضا إلا مسألة واحدة أو مسألتان وبالله تعالى التوفيق المكثرون من الصحابة رضي الله عنهم فيما روي عنهم من الفتيا عائشة أم المؤمنين عمر بن الخطاب ابنه عبد الله علي بن أبي طالب عبد الله بن العباس عبد الله بن مسعود زيد بن ثابت فهم سبعة يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر صخم وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن العباس في عشرين كتابا وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا رضي الله عنهم أم سلمة أم المؤمنين أنس بن مالك أبو سعيد الخدري أبو هريرة عثمان بن عفان عبد الله بن عمرو بن العاص عبد الله بن الزبير أبو موسى الأشعري سعد بن أبي وقاص سلمان الفارسي جابر بن عبد الله معاذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 بن جبل وأبو بكر الصديق فهم ثلاثة عشر فقط يمكن أن يجمع من فتيا كل امرىء منهم جزء صغير جدا ويضاف أيضا إليهم طلحة الزبير عبد الرحمن بن عوف عمران بن الحصين أبو بكرة عبادة بن الصامت معاوية بن أبي سفيان والباقون منهم رضي الله عنهم مقلون في الفتيا لا يروي الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان والزيادة اليسيرة على ذلك فقط يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث وهم رضي الله عنهم أبو الدرداء أبو اليسر أبو سلمة المخزومي أبو عبيدة بن الجراح سعيد بن زيد الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب النعمان بن بشير أبو مسعود أبي بن كعب أبو أيوب أبو طلحة أبو ذر أم عطية صفية أم المؤمنين حفصة أم المؤمنين أم حبيبة أم المؤمنين أسامة بن زيد جعفر بن أبي طالب البراء بن عازب قرظة بن كعب أبو عبد الله البصري نافع أخو أبي بكرة لأمه المقداد بن الأسود أبو السنابل بن بعكك الجارود العبدي ليلى بنت قائف أبو محذورة أبو شريح الكعبي أبو برزة الأسلمي أسماء بنت أبي بكر أم شريك الحولاء بنت تويت أسيد بن الحضير الضحاك بن قيس حبيب بن مسلمة عبد الله بن أنيس حذيفة بن اليمان ثمامة بن أثال عمار بن ياسر عمرو بن العاص أبو الغادية الجهني السلمي أم الدرداء الكبرى الضحاك بن خليفة المازني الحكم بن عمرو الغفاري وابصة بن معبد الأسدي عبد الله بن جعفر عوف بن مالك عدي بن حاتم عبد الله بن أبي أوفى عبد الله بن سلام عمرو بن عبسة عتاب بن أسيد عثمان بن أبي العاص عبد الله بن سرجس عبد الله بن رواحة عقيل بن أبي طالب عائذ بن عمرو أبو قتادة عبد الله بن معمر العدوي عمير بن سعد عبد الله بن أبي بكر الصديق عبد الرحمن بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 أبي بكر الصديق عاتكة بنت زيد بن عمرو عبد الله بن عوف الزهري سعد بن معاذ أبو منيب سعد بن عبادة قيس بن سعد عبد الرحمن بن سهل سمرة بن جندب سهل بن سعد الساعدي معاوية بن مقرن سويد بن مقرن معاوية بن الحكم سهلة بنت سهيل أبو حذيفة بن عتبة سلمة بن الأكوع زيد بن أرقم جرير بن عبد الله البجلي جابر بن سمرة جويرية أم المؤمنين حسان بن ثابت حبيب بن عدي قدامة بن مظعون عثمان بن مظعون ميمونة أم المؤمنين مالك بن الحويرث أبو أمامة الباهلي محمد بن مسلمة خباب بن الأرت خالد بن الوليد ضمرة بن العيص طارق بن شهاب ظهير بن رافع رافع بن خديج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس هشام بن حكيم بن حزام أبوه حكم بن حزام شرحبيل بن السمط أم سليم دحية بن خليفة الكلبي ثابت بن قيس بن الشماس ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرق المغيرة بن شعبة بريدة بن الحصيب الأسلمي رويفع بن ثابت أو حميدة أو أسيد فضالة بن عبيد رجل يعرف بأبي محمد روينا عنه وجوب الوتر هو من الأنصار اسمه مسعود بن أوس نجاري بدري زينب بنت أم المؤمنين أم سلمة عتبة بن مسعود بلال المؤذن مكرز عرفة بن الحارث سيار بن روح أو روح بن سيار أبو سعيد بن المعلى العباس بن عبد المطلب بسر بن أبي أرطاة ويقال بسرة بن أرطاة صهيب بن سنان أم أيمن أم يوسف ماعز الغامدية وأما فقهاء التابعين الذين روي عنهم الفتيا فمن بعدهم فنحن إن شاء الله تعالى نذكر من عرف منهم على البلاد المشهورة في صدر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 الإسلام خاصة وأما بعد ذلك فلا يحصيهم إلا الله عز وجل مكة أعزها الله عطاء بن رباح مولى أم كرز الخزاعية طاوس بن كيسان الفارسي والأسود والد عثمان بن الأسود مجاهد بن جبر عبيد بن عمر الليثي ابنه عبد الله بن عبيد عمرو بن دينار عبد الله بن أبي مليكة عبد الله بن سابط عكرمة مولى ابن عباس وهؤلاء من أصحاب ابن عباس رضي الله عنهم وقد أخذوا أيضا عن ابن عمر وأم المؤمنين عائشة وعلي جابر ثم أبو الزبير المكي وعبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية وعبد الله بن طاوس ثم بعدهم عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح سفيان بن عيينة وكان أكثر فتياه في المناسك وكان يتوقف في الطلاق وبعدهم مسلم بن خالد الزنجي سعيد بن سالم القداح وبعدهما محمد بن إدريس الشافعي ثم ابن عمه إبراهيم بن محمد الشافعي أبو بكر عبد الله ابن الزبير الحميدي أبو الوليد موسى بن أبي الجارود ثم أبو بكر بن أبي مسرة ثم غلب عليهم تقليد الشافعي إلا من لا نقف الآن على اسمه منهم المدينة أعزها الله وحرسها سعيد بن المسيب المخزومي وكان على بنت أبي هريرة وأخذ عنه كثيرا وعن سعد بن أبي وقاص وغيره عروة بن الزبير بن العوام القسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأخذ عن عائشة أم المؤمنين عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي وأخذ عن ابن عباس خارجة بن زيد بن ثابت وأخذ عن أبيه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي سليمان بن يسار أخذ عن أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة وعن غيرهما من الصحابة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 وهؤلاء هم الفقهاء السبعة المشهورون في المدينة وكان من أهل الفتيا أيضا فيها أبان بن عثمان بن عفان وأخذ عن أبيه عبد الله وسالم ابنا عبد الله بن عمر أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ابنه محمد وأخذ عن جابر أبو بكر بن سليمان أبي خيثمة العدوي عدي قريش نافع مولى ابن عمر روينا عنه نحو عشر مسائل من فتياه عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أخي أبي أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه وذكر سفيان أنها كانت تستفتى في البيوع وأخذت عن عائشة وعن الصواحب الأنصاريات ومروان بن الحكم قبل أن يقوم بالشام وكان دون هؤلاء وبعدهم أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وابناه محمد وعبد الله عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان وابنه محمد عبد الله والحسن ابنا محمد بن الحنفية وهو محمد بن علي بن أبي طالب جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق مصعب بن محمد بن شرحبيل العبدري محمد بن المنكدر التيمي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وقد جمع محمد بن أحمد بن مفرج فتاويه في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري أبو الزناد عبد الله بن يزيد بن هرمز عمر بن حسين سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ربيعة بن أبي عبد الرحمن مولى بن تميم من قريش وهو ربيعة الرأي العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي زيد بن أسلم عثمان بن عروة بن الزبير صفوان بن سليم إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي ثم كان بعد هؤلاء عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب محمد بن عبد الرحمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 بن أبي ذئب القرشي العامري محمد بن إسحاق مالك بن أنس عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ولي قضاء المدينة وبفتياه ضرب جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس مالك بن أنس وبعدهم أصحاب مالك كعبد العزيز بن أبي حازم والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي ومحمد بن مسلمة بن محمد بن هشام بن إسماعيل بن الوليد بن المغيرة وله ديوان كبير جدا سماعه من مالك وعبد الله بن نافع الأعور الصائغ وعبد الملك بن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ومطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان بن يسار وأبو مصعب أحمد بن بكر الحارث بن أبي زرارة بن المصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وهو آخر من بقي من الفقهاء المشاهير بالمدينة ومات سنة اثنتين وأربعين ومائتين أيام المتوكل وولي قضاء المدينة وقل العلم بها بعد ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل فقهاء البصرة بعد الصحابة رضي الله عنهم عمرو بن سلمة الجرمي وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولأبيه صحبة أبو مريم الحنفي كعب بن سور عمرو بن يثربي والحسن بن أبي الحسن وأدرك خمسمائة من الصحابة وقد جمع بعض الفقهاء فتياه في سبعة أسفار ضخمة جابر بن زيد أبو الشعثاء أخذ عن ابن عباس محمد بن سيرين يحيى بن يعمر أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي مسلم بن يسار أبو العالية الرياحي مولى بكر بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 عبد الله المزني حميد بن عبد الرحمن مطرف بن عبد الله بن الشخير الحرشي زرارة بن أوفى أبو بردة بن أبي موسى الأشعري معبد بن عبد الله عكيم الجهني عبد الملك بن يعلى الليثي القاضي بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري وهؤلاء لقوا أكابر الصحابة رضي الله عنهم ثم كان بعدهم أيوب بن كيسان السختياني سليمان بن طرخان التيمي مولى يونس بن عبيد عبد الله بن عون خالد بن أبي عمران القاسم بن ربيعة أشعث بن عبد الملك الحمراني حفص بن سليمان المنقري قتادة بن دعامة السدوسي إياس بن معاوية القاضي وبعدهم سوار بن عبد الملك القاضي العنبري أبو بكر العتكي عثمان بن مسلم البتي طلحة بن إياس القاضي عبيد الله بن الحسن العنبري القاضي أشعث بن جابر عمرو بن عبيد ثم كان بعد هؤلاء عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي سعيد بن أبي عروبة حماد بن سلمة حماد بن زيد عبد الله بن داود الخريبي إسماعيل بن علية بشر بن المفضل بن لاحق معاذ بن معاذ العنبري أبو عاصم الضحاك بن مخلد معمر بن راشد قريش بن أنس عبيد الله بن معاذ محمد بن عبد الله الأنصاري كلثوم بن كلثوم ثم دخل عندهم رأي أبي حنيفة بيوسف بن خالد وغيره ورأى مالك بأحمد بن المعذل إلا قليلا ممن لم يبلغنا أمره وممن بلغنا ذكره كسليمان بن حرب الواشجي فإنه كان جاريا على السنن الأولى في فتياه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 وإبراهيم بن علية ويحيى بن أكثم القاضي وعبد السلام بن عمر ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وخالد بن الحارث الهجيمي وعبد الوارث بن سعيد التنوري وشعبة بن الحجاج ونظرائهم من أئمة المحدثين ممن لا شك في سعة علمه بالسنن والآثار عن الصحابة وفي أنه كان لا يقلد أحدا في دينه فهم معدودون فيمن ذكرنا ولكن فتاويهم قليلة جدا وإنما كانوا يعولون في فتياهم على ما رووا من فتاوى الصحابة والتابعين ولا يكادون في كثير ممن ذكرنا لا يحفظ عنه إلا المسألة والمسألتين ونحو ذلك وكثير منهم أكثر من الفتيا جدا فقهاء الكوفة بعد الصحابة رضي الله عنهم علقمة بن قيس النخعي الأسود بن يزيد النخعي وهو عم علقمة أخو أبيه أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل الهمداني مسروق بن الأجدع الهمداني عبيدة السلماني شريح بن الحارث الكندي القاضي سلمان بن ربيعة الباهلي زيد بن صوحان سويد بن غفلة الحارث بن قيس الجعفي عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أخو الأسود بن يزيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود القاضي خيثمة بن عبد الرحمن أبو حذيفة سلمة بن صهيب أبو عطية مالك بن عامر أبو الأخوص عبد الله بن سخيرة رزبن حبيش الأسدي خلاس بن عمرو وهو من أصحاب علي رضي الله عنه عمرو بن ميمون الأودي من أصحاب معاذ بن جبل همام بن الحارث نباتة الجعفي الحارث بن سويد زيد بن معاوية النخعي معضد الشيباني الربيع بن خيثم الثوري عتبة بن فرقد السلمي ابنه عمرو صلة بن زفر العبسي شريك بن حنبل أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي عبيد بن نضلة وهؤلاء أصحاب ابن مسعود وعلي وأكابر التابعين كانوا يفتون في الدين ويستفتيهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 الناس وأكابر الصحابة أحياء حاضرون يجوزون لهم ذلك وأكثرهم قد أخذ عن عمر بن الخطاب وعائشة أم المؤمنين وعلي وغيرهم ولقي عمر بن ميمون معاذ بن جبل وصحبه وأخذ عنه ففعل ذلك وأوصاه معاذ عند موته أن يلحق بابن مسعود فيصحبه ويطلب العلم عنده ويضاف إلى هؤلاء أبو عبيدة وعبد الرحمن ابنا عبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري وأخذ عن مائة وعشرين من الصحابة وميسرة وزاذان والضحاك المسرفي ثم كان بعدهم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي وسعيد بن جبير مولى بني أسد صاحب ابن عباس والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي وأبو بكر بن أبي موسى الأشعري وكان سائر إخوته بالبصرة ومحارب بن دثار سدوسي والحكم بن عتيبة وجبلة بن سحيم الشيباني وصحب ابن عمر ثم كان بعد هؤلاء حماد بن أبي سليمان ومنصور بن المعتمر السلمي والمغيرة بن مقسم الضبي وسليمان الأعمش مولى بني أسد ومصعر بن كدام الهلالي ثم كان بعد هؤلاء محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي وعبد الله بن شبرمة القاضي الضبي وسعيد بن أشوع القاضي وشريك القاضي النخعي والقاسم بن معن وسفيان بن سعيد الثوري وأبو حنيفة النعمان بن ثابت والحسن بن صالح بن حي ثم كان بعدهم حفص بن غياث القاضي ووكيع بن الجراح وأصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف القاضي وزفر بن الهزيل بصري سكن الكوفة وحماد بن أبي حنيفة والحسن بن زياد اللؤلؤي القاضي ومحمد بن الحسن قاضي الرقة وعافية القاضي وأسد بن عمرو ونوح بن دراج القاضي وأصحاب سفيان الثوري كالأشجعي والمعافى بن عمران وصاحبي الحسن بن حي حميد الرؤاسي ويحيى بن آدم وقوم من أصحاب الحديث لم يشتهروا بالفتيا ثم غلب عليهم تقليد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 أبي حنيفة وإنما ذكرنا من ذكرنا من أصحاب أبي حنيفة دون سائرهم لأنهم لم يستهلكوا في التقليد بل خالفوه باختيارهم في كثير من الفقه فدخلوا من أجل ذلك في جملة الفقهاء وكذلك من ذكرنا في فقهاء المدينة من أصحاب مالك ومن نذكره منهم في فقهاء أهل مصر وأما من استهلك في التقليد فلم يخالف صاحبه في شيء فليس أهلا أن يذكر في أهل الفقه ولا يستحق أن يلحق اسمه في أهل العلم لأنه ليس منهم ولكنه كمثل الحمار يحمل أسفارا وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل فقهاء أهل الشام بعد الصحابة رضي الله عنهم أبو إدريس الخولاني ولقي معاذا وأخذ عنه شرحبيل بن الصمت عبد الله بن أبي زكريا الخزاعي قبيصة بن ذؤيب الخزاعي وطلب بالمدينة وجنادة بن أبي أمية وسليمان بن حبيب المحاربي والحارث بن عميرة الزبيدي وخالد بن معدان وعبد الرحمن بن غنم الأشعري وجبير بن نفير ثم كان بعدهم عبد الرحمن بن جبير بن نفير ومكحول وعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وكان عبد الملك بن مروان يعد في الفقهاء قبل أن يلي ما ولي وحدير بن كريب ثم كان بعد هؤلاء يحيى بن حمزة القاضي وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وإسماعيل بن أبي المهاجر وسليمان هو مولى ابن موسى الأموي وسعيد بن عبد العزيز ثم مخلد بن الحسين والوليد بن مسلم والعباس بن يزيد صاحب الأوزاعي وشعيب بن إسحاق صاحب أبي حنيفة وأبو إسحاق الفزاري صاحب ابن المبارك ثم لم يكن بعد هؤلاء في الشام فقيه مشهور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 فقهاء مصر بعد الصحابة رضي الله عنهم يزيد بن أبي حبيب وبكير بن عبد الله بن الأشج وبعدهما عمرو بن الحارث وقد روي عن ابن وهب أنه قال لو عاش لنا عمرو بن الحارث ما احتجنا معه إلى مالك ولا إلى غيره وهو أنصاري والليث بن سعد وعبيد الله بن أبي جعفر وبعدهم أصحاب مالك كعبد الله بن وهب وعثمان بن كنانة وأشهب وابن القاسم على غلبة تقليد مالك عليه إلا في الأقل ثم أصحاب الشافعي كأبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ثم غاب عليهم تقليد مالك وتقليد الشافعي إلا قوما قليلا لهم اختيارات كمحمد بن يوسف وأبي جعفر أحمد بن محمد الصحاوي وغيرهما وكان بالقيروان سحنون بن سعيد وله كثير من الاختيار وسعيد بن محمد بن الحداد وكان بالأندلس ممن له أيضا شيء من الاختيار يحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب وبقي بن مخلد وقاسم بن محمد صاحب الوثائق يحفظ لهم فتاوى يسيرة وكذلك أسلم بن عبد العزيز القاضي ومنذر بن سعيد وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي من بلغها استحق الاعتداد به في الاختلاف مسعود بن سليمان بن مفلت ويوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري وكان باليمن مطرف بن مازن قاضي صنعاء وعبد الرزاق بن همام وهشام بن يوسف ومحمد بن ثور وسماك بن الفضل والأئمة المتقدمين من أهل الثبات على السنن الأول ولكنهم ليسوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 في أعداد أهل الأمصار منهم خراسانيون ومنهم من سكن بغداد قال أبو محمد عبد الله بن المبارك الخراساني ونعيم بن حماد وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الشافعي بغدادي وأحمد بن محمد بن حنبل مروزي سكن بغداد وإسحاق بن راهويه نيسابوري سكن بغداد وأبو عبيد القاسم بن سلام اللغوي كوفي سكن بغداد وسليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وحسين بن علي الكرابيسي بغدادي وكان أبو خيثمة زهير بن حرب يجري مجراهم ولم يكن له اتساعهم وأبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي صليبة وأبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازيان وكان هشيم بن بشير له اختيارات وكان بعد هؤلاء داود بن علي ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن إسماعيل البخاري ثم محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري وأصحاب داود كمحمد ابنه وعبد الله بن أحمد بن المغلس وعبد الله بن محمد رويم وعبد الله بن محمد الرضيع وأبي بكر بن النجار وأبي بكر أحمد بن محمد الأواني والخلال وأبي الطيب محمد بن أحمد الدياجي بغداديون كلهم ومن نظرائهم ولكنهم من أصحاب القياس أبو عبيد علي بن حرب قاضي مصر وأبو إسحاق إبراهيم بن جعفر بن جابر قاضي حلب وكانا مائلين إلى الشافعي ومن هؤلاء أيضا محمد بن شجاع البلخي وأحمد بن أبي عمران وبكار بن قتيبة بصري ولي قضاء مصر وبها مات فهؤلاء أيضا لهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 اختيارات وإن كانوا في الأغلب لا يفارقون أبا حنيفة وأصحابه زفر وأبا يوسف ومحمد بن الحسن قال أبو محمد وهذا الباب له منفعة عظيمة في تكذيب دعوى الإجماع في مسائل الفقه التي لا تعم أقوال الناس فيها إلا بالرواية فهؤلاء الذين ذكرناهم الذين يعتد خصومنا بأقوالهم في الخلاف وبإجماعهم في الإجماع بعد إجماع الصحابة وهؤلاء الذين رويت عنهم الأقوال في مسائل الفقه وكثير من هؤلاء لا يحفظ عنهم إلا المسألتان والثلاث وربما فاتنا من لم نذكر إلا أنهم بلا شك يسير وممن لا يحفظ عنه إلا اليسير جدا ونحن بشر والكمال من الناس للنبيين عليهم السلام ولمن وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بالكمال وبالله تعالى التوفيق فإذا لم يضبط من التابعين إلا من سمينا وكل من يدري شيئا من الأخبار يوقن قطعا بأنهم ملؤوا الأرض من أقصى السند وأقصى خراسان إلى أرمينية وأذربيجان إلى الموصل وديار ربيعة وديار مضر إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا إلى أقصى الأندلس إلى أقاصي بلاد البربر إلى الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب إلى العراق إلى الأهواز إلى فارس إلى كرمان إلى سجستان إلى كابل إلى السند وأصبهان وطبرستان وجرجان والجبال وأن جميع هذه البلاد فشا فيها الإسلام وغلب عليها ولله تعالى الحمد وإنه لم يكن للمسلمين في جميع ما ذكرنا من البلاد ولا قرية ضخمة إلا كان فيها المفتي والمقرىء وربما أكثر من واحد فكيف يسوغ لدى عقل له حظ من دين يخاف الله تعالى في الكذب ويتقي العار والشهرة والافتضاح بالإفك على كل مفت كان في البلاد المذكورة في دعواه الإجماع على ما لا يتيقن أن كل واحد من مفتي جميع تلك البلاد قال به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 وإذا كان ممن سميناهم جزءا يسيرا ممن لم يبلغنا اسمه لا يوجد لأكثرهم إلا مسائل يسيرة جدا وهم عدد يسير فأين فتاويهم في سائر ما لم يرد عنهم فكيف بمن لم يسم منهم فصح يقينا أنه لا يحصي جميع أقوال التابعين ثم أقوال أهل عصر بعدهم في كل نازلة إلا الله تعالى خالقهم الذي لا يخفى عليه شيء من خلقه ووالله ما أحصت الملائكة ذلك لأن كل ملك إنما يحصي أقوال من جعل عليه حفيظا ورقيبا عتيدا لا قول من سواه فكيف أن يتعاطى الاحصاء لذلك كله من لم يؤت العلم إلا قليلا فوضح وضوحا كالشمس في يوم صحو أن كل من ادعى الإجماع على ما عدا ما قد جاء اليقين بأن من لم يقله لم يكن مسلما فهو كاذب آفك مفتر ونعوذ بالله من الكذب على كافر واحد فكيف على ناس كثير فكيف على مؤمن فكيف على جميع علماء أهل الإسلام أولهم عن آخرهم قديما وحديثا هذا أمر تقشعر منه الجلود ونعوذ بالله العظيم من الخذلان ثم إنه لا سبيل أن يوجد في مسألة ذكر قول لكل من سمينا على قلتهم فيمن لم نسم وإنما يوجد في المسألة رواية عن بضع عشر رجلا فأقل مختلفين أيضا ومن عنى بروايات المصنفات والأحاديث المنثورة وقف على ما قلنا يقينا وكل هذا مبين كذب من ادعى الإجماع على غير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق الباب التاسع والعشرون في الدليل قال أبو محمد ظن قوم بجهلهم أن قولنا بالدليل خروج منا عن النص والإجماع وظن آخرون أن القياس والدليل واحد فأخطؤوا في ظنهم أفحش خطأ ونحن إن شاء الله عز وجل نبين الدليل الذي نقول به بيانا يرفع الإشكال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 جملة فنقول وبالله تعالى التوفيق الدليل مأخوذ من النص ومن الإجماع فأما الدليل المأخوذ من الإجماع فهو ينقسم أربعة أقسام كلها أنواع من أنواع الإجماع وداخلة تحت الإجماع وغير خارجة عنه وهي استصحاب الحال وأقل ما قيل وإجماعهم على ترك قولة ما وإجماعهم على أن حكم المسلمين سواء وإن اختلفوا في حكم كل واحدة منها وهذه الوجوه قد بيناها كلها في كلامنا في الإجماع فأغنى عن تردادها وبالله تعالى التوفيق وأما الدليل المأخوذ من النص فهو ينقسم أقساما سبعة كلها واقع تحت النص أحدها مقدمتان تنتج نتيجة ليست منصوصة في إحداهما كقوله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام النتيجة كل مسكر حرام فهاتان المقدمتان دليل برهاني على أن كل مسكر حرام وثانيها شرط معلق بصفة فحيث وجد فواجب ما علق بذلك الشرط مثل قوله تعالى {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} فقد صح بهذا أن من انتهى غفر له وثالثها لفظ يفهم منه معنى فيؤدى بلفظ آخر وهذا نوع من تسميه أهل الاهتبال بحدود الكلام المتلائمات مثل قوله تعالى {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} فقد فهم من هذا فهما ضروريا أنه ليس بسفيه وهذا هو معنى واحد يعبر عنه بألفاظ شتى كقولك الضيغم والأسد والليث والضرغام وعنبسة فهذه كلها أسماء معناها واحد وهو الأسد رابعها أقسام تبطل كلها إلا واحدا فيصح ذلك الواحد مثل أن يكون هذا الشيء إما حرام فله حكم كذا وإما فرض له حكم كذا وإما مباح فله حكم كذا فليس فرضا ولا حراما فهو مباح له حكم كذا أو يكون قوله يقتضي أقساما كلها فاسد فهو قول فاسد وخامسها قضايا واردة مدرجة فيقتضي ذلك أن الدرجة العليا فوق التالية لها بعدها وإن كان لم ينص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 على أنها فوق التالية مثل قولك أبو بكر أفضل من عمر وعمر أفضل من عثمان فأبو بكر بلا شك أفضل من عثمان وسادسها أن نقول كل مسكر حرام فقد صح بهذا أن بعض المحرمات مسكر وهذا هو الذي تسميه أهل الاهتبال بحدود الكلام عكس القضايا وذلك أن الكلية الموجبة تنعكس جزئية أبدا وسابعها لفظ ينطوي فيه معان جمة مثل قولك زيد يكتب فقد صح من هذا اللفظ أنه حي وأنه ذو جارحة سليمة يكتب بها وأنه ذو آلات يصرفها ومثل قوله تعالى {كل نفس ذآئقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} فصح من ذلك أن زيدا يموت وأن هندا تموت وأن عمرا يموت وهكذا كل ذي نفس وإن لم يذكر نص اسمه فهذه هي الأدلة التي نستعملها وهي معاني النصوص ومفهومها وهي كلها واقعة تحت النص وغير خارجة عنه أصلا وقد بيناها وأنعمنا الكلام عليها في كتابنا الموسوم بكتاب التقريب واقتصرنا ههنا على هذا المقدار من ذكرها فقط وجميع هذه الأنواع كلها لا تخرج من أحد قسمين إما تفصيل لجملة وإما عبارة عن معنى واحد بألفاظ شتى كلغة يعبر عنها بلغة أخرى وأما ما أدرك بالحس فقط جاء النص بقبوله عز وجل {ألهم أرجل يمشون بهآ أم لهم أيد يبطشون بهآ أم لهم أعين يبصرون بهآ أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركآءكم ثم كيدون فلا تنظرون} وسائر النصوص المستشهد فيها بالحواس وبالعقل مع أن الحواس والعقل أصل لكل شيء وبهما عرفنا صحة القرآن والربوبية والنبوة فلم نحتج في إثباتها بالنص لأنه لولا النص لم يصح ما يدرك بالعقل والحواس لكن حسما لشغب أهل الضعف العاكسين للاستدلال القائلين لا نأخذ إلا ما في النصوص وقد مضى الكلام في هذا في باب إثبات حجة العقل من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق والاستدلال هو غير الدليل لأنه قد يستدل من لا يقع على الدليل وقد يوجد الاستدلال وهو طلب الدليل ممن لا يجد ما يطلب وقد يرد الدليل مهاجمة على من لا يطلبه إما بأن يطالعه في كتاب أو يخبره به مخبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 أو يثوب إلى ذهنه دفعه فصح أن الاستدلال غير الدليل وصح أن دليلنا غير خارج عن النص أو الإجماع أصلا وأنه إنما هو مفهوم اللفظ فقط والعلة لا تسمى دليلا والدليل لا يسمى علة فالعلة هي كل ما أوجب حكما لم يوجد قط أحدهما خاليا من الآخر كتصعيد النار للرطوبات واستجلابها الناريات فذلك من طبعها وههنا خلط أصحاب القياس فسموا الدليل علة والعلة دليلا ففحش غلطهم وسموا حكمهم في شيء لم ينص عليه بحكم قد نص عليه شيء آخر دليلا وهذا خطأ بل هذا هو القياس الذي ننكره ونبطله فمزجوا المعاني وأوقعوا على الباطل اسم معنى صحيح وعلى معنى صحيح اسم معنى باطل فمزجوا الأشياء وخلطوا ما شاؤوا ولم يصفوا بعض المعاني من بعض فاختلط الأمر عليهم وتاهوا ما شاؤوا والحمد لله على هدايته وتوفيقه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وبالله تعالى التوفيق والحول والقوة به عز وجل الباب الثلاثون في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر في الأرض ووقت لزوم الشرائع للإنسان قال أبو محمد قال الله تعالى {يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا وشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب لمسرفين} فأمر تعالى بني آدم جملة كما ترى وقال عز وجل {لذين يتبعون لرسول لنبي لأمي لذي يجدونه مكتوبا عندهم في لتوراة ولإنجيل يأمرهم بلمعروف وينهاهم عن لمنكر ويحل لهم لطيبات ويحرم عليهم لخبآئث ويضع عنهم إصرهم ولأغلال لتي كانت عليهم فلذين آمنوا به وعزروه ونصروه وتبعوا لنور لذي أنزل معه أولئك هم لمفلحون} وقال تعالى {في جنات يتسآءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخآئضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 اليقين} فنص تعالى كما ترى أنه يعذب المكذبين بيوم الدين وهم الكفار بلا شك على تركهم الصلاة وترك إطعام المسكين وقال عز وجل {ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بلله لعظيم * ولا يحض على طعام لمسكين} فنص تعالى كما ترى أيضا على أن نوع الكفار معذبون لأنهم لم يطعمون المساكين وقال {ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر لناس لا يعلمون} وأمره تعالى أن يقول {قل يأيها لناس إني رسول لله إليكم جميعا لذي له ملك لسماوات ولأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بلله ورسوله لنبي لأمي لذي يؤمن بلله وكلماته وتبعوه لعلكم تهتدون} هو نص جلي على لزوم شرائع الإسلام كلها للكفار كلزومها للمؤمنين إلا أن منها ما لا يقبل منهم إلا بعد الإسلام كالصلاة والصيام والحج وهم في ذلك كالجنب وتارك النية والمحدث لا تقبل منه صلاة حتى يطهر ولا صيام ولا حج إلا بإحداث النية في ذلك وقال تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} فنص تعالى على أنهم عصاة إذ لا يحرمون ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} فصح أن طعامنا حل لهم شاؤوا أو أبوا وقال تعالى {وأن حكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم وحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل لله إليك فإن تولوا فعلم أنما يريد لله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من لناس لفاسقون} وروينا عن ابن عباس بسند جيد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى {سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جآءوك فحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فحكم بينهم بلقسط إن لله يحب لمقسطين} وإذا قد صح كل هذا بيقين فواجب أن يحدوا على الخمر والزنى وأن تراق خمورهم وتقتل خنازيرهم ويبطل رباهم ويلزمون من الأحكام كلها في النكاح والمواريث والبيوع والحدود كلها وسائر الأحكام مثل ما يلزم المسلمون ولا فرق ولا يجوز غير هذا وأن يؤكل ما ذبحوا من الأرانب وما نحروا من الجمال ومن كل ما لا يعتقدون تحليله لأن كل ذلك حلال لهم بلا شك ومن خالف قولنا فهو مخطىء عند الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 الله عز وجل بيقين وقد أنكر تعالى ذلك عليهم فقال تعالى {أفحكم لجاهلية يبغون ومن أحسن من لله حكما لقوم يوقنون} وكل من أباح لهم الخمر ثم لم يرض حتى أغرمها المسلم إذا أراقها علهيم فقد حكم بحكم الجاهلية وترك حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لحكم الطاغوت والشيطان الرجيم نعوذ بالله من ذلك مع أن خصومنا في هذا يتناقضون أقبح تناقض فيحدونهم في القذف والسرقة كما يحدون المسلمين ولا يحدونهم في الزنى والخمر ويأكلون بعض الشاة التي يذكيها اليهودي ولا يأكلون بعضها إنفاذا لإفك اليهود وتركا لنص الله تعالى على أن طعامنا حل لهم وطعامهم حل لنا وبالله تعالى نعوذ من مثل هذه الأقوال الفاحشة الخطأ وقال تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم لقيامة إنا كنا عن هذا غافلين} وقال تعالى {وذكروا نعمة لله عليكم وميثاقه لذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا وتقوا لله إن لله عليم بذات لصدور} وقال تعالى {صبغة لله ومن أحسن من لله صبغة ونحن له عابدون} وقال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة لله لتي فطر لناس عليها لا تبديل لخلق لله ذلك لدين لقيم ولكن أكثر لناس لا يعلمون} وحدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا أبو غسان المسمعي ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار بن عثمان واللفظ لأبي غسان وابن المثنى قالا ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما تجهلون مما علمني يومي هذا كل مال نحلته عبدا حلال وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 وحرمت عليهم ما أحللت لهم قال أبو محمد عياض بن حمار هذا من بني تميم فكان صديق النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وحرميه ومعنى حرميه أن عياضا كان من الحلة وكان النبي صلى الله عليه وسلم من الحمس وكان لكثير من رجال الحلة إخوان من الحمس يطوفون في ثيابهم فكان كل صديق منهم يقال له هذا حرمي فلان فكان عياض يطوف إذا طاف بالكعبة في ثياب النبي صلى الله عليه وسلم وبالسند المذكور إلى مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا على هذه الملة حتى يبين عنه لسانه قال أبو محمد هذه الآيات التي تلونا والحديثان اللذان ذكرنا يبينان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ورواه عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من يولد يولد على هذه الفطرة وفيه حتى تكونوا أنتم تجدعونها فصح بهذا كله ضرورة أن الناس كلهم مولودون على الإسلام وهذا تأويل قوله تعالى {إنا عرضنا لأمانة على لسماوات ولأرض ولجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها لإنسان إنه كان ظلوما جهولا} فقبول الملة الإسلامية هي الأمانة وأن الله تعالى خلق الأنفس كلها جملة وهي الحساسة العاقلة المميزة ثم واثقها بالإسلام فقبلته ثم أقرها حتى نقل كل نفس منها إلى جسدها فأقامت فيه ما أقامت ثم تعود إلى مقرها عند سماء الدنيا حيث رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء فأهل السعادة في محل اليمين في سرور وخير وأهل الشقاء في محل الشمال في نكد ومشقة إلى يوم القيامة فينزلون منازلهم من الجنة والنار بعد أن تكسي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 أجسادا على العظام المخرجة من القبور بعد أن أرمت وهذا نص قوله تعالى {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة سجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من لساجدين} ونص قوله تعالى {وأمآ إن كان من أصحاب ليمين * فسلام لك من أصحاب ليمين} وقال تعالى {فأصحاب لميمنة مآ أصحاب لميمنة * وأصحاب لمشأمة مآ أصحاب لمشأمة} وقوله تعالى {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنآ أن تقولوا يوم لقيامة إنا كنا عن هذا غافلين} بيان جلي أن النفوس إذا حلت الأجساد الكدرة الأرضية في الدنيا فإنها ينتقص تمييزها ويذهب ذكرها لما سلف وأنها إذا فارقتها صح حسها وذكا تمييزها وصفا إدراكها قال تعالى {وما هذه لحياة لدنيآ إلا لهو ولعب وإن لدار لآخرة لهي لحيوان لو كانوا يعلمون} وأخبر تعالى أن الدنيا غرور فسبحان مخترع الكل ومدبره لا إله إلا هو فبهذا وبغيره قلنا ألا يترك أحد على غير دين الإسلام إلا من صح النص على إقراره وأن النبي عليه السلام أقرهم فأوجبنا ألا نقبل جزية ولا نقر على غير الإسلام من خرج من دين كتابي إلى دين كتابي آخر ولا من دان آباؤه بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بدين كتابي انتقلوا إليه عن كفرهم ولا من كان في أجداده أو جداته من أي جهة كان مسلم أو مسلمة وإن بعد وبعدت ولا من سبي وهو بالغ وسواء سبي مع أبويه أو مع أحدهما ولا يترك كافر بتباعه أصلا ولا يقبل من كل من ذكرنا إلا الإسلام أو السيف لأن الإسلام دين كل مولود وقد قال عليه السلام من غير دينه فاقتلوه وقال تعالى {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} فحرم القبول من أحد غير الإسلام إلا من جاء النص بتركه عليه وأنه مخصوص من هذه الآية والدلائل على هذا تكثر جدا وقوله تعالى {لا إكراه في لدين قد تبين لرشد من لغي فمن يكفر بلطاغوت ويؤمن بلله فقد ستمسك بلعروة لوثقى لا نفصام لها ولله سميع عليم} مخصوص بالنصوص الثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره غير أهل الكتاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 على الإسلام أو السيف وأيضا فإن الأمة كلها مجمعة على إكراه المرتد على الإسلام والقوم الذين أخبر عز وجل أنهم أوتوا الكتاب ثم أمر تعالى بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد قد ماتوا وحدث غيرهم والحس يشهد بأن هؤلاء الذين هم أبناء أولئك ليسوا الذين أوتوا التوراة والإنجيل والصحف والزبور بل هم غيرهم بلا شك فإنما أقروا بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن تناسل منهم وأمر بذلك فيمن توالد منهم فقط لا نص فيه فهو داخل في قوله تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} وهذا بين والله تعالى الموفق لا إله إلا هو وقد نص تعالى على أنه لا يضيع عمل عامل منا من ذكر أو أنثى وروينا بالسند المتقدم إلى مسلم قال ثنا عثمان بن أبي شيبة نا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ به ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام وبه إلى مسلم نا حسن الحلواني وعبد بن حميد قال حسن نا وقال عبد ثني يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن صالح هو ابن كيسان عن ابن شهاب قال أنبأ عروة بن الزبير أن حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت على ما أسلفت من خير وبه إلى مسلم ثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان هو ابن عيينة عن عبد الله بن عمير عن عبد الله بن الحارث هو ابن نوفل قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 سمعت العباس بن عبد المطلب يقول قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك قال نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح وقد رواه أيضا وكيع ويحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير بالسند المذكور ورواه أيضا عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في أبي طالب قال لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه قال أبو محمد قال الله تعالى {ولنذيقنهم من لعذاب لأدنى دون لعذاب لأكبر لعلهم يرجعون} وقال تعالى {لنار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم لساعة أدخلوا آل فرعون أشد لعذاب} وقال تعالى {إن لمنافقين في لدرك لأسفل من لنار ولن تجد لهم نصيرا} فصح بالضرورة أنه لا أشد إلا بالإضافة إلى ما هو أقل منه وأن الدرك الأسفل له درك أعلى لأن كل ذلك من باب الإضافة وصح يقينا بقوله تعالى {ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} أن الناس في الجنة يتفاضلون على مقدار أعمالهم وأنهم في النار أشد عذابا من بعض والنصوص التي ذكرناها تشهد بذلك وصح أن من عمل خيرا وهو كافر ثم أسلم فإن ذلك الخير محسوب له مكتوب وهو مثاب عليه ومأجور وأن من عمل سوءا في كفره ثم أسلم ولم يقلع عن تلك السيئات فإنها كلها مكتوبة عليه محسوبة وهو معاقب عليها وهذا نص كلام الله تعالى الذي تلونا ونص فتيا النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن ذلك وهذا ما لا يحل لأحد خلافه وقد اعترض قوم في مخالفة ذلك بقوله تعالى {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} قاله أبو محمد وهذا لا حجة فيه بل هو حجة لنا لأنه إنما نص أنه إنما يغفر ما انتهى عنه ومن تمادى على إساءته في إسلامه فلم ينته فلم يستحق أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 يغفر له ما قد سلف وإنما يغفر له الشرك الذي انتهى عنه فقط ولو انتهى عن سائر إساءاته لغفرت له أيضا وهذا نص الآية التي احتجوا بها واعترضوا أيضا بما رويناه بالسند المتقدم إلى مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص بن غياث عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت قلت يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه قال لا ينفعه إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين قال أبو محمد وهذا حجة لنا عليهم قوية جدا لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل السبب في أن ما فعل لا ينفعه أنه لم يسلم فصح أنه لو أسلم لنفعه ذلك كما نفع حكيما وهذا نص قولنا ونحن لم نقل قط إن الله تعالى يأجر كافرا مات على كفره وعلى ما عمل من خير وإنما قلنا من أسلم بعد كفره أجر على كل خير عمل في كفره واعترضوا بقول الله تعالى {ولقد أوحي إليك وإلى لذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من لخاسرين} قال أبو محمد وهذا حجة لنا لأن الشرك يحبط الأعمال والإسلام يزكيها ويبين ذلك قوله تعالى {فستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فلذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها لأنهار ثوابا من عند لله ولله عنده حسن لثواب} وإنما شرطنا أنه ينتفع بما عمل في كفره من خير إن أسلم لا إن لم يسلم واعترضوا أيضا بما رويناه عن مسلم بالسند المذكور قال ثنا محمد بن المثنى ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد نا حيوة بن شريح ثنا يزيد بن أبي حبيب عن ابن شماسة المهري قال حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت فحدثنا أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الإسلام يهدم ما كان قبله وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها وإن الحج يهدم ما كان قبله قال أبو محمد وإنما يهدم الإسلام الكفر الذي هو مضاده وحديث ابن مسعود زائد على ما في حديث عمرو غير مضاد له بل هو مبين بيانا زائدا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضاد بعضه بعضا ففي حديث ابن مسعود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 زيادة حكم على ما في حديث عمرو من أنه من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية ومن أحسن في الإسلام سقط عنه ما عمل في الجاهلية فإنما معنى حديث عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله بشرط الإحسان فيه وبالله تعالى التوفيق واعترضوا أيضا بما حدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن محمد بن عيسى عن عمرويه عن إبراهيم بن محمد بن سفيان عن مسلم ثنا زهير بن حرب ثنا يزيد بن هرون أنبأ همام بن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الأخرى وأما الكافر فيعطى بحساب ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لم نقل إن الكافر ينعم في الآخرة إذا مات على كفره وإنما قلنا إن بعض أهل النار أشد عذابا من بعض وهذا إجماع الأمة ونص القرآن والسنة الذي من خالفه كفر وهذا الحديث حجة لنا عليهم لأن الكافر إذا أسلم فهو مؤمن فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يظلمه حسنة مما عمل من حسنة في حال كفره ثم أسلم فهي داخلة تحت هذا الوعد الصادق المضمون إنجازه فصح أنه يجازى بها في الآخرة فصح قولنا يقينا وبالله تعالى التوفيق وكذلك قوله تعالى {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بلله وبرسوله ولا يأتون لصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون} قال أبو محمد وهذا بيان جلي على أن السبب المانع من قبول نفقاتهم هو الكفر فإذا ارتفع ذلك ارتفع السبب المانع من قبول نفقاتهم فإذا ارتفع ذلك السبب فقد وجب قبول النفقات وهذا نص القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 وأما وقت لزوم الشريعة فإنها تنقسم قسمين شريعة تعتقد ويلفظ بها وشريعة تعمل وتنقسم هذه الشريعة قسمين قسم في المال وقسم على الأبدان فأما شريعة الأموال فهي لازمة لكل صغير وكبير وجاهل بها وعارف ومجنون وعاقل لدلائل من النص وردت على العموم في الزكاة والإجماع على وجوب النفقات عليهم وأما شرائع الأبدان والاعتقاد فإنها تجب بوجهين أحدهما البلوغ مبلغ الرجال والنساء وهو البلوغ المخرج عن حد الصبا والثاني بلوغ الشريعة إلى المرء وأما الحدود فإنها تلزم من عرف أن الذي فعل حرام وسواء علم أن فيه حدا أم لا وهذا لا خلاف فيه وأما من لم يعرف أن ما عمل حرام فلا حد عليه فيه وبرهان ذلك قول الله تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فإنما جعل الله تعالى وجوب الحجة ببلوغ النذارة إلى المرء وقال تعالى {خذ لعفو وأمر بلعرف وأعرض عن لجاهلين} فأمر أن يهدر فعل الجاهل وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تخونوا لله ولرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} فإنما نهى الله تعالى عن وجوب ذلك عليه وحدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم ثنا يونس بن الأعلى ثنا ابن وهب أنا عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار قال أبو محمد فإنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به على من سمع بأمره صلى الله عليه وسلم فكل من كان في أقاصي الجنوب والشمال والمشرق وجزائر البحور والمغرب وأغفال الأرض من أهل الشرك فسمع بذكره صلى الله عليه وسلم ففرض عليه البحث عن حاله وإعلامه والإيمان به أما من لم يبلغه ذكره صلى الله عليه وسلم فإن كان موحدا فهو مؤمن على الفطرة الأولى صحيح الإيمان لا عذاب عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 في الآخرة وهو من أهل الجنة وإن كان غير موحد فهو من الذين جاء النص بأنه يوقد له يوم القيامة نار فيؤمرون بالدخول فيها فمن دخلها نجا ومن أبى هلك قال الله عز وجل {من هتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} فصح أنه لا عذاب على كافر أصلا حتى يبلغه نذارة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما من بلغه ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ثم لا يجد في بلاده من يخبره عنه ففرض عليه الخروج عنها إلى بلاد يستبرىء فيها الحقائق ولولا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه لا نبي بعده للزمنا ذلك في كل من نسمع عنه أنه ادعى النبوة ولكنا قد أمنا ذلك والحمد لله وأخبرنا الصادق إن كل من يدعي النبوة بعده كذاب ولا سبيل إلى أن يأتي بآية معجزة فإن ظهر من أحد منهم ذلك فهي نيرنجات وحيل وجوهها معروفة لمن بحث عنها ومن أهل هذه الصفة كان مسيلمة والجلاح ومن أهلها الدجال لا حقيقة لكل ما ظهر من هؤلاء وأشباههم وإنما هي حيل كما ذكرنا يبين ذلك حديث المغيرة بن شعبة في الدجال وكل من كان منا في بادية لا يجد فيها من يعلمه شرائع دينه ففرض على جميعهم من رجل أو امرأة أن يرحلوا إلى مكان يجدون فيها فقيها يعلمهم دينهم أو أن يرحلوا إلى أنفسهم فقيها يعلمهم أمور دينهم وإن كان الإمام يعلم ذلك فليرحل إليهم فقيها يعلمهم قال الله تعالى {دع إلى سبيل ربك بلحكمة ولموعظة لحسنة وجادلهم بلتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بلمهتدين} وبعث صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى إلى اليمن وأبا عبيدة إلى البحرين معلمين للناس أمور دينهم ففرض ذلك على الأئمة وقال تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} قال أبو محمد والبلوغ عندنا ينقسم أقساما فهو في الرجل والمرأة الاحتلام بنص ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من ذلك حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق القاضي عن ابن الأعرابي عن سليمان بن الأشعث ثنا موسى بن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 إسماعيل حدثنا وهيب عن خالد الحذاء عن أبي الضحى عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق قال أبو محمد الصبي يقع على الجنس ويدخل فيه الذكر والأنثى وقد أخبر عليه السلام في حديث عائشة أن المرأة تحتلم فصار الإحتلام بلوغا صحيحا في المرأة والرجل وسواء احتلما من أحد عشر عاما أو أقل أو أكثر ويكون البلوغ أيضا في المرأة بالحيض كما حدثنا عبد الله بن ربيع عن عمر بن عبد الملك الخولاني عن محمد بن بكر البصري ثنا سليمان بن الأشعث ثنا محمد بن عبيد ثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أن عائشة نزلت على صفية أم طلحة الطلحات فرأت بنات لها فقالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل وفي حجرتي جارية فألقى لي حقوه فقال شقيه شقتين فأعط هذه نصفا والفتاة التي عند أم سلمة نصفا وإني لا أراها إلا قد حاضت أو لا أراهما إلا قد حاضتا وبه إلى أبي داود ثنا المثنى ثنا حجاج بن المنهال ثنا حماد هو ابن زيد عن قتادة عن محمد بن سيرين عن صفية بنت الحارث عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار قال أبو محمد والإنبات بلوغ صحيح كما روينا عن عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق عن ابن الأعرابي عن أبي داود ثنا محمد بن كثير ثنا سفيان ثنا عبد الملك بن عمير ثنا عطية القرظي قال كنت فيمن سبي من قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم ينبت قال أبو محمد ومن المحال الممتنع أن تقتل الناس بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم أبحق أم بباطل هذا ما لا يظنه مسلم البتة وقتلى قريظة قتلوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وبأمره وقال لسعد بن معاذ حكمت فيهم بحكم الملك كما حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن معاوية عن أحمد بن شعيب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 عن محمود بن غيلان ثنا وكيع ثنا سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير قال سمعت عطية القرظي يقول عرضنا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت فيمن لم ينبت فخلي سبيلي قال أبو محمد فمن لم ينبت ولا احتلم من رجل أو امرأة أو لم تحض المرأة فإذا تجاوزا تسعة عشر عاما قمرية بساعة فقط لزمهم حكم البلوغ لأنه إجماع وأما من جعل إكمال خمسة عشر عاما بلوغا وإن لم يكن هناك حيض ولا احتلام ولا إنبات فقول لا دليل عليه وأما حجتهم بحديث ابن عمر عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعة عشر عاما فردني ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمسة عشر عاما فأجازني فلا حجة لهم في ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل إني أجزته لسنه وكان عام الخندق بالمدينة لا خروج عليهم فيه فالله أعلم لماذا أجازه إما لأنهم لم يسافروا عن موضعهم أو لأنه قد بلغ فلا حجة في ذلك أصلا وبالله تعالى التوفيق ولا نهى عليه السلام عن غزو الأشداء من الصبيان فتكون إجازته دليلا على أنه قد كان بلغ ومما يدل على أن الشرائع لا تلزم إلا من عرفها ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لم يزجر عدي بن حاتم عما تأوله في العاقلين لكن علمه وسقط اللوم عن عدي لأنه تأول جاهلا وأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر معاوية بن الحكم بإعادة الصلاة إذ تكلم فيها عامدا وأنه صلى الله عليه وسلم أمر الذي لم يتم صلاته مطمئنا في ركوعه وسجوده بالإعادة مرارا فلما أعلمه أنه لا يدري أكثر علمه ولم يذكر الراوي أنه أمره بإعادة إلا أن أمره صلى الله عليه وسلم بأن يعمل ما علمه أمر له بعمله وكذلك ما نص من صلاة أهل قباء إلى بيت المقدس وقد كان نسخ ذلك وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقد من أسامة إذ قتل الرجل بعد قوله لا إله إلا الله وأعلمه صلى الله عليه وسلم أنه قد فعل في ذلك ما لا يحل وكذلك لم يقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 صلى الله عليه وسلم بني جذيمة ممن قتلهم مع خالد بن الوليد فهذا يبطل قول من أوجب إعادة صلاة أو إقامة حد أو قضاء صوم على جاهل متأول وبذلك قضى عمر وعثمان إذ درء الحد عن السوداء المعترفة بالزنى لجهلها بتحريمه وهذا بين وبالله تعالى التوفيق الباب الحادي والثلاثون في صفة التفقه في الدين وما يلزم كل امرىء طلبه من دينه وصفة المفتيالذي لم يفت في الدين وصفة الاجتهاد الواجب على أهل الإسلام قال أبو محمد قال الله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فبين الله عز وجل في هذه الآية وجه التفقه كله وأنه ينقسم قسمين أحدهما يخص المرء في نفسه وذلك مبين في قوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فهذا معناه تعليم أهل العلم لمن جهل حكم ما يلزمه والثاني تفقه من أراد وجه الله تعالى بأن يكون منذرا لقومه وطبقته قال تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} ففرض على كل أحد طلب ما يلزمه على حسب ما يقدر عليه من الاجتهاد لنفسه في تعرف ما ألزمه الله تعالى إياه وقد بينا أن الاجتهاد هو افتعال من الجهد فهو في الدين إجهاد المرء نفسه في طلب ما تعبده الله تعالى به في القرآن وفيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا دين غيرهما فأقلهم في ذلك درجة من هو في غمار العامة ومن حدث عهده بالجلب من بلاد الكفر وأسلم من الرجال والنساء وقد ذكرنا كيف يطلب هؤلاء علم ما يلزمهم من شرائع الإسلام في باب إبطال التقليد من كتابنا هذا فأغنى عن ترداده ونذكر منه ههنا ما لا بد من ذكره وهو أن كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 مسلم عاقل بالغ من ذكر أو أنثى حر أو عبد يلزمه الطهارة والصلاة والصيام فرضا بلا خلاف من أحد من المسلمين وتلزم الطهارة والصلاة المرضى والأصحاء ففرض على كل من ذكرنا أن يعرف فرائض صلاته وصيامه وطهارته وكيف يؤدي كل ذلك وكذلك يلزم كل من ذكرنا أن يعرف ما يحل له ويحرم من المآكل والمشارب والملابس والفروج والدماء والأقوال والأعمال فهذا كله لا يسع جهله أحدا من الناس ذكورهم وإناثهم أحرارهم وعبيدهم وإمائهم وفرض عليهم أن يأخذوا في تعلم ذلك من حين يبلغون الحلم وهم مسلمون أو من حين يسلمون بعد بلوغهم الحلم ويجبر الإمام أزواج النساء وسادات الأرقاء على تعليمهم ما ذكرنا إما بأنفسهم وإما بالإباحة لهم لقاء من يعلمهم وفرض على الإمام أن يأخذ الناس بذلك وأن يراتب أقواما لتعليم الجهال ثم فرض على كل ذي مال تعلم حكم ما يلزمه من الزكاة وسواء الرجال والنساء والعبيد والأحرار فمن لم يكن له مال أصلا فليس تعلم أحكام الزكاة عليه فرضا ثم من لزمه فرض الحج ففرض عليه تعلم أعمال الحج والعمرة ولا يلزم ذلك من لا صحة لجسمه ولا مال له ثم فرض على قواد العساكر معرفة السير وأحكام الجهاد وقسم الغنائم والفيء ثم فرض على الأمراء والقضاة تعلم الأحكام والأقضية والحدود وليس تعلم ذلك فرضا على غيرهم ثم فرض على التجار وكل من يبيع غلته تعلم أحكام البيوع وما يحل منها وما يحرم وليس ذلك فرضا على من لا يبيع ولا يشتري ثم فرض على كل جماعة مجتمعة في قرية أو مدينة أو دسكرة وهي المجشرة عندنا أو حلة أعراب أو حصن أن ينتدب منهم لطلب جميع أحكام الديانة أولها عن آخرها ولتعلم القرآن كله ولكتاب كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث الأحكام أولها عن آخرها وضبطها بنصوص ألفاظها وضبط كل ما أجمع المسلمون عليه ما اختلفوا فيه من يقوم بتعليمهم وتفقيههم من القرآن والحديث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 والإجماع يكتفي بذلك على قدر قلتهم أو كثرتهم بالآية التي تلونا في أول هذا الكتاب بحسب ما يقدر أن يعمهم بالتعليم ولا يشق على المستفتي قصده فإذا انتدب لذلك من يقوم بما ذكرنا فقط سقط عن باقيهم إلا ما يلزمه خاصة نفسه فقط على ما ذكرنا آنفا ولا يحل للمفقه أن يقتصر على آراء الرجال دون ما ذكرنا فإن لم يجدوا في محلتهم من يفقههم في ذلك كله كما ذكرنا ففرض عليهم الرحيل إلى حيث يجدون العلماء المحتوين على صنوف العلم وإن بعدت ديارهم ولو أنهم بالصين لقوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} والنفار والرجوع لا يكون إلا برحيل ومن وجد في محلته من يفقهه في صنوف العلم كما ذكرنا فالأمة مجمعة على أنه لا يلزمه رحيل في ذلك إلا القصد إلى مسجد الفقيه أو منزله فقط كما كان الصحابة يفعلون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا القول في حفظ القرآن كله وتعليمه ففرض على كل مسلم حفظ أم القرآن وقرآن ما وفرض على جميع المسلمين أن يكون في كل قرية أو مدينة أو حصن من يحفظ القرآن كله ويعلمه الناس ويقرئه إياهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءاته فصح بكل ما ذكرنا أن النفار المذكور فرض على الجماعة كلها حتى يقوم بها بعضهم فيسقط عن الباقين وأما من قال إنه ليس فرضا على الجماعة لكنه فرض على بعضهم بغير أعيانهم فنكتفي من إبطال قوله بأنه يحمل خطاب الله تعالى واقعا على لا أحد لأنه إذا لم يعين تعالى من يخاطب ولا خاطب الجميع فلم يخاطب أحدا عز وجل عن ذلك وفي هذا سقوط الفرض عن كل من لم يخاطب فهو ساقط على كل أحد إذ كل أحد لم يخاطب وفي هذا بطلان الدين وبالله تعالى التوفيق فالناس في ذلك على مراتب فمن ارتفع فهمه عن فهمهم أغتام المجلوبين من بلاد العجم منذ قريب وعن فهم أغتام العامة فإنه لا يجزيه في ذلك ما يجزي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 من ذكرنا لكن يجتهد هذا على حسب ما يطيق في البحث عما نابه من نص الكتاب والسنة ودلائلهما ومن الإجماع ودلائله ويلزم هذا إذا سأل الفقيه فأفتاه أن يقول له من أين قلت هذا فيتعلم من ذلك مقدار ما انتهت إليه طاقته وبلغه فهمه وأما المنتصبون لطلب الفقه وهم النافرون للتفقه الحاملون لفرض النفار عن جماعتهم المتأهبون لنذارة قومهم ولتعلم المتعلم وفتيا المستفتي وربما للحكم بين الناس ففرض عليهم تقصي علوم الديانة على حسب طاقتهم ومن أحكام القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم ورتب النقل وصفات النقلة ومعرفة السند الصحيح مما عداه من مرسل ضعيف هذا فرضه اللازم له فإن زاد إلى ذلك معرفة الإجماع والاختلاف ومن أين قال كل قائل وكيف يرد أقاويل المختلفين المتنازعين إلى الكتاب والسنة فحسن وفرض عليه تعلم كيفية البراهين التي يتميز بها الحق من الباطل وكيف يعمل فيما ظاهره التعارض من النصوص وكل هذا منصوص في القرآن قال تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} فهذا إيجاب لتعلم أحكام القرآن وأحكام أوامر النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذين أصل الدين وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فوجب بذلك تعرف عدول النقلة من فساقهم وفقهائهم ممن لم يتفقه منهم وأما معرفة الإجماع والاختلاف فقد زعم أن هذا يجب بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال ففرض علينا معرفة ما اتفق عليه أولو الأمر منا لأننا مأمورون بطاعتهم ولا يمكننا طاعتهم إلا بعد معرفة إجماعهم الذي يلزمنا طاعتهم فيه وأما معرفة الاختلاف ومعرفة ما يتنازعون فيه ومعرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة فبقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ففرض علينا معرفة ما يتنازعون فيه ومعرفة كيف يرد ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 إلى الكتاب والسنة لأننا إن لم نعرف الاختلاف ظننا أن القول الذي نسمعه من بعض العلماء لا خلاف فيه فنتبعه دون أن نعرضه على القرآن والسنة فنخطىء ونعصي الله تعالى إذ أخذنا قولا نهينا عن اتباعه قال أبو محمد وهذا خطأ لأننا إنما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما أن يقولوا من عند أنفسهم بحكم لا نص فيه فما جاز هذا قط لأحد أن يفعله ولا حل لأحد قط أن يطيع من فعله وقد توعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على هذا أشد الوعيد فكيف على من دونه قال تعالى {ولو تقول علينا بعض لأقاويل * لأخذنا منه بليمين * ثم لقطعنا منه لوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين} فصح أن من قال في الدين بقول أضافه إلى الله تعالى فقد كذب وتقول على الله تعالى الأقاويل وأن من لم يضفه إلى الله تعالى فليس من الدين أصلا لكن معرفة الاختلاف علم زائد قال سعيد بن جبير أعلم الناس أعلمهم بالاختلاف وصدق سعيد لأنه علم زائد وكذلك معرفة من أين قال كل قائل فأما معرفة كيفية إقامة البرهان فبقوله تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} فلم نقل شيئا إلا ما قاله ربنا عز وجل وأوجبه علينا والحمد لله رب العالمين وإنما نحن منبهون على ما أمرنا الله تعالى وموقفون على مواضع الأوامر التي مر عليها من يمر غافلا أو معرضا ومنذرون قومنا فيما تفقهنا فيه ونفرنا لتعلمه بمن الله عز وجل علينا كما أمرنا تعالى إذ يقول {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} ولا نقول من عند أنفسنا شيئا ونعوذ بالله من ذلك ولم يبح الله تعالى ذلك لأحد لا قديما ولا حديثا وبالله تعالى نتأيد وقال تعالى {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن لله على كل شيء قدير} ففرض علينا معرفة الناسخ من المنسوخ وفرض على من قصد التفقه في الدين كما ذكرنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 أن يستعين على ذلك من سائر العلوم بما تقتضيه حاجته إليه في فهم كلام ربه تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} ففرض على الفقيه أن يكون عالما بلسان العرب ليفهم عن الله عز وجل وعن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون عالما بالنحو الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن وبه يفهم معاني الكلام التي يعبر عنها باختلاف الحركات وبناء الألفاظ فمن جهل اللغة وهي الألفاظ الواقعة على المسميات وجهل النحو الذي هو علم اختلاف الحركات الواقعة لاختلاف المعاني فلم يعرف اللسان الذي به خاطبنا الله تعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم ومن لم يعرف ذلك اللسان لم يحل له الفتيا فيه لأنه يفتي بما لا يدري وقد نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وبقوله تعالى {ومن لناس من يجادل في لله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد} وبقوله تعالى {هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} وبقوله تعالى {هأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} وقال تعالى {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند لله عظيم} وفرض على الفقيه أن يكون عالما بسير النبي صلى الله عليه وسلم ليعلم آخر أوامره وأولها وحربه صلى الله عليه وسلم لمن حارب وسلمه لمن سالم وليعرف على ماذا حارب ولماذا وضع الحرب وحرم الدم بعد تحليله وأحكامه صلى الله عليه وسلم التي حكم بها فمن كانت هذه صفته وكان ورعا في فتياه مشفقا على دينه صليبا في الحق حلت له الفتيا وإلا فحرام عليه أن يفتي بين اثنين أو أن يحكم بين اثنين وحرام على الإمام أن يقلده حكما أو يتيح له فتيا وحرام على الناس أن يستفتوه لأنه إن لم يكن عالما بما ذكرنا فلم يتفقه في الدين وإن لم يكن مشفقا على دينه فهو فاسق وإن لم يكن صليبا لم يأمر بمعروف ولا نهى عن منكر والأمر بالمعروف والنهي عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 المنكر فرضان على الناس قال تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى لخير ويأمرون بلمعروف وينهون عن لمنكر وأولئك هم لمفلحون} وهذا متوجه إلى العلماء بالمعروف وبالمنكر لأنه لا يجوز أن يدعو إلى الخير إلا من علمه ولا يمكن أن يأمر بالمعروف إلا من عرفه ولا يقدر على إنكار المنكر إلا من يميزه فإن كان مع ما ذكرنا قويا على إنفاذ الأمور حسن السياسة حل له القضاء والإمارة وإلا فلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يا أبا ذر إني أحب إليك ما أحب لنفسي إنك ضعيف فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وكان أبو ذر رضي الله عنه ممن له أن يفتي ولم يكن ممن له أن يقضي لأنه لم يكن له حسن التأتي في تناول ما يريد بل كانت فيه عجرفة ومهاجمة ربما صار بها منذرا وقد أمر صلى الله عليه وسلم معاذا وأبا موسى إذ بعثهما قاضيين على اليمن ومعلمين للدين وأميرين بأن ييسرا ولا ينفرا هذا على عظيم فضل أبي ذر وكريم سوابقه في الإسلام وزهده وورعه ورفضه للدنيا وثباته على ما فارق عليه نبيه صلى الله عليه وسلم وصدعه بالحق وأنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم وتقدمه على أكثر الصحابة فحد الفقه هو المعرفة بأحكام الشريعة من القرآن ومن كلام المرسل بها الذي لا تؤخذ إلا عنه وتفسير هذا الحد كما ذكرنا المعرفة بأحكام القرآن وناسخها ومنسوخها والمعرفة بأحكام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسخه ومنسوخه وما صح نقله مما لو يصح ومعرفة ما أجمع العلماء عليه وما اختلفوا فيه وكيف يرد الاختلاف إلى القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا تفسير العلم بأحكام الشريعة وكل من علم مسألة واحدة من دينه على الرتبة التي ذكرنا أجاز له أن يفتي بها وليس جهله بما جهل بمانع من أن يفتي بما علم ولا علمه بما علم بمبيح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 له أن يفتي فيما جهل وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد غاب عنه من العلم كثير هو موجود عند غيره فلو لم يفت إلا من أحاط بجميع العلم لما حل لأحد من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفتي أصلا وهذا لا يقوله مسلم وهو إبطال للدين وكفر من قائله وفي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم الأمراء إلى البلاد ليعلموا الناس القرآن وحكم الدين ولم يكن أحد منهم يستوعب جميع ذلك لأنه قد كان تنزل بعدهم الآيات والأحكام بيان صحيح بأن العلماء وإن فاتهم كثير من العلم فإن لهم أن يفتوا ويقضوا بما عرفوا وهذا الباب أيضا بيان جلي على أن من علم شيئا من الدين علما صحيحا فله أن يفتي به وعليه أن يطلب علم ما جهل مما سوى ذلك ومن علم أن في المسألة التي نزلت حديثا قد فاته لم يحل له أن يفتي في ذلك حتى يقع على ذلك الحديث ومن لم يعلم الأحكام على الصفة التي ذكرنا قبل لكن إنما أخذ المسائل تقليدا فإنه لا يحل لمسلم أن يستفتيه ولا يحل له أن يفتي بين اثنين ولا يحل للإمام أن يوليه قضاء ولا حكما أصلا ولا يحل له إن قلد ذلك أن يحكم بين اثنين وليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو يخطىء ويصيب فليس خطأه بمانع من قبول صوابه وبالله تعالى التوفيق فلا يوجد مفت في الديانة وفي الطب أبدا إلا أحد ثلاثة أناسي إما عالم يفتي بما بلغه من النصوص بعد البحث والتقصي كما يلزمه فهذا مأجور أخطأ وأصاب وواجب عليه أن يفتي بما علم وإما فاسق يفتي بما يتفق له مستديما لرياسة أو لكسب مال وهو يدري أنه يفتي بغير واجب وإما جاهل ضعيف العقل ويفتي بغير يقين علم وهو يظن أنه مصيب ولم يبحث حق البحث ولو كان عاقلا لعرف أنه جاهل فلم يتعرض لما لا يحسن حدثني أبو الزناد سراج بن سراج وخلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 بن عثمان البحام وأبو عثمان سعيد بن محمد الضراب كلهم يقولون سمعت عبد الله بن إبراهيم الأصيلي يقول قال لي الأبهري أبو بكر محمد بن صالح كيف صفة الفقيه عندكم بالأندلس فقلت له يقرأ المدونة وربما المستخرجة فإذا حفظ مسائلهما أفتى فقال لي هذا ما هو فقلت له نعم فقال لي أجمعت الأمة على أن من هذه صفته لا يحل له أن يفتي قال أبو محمد علي بن أحمد وحدثني أبو مروان عبد الملك بن أحمد المرواني قال سمعت أحمد بن عبد الملك الإشبيلي المعروف بابن المكري ونحن مقبلون من جنازة من الربض بعدوة نهر قرطبة وقد سأله سائل فقال له ما المقدار الذي بلغه المرء حل له أن يفتي ثم أخبرني أحمد بن الليث الأنسري أنه حمل إليه وإلى القاضي أبي بكر يحيى بن عبد الرحمن بن واقد كتاب الاختلاف الأوسط لابن المنذر فلما طالعاه قالا له هذا كتاب من لم يكن عنده في بيته لم يشم رائحة العلم قال وزادني ابن واقد أن قال ونحن ليس في بيوتنا فلم نشم رائحة العلم قال أبو محمد لم نأت بما ذكرنا احتجاجا لقولنا ولكن إلزاما لهم ما يلتزمونه فإن قول أكابر أهل بلادنا عندهم أثبت من العيان وأولى بالطاعة مما رووا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى نعوذ من الخذلان قد بينا صفة الطلب والمفتي والاجتهاد الذي نأمر به ونصوب من فعله وهو طلب الحكم في المسألة من نص القرآن وصحيح الحديث وطلب الناسخ من المنسوخ وبناء الحديث بعضه مع بعض ومع القرآن وبناء الآي بعضها مع بعض على ما بينا فيما سلف من كتابنا هذا ليس عليه غير هذا البتة وإن طالع أقوال الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم عصرا عصرا ففرض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 عليه أن ينظر من أقوال العلماء كلها نظرا واحدا ويحكم فيها القرآن والسنة فلأيها حكم اعتقده وأفتى به واطرح سائرها وإن لم يجد شيئا مما بلغه منها بل عليه أن يأخذ بالنص وإن لم يبلغه أن قائلا قال به لما قد بيناه في كلامنا في الإجماع من امتناع الإحاطة بأقوال العلماء السالفين ومن قيام البرهان على أنه لا يخلو عصر من قائل الحق فهذا هو الاجتهاد الصحيح الذي يؤجر من فعله على كل حال فإن وافق الحق عند الله عز وجل أجر أجرا ثانيا على الإصابة فحصل له أجران وإن لم يوافق لإدراك الحق لم يأثم وقد حصل له أجر الطلب للحق وإرادته كما قال الشاعر وما كل موصوف له الحق يهتدي ولا كل من أم الصوى يستبينها وكل ما سمي اجتهادا من غير ما ذكرنا فهو باطل وإفك وزين بأن سمي اجتهادا كما سمي اللديغ سليما والمهلكة مفازة والأسود السخامي أبا البيضاء والأعمى بصيرا وكما سمى قوم المسكر نبيذا وطلاء وهو الخمر بعينها ويبين ما قلنا قوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران أو كما قال صلى الله عليه وسلم واعتراضها ههنا أمر نحتاج إلى تفسيره لغلط أكثر الناس فيه وهو إيقاع اسم الحفظ واسم العلم واسم الفقه على كل ما يستحق شيئا من هذه الأسماء لأنها أسماء واقعة على صفات متغايرة فوجب بيانها فنفسر ذلك في علم الشريعة التي عرضنا في ديواننا هذا الكلام فيها وبالله تعالى التوفيق وبه عز وجل نتأيد لا إله إلا هو فنقول وبالله تعالى نستعين الحفظ اسم واقع على وصفه المرء وهي ذكره لأكثر سواد ما صنف وجمع وذكر في علمه وغرضه الذي قصد كحافظ سواد القرآن وحافظ سواد الحديث ونصوصه أو حافظ نصوص مسائل مذهبه الذي يقصد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 وينتحل فهذا معنى الحفظ وأما اسم العلم فهو واقع على صفة في المرء وهو اتساعه على الإشراف على أحكام القرآن وروى الحديث صحيحه وسقيمه فقط فإن أضاف إلى ذلك الوقوف على أقوال الناس كان ذلك حسنا كلما اتسع باع المرء في هذه المعاني زاد استحقاقه لاسم العلم وهكذا في كل علم من العلوم ويكون مع ذلك ذاكرا لأكثر ما عنده وليس هذا حقيقة معنى لفظة العلم في اللغة لكنه معناه في قولهم فلان عالم وفلان أعلم من فلان وأما تفسير لفظة العلم في اللغة فقد فسرناه في كتابنا هذا وفي كتابنا الموسوم بالفصل وأما اسم الفقه فهو واقع على صفة في المرء وهي فهمه لما عنده وتنبهه على حقيقة معاني ألفاظ القرآن والحديث ووقوفه عليها وحضور كل ذلك في ذكره متى أراده ويزيد القياسيون علينا ههنا زيادة وهي معرفته بالنظائر في الأحكام والمسائل وتمييزه لها فهذه معاني الأسماء المذكورة في قولهم فلان حافظ وفلان عالم وفلان فقيه فإن قال قائل أيجوز الاجتهاد بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فالجواب أنه فيما لم يؤمروا به ولا نهوا عنه ولكنه مباح لهم جائز كاجتهادهم فيما يجعلونه علما للدعاء إلى الصلاة ولم يكن ذلك على إيجاب شريعة تلزم وإنما كان إنذارا من بعضهم لبعض كقول أحدنا لجاره إذا نهض للصلاة قم بنا إلى الصلاة حتى إذا نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم بما وافق رؤيا عبد الله بن زيد الأنصاري أبطل كل ما كانوا تراضوا به وقد اجتهد قوم بحضرته صلى الله عليه وسلم فيمن هم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر فأخطؤوا في ذلك حتى بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم من هم ولم يعنفهم في اجتهادهم وقد أخطؤوا فيه ولكن بين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 صلى الله عليه وسلم أنهم لم يصيبوا وأن الحق في خلاف ما قالوا كلهم فإنما يجوز الاجتهاد في تأويل مثل هذا وفيما يعرف به بعضهم بعضا بحضور الصلاة وما أشبه ذلك وأما في إيجاب فرض أو تحريم شيء أو ضرب حد فحرام أن يجوز فيه لأحد اجتهاد برأيه فقط أو قول بوجه من الوجوه لأنهم كانوا يكونون بذلك شارعين ما لم يأذن به الله ومفترين على الله تعالى وقد نزههم الله تعالى عن ذلك وكل ما جاز لهم رضوان الله عليهم أن يجتهدوا فيه فهو جائز لنا ولكل إلى يوم القيامة وما حرم علينا من ذلك وغيره فقد كان حراما عليهم ولا فرق وقد أفتى أبو السنابل باجتهاده في المتوفى عنها زوجها وهي حامل فأخذ بآية الأربعة أشهر وعشرا فأخطأ وهو مجتهد فله أجر واحد لأنه لم يصب حكم الله تعالى وأما حديث معاذ فيما روي من قوله أجتهد رأيي وحديث عبد الله بن عمر وفي قوله أجتهد بحضرتك يا رسول الله فحديثان ساقطان أما حديث معاذ فإنما روي عن رجال من أهل حمص لم يسموا وحديث عبد الله منقطع أيضا لا يتصل فإن قال قائل أيجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن من ظن أن الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها فهو كفر عظيم ويكفي من إبطال ذلك أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} وقوله {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وقوله تعالى {ولو تقول علينا بعض لأقاويل * لأخذنا منه بليمين * ثم لقطعنا منه لوتين} وأنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل عن الشيء فينتظر الوحي ويقول ما أنزل علي في هذا شيء ذلك في حديث في زكاة الحمير وميراث البنتين مع العم والزوجة وفي أحاديث جمة وإن كان السائل عن هذا يعني أيجوز عليه الاجتهاد في قبول شاهدين لعلهما مغفلان فهذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 جائز والحكم بيمين لعلها كاذبة فهذا جائز لأنه صلى الله عليه وسلم بهذا أمر نصا وهو صلى الله عليه وسلم لم يؤت علم الغيب في كل موضوع وإنما أمر بقبول الشاهدين العدلين عنده من المسلمين أو العدل كذلك مع يمين الطالب أو المرأة الواحدة في الرضاع أو الكافرين في الوصية في السفر أو الواحد على رؤية الهلال أو الأربعة العدول في الزنى أو المرأتين مكان الرجل أو يمين المدعى عليه إن مبطلا وإن محقا ما لم يعلم هو ببطلان الشهادة أو قوله ويسلط الله من يشاء على ظلم من يشاء حتى ينصف كل مظلوم يوم الحشر و {ووضع لكتاب فترى لمجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يويلتنا ما لهذا لكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} ولا مثقال ذرة إلا جازى عليها إلا ما أسقط من ذلك بالتوبة أو باجتناب الكبائر وهذا الذي قلنا هو نص جلي وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار وبقوله عليه السلام من حلف على منبري هذا بيمين كاذبة حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار وبقوله عليه السلام إذا قال له الحضرمي في خصمه يا رسول الله إنه فاجر لا يرع عن شيء وكان عليه السلام قد أوجب عليه اليمين فقال صلى الله عليه وسلم للحضرمي ليس لك إلا ذلك وإذ قال له أصحابه حين قتل عبد الله بن سهل يا رسول الله أتقبل أيمان يهودي فلم يجعل لهم صلى الله عليه وسلم غير ذلك وبقوله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين إن أحدكما كاذب فهل منكم تائب فبين عليه السلام أنه إنما يفعل ما أمره به ربه تعالى ولم يكلف قط أن يعطي الحق صاحبه بيقين ولا أن يعلم عيب الشهود ولا كلفنا نحن شيئا من ذلك أيضا وإنما أمر أن يقضي بالبينة العدلة عنده ولا يقدر على أكثر من أن يحكم بالعدالة الظاهرة إليه وبظاهر العلم عنده وكما أمر بقبول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 اليمين من المنكر وهما شيئان متغايران أحدهما بما شهدت به البينة وألا يقضي على من حلف في قضية ألزم فيها اليمين فهذا هو الذي ألزم النبي صلى الله عليه وسلم وألزمنا نحن بعده صلى الله عليه وسلم والثاني أن يمكن صاحب الحق في علم الله تعالى من حقه وهذا لا سبيل إلى علمه في كل موضع فإن حرمنا هذا وحرمنا وفاق العدل عند الله عز وجل فلا إثم ولا حرج لأنه لا سبيل إلى علم ذلك بيقين ولا كلفناه وهذا لا يسمى اجتهادا على الإطلاق ولكنه يقين اتباع ما أمر به عليه السلام من الحكم بالعدول على حسب ما يطيق على معرفته وهو الظاهر وبقبول يمين المنكر ولا سبيل إلى اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في شرع الشرائع والأوامر عنده واردة متيقنة ولا إشكال فيها يعمل خاصها من عامها وناسخها من منسوخها ومستثناها من المستثنى منه علم يقين ومشاهدة في جميع ما أنزل عليه وأما الاجتهاد الذي كلفناه نحن فهو طلب هذه المعاني ولم نشاهدها كلها فنعلمها لكن نقبلها من الثقات الذين أمرنا الله تعالى بقبول نذارتهم إلى أن يبلغونا إلى الذين شهدوها وهم ونحن لا نعلم كل ذلك علم يقين فإن اعترض معترض بفعله عليه السلام في أخذ الفداء فنزل من عتابه على ذلك ما نزل فالجواب أننا لا ننكر أن يفعل عليه السلام ما لم يتقدم نهي من ربه تعالى له عنه إلا أنه لا يترك وذلك ولا بد من أن ينبه عليه وأما الوهم من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقصد بذلك فعل الخير فلسنا ننكره إلا أنه لا يقر عليه البتة وهذا لا يجوز أن يكون في شرع شريعة ولا إيجاب فرض ولا تحريم وإنما هو فيما قدره مباحا له إذ لم ينه عنه قبل ذلك لكن كفعله بابن أم مكتوم إذ نزلت {عبس وتولى} وقد احتج بعضهم ممن أجاز الاجتهاد بالرأي في الدين بأمر سليمان وداود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 عليهم السلام {وداوود وسليمان إذ يحكمان في لحرث إذ نفشت فيه غنم لقوم وكنا لحكمهم شاهدين} قال أبو محمد وهذه مسألة اختلف الناس فيها على وجوه فقوم قالوا نسخ الله حكم داود بحكم سليمان عليهما السلام قال أبو محمد وهذا باطل لأنه لو كان كذلك لكان داود مفهما لها لأنه كان يكون حاكما بأمر أمر به قبل أن ينسخ ولما كان سليمان أولى بالإفهام منه وقال بعضهم حكم بدليل منصوب لم يوافق فيه الحقيقة وحكم سليمان فوافق الحقيقة قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إن داود عليه السلام حكم بظاهر الأمر مثل ما لو حكمنا نحن بشهادة شاهدين عدلين عندنا وهما في علم الله عز وجل المغيب عنا مغفلان فأطلع الله تعالى على غيب تلك المسألة سليمان عليه السلام فأوحى إليه بيقين من هو صاحب الحق فيها بخلاف شهادة الشهود أو نحو ذلك مما أفهم الله تعالى سليمان فيه بيقين عين صاحب الحق فهذا وجه تلك الآية الذي لا يجوز خلافه لبطلان كل تأويل غيره ولقوله تعالى في الآية نفسها {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود لجبال يسبحن ولطير وكنا فاعلين} فصح أن داود بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى في تلك المسألة وأن سليمان عليهما جميعا السلام حكم فيها بالحكم والعلم الذي آتاه الله تعالى فيها بالفهم الزائد لحقيقتها وأما ادعاء المرأتين في الولد ودعاء سليمان عليه السلام بالسكين ليشقه بينهما فإن سليمان عليه السلام إنما أراد اختبار صبرهما ولم يهم قط بشق الصبي وإنما دعا بالسكين موهما لهما بذلك وقد يكون الله تعالى أمره بذلك كما أمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسماعيل عليه السلام ولم يرد قط تعالى ذبحه وإنما أراد اختبار صبر إبراهيم عليه السلام واختبار صبر المرأتين فقط ثم نهاه عن شقه إذ لاح أيتهما أمه كما نهى إبراهيم عن ذبح إسماعيل فهذا أيضا وجه ظاهر حسن والله أعلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 وأما أمر موسى والخضر عليهما السلام فإن الخضر نبي موحى إليه ولم يفعل شيئا من كل ما فعل باجتهاد كما يظن من لا عقل له وإنما فعل كل ذلك بوحي أوحاه الله إليه وبيان ذلك نص الله تعالى بأن حكى عنه أنه قال لموسى {وأما لجدار فكان لغلامين يتيمين في لمدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغآ أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} وأما سؤال موسى عليه السلام له عن ذلك فإنما فعله ناسيا لعهده ولسنا ننكر أن تنسى الأنبياء عليهم السلام وقد صلى نبينا صلى الله عليه وسلم خامسة ناسيا وسلم من ثلاث ومن اثنين ناسيا وهذا الذي قلنا هو نص القرآن في قوله تعالى حاكيا عن موسى أنه قال للخضر {قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا} قال أبو محمد فإن احتجوا بما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي عن عمر بن عبد الملك الخولاني عن محمد بن بكر البصري عن سليمان بن الأشعث نا إبراهيم بن موسى ثنا عيسى نا أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه فهذا حديث ساقط مكذوب لأن أسامة بن زيد هذا ضعيف لا يحتج بحديثه متفق على أنه كذلك ويبين كذبه ما ذكرنا في أول هذا الباب من الأحاديث التي فيها تركه عليه السلام الحكم فيما لم ينزل عليه فيه شيء وانتظاره الموحى في كل ذلك ويكفي من ذلك قول الله تعالى آمرا له أن يقول {قل لا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي لأعمى ولبصير أفلا تتفكرون} وقوله تعالى {وما ينطق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} وأمر الله تعالى له أن يقول {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} فلو أنه صلى الله عليه وسلم شرع شيئا لم يوح إليه به لكان مبدلا للدين من تلقاء نفسه وكل من أجاز هذا فقد كفر وخرج عن الإسلام وبالله تعالى نعوذ من الخذلان فإن احتج فيها معترض بقوله تعالى {إنآ أنزلنا إليك لكتاب بلحق لتحكم بين لناس بمآ أراك لله ولا تكن للخآئنين خصيما} فإن الذي أراه الله تعالى هو الذكر والوحي بنص الآية لأن أولها {إنآ أنزلنا إليك لكتاب بلحق لتحكم بين لناس بمآ أراك لله ولا تكن للخآئنين خصيما} وقال تعالى {وإن كادوا ليفتنونك عن لذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا} ثم توعده على ذلك فقال {إذا لأذقناك ضعف لحياة وضعف لممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا} فبين تعالى أنه عليه السلام لو أوجب شيئا في الدين بغير وحي لكان مفتريا على ربه تعالى وقد عصمه الله عز وجل من ذلك وكفر من أجازه عليه فصح أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا إلا بوحي فسقط الاجتهاد الذي يدعيه أهل الرأي أو القياس جملة وقال تعالى {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} فصح بهذه الآية أن كل نبي كان قبله فهكذا كانوا أيضا إنما اتبع كل نبي شرعته التي أوحي إليه بها فقط وأما أمور الدنيا ومكايد الحروب ما لم يتقدم نهي عن شيء من ذلك وأباح صلى الله عليه وسلم تعالى له التصرف فيه كيف شاء فلسنا ننكر أن يدبر عليه السلام كل ذلك على حسب ما يراه صلاحا فإن شاء الله تعالى إقراره عليه أقره وإن شاء إحداث منع له من ذلك في المستأنف منع إلا أن كل ذلك مما تقدم الوحي إليه بإباحته إياه ولا بد وأما في التحريم والإيجاب فلا سبيل إلى ذلك البتة وذلك مثل ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان على ثلث ثمار المدينة فهذا مباح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 لأن لهم أن يهبوا من أموالهم ما أحبوا ما لم ينهوا على ذلك ولهم أن يمنعوه ما لم يؤمروا بإعطائه وكذلك منازله صلى الله عليه وسلم في حروبه له أن ينزل من الأرض حيث شاء ما لم ينه عن مكان بعينه أو يؤمر بمكان بعينه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في تلقيح ثمار أهل المدينة لأنه مباح للمرء أن يلقح نخله ويذكر تينه ومباح أن يترك فلا يفعل شيئا من ذلك وقد أخبرني محمد بن عبد الله الهمداني عن أبيه أنه ترك تينه سنين دون تذكير فاستغنى عن التذكير فلعل النخل كذلك لو توبع عليه ترك التلقيح سنة بعد سنة لاستغنى عن ذلك وهذا كله ليس من أمور الدين الواجبة والمحرمة في شيء إنما هي أشياء مباحة من أمور المعاش من شاء فعل ومن شاء ترك وإنما الاجتهاد الممنوع منه ما كان في التحريم والإيجاب فقط بغير نص وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التلقيح على قولنا وقال صلى الله عليه وسلم أنتم أعلم بأمور دنياكم وقد حدثنا بهذا الحديث عبد الله بن يوسف بن ناهي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد وكلاهما عن أسود بن عامر ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت وهشام عن أبيه عن عائشة وثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون النخل فقال لو لم تفعلوا لصلح قال فخرج شيصا فمر بهم فقال ما لنخلكم فقالوا قلت كذا وكذا قال أنتم أعلم بأمور دنياكم قال أبو محمد فهذا بيان جلي مع صحة سنده في الفرق بين الرأي في أمر الدنيا والدين وأنه صلى الله عليه وسلم لا يقول الدين إلا من عند الله تعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 وأن سائر ما يقول فيه برأيه ممكن فيه أن يشار عليه بغيره فيأخذ عليه السلام به لأن كل ذلك مباح مطلق له وإننا أبصر منه بأمور الدنيا التي لا خير معها إلا في الأقل وهو أعلم منا بأمر الله تعالى وبأمر الدين المؤدي إلى الخير الحقيقي وهذا نص قولنا وبالله تعالى التوفيق وفي هذا كفاية والحمد رب العالمين ومن ذلك ما قال أبو بكر يوم الحديبية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال له بعض من حضر أرى أن نميل على عيال هؤلاء فقال أبو بكر نرى أن نمضي لوجهنا فهذا كله مباح للإمام أن يغزو وله أن يؤخر الغزو ويومه ذلك وشهره ذلك ويغزو بعد ذلك فاعلم الآن أن الاجتهاد إنما هو طلب الحقيقة من الوجوه المؤدية إليها لا من حيث لا يؤدي إليها والطلب كما ذكرنا هو الاستدلال فالاستدلال والاجتهاد شيء واحد وقد يستدل من لا يقع على حقيقة الدليل وكون الشيء في نفسه حقا هو شيء آخر لأنه قد يكون الشيء حقا ولا يوافق له طالبه ولا يضر ذلك الحق كما أن في منازلنا أشياء لا يعلمها غيرنا من الناس وليس جهل من جهلها أو ظن فيها غير ما فيها مما يحيل الحق عن وجهه كما لا نريده علم من علمه درجة في أنه حق والحق المعلوم والحق المجهول سواء في أنهما حق واقعان تحت جنس الحق وكل شيئين وقعا تحت نوع واحد أو تحت جنس واحد فإنهما متساويان في ذلك النوع وذلك الجنس مساواة صحيحة نعني فيما أوجبه لهما تلك الجنسية أو تلك النوعية وكل من بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر فقد لزمه البحث عنه فإن لم يفعل فقد عصى الله تعالى وكل من قامت عليه حجة من أصول صححها وأقر بأنها حق فلاحت له وفهمها ثم لم يرجع إلى موجبها لتقليد أو لأنه ظن أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 ههنا حجة أخرى لا يعلمها فهو فاسق وذلك نحو من أقر بخبر الواحد فأتاه حديث صحيح مسند فتركه لقياس أو لهوى أو تقليدا لمالك أو للشافعي أو لأبي حنيفة أو لأحمد أو لداود أو لصاحب من الصحابة أو تابع أو فقيه قديم أو حديث معتقدا أن ذلك الفقيه أو الصاحب كان عنده فضل علم جهله هو أو أن النص الذي قاس عليه أحق أن يتبع فهو فاسق ساقط العدالة عاص لله عز وجل وأما من تعلق بحديث آخر معارض للحديث الذي بلغه فما دام لا يحقق أصلا في بناء الأحاديث بعضها على بعض فهو مأجور على اجتهاده وإن كان مخطئا ولا إثم عليه في خطئه وهكذا القول في الآي وفي الأحاديث والآي ولا فرق وأما من ذكرنا قبل فبخلاف ذلك لأنه ترك الحق وهو يعلمه فدخل فيمن شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى وأما إذا حقق أصلا في بناء الأحاديث أو الآي أو الأحاديث مع الآي فالتزمه ثم لم يعتقد موجبه فهو فاسق كما قدمنا للآية التي قال تعالى فيها {ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا} وهذا الذي فعل ما ذكرنا فقد ترك ما أقر بلسانه أنه هدى وأنه أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام وصار فيمن شهد على نفسه وكذلك من أبى قبول خبر الواحد أو أبى قبول وجه العمل في البناء الصحيح في النصوص فأقيمت الحجة عليه في ذلك كله من براهين راجعة إلى النصوص وفهمها ولاحت له فلم يرجع إلى الحق في ذلك وإنما يعذر من لم تقم عليه حجة بجهله فقط وكذلك من قامت عليه البراهين في إبطال القياس فتمادى عليه وأما من أجاز أن يكون صاحب فمن دونه ينسخ أمرا أمر به رسول الله صلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 الله عليه وسلم أو يحدث شريعة فهذا كافر مشرك حلال الدم والمال بمنزلة اليهود والنصارى وعليه لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين ونحن برآء منه وهو بريء منا فإن لم تقم عليه الحجة فهو مخطىء مأجور مرة لقصده إلى الخير وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب الثاني والثلاثون في وجوب النيات في جميع الأعمال والفرق بين الخطأ الذي تعمد فعله ولم يقصد به خلاف ما أمر وبين الخطأ الذي لم يتعمد فعله وبين العمل المصحوب بالقصد إليه وحيث يلحق عمل المرء غيره بأجر أو إثم وحيث لا يلحق قال أبو محمد قال الله عز وجل {ومآ أمروا إلا ليعبدوا لله مخلصين له لدين حنفآء ويقيموا لصلاة ويؤتوا لزكاة وذلك دين لقيمة} وقال تعالى {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين لناس ومن يفعل ذلك بتغآء مرضات لله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} وقال {ولا أقول لكم عندي خزآئن لله ولا أعلم لغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم لله خيرا لله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن لظالمين} وقال تعالى {لقد رضي لله عن لمؤمنين إذ يبايعونك تحت لشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل لسكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} وقال تعالى {أفلم يسيروا في لأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى لأبصار ولكن تعمى لقلوب لتي في لصدور} وقال تعالى {إذا جآءك لمنافقون قالوا نشهد إنك لرسول لله ولله يعلم إنك لرسوله ولله يشهد إن لمنافقين لكاذبون} حدثنا حمام بن أحمد حدثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا أبو زيد المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو نعيم ثنا زكريا عن عامر هو الشعبي سمعت النعمان بن بشير سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فذكر الحديث وفيه ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا عبد الله بن مسلمة بن قعنب نا داود يعني ابن قيس عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث وفيه التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات حدثنا القاضي حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي ثنا أبو زيد المروزي نا محمد ابن يوسف الفربري نا محمد بن إسماعيل البخاري نا الحميدي نا سفيان نا يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخبرني محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا عمرو الناقد نا كثير بن هشام نا جعفر بن برفان عن يزيد الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم قال أبو محمد فصح بكل ما ذكرنا أن النفس هي المأمورة بالأعمال وأن الجسد آلة لها فإن نوت النفس بالعمل الذي تصرف فيه الجسد وجها ما فليس لها غيره وصح أن الله تعالى لا يقبل إلا ما أمر به بالإخلاص له فكل عمل لم يقصد به الوجه الذي أمر الله تعالى به فليس ينوب عما أمر الله تعالى به فبطل قول من قال إن من توضأ تبردا أو تعليما أو تيمم بغير نية أو لم يأكل ولا شرب ولا وطأ بغير نية أو مشى في المناسك بغير نية إنه يجزيه عن الوضوء المأمور به للصلاة وعن التيمم المأمور به للصلاة وعن الصيام المأمور به أو المتطوع به لله عز وجل وعن الحج المأمور به أو المتطوع به لله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 عز وجل لأنه لم يخلص في كل ذلك لله عز وجل ولا فعله ابتغاء مرضاته تعالى ولا نوى به ما أمر به وقد أخبر الله تعالى على لسان نبيه عليه السلام أنه لا ينظر إلى الصور فإذا لم ينظر إلى الصور فقد بطل أن يجزي عمل الصورة المنفرد على عمل القلب الذي هو النية وصح أنه تعالى إنما ينظر إلى القلب وما قصد به فقط ولا بيان أكثر من تكذيب الله عز وجل لمنافقين في شهادتهم أن محمدا رسول الله وهذا عين الحق وعنصره الذي لا يتم حق إلا به فلما كانوا غير ناوين لذلك القول بقلوبهم صاروا كاذبين فيه وهذا بيان جلي في بطلان كل قول وعمل لم ينو بالقلب ونحن نحكي أقوال الكفار ونتلوها في القرآن ولكنا لم ننوها بقلوبنا لم يضرنا ذلك شيئا وصح بنص الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التقوى في القلب فكل عمل لم يقصده القلب فليس تقوى وكل عمل لم يقصد بالمضغة التي بها يصلح الجسد فهو باطل وإن عمله الجسد وفي هذا كفاية على أن القائلين بخلاف قولنا يتناقضون أقبح تناقض فمن مفرق بين التيمم والوضوء ومن مفرق في النية في الصوم بين أول النهار وآخره ومن مفرق في الحج بين الإحرام وبين سائر فرائضه كل ذلك استطالة في الدين بالآراء الفاسدة والأهواء المضلة بلا دليل من الله تعالى فإن قال قائل منهم إنما أمر الله تعالى بغسل أعضاء الوضوء فغاسلها وإن لم تكن له نية قد غسلها قيل له وبالله تعالى التوفيق ما أمر الله تعالى قط بغسلها مجردا عن النية بذلك للصلاة وبيان ذلك في الآيتين اللتين ذكرنا وفي الحديثين اللذين نصصنا وأيضا فإن الصلاة حركات من وقوف وانحناء ووضع رأس بالأرض فإن فعل ذلك إنسان متمددا ومتأملا شيئا بين يديه ومستريحا حتى أتم بذلك ركعتين في وقت صلاة الصبح لا ينوي بذلك صلاة الصبح أتروه يجزيه ذلك من صلاة الصبح المفترضة عليه وهذا ما لا يقولونه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 فقد حصلوا على التناقض فإن احتجوا في الصيام بما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على عائشة فيقول أعندكم طعام فإن قالت لا قال إني صائم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق لا حجة لكم في ذلك لأنه ليس فيه نص على أنه صلى الله عليه وسلم استأنف الصوم من حينئذ وجائز أن يكون صلى الله عليه وسلم سأل هل عندكم طعام وهو قد نوى الصيام فلو وجد طعاما أفطر عليه وترك الصوم كما روى من طريق عائشة أنها قربت إليه طعاما فأكل وقال صلى الله عليه وسلم إني كنت أصبحت صائما وهذا جائز لنا نحن أيضا وأما عمل بلا نية فلا سبيل إليه لما قدمنا قبل فإن قالوا فإنكم تجيزون غسل النجاسة بلا نية فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن كل نجاسة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزالتها بعمل موصوف وبعدد محدود فلا بد في إزالتها من النية ولا تجزى إلا بالقصد إليه تأدية العمل المأمور به فيها وإلا فلا وأما كل نجاسة أمرنا باجتنابها فقط دون أن يجد لنا فيها عمل أو عدد فكيف ما زالت فقد زالت وقد اجتنبناها وأيضا فإنه لولا الإجماع ما أجزنا ذلك ههنا وأيضا فإن لباس الثوب النجس حلال إلا في الصلاة وفرض الصلاة أن يصلي قاصدا بنيته إلى لباس وثياب طاهرة عنده لا نجاسة فيه فإذا صلى في ثوب هذه صفته ناويا لذلك فقد أدى فرضه كما أمر بالنية التي أمر بها وليس غسلها فرضا لا يجزي سواه بل لو قطعها أو انقطع موضعها من ثوبه أو لبس ثوبا آخر أجزأه فحسبنا أن يكون الثوب طاهرا لا نجاسة فيه ولا نبالي كيف زالت النجاسة عنه ولا فرق بين إجازة مالك النية للصوم لرمضان في أول ليلة منه ويجزي ذلك عنده من تحديد النية كل ليلة وبين إجازة أبي حنيفة إحداث النية لصيام كل يوم من رمضان قبل زوال الشمس وإن لم ينوه من الليل ولا فرق بين تقديم النية قبل وقت العمل وبين تأخيرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 عن وقت العمل وفي كلا الوجهين يحصل العمل المأمور به مؤدى بلا نية مصاحبة له ولا يجوز أن يؤدى عمل إلا بنية متقدمة يتصل بها ومعها الدخول فيه بلا مهلة ولا يعرى الابتداء به منها ولو أمكن ذلك في الصوم حتى تكون النية متصلة بطلوع الفجر لما أجزأ غير ذلك ولكن لما كان ذلك غير ممكن في كل وقت أجزأ ذلك على قدر الطاقة هذا مع الحديث الوارد في هذا المعنى من طريق حفصة لا صيام لمن لم يبيته من الليل وبالله تعالى التوفيق ولا بد لكل عمل من نية وكل شيء يتصرف فيه المرء فلا يخلو من أحد وجهين إما حركة وإما إمساك عن حركة وإنما يفرق بين الطاعة من هذين الوجهين وبين المعصية منهما وبين اللغو منهما النيات فقط ولا فرق بين الطاعة والمعصية واللغو في الحركات والإمساك عن الحركات إلا بالنيات فقط وإلا فكل واحد فهو إما واقع تحت جنس الحركة وإما واقع تحت جنس الإمساك عن الحركة فوجب بالضرورة أن لا يتم عمل ولا يصح أن يكون حركة أو إمساك متوجهين إلى الطاعة المأمور بها خارجين عن المعصية وعن اللغو إلا بنية هذا أمر لا محيد عنه أصلا إلا لجاهل لا معرفة له بحقائق الأمور فمن صلى بنية رياء ففاسق عاص ومن صلى بنية الطاعة التي أمر بها فمطيع فاضل ومن ركع وسجد وقام وقعد لا بنية رياء ولا بنية الطاعة فذلك لغو وليس مطيعا ولا عاصيا ومن توضأ بنية الرياء ففاسق عاص ومن توضأ بنية الطاعة كما أمر فمطيع فاضل ومن غسل أعضاءه تبردا بلا نية طاعة ولا بنية رياء فليس مطيعا ولا عاصيا وإذا لم يكن مطيعا فلم توضأ الوضوء الذي هو طاعة الله عز وجل مأمور به وكذلك الصوم والحج والجهاد والزكاة لأن الصوم إنما هو إمساك عن الأكل والشرب والوطء والقيء والكذب والغيبة ومباشرة من لا يحل للمرء مباشرته فإن أمسك عن كل ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 بنية الرياء فهو عاص لله عز وجل فاسق غير صائم وإن أمسك عن كل ذلك بنية الطاعة في تركه كما أمر فهو مطيع فاضل صائم وإن أمسك عن كل ذلك لا بنية الرياء ولا بنية الطاعة كما أمر فليس مطيعا ولا عاصيا وإذا لم يكن كذلك فليس صائما وإذا لم يمسك بنية الطاعة عن ذلك في صوم الفرض في الوقت الذي أمر فيه بالإمساك عن كل ما ذكرنا فهو عاص لأنه خالف ما أمر به وهكذا القول في رمي الجمار والوقوف بعرفة والمزدلفة والطواف والسعي وكذلك سائر الأشياء كلها فمن أكل الشعير مؤثرا بالبر المساكين ناويا للبر في ذلك ففاضل محمود ومن أكله لؤما وبخلا وخزن البر مستكثرا للمال فمذموم آثم ومن مشى راجلا وحمل متاعه بيده تواضعا لله تعالى لا بخلا ولا دناءة وتصاون عن الخسائس مع ذلك وتصدق ناويا بكل ذلك ما ذكرنا فهو فاضل محمود ومن فعل ذلك بخلا ودناءة فمذموم وإن فعل بنية رياء ففاسق ومن أنكح بنته عبده أو علجا كما فعل ضرار بن عمرو تواضعا ونيته التسوية بين المسلمين وهو مع ذلك عزيز النفس غير طمع ولا جشع ففاضل محمود عند أهل العقول رائض لنفسه الغضبية ومن فعل ذلك طمعا أو مهانة نفس فمذموم ساقط ومن لبس الوشي المرتفع الذي ليس حريرا بنية الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فمأجور فاضل ومن لبسه بنية التخنث والأشر والإعجاب ففاسق مذموم وهكذا جميع الأعمال أولها عن آخرها فصح أن لا عمل أصلا إلا بنية كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل أنتم تقولون فيمن أعتق في نفسه أمته أو عبده ونوى عتقهما وأمضاه نية صحيحة إلا أنه لم يلفظ بعتقهما أنهما لا يكونان بذلك حرين ولا يكون هو معتقا لا عند الله ولا في الحكم فإن العبد والأمة باقيان مملوكين له كما كانا وتقولون فيمن طلق في نفسه ونوى الطلاق إلا أنه لم يلفظ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 بلفظ من ألفاظ الطلاق إنه لا يكون مطلقا بذلك لا عند الله ولا في الحكم وإنما امرأته حلال له كما كانت حتى أنكم تقولون إنه إن لفظ بلفظ ليس من ألفاظ الطلاق ونوى به الطلاق إنه لا يلزمه بذلك طلاق وإنها امرأته كما كانت حلال له في الحكم والفتيا معا وتقولون إن من وهب نيته أو تصدق بنيته بشيء من ماله مسمى ولكنه لم يلفظ بلفظ من ألفاظ الهبة أو الصدقة إنه بذلك غير واهب ولا متصدق ولا يلزمه شيء لا في الفتيا ولا في القضاء وإن اعترف بذلك وأقر بأنه نواه ثم تقولون إن من نوى في حال صيامه أنه تارك للصوم عامدا بذلك ذاكرا لصومه إلا أنه لم يأكل ولم يشرب ولا وطىء ولا فعل فعلا ينقض الصوم فإن صومه قد بطل وأنه قد أفطر وتقولون فيمن نوى في حال صلاته إنه تارك الصلاة خارج عنها إلا أنه لم يفارق ما هو فيه من هيئتها أنه قد بطلت صلاته إذا تعمد ذلك وهو ذاكر أنه في صلاة وتقولون فيمن نوى في حال إعطائه زكاة ماله أنه ليس ذلك عن زكاته المفترضة عليه إنه كذلك غير مؤد فرض زكاته وأن عليه أداءها ثانية وتقولون فيمن نوى في حال تذكيته ما يذكي أنه عابث غير قاصد إلى التذكية المأمور بها إنها ميتة لا يحل أكلها وتقولون فيمن نوى في حال عمرته وحجه إنه رافض لهما وهو مع ذلك متماد في عملهما فإن حجه وعمرته قد بطلا وتقولون فيمن نوى في حال وضوئه وغسله إن بعض عمله لهما لا ينوي به أداء الغسل الوضوء المفترضين عليه إن ذلك الغسل والوضوء ناقصان لا بد من إعادة ما عمل بغير نية وتقولون فيمن أتم كل هذه الأعمال بنية لها فلما أتمها نوى بطلانها إنه لا يبطل شيء منها بذلك وأنها ماضية جازية جائزة فما الفرق بين ما جوزتموه وبين ما أبطلتموه من ذلك وهل كل ذلك إلا سواء وما الفرق بين استغناء النية في بعض هذه الوجوه عن مضامة العمل إليها وبين افتقارها إلى مضامة العمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 إليها في بعضها فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن جميع الأعمال المأمور بها هي مفتقرة إلى نية تصحبها كما قدمنا لما ذكرنا في أول هذا الباب من وجوب القصد إلى الله تعالى والإخلاص له بالعمل فمتى قصد المرء إلى إبطال تلك النية فقد بطل ذلك العمل إذ لم يأت به كما أمر من إصحاب النية إياه فلذلك بطل ما ذكرنا من الوضوء والغسل والصوم والحج لأنه ليس إلا صائم أو غير صائم أو مصل أو غير مصل ومتوضىء أو غير متوضىء وهكذا في الزكاة والحج وغير ذلك فإذا لم يكن صائما ولا مصليا ولا متوضئا كما أمر فهو غير صائم ولا متوضىء ولا مصل وهكذا سائر الأعمال وهكذا القول عندنا فيمن طلق أو عتق أو تصدق بغير نية إن كل ذلك لا يلزمه عند الله تعالى وإن كنا نقضي عليه بإمضائه لأنا لا نعلم نيته في ذلك ولو علمنا أنه بغير نية لما حكمنا عليه بشيء من ذلك أصلا فلو وصل قوله كله فقال عبدي حر بغير نية مني لعتقه أو قال ذلك في الطلاق والنكاح والصدقة والهبة لما أنفذنا عليه شيئا من ذلك أصلا وكل ما ذكرنا وما لم نذكر من سائر الأعمال فلا تجزىء فيه النية دون العمل ولا العمل دون النية ولا بد من اقترانهما معا لأنه مأمور من الله تعالى بهما معا فلا بد في الصلاة من حركات محدودة معمولة مع النية ولا بد في الوضوء من مثل ذلك أيضا ولا بد في الحج من مثل ذلك ولا بد في الصوم من إمساك عن كل ما أمر بالإمساك عنه مع النية أيضا ولا بد في العتق والطلاق والنكاح والهبة والصدقة من نطق ولفظ مع النية في كل ذلك لأنه لا يعلم شيء من ذلك إلا بالألفاظ المعبرة عنه وإن انفرد في كل ما ذكرنا عمل دون نية فهو باطل وإن انفرد نية فيه دون عمل فهي باطل أيضا فمن نوى أن يصلي أو يتوضأ أو يحج أو يصوم ولم يصل ولا توضأ ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 حج ولا صام فلا شيء له فلا يظن الظان أن قولنا اختلف في شيء مما ذكرنا بل هو كله باب واحد وهو أنه لا بد من عمل ونية لا حكم لأحدهما دون الآخر ومن خالفنا في هذا فإنه يتناقض فمرة يقول بقولنا في بعض المواضع ومنها الصلاة ومرة لا يقول بقولنا دون دليل لكن اتباعا للهوى والتقليد الذي لا يحل فإن قال فإنكم تقولون فيمن أفطر ناسيا غير ذاكر لصومه أو تكلم أو عمل أو أكل ناسيا في صلاته غير ذاكر أنه في صلاة أو قتل صيدا وهو محرم غير معتمد لقتله إنه لا شيء عليه في كل ذلك ثم تقولون من أحدث بشيء يخرج من مخرجيه من غائط أو بول أو ريح أو مذي أو ودي أو مني ناسيا أو نام مغلوبا فقد بطلت طهارته وتقولون إن من ذبح أو نحر أو تصيد فلم يسم الله تعالى ناسيا أو عامدا فكلاهما سواء لا يحل أكل شيء من ذلك فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الأصل الذي تجري عليه الفتيا أنه لا شيء على الناس لقوله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} فلا يخرج عن هذا النص إلا ما أخرجه نص أو إجماع فلهذا النص ولما أخبرنيه أبو العباس أحمد بن عمر العذري أنا الحسين بن عبد الله الجرجاني ثنا عبد الرزاق بن أحمد بن عبد الحميد الشيرازي أخبرتنا فاطمة بنت الحسن بن الريان المخزومي وراق القاضي أبي بكار بن قتيبة قالت ثنا الربيع بن سليمان المؤذن ثنا بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ففي هذا الحديث نص التسوية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 بين العمل المقصود نسيانا بغير نية وبين الخطأ الذي لم يقصد فلهذا ولنصوص أخر لم يبطل الصوم بفطر نسيان ولا بطلت الصلاة لعمل نسيان وهكذا كل نسيان إلا نسيانا استثناه من هذا النص نص آخر أو إجماع كما صح من الإجماع المتيقن المقطوع به في الأحداث المذكورة أنها تنقض الطهارة على كل حال بالنسيان والعمد وبالضرورة ندري أنه لم يزل الناس يحدثون في كل يوم من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلهم يوجب الوضوء من ذلك فصح أنه إجماع منقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك النوم لأنه لا يكون إلا بغلبة أبدا لا بقصد ولو قصد المرء دهره كله أن ينام لم يقدر إلا أن يغلبه النوم وأما سائر الأحداث التي لا إجماع فيها فإنها لا تنقض الطهارة عندنا إلا بالقصد والعمد لا بالنسيان كاللمس للنساء وكمس الفرج وأما الذكاة فإن النص ورد بألا نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه قال تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر سم لله عليه وإنه لفسق وإن لشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} وقال تعالى {يسألونك ماذآ أحل لهم قل أحل لكم لطيبات وما علمتم من لجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم لله فكلوا ممآ أمسكن عليكم وذكروا سم لله عليه وتقوا لله إن لله سريع لحساب} فلما كان ما ذكاه الناس للتسمية مما لم يذكر اسم الله عليه بلا شك كان مما نهينا عن أكله بالنص وأما الإثم فساقط عن الناسي جملة وقد رام قوم أن يتوصلوا إلى إباحة ما نسي ذكر اسم الله عليه بقوله عز وجل في الآية المذكورة {ولا تأكلوا مما لم يذكر سم لله عليه وإنه لفسق وإن لشياطين ليوحون إلى أوليآئهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} وقالوا الفسق لا يقع إلا على النسيان قال أبو محمد وهذا تمويه ضعيف لأننا لم نقل إن الله تعالى أوقع اسم الفسق على نسيان الناسي للتسمية وإنما قلنا ما في نص الآية إن ذلك الشيء المذبوح أو المنحور أو المتصيد الذي لم يسم الله تعالى عليه عمدا أو نسيانا هو نفسه المسمى فسقا كما سمى الله تعالى الخمر والميسر رجسا من عمل الشيطان فبطل تمويههم وكان الناس لذكر اسم الله تعالى على التذكية غير مذك وغير المذكى لا يحل أكله وكذلك من نسي أن يذكي ففك الرقبة وكذلك من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 نسي النية في مدخل صلاته ومدخل صومه ومدفع زكاته فهؤلاء كلهم غير مصل ولا صائم ولا مزك إلا أن الزكاة ليست مرتبطة بوقت محدود الطرفين فهي تقضى أبدا وقد جاء النص بوجوب قضاء الصلاة على الناسي وأما الصيام فهو مرتبط بوقت محدود الطرفين فلا سبيل إلى نقله إلا بنص آخر وكذلك المذكي إنما هو عمل في شيء بعينه لا يقدر على استرجاعه بعد موته فلما لم يسم الله عليه بنسيان أو عمد فهو ميتة لا يحل أكله والتسمية في اللغة لا تقع إلا على ما ذكرنا باللسان لا على ما استقر في القلب دون ذكر باللسان والعجب كل العجب ممن يرى على المفطر ناسيا القضاء ولا يعذره وقد جاء النص بأنه صائم تام الصوم ثم يرى أكل ما نسي ذكر اسم الله تعالى عليه من المذبوحات وغيرها ويعذر ههنا بالنسيان حيث عم النص بالمنع منه وهذا كما ترى وبالله تعالى التوفيق وكذلك من افتتح العمل الذي أمر به بنية قصد إليه كما أمر ثم نسي النية في درج ذلك العمل وكان العمل متصلا غير منقطع فهذا لا يبطل عمله بالنسيان للنص الذي ذكرنا فبطل بكل ما ذكرنا ما ظنه الظان من أن قولنا إن كون الفطر بنية الفطر عمدا في الصوم دون الأكل واقع أنه مخالف لقولنا إن العتق والطلاق بالنية دون النطق غير واقعين بل هو كله باب واحد وذلك أن الإمساك عما ينقض الصوم بغير نية قصد بذلك إلى أداء الصوم فاسد باطل وكذلك نية الصوم دون الإمساك عما ينقض الصوم عمدا باطل فاسد وكذلك العتق والطلاق دون نية لهما باطل وكذلك النية لهما دون إظهارهما بما لا يكونان إلا به فاسدة باطل ولاح أن الشك إنما وقع لمن وقع في هذا لاختلاف الأجوبة وبيان تحقيق رفع الإشكال في هذا الباب هو أن يسأل السائل فيقول ما تقولون فيمن طلق في نيته دون قول وفيمن أعتق في نيته دون قول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 وفيمن أفطر في نيته دون عمل يفسد به الصوم وفيمن نوى إبطال صلاته التي هو فيها بنيته دون عمل مضاد للصلاة أو نوى تبردا في خلال وضوئه ولم يحدث حدثا ينقض الوضوء وفعل كل ذلك عامدا ذاكرا لما هو فيه فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن نقول له كل من ذكرت لا عتق له ولا طلاق له ولا صوم له ولا وضوء له ولا صلاة له ومثل هذا الإيمان فإنه قول ونية فمن عدم النية ولفظ بالإيمان فهو إيمان له ومن عدم القول ونوى بالإيمان فلا إيمان له وإذا كان لا إيمان له فهو كافر لأنه ليس إلا مؤمن أو كافر وأما من أتم العمل الذي أمر به كما أمر به من عمل ونية ثم نوى بعد انقضائه نقضه وإبطاله لم يكن ذلك العمل منتقضا لأنه قد كمل وتأدى كما أمر الله تعالى وانقضى وقته فلا ينقضه نية مستأنفة وكذلك لا تصلح العمل الفاسد نية غير مضامة له إما متقدمة وإما متأخرة وقد أقمنا البراهين على أن كل ما صح في وقت لم يبطل في ثان إلا بنص أو إجماع وما بطل في وقت لم يصح في ثان إلا بنص أو إجماع وهذا القول فيمن طلق بنية وأعتق بنيته دون لفظ إن الملك والنكاح قد صحا في أول فلا يبطلان في ثان إلا بنص ولا نص ولا إجماع في بطلانهما بالنية دون الألفاظ الموضوعة لنقضهما وبطل بما ذكرنا قول من أراد أن يحقق جواز العمل بنية متقدمة له غير متصلة به لأنه لو جاز أن يكون بين النية والعمل دقيقة لجاز أن يكون بينهما مائة عام ولا فرق وقد قال المالكيون إن في أول ليلة من شهر رمضان تجزىء النية لصيام باقيه وهذا باطل لأنه لو جاز ذلك لأجزت نية واحدة في أول رمضان يصومه المرء عن إحداث نية لكل رمضان يأتي وهم لا يقولون ذلك فإن قالوا إنه يحول بين رمضان ورمضان شهور لا صيام فيها قيل لهم وكذلك يحول بين كل يومين من أيام رمضان ليل لا صيام فيه ولكل يوم حكمه وقد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 يمرض ويسافر فيفطر ولا يبطل لذلك صيام ما سلف ومن قولهم إن انتقاض صيام يوم من رمضان بطاعة أو بمعصية لا ينقض صيام ما سلف فيه وهذا هدم لقولهم فإن ادعوا في ذلك إجماعا أكذبهم سعيد بن المسيب عميد أهل المدينة لأنه يقول من أفطر في رمضان يوما عمدا فعليه قضاء الشهر كله لأنه عنده كيوم واحد وكصلاة واحدة إن انتقضت منها ركعة تعمدا انتقضت كلها فاستبان بكل ما ذكرنا أن كل هذا نوع واحد لا خلاف بين شيء منه ولم نقل هذا على أننا حاكمون لبعض ما ذكرنا بمثل حكمنا لسائره قياسا ومعاذ الله من ذلك ولكنا أرينا أصحاب القياس تناقضهم في ذلك حيث يرتضونه ويصححونه ويحكمون به من القياس الفاسد وأما نحن فإنما معتمدنا في كل ما ذكرنا على ما قد بيناه من أن كل عمل خلا من نية أو كل نية خلت من عمل فكل ذلك فاسد لقوله تعالى {ومآ أمروا إلا ليعبدوا لله مخلصين له لدين حنفآء ويقيموا لصلاة ويؤتوا لزكاة وذلك دين لقيمة} فأمرنا بشيئين كما ترى العبادة وهي العمل والإخلاص وهو النية فلا يجزىء أحدهما دون الآخر وبقوله عليه السلام إنما الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى فصح بهذا النص أنه لا عمل إلا بنية مقترنة معه غير متقدمة ولا متأخرة وقوله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} إلا أن يأتي نص باستثناء شيء من هذه النصوص فنصير إليه وإلا فلا وقد سألني بعضهم فقال ما تقول فيمن أفطر ناسيا لصومه فقلت له صومه تام قال فما تقول فيمن ترك ركعة من صلاته ناسيا فقلت يصليها ما لم ينتقض وضوءه أو يعيد الصلاة كلها إن انتقض وضوءه فقال لي لم فرقت بين الأمرين وهلا أجزت الصلاة مع نسيان بعضها كما أجزت الصيام مع نسيان بعضه بإفطار في بعض نهاره فالجواب وبالله تعالى التوفيق إننا لسنا من أصحاب القياس فيلزمنا هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 السؤال وإنما اتبعنا النص الوارد فيمن أفطر ناسيا أنه يتم صومه واتبعنا فيمن نسي صلاته أو بعضها أن يصليها لأننا مأمورون بالصلاة بالنص وبعض الصلاة صلاة فمن لم يصل ناسيا قيل له بالنص أقم الصلاة التي نسيت إذا ذكرتها ولا مزيد ولكنا نتطوع ونريه فساد ما أراد إلزامنا إياه من طريق القياس الذي يدعونه وهم أترك الناس لطرده فنقول وبالله تعالى التوفيق ليس يشبه تارك ركعة ناسيا من أفطر ناسيا وإنما يشبه من أفطر ناسيا من تكلم في صلاته ناسيا ويشبه تارك الركعة ناسيا من نسي أنه صائم فنوى الفطر في باقي نهاره إلا أن النص فرق بين حكميهما وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها ولم يأمر في نسيان الصوم بذلك والصوم له وقت محدود حده الله تعالى فلا سبيل إلى نقله إلى وقت آخر أصلا إلا حيث جاء النص بنقله فقط ومن تعدى ذلك فقد تعدى حدود الله تعالى قال الله عز وجل {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} نعوذ بالله من الظلم والظلم حرام وأما من نوى أن يفطر ولو بعد ساعة ولم ينو أنه مفطر في وقته ذلك فلا يكون بذلك مفطرا أصلا فإن جازت تلك الساعة ولم يحدث فيها نية للفطر مجددة لم يضر صومه تلك شيئا وصومه تام وهكذا من نوى أن يزني ولم يزن أو أن يشرب ولم يشرب أو أن يتصدق ولم يتصدق لا يكتب له ولا عليه ما لم يفعل من كل ذلك شيئا وهو كله باب واحد ولا عمل إلا بنية مصحبة للدخول فيه يكون أول الدخول فيه بعد إحداثها والخطأ يكون على ضربين أحدهما فعل لم يقصده الإنسان أصلا وذلك كرجل رمى غرضا فأصاب إنسانا لم يقصده وكإنسان جر نفسه فاستجر ذبابا فدخل حلقه وهو صائم أو أراد حك فخذه فمس ذكره فهذا وجه وهو الذي يسميه أهل الكلام التولد لأنه تولد عن فعله ولم يقصد هو فعله والوجه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 الثاني فعل قصد الإنسان عمله إلا أنه لم ينو بذلك طاعة ولا معصية ولا نوى بذلك ما حدث من فعله ولا قصد إلى بعض ما أمر به ولا إلى خلاف ما أمر به كإنسان لطم آخر فوافق منية الملطوم أو كإنسان صائم عمد الأكل وهو غير ذاكر لصومه ولا قاصد إفساد صومه أو نسي أنه في صلاة فقصد إلى الأكل أو إلى الكلام أو إلى المشي غير عامد لإفساد صلاته أو نسي أنه على طهارة فقصد إلى مس ذكره غير قاصد بذلك إلى نقض وضوئه أو سقاه إنسان بحضرة عدول من إناء أخبره أن فيه نبيذا غير مسكر فلما جرع منه قاصدا إلى شربه علم أنه خمر فأزاله عن فيه بعد أن شرب منه أو وطىء امرأة لقيها في فراشه عامدا لوطئها وهو يظنها امرأته فإذا بها أجنبية أدخلت عليه أو قرأ آية قاصدا إلى الألفاظ التي قرأ يظنها من القرآن وهي بخلاف ذلك في القرآن أو قتل صيدا عامدا لقتله غير ذاكر لإحرامه وهو محرم فهذا وجه ثان وكلاهما مرفوع لا ينقض شيء من ذلك عملا ولا إيمانا ولا يوجب إثما ولا حكما إلا حيث جاء النص بأنه يوجب حكما مما ذكرنا فيوقف عنده ويكون مستثنى من الجملة التي ذكرنا منها طرفا كالنص الوارد في إيجاب الدية على العاقلة لأنه في كلا الوجهين المذكورين لم ينو معصية وكذلك من فعل أي فعل كان ولم ينو به الطاعة لله تعالى فهو غير موجب له أجرا ولا أدى ما أمر به وأما العمد المرتبط بالقصد إلى ما يحدث من ذلك العمد أو إلى بعض ما هو فيه كقصد الصائم إلى الأكل وهو ذاكر لأنه صائم فرض وكضربه إنسانا بما يمات منه قاصدا لضربه به عالما بأنه قد يمات من مثله وكتبديله القرآن عامدا عالما بأنه ليس كذلك في المصحف وكشربه الخمر وهو يعلمها خمرا وكوطئه أجنبية وهو يعلم أنها ليست له زوجا ولا ملك يمين فهذا كله يوجب الحكم بالإثم وبما أتى به النص وإنما قلنا في قاتل الصيد عامدا لقتله غير ذاكر لإحرامه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 إنه لا جزاء عليه لقوله تعالى في آخر الآية {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} والنقمة لا تقع إلا على عاص ولا يكون عاصيا بقتل الصيد أصلا إلا حتى يعمد قتله وهو مع ذلك ذاكر لإحرامه عالم بأنه منهي عن قتله في تلك الحال هذا ما لا خلاف فيه أعني أنه لا يأثم إلا في هذه الحال وكذلك من قصد بنيته إلى فعل الطاعة فهو مؤد لما أمر به من ذاك والنفس هي الفعالة وفعلها المعرفة بما نفعله وغرضها فيه وهي المحركة للجسد فلا بد من توفيتها فعلها الذي أمرت به بتمامه ومما ذكرنا من لقي رجلا في صف المشركين فظنه مشركا فقتله عمدا وهو لا يعلم أنه مسلم فإذا هو مسلم فلا خلاف في أنه لا قود عليه ولا إثم وكذلك سقط الإثم والقود عن المتأول من الحكام وإن كان عامدا ليس ذلك إلا لأنه لم يقصد خلاف ما أمر به وهو يعلمه معصية وكذلك من أكل لحم خنزير وهو يظنه لحم كبش أو حنث غير ذاكر ليمينه فكل هذا لا شيء عليه فيه ولا قضاء ولا إثم ولا تعزير ولا حد فإن جاء نص في شيء ما من ذلك كان مستثنى كمن صلى وهو يظن أنه متوضىء فإذا به غير متوضىء فذكر بعد ذلك فهذا لم يصل فليصل لقوله عليه السلام لا صلاة إلا بطهور وهذا لم يصل كما أمر وأما من صلى وفي ثوبه شيء فرض اجتنابه على من بلغه أو صلى إلى غير القبلة فإن كان ممن لم يبلغه فرض اجتناب ذلك الشيء ولا فرض القبلة فصلاته تامة لأنه لم يكلف ما لم يبلغه فإن كان ممن بلغه كل ذلك فعليه أن يعيد الصلاة ما دام وقتها لأنه علم ووقتها قائم إذ لم يصل تلك الصلاة كما أمر ففرض عليه أن يصليها كما أمر وأما بعد الوقت فلا لأنه لا يصلي صلاة إلا في وقتها حاشا النائم والناسي والسكران فإنهم خصوا بالنص فيهم وكالدية وعتق الكفارة في قتل الخطأ فهذا مستثنى بالنص من سائر ما لم يقصده المرء واعلم أن خصومنا يتناقضون في كل ما ذكرنا تناقضا لا يرجعون فيه إلى أصل لكن مرة يلزمونه ومرة لا يلزمونه دون برهان من الله تعالى في كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 ذلك ومما يؤيد ما قلنا ما حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال سمعت أبا وائل هو شقيق بن سلمة يقول ثنا أبو موسى الأشعري أن رجلا أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقد روى الأعمش هذا الحديث فذكر فيه الذي يقاتل شجاعة وحمية وغضبا ورياء وأنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل في سبيل الله إلا من قاتل لتكون كلمة الله عز وجل العليا فلو أجزأ عمل بغير نية لأجزأ الجهاد الذي هو أفضل الأعمال بعد الإيمان ولكن لا سبيل إلى أن يجزىء عمل بغير نية ومن هذا الباب أيضا المكره على الكفر فإن عبد بلسانه ولم يعبد بقلبه فلم يخرج بذلك عن الإيمان قال الله تعالى {من كفر بلله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بلإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من لله ولهم عذاب عظيم} فإنما راعى تعالى عمل القلب فقط وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عمن أكل ناسيا فأخبر عليه السلام أنه لم ينتقض صومه بذلك ولا شك في أن هذا الصائم عمد الأكل ولكنه كان ذاكرا لصيامه فصح ما قلنا نصا وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى {فقاتل في سبيل لله لا تكلف إلا نفسك وحرض لمؤمنين عسى لله أن يكف بأس لذين كفروا ولله أشد بأسا وأشد تنكيلا} احتج بهذا قوم في إبطال أن يحج أحد عن غيره أو يصلي أحد عن غيره أو يصوم أحد عن غيره وقد أخطؤوا في ذلك خطأ فاحشا وليس في هذه الآية معارضة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحج عن الشيخ الكبير وبالصيام عن الولي الميت وبقضاء النذر عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 الميت لأن كل ما ذكرنا فالحي المؤدي هو المكلف ذلك في نفسه وهي شريعة ألزمه الله تعالى إياها وافترضها عليه كالصلوات الخمس وسائر صيامه في رمضان فقد تعين في ذلك فرضا على الولي زائدا كلفه في نفسه هو مأجور على أدائه لأنه أدى فرضا كلفه والله تعالى متفضل على الميت والمحجوج عنه بأجر آخر زائد وخزائن الله لا تنفد وفضله تعالى لا ينقطع فبطل ظن من جهل ولم يفهم وقدر أن بين الآية التي ذكرنا والأحاديث التي وصفنا تعارضا وقد تناقضوا فأجازوا أن يؤدي المرء الدين عن غيره وجعلوا له أجرا بذلك وللميت المؤدى عنه حطيطة الدين الذي عليه وهكذا قلنا نحن في سائر ما أمرنا بأدائه من الصوم والحج والصلاة المنذورة ولا فرق وأوجبوا غرم بني عم المرء الدية عن القاتل خطأ فنقضوا قولهم فإن قالوا الإجماع أوجب ذلك كذبوا لأن عثمان البتي لا يرى ذلك يعني غرم العاقلة الدية عن قاتل الخطأ قال أبو محمد رحمه الله واحتج مخالفنا أيضا في ذلك بقوله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} قال أبو محمد وقد بينا فيما خلا أن يضاف كل ما قاله صلى الله عليه وسلم إلى ما قال ربه تعالى فصح أنه تعالى قد يتفضل على المرء بأن يلحقه دعاء ولده بعد موته وليس بما سعى وأنه تلحقه صدقة وليه عنه وليس مما سعى وكذلك سائر ما نص عليه السلام على أنه يلحقه وقال تعالى {وقال لذين كفروا للذين آمنوا تبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون * وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم لقيامة عما كانوا يفترون} وقال تعالى {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم لقيامة ومن أوزار لذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون} وأخبر عليه السلام أن من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجر من عمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن سن سنة سيئة كان له مثل وزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا قال أبو محمد وكل هذا متفق لا تعارض فيه أصلا لأن معنى قوله تعالى {وقال لذين كفروا للذين آمنوا تبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون} أي أنهم لا يسقطون عنهم بتقليدهم إياهم إثما ولكن للعامل إثمه وللسان مثل ذلك أيضا وهذا بين وبالله تعالى التوفيق وكذلك ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألا يحنط الميت المحرم ولا يمس طيبا ولا يغطى وجهه ولا رأسه وأن يكفن في ثوبه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا وما أمر به صلى الله عليه وسلم في الشهيد ألا يغسل ولا يكفن وأن يدفن في ثيابه وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يبعث يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون دم والريح ريح مسك فكلا الأمرين عمل كلفناه نحن وألزمناه فمن فعله أطاع الله تعالى ومن لم يفعله عصى الله عز وجل فتخيل أهل الجهل والاستخفاف بأوامر الله تعالى وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن عمل الميت قد انقطع فيا ليت شعري من قال لهم إن هذا عمل أمر به الميت وإنما قيل لهم إنه عمل أمرنا نحن به في الميت كما أمرنا بغسل سائر موتانا وتحنيطهم بالسدر والكافور والصلاة عليهم فهذا كله سواء ولا فرق وتلبية المحرم يوم القيامة فضل له حينئذ وجزاء كثعب جرح الشهيد ولا فرق فبطل تمويه أهل الجهل والحمد لله وقوله تعالى {يأيها لناس تقوا ربكم وخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد لله حق فلا تغرنكم لحياة لدنيا ولا يغرنكم بلله لغرور} وقوله تعالى {وتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} وقوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى إنما تنذر لذين يخشون ربهم بلغيب وأقاموا لصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى لله لمصير} وقوله تعالى {ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان لله عليما حكيما} وقوله تعالى {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 قال أبو محمد رحمه الله فهذا كله لا يعارض ما ذكرنا البتة وإنما معناه أن أحدا لا يحمل إثم غيره ولا وزره إلا أن يكون سن ذلك العمل السوء فله مثل إثم صانعيه أبدا لأن الآي مضاف بعضها إلى بعض وقد قال تعالى {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان لله على كل شيء مقيتا} وأخبر عليه السلام أن كل قتيل يقتل فعلى ابن آدم الأول كفل منه لأنه أول من سن القتل فمعنى الآي الأول أن الله لا يلقي إثم أحد على بريء منه وأما من استن الشر ورتبه فله حظ من كل فعل يوافق ما سبق وكذلك من سن الخير أبدا فلا يلحق عمل أحد أحدا أبدا إلا ما جاء به النص فيصير حينئذ فعلا مأمورا به من كلف أداه يؤجر على فعله ويأثم بتركه كسائر ما أمر به ولا فرق وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل الباب الثالث والثلاثون في شرائع الأنبياء عليهم السلام قبل محمد صلى الله عليه وسلم أيلزمنا اتباعها ما لم ننه عنها أم لا يجوز لنا اتباع شيء منها أصلا إلا ما كان منها في شريعتنا وأمرنا نحن به نصا باسمه فقط قال أبو محمد رحمه الله قد ذكرنا الوجوه التي تعبدنا الله تعالى بها والتي لا حكم في شيء من الدين إلا منها وهذا حين نذكر إن شاء الله تعالى الوجوه التي غلط بها قوم في الديانة فحكموا بها وجعلوها أدلة وبراهين وليست كذلك والصحيح أنه لا يحل الحكم بشيء منها في الدين وهي سبعة أشياء شرائع الأنبياء السالفين قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والاحتياط والاستحسان والتقليد والرأي ودليل الخطاب والقياس وفيه العلل ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون هذه الأوجه بابا بابا ومبينون وجه سقوطها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 وتحريم الحكم بها وبالله تعالى نتأيد فأما شرائع الأنبياء عليهم السلام الذين كانوا قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالناس فيها على قولين فقوم قالوا هي لازمة لنا ما لم ننه عنها وقال آخرون هي ساقطة عنا ولا يجوز العمل بشيء منها إلا أن نخاطب في ملتنا بشيء موافق لبعضها فنقف عنده ائتمارا لنبينا صلى الله عليه وسلم لا اتباعا للشرائع الخالية قال أبو محمد وبهذا نقول وقد زاد قوم بيانا فقالوا إلا شريعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد أما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي هذه الشريعة التي نحن عليها نفسها والبراهين على ذلك قائمة سنذكرها إن شاء الله تعالى وإنما الاختلاف الذي ذكرنا في ما كان من شرائع الأنبياء عليهم السلام موجودا نصه في القرآن أو عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما ليس في القرآن ولا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فما نعلم من يطلق إجازة العمل بذلك إلا أن قوما أفتوا بها في بعض مذاهبهم فمن ذلك تحريم بعض المالكيين لما وجد في ذبائح اليهود ملتصق الرئة بالجنب وهذا مما لا نص في القرآن ولا في السنة على أنه حرم على اليهود نعم ولا هو أيضا متفق عليه عند اليهود وإنما هو شيء انفردت به الربانية منهم وأما العانانية والعيسوية والسامرية فإنهم متفقون على إباحة أكله لهم فتحرى هؤلاء القوم وفقنا الله وإياهم ألا يأكلوا شيئا من ذبائح اليهود فيه بين أشياخ اليهود لعنهم الله اختلاف وأشفقوا من مخالفة هلال وشماي شيخ الربانية وحسبنا الله ونعم الوكيل ومن طريف ما وقع لبعضهم في هذا الباب وسمجه وشنعه الذي ينبغي لأهل العقول أن يستجيروا بالله عز وجل من مثله أن إسماعيل بن إسحاق قال في رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين الزانيين إنما فعل ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 صلى الله عليه وسلم تنفيذا لما في التوراة ورأى هو من رأيه الفاسد أن يرفع نفسه عن تنفيذ ما فيها من الرجم على اليهود الزناة المحصنين إذا زنوا فصان نفسه عما وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول الفاسد ومن هذا الاعتقاد فلو كفر جاهل بجهله لكان قائل هذا القول أحق الناس بالكفر لعظيم ما فيه واحتج أيضا في ألا يقول الإمام آمين إذا قال {بسم الله لرحمن لرحيم} بأن موسى عليه السلام إذا دعا لم يؤمن وأمن هارون عليهما السلام فسماهما تعالى داعيين بقوله تعالى {قال قد أجيبت دعوتكما فستقيما ولا تتبعآن سبيل لذين لا يعلمون} قال أبو محمد وفي هذا الاحتجاج من الغثاثة والبرد والسقوط والمجاهرة بالقبيح ما فيه لأنه يقال له قبل كل شيء من أخبرك أن موسى عليه السلام دعا ولم يؤمن وأن هارون أمن ولم يدع وهذا شيء إنما قاله بعض المفسرين بغير إسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذا لا يؤخذ إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن كافة تنقل عن مثلها إلى ما هنالك فمن فاته هذان الوجهان فقد فاته الحق ولم يبق بيده إلا المجاهرة بالكذب وأن يقفو ما ليس له به علم أو أن يروى ذلك عن إبليس الملعون فإنه قد أدرك لا محالة تلك المشاهد كلها إلا أنه غير ثقة ثم يقال له هذا لو صح لك ما ادعيت من أن موسى دعا ولم يؤمن وأن هارون أمن ولم يدع فأي شيء في هذا مما يبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الإمام وإذا أمن فأمنوا وقول الراوي أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإمام كان يقول إذا فرغ من أم القرآن في الصلاة آمين هذا ولعل موسى قد أمن إذ دعا ولعل هارون دعا إذ دعا موسى وأمنا أو أمن أحدهما أو لم يؤمن واحد منهما ونص القرآن يوجب أنهما دعوا معا بقوله تعالى {قال قد أجيبت دعوتكما فستقيما ولا تتبعآن سبيل لذين لا يعلمون} وليس في القرآن دليل على تأمين وقع منهما ولا من أحدهما فهل سمع بأغث من هذا الاحتجاج أو أسقط منه أو أقل حيلة أو أبرد تمويها ممن يحتج بمثله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 في إبطال السنن الثابتة ثم قال له من عجائب الدنيا أنك جعلت فعل موسى وهارون الذي لم يصح قط ناسخا لقول محمد صلى الله عليه وسلم الصحيح في التأمين وهذا عكس الحقائق وقد كنا نعجب من قول شيخ من شيوخهم أدركناه مقدما في مشاورة القضاة له على جميع مفتيهم فإن ذلك الشيخ قال في كتاب ألفه وقد رأيناه ووقفنا عليه وناولناه بيده وهو مكتوب كله بخطه وأقر لنا بتألفه وقرأه غيرنا عليه فكان في بعض ما أورد فيه أن قال روينا بأسانيد صحاح إلى التوراة أن السماء والأرض بكتا على عمر بن عبد العزيز أربعين سنة قال أبو محمد هذا نص لفظه فلا أعجب من الشيخ المذكور في أن يروي عن التوراة شيئا من أخبار عمر بن عبد العزيز وهذا إسماعيل يبطل قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمن يعني الإمام فأمنوا وتأمينه عليه السلام وهو الإمام بما لم يصح من ترك موسى للتأمين وترك هارون للدعاء واحتجوا أيضا في إباحة قتل المسلمين وسفك الدماء المحرمة بدعوى المريض أن فلانا قتله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لو أعطي قوم بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم فأباحوا ذلك بدعوى المريض واحتجوا بما ذكر بعض المفسرين من أن المقتول من بني إسرائيل لما ضرب ببعض البقرة حيي وقال فلان قتلني قال أبو محمد وهذا ليس في نص القرآن وإنما فيه ذكر قتل النفس والتدارىء فيها وذبح البقرة وضربه ببعضها وكذلك يحيي الله الموتى فمن زاد على ما ذكرنا في تفسير هذه الآية فقد كذب وادعى ما لا علم لديه فكيف أن يستبيح بذلك دما حراما ويعطي مدعيا بدعواه وقد حرم الله تعالى ذلك فمن أعجب ممن يحتج بخرافات بني إسرائيل التي لم تأت في نص ولا في نقل كافة ولا في خبر مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذه العظائم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 هذا مع أن تلك الخرافة ليس فيها ذكر قسامة أصلا ولا أنه لا يحلف في القسامة إلا اثنان فصاعدا فهذه الزوائد من أين خرجت وحسبنا الله ونعم الوكيل ثم أتى إلى قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} فقال لا نأخذ بها ولا نقتل مؤمنا بكافر ولا حرا بعبد لأن هذا من شرائع من كان قبلنا ونسي أخذه في القسامة بخرافة مروية عن بني إسرائيل وترك لها فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة ثم ترك ههنا نص الله تعالى في أنه كتب عليهم أن النفس بالنفس وأعلى ما روي في حديث بقرة بني إسرائيل فحديث حدثناه أحمد بن عمر ثنا عبد الله بن حسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن الجهم ثنا أبو بكر الوراق نا علي بن عبد الله هو ابن المديني وعياش بن الوليد قال علي نا يحيى بن سعيد وسفيان بن عيينة قال يحيى نا ربيعة بن كلثوم حدثني أبي عن سعيد بن جبير أن ابن عباس قال إن أهل المدينة من بني إسرائيل وجدوا شيخا قتيلا في أصل مدينتهم فأقبل أهل مدينة أخرى فقالوا قتلتم صاحبنا وابن أخ له شاب يبكي فأتوا موسى عليه السلام فأوحى الله إليه {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} فذكر حديث البقرة بطوله وفي آخره فأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ وابن أخيه قائم عند قبره فذبحوها فضرب ببضعة من لحمها القبر فقام الشيخ ينفض رأسه ويقول قتلني ابن أخي طال عليه عمري وأراد أكل مالي ومات وقال سفيان ثنا ابن سوقة سمعت عكرمة يقول كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا فوجدوا قتيلا قد قتل على باب فجروه إلى باب آخر فتحاكموا إلى موسى عليه السلام فقال {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} فذبحوها فضربوه بفخذها فقام فقال قتلني فلان وكان رجلا له مال كثير وكان ابن أخيه قتله وقال عياش بن الوليد نا يزيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 بن زريع نا سعيد عن قتادة قال كان قتيل في بني إسرائيل فأوحى الله عز وجل إلى موسى أن اذبح بقرة فاضربوه ببعضها فذكر لنا أنهم ضربوه بفخذها فأحياه الله عز وجل فأنبأ بقاتله وتكلم ثم مات وذكر لنا أنهم وليه الذي كان يطلب بدمه هو قتله من أجل ميراث كان بينهم فلا يورث قاتل بعده وبه إلى ابن الجهم ثنا محمد بن مسلمة ثنا يزيد بن هارون أنبأ هشام عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا يولد له وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله ثم احتمله ليلا حتى أتى به في آخرين فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم فأتوا موسى عليه السلام فقال {وإذ قال موسى لقومه إن لله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بلله أن أكون من لجاهلين} فذبحوها فضربوه ببعضها فقام فقالوا من قتلك فقال هذا لابن أخيه ثم مال ميتا فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئا ولم يورث قاتل بعده وبه إلى ابن الجهم حدثنا محمد الفرج وإبراهيم بن إسحاق الحربي قال محمد واللفظ له ثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل قتله رجل ثم ذكر معناه وقال الحربي نا حسين بن الأسود نا عمرو بن محمد نا أسباط عن السدي نحوه وروينا أيضا نحوه من طريق إسماعيل بن إسحاق عن عبد الله بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال أبو محمد وهذه مرسلات وموقوف لو أتت فيما أنزل علينا ما جاز الاحتجاج بها أصلا فكيف فيما أنزل في غيرنا وليس في القرآن نص بشيء مما ذكر في هذه الأخبار أكثر من أنهم تدارؤوا في نفس مقتولة منهم فأمرهم عز وجل أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها {فقلنا ضربوه ببعضها كذلك يحيي لله لموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} ولم يقل تعالى في القرآن إن الميت قال فلان قتلني ولا أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 صدق في ذلك ولا أنه أقيد به وكل من زاد على ما في القرآن شيئا بغير نص من الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أتى عظيمة وحتى لو صح كل هذا لما كانت فيه حجة أصلا لأن ذلك كان يكون معجزة وإحياء ميت ومن عاد من الآخرة فلا شك في أنه لا يقول إلا الحق وأما الأحياء فيما بيننا فالكذب غير مأمون عليهم ودعوى الباطل وهم لا يصدقونه في درهم يدعيه ولا في درهم يقر به لوارث ويصدقونه في الدم الذي يوجب قتل عدوه عندهم أو أخذ ماله في الدية ونحن الآن إن شاء الله تعالى نذكر كل ما في القرآن من شرائع النبيين عليهم السلام قبلنا ونبين ما اتفق على تركه منها وما اختلف في الأخذ منها ثم نذكر إن شاء الله تعالى حجج الآخذين بها والمانعين منها وبالله تعالى التوفيق فمن شرائع سليمان عليه السلام قول الله تعالى {قال أبو محمد وهذا لا خلاف بيننا في سقوط عقاب الطير وإن أفسدت علينا ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد هذا مما اختلف فيه فادعى قوم فيها دعاوى من أن سليمان عليه السلام كلف أصحاب الغنم جبر ما أفسدت من الزرع أو الكرم ليلا وهذا باطل لأنه ليس ذلك في الآية ولا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكر في بعض التفاسير التي لا تصح وذلك من نحو ما ذكر فيها أن ملكين زنيا وقتلا النفس التي حرم الله تعالى وشربا الخمر وقد نزه الله تعالى الملائكة عن ذلك وأن الزهرة كانت زانية فمسخت كوكبا مضيئا يهتدى به في البر والبحر حتى أدت هذه الروايات الفاسدة بعض أهل الإلحاد إلى أن قال لو كان هذا لما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 بقيت محصنة إلا زنت لتمسخ كوكبا والتي ذكر فيها أن يوسف عليه السلام قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من امرأته وقد نزه الله تعالى أنبياءه عن ذلك وهذا كثير جدا وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جرح العجماء جبار ولا ينسند حديث ناقة البراء أصلا وإنما هو منقطع من جميع جهاته ومن شريعة زكريا عليه السلام قوله تعالى {} وهذا ساقط بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله لأصمت يوما إلى الليل وبالجملة فلم نؤمر بالصمت ومن صمت عن غير الواجب من الكلام والمستحب من الذكر فقد أحسن ومنها قوله تعالى {} فاحتج بهذا قوم في الحكم بالقرعة ثم جعلوا ذلك حكما في المستلحق من الأولاد وفي المشكوك في طلاقها من النساء وفي غير ذلك وهذا لا يلزم بل يبطل من وجهين أحدهما أن هذا قياس والقياس باطل والثاني أنه غير مأمور به في شريعتنا ومن شرائع موسى عليه السلام قوله تعالى {} ونحن لا نخلع نعالنا في الأرض المقدسة ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا لا خلاف في أنه منسوخ وأن الله تعالى قد أحل لهم كل ذلك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم بقوله {} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 وهذه الشحوم من طعامنا فهن حل لهم وإن رغمت أنوفهم وأنوف المجتنبين لها اتباعا لدعوى اليهود في تحريم ذلك ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد أما نحن فلا نأخذ بهذا لأننا لم نؤمر به وإنما أمر به غيرنا وإنما أوجبنا القود في كل هذا وفيما دونه بين المسلمين فيما بينهم وساوينا في كل ذلك بين الحر والعبد والذكر والأنثى بقوله تعالى مخاطبا لنا {} وبقوله تعالى مخاطبا لنا {} وبقوله تعالى {} ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنون تتكافأ دماؤهم فأقدنا في كل ذلك من الحر للحر والعبد للحرة والأمة وأقدنا من العبد للعبد وللحر وللحرة وللأمة وكذلك من الحرة والأمة ولا فرق وأقدنا لكل من ذكرنا من الكافر ولم نقد كافرا من مؤمن أصلا لقول الله تعالى {} وبقوله صلى الله عليه وسلم ولا يقتل مؤمن بكافر ومنها قوله تعالى {} وهذا منسوخ بإجماع ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا منسوخ بإجماع ومنها الأمر بذبح بقرة صفراء فاقع لونها وهذا لا يلزم في شيء من الأحكام بإجماع ومن شريعة لوط عليه السلام {} ولا يحل في شريعتنا رجم المكذب بالنذر وقد احتج قوم في رجم من فعل فعل لوط بهذه الآية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 قال أبو علي ونسوا أن فاعل ذلك من قوم لوط كان كافرا وذلك منصوص في القرآن في الآية نفسها إذ أخبر تعالى أنهم كذبوا بالنذر وأن صبيانهم ونساءهم رجموا معهم ولم يكونوا ممن فعل ذلك الفعل ونسوا أيضا قوله تعالى {} فكان يلزمهم إذا طردوا أصلهم الفاسد أن يسلموا عينهم كل من راود ذكرا عن نفسه لأن الله تعالى طمس أعين قوم لوط إذ راودوا ضيفه كما رجمهم لما أتوا الذكور وكفروا فمن فرق بين شيء من ذلك فقد تحكم في دين الله عز وجل بلا برهان ولا هدى من الله تعالى ومن شريعة يوسف عليه السلام {} قال أبو محمد وهذا مما لا خلاف فيه أنه لا يجوز أن نحكم به الآن بين الناس في تداعيهم الزنى ومنها {} قال أبو محمد فاحتج قوم بهذا في إثبات الجعل وهذا لا يلزم لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أموالكم عليكم حرام مبطل للجعل إلا أن يوجبه نص في شريعتنا أو تطيب به نفس الجاعل ومنها قوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا لا خلاف بيننا وبين خصومنا في أنه لا يحكم به بيننا وأنه لا يسترق السارق لأجل سرقته وكان يلزمهم القول به لأنه ليس مجمعا على تركه بل قد روينا عن زرارة بن أوفى القاضي أنه باع حرا في دين وروينا أيضا عن الشافعي من طريق غريبة وقد كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى {} ومن شريعة أيوب عليه السلام {} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 فاحتج بهذا قوم في إباحة جلد الزاني والقاذف والشارب إذا كانوا مرضى يعرجون فيه مائة أو ثمانون أو أربعون شمراخا وفي بر يمين من حلف ليجلدن غلامه كذا وكذا جلدة قال أبو محمد والذين احتجوا بدعواهم في كلام الميت في أمر بقرة بني إسرائيل أن فلانا قتلني يأبون ههنا من أن يبرأ الحالف إذا ضرب بضغث ويكفي هذا من قبيح التناقض وفاحشة ونحن وإن كنا نرى الجلد بالضغث للمريض فإنما نجيزه من غير هذه الآية لكن من الحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر أن يجلد المريض الذي زنى بعثكول فيه مائة شمراخ ونرى البر يقع بما يقع عليه اسم جلد واسم ضرب ومن شريعة موسى وصهره عليهما السلام {} قال أبو محمد وبهذا يحتج من يبيح النكاح على إجارة إلى أحد أجلين لم يوقت أحدهما بعينه وهذا عندنا وعند خصومنا لا يجوز لأن الإجارة المجهولة الأجل فاسدة لأنها أكل مال بالباطل والنكاح على شيء فاسد لأن كل ما لا يصح إلا بصحة ما لا يصح فلا شك في أنه لا يصح لا سيما وتلك الإجارة للمنكح لا حظ فيها للمنكحة والصداق في ديننا إنما هو للمنكحة بنص قول الله تعالى {} ولا حظ فيها للأب ولا للولي ومن عجائب الدنيا ما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا سحنون ثنا ابن القاسم قال احتج مالك في جواز فعل الرجل بإنكاح ابنته البكر بغير رضاها بقول الله تعالى عن صهر موسى {} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 قال علي فأي عجب أعجب من احتجاجه بهذه الآية فيما لا يوجد في الآية أصلا وفي الممكن أنها رضيت فلم يذكر ثم يخالف الآية نفسها في أربعة مواضع أحدهما إنكاح إحدى ابنتي بغير عينها والثاني إنكاحه بإجارة الثالث الإجارة إلى أحد أجلين أيهما أوفى فالنكاح ثابت والرابع إنكاح امرأة بخدمة أبيها ثم بعد هذا كله من له بأنها كانت بكرا ولعلها ثيب أليس في هذا الاحتجاج عبرة لمن اعتبر ولعلها بكر عانس وهو لا يرى إنكاح هذه إلا بإذنها ورضاها فكيف والاحتجاج بالآية لا يصح لما قدمنا من أن شرائع الأنبياء عليهم السلام لا تلزمنا ومن شرائع الخضر عليه السلام قوله تعالى {} ثم قال {} قال أبو محمد ولا خلاف في شريعتنا أنه لا يحل قتل غلام خوف أن يرهقهما طغيانا وكفرا ومن شريعة نوح عليه السلام {} قال أبو محمد فأخذ بهذا الأزارقة واستباحوا قتل الأطفال وغاب عنهم أن قول نوح عليه السلام إنما كان فيمن كان في عصره من الكفار فقط الذين أهلكهم الله تعالى ولم يبق لهم نسلا بقوله تعالى {} وبقوله تعالى {} ولم يحمل نوح مع نفسه عليه السلام إلا المؤمنين فقط من قومه وولده وغاب عنهم بجهلهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم هو ولد كافر وكافرة وأن عمر كذلك وقد قال عليه السلام أو ليس خياركم أولاد المشركين ونحن نترك الكفار ولا نقتلهم بل نأخذ منهم الجزية وننكح إليهم ونعاملهم ونأكل ذبائحهم ولا نستحل قتل طفل من أطفال أهل الحرب عمدا بل يهديهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 الله بنا ولا يضلوننا والحمد لله رب العالمين وقد نقل كافة بني إسرائيل أن موسى عليه السلام قتل صبيان أهل مدين وقتل يوشع صبيان أهل أريحا الأطفال بأمر الله تعالى بذلك وهذا في شريعتنا غير جائز ومن شريعة يونس عليه السلام قوله تعالى {} قال أبو محمد فاحتج بهذا قوم في الحكم بالقرعة وقد مضى الكلام في ذلك ولا خلاف بين أحد منا أنه لا يجوز أن يلقى أحد في البحر بالقرعة ومن شريعة مريم عليها السلام {} وليس هذا من شرط الصوم عندنا ومن شرائع الله تعالى في بني إسرائيل قوله تعالى {} ونحن نعتدي كثيرا فلا نمسخ ولله الحمد ومن شريعة أهل زمان زكريا عليه السلام قول أم مريم {} قال أبو محمد وهذا غير جائز عندنا أصلا ومن شريعة يعقوب عليه السلام {} قال أبو محمد وهذا لا يحل عندنا وليس لأحد أن يحرم على نفسه ما لم يحرم الله عز وجل عليه إلا أن طوائف من علمائنا اختلفوا في تحريم الزوجة والأمة فقال به قوم ومنع منه آخرون وبالمنع منه نقول ولا يحل لأحد أن يحرم زوجة ولا غيرها ولا تكون بذلك حراما ولا طلاقا ولا كفارة في ذلك وهي حلال له كما كانت وكذلك سائر ماله ومن شرائع بني إسرائيل {} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 قال أبو محمد وهذا لا يلزمنا ومن شريعة آدم عليه السلام قوله {} قال أبو محمد ولا خلاف في أنه لا يجوز عندنا التحاكم بالقرابين ولا يحل عندنا الاستسلام للقتل ظلما بل المقتول دون نفسه شهيد ومن شريعة الكتابيين في زمان أصحاب الكهف {} قال أبو محمد وهذ حرام في شريعتنا وقد قال عليه السلام إن أولئك كانوا إذا مات فيهم رجل صالح بنوا على قبره مسجدا أولئك شرار الخلق قال أبو محمد فهذه شرائع يلزم من قال باتباع شرائع الأنبياء عليهم السلام أن يقول بها وإلا فقد نقضوا أصلهم واحتج الموجبون للأخذ بشرائع الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لا خلاف بين اثنين من المسلمين أن هذا منسوخ وأن من حكم بحكم الإنجيل مما لم يأت بالنص عليه وحي في شريعة الإسلام فإنه كافر مشرك خارج عن الإسلام واحتجوا بقوله تعالى {} قال أبو محمد وهذا إنما عني الله تعالى به أنبياء بني إسرائيل لا محمدا صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى يقول {} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 وبيان ذلك قوله تعالى {} ونحن ليس لنا نبيون وإنما لنا نبي واحد والأنبياء كلهم مسلمون وقد حكى الله تعالى عن أنبياء سالفين أنهم قالوا أمرنا بأن نكون من المسلمين وأيضا فقد قال تعالى حاكيا عن أهل الكتاب أنهم قالوا لنا {} فصح أن الله تعالى نهى عن دين اليهود والنصارى وأمرنا بدين إبراهيم عليه السلام وقال تعالى {} فصح يقينا أن إبراهيم كانت شريعته قبل التوراة وأن شريعته لازمة لنا فمن المحال الممتنع أن نؤمر باتباع شيء نزل بعد شريعتنا وهذا متناقض فبطل تأويل من ظن الخطأ في قوله تعالى {} وصح أنهم أنبياء بني إسرائيل فقط فإن قالوا لا خلاف بين التوراة وبين شريعة إبراهيم عليه السلام ولا بين شريعتنا واحتجوا بما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الأنبياء إخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد قلنا لهم هذا حجة عليكم لا لكم إن تأولتم فيه اتفاق أحكام شرائعهم أكذبهم القرآن في قوله تعالى {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وأكذبهم قوله تعالى عن عيسى عليه السلام {ومصدقا لما بين يدي من لتوراة ولأحل لكم بعض لذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فتقوا لله وأطيعون} وأكذبهم أمر السبت وتحريم كل ذي ظفر وما حرم إسرائيل على نفسه ولكن معنى قوله صلى الله عليه وسلم ودينهم واحد إنما يعني التوحيد الذي لم يختلفوا فيه أصلا واحتجوا بقوله تعالى {أولئك لذين هدى لله فبهداهم قتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الذي أمرنا أن نقتدي بهم فيه هو ما اتفقت فيه شريعتنا وشريعتهم مثل قوله تعالى {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا لله وبلوالدين إحسانا وذي لقربى واليتامى ولمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون} فأما باقي الآية في قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} فلم نأخذه من هذه الآية لكن من أمر الله تعالى لنا بذلك في آية أخرى ومثل قوله عز وجل {شرع لكم من لدين ما وصى به نوحا ولذي أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا لدين ولا تتفرقوا فيه كبر على لمشركين ما تدعوهم إليه لله يجتبي إليه من يشآء ويهدي إليه من ينيب} فنص تعالى على أنهم كلهم أمروا ألا يتفرقوا في الدين وهذا هو نفس إخباره عليه السلام أن دين الأنبياء عليهم السلام واحد وقد نص الله تعالى على أنه أمر بعضهم بترك العمل في السبت ولم يأمرنا نحن بذلك وأحل الخمر مدة وحرمها بعد ذلك فصح يقينا أن الذي نهوا عن التفرق فيه وأن الذي شرع لجميعهم من الدين الواحد إنما هو التوحيد وأن الذي فرق فيه بينهم هي الشرائع والأعمال الواجبات والمحرمات وهذا هو نفس قولنا وقد قال تعالى {وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن ستطعت أن تبتغي نفقا في لأرض أو سلما في لسمآء فتأتيهم بآية ولو شآء لله لجمعهم على لهدى فلا تكونن من لجاهلين} وقال {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} قال تعالى {ولكل وجهة هو موليها فستبقوا لخيرات أين ما تكونوا يأت بكم لله جميعا إن لله على كل شيء قدير} فصح بالنص أنه تعالى فرق بين الشرائع وبين منهاج كل واحد منهم وبين وجهة كل واحد منهم وقد قال تعالى {يريد لله ليبين لكم ويهديكم سنن لذين من قبلكم ويتوب عليكم ولله عليم حكيم} فصح أن الله تعالى لا يتناقض كلامه وصح أن الذي أمرنا أن نتبع فيه سننهم هو غير الشرائع التي فرق بيننا وبينهم فيها فصح أنه التوحيد الذي سوى فيه بينهم كلهم في التزامه فصح أنه هو الهدى الذي أمر صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بهم ويبين ذلك أيضا قوله تعالى حاكيا عن رسوله يوسف عليه السلام أنه قال {واتبعت ملة آبآئي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل لله علينا وعلى لناس ولكن أكثر لناس لا يشكرون} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 قال أبو محمد فبين نصا أنهم اتفقوا في التوحيد خاصة وإلا فقد نص تعالى على أن إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام حرم على نفسه أشياء كانت له حلالا وليس هذا في شريعة إبراهيم عليه السلام فصح يقينا أنه كان مباحا لإسرائيل أن يحرم على نفسه بعض الطعام وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا نفسها على ما نبين في آخر هذا الباب إن شاء الله عز وجل وليس في شريعتنا أن يحرم أحد على نفسه طعاما أحله الله له وقد جمع يعقوب بين الأختين وهذا لا يحل في شريعتنا التي هي شريعة إبراهيم فلما سوى يوسف عليه السلام بين ملة إبراهيم ويعقوب وشرائعهما مفترقة علمنا أن ذلك في التوحيد وحده لا فيما سواه فاعترض بعض خصومنا بأن قال إذا حملتم قوله تعالى على أن ذلك في التوحيد وحده لا فيما سواه عريتم الآية من الفائدة لأن التوحيد مأخوذ بالعقل قال أبو محمد هذا من أغث احتجاج يورده مشغب ويلزم من قال بهذا أن يحذف من القرآن كل آية مكررة مثل {وغيرها والتوحيد عرف بالعقل ضرورة ولكن ما يجب الإقراء به فرضا ولا صح الوعيد على جاحده بالقتل والنار في الآخرة بالعقل وإنما وجب ذلك كله بإنذار الرسل فقط فالآية المذكورة أوجبت اعتقاد التوحيد وأوجبت الإقرار به ولم يجب ذلك قط بالعقل لأن العقل لا يشرع ولا يخبر بمن يعذب الله تعالى في الآخرة ولا بمن ينعم وإنما العقل مميز بين الممتنع والواجب والممكن ومميز بين الأشياء الموجودات وبين الحق الموجود المعقول والباطل المعدوم المعقول فهذا ما في العقل ولا مزيد وقال بعضهم نحمل قوله تعالى {أولئك لذين هدى لله فبهداهم قتده قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين} على ما لم يأتنا فيه نص أنه نسخ من شرائعهم ونحمل قوله {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} على ما نسخ من شرائعهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 قال أبو محمد هذا تأويل منهم مجرد من الدليل وما تجرد عن الدليل فهو دعوى ساقطة وقد بينا الدلائل على أن الذي أمرنا بالاقتداء بهم فيه إنما هو التوحيد وحده فقط واحتجوا بقول الله تعالى {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} قال أبو محمد وقد بين الله تعالى في آية أخرى غير هذه الآية بقوله تعالى {وأنزلنآ إليك لكتاب بلحق مصدقا لما بين يديه من لكتاب ومهيمنا عليه فحكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم عما جآءك من لحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شآء لله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} {ومن يبتغ غير لإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في لآخرة من لخاسرين} واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر ثنية الربيع أو الجرح الذي جرحت على حسب اختلاف الروايات في ذلك كتاب الله القصاص قال أبو محمد إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} وهذا الذي خوطبنا به نحن هو اللازم لنا ولم يأت نص عن أنه عليه السلام عنى غير هذه الآية أصلا فإن قال قائل فلعله عليه السلام إنما عنى بذلك قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} الآية وما علمكم بأنه عنى عليه السلام الآية التي تلوتم دون هذه فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن البرهان على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعن بقوله كتاب الله القصاص قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} أنه ليس في سورة التوراة قبول أرش وإنما الأرش في حكم الإسلام وفي الحديث المذكور أنهم قبلوا الأرش فصح أنه صلى الله عليه وسلم لم يعن قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم إذا رأى اليهود يصومون يوم عاشوراء نحن أولى بموسى منهم قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر بصيامه ولولا أن الله تعالى أمره بصيامه ما اتبع اليهود في ذلك وقد صح أنه كان يوما تصومه قريش في الجاهلية فصامه صلى الله عليه وسلم تبررا واحتجوا أيضا بأن قالوا لما كانت شريعة الأنبياء عليهم السلام حقا وجب اتباع الحق حتى يأتي ما ينقلنا عنه قال أبو محمد والجواب وبالله تعالى التوفيق إن تلك الشرائع وإن كانت حقا على الذين خوطبوا بها فلم تكتب قط علينا وليس ما كان حقا على واحد كان حقا على غيره إلا أن يوجبه الله تعالى عليه وإنما كتب علينا الإقرار بالأنبياء السالفين وبأنهم بعثوا إلى قومهم بالحق لا إلى كل أحد ولم يكتب علينا العمل بشرائعهم واحتجوا بدعائه صلى الله عليه وسلم بالتوراة يوم رجم اليهوديين وأنه عليه السلام سألهم ما تجدون في التوراة فلما أخبروه بالرجم وأنهم تركوه قال صلى الله عليه وسلم أنا أول من أحيا أمر الله تعالى قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هو تأويل سوء ممن تأوله لأنه صلى الله عليه وسلم بلا شك في شريعته المنزلة عليه قد أمر برجم من أحصن من الزناة وإنما دعا صلى الله عليه وسلم بالتوراة حسما لشغب اليهود وتبكيتا لهم في تركهم العمل بما أمروا به وإعلاما لهم بأنهم خالفوا كتابهم الذي يقرون أنه أنزل عليهم ومن قال إنه صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين اتباعا للتوراة لا لأمر الله تعالى له برجم كل من أحصن من الزناة في شريعته المنزلة عليه فقد كفر وفارق الإسلام وحل دمه لأنه ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم عصيان ربه فيما أمره به في شريعته المنزلة عليه إذ تركها واتبع ما أنزل في التوراة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 وقد أخبر تعالى أن اليهود يحرفون الكلم عن مواضعه فمن الكفر العظيم أن يقول من يدعي أنه مسلم إن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بكتاب قد أخبر أنه محرف ووالله إن العجب ليعظم ممن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم بما في التوراة في رجم يهوديين زنيا وهو يرفع نفسه الخسيسة عن هذا فيقول إن قدم إلي يهوديان زنيا لم أقم عليهما الحد ورددتهما إلى أهل دينهما فهو يترفع عما يصف به نبيه صلى الله عليه وسلم نبرأ إلى الله تعالى من نصر كل مذهب يؤدي إلى مثل هذه البوائق والكبائر وحسبنا الله ونعم الوكيل واحتجوا بما روي أنه صلى الله عليه وسلم سدل ناصيته كما يفعل أهل الكتاب ثم فرقها بعده وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء قال أبو محمد وهذا الحديث من أقوى الحجج عليهم لأنه نص فيه على أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء فصح أنه صلى الله عليه وسلم إنما كان يفعل ذلك في المباح له فعله وتركه مما لم ينه عنه ولا أمر به وهذا غير ما نحن فيه وإنما كلامنا في وجوب شرائعهم ما لم ننه عنها وفي سقوطها حتى نؤمر بها وأما الزي المباح وفرق الشعر وسدله فكل ذلك مباح حتى الآن فعله وتركه هذا كل ما احتجوا به قد أبطلنا شغبهم فيه وبالله تعالى التوفيق ونحن إن شاء الله تعالى ذاكرون البراهين المبينة قولنا المبطلة قولهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ويحيى بن يحيى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 واللفظ له قال أبو بكر نا هشيم ثنا سيار ثنا يزيد الفقير ثنا جابر وقال يحيى أنا هشيم عن سيار عن يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وذكر باقي الحديث وبه إلى مسلم ثنا قتيبة بن سعيد وعلي بن حجر قالا ثنا إسماعيل وهو ابن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فضلت على الأنبياء بست فذكرهن وفيها أرسلت إلى الخلق كافة قال أبو محمد هذا الحديث يكفي من كل شغب موه به المبطلون ويبين أن كل نبي قبل نبينا صلى الله عليه وسلم إنما بعث إلى قومه خاصة وإذا كان ذلك صح بيقين أن غير قومه لم يلزموا بشريعة نبي غير نبيهم فصح بهذا يقينا أنه لم يبعث إلينا أحد من الأنبياء غير محمد صلى الله عليه وسلم وإذ قد صح ذلك فقد قال تعالى {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من لأرض وستعمركم فيها فستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} {وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون} {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم عبدوا لله ما لكم من إله غيره قد جآءتكم بينة من ربكم فأوفوا لكيل ولميزان ولا تبخسوا لناس أشياءهم ولا تفسدوا في لأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين} وقال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم {ومآ أرسلناك إلا كآفة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر لناس لا يعلمون} وقال تعالى آمرا له أن يقول {قل يأيها لناس إني رسول لله إليكم جميعا لذي له ملك لسماوات ولأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بلله ورسوله لنبي لأمي لذي يؤمن بلله وكلماته وتبعوه لعلكم تهتدون} مخاطبا للناس كلهم وأمره تعالى أن يدعو الإنس والجن إلى الإيمان وقال تعالى {لتنذر قوما مآ أنذر آبآؤهم فهم غافلون} فصح أنهم لم يكونوا ملزمين شريعة أحد من الأنبياء وقال تعالى {يا أهل لكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم على فترة من لرسل أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير ولله على كل شيء قدير} فعلمنا أن الشرائع التي بعث بها موسى عليه السلام لم تلزم غير بني إسرائيل حاشا التوحيد وحده على ما بينا قبل وعلى ما بينه تعالى إذ يقول {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين} {قولوا آمنا بلله ومآ أنزل إلينا ومآ أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ولأسباط ومآ أوتي موسى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 وعيسى وما أوتي لنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل مآ آمنتم به فقد هتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم لله وهو لسميع لعليم} قال أبو محمد فصح بهذه الآية أيضا أن الذي تساوى فيه كل من ذكر الله من النبيين هو اللازم لنا وليس ذلك إلا التوحيد وحده وإلا فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أن شرائعهم كانت مختلفة فسقط عنا بذلك جميع شرائعهم إلا الذي سوى بينهم فيه وهو التوحيد فقط ومن ألزمنا شرائع الأنبياء قبلنا فقد أبطل فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وأكذبه في إخباره أنه لم يبعث نبي إلا إلى قومه خاصة حاشا لأن خصومنا يريدون منا اتباع شرائع من قبلنا فيوجبون بذلك أنهم مبعوثون إلينا وهذا الباطل والكذب ويبين هذا أيضا قوله تعالى {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم} وهذه صفة فعل الله تعالى الذي لم يزل حكمه موصوفا بها في خلقه في علمه وقال تعالى {أم كنتم شهدآء إذ حضر يعقوب لموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} قال أبو محمد هذه كافية في هذا الباب لأنه تعالى ما سوى بينهم فيه وهو عبادة الله تعالى وحده والإقرار بأنه الإله وحده ثم أخبرنا تعالى أنه لا يسألنا عما كان أولئك الأنبياء يعملون وإذا لم نسأل عن عملهم فقد تيقن كل ذي حس سليم أن ما لا نسأل عنه فإنه غير لازم لنا ولو كان لنا لازما لسئلنا عنه فصح بهذا كله ما ذكرنا وهي براهين ضرورية لا محيد عنها وأعمالهم هي شرائعهم التي بعثوا بها فقد سقط عنا بالنص طلبها وإذ سقط عنا طلبها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 فقد سقط عنا حكمها إذ لا سبيل إلى التزام حكم شيء إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بعد طلبه وبالله تعالى التوفيق وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا هذه بعينها ولسنا نقول إن إبراهيم بعث إلى الناس كافة وإنما نقول إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بالشريعة التي بعث تعالى بها إبراهيم عليه السلام إلى قومه خاصة دون سائر أهل عصره وإنما لزمتنا ملة إبراهيم لأن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث بها إلينا لا لأن إبراهيم عليه السلام بعث بها قال تعالى {ثم أوحينآ إليك أن تبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين} وقال تعالى {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من لمشركين} قال أبو محمد فانبلجت المسألة والحمد لله رب العالمين ونسخ الله تعالى عنا بعض شريعة إبراهيم كما نسخ أيضا عنا بعض ما كان يلزمنا من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ذبح الأولاد نسخ عنه عليه السلام كما نسخ عنا أيضا بقوله تعالى {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبلوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} وبقوله تعالى {وإذا لموءودة سئلت * بأى ذنب قتلت} وبقوله تعالى {قد خسر لذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم لله فترآء على لله قد ضلوا وما كانوا مهتدين} ونسخ الاستغفار للمشركين بقوله تعالى {وما كان ستغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم} وبقوله تعالى {ما كان للنبي ولذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب لجحيم} وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب بالاستغفار كما وعد إبراهيم عليه السلام أباه بالاستغفار حتى نهى الله تعالى كليهما عن ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 وأما قول إبراهيم عليه السلام لقومه إذ رأى الكوكب {فلمآ رأى لقمر بازغا قال هذا ربي فلمآ أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من لقوم لضالين} فإنما كانت تقريرا لهم تبكيتا لا استدلالا ومعاذ الله أن يقول إبراهيم بالعبودية لأحد دون الله تعالى ومن كان مثل إبراهيم سبقت له من الله تعالى سابقة علم في انتخابه للرساله والخلة لا يستدل بكبر الشمس على ربوبيتها وهو يرى الفلك أكبر منها فصح أن ذلك توبيخ لهم على فساد استدلالهم في عبادتهم للنجوم وأن هذا إنما هو كما قال {ذق إنك أنت لعزيز لكريم} أي عند نفسك في الدنيا وعند قومك المغرورين وإلا فهو في تلك الحال الدليل المهان وقال قوم متكلفون متنطعون ماذا كانت شريعة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينبأ قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن يقال لهم في نفس سؤالكم جوابكم وهو قولكم أن ينبأ وأن لم يكن نبيا فلم يكن مكلفا شيئا من الشرائع التي لم يؤمر بها ومن الهذيان أن يكون مأمورا بما لم يؤمر به فصح أنه لم يكن ألزم شيئا من الشريعة حاشا التوحيد اللازم لقومه من عهد إبراهيم عليه السلام لولده ونسله حتى غيره عمرو بن لحي وحاشا ما صانه الله تعالى عنه من الزنى وكشف العورة والكذب والظلم وسائر الفواحش والرذائل التي سبق في علم الله تعالى أنه سيحرمها عليه وعلى الناس لا إله إلا هو وقد قال قوم إن نوحا بعث إلى أهل الأرض كلهم قال أبو محمد وهذا خطأ لأنه تكذيب لقوله صلى الله عليه وسلم إن كل نبي حاشاه إنما بعث إلى قومه خاصة فصح أن نوحا عليه السلام كذلك ولا فرق وإنما غرق تعالى من غرق من غير قومه كما غرق الأطفال حينئذ وسائر الحيوان ويفعل ربنا تعالى ما شاء لا معقب لحكمه وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث وذكر صلى الله عليه وسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 جيشا يخسف بهم فقيل له يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم المكره وغيره فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم وإن عمهم العذاب في الدنيا فكل أحد يبعث على نيته يوم القيامة أو كلاما هذا معناه فليس في إهلاك الله تعالى من أهلك بالطوفان دليل على أن جميعهم بعث إليهم نوح بل نص القرآن مثبت أن نوحا عليه السلام لم يبعث إلى غير قومه البتة بقوله تعالى {إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} فمن ادعى أن قومه كانوا جميع أهل الأرض فقد كذب وقفا ما ليس له به علم وقد حرم ذلك بقوله {وآت ذا لقربى حقه ولمسكين وبن لسبيل ولا تبذر تبذيرا} ولا في النص أيضا أن جميع أهل الأرض هلكوا بالطوفان لا في القرآن ولا في الحديث الصحيح والله أعلم ولا علم لنا إلا ما علمنا والكذب والقول بغير علم لا يستسهله فاضل نعوذ بالله من الخذلان فإن تعلق متعلق بما حدثناه عن عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق المستملي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسحاق بن نضر ثنا محمد بن عبيد ثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال أنا سيد الناس يوم القيامة ثم ذكر صلى الله عليه وسلم صفة القيامة وفيه أن الناس يأتون نوحا فيقولون يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وذكر باقي الحديث قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس لك في هذا حجة لأنه لم يقل إلى جميع أهل الأرض وبعض أهل الأرض يقع عليه اسم أهل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 الأرض وما كنا لنستجيز تخصيص هذا العموم لولا ما ذكرنا قبل من رواية جابر وأبي هريرة وشهادتهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن كل نبي قبله إنما بعث إلى قومه خاصة حاشاه عليه السلام فإنه بعث إلى الناس كافة وفضل على جميع الأنبياء بذلك وقد قال قوم إن آدم عليه السلام بعث إلى ولده وهم أهل الأرض قاطبة في وقتهم بلا شك قال أبو محمد وهذا شغب لا يصح لأن الحديث الذي ذكرنا آنفا يبطل هذه الدعوى وقد أخبر عليه السلام في هذا الحديث أن نوحا أول من بعث إلى أهل الأرض وقد روى أن شيثا كان نبيا وإذا كان ذلك فليس آدم مبعوثا إليه فإن قال قائل ومن أين استجزت الاحتجاج في دفع بعث آدم إلى أهل الأرض بنبوة شيث ولم يأت في نص صحيح ولا في إجماع وأنت تنكر مثل هذا على غيرك قال أبو محمد فنقول له وبالله تعالى التوفيق وإنما قلنا ذلك لأنه قد صح عندنا بيقين أنه لم يبعث قط نبي إلى جميع الناس حاشا محمدا صلى الله عليه وسلم فمن قال إن آدم ونوحا أو غيرهما بعث إلى جميع الناس في زمانه فهو كاذب بلا شك مخالف لمحمد صلى الله عليه وسلم مبطل لفضيلته فلما صح ذلك عندنا علمنا أن آدم لا يخلو من أحد وجهين ضرورة لا ثالث لهما إما أن يكون معه نبي آخر لم يبعث آدم إليه أو يكون ولده لم يلزموا شريعة أبيهم آدم وقد ينبأ المرء في مهده كما نبىء عيسى عليه السلام فلعله قد ولد لآدم ولد نبىء في حين خروجه إلى الدنيا فلا يكون آدم مبعوثا إليه والله أعلم إلا أن اليقين الذي لا شك فيه أن آدم لم يبعث إلى جميع ناس عصره ولا ناس هنالك إلا هو وامرأته حواء وولده فقط وبالله تعالى التوفيق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرنا آنفا إن نوحا أول الرسل إلى أهل الأرض ولا شك في آدم رسول الله عز وجل فإن معناه عندنا والله أعلم أن رسالة آدم عليه السلام إنما كانت لأهل السماء قائلا لهم عن الله عز وجل {وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} ومنبئا لهم بأسمائهم ومسلما عليهم على ما جاء في القرآن والحديث الصحيح وإنه لم يبعث إلى أهل الأرض أصلا وأن أولاده وامرأته أوحي إليهم التوحيد ثم بعث إلى كل طائفة نبي منها ثم بعث نوح إلى قومه خاصة بشريعة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسل إلى أهل الأرض بالعذاب العام لهم ولجميع الحيوان بلا شك لا شريعة ألزموها فهذا موافق لما صح في القرآن من خبره عليه السلام وكل ما أرسله تعالى فبلا شك أنه إنما أرسله بأمر ما هذا ما لا بد منه فوجب أن يعرف بماذا أرسل إلى أهل الأرض فلم نجده إلا العذاب العام لكل من في الأرض ووجدنا النص قد جاء بإرساله إلى قومه خاصة بشريعته فصح الأمر ولله الحمد وبهذا تتألف الأحاديث كلها والقرآن وقد روينا في هذا الحديث تأويلا آخر عن قتادة والحكم وهو ما حدثناه أحمد بن عمر العذري ثنا أبو ذر عبد بن السرخسي قال ثنا إبراهيم بن خزيم قال ثنا عبد بن حميد قال حدثني يونس عن شيبان عن قتادة قال بعث نوح حين بعث الشريعة بتحليل الحلال وتحريم الحرام وبه إلى عبد قال حدثنا أبو نعيم ثنا ابن أبي غنية عن الحكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 قال جاء نوح بالشريعة بتحريم الأخوات والأمهات والبنات قال أبو محمد فتأول هذان الإمامان أن نوحا أول من بعث بالتحريم والتحليل والذي يظهر إلينا فالذي قدمنا أولا والله أعلم سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 الباب الرابع والثلاثون في الاحتياط وقطع الذرائع والمشتبه قال أبو محمد علي بن أحمد رحمه الله ذهب قوم إلى تحريم أشياء من طريق الاحتياط وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت واحتجوا في ذلك بما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني ثنا أبي نا زكريا عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال سمعته يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه وإن لكل مالك حمى وإن حمى الله محارمه وذكر باقي الحديث قال أبو محمد هذا الحديث روي بألفاظ كما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن كثير أنا سفيان عن أبي فروة عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال النبي صلى الله عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما شبه عليه في الإثم كان لما استبان أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 يواقعه حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى ثنا خالد بن الحارث ثنا ابن عون الشعبي قال سمعت النعمان بن بشير يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الحلال بين وإن الحرام بين وإن بين ذلك أمورا مشتبهات وسأضرب لكم في ذلك مثلا إن الله عز وجل ذكره حمى وإن حمى الله ما حرم وإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يرع فيه وإنه من يخالط الريبة يوشك أن يجسر قال أبو محمد هذا هو أبو فروة الأكبر وأما أبو فروة الأصغر فهو مسلم بن سالم الجهني وكلاهما كوفي ثقة فهذا حض منه صلى الله عليه وسلم على الورع ونص جلي على أن ما حول الحمى ليست من الحمى وأن تلك المشتبهات ليست بيقين من الحرام وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي على حكم الحلال بقول تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وبقوله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرمه فحرم من أجل مسألته وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه آنفا من طريق أبي فروة عن الشعبي أن هذا إنما هو مستحب للمرء خاصة فيما أشكل عليه وأن حكم من استبان له الأمر بخلاف ذلك وكذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي روينا آنفا من طريق ابن عون عن الشعبي بيانا جليا أن المخوف على من واقع الشبهات إنما هو أن يجسر بعدها على الحرام فصح بهذا البيان صحة ظاهره أن معنى رواية زكريا عن الشعبي التي يقول فيها وقع في الحرام أنه إنما هو على معنى آخر وهو كل فعل أدى إلى أن يكون فاعله متيقنا أنه راكب حرام في حالته تلك وذلك نحو ماءين كل واحد منها مشكوك في طهارته متيقن نجاسة أحدهما بغير عينه فإذا توضأ بهما جميعا كنا موقنين بأنه إن صلى صلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 وهو حامل نجاسة وهذا ما لا يحل وكذلك القول في ثوبين أحدهما نجس بيقين لا يعرف بعينه وسائر ألفاظ من ذكرنا على ما لا يتيقن فيه تحريم ولا تحليل وأما ما يوقن تحليله فلا يزيله الشك عن ذلك ولا معنى لقول من قال هذا على المقاربة كما قال الله تعالى {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} إذ لا خلاف في أن معنى هذا ليس في انقضاء العدة لكن إذا بلغ أجل العدة من الطلاق وهذا هو الذي لا يجوز غيره إذ لا يجوز صرف الآية عن ظاهرها بالدعوى ومن روى في حديث النعمان الذي ذكرنا لفظه أوشك فهو زائد على ما رواه زكريا فزيادة العدل مقبولة فكيف وقد زاد هذه اللفظة ومعناها من هو أجل من زكريا ومثله وهما ابن عون وأبو فروة وبهذا تتألف الأحاديث وطرقها ويصح استعمال جيمع أقوال الرواة وبالله تعالى التوفيق فإن تعلقوا بما حدثناه صاحبنا أحمد بن عمر بن أنس العذري قال أنا أحمد بن علي الكسائي بمكة أنا أبو الفضل العباس بن محمد بن نصر الوافقي ثنا هلال بن العلاء الرقي ثنا إبراهيم بن سعيد ثنا أبو النضر ثنا أبو عقيل عن عبد الله بن يزيد الدمشقي عن ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس كلاهما عن عطية السعدي وكانت له صحبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس فالقول في هذا الحديث كالقول في حديث النعمان سواء بسواء وإنما هو حض لا إيجاب وقد علمنا أن من لم يجتنب المتشابه وهو الذي لا بأس به فليس من أهل الورع وأهل الورع هم المتقون لأن المتقين جمع متق والمتقي الخائف ومن خاف مواقعه الحرام فهو الخائف حقا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 ولعمري إن أولى الناس ألا يحتج بهذا الحديث من يرى قول الله تعالى {وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين} ليس فرضا بل قالوا المتعة ليست بواجبة فقد صرحوا بأن كون المرء من المتقين ليس عليه بواجب لا سيما وفي هذا الحديث معنى الحض لا الإيجاب وفي الآية التي تلونا لفظ معنى الفرض بقوله تعالى {وللمطلقات متاع بلمعروف حقا على لمتقين} وكل مسلم لفظ بالتوحيد اتقى النار فهو متق إلا أن لفظ المتقين لا يطلق إلا على المستكملين لدرجة الخوف كما أن من صلح في فعلة واحدة من أفعاله فهو صالح ومن فعل فضلا فهو به فاضل إلا أنه بلا خلاف لا يطلق على المرء اسم صالح وفاضل إلا بعد أن يبلغ الغاية التي تمكنه من الطاعات والورع ومعاذ الله أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام المذكور إلا على هذا الوجه هذا إن صح عنه لأنه لو كان ظن خصومنا في هذا الحديث حقا لكان نصه عليه السلام على ترك ما لا بأس به أعظم الحكم بأنه من أعظم الناس لأن ما لا بأس به هو المباح فعله فكان على هذا الظن الفاسد يكون المباح محظورا وهذا فاسد لا يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يقوله إلا جاهل أو كافر لأنه ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إباحة الشيء للناس ونهيهم عنه في وقت واحد وهذا محال لا يقدر عليه أحد قال الله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وليس استباحة الشيء وإيجاب الامتناع منه في وقت واحد في وسع أحد فالله تعالى قد أكذب من ظن هذا الظن وصح أن معنى هذا الحديث لو صح إنما هو على الحض لا على الإيحاب فلو كان المشتبه حراما وفرضا تركه لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك لكنه حض على تركه وخاف على مواقعه أن يقدم على الحرام ونظر ذلك صلى الله عليه وسلم بالراتع حول الحمى فالحمى هو الحرام وما حول الحمى ليس من الحمى والمشتبهات ليس من الحرام وما لم يكن حراما فهو حلال وهذا في غاية البيان وهذا هو الورع الذي يحمد فاعله ويؤجر ولا يذم تاركه ولا يأثم ما لم يواقع الحرام البين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 وأما حديث عطية السعدي الذي ذكرنا آنفا فلا يظن أن فيه حجة لمن قال بالاحتياط وقطع الذرائع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين فيه الشيء الذي ليس به بأس الذي لا يكون العبد من المتقين إلا بأن يدعه فلو كان هذا الحديث صحيحا وعلى ظاهره لوجب به أن يجتنب كل حلال في الأرض لأن كل حلال فلا بأس به ولا يحص في ذلك الحديث أي الأشياء التي لا بأس بها لا يكون العبد من المتقين لا بأن يدعها فظهر وهي تلك الرواية وفيه أبو عقيل وليس بالمحتج به وصح أنه لو صح لكان على الورع فقط فإن تعلقوا بما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن حاتم بن ميمون ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن البر والإثم قال البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس وبما حدثناه أحمد بن محمد الجسوري ثنا أحمد بن الفضل الدينوري ثنا محمد بن جرير الطبري حدثني محمد بن عوف الطائي ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبي ثنا ضمضم عن شريح بن عبيد قال زعم أيوب بن مكرز أن غلاما من الأزد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه يسأله عن الحرام والحلال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الحلال ما اطمأنت إليه النفس وإن الإثم ما حاك في صدرك وكرهته أفتاك الناس ما أفتوك فالأول فيه معاوية بن صالح بالقوي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 وفي الثاني مجهولون وهو منقطع أيضا ومعاذ الله أن يكون الحرام والحلال على ما وقع في النفس والنفوس تختلف أهواؤها والدين واحد لا اختلاف فيه قال الله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} ومن حرم المشتبه وأفتى بذلك وحكم به على الناس فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى وخالف النبي صلى الله عليه وسلم واستدرك على ربه تعالى بعقله أشياء من الشريعة ويكفي من هذا كله إجماع الأمة كلها نقلا عصرا عن عصر أن من كان في عصره صلى الله عليه وسلم وبحضرته في المدينة إذا أراد شراء شيء مما يؤكل أو ما يلبس أو يوطأ أو يركب أو يستخدم أو يتملك أي شيء كان أنه كان يدخل سوق المسلمين أو يلقى مسلما يبيع شيئا ويبتاعه منه فله ابتياعه ما لم يعلمه حراما بعينه أو ما لم يغلب الحرام عليه غلبة يخفي معها الحلال ولا شك أن في السوق مغصوبا ومسروقا ومأخوذا بغير حق وكل ذلك قد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى هلم جرا فما منع النبي صلى الله عليه وسلم من شيء من ذلك وهذا هو المشتبه نفسه وقوله صلى الله عليه وسلم إذ سأله أصحابه رضي الله عنهم فقالوا إن أعرابا حديثي عهد بالكفر يأتوننا بذبائح لا ندري أسموا الله تعالى عليها أم لا فقال عليه الصلاة والسلام سموا الله وكلوا أو كلاما هذا معناه يرفع الإشكال جملة في هذا الباب وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر في من أطعمه أخوه شيئا أن يأكل ولا يسأل فنحن نحض الناس على الورع كما حضهم النبي صلى الله عليه وسلم ونندبهم إليه ونشير عليه باجتناب ما حاك في النفس ولا نقضي بذلك على أحد ولا نفتيه به فتيا إلزام كما لم يقض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحد وقد احتج بعضهم في هذا بقول الله تعالى {ياأيها لذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا نظرنا وسمعوا وللكافرين عذاب أليم} قالوا فنهوا عن لفظة {ياأيها لذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا نظرنا وسمعوا وللكافرين عذاب أليم} لتذرعهم بها إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الحديث الصحيح قد جاء بأنهم كانوا يقولون راعنا من الرعونة وليس هذا مسندا وإنما هو قول لصاحب ولم يقل الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إنكم إنما نهيتم عن قول راعنا لتذرعكم بذلك إلى قول راعنا وإذا لم يأت بذلك نص عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم في قول أحد دونه وقد قال بعض الصحابة في الحمر إنما حرمت لأنها كانت حمولة الناس وقال بعضهم إنما حرمت لأنها كانت تأكل القذر وكلا القولين غير صواب لأن الدجاج تأكل من القذر ما لا تأكل الحمير ولم يحرم قط صلى الله عليه وسلم الدجاج والناس كانوا أفقر إلى الخيل للجهاد منهم إلى الحمير وقد أباح صلى الله عليه وسلم أكل الخيل في حين تحريمه الحمير فبطل كلا القولين وهكذا من قال إن الله تعالى إنما نهى عن قول {وقولوا} لئلا يتذرعوا بها إلى قول راعنا فلا حجة في قوله لأنه أخبر عما عنده ولم يسند ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الآية حجة عليهم لا لهم لأنهم إذ نهوا عن راعنا وأمروا بأن يقولوا {وسمعوا} ومعنى اللفظين واحد فقد صح بلا شك أنه لا يحل تعدي ظواهر الأوامر بوجه من الوجوه وهذه حجة قوية في إبطال القول بالقياس وبالعلل وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإنما أمر الله تعالى في نص القرآن بأن لا يقولوا {وقولوا} وأن يقولوا {وسمعوا} المؤمنين الفضلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعظمين له الذي لم يعنوا بقول {وقولوا} قط الرعونة وأما المنافقون الذين كانوا يقولون {وقولوا} يعنون من الرعونة فما كانوا يلتفتون إلى أمر الله تعالى ولا يؤمنون به فظهر يقين فساد قولهم وتمويههم بهذه الآية وقالوا إنما منعنا من نكح في العدة ودخل بها أن ينكحها في الأبد لأنه استعجل نكاحها قبل أوانه قالوا وكذلك حرمنا القاتل الميراث لأنه استعجله قبل أوانه قال علي وهذه علة مفتقرة إلى ما يصححها لأنها دعوى فاسدة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 ويقال لهم ومن أين لكم أن من استعجل شيئا قبل أوانه حرم عليه في الأبد ثم لم يلبثوا أن تناقضوا أسخف تناقض فقالوا من تزوج امرأة ذات زوج فدخل بها فأتى زوجها لم تحرم عليه في الأبد بل له نكاحها إن طلقها زوجها أو مات عنها وهو قد استعجله قبل أوانه ويلزمهم أن من سرق مالا لغيره أن يحرم عليه في ملكه في الأبد لأنه استعجله قبل وقته وأن من قتل آخر أو تحرم عليه أمته في الأبد لأنه استعجل تحللها قبل أوانه ويلزمهم أيضا ألا يرث ولاء موالي من قتل لأنه استعجل استحقاقه قبل أوانه وأن من قتل لا يدخل في حبس معقب عليه بعد موت مقتوله وألا يرث من انتقل التعصيب له إليه بعد موت مقتوله وهذا كثير جدا فإن قالوا قد يمكن أن يموت هو قبل مقتوله قلنا وقد يموت هو قبل موت مقتوله باعتباط ونحو ذلك ولا فرق وأصحاب مالك يلزمون الطلاق ثلاثا من يشك أطلق ثلاثا أم أقل ويفرقون بين من طلق إحدى امرأتيه ثم لم يدر أيتهما المطلقة وبينهما معا فيطلقون كلتا امرأتيه ويحرمون حلالا كثيرا خوف مواقعة الحرام وفي هذا عبرة لمن اعتبر ليت شعري كما تشفقون في الاستباحة من مواقعة الحرام أما تشفقون في قطعهم بالتحريم وبالتفريق من مواقعة الحرام في تحريمهم ما لم يحرمه الله تعالى وقد علم كل ذي دين أن تحريم المرء ما لم يصح تحريمه عنده حرام عليه فقد وقعوا في نفس ما خافوا بلا شك ومن العجيب أن خوف الحرام أن يقع فيه غيرهم ولعله لا يقع فيه قد أوقعهم يقينا في مواقعتهم يقين الحرام لأنهم حرموا ما لم يحرمه الله تعالى ومحرم الحلال كمحلل الحرام ولا فرق والعجب كل العجب أنهم يحتاطون بزعمهم على هذا الذي جهل أي امرأتيه طلق خوف أن يواقع التي طلق وهو لا يعلمها فيكون قد أوقع حراما لا يعلمه بعينه ولا يتقون الله تعالى فيحتاطون على أنفسهم التي أمروا بالاحتياط عليها وقال لهم ربهم تعالى {يأيها لذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 هتديتم إلى لله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} فيحرمون عليه الثانية التي هي امرأته بلا شك ولم يطلقها قط فيخرجونها عن ملكه بغير إذن من الله تعالى ويبيحون فرجها لمن لا شك في أنه حرام عليه من سائر من يتزوجها من الناس وهي غير مطلقة ولا منفسخة ولا متوفى عنها فيقعون في أعظم مما صانوا عنه غيرهم لأن الشاك في الطلاق لو واقع ذلك الحرام لكان غير آثم لأنه لا يعلمه حراما بعينه وهم يبيحون شيئا لا شك في أنه حرام غير مباح وقد كان الأولى بهم ألا يقدموا على إباحة المرأتين اللتين لم يطلق إحداهما بلا شك للأجنبيين فصاروا محلين للفروج المحرمة بيقين وأيضا فإنهم حكموا بالطلاق على امرأة لم تطلق من أجل غيرها طلقت والله تعالى يقول {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} ولا يحل لأحد أن يحتاط في الدين فيحرم ما لم يحرم الله تعالى لأنه يكون حينئذ مفتريا في الدين والله تعالى أحوط علينا من بعضنا على بعض فالفرض علينا ألا نحرم إلا ما حرم الله تعالى ونص على اسمه وصفته بتحريمه وفرض علينا أن نبيح ما وراء ذلك بنصه تعالى على إباحة ما في الأرض لنا إلا ما نص على تحريمه وألا نزيد في الدين شيئا لم يأذن به الله تعالى فمن فعل غير هذا فقد عصى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأتى بأعظم الكبائر ثم عطفوا فأسقطوا الاحتياط وتعمدوا إلى إسقاط الواجب في رجل شهد عليه أربعة عدول بأنه أعتق خادمه هذه منذ عام كامل وهو منكر لذلك وهو مقر بوطئها فيحكمون بشهادتهم حين أدائها ولا يحدونه على وطء حرة بلا إنكاح فهذا غاية الإقدام على المحرمات فأين الاحتياط والعجب أنهم يكذبون الشهود إذ لم يحكموا بنص شهادتهم ولم يشهد القوم بأنها حررت الآن وإنما شهدوا أنها حررت منذ عام وكانوا غيبا إلى اليوم وفي هذا من السقوط والإقدام غير قليل ويقال لمن جعل الاحتياط أصلا يحرم به ما لم يصح بالنص تحريمه أنه يلزمك أن يحرم كل مشتبه يباع في السوق مما يمكن أن يكون حراما أو حلالا ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 توقن بأنه حلال ولا بأنه حرام ويلزمك أن تحرم معاملة من في ماله حرام وحلال وهم لا يقولون بشيء من ذلك وهذا نقض لأصولهم في الحكم بالاحتياط ورفع الذريعة والتهمة وقد تناقضوا في هذه المواضع وقال بعضهم محتجا لأصولهم في الحكم بالاحتياط إن الحرام يدخل بأرق سبب كتحريم الله تعالى نكاح ما نكح الآباء فحرم ذلك بالعقد وإن لم يكن وطىء قالوا وأما التحليل فلا يدخل إلا بأقوى الأسباب كتحليل المطلقة لزوجها ثلاثا لا تحل له بعقد زوج آخر حتى يطأ قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه وإنما اتبعنا في كلا الموضعين النصين الواردين فيهما وقولهم إن التحريم يدخل بأرق سبب والتحليل لا يدخل إلا بأغلظ سبب قول فاسد لا دليل عليه لأنه لم يأت به نص ولا اتفق على صحته ونحن نوجدهم تحريما لا يدخل بأغلظ سبب وهو أن الله تعالى حرم الربيبة التي دخل المرء بأمها وكانت في حجره فالربيبة لا تحرم إلا بما نص الله على تحريمها به ووجدناها باتفاق منا ومنهم لا تحرم بالعقد على أمها فقط ووجدنا التحليل في الأيمان المغلظة المعظمة باسم الله تعالى يدخل بإطعام عشرة مساكين أو بالاستثناء الذي هو كلمات يسيرة لا مؤونة فيها فإن قالوا إنما وجب هذان الحكمان بالنص قلنا لهم وكذلك تحريم ما نكح الآباء وتحليل المطلقة ثلاثة بوطء زوج آخر إنما وجبا بالنص لا بما ادعيتم من رقة سبب وغلظة ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم على نفسه ما أحل الله تعالى له فلم يحرم عليه بذلك ولا أغلظ من تحريم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدخل التحريم بذلك إذ لم يكن نزل بذلك عليه نص وتحلل من تلك اليمين بكفارة فدخل التحليل بأرق سبب وأهونه فبطل ما ادعوا من ذلك وأيضا فإن حجتهم بأن المطلقة لا تحل لزوجها الأول إلا بأغلظ سبب ثم أباحوها وأيضا فإن حجتهم بأن المطلقة لا تحل لزوجها الأول إلا بأغلظ سبب ثم أباحوها بالوطء دون الإنزال فقد نقضوا أصولهم في ذلك وأدخلوا التحليل بسبب رقيق لأن الحسن البصري وهو أحد الأئمة يقول لا تحل للأول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 إلا بأن يطأها الثاني وينزل وإلا فلا وجعل الإنزال تمام ذوق العسيلة وهم لا يقولون بذلك وأيضا فإنهم يبيحون للمرء نكاح من زنى بها أبوه ولا يحرمون عليه امرأته إن زنى بجريمتها فهنا لا يدخلون التحريم بأرق سبب بل بأغلظ سبب وهو المتفق عليه في وطء الحلال ويبيحون قتل المقر بالزنى مرة واحدة فيدخلون التحليل على الدم الحرام الذي هو أغلظ الحرمات بأرق سبب وغيرهم لا يبيح دمه إلا بإقرار أربع مرات يثبت عليها ولا يرجع عنها أصلا وكل هذا تناقض منهم وهدم لما أصلوه من أن التحريم يدخل بأرق الأسباب ولا يدخل التحليل إلا بأغلظ الأسباب ومما يبطل قولهم غاية الإبطال قول الله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} وقوله تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} فصح بهاتين الآيتين أن كل من حلل أو حرم ما لم يأت بإذن من الله تعالى في تحريمه أو تحليله فقد افترى على الله كذبا ونحن على يقين من أن الله تعالى قد أحل لنا كل ما خلق في الأرض إلا ما فصل لنا تحريمه بالنص لقوله تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فبطل بهذين النصين الجليين أن يحرم أحد شيئا باحتياط أو خوف تذرع وأيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من توهم أنه أحدث ألا يلتفت إلى ذلك وأن يتمادى في صلاته وعلى حكم طهارته هذا في الصلاة التي هي أوكد الشرائع حتى يسمع صوتا أو يشم رائحة فلو كان الحكم الاحتياط حقا لكانت الصلاة أولى ما احتيط لها ولكن الله تعالى لم يجعل لغير اليقين حكما فوجب بما ذكرنا أن كل ما تيقن تحريمه فلا ينتقل إلى التحليل إلا بيقين آخر من نص أو إجماع وكل ما تيقن تحليله فلا سبيل أن ينتقل إلى التحريم إلا بيقين آخر من نص أو إجماع وبطل الحكم باحتياط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 وصح أن لا حكم إلا لليقين وحده والاحتياط كله هو ألا يحرم المرء شيئا إلا ما حرم الله تعالى ولا يحل شيئا إلا ما أحل الله تعالى وبطل بهذا أن تطلق امرأة على زوجها إذ شك أطلقها أم لا لأنها زوجة بيقين فلا تحرم عليه إلا بيقين آخر من نص أو إجماع وبالله تعالى التوفيق نعم حتى لقد أداهم هذا الأصل الفاسد إلا أن حكموا في أشياء كثيرة بالتهمة التي لا تحل فأبطلوا شهادة العدول لآبائهم وأبنائهم ونسائهم وأصدقائهم تهمة لهم بشهادة الزور والحيف والحكم بالتهمة حرام لا يحل لأنه حكم بالظن وقد قال تعالى عائبا لقوم قطعوا بظنونهم فقال تعالى {بل ظننتم أن لن ينقلب لرسول ولمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن لسوء وكنتم قوما بورا} وقال تعالى عائبا قوما قالوا {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} وقال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الظن أكذب الحديث قال أبو محمد فكل من حكم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد فقد حكم بالظن وإذا حكم بالظن فقد حكم بالكذب والباطل وهذا لا يحل وهو حكم بالهوى وتجنب للحق نعوذ بالله من كل مذهب أدى إلى هذا مع أن هذا المذهب في ذاته متخاذل متفاسد متناقض لأنه ليس أحد أولى بالتهمة من أحد وإذا حرم شيئا حلالا خوف تذرع إلى حر فليخص الرجال خوف أن يزنوا وليقتل الناس خوف أن يكفروا وليقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر وبالجملة فهذا المذهب أفسد مذهب في الأرض لأنه يؤدي إلى إبطال الحقائق كلها وبالله تعالى التوفيق فإن تعلق متعلق بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن الحارث إذ تزوج بنت أبي إهاب بن عزيز فأتت الأمة السوداء فقالت إني أرضعتكما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم دعها عنك كيف بك وقد قيل فهذا لا يقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد صح عنده وجوب الحكم بقول تلك الأمة السوداء والخبر إذا صح عند الحاكم والشهادة إذا ثبتت عنده لزمه أن يحكم بهما فإن قال قائل لم يكن ذلك من قول الأمة السوداء شهادة لوجهين أحدهما أنه لم تؤد ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أخبرت بذلك عقبة بن الحارث وليس حكم الشهادة إلا أن تؤدى عند الحاكم والوجه الثاني أنه صلى الله عليه وسلم قد قال إن شهادة المرأة نصف شهادة رجل فلا سبيل إلى تعدي هذه القضية ولا إلى أن تكون شهادة المرأة كشهادة رجل فكيف أن تكون كشهادة رجلين ولا سبيل إلى أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عقبة بأن يدع زوجه وينهاه عنها بالظن الذي قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكذب الحديث هذا ما لا يظنه مسلم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا سيما في الفراق بين الزوجين الذي عظمه الله تعالى بقوله عز وجل واصفا للسحرة {وتبعوا ما تتلوا لشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن لشياطين كفروا يعلمون لناس لسحر ومآ أنزل على لملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين لمرء وزوجه وما هم بضآرين به من أحد إلا بإذن لله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن شتراه ما له في لآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون} فإذ قد بطل أن يكون حديث الأمة السوداء شهادة أو حكما بالظن فلم يبق إلا أنه خبر صدقه النبي صلى الله عليه وسلم وعلم صحته فقضى به قيل له أما قولك لم تؤده عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أدى شهادتهما بذلك وقولها إليه صلى الله عليه وسلم الثقة وهو المقول له ذلك وشهادة واحدة على شهادة واحدة عندنا جائزة وأما قولك أنه صلى الله عليه وسلم قال شهادة المرأة نصف شهادة الرجل فنعم وهو صلى الله عليه وسلم القائل لما ذكرت وهو القائل لعقبة بن الحارث دعها عنك فهو صلى الله عليه وسلم أمره بفراقها بشهادة السوداء فالمرأة الواحدة مقبولة في هذا المكان بهذا الحديث وأما في سواه فامرأتان مقام رجل بالنص الآخر الذي ذكرت ولا يحل ترك أحدهما للآخر هذا على أن المالكيين الحاكمين باحتياط وقطع الذرائع في العظائم التي لم يأذن بها الله تعالى لا يحكمون بقول امرأة لزوج وامرأته إني قد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 أرضعتكما ولا يفرقون بينهما بذلك فهم يخالفون النصوص كما ترى حيث كان يكون لهم فيه متعلق ويفرقون بالاحتياط حيث لم يأت فيه نص يتعلق به متعلق وبالله التوفيق فإن احتجوا بما حدث أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري أنا الحسن بن أحمد بن فراس ثنا أحمد بن محمد بن سهل المعروف ببكير بن الحداد ثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي ثنا عمرو بن محمد العثماني ثنا إسماعيل بن أبي أويس عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل مشكل حرام وليس في الدين إشكال فهذا حديث لا تقوم به حجة لضعف سنده لأن حسين بن عبد الله ضعيف وأبوه وجده غير مشهورين في أصحاب النقل وأما كل أشياء أو شيئين أيقنا أن فيهما حراما لا نعلمه بعينه فحكمهما التوقف أو ترك التوقف على ما قد قسمناه في غير هذا الموضع حتى يتبين الحرام من الحلال لأن هذا المكان فيه يقين حرام يلزم اجتنابه فرضا وهذا بخلاف المشكوك فيه الذي لا يقين فيه أصلا حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا سفيان الثوري عن أبيه عن تميم بن سلمة عن ابن عمرة قال إن الله يحب أن يؤتى مياسره كما يحب أن تؤتى عزائمه قال فذكرت ذلك لعبد الرحمن الرحال فقال قال ابن عباس إن الله يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن يؤتى حده وبه نصا إلى عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن مالك بن الحارث عن عمرو بن شرحبيل قال قال عبد الله بن مسعود إن الله يحب أن تؤتى مياسره كما يحب أن تؤتى عزائمه قال أبو محمد فهذا يبين أنه لا يجوز التحري في اجتناب ما جاء عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وإن كانت رخصة وأن كل ذلك حق وسنة ودين فبطل ما تعلقوا به من الاحتياط الذي لم يأت به نص ولا إجماع وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل الباب الخامس والثلاثون في الاستحسان والاستنباط في الرأي وإبطال كل ذلك قال أبو محمد رحمه الله إنما جمعنا هذا كله في باب واحد لأنها كلها ألفاظ واقعة على معنى واحد لا فرق بين شيء من المراد بها وإن اختلفت الألفاظ وهو الحكم بما رآه الحاكم أصلح في العاقبة وفي الحال وهذا هو الاستحسان لما رأى برأيه من ذلك وهو استخراج ذلك الحكم الذي رآه قال المالكيون بالاستحسان في كثير من مسائلهم روى العتبي محمد بن أحمد قال ثنا أصبغ بن الفرج قال سمعت ابن القاسم يقول قال مالك تسعة أعشار العلم الاستحسان قال أصبع بن الفرج الاستحسان في العلم يكون أغلب من القياس ذكر ذلك في كتاب أمهات الأولاد من المستخرجة وأما الحنفيون فأكثروا فيه جدا وأنكره الشافعيون وأنكره من أصحاب مذهب أبي حنيفة أحمد بن محمد الطحاوي فأما القائلون به فإننا نجدهم يقولون في كثير من مسائلهم إن القياس في هذه المسألة كذا ولكنا نستحسن فنقول غير ذلك قال أبو محمد واحتج القائلون بالاستحسان بقول الله عز وجل {لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 قال أبو محمد وهذا الاحتجاج عليهم لا لهم لأن الله تعالى لم يقل فيتبعون ما استحسنوا وإنما قال عز وجل {إن تكفروا فإن لله غني عنكم ولا يرضى لعباده لكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات لصدور} وأحسن الأقوال ما وافق القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم هذا هو الإجماع المتيقن من كل مسلم ومن قال غير هذا فليس مسلما وهو الذي بينه عز وجل إذ يقول {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ولم يقل تعالى فردوه إلى ما تستحسنون ومن المحال أن يكون الحق فيما استحسنا دون برهان لأنه لو كان ذلك لكان الله تعالى يكلفنا ما لا نطيق ولبطلت الحقائق ولتضادت الدلائل وتعارضت البراهين ولكان تعالى يأمرنا بالاختلاف الذي قد نهانه عنه وهذا محال لأنه لا يجوز أصلا أن يتفق استحسان العلماء كلهم على قول واحد على اختلاف هممهم وطبائعهم وأغراضهم فطائفة طبعها الشدة وطائفة طبعها اللين وطائفة طبعها التصميم وطائفة طبعها الاحتياط ولا سبيل إلى الاتفاق على استحسان شيء واحد مع هذه الدواعي والخواطر المهيجة واختلافها واختلاف نتائجها وموجباتها ونحن نجد الحنفيين قد استحسنوا ما استقبحه المالكيون ونجد المالكيين قد استحسنوا قولا قد استقبحه الحنفيون فبطل أن يكون الحق في دين الله عز وجل مردودا إلى استحسان بعض الناس وإنما كان يكون هذا وأعوذ بالله لو كان الدين ناقصا فأما وهو تام لا مزيد فيه مبين كله منصوص عليه أو مجمع عليه فلا معنى لمن استحسن شيئا منه أو من غيره ولا لمن استقبح أيضا شيئا منه أو من غيره والحق حق وإن استقبحه الناس والباطل باطل وإن استحسنه الناس فصح أن الاستحسان شهوة واتباع للهوى وضلال وبالله تعالى نعوذ من الخذلان وقد روى الفتيا بالرأي في مسائل عن الصحابة فإن قال قائل إذ قد ظهر الفتيا بالرأي في الصحابة فقد أجمعوا على الرضا به قيل له وبالله تعالى التوفيق ليس كما تقول بل لو قال قائل إنهم رضي الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 عنهم أجمعوا على ذمه لكان مصيبا لأن الذين روى عنهم الفتيا منهم رضي الله عنهم مائة ونيف وثلاثون لا يحفظ التكثير منهم من الفتيا إلا عن عشرين ثم لا يحفظ عن أحد من هؤلاء المذكورين تصويب القول بالرأي ولا أنه دين ولا أنه لازم بل أكثرهم قد روي عنه ذم ما أخبر به من الرأي وعلى أي وجه أفتى به من أنه غير لازم ثم تعكس عليهم السؤال فنسألهم أعصم أحد من الخطأ بعد النبي صلى الله عليه وسلم فمن قولهم وقول جميع المسلمين إنه لم يعصم أحد من الخطأ بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من دونه يخطىء ويصيب فإذ الأمر كذلك أفيسوغ لأحد أن يقول إنهم قد أجمعوا على الخطأ وأراد تصحيح الخطأ بذلك وهذا ما لا يقوله أحد وإنما يكون الإجماع صحيحا إذا أجمعوا على صحة القول بشيء ما ولم يصحح قط أحد منهم القول بالرأي وأيضا فإنه ليس منهم أحد أفتى برأيه في مسألة إلا وقد أفتى غيره فيها بنص رواه أو موافق لنص فإذ الأمر كذلك فإن الواجب عرض تلك الأقوال على القرآن والسنة فالقرآن والسنة يشهدان بصحة قول من وافق قوله النص لا من قال برأيه وبالله تعالى التوفيق واحتجوا في الاستحسان بقول يجري على ألسنتهم وهو ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وهذا لا نعلمه ينسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلا وأما الذي لا شك فيه فإنه لا يوجد البتة في مسند صحيح وإنما نعرفه عن ابن مسعود كما حدثنا المهلب التميمي عن محمد بن عيسى بن مناس عن محمد بن مسرور عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني عبد الله بن يزيد عن عبد الرحمن بن عبد الله عتبة عن عاصم بن بهدلة عن شقيق عن عبد الله بن مسعود فذكر كلاما فيه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 قال أبو محمد وهذا لو أتى من وجه صحيح لما كان لهم فيه متعلق لأنه إنما يكون إثبات إجماع المسلمين فقط لأنه لم يقل ما رآه بعض المسلمين حسنا فهو حسن وإنما فيه ما رآه المسلمون فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن وليس ما رآه بعض المسلمين بأولى بالاتباع مما غيرهم من المسلمين ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده وبفعل شيء وتركه معا وهذا محال لا سبيل إليه ثم يقال لهم ما معنى قولكم الاستحسان في هذه المسألة وجه كذا فجوابهم في ذلك أحد جوابين أحدهما ما كانوا عليه فيما قارب عصر أبي حنيفة ومالك وهو الذي يرونه أحوط أو أخف أو أقرب من العادة والمعهود أو أبعد من الشناعة وهذا كله بالجملة راجع إلى ما طابت عليه أنفسهم وهذا باطل بقوله تعالى {وأما من خاف مقام ربه ونهى لنفس عن لهوى * فإن لجنة هي لمأوى} {ومآ أبرىء نفسي إن لنف 4 س لأمارة بلسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} وبقوله تعالى {بل تبع لذين ظلموا أهوآءهم بغير علم فمن يهدي من أضل لله وما لهم من ناصرين} وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} وفي هذه الآي إبطال أن يتبع أحد ما استحسن بغير برهان من نص أو إجماع ولا يكون أحد أحوط على العباد المؤمنين من الله خالقهم ورازقهم وباعث الرسل إليهم والاحتياط كله اتباع ما أمر الله تعالى به والشناعة كلها مخالفته ولا مني لما نافرته قلوب لم تعتده وهذا كله ظنون فاسدة لا تجوز إلا عند من لم يتمرن بمعرفة الحقائق ولا حسن إلا ما أمر الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم أو أباحاه ولا قبيح ولا شنيع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 إلا ما نهى عنه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وجواب لهم ثان أجاب به الكرخي وهو أن قال هو أدق القياسين قال أبو محمد وهذا القول يبطله كل ما نورده إن شاء الله في باب إبطال القياس من ديواننا هذا وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم إن كان ههنا قياس يوجب ترك قياس آخر ويضاده ويبطله فقد صح بطلان دلالة القياس بإقراركم وصح بالبرهان الضروري إبطال القياس كله جملة بهذا العمل لأن الحق لا يتضاد ولا يبطل بعضه بعضا ولا يضاد برهان برهانا أبدا لأن معنى المضاد أن يبطل أحد المعنيين الآخر والشيء إذا أبطله الحق فقد بطل والباطل لا يكون حقا في حال كونه باطلا وإذا أبطل بعض الشيء بعضا فواجب أن يكون كله باطلا لما قلنا من أن الحق لا يبطل بعضه بعضا فإذا شهد بعض القياس عندكم بإبطال بعض قياس آخر فنوع القياس كله متفاسد مبطل بعضه بعضا فهو كله باطل فإن قالوا إن الحديث ينقض بعضه بعضا وكذلك الآي على سبيل النسخ وكذلك النظر وليس ذلك دليلا على بطلان جميع القرآن والحديث والنظر قال أبو محمد فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق هذا تمويه شديد ولا يجوز أن تبطل آية آية أخرى ولا حديث حديثا آخر إلا من طريق النسخ أو يكون أحد الحديثين ضعيف النقل فليس داخلا حينئذ فيمال أمرنا بطاعته وكذلك النظر لأن النظر الصحيح إنما هو البرهان وإنما تأتي أغاليط وشبه بظن قوم أنها برهان وليست برهانا فليس هذا داخلا في النظر وليس ما قلتم في القياسين من هذا الباب في شيء لأن القياس ليس فيه ناسخ ولا منسوخ ولا قلتم إن أحد القياسين مموه ليس قياسا بل قلتم هما معا قياس فاستحسنا أدقهما فتركتم أحد القياسين وأبطلتموه وأنتم تقرون أنه قياس وإذا كان بعض النوع باطلا فهو كله باطل ولا يجوز أن يجمع الحق والباطل نوع واحد أبدا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 ولا يظن القائلون بإبطال الاستحسان الهاربون إلى القول بترجيح العلل وتغليب كثرة الأشباه أنهم يتخلصون من هذا الإلزام بما فزعوا إليه لأنهم على كل حال قد أبطلوا العلة المرجح عليها الأخرى وأبطلوا حكم الأشباه القليلة ولم يوجبوا بها حكما ولا صححوا بها قياسا بل حكموا بأن العلل يبطل بعضها بعضا وأن بعض الأشباه لا يحكم به ولا من أجله يحكم به ولا من أجله بحكم واحد ولا يوجب الاشتباه اتفاقا في الحكم بالتشابه وبالعلل وبطل بذلك القول بالقياس جملة لأن كل طريق من الجدال أبطل بعضه بعضا وكذب بعضه بعضا وتناقض وتفاسد فهو كله فاسد باطل والحق لا يعارض الحق أبدا ولا يقوم دليل على صحة ضدين في معنى واحد أبدا وقد اعترف مالك رحمه الله بالحق في هذا وبرىء ممن قلده كما حدثنا رجل من أصحابنا اسمه عبد الرحمن بن سلمة قال ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد بن سعد ثنا عبد الله بن يونس المرادي من كتابه نا بقي بن مخلد نا سحنون والحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك أنه كان يكثر أن يقول إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين قال أبو محمد ونحن نقول لمن قال بالاستحسان ما الفرق بين ما استحسنت أنت واستقبحه غيرك وبين ما استحسنه غيرك واستقبحته أنت وما الذي جعل أحد السبيلين أولى بالحق من الآخر وهذا ما لا انفكاك منه وبالله تعالى التوفيق وأما الاستنباط فإن أهل القياس ربما سموا قياسهم استنباطا وهو مأخوذ من أنبطت الماء وهو إخراجه من الأرض والتراب والأحجار وهو غيرها فالاستنباط هو استخراج الحكم من لفظ هو خلاف لذلك الحكم وهذا باطل ومن العجب أنه احتجوا في ثباته بقول الله عز وجل {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} وهذا من عظيم مجاهرتهم الدالة على رقة دين من احتج بهذا في إثبات الاستنباط غشا لمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 اعتبر به وتلبيسا على من أحسن الظن بكلامه وهذه الآية مبطلة الاستنباط بلا شك لأن لو في كلام العرب الذي نزل به القرآن حرف يدل على امتناع الشيء لا امتناع غيره فنص تعالى على أن المستنبطين لو ردوه إلى الرسول وإلى أهل العلم الناقلين لسنن النبي صلى الله عليه وسلم لعلموا الحق فلم يردوه واتكلوا على استنباطهم فلم يعلموا الحق هذا شيء ظاهر لا يجوز أن يحتمل تأويلا غير ما ذكرنا ولا حجة أعظم في إبطال الاستنباط من هذه الآية لو أنصفوا أنفسهم وقد قال بعضهم إن الضمير في قوله تعالى راجع إلى الرسول وإلى أولي الأمر لا إلى الضمير الذي في قال أبو محمد وهذا ليس بمخرج للفظ الآية عن إبطال الاستنباط الذي يريدون نصره لأنه إن كان كما ذكروا فمعنى الآية حينئذ إنهم لو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم الحق الذين يستنبطونه أي يستخرجون علمه من عند الرسول وأولي الأمر قال أبو محمد وهذا قولنا لا قولهم لأن كل قول أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الإجماع فهو حق بلا شك وإنما ينكر عليهم أن يستخرجوا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومن إجماع الأمة معنى لا يفهم من مسموع ذلك الكلام ولا يقتضيه موضوعه في اللغة العربية فهذا الذي راموا نصره وخالفناهم فيه لا ما أخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأئمة الناقلين للحكم عنه صلى الله عليه وسلم ومن استجاز مثل هذا التمويه في دين الإسلام فلا يستجيزه من له دين أو حياء فإن تعلقوا بحديث رويناه عن عمر في سبب نزول هذه الآية وفيه أن عمر قال فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الأمر فلا حجة لهم فيه بل هو عليهم لا لهم وهو حديث حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم حدثني زهير بن حرب نا عمر بن يونس الحنفي ثنا عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 حدثني عبد الله بن العباس حدثني عمر بن الخطاب فذكر حديث إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه وأن عمر قال فقلت يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء فإن كنت طلقتهم فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك وقلما تكلمت وأحمد الله بكلام إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول ونزلت الآية آية التخيير {إن تتوبآ إلى لله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا} قال عمر فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت هذه الآية {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} قال عمر فكنت أنا الذي استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله عز وجل آية التخيير قال أبو محمد وقبل كل شيء فهذا اللفظ إنما روي من هذه الطريق وفيها عكرمة بن عمار وهو منكر الحديث جدا وقد روينا من طريقه حديثا موضوعا مكذوبا من طريق هذا الإسناد نفسه عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل عن ابن عباس وهكذا لا شك فيه ليس في سنده أحد متهم غيره وهذا الحديث الذي فيه أن أبا سفيان بن حرب بعد إسلامه كان المسلمون يجتنبونه وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج ابنته أم حبيبة وأن يستكتب ابنه معاوية وأن يستعمله يعني نفسه ويوليه قال أبو محمد وهذا هو الكذب البحت لأن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة كان وهي بأرض الحبشة مهاجرة وأبو سفيان كان بمكة قبل الفتح بمدة طويلة ولم يسلم أبو سفيان إلا ليلة يوم الفتح ولأن الصحيح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 عنه صلى الله عليه وسلم قوله إنا لا نستعمل على عملنا من أراده روينا ذلك من طريق أبي موسى الأشعري فظهر كذب رواية عكرمة بن عمار بيقين لا إشكال فيه ولا يخلو ضرورة هذا الخبر من أن عكرمة بن عمار وضعه أو أخذه عن كذاب وضعه فدلسه هو إلى أبي زميل وكلتاهما مسقطة لعدالته مبطلة لروايته ثم لو صح وهو لا يصح لكان حجة عليهم لأن فيه أن آية التخيير نزلت يومئذ وهي مخالفة لرأي عمر واستنباطه فليس فيه صح إلا أن الذي استنبطه عمر ليس فيه ذكر التخيير لهن ولا أشار إليه ثم ليس فيه أيضا إلا أمر ظاهر منصوص عليه من قدرة الله تعالى أن يبدله خيرا منهن إن طلقن وهذا أمر ظاهر لا يجهله مسلم وأن الله تعالى معه والملائكة والمؤمنين وهذا أيضا متيقن يدريه كل مسلم قبل أن يقوله عمر وليس هذا هو الاستنباط الذي يشيرون إليه ونمنعه نحن من إخراج حكم في شرع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 الدين ليس له نص في قرآن ولا سنة فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة والحمد لله رب العالمين وأما الرأي فإنهم احتجوا في تصويب القول به بقول الله عز وجل {فبما رحمة من لله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ لقلب لانفضوا من حولك فعف عنهم وستغفر لهم وشاورهم في لأمر فإذا عزمت فتوكل على لله إن لله يحب لمتوكلين} وبقوله تعالى {ولذين ستجابوا لربهم وأقاموا لصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} ومن الحديث بالأثر الصحيح في مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين فيما يعملون به لوقت الصلاة قبل نزول الأذان فقال بعضهم نار وقال بعضهم بوق وقال بعضهم ناقوس وبما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس ثنا أبو داود ثنا عبد الله بن أحمد السرخسني ثنا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد نا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري وذكر حديث مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في القتال يوم الحديبية قال الزهري فكان أبو هريرة يقول ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاور لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا المهلب ثنا ابن مناس بن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب نا إبراهيم بن نشيط عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزم فقال تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي إلى ما أمرك به وبه إلى ابن وهب أخبرني عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عيسى الواسطي يرفعه قال ما شقي عبد بمشورة ولا سعد عبد استغنى برأيه حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا فرج بن فضالة نا محمد بن عبد الأعلى عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبيه قال جاء خصمان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي يا عمرو اقض بينهما قلت أولى بذلك مني يا نبي الله قال وإن كان قلت على ماذا أقضي قال إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة قال سعيد بن منصور وحدثناه فرج بن فضاله عن ربيعة بن يزيد عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه إن أصبت فلك عشرة أجور وإن أخطأت فلك أجر واحد حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي ثنا عبد الملك بن عمر الخولاني نا محمد بن بكر البصري نا أبو داود السجستاني نا حفص بن عمر نا شعبة عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال كيف تقضي إذا عرض لك القضاء قال أقضي بكتاب الله عز وجل قال فإن لم تجد في كتاب الله قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله قال أجتهد رأيي ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله قال أبو داود وثناه مسدد قال ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا شعبة ثنا أبو عون هو محمد بن عبيد الله الثقفي عن الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فذكر معناه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 كتب إلى يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري قال ثنا عبد الوارث بن سفيان ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني قال ثنا إبراهيم بن أبي الفياض البرقي الشيخ الصالح ثنا سليمان بن بزيغ الإسكندراني ثنا مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب قال قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم يمض فيه منك سنة قال اجمعوا له العالمين أو قال العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد ثنا عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال السلمي ثنا عبد الحميد بن بهرام ثنا شهر بن حوشب حدثني ابن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بني قريظة والنضير قال له أبو بكر وعمر يا رسول الله إن الناس يزيدهم حرصا على الإسلام أن يروا عليك زيا حسنا من الدنيا فانظر إلى الحلة التي أهداها لك سعد بن عبادة فالبسها فليرك اليوم المشركون أن عليك زيا حسنا قال أفعل وأيم الله لو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشورة أبدا ولقد ضرب لي ربي مثلا فأمثالكما في الملائكة كمثل جبريل وميكائيل فأما ابن الخطاب فمثله في الملائكة كمثل جبريل إن الله لم يدمر أمة قط إلا بجبريل ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ قال {وقال نوح رب لا تذر على لأرض من لكافرين ديارا} ومثل ابن أبي قحافة في الملائكة كمثل ميكائيل إذ يستغفر لمن في الأرض ومثله في الأنبياء كمثل إبراهيم إذ قال {رب إنهن أضللن كثيرا من لناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} ولو أنكما تتفقان لي على أمر واحد ما عصيتكما في مشاورة أبدا ولكن شأنكما في المشاورة شيء كمثل جبريل وميكائيل ونوح وإبراهيم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به من الحديث وقالوا قد جاء النص بوجوب طاعة أولي الأمر منا عموما فهو فيما قالوه برأيهم أيضا وقالوا قد اتفقنا على وجوب تقديم الإمام إذا مات الإمام ولا نص على إمام بعينه فثبت أنه إنما يقدم بالرأي والإمامة من قواعد الدين وذكروا عن الصحابة ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي حدثنا ابن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي ثنا سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة وأبو معاوية هو محمد بن خازم الضرير كلاهما عن الأعمش عن عمارة بن عميرة عن عبد الرحمن بن يزيد قال أكثر الناس على عبد الله بن مسعود يوما فقال إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك إن الله تعالى قدر أن بلغنا من الأمور ما ترون فمن عرض قضاء منكم بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله تعالى فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله تعالى وليس فيما يقضي به النبي صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى به الصالحون فاجتهد رأيه وليقل إني أرى وأخاف فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ثنا عبد الله بن يونس المرادي ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا بن أبي زائدة عن الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود مثله بتمامه وزاد فيه فإن أتاه أمر لا يعرفه فليقر ولا يستحي وبه إلى ابن أبي شيبة ثنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه كان إذا سئل عن أمر فكان في القرآن أخبر به فإن لم يكن في القرآن فكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر فإن لم يكن قال برأيه حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن المفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 فراس ثنا محمد بن علي بن زيد ثنا سعيد بن منصور ثنا سفيان بن عيينة حدثني عبيد الله بن أبي يزيد قال شهدت ابن عباس إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب الله تعالى قال به فإن لم يكن في كتاب الله عز وجل وحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال به وإن لم يكن في كتاب الله ولا حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخبر به عن أبي بكر وعمر واجتهد وقال برأيه وبه إلى سعيد بن منصور ثنا هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي قال لما بعث عمر شريحا على قضاء الكوفة قال انظر ما تبين لك من كتاب الله فاتبع فيه السنة وما لم يتبين في السنة فاجتهد فيه برأيك وبه إلى سعيد بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي قال كتب عمر إلى شريح إذا أتاك أمر في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به أئمة الهدى فإن لم يكن في كتاب الله عز وجل ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيما قضى به أئمة الهدى فأنت بالخيار إن شئت أن تجتهد رأيك وإن شئت أن تؤامرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلا خيرا لك حدثنا حمام ثنا الباجي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه إذا جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال فإن جاء أمر ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 صلى الله عليه وسلم فاقض بها فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به أئمة الهدى فإن لم يكن في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت إن شئت أن تجتهد رأيك وتقدم فتقدم وإن شئت أن تؤخر فتأخر ولا أرى التأخير إلا خيرا لك قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به ما نعلم لهم شيئا غيره وكله لا حجة لهم في شيء منه أما قوله تعالى {فبما رحمة من لله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ لقلب لانفضوا من حولك فعف عنهم وستغفر لهم وشاورهم في لأمر فإذا عزمت فتوكل على لله إن لله يحب لمتوكلين} وقوله عز وجل {ولذين ستجابوا لربهم وأقاموا لصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} فإن كل مخالف ومؤلف لا يمتري أن ذلك ليس في شرع شيء من الدين ولو أن أحدا يقول إن الصلاة فرضت برأي ومشورة أو قال ذلك في الصيام أو الحج أو في شيء من الدين لكان كاذبا آفكا كافرا مع ذلك وكيف يكون هذا مع قول الله تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} وقوله تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} وقوله تعالى {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} وقوله {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} فصح يقينا أنه لم يجعل الله قط إلى الصحابة تحريما ولا تحليلا فقد صح أنه لم يأمره الله تعالى قط بمشورتهم في شيء من الدين لا سيما مع قوله تعالى {فبما رحمة من لله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ لقلب لانفضوا من حولك فعف عنهم وستغفر لهم وشاورهم في لأمر فإذا عزمت فتوكل على لله إن لله يحب لمتوكلين} فصح أنه ليس في الآية التي شغبوا بها قبول رأيهم أصلا بل رد تعالى الأمر إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يعزم عليه مع التوكل على الله وكيف يسع مسلما أن يخطر هذا الجنون بباله مع قول الله عز وجل {وآعلموا أن فيكم رسول لله لو يطيعكم في كثير من لأمر لعنتم ولكن لله حبب إليكم لأيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم لكفر ولفسوق ولعصيان أولئك هم لراشدون} فكيف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 يجوز قبول رأي قوم لو أطاعهم لوقع العنت عليهم في أكثر الأمر أم كيف يدخل في عقل ذي عقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تجب عليه طاعة أصحابه هذا هو الكفر المحض والسخف البين بل طاعته هي الفرض عليهم التي لا يصح لهم إيمان إلا بها قال الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} ثم إن وجوه الحمق في هذه المقالة جملة بادية ليت شعري كيف كان يكون الأمر لو اختلفوا عليه في الشرع فإن قيل لا يلزم إلا باتفاقهم خرجنا إلى الكلام في الإجماع وبطل الكلام في الرأي وقد كتبنا في دعوى الإجماع ما فيه كفاية ولله تعالى الحمد وأيضا فلا فرق بين جواز شرع شريعة من إيجاب أو تحريم أو إباحة بالرأي لم ينص تعالى عليه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وبين إبطال شريعة شرعها الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بالرأي والمفرق بين هذين العملين متحكم بالباطل مفتر وكلاهما كفر لا خفاء به فصح يقينا أن الذي أمره الله تعالى بمشاورتهم فيه وغبطهم بأن يكون أمرهم فيه شورى بينهم إنما هو ما أبيح لهم التصرف فيه كيف شاؤوا فقط فتشاورهم من يولي على بني فلان وأي الطرق إلى من يغزو من القبائل أفضل وأسهل وآمن وأين يكون النزول فقط وهذا كمشاورة المرء منا جاره إلى أي خياط أدفع ثوبي وأي لون ترى لي أن أصبغه ومثل هذا ولا مزيد وقد يكون عند الصحابة من المعرفة بالطرق المسلوكة والمياه ما ليس عنده صلى الله عليه وسلم وأما ما لا يؤخذ من الدين إلا من الوحي فلا ولا كرامة لأحد بعده أن يكون لسواه حظ في ذلك معه ولا بعده وبالله تعالى التوفيق فظهر فساد تمويههم بالآيتين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 وأما المشاورة التي كانت قبل نزول الأذان فأعظم حجة عليهم أول ذلك أن الأمر حينئذ كان مباحا كل ما قالوه ولم ينزل في شيء منه إيجاب ولا تحريم وهذا لا ننكر فيه المشاورة إلى اليوم ثم إنه لم يأخذ صلى الله عليه وسلم في ذلك بشيء من آرائهم بل بما صوبه الوحي مما أريه في منامه عبد الله بن زيد ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان ما جاز الالتفات إلى رؤيا عبد الله بن زيد ولا إلى رؤيا غيره فصح أن آراءهم رضي الله عنهم لا يلزم قبولها فكيف أراء من بعدهم وأما الخبر عن أبي هريرة ما رأيت أحدا كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقب ذكرى الزهري لمشاورته صلى الله عليه وسلم أصحابه في القتال يوم الحديبية فهو نفس كلامنا هذا على أن كلا الخبرين مرسل لأن الزهري لم يلق أبا هريرة قط ولا سمع منه كلمة ولم ينكر أن يشاورهم في مكايد الحروب وتعجيلها وتأخيرها وأما الخبر الذي فيه ما الحزم فقال أن تستشير الرجل ذا الرأي ثم تمضي لما أمرك به فمرسل ثم هو بعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد يختلف عليك الرجلان ذوا الرأي فلأيهما تمضي حاش الله أن ينطق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الباطل وأما الخبر ما شقي عبد بمشورة فمرسل ولا حجة في مرسل ونحن لا ننكر المشورة في غير الدين كما أننا ننكر بل نكفر من يشاور أيصلي الخمس أم لا أيصوم رمضان أم لا ونقطع أن مسلما لا يخالفنا في هذا وأما حديث عمرو بن العاص فأعظم حجة عليهم لأن فيه أن الحاكم المجتهد يخطىء ويصيب فإذ ذلك كذلك فحرام الحكم في الدين بالخطأ وما أحل الله تعالى قط إمضاء الخطأ فبطل تعلقهم به وأما خبر علي فموضوع مكذوب ما كان قط من حديث علي ولا من حديث سعيد بن المسيب ولا من حديث يحيى بن سعيد ولا من حديث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 مالك ولم يروه قط أحد عن مالك إلا سليمان بن يزيع الإسكندراني وهو مجهول ولا يخلو ضرورة من أنه وضعه أو دلسه عمن وضعه وهذا خبر لا يحل لأحد أن يرويه والكذب لا يعجز عنه من لا يتقي الله تعالى وبرهان كذب هذا الحديث ووضعه أنه لا يجوز البتة أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم كلاما يصح نزول حكم في الدين بالناس لا قرآن فيه ولا بيان فيه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله صلى الله عليه وسلم دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاتركوه ومع قول الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فقد أخرج صلى الله عليه وسلم ما لم ينص فيه بأمر أو بنهي عن الفرض والندب والتحريم والكراهة وبأمره بترك ما لم يأمرنا أو ينهانا وأبقاه في جملة المباح المطلق فصار من المحال الممتنع وجود نازلة لا حكم لها في النصوص وأما حديث ابن غنم ففيه ثلاث بلايا إحداها أنه مرسل والثانية عبد الحميد بن بهرام وهو ضعيف والثالثة شهر بن حوشب وهو متروك ثم لو صح لما كان لهم فيه متعلق لأنه ليس فيه إلا قبول رأي أبي بكر وعمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 فقط لا قبول رأي غيرهما وهذا خلاف عمل أهل الرأي كلهم اليوم ثم فيه قبولهما إلا في لبس حلة وهذا مباح لا يمنع من قبول رأي خادم أو عبد أو جار إن شاء الذي أشير عليه بذاك ثم فيه اختلافهما فبطل التعلق برأي خالفه رأي آخر وأما احتجاجهم بوجوب طاعة أولي الأمر منا فقد قلنا في ذلك قبل بما أغنى وإنه لا يخلو رأيهم من أن يوجد فيه اختلاف بينهم أو لا يوجد فإن وجد اختلاف منهم فليس بعضهم يقول رأيه أولى من بعض وإن لم يوجد فيه اختلاف فقد قلنا إن القطع بأنه إجماع أولي الأمر باطل ممتنع لا سبيل إليه مع أن قول الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} مبطل لدعوى من ادعى أنه تعالى أمرنا بطاعتهم فيما ليس فيه نص أو في خلاف النص لأنه شرع شريعة لم يشرعها الله تعالى أو إبطال شريعة شرعها الله تعالى وكلا الأمرين كفر لا يجوز البتة إجماع العلماء عليه وقد يجوز الوهم في هذا على الطائفة فصح أننا إنما أمرنا بطاعتهم فيما بلغوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وأما ما قالوه في الإمامة فقد نص صلى الله عليه وسلم على أن الأئمة من قريش وأمرنا بأن نفي ببيعة الأول فالأول وأن نتعاون على البر والتقوى وأن نسمع ونطيع لمن قادنا بكتاب الله عز وجل فهذه صفة إذا وجدت في أي عين وجدت فطاعته واجبة بالنص لأنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من يأتي إلى يوم القيامة فلا معنى للأسماء المعلقة على أعيان الرجال في ذلك أصلا وهذا كالعتق في الكفارات والصدقة على المساكين وكالضحايا وغير ذلك من سائر الشريعة وكأمره تعالى في بني إسرائيل بذبح بقرة ولم يميز بقرة بعينها وإنما نرد الأحكام في الأنواع الجامعة للأشخاص ثم في أي شخص نفذ الحق فقد أجزأ وهذا لا خلاف فيه من أحد وكالنص على الماء فبأي ماء تطهر أجزأ وإنما يبطل الرأي في شرع الشريعة بما لا نص فيه فظهر تمويههم بهذا في الرأي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 وأما خبر معاذ فإنه لا يحل الاحتجاج به لسقوطه وذلك أنه لم يرو قط إلا من طريق الحارث بن عمرو وهو مجهول لا يدري أحد من هو حدثني أحمد بن محمد العذري ثنا أبو ذر الهروي نا زاهر بن أحمد الفقيه نا زنجويه بن محمد النيسابوري نا محمد بن إسماعيل البخاري هو مؤلف الصحيح فذكر سند هذا الحديث وقال رفعه في اجتهاد الرأي قال البخاري ولا يعرف الحارث إلا بهذا ولا يصح هذا نص كلام البخاري رحمه الله في تاريخه الأوسط ثم هو عن رجال من أهل حمص لا يدري من هم ثم لا يعرف قط في عصر الصحابة ولا ذكره أحد منهم ثم لم يعرفه أحد قط في عصر التابعين حتى أخذه أبو عون وحده عمن لا يدري من هو فلما وجده أصحاب الرأي عند شعبة طاروا به كل مطار وأشاعوه في الدنيا وهو باطل لا أصل له ثم قد رواه أيضا أبو إسحاق الشيباني عن أبي عون فخالف فيه شعبة وأبو إسحاق أيضا ثقة كما حدثنا حمام وأبو عمر الطلمنكي قال حمام نا أبو محمد الباجي نا عبد الله بن يونس نا بقي نا أبو بكر بن أبي شيبة وقال الطلمنكي نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور ثم اتفق ابن أبي شيبة وسعيد كلاهما عن أبي معاوية الضرير نا أبو إسحاق الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي هو أبو عون قال لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال يا معاذ بما تقضي قال أقضي بما في كتاب الله قال فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله قال أقضي بما قضي به نبيه صلى الله عليه وسلم قال فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه قال أقضي بما قضى به الصالحون قال فإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 جاءك أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيه ولا قضى به الصالحون قال أؤم الحق جهدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعل رسول رسول الله يقضي بما يرضى به رسول الله فلم يذكر أجتهد رأيي أصلا وقوله أؤم الحق هو طلبه للحق حتى يجده حيث لا توجد الشريعة إلا منه وهو القرآن وسنن النبي صلى الله عليه وسلم على أننا قد حدثنا أحمد بن محمد الله الطلمنكي نا أحمد بن عون الله نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري قال نا إسحاق بن راهويه قال قال سفيان بن عيينة اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول برأيه وأيضا فإنه مخالفون لما فيه تاركون له لأن فيه أنه يقضي أولا بما في كتاب الله فإن لم يجد في كتاب الله فحينئذ يقضي بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كلهم على خلاف هذا بل يتركون نص القرآن إما لسنة صحيحة وإما لرواية فاسدة كما تركوا مسح الرجلين وهو نص القرآن لرواية جاء بالغسل وكما تركوا الوصية للوالدين والأقربين لرواية جاءت لا وصية لوارث وكما تركوا جلد المحصن وهو نص القرآن لظن كاذب في تركه ومثل هذا كثير فكيف يجوز لذي دين أن يحتج بشيء هو أول مخالف له وبرهان وضع هذا الخبر وبطلانه هو أن من الباطل الممتنع أن يقول رسول الله فإن لم تجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله وهو يسمع قول ربه تعالى {تبعوا مآ أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أوليآء قليلا ما تذكرون} وقوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقوله تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} مع الثابت عنه صلى الله عليه وسلم من تحريم القول بالرأي في الدين من قوله صلى الله عليه وسلم فاتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا ثم لو صح لكان معنى قوله أجتهد رأيي إنما معناه أستنفذ جهدي حتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 أرى الحق في القرآن والسنة ولا أزال أطلب ذلك أبدا وأيضا فلو صح لكان لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون ذلك لمعاذ وحده فيلزمهم ألا يتبعوا رأي أحد إلا رأي معاذ وهم لا يقولون بهذا أو يكون لمعاذ وغيره فإن كان ذلك فكل من اجتهد رأيه فقد فعل ما أمر به وإذ الأمر كذلك فإن كل من فعل ما أمر به فهم كلهم محقون ليس أحد منهم أولى بالصواب من آخر فصار الحق على هذا في المتضادات وهذا خلاف قولهم وخلاف المعقول بل هذا المحال الظاهر وليس حينئذ لأحد أن ينصر قوله بحجة لأن مخالفه أيضا قد اجتهد رأيه وليس في الحديث الذي احتجوا به أكثر من اجتهاد الرأي ولا مزيد فلا يجوز لهم أن يزيدوا فيه ترجيحا لم يذكر في الحديث وأيضا فليس أحد أولى من أحد مع هذا فلكل واحد منا أن يجتهد برأيه فليس من اتبعوا أولى من غيره ومن المحال البين أن يكون ما ظنه الجهال في حديث معاذ لو صح من أن يكون صلى الله عليه وسلم يبيح لمعاذ أن يحلل برأيه ويحرم برأيه ويوجب الفرائض برأيه ويسقطها برأيه وهذا ما لا يظنه مسلم وليس في الشريعة شيء غير ما ذكرنا البتة وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقع فيه المشورة منه وفرق بينه وبين الدين كما حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا أبو بكر بن مفرج القاضي نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا عمرو بن علي نا عفان بن مسلم نا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع أصواتا فقال ما هذه الأصوات قالوا النخل يؤبرونه فقال لو لم يفعلوا لصلح فأمسكوا عنه فصار شيصا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إذا كان شيئا من أمر دنياكم فشأنكم وإن كان شيئا من أمر دينكم فإلي وبه إلى البزاز نا هدبة بن خالد نا جهاد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوتا في النخل فقال ما هذا قال يؤبرون النخل قال لو تركوها أصلحت فتركوها فصارت شيصا فأخبروه بذلك فقال أنتم أعلم بما يصلحكم في دنياكم وأما آخرتكم فإلي قال أبو محمد فهذه عائشة وأنس لم يدعا في روايتها إشكالا وأخبرا أنه صلى الله عليه وسلم أعلمنا أننا أعلم بما يصلحنا في دنيانا منه ففي هذا كان يشاور أصحابه وأخبرا أنه صلى الله عليه وسلم جعل أمر آخرتنا إليه لا إلى غيره وأمر الآخرة هو الدين والشريعة فقط فلم يجعل ذلك صلى الله عليه وسلم إلى أحد سواه وبطل بذلك رأي كل أحد وحرم القول بالرأي جملة في الدين وبالله تعالى التوفيق وهذا يبين معنى قول الله عز وجل {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} إنما هو في أمر الدين فكل ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من تحريم أو تحليل أو إيجاب فهو عن الله تعالى بيقين وما كان من غير ذلك فكما قلنا لقوله صلى الله عليه وسلم إذ قيل له حاضت صفية فقال عقري حلقي وكقوله صلى الله عليه وسلم إني اتخذت عند الله عهدا أيما امرىء سببته أو لعنته في غير كنهه أو جلدته فاجعلها له طهرة أو كما قال صلى الله عليه وسلم ومثل قوله صلى الله عليه وسلم لذي اليدين لم تقصر ولا نسيت وهذا يبين فساد قول من اعترض بمثل هذا على سائر أوامره صلى الله عليه وسلم ليردها ناطقا في ذلك بلسان أهل الإلحاد المعترضين في الإسلام ونعوذ بالله من الخذلان حدثنا أحمد بن عمرو العذري ثنا أبو ذر الهروي ثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ثنا إبراهيم بن خزيم الشاشي ثنا عبد الرزاق ثنا سفيان الثوري عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار قال عبد وحدثناه أيضا عبيد الله بن موسى وأبو نعيم وأبو سفيان الثوري الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار حدثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن مسلم نا أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزع الله العلم من صدور الرجال ولكن ينزع العلم بموت العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالا فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمذاني نا أبو إسحاق البلخي نا محمد بن يوسف الفربري نا محمد بن إسماعيل البخاري ثنا سعيد بن تليد نا ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن شريح وغيره وعن أبي الأسود عن عروة قال حج علينا عبد الله بن عمرو بن العاص فسمعته يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه انتزاعا ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون وأما ما رووه عن أبي مسعود من قوله فليجتهد رأيه فهو خبر لا يصح لأن محمد بن سعيد بن نبات حدثناه قال ثنا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن أبي عدي ثنا شعبة نا الأعمش عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير قال الأعمش أحسبه قال قال ابن مسعود لقد أتى علينا حين وما نسأل وما نحن هناك ثم ذكر بنصه فصح أن الأعمش شك فيه أهو عن ابن مسعود أم لا ثم لو صح لكان معناه فليجتهد رأيه أي ليجهد نفسه حتى يرى السنة في ذلك يبين هذا قوله في الخبر نفسه ولا يقل إني أخاف وأرى فنهاه عن أن يقول أرى وهذا نهي عن الفتيا بالرأي وكذلك قوله فيه نفسه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات فإنما أمره بالتورع والطلب فقط وأما الرواية عن عمر فإن فيها نصا تخييره بين اجتهد رأيه أو الترك ورأى الترك خيرا له فصح أنه لم ير القول بالرأي حقا لأن الحق لا خيار في تركه لأحد ثم هم مخالفون لما فيه أيضا مما ذكرنا من أنهم لا يبدؤون بالطلب في القرآن كما في ذلك الخبر ثم بالسنن بل يتركون القرآن لما يصح من السنن ولما لا يصح وهذا خلاف أمر عمر في ذلك الخبر فكيف يحتجون بشيء هم أول مخالف له هذا مع أن ظاهر ذلك الخبر الانقطاع وأما خبر عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس فليس فيه أن ابن عباس أخبر بذلك عن نفسه ولا أنه أمر به فإذا هو ظن من عبيد الله والثابت عن ابن عباس النهي عن تقليد أبي بكر وعمر ثم قصة خالفوا فيها ابن مسعود وعمر وابن عباس فلو صح هذا عنهم لكان كبعض ما خالفوهم فيه فليس بعض حكمهم أولى بالتقليد من بعض مثل ما صح عن عمر وابن مسعود وابن عباس من القول بأن من تسحر يرى أنه ليل فإذا به نهار فصومه تام ومثل قضائهم ثلاثتهم في اليربوع جفرة ومثل هذا كثير وأما ما رووه عن بعض الصحابة من الفتيا بالرأي فإنما أفتى منهم من أفتى برأيهم على سبيل الإخبار بذلك أو الصلح لا على أنه حكم بات ولا على أنه لازم لأحد فقال خصومنا إنما ذموا الرأي الذي يحكم به على غير أصل وأما الذي حكموا به فهو الرأي المردود إلى ما يشبه من قرآن أو سنة فقلنا لهم هذه دعوى منكم فإن وجدتم عن أحد منهم تصحيحا فلكم مقال وإلا فقد كذبتم عليهم فنظرنا فلم نجد قط عن أحد من الصحابة كلمة تصح تدل على الفرق بين رأي مأخوذ عن شبه لما في القرآن والسنة وبين غيره من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 الآراء إلا في رسالة مكذوبة عن عمر ووجدنا قولهم في ذمهم الرأي جملة وأنهم حكموا به على ما قلنا كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حارثة بن مضرب قال جاء ناس من أهل الشام إلى عمر بن الخطاب فقالوا إنا أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور فقال عمر ما فعله صاحباي قبل فأفعله فاستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال له علي هو حسن إن لم تكن جزية يؤخذون بها بعد راتبة قال أبو محمد فهذا نص ما قلنا من أنهم لا يرون ما حكموا فيه برأيهم أمرا راتبا وأيضا فقد روينا عنهما وعن غيرهما في إبطال الرأي آثارا أصح مما شغبوا به ولسنا نوردها احتجاجا بها إذ لا حجة في أحد إلا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في إجماع متيقن لا خلاف فيه وإنما نوردها لتلزمهم ما أرادوا إلزامنا وهو لازم لهم لأنهم يحتجون بمثله ومن جعل شيئا ما حجة في مكان ما لزمه أن يجعله حجة في كل مكان وإلا فهو متناقض متحكم في الدين بلا دليل حدثنا أحمد بن عمر ثنا أبو ذر الهروي نا عبد الله بن أحمد السرخسي نا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد ثنا أبو أسامة عن نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة قال قال أبو بكر الصديق أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد حدثنا محمد بن سعيد النباتي نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا ابن أبي عدي عن شعبة عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 الأعمش عن عبد الله بن مرة عن أبي معمر عن أبي بكر الصديق قال أية أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله برأيي أو بما لا أعلم حدثنا المهلب عن ابن مناس نا محمد بن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عمر بن الخطاب قال وهو على المنبر يا أيها الناس إنما الرأي إنما كان من رسول الله مصيبا لأن الله عز وجل كان يريه وإنما هو منا الظن والتكلف وبه إلى ابن وهب حدثنا عبد الله بن عياش عن ابن عجلان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب قال اتقوا الرأي في دينكم كتب إلي النمري حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي الباجي وعبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي القاضي قال أحمد نا أبي وقال القاضي نا سهل بن إبراهيم قال عبد الله الباجي وسهل ثنا أحمد بن فطيس نا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي نا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن مجالد عن الشعبي عن عمرو بن حريث قال قال عمر بن الخطاب إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا كتب إلي النمري أخبرنا محمد بن خليفة نا محمد بن الحسين البغدادي نا أبو بكر بن أبي داود نا محمد بن عبد الملك القزاز نا أبو مريم نا نافع بن يزيد عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 قال عمر بن الخطاب إياكم والرأي فإن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يعوها وتفلت منهم أن يحفظوه فقالوا في الدين برأيهم حدثنا المهلب عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الأعلى عن وهب أخبرني ابن لهيعة عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب قال أصبح أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يعوها وتفلتت أن يرووها فاستقوها بالرأي حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق بن السليم نا ابن الأعرابي ثنا أبو داود السجستاني ثنا أبو كريب محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث ثنا الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد خير عن علي بن أبي طالب قال لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر الخفين حدثنا عبد الله بن ربيع عن عبد الله بن محمد بن عثمان عن أحمد بن خالد عن علي بن عبد العزيز عن الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن قتادة قال قال علي القضاء ثلاثة رجل حاف فهو في النار ورجل اجتهد برأيه فأخطأ فهو في النار ورجل أصاب فهو في الجنة حدثنا حمام بن أحمد ثنا أبو محمد الباجي ثنا عبد الله بن يوسف ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا شبابة بن سوار عن شعبة عن قتادة قال سمعت رفيعا أبا العالية يقول قال علي بن أبي طالب القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل جار متعمدا فهو في النار ورجل أراد الحق فأخطأ فهو في النار ورجل أراد الحق فأصاب فهو في الجنة قال قتادة قلت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 لأبي العالية أرأيت هذا الذي أراد الحق فأخطأ قال كان حقه إذا لم يعلم القضاء أن يكون قاضيا حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس ثنا محمد بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا فرج بن فضالة عن مالك بن زياد قال سمعت عراك بن مالك وقال له عمر بن عبد العزيز يا عراك ما قولك في القضاة فقال يا أمير المؤمنين القضاة ثلاثة رجل ولي القضاء ولا علم له بالقضاء فأحل حراما وحرم حلالا فهو في النار على أم رأسه ورجل ولي القضاء وله علم بالقضاء فاتبع الهوى وترك الحق فهو في النار على أم رأسه ورجل ولي القضاء وله علم بالقضاء فاتبع الحق وترك الهوى فهو يستقام به ما استقام وإن هو مال سلك مسلك أصحابه قال أبو محمد وقد روي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روينا بالسند الصحيح المذكور إلى سعيد بن منصور نا خلف بن خليفة ثنا أبو هاشم قال لولا حديث ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار ورجل عرف الحق فخار فهو في النار لقلنا إن القاضي إذا اجتهد فليس عليه شيء نعم وعن عمر بن الخطاب كما روينا بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور نا يعقوب بن عبد الرحمن الزهري نا موسى بن عقبة قال خطب عمر بن الخطاب بالجابية فذكر الخطبة وفيها أن عمر قال ليس لهالك هلك معذرة في تعمد ضلالة حسبها هدى ولا في ترك حق حسبه ضلالا قال أبو محمد ليس هذا مخالفا لقول النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر لأن هذا فيمن لم يعرف بالحق وسائر ما ذكرنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 قيل فيمن عرف بالحق فلج مقدرا أنه على صواب مغلبا لظنه الكاذب على يقين ما جاءه من الهدى والنور ويه إلى سعيد بن منصور حدثنا خالد بن عبد الله عن أبي سنان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من أفتا فتيا يعمى بها فإنهما عليه يعني يخطىء فيها فيخطىء آخذها منه حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن أحمد بن مفرج نا سعيد بن السكن نا الفربري نا البخاري نا موسى بن إسماعيل نا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل قال قال سهل بن حنيف يا أيها الناس اتهموا آراء على دينكم لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا أبو العلاء عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري نا أبو أسامة عن مالك بن مغول عن أبي حصين عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال سمعت سهل بن حنيف بصفين يقول اتهموا آراءكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل لو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 حدثنا أحمد بن عمر ثنا أبو ذر نا عبد الله بن أحمد نا إبراهيم بن خزيم ثنا عبد بن حميد حسن بن علي الجعفي عن زائدة عن ليث عن بكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من جهنم حدثنا المهلب نا ابن مناس نا ابن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب أخبرني بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس قال من أحدث رأيا ليس في كتاب الله عز وجل لم تمض به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل حدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد الله الخشني نا محمد بن بشار نا يونس نا عبيد العمري ثنا مبارك بن فضالة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال يا أيها الناس اتهموا آراءكم على الدين فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي أجتهد والله ما آلو وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب فقال اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا نكتب باسمك اللهم فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت فقال يا عمر تراني قد رضيت وتأبى قال أبو محمد أما الرواية عن أبي بكر وعلي وسهل وابن عباس والتي تورد بعد هذا عن عمر وابن مسعود فصحاح ولا سبيل لهم إلى أن يأتوا برواية عن صاحب يثبت فيها التصويب للفتيا بالرأي فأن وجد يوما ما فتيا عن أحدهم برأي فلا بد من أن يوجد عنه التبرؤ من ذلك كما حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا علي بن حجر نا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أتاه قوم فقالوا إن رجلا منا تزوج امرأة ولم يفرض صداقا ولم يجمعها إليه حتى مات فقال عبد الله ما سئلت عن شيء مذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد علي من هذا فأتوا غيري فاختلفوا إليه فيها شهرا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 ثم قالوا له في آخر ذلك من نسأل وأنت أخيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد ولا نجد عندك قال سأقول فيها بجهد رأيي فإن كان صوابا فمن أتاه الله وحده لا شريك له وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريء فقد ذكر الحديث وفي آخره أنه رضي الله عنه إذ أخبر بالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بوفاق ما أفتى به فما رئي عبد الله فرح فرحه يومئذ إلا بإسلامه وبه إلى أحمد بن شعيب أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري ثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن عبد الله عن زائدة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود قالا أتى عبد الله بن مسعود في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها فتوفي قبل أن يدخل بها فقال عبد الله سلوا هل تجدون فيها أثرا وذكر باقي الحديث حدثنا محمد بن سعيد بن نبات عن عبد الله بن محمد بن قاسم القلعي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 نا محمد بن أحمد الصواف نا بشر بن موسى بن صالح الأسدي نا عبد الله بن الزبير الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة عن الأعمش عن مسلم بن صبيح هو أبو الضحى عن مسروق قال قال ابن مسعود يا أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل لم لا يعلم لا أعلم فإن الله علم المرء وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من لمتكلفين} قال أبو محمد هذا في غاية الصحة وكل ما رويناه الآن من ابن عمر وابن مسعود وابن عباس يبين مرادهم بقولهم فليجتهد رأيه لو صح ذلك عنهم وأنه ليس على القول في الدين بالرأي أصلا لكن بأن يجتهد حتى يرى الحق في القرآن والسنة حدثنا حمام نا الباجي نا عبد الله بن يونس نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن قتادة أن أبا موسى الأشعري قال لا ينبغي لقاض أن يقضي حتى يتبين له الحق كما يتبين له الليل عن النهار فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال صدق قال أبو محمد هذا يبين أنهم لم يجيزوا القول بالرأي الذي إنما هو ظن وبين أنهم كانوا يرون خبر الواحد يوجب العلم والقطع به ولا بد أخبرني محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا مؤمل بن إسماعيل الحميري نا سفيان الثوري نا أبو إسحاق الشيباني عن أبي الضحى عن مسروق قال كتب كاتب لعمر بن الخطاب هذا ما رأى الله ورأى عمر فقال عمر بئس ما قلت إن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 حدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا مجالد عن الشعبي عن مسروق قال قال عبد الله بن مسعود يذهب العلماء ويبقى قوم يقولون برأيهم قال الشعبي لعن الله أرأيت قال أبو محمد والله ما أفتى قط أحد من الصحابة رضي الله عنهم باجتهاد رأيه إلا كما ترى بعد أن يبحث عن السنة فتغيب عنه وهي عند غيره بلا شك ثم لا يجعل رأيه ذلك إلا مما يخاف الله تعالى فيه ويشفق منه ويتبرأ من التزامه وكذلك كان التابعون رحمهم الله فأتى اليوم ناس يجعلونه دينا يبطلون به كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من الخذلان وقد روينا أيضا عن ابن عمر كما نا المهلب نا ابن مناس أنا ابن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب أخبرني عمر بن الحارث أن عمرو بن دينار أخبره أن عبد الله بن عمر كان إذا لم يبلغه شيء في الأمر يسأل عنه قال إن شئتم أخبرتكم بالظن قال عمرو بن دينار أخبرني بذلك طاوس عنه قال أبو محمد وهذا سند في غاية الصحة وحدثنا يونس بن عبد الله نا يحيى بن مالك بن عائذ عبد الرحمن بن إسماعيل أبو عيسى الخشاب نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي نا يونس بن عبد الأعلى أنا ابن وهب أنا عمر بن الحارث قال قال لي عمرو بن دينار أخبرني طاوس عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن أمر لم يبلغه فيه شيء قال إن شئتم أخبرتكم بالظن قال أبو محمد كتب إلي يوسف بن عبد البر النمري قال ذكر أبو يوسف يعقوب بن شيبة نا محمد بن حاتم بن ميمون حدثني يعقوب بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 إبراهيم بن سعد الزهري نا أبي عن ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن الزبير قال أنا والله لمع عثمان بن عفان بالجحفة ومعه رهط من أهل الشام منهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج أن أتموا الحج وخلصوه في أشهر الحج فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل فإن الله قد أوسع في الخير فقال له علي عمدت إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورخصة رخص الله للعباد بها في كتابه تضيق عليهم فيها وتنتهي عنها وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار ثم أهل بعمرة وحج معا فأقبل عثمان على الناس فقال وهل نهيت عنها إني لم أنه عنها إنما كان رأيا أشرت به فمن شاء أخذه ومن شاء تركه كتب إلي النمري حدثنا أحمد بن سعيد نا ابن أبي دليم نا ابن وضاح نا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي نا ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء هو الخراساني عن أبيه قال أضعف العلم علم النظر أن يقول الرجل رأيت فلانا يفعل كذا ولعله قد فعله ساهيا كتب إلي النمري قال ذكر الحسن بن علي الحلواني نا عامر نا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال لم يكن أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلمأهيب لما لا يعلم مع أبي بكر ولم يكن أحد أهيب لما لا يعلم بعد أبي بكر من عمر وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله تعالى منها أصلا ولا في السنة أثرا فاجتهد رأيه ثم قال هذا رأيي فإن يكن صوابا فمن الله عز وجل وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 كتب إلي النمري قال قرأت على عبد الوارث بن سفيان أن قاسم بن أصبغ أخبرهم قال نا بكر بن حماد نا مسدد بن مسرهد نا يحيى بن سعيد القطان عن ابن جريج حدثني سليمان بن عتيق عن طلق بن حبيب عن الأحنف بن قيس عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون ألا هلك المتنطعون كتب إلي النمري حدثنا عبد الله بن محمد نا عبد الله بن محمد القاضي بالقلزم نا محمد بن إبراهيم بن زياد بن عبد الله الرازي نا الحارث بن عبد الله بهمدان نا عثمان بن عبد الرحمن الوقاص عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يعملون بالرأي فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا كتب إلي النمري حدثنا محمد بن خليفة نا محمد بن الحسين الآجري نا محمد بن الليث نا جبارة بن المغلس نا حماد بن يحيى الأبح عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تعمل بعد ذلك بالرأي فإذا أعملوا بالرأي ضلوا كتب إلي النمري أنا أبو زيد العطار نا علي بن محمد بن مسرور نا أحمد بن داود نا سحنون نا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر قال قال عمر بن الخطاب السنة ما سنه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا تجعلونه خطأ الرأي سنة للأمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 كتب إلي النمري حدثنا أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا الحسن بن إسماعيل المهندس ثنا عبد الملك بن بحر نا محمد بن إسماعيل نا سنيد داود نا يحيى بن زكريا هو ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي قال أتى زيد بن ثابت قوم فسألوه عن أشياء فأخبرهم بها فكتبوها ثم قالوا لو أخبرناه قال فأتوه فأخبروه فقال أغدرا لعل كل شيء حدثتكم خطأ إنما أجتهد لكم رأيي وبه نصا إلى سنيد نا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال قال لجابر بن زيد إنهم يكتبون ما يسمعون منك فقال إنا لله وإنا إليه راجعون يكتبون رأيا أرجع عنه غدا حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا بن وضاح نا ابن وهب عن الليث بن سعد قال إن ربيعة كتب إليه يقول أرى أن كل محبوسة منتظرة زوجا في غيبة إن نفقتها لها ورب من يكون لو حمل ذلك عليه لكانت فيه هلكة دنياه وذمته فالمرأة ذات الزوج في نفقتها حتى يقع ميراثها ويتبين هلاك زوجها وإن قائلا ليأثر عن بعض الناس بالمدينة غير ذلك وهذا رأينا والسنة أملك بذلك حدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد نا خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار بندار نا يحيى بن سعيد القطان نا صالح بن مسلم أن عامرا الشعبي قال له في مسألة من النكاح سأله عنها في حديث إن أخبرتك برأيي فبل عليه كتب إلي النمري حدثنا محمد بن خليفة نا محمد بن الحسين الأجري نا جعفر بن محمد الفريابي نا العباس بن الوليد بن مزيد أنا أبي سمعت الأوزاعي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 يقول عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول قال الفريابي وحدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول سمعت حماد بن زيد يقول قيل لأيوب السختياني ما لك لا تنظر في الرأي فقال أيوب قيل للحمار ما لك لا تجتر فقال أكره مضغ الباطل كتب إلي النمري حدثنا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير نا الحوطي نا إسماعيل بن عياش عن سوادة بن زياد وعمرو بن مهاجر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه إلى قاسم حدثنا ابن وضاح نا يوسف بن عدي نا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب قال قال الربيع بن خيثم إياكم أن يقول الرجل لشيء إن الله حرم هذا أو نهى عنه فيقول الله عز وجل كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه أو يقول إن الله تعالى أحل هذا وأمر به فيقول الله تعالى كذبت لم أحله ولم آمر به وكتب إلي النمري حدثنا محمد بن خليفة نا محمد بن الحسين الأجري نا أبو بكر بن أبي داود السجستاني نا أحمد بن سنان قال سمعت الشافعي يقول مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي قد عولج حتى برأ فأغفل ما يكون قد هاج به وبه إلى ابن أبي داود السجستاني قال سمعت أبي يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول لا تكاد ترى أحدا نظر في هذا الرأي إلا وفي قلبه دغل كتب إلي النمري حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني نا يوسف بن يعقوب النجيرمي بالبصرة أنا العباس بن الفضل سمعت سلمة بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 شبيب يقول سمعت أحمد بن حنبل يقول رأي الشافعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة الآثار كتب إلي النمري قال ذكر محمد بن حارث الخشني أنا أبو عبد الله محمد بن عثمان النحاس سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد بن الحداد يقول سمعت سحنون بن سعيد يقول ما أدري ما هذا الرأي سفكت به الدماء واستحلت به الفروج واستحقت به الحقوق غير أنا رأيناه رجلا صالحا فقلدناه كتب إلي النمري أنا عبد الرحمن بن يحيى ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى عن أبيه يحيى بن يحيى أنه كان يأتي بن وهب فيقول له من أين فيقول له من عند ابن القاسم فيقول له اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي قال أبو محمد فقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفتوا برأيهم على سبيل الإلزام ولا على أنه حق لكن على أنه ظن يستغفرون الله تعالى منه أو على سبيل صلح بين الخصمين فلا يحل لمسلم أن يحتج بشيء أتى عنهم على هذه السبيل وأما التابعون فقد ذكرنا منهم طرفا صالحا وحدثنا أيضا يونس بن عبد الله القاضي قال ثنا يحيى بن عائذ ثنا هشام بن محمد بن قرة عن أبي جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي ثنا إبراهيم بن مرزوق ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا أبو عقيل ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة أنه قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول للحسن بن أبي الحسن البصري وقد قصدته أنا والحسن فقال أبو سلمة للحسن بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفتي برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتابا منزلا وبه إلى الطحاوي حدثنا سليمان بن شعيب ثنا خالد بن عبد الرحمن ثنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 مالك بن مغول عن الشعبي قال ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا به وما كان من رأيهم فاطرحوه في الحش حدثنا أحمد بن عمر ثنا أبو ذر ثنا زاهر بن أحمد نا زنجويه بن محمد ثنا محمد بن إسماعيل البخاري نا محمد بن محبوب نا عبد الواحد نا الزبرقان بن عبد الله الأسدي أن أبا وائل شقيق بن سلمة قال له إياك ومجالسة من يقول أرأيت أرأيت قال أبو محمد وقد روينا عن الشعبي أنه قال قد ترك هؤلاء الأرأيتيون المسجد أبغض إلي من كناسة أهلي حدثنا عبد الرحمن بن سلمة صاحب لنا ثنا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد أخبرني محمد بن عمر بن لبابة أخبرني أبان بن عيسى بن دينار وكان فاضلا عن أبيه عن ابن القاسم عن مالك عن ابن شهاب قال دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي قال أبان وكان أبي قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي وأحب الفتيا بما روي من الحديث فأعجلته المنية عن ذلك حدثنا المهلب ثنا بن مناس نا ابن مسرور نا يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن أبي الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل يتيم عروة قال سمعت عروة بن الزبير يقول ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا حتى نشأ المولدون أبناء سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم وبه إلى ابن وهب حدثني أبي لهيعة أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء فقال لم أسمع في هذا شيئا فقال له الرجل فأخبرني أصلحك الله برأيك قال لا ثم عاد عليه فقال إني أرضى برأيك فقال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 له سالم إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأوى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن محمد القلعي ثنا أبو علي محمد بن أحمد الصواف عن بشر بن موسى الأسدي ثنا عبد الله بن الزبير الحميدي قال قال سفيان بن عيينة ما زال أمر الناس معتدلا حتى غير ذلك أبو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة وربيعة بالمدينة قال أبو محمد هؤلاء النفر غفر الله لنا ولهم أول من فتح باب الرأي وعول عليه واعترض بالقياس على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك زلة عالم ووهلة فاضل سمح الله للجميع بمنه آمين كتب إلى النمري يوسف بن عبد الله أنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن هو ابن الزيات ثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي البصري ثنا موسى بن إسحاق نا إبراهيم بن المنذر نا معن بن عيسى قال سمعت مالك بن أنس يقول أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه أخبرني بعض أصحابنا محمد بن أبي نصر عن أبي عمر وعثمان بن أبي بكر حدثني أبو نعيم بأصبهان ثنا عبد الله بن محمد بن عبد الكريم ثنا الحسن بن منصور ثنا الحنيني قال قال مالك بن أنس إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن وحدثني ابن أبي نصر نا عثمان بن أبي بكر نا أبو نعيم إبراهيم بن عبد الله ثنا محمد بن إسحاق قال سمعت عثمان بن صالح يقول جاء رجل إلى مالك فسأله عن مسألة فقال له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فقال الرجل أرأيت فقال مالك {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 حدثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد بن رسول ثنا عبد الله بن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا سحنون والحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك أنه كان يكثر أن يقول {وإذا قيل إن وعد لله حق ولساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما لساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} ويه إلى خالد قال سمعت محمد بن عمر لبابة يقول أخبرني أبو خالد مالك بن علي القرشي القطني الزاهد وكان فاضلا خيرا مجتهدا في العبادة قال أخبرني القعنبي قال دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه فسلمت ثم جلست فرأيته يبكي فقلت يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك فقال لي يا ابن قعنب وما لي لا أبكي ومن أحق بالبكاء مني والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت بها برأيي سوطا سوطا وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه وليتني لم أفت بالرأي أو كما قال وبه إلى خالد حدثنا أحمد بن خالد أنا يحيى بن عمر أنا الحارث بن مسكين أنا ابن وهب قال قال لي مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء قال أبو محمد أفيحل لأحد صح هذا عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي عنه أخذنا ديننا ثم يفتي بعد ذلك بغير ما أتاه به الوحي ويستعمل الرأي والقياس معاذ الله من ذلك أخبرنا أحمد بن عمر ثنا أحمد بن محمد بن عيسى نا محمد بن غندر نا خلف بن قاسم نا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي نا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو نا أبو مسهر نا سعيد بن عبد العزيز قال كان إذا سئل لا يجيب حتى يقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم هذا رأيي والرأي يخطىء ويصيب قال أبو محمد ويقال لمن يقضي بالرأي في الدين فحلل به وحرم وأوجب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 أخبرنا عنك في قولك بالرأي هذا حرام أو هذا واجب عمن تخبر بأنه حرم هذا أو أوجب هذا أعنك أم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لله فإن كنت تخبر بذلك عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم كنت كاذبا عليهما لأنك تقول عنهما ما لم يقله الله تعالى ولا نبيه صلى الله عليه وسلم وإن كنت تقول ذلك عن نفسك فقد صرت محللا ومحرما وشارعا وفي هذا ما فيه نعوذ بالله منه وأيضا فإنك تصير قاضيا على الباري تعالى ومتحكما عليه أن تلزم في دينه الذي لم يشرعه سواه أحكاما تشرعها أنت وفي هذا البرهان كفاية وبالله تعالى نتأيد حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا الحسين بن يعقوب نا سعيد بن فحلون نا يونس بن يحيى المفامي نا عبد الملك بن حبيب أخبرني بن الماجشون أنه قال قال مالك بن أنس من أحدث في هذه الأمة اليوم شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله تعالى يقول { حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا وقد ذكر الطحاوي عن أبي حنيفة أنه قال علمنا هذا رأي فمن أتانا بخير منه قبلناه حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا إسماعيل بن إسحاق البصري نا خالد بن سعد نا محمد بن إبراهيم بن حيون الحجاري نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سمعت أبي يقول الحديث الضعيف أحد إلينا من الرأي حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث لا يعرف صحيحه من سقيمه وأصحاب رأي فتنزل به النازلة من يسأل فقال أبي يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي ضعيف الحديث أقوى من رأي أبي حنيفة قال أبو محمد صدق أحمد رحمه الله لأن من أخذ بما بلغه عن رسول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يدري ضعفه فقد أجر يقينا على قصده إلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمره الله تعالى وأما من أخذ برأي أبي حنيفة أو رأي مالك أو غيرهما فقد أخذ بما لم يأمره الله تعالى قط بالأخذ به وهذه معصية لا طاعة وقد تبرأ كل من ترى من الصحابة والتابعين ومن الفقهاء من الرأي وندموا على ما قد قدموا منه وتبرؤوا ممن قلدهم في شيء منه فمن أضل ممن دان ربه تعالى برأي قد تمنى الذي رآه أن يضرب عن كل مسألة منه سوطا ولعلها أزيد من عشرة آلاف مسألة ومن أضل ممن دان ربه تعالى برأي من قال من أتانا بخير من رأينا قبلناه ولا شك عند كل ذي مسكة عقل من المسلمين أن كلام الله تعالى وكلام محمد صلى الله عليه وسلم خير من رأي أبي حنيفة ومالك هذا مع ما قد أوردناه في هذا الباب من الأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم الفتيا بالرأي ومن البراهين القاطعة في ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل الباب السادس والثلاثون في إبطال التقليد قال أبو محمد علي علي بن أحمد علي اعتقاد المرء قولا من قولين فصاعدا ممن اختلف فيه أهل التمييز المتكلمون في أفانين العلوم فإنه لا يخلو في اعتقاده ذلك من أحد وجهين إما أن يكون اعتقده ببرهان صح عنده أو يكون اعتقده بغير برهان صح عنده فإن كان اعتقده ببرهان صح عنده يخلو أيضا من أحد وجهين إما أن يكون اعتقده ببرهان حق صحيح في ذاته وإما أن يكون اعتقده بشيء يظن أنه برهان وليس ببرهان لكنه شغب وتمويه موضوع وضعا غير مستقيم وقد بينا كل برهان حق صحيح في ذاته في كتابنا الموسوم بالتقريب وبينا في كتابنا هذا أن البرهان في الديانة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 إنما هو نص القرآن أو نص كلام صحيح النقل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو نتائج مأخوذة من مقدمات صحاح من هذين الوجهين وأما القسم الثاني الذي هو شغب يظن أنه برهان وليس برهانا فمن أنواعه القياس والأخذ بالمرسل والمقطوع والبلاغ وما رواه الضعفاء والمنسوخ والمخصص وكل قضية فاسدة قدمت بالوجوه المموهة التي قد بيناها في كتاب التقريب وأما ما اعتقده المرء بغير برهان صح عنده فإنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون اعتقده لشيء استحسنه بهواه وفي هذا القسم يقع الرأي والاستحسان ودعوى الإلهام وإما أن يكون اعتقده لأن بعض من دون النبي صلى الله عليه وسلم قال وهذا هو التقليد وهو مأخوذ من قلدت فلانا الأمر أي جعلته كالقلادة في عنقه وقد استحى قوم من أهل التقليد من فعلهم فيه وهم يقرون ببطلان المعنى الذي يقع عليه هذا الاسم فقالوا نقلد بل نتبع قال أبو محمد ولم يتخلصوا بهذا التمويه من قبيح فعلهم لأن الحرم إنما هو المعنى فليسموه بأي اسم شاؤوا فإنهم ما داموا آخذين بالقول لأن فلانا قاله دون النبي صلى الله عليه وسلم فهم عاصون لله تعالى لأنهم اتبعوا من لم يأمرهم الله تعالى باتباعه ويكفي من بطلان التقليد أن يقال لمن قلد إنسانا بعينه ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدته بل قلد من هو بإقرارك أعلم منه وأفضل منه فإن قال بتقليد كل عالم كان قد جعل الدين هملا وأوجب الضدين معا في الفتيا هذا ما لا انفكاك منه لكن شغبوا وأطالوا فوجب تقصي شغبهم إذ كتابنا هذا كتاب تقص لا كتاب إيجاز وبالله تعالى نتأيد قال أبو محمد ونحن ذاكرون إن شاء الله ما موه به المتأخرون لنصر قولهم في التقليد ومبينون بطلان كل ذلك بحول الله وقوته ثم نذكر البراهين الضرورية الصحاح على إبطال التقليد جملة وبالله تعالى التوفيق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 فمما شغبوا به أن قال بعضهم روي أن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر قال أبو محمد وهذا باطل لأن خلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده وإنما وافقه كما يتوافق أهل الاستدلال فقط وما نعرف رواية أن ابن مسعود رجع إلى قول عمر إلا رواية ضعيفة لا تصح في مسألة واحدة وهي في مقاسمة الجد الأخوة مرة إلى الثلث ومرة إلى السدس ولعل نظائر هذه الرواية لو تقصيت لم تبلغ أربع مسائل وإنما جاء فيها أيضا أن ابن مسعود أنفذها بقول عمر لأن عمر كان الخليفة وابن مسعود أحد عماله فقط وأما اختلافهما فلو تقصي لبلغ أزيد من مائة مسألة وقد ذكرنا بعد هذا بنحو ورقتين سند الحديث المذكور من اتباع ابن مسعود عمر وبينا وهي تلك الرواية وسقوطها ومما حضرنا ذكره من خلاف ابن مسعود لعمل في أعظم قضاياه وأشهرها ما حدثناه محمد بن سعيد النباتي نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر نا شعبة عن الحكم بن عتيبة عن زيد بن وهب قال انطلقت أنا ورجل إلى عبد الله بن مسعود نسأله عن أم الولد وإذا هو يصلي ورجلان قد اكتنفاه عن يمينه وعن يساره فلما صلى سألاه الخطاب فقال لأحدهما من أقرأك قال أقرأنيها أبو عمرة أو أبو حكم المزني وقال الآخر أقرأنيها عمر بن الخطاب فبكى حتى بل الحصا بدموعه وقال له اقرأ كما أقرأك عمر فإنه كان للإسلام حصنا حصينا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه فلما أصيب عمر انثلم الحصن فخرج الناس من الإسلام قال سألته عن أم الولد فقال تعتق من نصيب ولدها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 قال أبو محمد فهذا ابن مسعود بهذا السند العجيب الذي لا مغمز فيه بعد موت عمر على ما في نص هذا الحديث من ذكره موت عمر يخالفه في أمهات الأولاد فلا يراهن حرائر من رأس مال سادتهن ولكن من نصيب أولادهن كما تعتق على كل أحد أمه إذا ملكها ومع ذلك أن ابن مسعود إلى أن مات كان يطبق في الصلاة وعمر كان يضع اليدين على الركبتين وينهى عن التطبيق وكان ابن مسعود يضرب الأيدي لوضعها على الركب وابن مسعود يقول في الحرم هي يمين وعمر يقول هي طلقة واحدة وكان ابن مسعود يقول في رجل زنى بامرأة ثم تزوجها لا يزالان زانيين ما اجتمعا وعمر يأمر الزاني أن يتزوج التي زنى بها وابن مسعود يقول بيع الأمة طلاقها وعمر لا يرى بيعها طلاقا ويخالفه في قضايا كثيرة جدا والعجب كله ممن يحتج بالكذب من أن ابن مسعود كان يقلد عمر وهم لا يرون تقليد عمر ولا ابن مسعود في كل أقوالهما وإنما يقلدون من لم يقلده قط ابن مسعود ولا رآه كأبي حنيفة ومالك والشافعي وحسبك بمقدار من يحتج بمثل هذا في الغباوة والجهل وقوله مخالف لما احتج به وكيف يجوز أن يقلد ابن مسعود عمر وقد حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي حدثنا مسلم بن الحجاج نا إسحاق بن راهويه نا عبدة بن سليمان نا الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة الأسدي عن عبد الله بن مسعود قال لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله عز وجل ولو أعلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 أن أحدا أعلم به مني لرحلت إليه قال شقيق فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ولا يعيبه وبه إلى مسلم نا أبو كريب نا يحيى بن آدم نا قطبة عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال والذي لا إله غيره ما من كتاب الله تعالى سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدا هو أعلم بكتاب الله تعالى مني تبلغه الإبل لركبت إليه قال أبو محمد وكان ابن مسعود من الملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث قال أبو موسى الأشعري كنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له وقال ابن مسعود البدري وقد قام عبد الله بن مسعود ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله تعالى من هذا القائم فقال أبو موسى لقد كان يشهد إذا غبنا ويؤذن له إذا حججنا روينا هذا السند المذكور إلى مسلم قال حدثناه أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني نا يحيى بن آدم نا قطبة عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن أبي الأحوص أنه سمع أبا مسعود وأبا موسى يقولان ذلك قال أبو محمد فمن كانت هذه صفته وهو يخبر أنه ما من آية في القرآن إلا وهو يعلم فيما أنزلت أيجوز أن يظن به ذو عقل أنه يقلد أحدا من الناس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 هذا محال ممتنع لا سبيل إليه وإنما يقلد من يجهل الحكم في النازلة فيأخذ بقول من يقدر أنه يعلمه وكيف يمكن أن يقلد ابن مسعود عمر وقد كان كما حدثنا محمد بن سعيد نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار بندار نا محمد بن عدي وأبو داود الطيالسي كلاهما عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي عبيد الله بن عبد الله بن مسعود عن مسروق قال ما شهدت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالإخاذ فالإخاذة تكفي الواحد والاثنين والثلاثة والإخاذة تكفي الفئام من الناس وإني أتيت عبد الله بن مسعود وعمر وعثمان فوجدت عبد الله كفاني فلزمت عبد الله قال أبو محمد فقد بين مسروق أنه جربهم فوجد ابن مسعود لا يقصر عن عمر في العلم بل كلام مسروق يدل على تقدم ابن مسعود عنده على عمر في العلم ولذلك اكتفى به عنه وقد ذكرنا في باب الإجماع من كتابنا هذا في باب من ادعى أن الإجماع هو إجماع أهل المدينة صفة منزلة ابن مسعود عند عمر في العلم في كتابه إلى أهل الكوفة واحتج بعضهم بأن قال لا بد من التقليد لأنك تأتي الجزار فتقلده في أنه سمى الله عز وجل وممكن أن يكون لم يسم وهكذا في كل شيء قال أبو محمد المحتج بهذا إما كان بمنزلة الحمير في الجهل وإما كان رقيق الدين لا يستحي ولا يتقي الله عز وجل فيقال له إن كان ما ذكرت عندك تقليدا فقلد كل فاسق وكل قائل وقلد اليهود والنصارى فاتبع دينهم لأنا كذلك نبتاع اللحم منهم ونصدقهم أنهم سموا الله تعالى على ذبائحهم كما نبتاعه من المسلم الفاضل ولا فرق ولا فضل بين ابتياعه من زاهد عابد وبين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 ابتياعه من يهودي فاسق ولا أثرة ولا فضيلة لذبيحة العالم الورع على ذبيحة الفاسق الفاجر فقلد كل قائل على ظهر الأرض وإن اختلفوا كما نأكل ذبيحة كل جزار من مؤمن أو ذمي فإن قال بذلك خرج عن الإسلام وكفى مؤونته ولزمه ضرورة ألا يقلد عالما بعينه دون من سواه كما أنه لا يقلد جزارا بعينه دون من سواه وإن أبى من ذلك فقد أبطل احتجاجه بتقليد الجزار وغيره وسقط تمويهه ولكن ليعلم الجاهل أن هذا الذي شغب به هذا المموه من تصديقنا الجزار والصانع وبائع سلعة بيده ليس تقليدا أصلا وإنما صدقناهم لأن النص أمر بتصديقهم وقد سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه بعينها فقالوا يا رسول الله إنه يأتي قوم حديثو عهد بالكفر بذبائح لا ندري أسموا الله تعالى عليها فقال صلى الله عليه وسلم سموا الله أنتم وكلوا أو كما قال صلى الله عليه وسلم وأمر تعالى بأكل طعام أهل الكتاب وذبائحهم فإن أتونا في تقليد رجل بعينه بنص على إيجاب تقليده أو بإجماع على إيجاب تقليده صرنا إليه واتبعناهم ولم يكن ذلك تقليدا حينئد لأن البرهان كان يكون حينئذ قد قام على وجوب اتباعه واحتج بعضهم بأن قال روي عن عمر أنه قال إني لأستحي من الله عز وجل أن أخالف أبي بكر قال أبو محمد وهذا يبطل من خمسة أوجه أولها أن هذا حديث مكذوب محذوف لا يصح منفردا هذا اللفظ كما أوردوه وإنما جاء بلفظ إذا حقق فهو حجة عليهم وسنورده عند الفراغ بذكر حججهم ثم الابتداء بالاحتجاج عليهم في هذا الباب إن شاء الله تعالى والثاني أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يجهله من له أقل علم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 بالروايات فمن ذلك خلافه إياه في سبي أهل الردة سباهم أبو بكر وبلغ الخلاف عن عمر له أن نقض حكمه في ذلك وردهن حرائر إلى أهليهن إلا من ولدت لسيدها منهن ومن جملتهن كانت خولة الحنفية أم محمد بن علي وخالفه في قسمة الأرض المفتتحة فكان أبو بكر يرى قسمتها وكان عمر يرى إيقافها ولم يقسمها وخالفه في المفاضلة أيضا في العطاء فكان أبو بكر يرى التسوية وكان عمر يرى المفاضلة وفاضل ومن أقرب ذلك ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا سليمان بن الأشعث حدثنا محمد بن داود بن سفيان وسلمة بن شبيب قالا ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال قال عمر إني إن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف وإن استخلف فإن أبا بكر قد استخلف قال ابن عمر فوالله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا وأنه غير مستخلف قال أبو محمد فهذا نص خلاف عمر لأبي بكر فيما ظن أنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد خالفه في فرض الجد وفي غير ذلك كثيرا بالأسانيد الصحاح المبطلة لقول من قال إنه كان لا يخالفه والثالث أن هذا لو صح كما أوردوه وموهوا به وهو لا يصح كذلك لكان غير موجب لتقليد مالك وأبي حنيفة ولا يتمثل في عقل ذي عقل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 إن في تقليد عمر لأبي بكر ما يوجب تقليد أهل زماننا لمالك وأبي حنيفة فبطل تمويههم بما ذكروا والرابع أن المحتج بما ذكرنا عن عمر ينبغي أن يكون أوقح الناس وأقلهم حياء لأنه احتج بما يخالفه وانتصر بما يبطله لأنه لا يستحي مما استحى منه عمر لأن المحتجين بهذا يخالفون أبا بكر وعمر في أكثر أقوالهم وقد ذكرنا خلاف المالكيين لما رووا في الموطأ عن أبي بكر وعمر فيما خلا من كتابنا فأغنى عن ترداده وبينا أنهم رووا عن أبي بكر ست قضايا خالفوه منها من خمس وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية مما رووا في الموطأ فقط فهلا استحيا هذا المحتج مما استحيا منه عمر ويلزمه أن يقلد أبا بكر وعمر وإلا فقد أقر على نفسه بترك الحق إذ ترك قول عمر وهو يحتج بقوله في إثبات التقليد والخامس أنه لو صح أن عمر قلد وقد أعاذه الله من ذلك لكان هو وسائر من خالفه من الصحابة وأبطلوا التقليد راجيا أن ترد أقوالهم إلى النص فلأيها شهد النص أخذ به والنص يشهد لقول من أبطل التقليد واحتجوا بما حدثناه محمد بن سعيد ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندر ثنا شعبة عن جابر بن يزيد الجعفي عن الشعبي أن جندبا ذكر له قول في مسألة من الصلاة لابن مسعود فقال جندب إنه لرجل ما كنت لأدع قوله لقول أحد من الناس وبه إلى الشعبي عن مسروق قال كان ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفتون الناس ابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة كان عبد الله يدع قوله لقول عمر وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه أحدها أن راوي هذين الخبرين جابر الجعفي وهو كذاب فسقط الاحتجاج به والثاني أنه كذب هذا الحديث الأخير بين ظاهر بما هو في الشهرة والصحة كالشمس وهو أن خلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده وخلاف أبي موسى لعلي كذلك ومن جملة خلافه إياه امتناعه من بيعته ومن حضور مشاهده وليس في الخلاف أعظم من هذا وكذلك خلاف زيد لأبي في القراءات والفرائض وغير ذلك أشهر من كل مشتهر فوضح كذب جابر في روايته هذه والثالث أنه لو صح كل هذا لكان عليهم لا لهم لأن الذين كان هؤلاء المذكورون يقلدون بزعمهم هم غير الذين يقلد هؤلاء المتأخرون اليوم فلا حجة لمن قلد مالكا وأبا حنيفة والشافعي فيمن قلد عمر وعليا وأبيا بل هو حجة عليهم لأنه إن كان تقليد هؤلاء حقا فتقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة باطل وإن كان تقليد من تقدم باطلا فتقليد من تأخر أبطل فمن المحال الباطل أن يقلد ابن مسعود عمر أو غيره مع ما حدثناه المهلب عن ابن مناس عن ابن مسرور عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب قال سمعت سليمان يحدث عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول اغد عالما أو متعلما ولا تغدون إمعة قال ابن وهب فذكر لي سفيان عن أبي الزعراء عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إنه الإمعة فيكم الذي يحقب دينه الرجال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 واحتجوا أيضا بالأعمى يدل على القبلة وبالراكب في السفينة يدله الملاحون على القبلة وعلى الوقت قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه من باب قبول الخبر لا من باب قبول الفتيا في الدين بلا دليل ولا من باب تحريم أمر كان مباحا أو إيجاب فرض لم يكن واجبا أو إسقاط فرض قد وجب وهذا الذي ذكروا ليس تقليدا وإنما هو إخبار والناس مجمعون على قبول خبر الواحد في أشياء كثيرة منها الهدية وحال إدخال الزوج على الزوجة وقبول قول المرأة الذمية والمسلمة إنها طاهر فيستباح وطؤها بعد تحريمه بالحيض وغير ذلك فقبول الأعمى لخبر المخبر له عن الوقت والقبلة إذ وقع به تصديقه أمر قد قام الدليل على صحته بل أكثر هذه الأمور توجب العلم الضروري بالجبلة وبطل أن يكون ما ذكروا تقليدا واحتج بعضهم بقول الله تعالى {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا وتخذ لله إبراهيم خليلا} قال أبو محمد وهذا من القحة ما هو لأن الشيء الذي يأمر به الله ليس تقليدا ولكنه برهان ضروري والتقليد إنما هو اتباع من لم يأمرنا عز وجل باتباعه وإنما التقليد الذي نخالفهم فيه أخذ قول رجل ممن دون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا ربنا باتباعه بلا دليل يصحح قوله لكن فلانا قاله فقط فهذا هو الذي يبطل ولكن من لا يتقي الله عز وجل ممن قد بهره الحق وعجز عن نصره الباطل وأراد استدامة سوقه ولا يبالي إلى ما أداه ذلك أوقع على اعتقاد الحق الذي قد ثبت برهانه اسم التقليد فسمى الانقياد لخبر الواحد تقليدا وسمى الإجماع تقليدا وسمى اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر باتباعه من ملة إبراهيم عليه السلام تقليدا فإن أرادوا منا تصحيح هذه المعاني فهي صحاح لقيام النص بوجوبها وإن أرادوا أن يتطرقوا بذلك إلى تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة فذلك حرام وباطل وليس في اتباع ملة إبراهيم ما يوجب اتباع مالك وأبي حنيفة والشافعي لأنهم غير إبراهيم المأمور باتباعه ولم نؤمر قط باتباع هؤلاء المذكورين وإنما هذا بمنزلة من سمى الخنزير كبشا وسمى الكبش خنزيرا فليس ذلك مما يحل الخنزير ويحرم الكبش وكذلك إنما نحرم اتباع من دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير دليل ونوجب اتباع ما قام الدليل على وجوب اتباعه ولا نلتفت إلى من مزج الأسماء فسمى الحق تقليدا وسمى الباطل اتباعا وقد بينا قبل وبعد أن الآفة العظيمة إنما دخلت على الناس وتمكن بهم أهل الشر والفسق والتخليط والسفسطة ولبسوا عليهم دينهم فمن قبل اشتراك الأسماء واشتباكها على المعاني الواقعة تحتها ولذلك دعونا في كتبنا إلى تمييز المعاني وتخصيصها بالأسماء المخلفة فإن وجدنا في اللغة اسما مشتركا حققنا المعاني التي تقع تحته وميزنا كل معنى منها بحدوده التي هي صفاته التي لا يشاركه فيها سائر المعاني حتى يلوح البيان فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة والله تعالى يلبس على من على الناس وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندر ثنا شعبة ثنا عمرو بن مرة عن حصين عن ابن أبي ليلى قال حدثنا أصحابنا أنهم كانوا إذا صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل الرجل أشاروا إليه فقضى ما سبق به فكانوا من بين قائم وراكع وقاعد ومصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء معاذ فقال لا أراه على حال إلا كنت معه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن معاذا قد سن لكم سنة فكذلك فافعلوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 قال أبو محمد وهذا حديث كما ترى لم يذكر ابن أبي ليلى من حدثه به والضمير الذي في كانوا لا بيان فيه أنه راجع إلى المحدثين لابن أبي ليلى بل لعله راجع إلى الصحابة غير المحدثين لابن أبي ليلى ولا تؤخذ الحقائق بالشكوك وحتى لو صح هذا الحديث لما كانت فيه حجة لوجهين أحدهما أن الذين يقلدونهم غير معاذ فلو صح تقليد معاذ ما كان ذلك إلا مبطلا لتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي والثاني أن فعل معاذ لم يصر سنة إلا حيث أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وحين أمر به لا بفعل معاذ ويكون حينئذ معنى أن معاذا سن سنة أي فعل فعلا جعله الله لكم سنة فإنما صار سنة حين أمر به عليه السلام فقط مع أنه حديث مرسل لا يحتج به وقد روينا عن معاذ ما يبطل ظن الظان في هذا الحديث وما يبطل به التقليد وهو ما حدثنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا غندر ثنا شعبة قال أنبأني عمرو بن مرة قال سمعت عبد الله بن سليمة يقول قال معاذ بن جبل يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال المنافق بالقرآن فسكتوا فقال معاذ أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم فإن المؤمن أو قال المسلم يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فإن له منارا كمنار الطريق لا يخفى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 على أحد فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدا وما لم تعلموا فكلوه إلى عالمه وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح ومن لا فليست بنافعته دنياه قال أبو محمد رحم الله معاذا لقد صدع بالحق ونهى عن التقليد في كل شيء وأمر باتباع ظاهر القرآن وألا يبالي من خالف فيه وأمر بالتوقف فيما أشكل وهذا نص مذهبنا وبالله تعالى التوفيق ومن العجب احتجاجهم بهذا الخبر ولا يدري أحد لماذا فإن كانوا أرادوا بذلك تقليد معاذ وأنه كان يسن السنن فقد جاء عنه أنه كان يورث المسلم من الكافر فيقلدوه وإلا فقد لعبوا بدينهم وإن كانوا يحتجون به في إيجاب تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي فهذا حمق ما سمع بأظرف منه وأين تقليد معاذ من تقليد هؤلاء واحتج بعضهم بقوله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وبقوله تعالى {لقد رضي لله عن لمؤمنين إذ يبايعونك تحت لشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل لسكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} وبقوله تعالى {لا يستوي لقاعدون من لمؤمنين غير أولي لضرر ولمجاهدون في سبيل لله بأموالهم وأنفسهم فضل لله لمجاهدين بأموالهم وأنفسهم على لقاعدين درجة وكلا وعد لله لحسنى وفضل لله لمجاهدين على لقاعدين أجرا عظيما} وبقوله عز وجل {ولسابقون لأولون من لمهاجرين ولأنصار ولذين تبعوهم بإحسان رضي لله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا ذلك لفوز لعظيم} فقالوا من أثنى الله تعالى عليه فقوله أبعد من الخطأ وأقرب من الصواب واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وبما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الحديث الذي فيه اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقالوا إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا الوحي فهم أعلم بما شهدوا وقال بعضهم قول الخلفاء من الصحابة حكم وحكمهم لا يجب أن ينقض واحتجوا بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي الأمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وبما روى من أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قال أبو محمد كل هذا لا حجة لهم فيه بل الآيات التي ذكرنا حجة عليهم وأما قوله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وقوله {لقد رضي لله عن لمؤمنين إذ يبايعونك تحت لشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل لسكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا} وقوله تعالى {لا يستوي لقاعدون من لمؤمنين غير أولي لضرر ولمجاهدون في سبيل لله بأموالهم وأنفسهم فضل لله لمجاهدين بأموالهم وأنفسهم على لقاعدين درجة وكلا وعد لله لحسنى وفضل لله لمجاهدين على لقاعدين أجرا عظيما} وقوله تعالى {ولسابقون لأولون من لمهاجرين ولأنصار ولذين تبعوهم بإحسان رضي لله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها لأنهار خالدين فيهآ أبدا ذلك لفوز لعظيم} فإنما هذا كله ثناء عليهم رضوان الله عليهم ولم ننازع في الثناء عليهم ولله الحمد بل نحن أشد توقيرا لهم وأعلم بحقوقهم من هؤلاء المحتجين بهذه الآية في غير مواضعها لأننا نحن إنما تركنا أقوال الصحابة لقول محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجب من حقه صلى الله عليه وسلم عليهم كالذي يجب من حقه علينا ولا فرق والذي ألزموا طاعته كما ألزمناها سواء بسواء وهم إنما تركوا أقوال الصحابة الذين احتجوا في فضلهم بما ذكرنا لقول أبي حنيفة ومالك والشافعي وإنما قلنا نحن ليس وجوب الثناء عليهم بموجب أن يقلدوا إذ قد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر وعمر اللذين هما أفضل رجالهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخطأ كما حدثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم نا أبو زيد المروزي نا الفربري نا البخاري نا إبراهيم بن موسى نا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم أنه قدم ركب من بني تميم عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر أمر القعقاع بن معبد بن زرارة قال عمر بل أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر ما أردت إلا خلافي قال عمر ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك {يأيها لذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} حتى انقضت يعني الآية قال البخاري ثنا محمد بن مقاتل ثنا وكيع عن نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال قال ابن الزبير فكان عمر بعد إذ حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه قال البخاري نا بسرة بن صفوان بن جميل نا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال قال ابن الزبير فكان عمر بعد إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث حدثه كأخي السرار لم يسمعه حتى يستفهمه قال البخاري نا بسرة بن صفوان بن جميل نا نافع بن عمر عن ابن أبي مليكة قال كاد الخيران يهلكان أبو بكر وعمر رفعا أصواتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق بن السليم عن ابن الأعرابي عن أبي داود وقال نا محمد بن يحيى بن فارس نا عبد الرزاق كتبته من كتابه قال أنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال كان أبو هريرة يحدث أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الليلة رؤيا فعبر لها أبو بكر فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبت بعضا وأخطأت بعضا فقال أقسمت يا رسول الله بأبي أنت لتحدثني بالذي أخطأت فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تقسم قال أبو محمد فمن أخطأ فغير جائز أن يؤخذ قوله بغير برهان يصححه والنبي صلى الله عليه وسلم إذا كان منه على طريق إرادة الخبر ما لا يوافق إرادة ربه تعالى لم يقره تعالى على ذلك حتى يبين له وأما أبو بكر رضي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 الله عنه فقد رام من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين له وجه خطئه فيما عبر فلم يفعل صلى الله عليه وسلم وأما ما تعلقوا به بما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله لأبي بكر وعمر لولا اختلافكما علي ما خالفتكما فأول ذلك أن هذا خبر لا يصح ولو صح لكان حجة في إبطال تقليدهما لأن الأمر الموجود فيهما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخذ برأيهما في أمور الدنيا ففرض علينا اتباعه صلى الله عليه وسلم وألا نأخذ بقولهما في أمور الشريعة وهذا بين وأما قوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين فقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما لا يقدر عليه ووجدنا الخلفاء الراشدين بعده صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا اختلافا شديدا فلا بد من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها إما أن نأخذ بكل ما اختلفوا فيه وهذا ما لا سبيل إليه ولا يقدر عليه إذ فيه الشيء وضده ولا سبيل إلى أن يورث أحد الجد دون الإخوة بقول أبي بكر وعائشة ويورثه الثلث فقط وباقي ذلك للإخوة على قول عمر ويورثه السدس وباقيه للإخوة على مذهب علي وهكذا في كل ما اختلفوا فيه فبطل هذا الوجه لأنه ليس في استطاعة الناس أن يفعلوه فهذا وجه أو يكون مباحا لنا بأن نأخذ بأي ذلك شيئا وهذا خروج عن الإسلام لأنه يوجب أن يكون دين الله تعالى موكولا إلى اختيارنا فيحرم كل واحد منا ما يشاء ويحل ما يشاء ويحرم أحدنا ما يحله الآخر وقول الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقوله تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وقوله تعالى {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} يبطل هذا الوجه الفاسد ويوجب أن ما كان حراما حينئذ فهو حرام إلى يوم القيامة وما كان واجبا يومئذ فهو واجب إلى يوم القيامة وما كان حلالا يومئذ فهو حلال إلى يوم القيامة وأيضا فلو كان هذا لكنا إذا أخذنا بقول الواحد منهم فقد تركنا قول الآخر منهم ولا بد من ذلك فلسنا حينئذ متبعين لسنتهم فقد حصلنا في خلاف الحديث المذكور وحصلوا فيه شاؤوا أو أبوا ولقد أذكرنا هذ مفتيا كان عندنا بالأندلس وكان جاهلا فكانت عادته أن يتقدمه رجلان كان مدار الفتيا عليهما في ذلك الوقت فكان يكتب تحت فتياهما أقول بما قاله الشيخان فقضى أن ذينك الشيخين اختلفا فلما كتب تحت فتياهما ما ذكرنا قال له بعض من حضر إن الشيخين اختلفنا فقال وأنا أختلف باختلافهما قال أبو محمد فإذ قد بطل هذان الوجهان فلم يبق إلا الوجه الثالث وهو أخذ ما أجمعوا عليه وليس ذلك إلا فيما أجمع عليه سائر الصحابة رضوان الله عليهم معهم وفي تتبعهم سنن النبي صلى الله عليه وسلم والقول بها وأيضا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمر باتباع سنن الخلفاء الراشدين لا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون صلى الله عليه وسلم أباح أن يسنوا سننا غير سننه فهذا ما لا يقوله مسلم ومن أجاز هذا فقد كفر وارتد وحل دمه وماله لأن الدين كله إما واجب أو غير واجب وإما حرام وإما حلال لا قسم في الديانة غير هذه الأقسام أصلا فمن أباح أن يكون للخلفاء الراشدين سنة لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أباح أن يحرموا شيئا كان حلالا على عهده صلى الله عليه وسلم إلى أن مات أو أن يحلوا شيئا حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يوجبوا فريضة لم يوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أن يسقطوا فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 وسلم ولم يسقطها إلى أن مات وكل هذه الوجوه من جوز منها شيئا فهو كافر مشرك بإجماع الأمة كلها بلا خلاف وبالله تعالى التوفيق فهذا الوجه قد بطل ولله الحمد وأما أن يكون أمر باتباعهم في اقتدائهم بسنته صلى الله عليه وسلم فهكذا نقول ليس يحتمل هذا الحديث وجها غير هذا أصلا وقال بعضهم إنما نتبعهم فيما لا سنة فيه قال أبو محمد وإذ لم يبق إلا هذا فقد سقط شغبهم وليس في العالم شيء إلا وفيه سنة منصوصة وقد بينا هذا في باب إبطال القياس من كتابنا هذا وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بما أخبرناه عبد الله بن ربيع قال نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار نا أبو عمر نا سفيان هو الثوري عن الشيباني هو أبو إسحاق عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله فكتب إليه أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى به الصالحون فإن لم يكن في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقض فيه الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرا لك والسلام عليكم قال أبو محمد وهذا عليهم لا لهم لأن عمر لم يقل بما قضى به بعض الصالحين وإنما قال ما قضى به الصالحون فهذا هو إجماع جميع الصالحين وفي هذا الحديث إباحة عمر ترك الحكم بالقياس واختياره لذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 ويقال لهم في احتجاجهم بما روي من الأمر بإلتزام سنة الخلفاء الراشدين المهديين هذا حجة عليكم لأن سنة الخلفاء الراشدين المهديين كلهم بلا خلاف منهم ألا يقلدوا أحدا وألا يقلد بعضهم بعضا وأن يطلبوا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدوها فينصرفوا إليها ويعملوا بها وقد أنكر عمر رضي الله عنه أشد الإنكار على رجل سأله عن مسألة في الحج فلما أفتاه قال له الرجل هكذا أفتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه عمر بالدرة وقال له سألتني عن شيء قد أفتى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أخالفه رويناه من طريق عبد الرزاق وقال عمر رضي الله عنه إن الرأي منا هو التكليف وإن الرأي من النبي صلى الله عليه وسلم كان حقا قال أبو محمد فمن كان متبعا لهم فليتبعهم في هذا الذي اتفقوا فيه من ترك التقليد وفيما أجمعوا عليه من اتباع سنن النبي صلى الله عليه وسلم وفيما نهوا عنه من التكلف فإنه يوافق بذلك الحق وقول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وهؤلاء الخلفاء قد خالفهم من في عصرهم فقد خالف عمر زيد وعلي وغيرهما وخالف عثمان وعمر وخالف عمر أبا بكر في قضايا كثيرة فما منهم أحد قال لمن خالفه لم خالفتني وأنا إمام فلو كان تقليدهم واجبا لما تركوا أحدا يعمل بغير الواجب وأما تمويه من احتج بقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذه الآية مبطلة للتقليد إبطالا لا خفاء به وهي أعظم الحجج عليهم لأنه تعالى إنما أمر بطاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في غير ذلك وإن قالوا بل فيما قالوه باجتهادهم قلنا قد سلف منا إبطال هذا الظن ثم لو سلم ذلك لما وجب ذلك إلا في جميعهم لا في بعضهم لأن الله عز وجل لم يقل وبعض أولي الأمر منكم وإنما أمرنا باتباع أولي الأمر منا وهم أهل العلم كلهم فإذا أجمعوا على أمر ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 فلا خلاف في وجوب اتباعهم وقد بين تعالى ذلك في الآية نفسها ولم يدعنا في لبس فقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فأسقط تعالى عند التنازع الرد إلى أولي الأمر وأوجب الرد إلى القرآن والسنة فقط وإنما أمر بطاعة أولي الأمر منا ما لم يكن تنازع وهذا هو قولنا ولله الحمد وأما الرواية إن معاذا سن لكم فقد قلنا إنه حديث لا يصح سنده ولو صح لما كانت لهم فيه حجة لأن الدخول مع الإمام كيد وجد ليس من قبل أن معاذا فعله لكن من قبل أن النبي صلى الله عليه وسلم صوبه وأمر به فقوله صلى الله عليه وسلم ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وإلا فقد فعل معاذ في تطويل الصلاة أمرا غضب منه صلى الله عليه وسلم ونهاه عن العودة فلو كان ما فعل معاذ سنة لكان تطويله الصلاة إذ أم الناس سنة وهذا خطأ فصح أنه ليس فعل معاذ ولا غيره سنة إلا حتى يأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ويصححها وهذا قولنا لا قولهم وأما الرواية اقتدوا باللذين من بعدي فحديث لا يصح لأنه مروي عن مولى لربعي مجهول وعن المفضل الضبي وليس بحجة كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل الدينوري نا محمد بن جبير نا عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي نا محمد بن كثير الملائي نا المفضل الضبي عن ضرار بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل العتري عن جدته عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد وكما حدثناه أحمد بن قاسم قال نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم بن أصبغ قال حدثني قاسم بن أصبغ نا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا محمد بن كثير أنا سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير عن مولى الربعي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد ابن أم عبد وأخذناه أيضا عن بعض أصحابنا عن القاضي أبي الوليد بن الفرضي عن ابن الدخيل عن العقيلي نا محمد بن إسماعيل نا محمد بن فضيل نا وكيع نا سالم المرادي عن عمرو بن هرم عن ربعي بن حراش وأبي عبد الله رجل من أصحاب حذيفة عن حذيفة قال أبو محمد سالم ضعيف وقد سمى بعضهم المولى فقال هلال مولى ربعي وهو مجهول لا يعرف من هو أصلا ولو صح لكان عليهم لا لهم لأنهم نعني أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي أترك الناس لأبي بكر وعمر وقد بينا أن أصحاب مالك خالفوا أبا بكر مما رووا في الموطأ خاصة في خمسة مواضع وخالفوا عمر في نحو ثلاثين قضية مما رووا في الموطأ خاصة وقد ذكرنا أيضا أن عمر وأبا بكر اختلفا وأن اتباعهما فيما اختلفا فيه متعذر ممتنع لا يقدر عليه أحد وإنما الصحيح في هذا الباب ما ناولنيه بعض أصحابنا وحدثنيه أيضا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري كلاهما عن أبي الوليد عبد الله بن يوسف القاضي عن ابن الدخيل عن العقيلي نا محمد بن إسماعيل نا إسماعيل بن أبي أويس عن عبد الله بن أبي عبد الله البصري وثور بن يزيد الديلي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم اعقلوا أيها الناس قولي فقد بلغت وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا كتاب الله وسنة نبيه وبه إلى العقيلي ثنا موسى بن إسحاق ثنا محمد بن عبيد المحاربي ثنا صالح بن موسى الطلحي عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما أبدا ما أخذتم بهما أو عملتم بهما كتاب الله وسنتي ولم يتفرقا حتى يردا علي الحوض وأما الرواية أصحابي كالنجوم فرواية ساقطة وهذا حديث حدثنيه أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس العذري قال أنا أبو ذر عبد بن أحمد بن محمد الهروي الأنصاري قال أنا علي بن عمر بن أحمد الدارقطني ثنا القاضي أحمد كامل بن كامل خلف ثنا عبد الله بن روح ثنا سلام بن سليمان ثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قال أبو محمد أبو سفيان ضعيف والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة وهذا منها بلا شك فهذا رواية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 ساقطة من طريق ضعيف إسنادها وكتب إلي أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري أن هذا الحديث روي أيضا من طريق عبد الرحمن بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر قال وعبد الرحيم بن زيد وأبوه متروكان وحمزة الجزري مجهول وكتب إلي النمري حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الرحمن بن مفرج حدثهم قال ثنا محمد بن أيوب الصموت قال قال لنا البزار وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا كلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلا بلا شك أنها مكذوبة لأن الله تعالى يقول في صفة نبيه صلى الله عليه وسلم {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فإذا كان كلامه صلى الله عليه وسلم في الشريعة حقا كله فهو من الله تعالى بلا شك وما كان من الله تعالى فلا اختلاف فيه بقوله تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} وقد نهى تعالى عن التفرق والاختلاف بقوله {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} فمن المحال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله عنهم وفيهم من يحلل الشيء وغيره منهم يحرمه ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالا اقتداء بسمرة بن جندب ولكان أكل البرد للصائم حلالا اقتداء بأبي طلحة وحراما اقتداء بغيره منهم ولكان ترك الغسل من الإكسال واجبا اقتداء بعلي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب وحراما اقتداء بعائشة وابن عمر ولكان بيع الثمر قبل ظهور الطيب فيها حلالا اقتداء بعمر حراما اقتداء بغيره منهم وكل هذا مروي عندنا بالأسانيد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 الصحيحة تركناها خوف التطويل بها وقد بينا آنفا إخباره عليه السلام أبا بكر بأنه أخطأ وقد كان الصحابة يقولون بآرائهم في عصره صلى الله عليه وسلم فيبلغه ذلك فيصوب المصيب ويخطىء المخطىء فذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم أفشى وأكثر فمن ذلك فتيا أبي السنابل لسبيعة الأسلمية بأن عليها في العدة آخر الأجلين فأنكر صلى الله عليه وسلم ذلك وأخبر أن فتياه باطل وقد أفتى بعض الصحابة وهو صلى الله عليه وسلم حي بأن على الزاني غير المحصن الرجم حتى افتداه والده بمائة شاة ووليدة فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك الصلح وفسخه وذكر صلى الله عليه وسلم السبعين ألفا من أمته يدخلون الجنة وجوههم كالقمر ليلة البدر فقال بعض الصحابة هم قوم ولدوا على الإسلام فخطأ النبي صلى الله عليه وسلم قائل ذلك وقالوا إذ نام النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الصبح ما كفارة ما صنعنا فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قولهم ذلك وأراد طلحة بحضرة عمر بيع الذهب بالفضة نسيئة فأنكر ذلك عمر وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك وباع بلال صاعين من تمر بصاع من تمر فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأمره بفسخ تلك البيعة وأخبره أن هذا عين الربا وباع بعض الصحابة بريرة واشترط الولاء فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولام عليه وقال عمر لأهل هجرة الحبشة نحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم فكذبه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وقال جابر كنا نبيع أمهات الأولاد ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا وأخبر أبو سعيد أنهم كانوا يخرجون زكاة الفطر والنبي صلى الله عليه وسلم حي فذكر الأقط والزبيب وإنما فرض صلى الله عليه وسلم التمر والشعير فقط وأمر سمرة النساء بإعادة الصلاة أيام الحيض وقال قوم من الصحابة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم أما أنا فأفيض على رأسي يعنون في غسل الجنابة كذا وكذا مرة فأنكر ذلك النبي صلى الله عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 وسلم وكان علي يغتسل من المذي والنبي صلى الله عليه وسلم حي فأنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال أسيد وغيره إذ رجع سيف أبي عامر الأشعري عليه بطل جهاده وقالوا ذلك في عامر بن الأكوع فكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وأفتى عمر المجنب في السفر ألا يصلي شهرا بالتيمم ولكن يترك الصلاة حتى يجد الماء وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يناول القدح أبا بكر وهو عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الواجب غير ذلك وهو أن يناوله الأيمن فالأيمن وكان عن يمينه أعرابي وتمعك عمار في التراب كما تتمعك الدابة فأنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على عمر نداءه إياه إذ أخر صلى الله عليه وسلم العتمة وقال له ما كان لكم أن تنذروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أسامة إذ قتل الرجل بعد أن قال لا إله إلا الله يا رسول الله إنما قالها تعوذا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هلا شققت عن قلبه وأنكر عليه قتله إياه وخطأه في تأويله حتى قال أسامة وددت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم وقال خالد رب مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكر فعله ببني جذيمة وتنزه قوم منهم عن أشياء فعلها صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك صلى الله عليه وسلم وغضب منه وتأول عمر أنه أخطأ إذ قبل وهو صائم فخطأه صلى الله عليه وسلم في تأويله ذلك وأخبر أنه لا شيء عليه فيه وتأول الأنصاري تقبيله صلى الله عليه وسلم وهو صائم وإصباحه جنبا وهو صائم أن ذلك خصوص له صلى الله عليه وسلم فخطأه صلى الله عليه وسلم في ذلك وغضب منه وتأول عدي في الخيط الأبيض أنه عقال أبيض والنبي صلى الله عليه وسلم حي وأعظم من هذا كله تأخر أهل الحديبية عن الحلق والنحر والإحلال إذ أمرهم بذلك صلى الله عليه وسلم حتى غضب وشكاهم إلى أم سلمة أم المؤمنين وكل ما ذكرنا محفوظ عندنا بالأسانيد الصحاح الثابتة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 وأخبرني أحمد بن عمر ثنا أبو ذر نا زاهر بن أحمد السرخسي أنا أبو محمد بن زنجويه بن محمد النيسابوري أنا محمد بن إسماعيل البخاري نا أبو النعمان نا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال سعيد هو ابن المسيب قضى عمر في الإبهام وفي التي تليها بخمس وعشرين وقال سعيد ووجد بعد ذلك في كتاب آل حزم في الأصابع عشرا عشرا فأخذ بذلك أخبرني محمد بن سعيد نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا الخشني نا بندر نا يحيى القطان عن شعبة عن أبي إسحاق عن مسروق قال سألت ابن عمر عن نقض الوتر فقال ليس أرويه عن أحد إنما هو شيء أقوله برأيي قال أبو محمد فكيف يجوز تقليد قوم يخطئون ويصيبون أم كيف يحل لمسلم يتقي الله تعالى أن يقول في فتيا الصاحب مثل هذا لا يقال بالرأي وكل ما ذكرناه فقد قالوه بآرائهم وأخطؤوا فيه حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا الخشني نا بندار نا شعبة قال سمعت أبا إسحاق يحدث عن رجل من بني سليم قال سمعت ابن عباس يقول في العزل إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه شيئا فهو كما قال وأما أنا فأقول برأيي هو زرعك إن شئت سقيته وإن شئت أعطشته وقالعلي في مسيره إلى صفين هو رأي رأيته ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بشيء وقال عمر الرأي منا هو التكلف وقال معاوية في بيع الذهب بالذهب متفاضلا هذا رأي وقال ابن مسعود في قصة بروع بنت واشق أقول فيها برأيي فإن كان حقا فمن الله وإن كان باطلا فمني والله ورسوله بريئان وقال عمران بن الحصين وذكر متعة الحج قال فيها رجل برأيه ما شاء يعني عمر وقال عبيدةلعلي رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة وقال أبو هريرة في حديث النفقة وزاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 في آخره زيادة فقيل له هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا هذا من كيس أبي هريرة فها هم رضي الله عنهم يعترفون أنهم يقولون برأيهم وأنهم قد يخطئون في ذلك فصح بذلك بطلان قول من ذكرنا وحدثنا عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد عن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم نا أبو كريب وإسحاق بن راهويه وإسحاق بن يونس وقال أبو كريب نا أبو معاوية واللفظ له قالا جميعا عن الأعمش عم مسلم وهو أبو الضحى عن مسروق عن عائشة قالت ترخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر استنزه عنه ناس من الناس فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية قال أبو محمد ورواه مسلم أيضا عن زهير بن حرب عن جرير عن الأعمش بسنده فقال بلغ ذلك ناسا من أصحابه حدثنا أحمد بن عمر نا علي بن الحسين بن فهر نا الحسن بن علي بن شعبان وعمر بن محمد بن عراك قالا نا أحمد مروان نا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي نا حرملة عن ابن وهب سئل مالك عمن أخذ بحديثين مختلفين حدثه بهما ثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة قال لا والله حتى يصيب الحق وما الحق إلا في واحد قولان مختلفان يكونان صوابا ما الحق وما الصواب إلا في واحد قال أبو محمد وهذا حجة على المالكيين القائلين بتقليد من احتجوا به من الصحابة وقد اختلفوا فصح بكل ما ذكرنا أنه لا يحل اتباع فتيا صاحب ولا تابع ولا أحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 دونهم إلا أن يوجبها نص أو إجماع ويبطل بذلك قول من قال فيما رواه عن الصاحب بخلاف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا لا يقال بالرأي وصح أنه قد يخطىء المرء منهم فيقول برأيه ما يخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم واحتجوا بمنع عمر من بيع أمهات الأولاد بما روي من سنة وضع الأيدي على الركب في الصلاة ومن قوله في جوابه لعمرو بن العاص إذ قال له وقد احتلم خذ ثوبا غير ثوبك فقال لو فعلتها لصارت سنة قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم في شيء منه أما بيع أمهات الأولاد فقد خالف في ذلك ابن مسعود وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس عمر فرأوا بيعهن فما الذي جعل عمر أولى بالتقليد من هؤلاء وإنما منعنا من بيعهن لنص ثابت أوجب ذلك فقد ذكرناه في كتاب الإيصال إلى فهم الخصال وقال أصحابنا إنما منعنا من ذلك لإجماع الأمة على المنع من بيعهن إذا حملن من وسادتهن ثم اختلفوا في بيعهن بعد الوضع فقلنا نحن لا نترك ما اتفقنا عليه إلا بنص أو إجماع آخر طردا لقولنا باستصحاب الحال وأما وضع الأيدي على الركب فقد صح من طريق أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم مسندا وضع الأيدي على الركب في الركوع وأما قول عمر لو فعلتها لكانت سنة فليس على ما ظن الجاهل المحتج بذلك في التقليد ولكن معنى ذلك لو فعلتها لاستن بذلك الجهال بعدي فكره عمر أن يفعل شيء يلحقه أحد من الجهال بالسنن كما قال طلحة إذ رأى عليه ثوبا مصبوغا وهو محرم إنكم قوم يقتدى بكم فربما رآك من يقول رأيت على طلحة ثوبا مصبوغا وهو محرم أو كلاما هذا معناه فعلى هذا الوجه قال عمر لو فعلتها لكانت سنة لا على أن يسن في الدين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 ما لم ينزل به وحي وقد كانوا رضي الله عنهم يفتون بالفتيا فيبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فيرجعون عن قولهم إلى الحق الذي بلغهم وهذا لا يحل غيره وقد فعل أبو بكر نحو ذلك في الجدة وبحث عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وفعل ذلك عمر في الاستئذان ثلاثا حتى قال له أبي بن كعب يا عمر لا تكن عذابا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال عمر سبحان الله إنما سمعت شيئا فأردت أن أتثبت ورجع عن إنكاره لقول أبي موسى ولم يعرف حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة وكذلك أمر المجوس وباع معاوية سقاية من ذهب بأكثر من وزنها حتى أنكر ذلك عليه عبادة بن الصامت وبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وأراد عمر قسمة مال الكعبة فقال له أبي إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك فأمسك عمر وكان يرد الحيض حتى يطهرن ثم يطفن بالبيت حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فرجع عن قوله وكان يرد المفاضلة في دية الأصابع حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم المساواة بينها فرجع عن قوله إلى ذلك وترك قوله وكان لا يرى توريث المرأة في دية زوجها حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فترك قوله ورجع إلى ما بلغه وكان ينهى عن متعة الحج حتى وقف على أنه صلى الله عليه وسلم أمر بها فترك قوله ورجع إلى ما بلغه وأمر برجم مجنونة زنت حتى أخبره علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كلاما معناه إن المجنون قد رفع عنه القلم فرجع عن رجمها ونهى عن التسمي بأسماء الأنبياء فأخبره طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم يتماد على النهي عن ذلك وأراد ترك الرمل في الحج ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله فرجع عما أراد من ذلك ومثل هذا كثير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أن أصحابه قد يخطئون في فتياهم فكيف يسوغ لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول إنه صلى الله عليه وسلم يأمر باتباعهم فيما قد خطأهم فيه وكيف يأمر بالاقتداء بهم في أقوال قد نهاهم عن القول بها وكيف يوجب اتباع من يخطىء ولا ينسب مثل هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا فاسق أو جاهل لا بد من إلحاق إحدى الصفتين به وفي هذا هدم الديانة وإيجاب اتباع الباطل وتحريم الشيء وتحليله في وقت واحد وهذا خارج عن المعقول وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ومن كذب عليه ولج في النار نعوذ بالله من ذلك وأما قولهم إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا الوحي فهم أعلم به فإنه يلزمهم على هذا أن التابعين شهدوا الصحابة فهم أعلم بهم فيجب تقليد التابعين وهكذا قرنا فقرنا حتى يبلغ الأمن إلينا فيجب تقليدنا وهذه صفة دين النصارى في اتباعهم أساقفتهم وليست صفة ديننا والحمد لله رب العالمين وقد قلنا ونقول إن كل ما احتجوا به مما ذكرنا لو كان حقا لكان عليهم لا لهم لأنه ليس في تقليد الصحابة ما يوجب تقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي فمن العجب العجيب أنهم يقلدون مالكا وأبا حنيفة والشافعي فإذا أنكر ذلك عليهم احتجوا بأشياء يرومون بها إيجاب تقليد الصحابة وهم يخالفون الصحابة خلافا عظيما فهل يكون أعجب من هذا ونعوذ بالله من الخذلان وليس من هؤلاء الفقهاء المذكورين أحد إلا وهو يخالف كل واحد من الصحابة في مئين من القضايا وفي عشرات منها فقد بطل ما نصروا وتركوا ما حققوا وقد ذكرنا في باب الإجماع إبطال قول من قال باتباع الصاحب الذي لا مخالف له يعرف من الصحابة وبينا هنالك أنهم الناس لذلك وأنهم قد خالفوا أحكاما كثيرة لعمر بحضرة المهاجرين والأنصار لم يرو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 عن واحد منهم إنكارا لفعله ذلك كإضعافه الغرم على حاطب في ناقة المزني وغير ذلك وهذا حكم مشتهر منتشر لم يعارضه فيه أحد من الصحابة ولا روي عن أحد منهم إنكارا لذلك فقد تركوه هم يشهدون أن حكم الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة هو الحق فقد أقروا على أنفسهم أنهم تركوا الحق وأنهم أصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ويقال لهم أيضا كيف كان حال حكم الصحابي الواحد الذي لا يعرف له مخالف قبل أن يشتهر وينتشر أكان لازما أن يؤخذ به أو كان غير لازم فإن قال كان غير لازم أوجب أن ذلك الحكم في الدين وجب بعد أن كان غير واجب وهذا كفر وتكذيب لله عز وجل في قوله {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وإن قال كان لازما فقد أوجب لزومه قبل الانتشار وسقط شرطهم الفاسد في الانتشار وهذا القول الفاسد يوجب أن دين الله مترقب فإن انتشر لزم وإن لم ينتشر لم يلزم وهذا كفر بارد وشرك وسخف وبالله تعالى التوفيق وهم يخالفون عمر وزيد بن ثابت في قضاء عمر في الضلع بحمل وفي الترقوة بحمل وفي قضاء زيد في العين القائمة بمائة دينار ولا يعرف له من الصحابة مخالف حتى تحكم بعضهم فلم يستحي من الكذب فقال إنما كان ذلك منهما على وجه الحكومة قال أبو محمد وهذه دعوى فاسدة لا دليل لهم على صحتها أصلا ولا يعجز عن مثلها أحد ويقال لهم مثل ذلك في تقويم الدية بألف دينار وبعشرة آلاف درهم أو باثني عشر ألف درهم ولا فرق وخالفوا ابن عمر وأبا برزة في قولهما إن كل متبايعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا بأبدانهما عن مكان البيع ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة وخالف مالك ابن عمر وابن عباس في قولهما إن استطاعة الحج ليست إلا الزاد والراحلة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 وخالفوا جابر بن عبد الله في نهيه عن بيع المصاحف ولا يعرف لابن عمر ولا لابن عباس ولا لجابر في هاتين المسألتين مخالف من الصحابة وخالف مالك والشافعي أم سلمة وعثمان بن أبي العاص في قولهما إن أقصى أمد النفاس أربعون يوما ولا يعرف لهما في ذلك مخالف من الصحابة وخالف مالك ابن مسعود وأبا الدرداء والزبير وقدامة بن مظعون في إباحة نكاح المريض وجواز ميراثه للمرأة ولا يعلم لهم من الصحابة مخالف في ذلك وخالفوا أبا بكر وعمر وخالد بن الوليد وسويد بن مقرن في إقادتهم من اللطمة ولا يعلم لهم في ذلك مخالف من الصحابة قال أبو محمد وقد أبطلنا في باب الإجماع قول من قال باتباع الأكثر وهذه نصوص يوجب تكرارنا إياها أنها تقليد صحيح فتدخل في باب التقليد وادعوا هم أنها إجماع فوجب التنبيه عليها أيضا في باب الإجماع لذلك وقد بينا هنالك وفي باب الأخبار من كتابنا هذا بطلان قول من قال محال أن يغيب حكم النبي صلى الله عليه وسلم عن الأكثر ويعلمه الأقل وذكر حديث أبي هريرة إن أخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول لله صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث وإن كان منقولا من طريق الآحاد فإن البرهان يضطر إلى تصديقه لأنه لا شك عند كل ذي عقل ومعرفة بالأخبار أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا في ضنك شديد من العيش وكانوا مكدودين في تجارة يضربون لها آفاق بلاد العرب على خشونتها وقلة أموالها وفي نخل يعاونونه بالنص والكد الشديد فإذا وجد أحدهم فرجة حصر وسمع فبطل قول من قال إنه لا يجوز أن يغيب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 حكمه عليه السلام عن الأكثر ويعلمه الأقل وصح ضد ذلك لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وأيضا فنقول لمن قال باتباع الأكثر إنه يلزمك أن تعدهم كلهم ثم تعرف من قال بأحد القولين وتعرف عدد من قال بالقول الثاني وهذا أمر لم يفعلوه قط في شيء من مسائلهم وقد قال تعالى {يأيها لذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند لله أن تقولوا ما لا تفعلون} ونقول لهم أيضا هلا قلتم بالأكثر عددا في الشهود إذا اختلفوا على أن عليا يقول بذلك فأين تقليدكم الإمام الصحابي وأين قولكم باتباع الأكثر عددا فإن قالوا النص منعنا من ذلك وتركوا قولهم إن الصحابي أعلم منا ولا شك أن عليا رضي الله عنه قد عرف من النص الوارد في الشهادات كالذي عرف مالك وأبو حنيفة والشافعي مع أن النص لم يرد في عدد الشهود إلا في الزنى والطلاق والديون فقط وقد رجع الصحابة من قول إلى قول وخالف كل إمام منهم الإمام الذي كان قبله فقد كانت الضوال أيام عمر مهملة لا تمس ثم رأى عثمان بيعها وقد ذكرنا ما خالف فيه عمر أبا بكر قبل هذا وقد نهى عثمان عن القران فلبى علي بهما معا قاصدا معلنا بخلافه فلما قال له في ذلك قال له علي ما كنت لأترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد وحدثني أحمد بن عمر بن عمر نا أبو ذر نا زاهر بن أحمد أنا زنجويه بن محمد نا محمد بن إسماعيل البخاري نا محمد بن يوسف نا سفيان عن أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال قلت لأبي بن كعب لما وقع الناس في أمر عثمان أبا المنذر ما المخرج من هذا الأمر قال كتاب الله تعالى ما استبان لك فاعمل به وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 قال أبو محمد فليقلدوا عليا وأبيا في هذا فإنهما على الحق المبين فيه الذي لا يحل خلافه أصلا وهؤلاء عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود يرون رد فضلات المواريث على ذوي الأرحام وزيد بن ثابت وحده يرى رد الفضل على بيت المال دون ذوي الأرحام وإن كان خصمنا مالكيا أو شافعيا فقد ترك قول الأئمة من الصحابة وقول الجمهور منهم وأخذ بقول زيد وحده وكذلك فعلوا في الأقراء فقالوا هي الأطهار وجمهور الصحابة على أنه الحيض والأقل على أنها الأطهار فإن قالوا قد جاء النص إن زيدا أفرضكم قيل هذا الحديث لا يصح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 ولو صح لكان عليكم لأن في ذلك الحديث ومعاذ أفقهكم فقلدوا معاذا في الفتيا وفي قتل المرتد دون أن يستتاب وفي توريث المؤمن من الكافر وفي أشياء كثيرة خالفتموه فيها واحتج بعضهم بقوله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون} وبقوله تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم} قال أبو محمد وهذا لا يوجب التقليد لأنه قد بينا أنهم لم يتفقوا إلا على ما لا خلاف فيه وعلى الأخذ بسنن النبي صلى الله عليه وسلم وإنكار رأيهم إذا كان فيه خلاف للسنن وعلى ما قد خالفه هؤلاء الحاضرون كالمساقات إلى غير أجل لكن نقركم ما أقركم الله تعالى ونخرجكم إذا شئنا وغير ذلك مما قد كتبناه في موضعه فقط وقد وجدنا أبا أيوب ترك صلاة الركعتين بعد العصر طول مدة عمر فلما مات رجع يصليهما فسأله عن ذلك سائل فقال كان عمر يضرب الناس عليهما وقال ابن عباس قولا فقيل له أين كنت عن هذا أيام عمر فقال هبته حدثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا ابن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا علي بن عبد الله بن المديني ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن مسلم بن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه كان عند ابن عباس فذكر عول الفرائض فأنكره ابن عباس فقال له زفر بن أوس ما منعك يا ابن عباس أن تشير بهذا الرأي على عمر قال هبته وقد روينا عن ابن عباس من طرق صحيحة أنه هم أن يسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي سنة كاملة لا يقدم على أن يسأله عن ذلك هيبة له وروينا عنه أنه قال كنت أضرب الناس مع عمر على الركعتين بعد العصر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 ثم روينا عنه القول بصلاتهما بعد عمر كما حدثنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندر ثنا شعبة عن أبي حمزة قال قال لي ابن عباس لقد رأيت عمر يضرب الناس على الصلاة بعد العصر وقال ابن عباس صل إن شئت ما بينك وبين أن تغيب الشمس وقد ذكر أبو موسى حديث الاستئذان فتهدده عمر بضرب ظهره وبطنه فصح بهذا أن سكوتهم قد يكون تقبة للإسلام أو لئلا يقع تنازع واختلاف وقد يكون تثبتا أو لما شاء الله عز وجل وليس قول أحد لا سكوته حجة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قوله وسكوته حجة قائمة على ما أعلم واحتج بعضهم بأن حكم الإمام لا ينقض لأن أبا بكر ساوى بين الناس وأن عمر فاضل بينهم فلم يرد أحد ما أعطاه أبو بكر قال أبو محمد وهذا خطأ لأن ما ذكروا من مساواة أبي بكر ومفاضلة عمر ليس حكما وإنما هي قسمة مال موكولة إلى اجتهاد الإمام مباح له أن يفاضل ومباح له أن يسوي وليس هذا شريعة تحليل ولا تحريم ولا إيجاب وقد دون عمر ولم يدون أبو بكر وبالجملة فقد يخطىء الإمام غيره واتباع من يجوز أن يخطىء هو الحكم بالظن وقد نهى الله تعالى عن اتباع الظن وأما وجوب طاعة الأئمة فذلك حق كل إمام عدل كان أو يكون إلى يوم القيامة وإنما ذلك فيما وافق طاعة الله عز وجل وكان حقا وليس ذلك في أن يشرعوا لنا قولا لم يأتنا به نص ولا إجماع وبالجملة فكل ما تكلموا به في هذا المكان وموهوا به عن المسلمين وسودوا كتبهم بما سيطول الندم عليه يوم القيامة فهم أترك الناس وأشدهم خلافا للأمة الذين أوجبوا تقليدهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 فيه وقد بينا ذلك في غير مكان من كتبنا وبالله تعالى التوفيق واحتج بعضهم بما حدثنا المهلب ثنا ابن مناس ثنا ابن مسرور ثنا يوسف بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب أخبرني من سمع الأوزاعي يقول حدثني عبدة بن أبي لبابة أن ابن مسعود قال ألا لا يقلدن رجل رجلا دينه إن آمن آمن وإن كفر كفر فإن كان مقلدا لا محالة فليقلد الميت ويترك الحي فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة قال أبو محمد وهذا باطل لأن ابن وهب لم يسم من أخبره ولا لقي عبدة بن أبي لبابة بن مسعود مع أنه كلام فاسد لأن الميت أيضا لا تؤمن عليه الفتنة إذا أفتي بما أفتي ولا فرق بينه وبين الحي في هذا هذا على أن بعض من يخالفنا في التقليد عكس هذا الأمر برأيه وهو المعروف بالباقلاني قال من قلد فلا يقلد إلا الحي ولا يجوز تقليد الميت فكان هذا طريقا من الضلالة جدا لأنه دعوى فاسدة بلا برهان وقول مع سخفه ما نعلم قاله قبله أحد أخبرني أحمد بن عمر العذري ثنا أحمد بن محمد بن عيسى البلوي غندر ثنا خلف بن قاسم ثنا ابن الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النضري الدمشقي ثنا أبو مسهر ثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله عن السائب بن زيد بن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب يقول إن حديثكم شر الحديث إن كلامكم شر الكلام فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل قال فلان وقال فلان ويترك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 كتاب الله من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله وإلا فليجلس فهذا قول عمر لأفضل قرن على ظهر الأرض فكيف لو أدرك ما نحن فيه من ترك القرآن وكلام محمد صلى الله عليه وسلم والإقبال على ما قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وحسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون واحتج بعضهم في ذلك بقبول قول المقومين لأثمان المتلفات والشهادة على أمثالها وهذا من باب الشهادة والخبر لا من باب التقليد لأن الله عز وجل قد أمرنا بالانتصاف من المعتدي بمثل ما اعتدى فيه فلم نأخذ عن الشاهد بأن هذا الشيء مماثل لقيمة كذا شريعة حرمها الله ولا أوجبها ولكنا علمناه عالما بتلك السلعة أو تلك الجرحة فقبلنا شهادته في ذلك على الظالم وليس هذا من باب قال مالك وأبو حنيفة هذا حرام وهذا واجب وهذا مباح فيما لا نص فيه ولا إجماع وقد أمرنا بالشهادة على الحقوق وبقبولها وبالحكم بها وكل ما أمرنا به فليس تقليدا فينبغي لمن اتقى الله عز وجل ألا يلبس على المؤمنين فليس في كتمان العلم وتحريف الكلم عن مواضعه أشد ولا أضر من أن يضل المرء جليسه الذي أحسن الظن به وقعد إليه ليعلمه دين الله عز وجل يسمي له باسم التقليد المحرم شريعة حق ثم يدس له معها التقليد المحرم فيكون كمن دس السم في العسل والبنج في الكعك فيتحمل إثمه وإثم من اتبعه إلى يوم القيامة وقد قال بعض أهل الجهل لو كلفنا النظر لضاعت أمورنا قال أبو محمد وهذا كلام فاسد من وجوه أحدها أنه يقال له بل لو كلفنا التقليد لضاعت أمورنا لأننا لم نكن ندري من نقلد من الفقهاء المفتين وهم دون الصحابة أزيد من مائتي رجل معروفة أسماؤهم وفي الحقيقة لا يدري عددهم إلا الله تعالى إذ بالضرورة ندري أنه قد كان في كل قرية كبيرة للمسلمين مفت وفي كل مدينة من مدائنهم عدة من المفتين والمسلمون قد ملؤوا الأرض من السند إلى آخر الأندلس وسواحل البربر ومن سواحل اليمن إلى ثغور أذربيجان وإرمينية فما بين ذلك والحمد لله رب العالمين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 وأيضا فإن النظر به صلاح الأمور لا ضياعها وأيضا فإن كل امرىء منا مكلف أن يعرف ما يخصه من أمر دينه على ما بينا قبل مما يجب على كل أحد من معرفة أحكام صلاته وصيامه وما يلزمه وما يحرم عليه وما هو مباح له وهذا هو النظر نفسه ليس النظر شيئا غير تعريف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذه اللوازم لنا ولو كلفنا الله تعالى إضاعة أمورنا للزمنا ذلك كما لزم بني إسرائيل قتل أنفسهم إذا أمروا بذلك وهذا أعظم من إضاعة الأمور وقد أمرنا بهرق الخمور وطرح الجيف ورمي السمن الذائب يموت فيه الفأر وحرم علينا الربا وفي هذا كله إضاعة أموال عظيمة لها قيم كثيرة لو أبيحت لكانت من أنفس المكاسب وأوفرها فكيف وليس في النظر إضاعة أمر بل فيه حفظ كل شيء وتوفية كل الأمور حقها ولله الحمد وقد صح عن الصحابة أنهم قالوا بآرائهم صح ذلك عن أبي بكر وابن مسعود وعمر وعلي وغيرهم وكلهم يقول أقول في هذا برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني وزاد بعضهم ومن الشيطان والله ورسوله بريئان وفعل ذلك أيضا من بعدهم فإذا صح ذلك صح أنهم تبرؤوا من ذلك الرأي ولم يروه على الناس دينا فحرام على كل من بعدهم أن يأخذ من فتاويهم بشيء يتدين به إلا أن يصح به نص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي نا أحمد بن خالد نا أبو علي الحسن بن أحمد قال حدثني محمد بن عبيد بن حساب نا حماد بن زيد عن المثنى بن سعيد رده إلى أبي العالية قال قال العباس ويل للأتباع من عثرات العالم قيل له كيف ذلك قال يقول العالم من قبل رأيه ثم يبلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيأخذ به وتمضي الأتباع بما سمعت قال حماد بن زيد حدثنا النعمان بن راشد قال كان الزهري ربما أملى علي حتى إذا جاء الرأي ووقفته عليه فأكتبه فيقول اكتب إنه رأي ابن شهاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 وإنه لعلك أن يبلغك الشيء فيقول ما قاله ابن شهاب إلا بأثر فليعلم أنه رأيي قال أبو محمد لم يدعا رضي الله عنهما من البيان شيئا إلا أتيا به فأعلمك ابن عباس أن كاتب رأي العالم والآخذ به له الويل وأن العالم يقول برأيه وأنه يلزمه ترك ذلك الرأي إذا سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه وأعلمك الزهري أنه يقول برأيه وينهاك عن أن تقول فيما أتاك عنه إنه لم يقله إلا بأثر وهكذا يفعل هؤلاء الجهال فإنهم يقولون لم يقل هذا مالك وفلان وفلان إلا بعلم كان عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم ويحكمون بالظن ويتركون اليقين نعوذ بالله من الخذلان واحتج بعضهم في إثبات التقليد بغريبة جروا فيها على عادتهم في الاحتجاج بكل ما جرى على أفواههم وذلك الحديث الذي فيه إن ابني كان عسيفا على هذا قالوا فقد كان الناس يفتون ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي قال أبو محمد وهذا أعظم حجة عليهم في إبطال التقليد لأن المفتين اختلفوا في تلك المسألة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي فأفتى بعضهم على الزاني غير المحصن بالرجم وأفتى بعضهم عليه بجلد مائة وتغريب عام فكان هذا التنازع لما وقع قد وجب فيه الرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فرد الأمر إليه فحكم بالحق وأبطل الباطل وهكذا الأمر الآن قد اختلف المفتون حتى الآن في تلك المسألة بعينها فقال أبو حنيفة عليه الجلد ولا تغريب عليه حرا كان أو عبدا وقال مالك عليه الجلد والتغريب إلا أن يكون عبدا وقلنا نحن وأصحاب الشافعي عليه الجلد والتغريب على العموم عبدا كان أو غير عبد فوجب أن يرد هذا التنازع الذي بيننا إلى القرآن والسنة فوجدنا نص السنة يشهد لقولنا فوجب الانقياد له فهذا الحديث يبطل التقليد جملة ونحن لم ننكر فتيا العلماء للمستفتين وإنما أنكرنا أن يؤخذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 بها برهان يعضدها ودون رد لها إلى نص القرآن والسنة لأن ذلك يوجب الأخذ بالخطأ وإذا كان في عصره صلى الله عليه وسلم من يفتي بالباطل فهم من بعد موته صلى الله عليه وسلم أكثر وأفشى فوجب بذلك ضرورة أن نتحفظ من فتيا كل مفت ما لم تستند فتياه إلى القرآن والسنة والإجماع واحتجوا أيضا فقالوا إن الصحابة رضي الله عنهم شهدوا أسباب الأوامر منه صلى الله عليه وسلم وما خرج منها على رضا وما خرج منها على غضب فوجب اتباعهم في فتاويهم لذلك قال أبو محمد فيقال لهم وبالله التوفيق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث مبينا على كل من يأتي إلى يوم القيامة لا على أصحابه وحدهم فكل سبب من غضب أو رضى يوجب حكما فقد نقلوه إلينا ولزمهم أن يبلغوه فرضا بقوله صلى الله عليه وسلم ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع فقد نقلوا كل ما شهدوه من ذلك إذا لم يكونوا في سعة من كتمانه وقد أعاذهم الله من ذلك ولو كتموا شيئا مما يوجب حكما في الشريعة مما سمعوا أو مما شاهدوا لاستحقوا أقبح الصفات وقد أعاذهم الله من ذلك ونزههم عنه فلم يقتصروا رضي الله عنهم على فتاويهم دون تبليغ منهم لما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم وشاهدوه منه كما نقلوا إلينا غضبه على الأنصاري الذي أراد أن يقول بالخصوص في قبلة الصائم وغضبه على معاذ في تطويله الصلاة إذا كان إماما وغضبه على من تنزه عما فعل صلى الله عليه وسلم وغضبه على اليهود إذ قال والذي اصطفى موسى على البشر وإعراضه عن عمار إذ تخلق وعن عائشة وفاطمة إذ علقتا السترين المزينين وسروره بقول مجزز المدلجي في أسامة بن زيد وسروره باجتماع الصدقة بين يديه إذ أمر بالصدقة إذا أتاه القوم المجتابون للثمار وإشاحته بوجهه المكرم صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 وأفضل التحيات إذ ذكر النار أورده مسلم في كتاب الزكاة وحياءه صلى الله عليه وسلم من الأنصارية المستفتية في غسل المحيض ووصفه الجبة التي على البخيل إذا أراد أن يتصدق وإشارته على كعب بن مالك بيده في إسقاط النصف من دينه على ابن أبي حدرد وتعجبه بنظره وهيئة وجهه من العباس إذ احتمل المال الكثير دون أن يكون منه صلى الله عليه وسلم في ذلك كلام وضربه صلى الله عليه وسلم بعود في يده بين الماء والطين في حديث أبي موسى ومثل هذا كثير جدا فلم يكن له صلى الله عليه وسلم هيئة ولا حال يوجب حكما من كراهة أو نهي أو إباحة أو ندب أو أمر إلا وقد نقلت إلينا لأن كل ذلك مما بين به صلى الله عليه وسلم مراد ربه تعالى ولو كتموا ذلك عنا لما بلغوا كما لزمهم ولو اقتصروا على تبليغ بعض ذلك دون بعض لدخلوا في جملة من يكتم العلم ولسقطت عدالتهم بذلك وقد نزههم الله تعالى عن هذا وحفظ دينه وقضى بتبليغه إلينا جيلا بعد جيل إلى أن يأتي بعض آيات ربك {هل ينظرون إلا أن تأتيهم لملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل نتظروا إنا منتظرون} وقد علموا رضي الله عنهم أن فتاويهم لا تلزمنا وإنما يلزمنا قبول ما نقلوا إلينا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وقد خالف بعض التابعين الصحابة بحضرتهم فما أنكر الصحابة عليهم ذلك كما أنكروا عليهم مخالفة ما رووه كفعل ابن عمر في ابنه إذ روى حديث الخذف وحديث النهي عن منع النساء إلى المساجد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 فقال ابنه لا تفعل ذلك فأنكر ابن عمر ذلك إنكارا شديدا وكان لا ينكر على من خالفه في فتياه وكذلك سائر الصحابة رضي الله عنهم كإنكار ابن عباس على عروة وغير معارضة حديث النبي صلى الله عليه وسلم بأبي بكر وعمر وكإنكار عمرأن ابن الحصين إذ ذكر حديث الحياء على من عارضه بما كتب في الحكمة وكقول أبي هريرة إذا حدثتك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال في حديث الوضء مما مست النار ووجدنا ابن عباس لم ينكر على عكرمة مخالفته له في الذبيح ولم ينكر أبو هريرة على من خالفه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في إفطار من أصبح جنبا وجميعهم رضي الله عنهم على هذا السبيل لا ينكر على من يخالفه في فتياه وينكر على من خالف روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار ولكن أصحابنا يغفر الله لهم ويسددهم أضربوا على الواجب عليهم من تدبر أحكام القرآن ورواية أخبار النبي صلى الله عليه وسلم واختلاف العلماء ومعرفة مراتب الاستدلال المفرق بين الحق والباطل وأقبلوا على ظلمات بعضها فوق بعض من قراءة طروس معكمة مملوءة من قلت أرأيت فقنعوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 بجوابات لا دلائل عليها وأفنوا في ذلك أعمارهم فصفرت أيديهم من معرفة الحقائق وظلموا من اغتر بهم والأقل منهم شغلوا أنفسهم في أنواع القياس وتخصيص العلل واستخراج علل لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله ولا يقوم على صحتها برهان فقطعوا أيامهم بالترهات ولو اعتنوا بما ألزمهم الله تعالى الاعتناء به من تدبر القرآن وتتبع سنن النبي صلى الله عليه وسلم لاستناروا واهتدوا ولاستحقوا بذلك الفوز والسبق وما توفيقنا إلا بالله تعالى وقال بعض من قوي جهله وضعف عقله ورق دينه إذا اختلف العالمان وتعلق أحدهما بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أو آية وأتى الآخر بقول يخالف ذلك الحديث وتلك الآية فواجب اتباع من خالف الحديث لأننا مأمورون بتوقيرهم ونحن عالمون أن هذا العالم لو تعمد خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان كافرا أو فاسقا وفي براءته من ذلك ما يوجب أنه كان عنده علم يوجب ترك ذلك الحديث ورفع حكم تلك الآية لم يكن عند القائل بهما وبهذا يوصل إلى توقير جميعهم قال أبو محمد وهذا القول في غاية الفساد من وجوه أحدهما أن قائل هذا من أي المذاهب كان أترك الناس لهذا الأصل ويلزمه أن يبيح بيع الخمر تقليدا لسمرة وألا يبيح التيمم للجنب في السفر أصلا تقليدا لعمر وأن يبيح بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها تقليدا له وأن يسقط الكفارة عن الواطىء في نهار رمضان تقليدا لإبراهيم النخعي ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير وأن يتعمد بالجملة كل قولة خالف صاحبها الحديث والقرآن فيأخذ بها وهذا ما لا يفعله مسلم وفيه ترك لمذاهب في الأكثر ومنها أنه لو صح ما ذكر هذا الجاهل لوجب تفسيق ذلك العالم ضرورة ولاستحق لعنة الله عز وجل لأنه كان يكون كاتما لعلم عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن فعل هذا فقد استحق اللعنة بقول الله تعالى {إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 الذين يكتمون مآ أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم لله ويلعنهم للاعنون} وأيضا فلو كان ما ذكر هذا الجاهل لكان ذلك النص الذي توهمه عند ذلك العالم المخالف للحديث قد ضاع ولم ينقل وهذا باطل لأن كلامه صلى الله عليه وسلم كله وحي والوحي ذكر والذكر محفوظ قال الله تعالى {إنا نحن نزلنا لذكر وإنا له لحافظون} وأيضا فيقال لهذا الجاهل ولعل هذا العالم لم يبلغه هذا الحديث أو بلغه فنسيه جملة أو لم ينسه لكنه لم يخطر على باله إذا خالفه كما نسي عمر أن بين يديه محمد بن مسلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا أيوب الأنصاري صاحب رحل النبي صلى الله عليه وسلم وأبا موسى الأشعري عامله صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن وهذان لا يعرفان إلا بكناهما حتى إن أكثر الناس لا يعرف اسمهما البتة فنهى عن التسمي بأسماء الأنبياء عليهم السلام فإذا جاز كما ترى أن لا يمر بباله شيء وهو بين يديه وفي حفظه حتى ينهى عنه فهو فيما يمكن مغيبة عنه أمكن وأحرى وكما نسي عمر أيضا قوله تعالى {إنك ميت وإنهم ميتون} حين موت النبي صلى الله عليه وسلم فقال والله ما مات ولا يموت حتى يسوسنا كلنا حتى تليت عليه هذه الآية فخر مغشيا عليه ثم قام وقال والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا وكما نهى عن المغالاة في صدقات النساء حتى ذكرته المرأة بقول الله تعالى {وإن أردتم ستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} فاعترف بالحق ورجع عن قوله وقد كان حافظا لهذه الآية ولكنه لم يذكرها في ذلك الوقت وكما نسي عثمان رضي الله عنه وهو أحفظ الناس للقرآن قوله تعالى {ووصينا لإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك لتي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من لمسلمين} أمر برجم التي ولدت لستة أشهر وهو حافظ للآية المذكورة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 حتى ذكر بها فذكرها وأمر ألا ترجم أو لعل ذلك العالم كان ذاكرا لتلك الآية وذلك الحديث ولكنه تأول تأويلا ما من خصوص أو نسخ بما لا يصح وجهه كما فعلوا رضي الله عنهم في نهيه صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية فقال بعضهم إنما نهى عنها لأنها كانت حمولة الناس وقال بعضهم لأنها لم تخمس وقال بعضهم لأنها كانت تأكل القذر وقال بعضهم بل حرمت البتة ومثل هذا كثير فهذا كله يخرج تارك الحديث من العلماء السالفين عن الفسق وعن المجاهرة بخلاف نص القرآن والحديث ومعصية النبي صلى الله عليه وسلم الموجبة سخط الله تعالى حدثنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا بندار ثنا غندار نا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضال يضل الناس بغير ما أنزل الله ومصور ورجل قتل نبيا أو قتله نبي قال أبو محمد فنعيذ الله من سلف من القصد إلى هذه المرتبة وإنما البلية على من تدين بما لم يؤده إليه اجتهاده مما هو عالم مقر أنه لم ينزله الله تعالى وكل من سلف من الأئمة رضي الله عنهم إنما أداهم إلى ما أفتوا به اجتهادهم فالمخطىء منهم معذور مأجور أجرا واحدا هذا لا يظن بهم مسلم سواه وإنما أن يكون عندهم علم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 ترك الحديث المنقول ولم يبلغوه ولا نقلوه فهم مبرؤون من ذلك ومنزهون عنه لأن فاعل ذلك ملعون وأما الخطأ فليس ذلك منفيا عنهم بل هو ثابت عليهم وعلى كل بشر فصح بما ذكرنا أن التأويل الذي ذكره الجاهل الذي وصفنا قوله ورام به إثبات التقليد هو الذي يوجب لو صح على العلماء الفسق ضرورة ويوجب لهم اللعنة وقد أعاذهم الله تعالى من ذلك وأما نحن فننزههم عن ذلك ولكنا نقول إنهم يصيبون ويخطئون وكان كل ما قالوه مردود إلى القرآن والسنة ومعروض عليهما فلأيهما شهد القرآن والسنة فهو الصحيح وغيره متروك معذور صاحبه الذي قاله ومأجور باجتهاده وأما مقلده ومتبعه فملوم آثم عاص لله عز وجل وبالله تعالى التوفيق وذكر بعضهم أن إبراهيم النخعي قال لو رأيتهم يتوضؤون إلى الكوعين ما تجاوزتهما وأنا أقرؤها {لمرافق ومسحوا} قال أبو محمد هذا كذب على إبراهيم ولو صح ما انتفعوا به ولكان ذلك خطأ من إبراهيم عظيما فما إبراهيم معصوم من الخطأ فكيف ولا يصح عنه لأن راويه عنه أبو حمزة ميمون وهو ساقط جدا غير ثقة وإنما الصحيح عنه خلاف هذا من الطرق الصحاح كما حدثنا أحمد بن عمر بن أنس ثنا أبو ذر الهروي ثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ثنا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد الكسي ثنا محمد بن بشر العبدي عن الحسن بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 صالح عن أبي الصباح عن إبراهيم النخعي قال لا طاعة مفترضة إلا لنبي وكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم الأصلي عن أبي زيد المروزي عن محمد بن يوسف الفربري عن البخاري محمد بن إسماعيل ثنا محمد بن يوسف ثنا سفيان هو الثوري عن منصور عن سعيد بن جبير قال كان ابن عمر يدهن بالزيت قال فذكرته لإبراهيم النخعي فقال ما تصنع بقوله حدثني الأسود عن عائشة قالت كأني أنظر وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم قال أبو محمد فهذا الذي يليق بإبراهيم رحمه الله وهو ألا يلتفت إلى قول ابن عمر إذا وجد عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فكيف يظن من له مسكة عقل أن إبراهيم يترك قول ابن عمر لشيء رواه عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ويترك نص القرآن لقوم لم يسمعهم ما يظن هذا بإبراهيم وينسبه إليه وقاح سخيف جاهل وبالله تعالى نعوذ من الخذلان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 وأتى بعضهم بعظيمة فقال إن عمر بن عبد العزيز قال يحدث للناس أحكام بمقدار ما أحدثوا من الفجور قال أبو محمد هذا من توليد من لا دين له ولو قال عمر ذلك لكان مرتدا عن الإسلام وقد أعاذه الله تعالى من ذلك وبرأه منه فإنه لا يجيز تبديل أحكام الدين إلا كافر والصحيح عن عمر بن عبد العزيز ما حدثناه حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي أحمد الجرجاني عن الفربري عن البخاري ثنا العلاء بن عبد الجبار ثنا عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار قال كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا يقبل إلا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فهذا عمر بن عبد العزيز لا يأمر ولا يجيز إلا حديث النبي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 صلى الله عليه وسلم وحده وروي أيضا أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه عدي بن عدي الكندي عامله على الموصل يقول إن وجدتها أكثر البلاد سرقا ونقبا أفآخذهم بالظنة أم أحكم بمر الحق فكتب إليه عمر بن عبد العزيز إن أخذتم بمر الحق فمن لم يصلحه الحق فلا أصلحه الله قال فما خرجت منها إلا وهي أصلح البلاد قال أبو محمد والذي اخترع هذه الكذبة على عمر بن عبد العزيز لا يخلو من أحد وجهين إما إن يكون كافرا أو زنديقا ينصب للإسلام الحبائل أو يكون جاهلا لم يدرك مقدار ما أخرج من رأسه لأن إحداث الأحكام لا يخلو من أحد أربعة أوجه إما إسقاط فرض لازم كإسقاط بعض الصلاة أو بعض الصيام أو بعض الزكاة أو بعض الحج أو بعد حد الزنى أو حد القذف أو إسقاط جميع ذلك وإما زيادة في شيء منها أو إحداث فرض جديد وإما إحلال محرم كتحليل لحم الخنزير والخمر والميتة وإما تحريم محلل كتحريم لحم الكبش وما أشبه ذلك وأي هذه الوجوه كان فالقائل به مشرك لاحق باليهود والنصارى والفرض على كل مسلم قتل من أجاز شيئا من هذا دون استتابة ولا قبول توبة إن تاب واستصفاء ماله لبيت مال المسلمين لأنه مبدل لدينه وقد قال صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه ومن الله تعالى نعوذ من غضبه لباطل أدت إلى مثل هذه المهالك واحتجوا بكتابة أبي بكر المصحف بعد أن لم يكن مجموعا وذكروا حديثا عن زيد بن ثابت أنه قال افتقدت آية من سورة براءة هي {لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم} فلم أجدها إلا عند الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 رجل واحد وذكروا في ذلك تكاذيب وخرافات أنهم كانوا لا يثبتون الآية إلا حتى يشهد عليها رجلان وهذا كله كذب بحت من توليد الزنادقة وأما جمع أبي بكر رضي الله عنه المصحف فنعم ووجه ذلك بين وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه القرآن مفرقا فيأمر بضم الآية النازلة إلى آية كذا من سورة كذا فلم يكن يمكن أن يكتب القرآن في مصحف جامع لأجل ذلك فلما مات صلى الله عليه وسلم واستقر الوحي وعلم أنه لا مزيد فيه ولا تبديل كتبه أبو بكر حينئذ وأثبته وأما افتقار زيد بن ثابت الآية فليس ذلك على ما ظنه أهل الجهل وإنما معناه أنه لم يجدها مكتوبة إلا عند ذلك الرجل وهذا بين في حديث حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله عن أبي إسحاق البلخي عن الفربري عن البخاري حدثنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري قال أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت قال لما نسخنا المصحف في المصاحف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين {من لمؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا لله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} قال أبو محمد بيان ما قلناه منصوص في هذا الحديث نفسه وذلك أن زيدا حكى أنه سمع هذه الآية من النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت عند زيد أيضا وقد يدخل هذا الحديث علة وهي أن خارجة لم يحك أنه سمعه من أبيه وأيضا فقد حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال ثنا محمد بن معاوية المرواني ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن معمر ثنا أبو داود هو الطيالسي حدثنا أبو عوانة عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سارها قبل وفاته فقال لها إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة وإنه عارضني به العام مرتين ولا أرى الأجل إلا قد اقترب وذكر باقي الحديث فهذا نص جلي على أن القرآن إنما هو جمعه وألفه الله تعالى وأقرأه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في عام موته مرتين كما هو وإنه لم يجمعه أحد دون الله تعالى فهو كما هو الآن على ذلك الجمع الأول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 وأيضا فقد حدثنا أحمد بن محمد الجسوري ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال أي القراءتين تعدون أول قلنا قراءة عبد الله قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض عليه القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قبض فيه فإنه عرض عليه مرتين فحضره عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل قال أبو محمد أبو ظبيان هو حصين بن جندب الجنبي وقد ذكرنا من جمع القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذه الآية في جملته عندهم وليس عدم زيد وجودها إلا عند خزيمة بموجب أنها لم تكن إلا عند خزيمة بل كل من قرأ على عثمان وأبي الدرداء وابن مسعود وعلي قد قرؤوا عليهم هذه الآية بلا شك وفي هذا كفاية وقد روى قوم أن الآية التي افتقد زيد من سورة براءة وهي {لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بلمؤمنين رءوف رحيم} وهذا كذب بحت لكل ما ذكرنا آنفا وأيضا فقد روي عن البراء أن آخر سورة نزلت سورة براءة وبعث النبي بها صلى الله عليه وسلم فقرأها على أهل الموسم علانية وقال بعض الصحابة وأظنه جابر بن عبد الله ما كنا نسمي براءة إلا الفاضحة قال أبو محمد فسورة قرئت على جميع العرب في الموسم وتقرع بها كثير من أهل المدينة ومنها يكون منها آية خفيت على الناس هذا ما لا يظنه من له رمق وبه حشاشة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 ويبين كذب هذه الأخبار ما رويناه بالأسانيد الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل سورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم وأنه صلى الله عليه وسلم كانت تنزل عليه الآية فيرتبها في مكانها ولذلك تجد آية الكلالة وهي آخر آية نزلت وهي في سورة النساء في أول المصحف وابتداء سورة {قرأ بسم ربك لذي خلق} في آخر المصحف وهما أول ما نزل فصح بهذا أن رتبة الآي ورتبة السور مأخوذة عن الله عز وجل إلى جبريل ثم إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا كما يظنه أهل الجهل أنه ألف بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك ما كان القرآن منقولا نقل الكافة ولا خلاف بين المسلمين واليهود والنصارى والمجوس أنه منقول عن محمد صلى الله عليه وسلم نقل التواتر ويبين هذا أيضا ما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن كل ليلة في رمضان على جبريل فصح بهذا أنه كان مؤلفا كما هو عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقولهصلى الله عليه وسلم تركت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي والأحاديث الصحاح أنه صلى الله عليه وسلم قرأ المص والطور والمراسلات في صلاة المغرب وأن معاذا قرأ في حياته صلى الله عليه وسلم البقرة في صلاة العتمة وأنه صلى الله عليه وسلم خطب ب {ق ولقرآن لمجيد} وذكر صلى الله عليه وسلم خواتم آل عمران وسورة النساء وأمره صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ القرآن من أربعة من أبي وعبد الله بن مسعود وزيد ومعاذ وقول عبد الله بن عمرو بن العاص للنبي عليه السلام في قراءة القرآن كل ليلة وأمره صلى الله عليه وسلم أن لا يقرأ في أقل من ثلاث والذين جمعوا القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة ذلك منهم أبو زيد وزيد وأبي ومعاذ وسعيد بن عبيد وأبو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 الدرداء وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بقراءة القرآن في أيام لا تكون أقل من ثلاث فكيف يقرأ ويجمع وهو غير مؤلف هذا محال لا يمكن البتة وهذا كلها أحاديث صحاح الأسانيد لا مطعن فيها وبهذا يلوح كذب الأخبار المفتعلة بخلافها لأن تلك لا تصح من طريق النقل أصلا فبطل ظنهم أن أحدا جمع القرآن وألفه دون النبي صلى الله عليه وسلم ومما يبين بطلان هذا القول ببرهان واضح أن في بعض المصاحف التي وجه بها عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق واوات زائدة على سائرها وفي بعض المصاحف {له ما في لسماوات وما في لأرض وإن لله لهو لغني لحميد} في سورة الحديد وفي بعضها بنقصان هو وأيضا فمن المحال أن يكون عثمان رضي الله عنه أقرأ الخلفاء وأقدمهم صحبة وكان يحفظ القرآن كله ظاهرا ويقوم به في ركعة ويترك قراءته التي أخذها من فم النبي صلى الله عليه وسلم ويرجع إلى قراءة زيد وهو صبي من صبيانه وهذا ما لا يظنه إلا جاهل غبي ومنها أن عاصما روى عن زر وقرأ عليه لم يقرأ على زيد ولا على من قرأ على زيد شيئا إلا أنه قد صح عنه أنه عرض على زيد فلم يخالف ابن مسعود وهذا ابن عامر قارىء أهل الشام لم يقرأ على زيد شيئا ولا على من قرأ على زيد وإنما قرأ على أبي الدرداء ومن طريق عثمان رضي الله عنهما وكذلك حمزة لم يأخذ من طريق زيد شيئا وقد غلط قوم فسموا الأخذ بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 وبما اتفق عليه علماء الأمة تقليدا وهذا هو فعل أهل السفسطة والطالبين لتلبيس العلوم وإفسادها وإبطال الحقائق وإيقاع الحيرة فلا شيء أعون على ذلك من تخليط الأسماء الواقعة على المعنى ومزجها حتى يوقعوا على الحق اسم الباطل لينفروا عنه الناس ويوقعوا على الباطل اسم الحق ليوقعوا فيه من أحسن الظن بهم وليجوزوه عند الناس كما يحكى عن فساق باعة الدواب أنهم يسمون أورايهم بأسماء البلاد فإذا عرض الحمار للبيع أقسم بالله إن البارحة نزل من بلد كذا وكذا وهو يعني الآري الذي اعتلف فيه ويظن المبتاع أنه من جلب المذكور فهذا فعل أهل الشر والفسق وفاعل هذا في الديانة أسوأ حالا وأعظم جرما من فاعله في سائر المعاملات فاعلم الآن أن قبول ما صح بالنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وقبول ما أوجبه القرآن بنصه وظاهره وقبول ما أجمعت عليه الأمة ليس تقليدا ولا يحل لأحد أن يسميه تقليدا لأن ذلك تلبيس وإشكال ومزج الحق بالباطل لأن التقليد على الحقيقة إنما هو قبول ما قاله قائل دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير برهان فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليدا وقام البرهان على بطلانه وهو غير ما قام البرهان على صحته فحرام أن يسمى الحق باسم الباطل والباطل باسم الحق وقد قال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} وقد أنذر عليه السلام بقوم يستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها وقد احتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى {وما كان لمؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا في لدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} قالوا وقد أوجب الله تعالى على الناس قبول نذارة المنذر لهم قالوا وهذا أمر منه تعالى بتقليد العامي للعالم قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر قط بقبول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 ما قال المنذر مطلقا لكنه يقال إنما أمر بقبول ما أخذ ذلك في تفقههم في الدين عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الله عز وجل لا ما اخترع مخترع من عند نفسه ولا ما زاد زائد في الدين من قبل رأيه ومن تأول ذلك على الله عز وجل وأجاز لأحد من المخلوقين أن يشرع شريعة غير منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفر وحل دمه وماله وقد سمى الله من فعل ذلك مفتريا فقال تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} قال أبو محمد وظن قوم أنهم تخلصوا من التقليد بوجه به تحققوا بالدخول فيه وتوسطوا عنصره وهو أنهم يبطلون حجاجا تؤيد ما وجدوا أسلافهم عليه فقط ثم لا يبالون أشغبا كانت الحجاج أم حقا ويضربون عن كل حجة خالفت قولهم فإن كانت آية أو حديثا تأولوا فيها التأويلات البعيدة وحرفوهما عن مواضعهما فدخلوا في قوله تعالى {من لذين هادوا يحرفون لكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا وسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في لدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا وسمع ونظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم لله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} فإن أعياهم ذلك قالوا هذا خصوص وهذا متروك وليس عليه العمل قال أبو محمد وهذا أقبح ما يكون من التقليد وأفحشه كالذي يفعل مقلدو مالك وأبي حنيفة والشافعي فإنهم إنما يأخذون من الحجاج ما وافق مذهبهم وإن كان خبرا موضوعا أو شغبا فاسدا ويتركون ما خالفه وإن كان نص قرآن أو خبرا مسندا من نقل الثقات والعجب أنهم ينسون التقليد ويقولون إن المقلد عاص لله ويقولون لا يجوز أن يؤخذ من أحد ما قامت عليه حجة ويقولون ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك ثم إنهم مع هذا لا يفارقون قول صاحبهم بوجه من الوجوه وأما أهل بلادنا فليسوا ممن يتغنى بطلب دليل على مسائلهم وطالبه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 منهم في الندرة إنما يطلبه كما ذكرنا آنفا فيعرضون كلام الله تعالى وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم على قول صاحبهم وهو مخلوق مذنب يخطىء ويصيب فإن وافق قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم قول صاحبهم أخذوا به وإن خالفاه تركوا قول الله جانبا وقوله صلى الله عليه وسلم ظهريا وثبتوا على قول صاحبهم وما نعلم في المعاصي ولا في الكبائر بعد الشرك المجرد أعظم من هذه وأنه لأشد من القتل والزنى لأن فيما ذكرنا الاستخفاف بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالدين ولأن من ذكرنا قد جاءته موعظة من ربه فلم ينته وعاد إلى ما نهي عنه وعرف أنه باطل فتدين به واستحله وعلمه الناس وأما القاتل والزاني فعالمان أن فعلهما خطأ وأنهما مذنبان فهما أحسن حالا ممن ذكرنا وقد قال تعالى {لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون} هذا وهم يقرون أن الفقهاء الذين قلدوا مبطلون للتقليد وأنهم قد نهوا أصحابهم عن تقليدهم وكان أشدهم في ذلك الشافعي فإنه رحمه الله بلغ من التأكيد في اتباع صحاح الآثار والأخذ بما أوجبته الحجة حيث لم يبلغ غيره وتبرأ من يقلد جملة وأعلن بذلك نفعه الله به وأعظم أجره فلقد كان سببا إلى خير كثير فمن أسوأ حالا ممن يعتقد أن التقليد ضلال وأن التقليد هو اعتقاد القول قبل اعتقاد دليله ثم هم لا يفارقون في شيء من دينهم وهذا مع ما فيه من المخالفة لله عز وجل ففيه من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 نقص العقل والتمييز عظيم نعوذ بالله من الخذلان ونسأله التوفيق والعصمة فكل شيء بيده لا إله إلا هو وحدثنا طائفة من الأشعرية أبدعوا في قولهم بالتقليد قولا طريفا في السخف وهو أن قالوا الفرض على العامي إذا نزلت به النازلة أن يسأل عن أفقه من في ناحيته فإذا دل عليه سأله فإذا أفتاه لزمه الأخذ به ولا يحل للعامي أن يأخذ بقول ميت من العلماء قديما كان أو حديثا صاحبا كان أو تابعا أو من بعدهم فإن نزلت بذلك العامي تلك النازلة بعينها مرة أخرى لم يجز له أن يأخذ تلك الفتيا التي أفتاه الفقيه بها ولكن يسأله مرة ثانية أو يسأل غيره فما أفتاه به أخذ به سواء كانت تلك الفتيا الأولى غيرها وقالوا إن الفرض على كل أحد إنما هو ما أداه إليه اجتهاده فيما لا نص فيه فكل مجتهد في هذا الموضع فهو مصيب قال أبو محمد ويكفي من بطلان هذا القول أنها كلها قضايا مفتراة ودعاوى بلا برهان أصلا فإن قالوا قال الله تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} قلنا صدق الله تعالى وكذب محرف قوله أهل الذكر هم رواة السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم والعلماء بأحكام القرآن برهان ذلك قوله تعالى {ثاني عطفه ليضل عن سبيل لله له في لدنيا خزي ونذيقه يوم لقيامة عذاب لحريق} فصح أن الله تعالى إنما أمرنا بسؤالهم ليخبرونا بما عندهم من القرآن والسنن لا لأن يشرعوا لنا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى بآرائهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة وفي هذا كفاية وبالله تعالى التوفيق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 فصل ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد قال أبو محمد قد ذكرنا كل ما موه به القائلون بالتقليد وبينا بطلانه وانتقاضه بعون الله تعالى لنا ولله الحمد ونحن الآن ذاكرون ما قاله الله تعالى في إبطال التقليد ونبين وجه الحجاج في بيان سقوطه وأنه لا يحل تصريفه في دين الله عز وجل أصلا فمن ذلك أن يقال لمن قلد ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت فإن أخذ يحتج في فضل من قلد ووصف سعة علمه سئل أكان قبله أحد أفضل منه وأعلم أم لم يكن قبله أحدا أعلم منه ولا أفضل منه فإن قال لم يكن قبله أحد أفضل منه كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله إننا لا ندرك بإنفاقنا مثل أحد ذهبا مد أحد من أصحابه ولا نصيفه وبقوله صلى الله عليه وسلم إنه ما من عام إلا والذي بعده دونه وقائل هذا مخالف للإجماع وخارج عن سبيل المؤمنين ولا شك عند كل مؤمن أن أبا بكر وعائشة وعليا وعمر ومعاذا وأبيا وزيدا وابن مسعود وابن عباس أعلم بما شاهدوا من نزول القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل من سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وابن القاسم وداود ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وأبي ثور وهؤلاء الفقهاء رحمهم الله هم الذين قلدتهم الطوائف بعدهم ما نعلم الآن على ظهر الأرض أحدا يقلد غيرهم لا سيما وقد حدثنا أحمد بن عمر العذري ثنا علي بن الحسن بن فهر ثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي ثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 الهيثم بن جميل قلت لمالك بن أنس يا أبا عبد الله إن عندنا قوما وضعوا كتبا يقول أحدهم حدثنا فلان عن فلان عن عمر بن الخطاب بكذا وحدثنا فلان عن إبراهيم بكذا ونأخذ بقول إبراهيم قال مالك صح عندهم قول عمر قلت إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم فقال مالك هؤلاء يستتابون قال أبو محمد فإن قال بلى قد كان من ذكرتم وغيرهم مما كان بعد ما ذكرتم ومع هؤلاء المذكورين وقبلهم أفضل منهم وأعلم بالدين قيل له فلم تركت الأفضل والأعلم وقلدت الأنقص فضلا وعلما فإن قال لأنه أتى بعض الأولين متعقبا قيل له فقلد من أتى بعدهم أيضا متعقبا على هؤلاء فإن كان مالكيا أو شافعيا أو حنفيا أو سفيانيا أو أوزاعيا قيل له فقلد أحمد بن حنبل فإنه أتى هؤلاء ورأى علمهم وعلم غيرهم وتعقب على جميعهم ولا خلاف بين أحد من علماء أهل السنة أصحاب الحديث منهم وأصحاب الرأي في سعة علمه وتبجحه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وفتاوى الصحابة والتابعين وفقهه وفضله وورعه وتحفظه في الفتيا أو قلد إسحاق بن إبراهيم الحنظلي فقد كان كذلك مع دقة النظر وصحة الفهم أو قلد أبا ثور فقد كان غاية في ذلك كله وإن كان حنبليا فقيل له قلد محمد بن نصر المروزي فإنه أتى متعقبا بعد أحمد ولقد لقي أحمد وأخذ عنه وحوى علمه ولقي أصحاب مالك والشافعي وأصحاب أصحاب أبي حنيفة وأخذ علمهم وقد كان في الغاية التي لا وراء بعدها في سعة العلم بالقرآن والحديث والآثار والحجاج الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 ودقة النظر مع الورع العظيم والدين المتين أو محمد بن جرير الطبري فكان في علمه ودينه بحيث عرف أو الطحاوي فقد كان من العلم أو داود بن علي فكان من سعة الرواية والعلم بالقرآن والحديث والآثار والإجماع والاختلاف ودقة النظر والورع بحيث لا مزيد وقد أتى متأخرا متعقبا مشرفا على مذهب كل من تقدمه فإن قلد داود قيل له قلد من أتى بعده متعقبا عليه ومخالفه كولده وابن سريج وكالطبري وكمحمد بن نصر المروزي والطحاوي وهكذا أبدا يقلد الآخر فالآخر وهذا خروج عن المعقول والقياس وعن الدين جملة وحتى لو مالوا إلى تقليد الأفضل لبطل عليهم بأن الأفاضل على خلاف ذلك فقد رجع عمر إلى قول المرأة من عرض النساء إذ هم بالمنع من المغالاة في الصداق وعمر أفضل منها بلا شك وقد كان أبو بكر وعمر يجمعان الصحابة ويسألانهم فلو كان قول الأفضل واجبا أن يتبع لما كان لجمعهما الصحابة معنى لأنهما أفضل ممن جمعا ليعرفا ما عندهم ولكانا في ذلك مخطئين وكل هذه أقوال فاسدة بلا برهان على صحة شيء منها وليس طريق الفضل من طريق الاتباع في شيء فقد يخطىء الفاضل فيحرم اتباعه على الخطأ ولا ينقص ذلك من فضله شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء سلمان أفقه إذ منعه سلمان من قيام جميع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 الليل ومن مواترة الصيام فكان سلمان أفقه من أبي الدرداء وكان أبو الدرداء أفضل من سلمان فأبو الدرداء بدري عقبي لا تجزأ سلمان منه وأول مشاهد سلمان فالخندق فقد شهد صلى الله عليه وسلم أن الأنقص فضلا أتم فقها وقد قال صلى الله عليه وسلم فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وقد قال صلى الله عليه وسلم ورب مبلغ أوعى من سامع وإنما خاطب بذلك الصحابة فغير منكر ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق ويكفي من هذا أن كل ما ذكرنا من الفقهاء الذين قلدوا مبطلون التقليد ناهون عنه مانعون منه مخبرون أن فاعله على باطل وقد حدثنا حمام عن الباجي عن أسلم القاضي عن المازني عن الشافعي أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره وحدثنا عبد الرحمن بن سلمة ثنا أحمد بن خليل ثنا خالد بن سعد ثنا أحمد بن خالد أنا يحيى بن عمر أنا الحارث بن مسكين ثنا ابن وهب قال سمعت مالكا وقال له ابن القاسم ليس أحد بعد أهل المدينة أعلم بالبيوع من أهل مصر قال له مالك من أين علموا ذلك قال منك يا أبا عبد الله قال مالك ما أعلمها أنا فكيف يعلمونها هم قال أبو محمد كيف وقد أغنانا الله تعالى عن قولهم في ذلك بما نص في كتابه من إبطال التقليد فمن قول الله عز وجل {مثل لذين تخذوا من دون لله أوليآء كمثل لعنكبوت تخذت بيتا وإن أوهن لبيوت لبيت لعنكبوت لو كانوا يعلمون} ثم قال الله تعالى على أثر هذه الآية {وتلك الأمثال نضربها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 للناس وما يعقلهآ إلا العالمون} قال أبو محمد فمن اتخذ رجلا إماما يعرض عليه قول ربه وقول نبيه صلى الله عليه وسلم فما وافق فيه قول ذلك الرجل قبله وما خالفه ترك قول ربه تعالى وقول نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقر أن هذا قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم والتزم قول إمامه فقد اتخذ دون الله تعالى وليا ودخل في جملة الآية المذكورة اللهم إننا نبرأ إليك من هذه الفعلة فلا كبيرة أعظم منها وقال تعالى {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم لله لذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون لله ولا رسوله ولا لمؤمنين وليجة ولله خبير بما تعملون} {أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم لله لذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون لله ولا رسوله ولا لمؤمنين وليجة ولله خبير بما تعملون} } قال أبو محمد ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلا بعينه عيارا من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام سائر علماء الأمة وقال تعالى {يوم تقلب وجوههم في لنار يقولون يليتنآ أطعنا لله وأطعنا لرسولا * وقالوا ربنآ إنآ أطعنا سادتنا وكبرآءنا فأضلونا لسبيلا} وقال تعالى {فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين} وقال تعالى {وقالوا لن يدخل لجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} قال أبو محمد فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهد لقوله أو ببرهان على صدق قوله وإلا فليس صادقا لكنه كاذب آفك مفتر على الله عز وجل ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ضل بنص القرآن واستحق الوعيد بالنار نعوذ بالله منها وما أدى إليها وقال تعالى حاكيا عن الجن الذين أسلموا مصدقا لهم ومثبتا عليهم {وأنا ظننآ أن لن تقول لإنس ولجن على لله كذبا} فبطل ظن من ظن ذلك في رئيس قلده لم يأمر الله تعالى بأن يقلده وقال تعالى {إذ تبرأ لذين تبعوا من لذين تبعوا ورأوا لعذاب وتقطعت بهم الأسباب} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 قال أبو محمد هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم فإنهم رحمهم الله تبرؤوا في الدنيا والآخرة من كل من قلدهم وفاز أولئك الأفاضل الأخيار وهلك المقلدون لهم بعد ما سمعوا من الوعيد الشديد والنهي عن التقليد وعلموا أن أسلافهم الذين قلدوا قد نهوهم عن تقليدهم وتبرؤوا منهم إن فعلوا ذلك ومن ذلك ما حدثنا أحمد بن عمر ثنا علي بن الحسن بن فهر حدثنا أبو الطاهر محمد بن أحمد الذهلي ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي ثنا مالك قال كان ربيعة يقول لابن شهاب إن حالي ليس يشبه حالك أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به ومن شاء تركه وقد ذكرنا قول مالك وندامته على القول به وقال أبو حنيفة علمنا هذا رأي من أتانا بخير منه قبلناه منه وقال عز وجل {وإذا قيل لهم تبعوا مآ أنزل لله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} قال أبو محمد وهذا نص ما فعل خصومنا بلا تأويل ولا تدبر بل تعرض عليهم الآية والحديث الصحيح الذي يقرون بصحته وكلاهما مخالف لمذاهب لهم فاسدة فيأبون قبولها لا بفارق ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا فقد أجابهم تعالى جوابا كافيا وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} وقال تعالى {أفرأيت من تخذ إلهه هواه وأضله لله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد لله أفلا تذكرون} قال أبو محمد هذه صفة ظاهرة من كل مقلد يعرفها من نفسه ضرورة لأنه هوى تقليد فلان فقلده بغير علم ووجدناه لا ينتفع بسمعه فيما يسمع من الآي والسنن المخالفة لمذهبه ولا انتفع بصره فيما أري من ذلك ولا بعقله فيما علم من ذلك ووجدناه ترك طلب الهدى من كتاب الله تعالى وكلام نبيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 صلى الله عليه وسلم وطلب الهدى ممن دون الله تعالى فضل ضلالا بعيدا فواحسرتاه عليهم وواأسفاه لهم وقال تعالى {قل أندعوا من دون لله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا لله كلذي ستهوته لشياطين في لأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى لهدى ئتنا قل إن هدى لله هو لهدى وأمرنا لنسلم لرب لعالمين} قال أبو محمد وهذا نص فعل المقلد لأنه التزم اتباع من لا ينفعه ولا يضره ولا يشفع له يوم القيامة ولا ينيله من حسناته حسنة ولا يحط عنه من سيئاته سيئة وكذلك دعاه أصحابه إلى الهدى بزعمهم فأكذبهم تعالى وقال {ولن ترضى عنك ليهود ولا لنصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى لله هو لهدى ولئن تبعت أهوآءهم بعد لذي جآءك من لعلم ما لك من لله من ولي ولا نصير} فلم يجعل هدى إلا ما جاء من عنده تعالى وقال تعالى {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليهآ آباءنا ولله أمرنا بها قل إن لله لا يأمر بلفحشآء أتقولون على لله ما لا تعلمون} وهكذا فعل المقلدون فإنهم أباحوا لحوم السباع والحمر الأهلية وقد جاء أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريمها وآخذوا الناسي وألزموا شريعة الكفارة المخطىء وقد جاء نص القرآن والسنة بإسقاط ذلك كله فلما أخبروا أن ذلك كله فواحش قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها وقال تعالى ذاما لقوم قلدوا أسلافهم وحاكيا عنهم أنهم قالوا {بل قالوا إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك مآ أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ آبآءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون} وقال تعالى {وإذا قيل لهم تعالوا إلى مآ أنزل لله وإلى لرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنآ أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} وقال تعالى {يأيها لناس كلوا مما في لأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين * إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون * وإذا قيل لهم تبعوا مآ أنزل لله قالوا بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 ومن قلد فقد قال على الله ما لا يعلم وهذا نص كلام رب العالمين الذي إليه معادنا وبين يديه موقفنا وهو سائلنا عما أمرنا به من ذلك ومجازينا بحسب ما أطعنا أو عصينا فليتق الله على نفسه أمرؤ يعلم أن وعد الله حق وأن هذه عهود ربه إليه وليتب عن التقليد وليفتش حاله فإن رأى فيها هذه الصفات التي ذمها الله تعالى فليتدارك نفسه بالتوبة من ذلك وليرجع إلى بشرى قبول قول ربه تعالى إذ يقول {ولذين جتنبوا لطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى لله لهم لبشرى فبشر عباد * لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب} {ولذين جتنبوا لطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى لله لهم لبشرى فبشر عباد * لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب} فالمحروم من حرم هذه البشرى وخرج عن هذه الصفة المحمودة نسأل الله أن يكتبنا في عداد أهلها وأن يثبتنا في جملتهم آمين فقد فاز من وصفه الله تعالى بأنه هداه وبأنه مبشر وأنه من أولي الألباب وهذه صفة من استمع الأقوال فلم يقلد واختار أحسنها والأحسن هو ما شهد الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم بالحسنى مما وافق القرآن والسنة وبالله تعالى التوفيق فقد صح بنص كلام الله تعالى بطلان تقليد الرجال والنساء جملة وتحريم اتباع الآباء والرؤساء البتة وعلى هذا كله السلف الصالح أخبرنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء وهو ما دون الولد والوالد فقال عمر بن الخطاب إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر قال أبو محمد هذا هو الحديث الذي موهوا به واستحلوا الكذب بإبراء مفردا مما قبله وإنما استحى عمر من مخالفة أبي بكر رضي الله عنهما في اعترافه بالخطأ وأنه ليس كلامه كله صوابا لا في قوله في الكلالة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 وبرهان ذلك أن عمر أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء وقد اعترف بأنه لم يفهمها قط وحتى لو صح أنه وافق أبا بكر في الكلالة في الحديث المذكور لما كانت فيه حجة لأن الشعبي راوي الحديث لم يدرك عمر وأبعد روايته فعن علي على اختلاف في رؤيته أيضا وأما الاضطراب عن عمر في الجد فإن محمد بن سعيد أخبرني عن أحمد بن عون الله عن قاسم بن أصبغ عن الخشني عن بندار عن ابن أبي عدي شعبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال قال عمر بن الخطاب حين طعن إني لم أقض في الجد شيئا وأما الاختلاف عنه رضي الله عنه في الكلالة فهو أن حماما حدثني قال ثنا ابن مفرج عن عبد الأعلى بن محمد بن الحسن قاضي صنعاء عن الديري عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب في الجد والكلالة كتابا فمكث يستخير الله يقول اللهم إن علمت فيه خيرا فأمضه حتى إذا طعن دعا بالكتاب فمحي فلم يدر أحد ما كان فيه فقال إني كنت كتبت في الجد والكلالة كتابا وكنت أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه قال عبد الرزاق وحدثنا ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب أوصى عند الموت فقال الكلالة كما قلت قال ابن عباس وما قلت قال من لا ولد له قال أبو محمد هذا أصح سند يرد في هذا الباب عن عمر لاتصاله وعدالة ناقليه وإمامتهم وصحة سماع بعضهم من بعض وهو كما ترى مخالف لرأي أبي بكر في الكلالة لأن أبا بكر كان يقول الكلالة من لا ولد له ولا والد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 وعمر عند الموت يقول الكلالة من لا ولد له فقط بالسند الذي لا داخلة فيه فبطل بهذا ما رواه الشعبي الذي أبعد ذكره رؤيته عليا رضي الله عنه بالكوفة يتوضأ في الرحبة هذا إن صح أنه رآه أيضا أخبرنا محمد بن سعيد النباتي ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر غندر ثنا شعبة عن عاصم عن الشعبي قال سئل عبد الله بن مسعود عن امرأة توفي عنها زوجها ولم يفرض لها فاختلف إليه شهرا فقال ما سئلت عن شيء منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد علي منه لم ينزل فيه قرآن ناطق ولا سنة ماضية أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن الشيطان والله منه بريء وذكر الحديث قال أبو محمد فهذا ابن مسعود يعترف بالخطأ وبمغيب السنن عنه وفي هذه القصة سنة صحيحة خفيت عنه ثم علمها بعد ذلك ولا سبيل إلى أن يوجد عن أحد من الصحابة والتابعين غير الاعتراف بجواز الخطأ عليهم والصحيح من رواية الشعبي في الخبر الذي ذكرنا هو ما أخبرناه محمد بن سعيد بن نبات عن أحمد بن عون الله عن قاسم بن أصبغ عن الخشني عن بندار عن غندر ثنا شعبة عن يحيى بن سعيد التيمي تيم الرباب قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقض حتى يبين لنا فيهن أمرا ينتهي إليه الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا فهذا هو المتصل من طريق الشعبي ثم إنا نقول إن العجب ليطول ممن اختار أخذ أقوال إنسان بعينه لم يصحبه من الله عز وجل معجزة ولا ظهرت عليه آية ولا شهد الله له بالعصمة عن الخطأ ولا بالولاية وأعجب من ذلك إن كان من التابعين فمن دونهم ممن لا يقطع على غيب إسلامه ولا بيد مقلده أكثر من حسن الظن به وأنه في ظاهر أمره فاضل من أفاضل المسلمين لا يقطع له على غيره من الناس بفضل ولا يشهد له على نظارته بسبق إن هذا لهو الضلال المبين فليت شعري ما الذي أوجب عليه أن يميل إليه دون أن يميل إلى غيره ممن هو مثله في الظاهر أو أفضل منه في الظاهر أو في الحقيقة من سابقي الصحابة حتى صاروا يتدينون بقوله في دينهم الذي هو وسليتهم إلى الله تعالى لا يرجون النجاة من عذاب الآخرة بسواه ونجدهم المساكين في أمور دنياهم لا يقلدون أحدا ولا يبتاع أحدهم شيئا فما دونه أو فما فوقه إلا حتى يقيسه ويتأمل جددته ويتقي الغبن فيه وهو لا يتقي الغبن في دينه الذي فيه هلاكه أو نجاته في الأبد فتجده قد قبله مجازفة وأخذه مطارفة هات ما قال مالك وابن القاسم وسحنون إن كان مالكيا أو ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن إن كان حنفيا أو ما قال الشافعي إن كان شافعيا ولا مزيد ووالله لو أن هؤلاء رحمهم الله وردوا عرصة القيامة بملء السموات والأرض حسنات ما رحموه منها بواحدة ولو أنه المغرور ورد ذلك الموقف بملء السموات والأرض سيئات ما حطوا منها واحدة ولا عرجوا عليه ولا التفتوا إليه ولا نفعوه بنافعة ونجده يضرب عن كلام نبيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 صلى الله عليه وسلم الذي لا يرجو شفاعة سواه ولا أن ينقذه من أطباق النيران بعد رحمة الله تعالى إلا اتباعه إياه فأين الضلال إن لم يكن في فعل هؤلاء القوم ثم ننحط في سؤالهم درجة فنقول ما الذي دعاكم إلى التهالك على قول مالك وابن القاسم فهلا تبعتم أقوال عمر بن الخطاب وابنه فتهالكتم عليها فهما أعلم وأفضل من مالك وابن القاسم عند الله عز وجل بلا شك ونقول للحنفيين ما الذي حملكم على التماوت على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن فهلا طلبتم أقوال عبد الله بن مسعود وعلي فتماوتم عليها فهما أفضل وأعلم من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن عند الله تعالى بلا شك ونقول لمن قلد الشافعي رحمه الله ألم ينهكم عن تقليده وأمركم باتباع كلام النبي صلى الله عليه وسلم حيث صح فهلا اتبعتموه في هذا القولة الصادقة التي لا يحل خلافها لأحد أو ليس قد قال رحمه الله وقد ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمن مات وعليه صيام صام عنه وليه فقال رحمه الله إن صح هذا الحديث فبه أقول ونبرأ من كل مذهب خالف حديث النبي صلى الله عليه وسلم والحديث المذكور في غاية الصحة من طريق عائشة رضي الله عنها ثم أنتم دأبا تتحيلون في إبطاله بأنواع من الحيل الباردة ونهاكم عن قبول المرسل ثم أنتم تأخذون به في تحريم بيع اللحم بالحيوان تقليدا لغلطه رحمه الله الذي لم يعصم منه أحد فقد كان تقليد ابن عباس أولى بكم إذ ولا بد لأنه أفضل وأعلم عند الله عز وجل من الشافعي وقد قال قائلون منهم نحن لم نرزق من العقل والفهم ما يمكننا أن نأخذ الفقه من القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم فأتوا بالتي تملأ الفم فيقال لهم أمنعكم الله تعالى العقل الذي تفهمون به عند ما قد ألزمكم فهمه إذ يقول عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن أم على قلوب أقفالهآ} وقد سمعتموه يقول {يأيها لذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا هتديتم إلى لله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون} وسمعتموه يقول {قل أغير لله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} وسمعتموه يقول {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} فلولا أن في وسعكم الفهم لأحكام القرآن ما أمركم بتدبره ولولا أن في وسعكم الفهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما أمره بالبيان عليكم ولا أمركم بطاعته هذا إن كنتم تصدقون كلام ربكم فليت شعري كيف قصرت عقولكم عن فهم ما افترض الله تعالى عليكم تدبره والأخذ به واتسعت عقولكم للفهم عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وما أمركم الله تعالى قط بالسماع منهم خاصة دون سائر العلماء ولا ضمن لكم ربكم تعالى قط العون على فهم كلامهم كما ضمن لكم في فهم كلامه إنه لا يكلفكم إلا وسعكم وقد أيقنا أن الله عز وجل لا يأمرنا بشيء إلا وقد سبب لنا طرق الوصول إليه وسهلها وبينها فقد أيقنا بلا شك عندنا أن وجوه معرفة أحكام الآي والأحاديث التي أمرنا بقبولها بينة لمن طلبها إن صدقتم ربكم وإن كذبتم كفرتم وأما ما لم نؤمر باتباعه من رأي مالك وأبي حنيفة وقول الشافعي فلا سبيل إلى أن نقطع بأن فهمه ممكن لنا حدثنا أحمد بن عمر العذري نا أبو محمد الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس أنا أبو حفص عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي نا أبو الحسن علي بن عبد العزيز نا الأصبهاني نا عبد السلام نا غطيف بن أعين المحاربي عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي يا ابن حاتم ألق هذا الوثن من عنقك فألقيته ثم افتتح سورة براءة فقرأ حتى بلغ قوله تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} فقلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحلون لكم الحرام فتستحلونه ويحرمون عليكم الحلال فتحرمونه قلت بلى قال فتلك عبادتكم قال أبو محمد فسمى النبي صلى الله عليه وسلم اتباع من دون النبي صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم عبادة وكل من قلد مفتيا يخطىء ويصيب فلا بد له من أن يستحل حراما ويحرم حلالا وبرهان ذلك تحريم بعضهم ما يحله سائرهم ولا بد أن أحدهم مخطىء أفليس من العجب إضراب المرء عن الطريق التي أمره خالقه بسلوكها وضمن له بيان نهج الصواب فيها وأمره أن يكون همه نفسه لا ما سواها فيترك ذلك كله ويقصد إلى طريق لم يؤمر بسلوكها ولا ضمن له نهج الصواب فيها بل قد نهي عن ذلك وعيب عليه ولامه ربه عز وجل على ذلك أشد الملامة مع أن الذي قلدوه ينهاهم عن تقليده فمن أضل من هؤلاء وقد احتج بعض من قلد مالكا بأنه المعني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنذاره بزمان يأتي لا يوجد فيه عالم أعلم من عالم المدينة أخبرنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن معاوية عن أحمد بن شعيب أنا علي بن محمد ثنا محمد بن كثير عن سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله يضربون أكباد الإبل ويطلبون العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة فقال النسائي قوله أبو الزناد خطأ إنما هو أبو الزبير قال أبو محمد وهكذا حدثناه أحمد بن عبد الله الطلمنكي ثنا ابن مفرج قال ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا عمرو بن علي ثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريح عن أبي الزبير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوشك أن تضرب أكباد المطي فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة قال البزار لم يرو ابن جريج عن أبي صالح غير هذا الحديث حدثنا أحمد بن عمر ثنا علي بن الحسن بن فهر أنا محمد بن علي ثنا محمد بن عبد الله البيع إجازة أنا أبو النضر الفقيه أحمد بن محمد العنزي ثنا عثمان بن سعيد الدارمي ثنا أبو مسلم عن عبد الرحمن بن يونس المستلمي نا معن بن عيسى حدثني زهير أبو المنذر التميمي ثنا عبيد الله بن عمر بن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج ناس من المشرق في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة وقال عالم أهل المدينة حدثنا أحمد بن عمر ثنا فهر نا ابن أحمد بن إبراهيم بن فراس ثنا ابن الأعرابي ثنا محمد بن إسماعيل الصوفي ثنا علي بن المديني ثنا سفيان بن عيينة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 فذكر الحديث فقال ابن عيينة وضعناه على مالك بن أنس قال ابن فراس ثنا محمد بن أحمد اليقطيني نا محمد بن أحمد بن سلم الحراني ثنا أبو موسى الأنصاري وذكر هذا الحديث فقال بلغني عن ابن جريج أنه كان يقول نرى أنه مالك بن أنس قال أبو محمد هذا حديث لم يقنعوا بقبيح فعلهم في التقليد حتى أضافوا إلى ذلك الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفة المذكورة في الحديث المذكور على أن في سنده أبو الزبير وهو مدلس ما لم يقل حدثنا أو أخبرنا ومع ذلك فليست تلك الصفة موجودة في عصر مالك لأنه كان في عصره ابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وسفيان الثوري والليث والأوزاعي وكل هؤلاء لا يمكن لمن له أقل إنصاف وعلم أن يفضله في علمه وورعه على واحد منهم ولا في فهمه للقرآن ولا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وليت شعري ما الذي دلهم على أنه مالك دون أن يقولوا إنه سعيد بن المسيب الذي كان أفقه من مالك وأفضل وذكروا عن سفيان بن عيينة أنه قال كانوا يرونه مالكا قالوا فإنما عنى سفيان بذلك التابعين قال أبو محمد فزادوا كذبة وما دليلهم على أن سفيان عنى بذلك التابعين لو صح عن سفيان ولعله عنى بذلك مقلدي مالك من صغار أصحابه قال أبو محمد هذا بارد وكذب وليت شعري أي شيء من إدراك سفيان للتابعين مما يوجب أنه عناهم بهذا القول فكيف يصح عن سفيان إلا ما رويناه آنفا من أنه ظن منه ومثل هذا من الإقدام على القطع بالظنون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 لا يستسهله إلا من يستسهل الكذب نعوذ بالله من ذلك ومما يوضح كذبهم في هذا على سفيان بن عيينة ما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس العذري ثنا أحمد بن عيسى بن إسماعيل البلوي ثنا غندر ثنا خلف بن القاسم الحافظ ثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي ثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري قال محمد بن أبي عمر قال سفيان بن عيينة لو سئل أي الناس أعلم لقالوا سفيان يعني الثوري فهذا سفيان بن عيينة يقطع بأنهم كانوا يقولون سفيان أعلم الناس فدخل في ذلك مالك وغيره وأما الرواية عن أبي جريج فلا يدرى عمن هي وإنما هي بلاغ ضعيف كما ترى وبالله تعالى التوفيق وقد ضربت آباط الإبل أيام عمر في طلب العلم حقا الذي هو العلم بالحقيقة وهو القرآن وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر الناس في خلافته إلى المدينة متعلمين للعلم ومتفقهين في الدين وما كان في أقطار البلاد يومئذ أحد يقطع على أنه أعلم من عمر لا سيما مع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالعلم والدين وأقصى ما يمكن أن يشك هل يساويه في العلم علي وعائشة ومعاذ وابن مسعود وأما أن يقطع بأنهم أعلم منه جملة فلا أصلا وأما الإكثار من الرأي فليس علما أصلا ولو كان علما لكان أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن أعلم من مالك لأنهم أكثر فتيا ورأيا منه فإذا ليس الرأي علما وإنما العلم حفظ سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين فقد كان في عصر مالك من هو أوسع علما منه كشعبة وسفيان ومن هو مثله كسفيان بن عيينة والأوزاعي وهشيم وغيره فظهر كذب من كذب في الحديث المذكور وبالله تعالى التوفيق ثم لو صح وصح أنه مالك باسمه ونسبه لكان إنما فيه أنه لا يوجد أعلم منه قط وليس فيه أنه لا يوجد مثله في العلم فبطل احتجاجهم ولم يمنع وجود مثله في العلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 وعارضهم بعض الشافعيين بما حدثناه هشام بن سعيد الخير بن فتحون قال ثنا عبد الجبار المقرىء بمصر نا الحسن بن الحسين النجيرمي ثنا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب نا أبو داود الطيالسي نا جعفر بن سليمان عن النضر بن معبد عن الجارود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ الأرض علما اللهم إنك أذقت أولها عذابا أو وبالا فأذق آخرها نوالا فقالوا هذه صفة الشافعي فما ملأ الأرض علما قرشي غيره وحدثنا أحمد بن محمد بن الجسور قال نا ابن أبي دليم نا ابن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى عن معمر الأزهري عن سهل بن أبي حثمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعلموا من قريش ولا تعلموها وقدموا قريشا ولا تؤخروها فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش قال أبو محمد وهذا حديث صحيح أصح من حديثهم الذي شنعوا به وأما الحقيقة في ذلك الحديث فهي أن الصفة التي بين صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث لم تأت بعد هذا إن صح الحديث المذكور لأن الزمان إلى الآن لم تكن قط فيه البلاد عارية من عالم يضاهي علماء المدينة فقد كان في عصر الصحابة بالعراق ابن مسعود وعلي وسليمان وكان بالشام معاذ وأبو الدرداء وكان بمكة ابن عباس ولا يحل لذي ورع وعلم أن يقول إن عمر وعائشة وأبي بن كعب وزيد بن ثابت كانوا أفقه من علي وابن مسعود ومعاذ وما ابن عباس بمتأخر عمن ذكرنا ثم أتى التابعون فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول إن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار كانا أفقه من عطاء والحسن وعلقمة والأسود ثم أتى صغار التابعين فلا يقدر ذو ورع وعلم أن يقول إن ربيعة والزهري وأبا الزناد كانوا أفقه من إبراهيم النخعي وعامر والشعبي وسعيد بن جبير وأيوب السختياني وعمر بن عبد العزيز ثم أتى عصر مالك فكان معه ابن أبي ذئب وسفيان الثوري والأوزاعي وابن جريج والليس وليس أحد ممن ذكرنا دونه في رواية ولا دراية ولا ورع ثم هكذا إلى أن انقطع الفقه من المدينة جملة واستقر في الآفاق فإنما ذلك الحديث إن صح إذا قرب قيام الساعة وأرز الإيمان إلى المدينة ومكة وغلب الدجال على الأرض حاشا مكة والمدينة فحينئذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 يكون ذلك وإنما حتى الآن فلم تأت صفة ذلك الحديث وهذا بين ظاهر وأما الإنذار بما ذكرنا فكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي زيد المروزي عن محمد بن يوسف عن محمد بن إسماعيل البخاري حدثنا إبراهيم بن المنذر نا أنس بن عياض حدثني عبيد الله عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها وكما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهل الأعرج ثنا شبابة بن سوار قال ثنا عاصم بن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها وكما حدثنا حمام بن أحمد عن عبد الله بن إبراهيم عن أبي زيد عن الفربري عن البخاري ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا الوليد بن مسلم ثنا أبو عمرو الأوزاعي ثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة وذكر باقي الحديث ثم نقول لهم هبكم حتى لو صح الحديث المذكور ثم لو صح أنه مالك بلا شك أي شيء كان يكون فيه مما يوجب اتباعه دون غيره من العلماء ولا شك عند أحد من نقلة الحديث في صحة الحديث المسند إلى رسول الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 صلى الله عليه وسلم أنه رأى رؤيا فيها أنه أعطي قدحا فشرب منه حتى رأى الري يجري في أظفاره ثم ناول فضله عمر فقيل له يا رسول الله ما أولت ذلك فقال صلى الله عليه وسلم العلم وصحة الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أري أمته وعليهم قمص بعضها إلى الثديين وعلى عمر قميص يجره وأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك الدين فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر من أعلم أمته وأصحابه ومن أئمتهم دينا ولا خلاف بين أحد المسلمين أن عمر وعليا وابن مسعود وعائشة أعلم من مالك بلا شك وليس ذلك يوجب تقليد أحد ممن ذكرنا ولا اتباعه على جميع أقواله كما فعلوا هم بمالك فبطل تعلقهم بالحديث المذكور لو صح وتأولهم فيه كذب بحت لا يحل لأحد نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الفرق بينهم في الإقدام وبين الشافعيين لو استحلوا أن يقولوا إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش في هذا الأمر برهم لبرهم وفاجرهم لفاجرهم إن المراد بهذا هو الشافعي لأنه قرشي النسب فيجب أن يكون الناس تبعا له وبين الداوديين لو أنهم استحلوا فقال إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن العلم أو هذا الدين بالثريا لتناوله رجل أو رجال من أبناء فارس المراد بهذا داود وأبو حنيفة لأنهما من أبناء فارس هذا على أن هذين الحديثين صحيحان لا شك في صحتهما وحديث عالم المدينة معلول لا يصح فإن قالوا قد كان في قريش علماء غير الشافعي وفي الفرس علماء غير داود وأبي حنيفة قيل لهم وقد كان بالمدينة علماء غير مالك بلا شك وكان هذا استحلال للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستجيزه ذو ورع قال أبو محمد وأما احتجاجهم بقول مالك هذا العمل ببلدنا فهذا لا معنى له لأن العمل بالمدينة قبل مولد مالك بثلاث وعشرين سنة لم يجز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 إلا بالظلم والجور والفسق ولا وليهم إلا الفساق من عمال بني مروان ثم عمال بني العباس كالحجاج وحبيش بن دلجة وطارق وعبد الرحمن بن الضحاك وغيرهم ممن لا يعتد بهم وما أدرك مالك قط بالمدينة بعقله عمل أمير ووال يقتدي به أصلا ولقد كان التغيير بدأ في السنن من قبل ما ذكرنا كقول مروان ذهب ما هنالك ودليل ما ذكرنا تركهم عمل عمر وعثمان في نصوص الموطأ فبطل الاحتجاج بالعمل جملة ولا يبق إلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 الرواية التي رواها ثقات العلماء عن أمثالهم إذ لم يمكن الظالمين أن يحولوا بينهم وبين ألسنتهم كما حالوا بينهم وبين العمل وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ومن البرهان اللائح على بطلان التقليد أن أهل العصر الأول والعصر الثاني والعصر الثالث وهي القرون التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا عبد الله بن ربيع عن محمد بن إسحاق بن السليم عن ابن الأعرابي عن أبي داود عن مسدد وعمرو بن عون قالا ثنا أبو عوانة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن الحصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم والله أعلم أذكر الثالث أم لا ثم يظهر قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويحربون ولا يؤتمنون ويفشون فيهم السمن قال أبو محمد وهكذا في كتابي والصواب يخونون ولا يؤتمنون وبلفظة يخونون رويناه من طريق مسلم عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن أبي حمزة عن زهدم عن عمران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أهل هذه القرون الفاضلة المحمودة يطلبون حديث النبي صلى الله عليه وسلم والفقه في القرآن ويرحلون في ذلك إلى البلاد فإن وجدوا حديثا عنه صلى الله عليه وسلم عملوا به واعتقدوه ولا يقلد أحد منهم أحدا البتة فلما جاء أهل العصر الرابع تركوا ذلك كله وعولوا على التقليد الذي ابتدعوه ولم يكن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 قبلهم فاتبع ضعفاء أصحاب أبي حنيفة أبا حنيفة وأصحاب مالك مالكا ولم يلتفتوا إلى حديث يخالف قولهما ولا تفقهوا في القرآن والسنن ولا بالوا بهما إلا من عصمه الله عز وجل وثبته على ما كان عليه السلف الصالح في الأعصار الثلاثة المحمودة من اتباع السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه في القرآن وترك التقليد وأما أفاضل أصحاب أبي حنيفة ومالك فما قلدوهما فإن خلاف ابن وهب وأشهب وابن الماجشون والمغيرة وابن أبي حازم لمالك أشهر من أن يتكلف إيراده وقد خالفه أيضا ابن القاسم وكذلك خلاف أبي يوسف وزفر ومحمد والحسن بن زياد لأبي حنيفة أشهر من أن يتكلف إيراده وكذلك خلاف أبي ثور والمزني للشافعي رحمه الله وكذلك خالف أصبغ وسحنون ابن القاسم وخالف بن المواز أصبغ وكذلك خالف محمد بن علي بن يوسف المزني في كثير وكذلك خالف الطحاوي أيضا أبا حنيفة وأصحابه فإن كان النظر حقا فقد أخطؤوا في التقليد وإن كان التقليد حقا فقد أخطؤوا النظر وترك التقليد فقد ثبت الخطأ عليهم على كل حال والخطأ واجب أن يجتنب قال أبو محمد وقد سألناهم فقلنا لهم أنتم مقرون معنا بأن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام ينزل إذا خرج الدجال اللعين فيدبر أهل الإسلام بملتهم لا بملة أخرى فقالوا لنا أبرأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن أو بتقليد مالك وابن القاسم وسحنون يحكم بين المسلمين ويقضي في الدين ويفتي المستفتين ألا إن هذا هو الضلال المبين ولقد نكس الإسلام وذلت النبوة وهانت الرسالة وخزي الحق وأهله إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه وكلمته يرجع تابعا لمثل هؤلاء الذين لا يقطع لهم بنجاة ولا يضمن ما هم عليه عند الله تعالى فلا والله بل ما يقضي ويحكم ويفتي إلا بما أتى به أخوه في الرسالة وصاحبه في النبوة وقسيمه في نزول الوحي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 وليبطلن الآراء الفاسدة فلا خوف من أحد فمن أضل طريقه ممن يدين بشيء هو موقن أنه لم يكن أول الإسلام ولا يكون عند نزول المسيح عليه السلام ومن يضلل الله فما له من هاد ابن فراس نا محمد بن علي بن علي بن زيد نا سعيد بن منصور نا هشيم أنا ابن أبي ليلى عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل أن رجلا مات وترك ابنته وابنة ابنه وأخته لأبيه وأمه فأتوا أبا موسى الأشعري فسألوه عن ذلك فقال لابنته النصف والنصف الباقي للأخت فأتوا ابن مسعود فذكروا ذلك له فقال لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين إن أخذت بقول الأشعري وتركت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا ابن مسعود يسمي القول من الصاحب إذا خالف النص ضلالا وخلافا للهدى وحدثنا أحمد بن عمر نا أبو ذر نا عبد الله بن أحمد نا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد نا أبو نعيم عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال سئل حذيفة عن قوله تعالى {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج لرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فلله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين} قال لم يكونوا يعبدونهم ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه قال أبو محمد هذه صفة المقلدين لأبي حنيفة ومالك والشافعي ولا يحرمون إلا ما جاء عن صاحبهم تحريمه ولا يحلون إلا ما جاءهم عن صاحبهم تحليله نبرأ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 إلى الله تعالى من مثل هذا الاعتقاد ونعوذ به منه في أحد من ولد آدم حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الرحمن بن سلمة نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد أخبرني أسلم بن عبد العزيز القاضي وسعيد بن عثمان العناني قالا نا يونس بن عبد الأعلى نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ليس من أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي يوسف بن عبد الله النمري أنا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا دحيم نا ابن وهب نا ابن لهيعة عن بكير بن الأشج أن رجلا قال للقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عجبا لعائشة كانت تصلي في السفر أربعا ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين فقال يا ابن أخي عليك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وجدتها فإن من الناس من لا يعاب كتب إلي النمري ثنا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال عمر بن الخطاب إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا الطيب والنساء قال سالم قالت عائشة أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل أن يطوف بالبيت قال سالم فسنة رسول الله أحق أن تتبع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 قال أبو محمد فنحن نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودية عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعي التابعين رجلا واحدا قلد عالما كان قبله فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء فإن وجدوه ولن يجدوه والله أبدا لأنه لم يكن قط فيهم فلهم متعلق على سبيل المسامحة ولم يجدوه فليوقنوا أنهم قد أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد وليعلموا أن عصابة من أهل العصر الرابع ابتدعوا في الإسلام هذه البدعة الشنعاء إلا من عصم الله تعالى منهم والبدع محرمة وشر الأمور محدثاتها وليعلموا أن طلاب سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت والعاملين بها والمتفقهين في القرآن الذين لا يقلدون أحدا هم على منهاج الصحابة والتابعين والأعصار المحمودة وأنهم أهل الحق في كل عصر والأكثرون عند الله تعالى بلا شك وإن قل عددهم وبالله تعالى التوفيق وليعلم من قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة نعني التقليد إنما حدثت في الناس وابتدىء بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن قط في الأسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعدا على هذه البدعة ولا وجد فيهم رجل يقلد عالما بعينه فيتبع أقواله في الفتيا فيأخذ بها ولا يخالف شيئا منها ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم ثم لم تزل تزيد حتى عمت بعد المائتين من الهجرة عموما طبق الأرض إلا من عصم الله عز وجل وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم نسأل الله تعالى أن يثبتنا عليه وألا يعدل بنا عنه وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال نا محمد بن إسحاق بن السليم قال نا ابن الأعرابي عن أبي داود نا أبو بكر بن شيبة نا وكيع عن الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي قلابة قال قال أبو مسعود وهو البدري لأبي عبد الله وهو حذيفة أو قال أبو عبد الله وهو حذيفة لأبي مسعود البدري ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زعموا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس مطية الرجل وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عذاب القبر على أن المنافق أو المرتاب يقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فهذا التقليد مذموم في التوحيد فكيف ما دونه وقال ابن مسعود لا تكن إمعة فسئل ما هو فقال الذي يقول أنا مع الناس حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا بشار بندار نا ابن أبي عدي أنبأنا شعبة عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال لا يكونن أحدكم إمعة يقول إنما أنا مع الناس ليوطن أحدكم نفسه إن كفر الناس ألا يكفر وبه إلى بندار نا محمد بن جعفر نا شعبة قال سمعت أبا إسحاق يقول سمعت هبيرة وأبا الأحوص عن ابن مسعود قال إذا وقع الناس في الشر قل لا أسوة لي في الشر وبه إلى بندار قال ثنا سعيد بن عامر نا شعبة عن الحكم قال ليس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 أحد من الناس إلا وأنت آخذ من قوله أو تارك إلا النبي صلى الله عليه وسلم وبه إلى بندار نا أبو داود نا شعبة عن منصور عن سعيد بن جبير أنه قال في الوهم يعيد قال فذكرت ذلك لإبراهيم فقال ما تصنع بحديث سعيد بن جبير مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا محمد بن سعيد عن القلعي عن الصواف عن بشر بن موسى عن الحميدي قال قال سفيان ما زال أمر الناس معتدلا حتى غير أبو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة وربيعة بالمدينة قال أبو محمد وصدق سفيان فإن هؤلاء أول من تكلم بالآراء ورد الأحاديث فسارع الناس في ذلك واستحلوه والناس سراع إلى قبول الباطل والحق مر ثقيل وقد أوردنا قبل هذا المكان بأوراق يسيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قال له عدي بن حاتم وكان قبل ذلك نصرانيا يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال له صلى الله عليه وسلم كلاما معناه إنهم كانوا يحرمون ما حرموا عليهم ويحلون ما أحلوا لهم وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه هي العبادة قال أبو محمد ولا جرم فقد حرم مقلدو مالك شحوم البقر والغنم إذا ذبحها يهودي وحرموا الجمل والأرنب إذا ذكاهما يهودي تقليدا لخطأ مالك في ذلك وردوا قول الله تعالى في ذلك بعينه {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} وأحل أصحاب أبي حنيفة ثمن الكلب الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 وحرم من اتبعه منهم المساقاة التي أحلها الله تعالى تقليدا لخطأ أبي حنيفة في ذلك وردوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره في ثمن الكلب أنه سحت وتحريمه إياه وهذا نص ما حرم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من فعل اليهود والنصارى وقد أنذر صلى الله عليه وسلم بذلك وقال لتركبن سنن من كان قبلكم فقيل له يا رسول الله اليهود والنصارى فقال صلى الله عليه وسلم كلاما معناه نعم حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود نا ابن دحيم بن حماد نا إسماعيل بن إسحاق نا حجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة نا عطاء بن السائب عن أبي البختري أن سلمان قال لزيد بن صوحان وأبي قرة كيف أنتما عند زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن والقرآن حق ودنيا مطغية تقطع الأعناق ثم قال أما زلة العالم فإن اهتدى فلا تحملوه دينكم وإن زل فلا تقطعوا منه أناتكم وأما جدال المنافق بالقرآن والقرآن حق فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما أضاء لكم فاتبعوه وما شبه عليكم فكلوه إلى الله عز وجل وذكر باقي الحديث قال أبو محمد فهذا سلمان ينهى أن يقلد العلماء ويأمر باتباع ظاهر القرآن الذي هو كمنار الطريق وينهى عن التأويلات والمتشابه منه وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين حدثنا يوسف بن عبد الله النمري أخبرني عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن هو ابن الزيات نا محمد بن أحمد القاضي المالكي البصري نا موسى بن إسحاق نا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال نا معن بن عيسى القزاز قال سمعت مالك بن أنس يقول إنما أنا بشر أخطىء وأصيب فانظروا في رأيي فكل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه فهذا مالك ينهى عن تقليده وكذلك أبو حنيفة وكذلك الشافعي فلاح الحق لمن لم يغش نفسه ولم تسبق إليه الضلالة نعوذ بالله منها فصل في سؤال الرواة عن أقوال العلماء قال أبو محمد فإن قال قائل فكيف يفعل العالم إذا سئل عن مسألة فأعيته أو نزلت به نازلة فأعيته قيل له وبالله تعالى التوفيق يلزمه أن يسأل الرواة عن أقوال العلماء في تلك المسألة النازلة ثم يعرض تلك الأقوال على كتاب الله تعالى وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره الله تعالى إذ يقول {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} وإذ يقول {وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} وقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} ولم يقل تعالى فردوه إلى مالك وأبي حنيفة والشافعي فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليرد ما اختلف فيه من الدين إلى القرآن والسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليتق الله ولا يرد ذلك إلى رجل من المسلمين لم يؤمر بالرد عليه ومن أبى فسيرد ويعلم وقد قال الله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فلم يجعل البيان إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم فمن رد إلى سواه فقد عدم البيان وحصل على الضلالة ونعوذ بالله منها فالتقليد كله حرم في جميع الشرائع أولها عن آخرها من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام فإن قال قائل فما وجه قوله تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} قيل له وبالله تعالى التوفيق إنه تعالى أمرنا أن نسأل أهل العلم عما حكم به الله تعالى في هذه المسألة وما روي عن رسول الله صلى الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 عليه وسلم فيها ولم يأمرنا أن نسألهم عن شريعة جديدة يحدثونها لنا من آرائهم وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله فليبلغ الشاهد الغائب وبينه تعالى بقوله {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} فالدين قد كمل فلا مدخل لأحد فيه بزيادة ولا نقص ولا تبديل وكل هذا كفر ممن أجازه وقد أمر تعالى المتفقهين أن ينفروا لطلب أحكام الدين ولم يأمرهم أن يقولوا من عند شيئا بل حرم تعالى ذلك بذمه قوما شرعوا لهم في الدين ما لم يأذن به الله وبقوله عز وجل {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فإنما نحن دعاة إلى تفهم القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ومبلغون من ذلك إلى من تقدمناه في الطلب ما بلغه إلينا من تقدمنا ومعلمون إياه ومعاذ الله من التزيد في هذا أو من تبديله أو من النقص منه فإن قال قائل فكيف يصنع العامي إذا نزلت به النازلة قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إنا قد بينا تحريم الله تعالى للتقليد جملة ولم يخص الله تعالى بذلك عاميا من عالم ولا عالما من عامي وخطاب الله تعالى متوجه إلى كل أحد فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده والعامي والعذراء المخدرة والراعي في شعف الجبال كما هو حرام على العالم المتبحر ولا فرق والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسولهصلى الله عليه وسلم في كل ما خص المرء من دينه لازم لكل من ذكرنا كلزومه للعالم المتبحر ولا فرق فمن قلد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عز وجل وأثم ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه لقوله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} ولقوله تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} والتقوى كله هو العمل في الدين بما أوجبه الله تعالى فيه ولم يكلفنا تعالى منه إلا ما نستطيع فقط ويسقط عنا ما لا نستطيع وهذا نص جلي على أنه لا يلزم أحدا من البحث على ما نزل به في الديانة إلا بقدر ما يستطيع فقط فعلى كل أحد حظه من الاجتهاد ومقدار طاقته منه فاجتهاد العامي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له هكذا أمر الله ورسوله فإن قال له نعم أخذ بقوله ولم يلزمه أكثر من هذا البحث وإن قال له لا أو قال له هذا قولي أو قال له هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو الشافعي أو أحمد أو داود أو سمى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى الله عليه وسلم أو انتهزه أو سكت عنه فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم الله تعالى وحكم محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك وما يجب في دين الإسلام في تلك المسألة ولو علم أنه يفتيه بغير ذلك لتبرأ منه وهرب عنه وفرض على الفقيه إذا علم أن الذي أفتاه به هو في نص القرآن والسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع أن يقول له نعم هكذا أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وحرام عليه أن ينسب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم شيئا قاله بقياس أو استحسان أو تقليد لأحد دون النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن فعل ذلك كان بذلك كاذبا على رسوله عليه السلام ومقولا له ما لم يقل وقد وجبت له النار يقينا بنص قوله صلى الله عليه وسلم من كذب علي فليلج النار وهذا الذي قلنا لا يعجز عنه واحد وإن بلغ الغاية في جهله لأنه لا يكون أحد من الناس مسلما حتى يعلم أن الله تعالى ربه وأن النبي عليه السلام وهو محمد بن عبد الله رسول الله بالدين القيم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 فإن قال قائل فإن أفتاه الفقيه بفتيا منسوخة أو مخصوصة أو أخطأ فيها فنسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وليست من قوله سهوا أو تعمد ذلك فما الذي يلزم العامي من ذلك وقد روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال قلت لأبي رحمه الله الرجل تنزل به النازلة وليس يجد إلا قوما من أصحاب الحديث والرواية لا علم لهم بالفقه وقوما من أصحاب الرأي من يسأل فقال يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث خير من الرأي قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا ينقسم ستة عشر قسما وهي من بلغه خبر منسوخ أو آية منسوخة ولم يعلم بنسخ ذلك فالعامي والعالم في ذلك سواء والواجب عليهما بلا شك العمل بذلك المنسوخ ولم يؤمرا قط بتركه إلا إذا بلغهما النسخ قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} فأخبر تعالى أنه لا تلزم النذارة إلا من بلغه الأمر فما دام النسخ لم يبلغه فلم يلزمه وإذا لم يلزمه فلم يؤمر به {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وليس في وسع أحد أن يعلم ما لم يعلم في حين جهله به ولا أن يعرف الشريعة قبل أن تبلغه وقد لزمه الأمر الأولى بيقين فلا يسقط عنه إلا ببلوغ الناسخ إليه بنص القرآن وهكذا كان الصحابة الذين بأرض الحبشة والصلاة قد فرضت بمكة إلى بيت المقدس وعرفوا ذلك فصلوا كذلك بلا شك ثم حولت القبلة إلى الكعبة بالمدينة بعد ستة عشر شهرا من الهجرة ولا خلاف بين أحد أنهم لم يلزمهم التحول إلى الكعبة ولا سقط عنهم فرض الصلاة ولا كان لهم أن يصلوا إلى غير القبلة التي صح عندهم الأمر بها ما لم يبلغهم النسخ وقد سمى الله تعالى صلاة من مات قبل أن يبلغهم بالنسخ إيمانا فقال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهدآء على لناس ويكون لرسول عليكم شهيدا وما جعلنا لقبلة لتي كنت عليهآ إلا لنعلم من يتبع لرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على لذين هدى لله وما كان لله ليضيع إيمانكم إن لله بلناس لرءوف رحيم} وهكذا فعل أهل قباء صلوا نصف صلاتهم إلى بيت المقدس ولا شك أنهم لم يبتدئوها إلى بيت المقدس إلا والقبلة قد نسخت لكن لما لم يعلموا ذلك لم يلزمهم ما لم يعلموا ولا سقط عنهم ما كان لزمهم إلا بعد بلوغ النسخ إليهم وهكذا القول في كل ما صح نسخه ولم يصح عند بعض الناس وأما إن قامت عليه الحجة فعاند تقليدا ففاسق وهذا في غاية البيان فيما قلنا والحمد لله رب العالمين وأما من بلغه الخبر المنسوخ أو الآية المنسوخة ولم يعرف أنهما منسوخان فأقدم على تركهما بغير علم الناسخ فهو عاص لله تعالى لأنه ترك الفرض الواجب عليه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق فهذا وجهان في النص المنسوخ الذي لم يبلغ المرء نسخه ثم وجهان آخران في عكس هذه المسألة وهما نص غير منسوخ من آية أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم ظنه عالم من العلماء منسوخا فترك العمل به وأفتى بذلك عاميا وأخبره أن الحديث أو الآية منسوخان فتركه العامي أو عملا به وهما يظنان ويقدران أنه منسوخ وهذا خلاف ما تقدم لأنهما ههنا تركا العمل بما أوجبه الله تعالى عليهما إلا أن من ترك ذلك مجتهدا يرى أن الذي فعل هو الحق ولم يتبين له غيره بعد فهو مخطىء له أجر واحد ومن ترك ذلك مقلدا فهو عاص لله عز وجل آثم لا حظ له في الآخرة أصلا لأنه ترك الحق للباطل دون اجتهاد فهذه أربعة أوجه ثم وجهان آخران وهما من بلغه حديث صحيح فلم يصح عنده فعمل به أو تركه فأما الذي عمل بحديث صحيح وهو يعتقد فيه أنه غير صحيح فإنه مقدم على ما يرى أنه باطل فهو عاص لله تعالى بنيته في ذلك فإن تركه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 وهو عنده غير صحيح ولم تقم الحجة عليه بصحته فهو محسن مأجور ولا شيء عليه لأنه لم يبلغه بعد ما يلزمه اتباعه وأما من صح عنده الخبر فتركه فإنه لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون مقدما مستجيزا لخلاف ما صح عنده من الله عز وجل ولا إثم عليه في نفس عمله بما وافق الحق فهذا قسم وقسم ثان وهو أن يستحل خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك لقول الله تعالى {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} ثم وجهان آخران وهما عكس اللذين قبلهما وهما من بلغه حديث غير صحيح فظنه صحيحا فعمل به فهذا مأجور على نيته واجتهاده أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما خالف فيه الحق لأنه لم يقصد والأعمال بالنيات فلو تركه عمدا لكان متسهلا لخلاف ما صح عنده عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو عاص لله تعالى بهذه النية فقط آثما فيها فإن لم يكن مستسهلا لذلك لكن اتفق له ترك العمل بذلك فلا إثم عليه لأنه لم يترك حقا وهذا حكم من أفتاه فقيه بفتيا غير صحيحة فإنها لا تلزمه ولا هو مأمور بها ولو كان عاصيا بترك العمل بها لكان مأمورا بها وهي باطل فكان يكون مأمورا بالباطل وهذا خطأ متيقن لكنه إن تركها مستسهلا لترك العمل بالواجب عليه فهو عاص بهذه النية فقط لا بتركه للعمل بغير الواجب وبالله تعالى التوفيق ومن أفتى آخر بفتيا صحيحة إلا أنه لم يأته عليها بدليل فإنه إن عمل بها مقلدا فهو آثم في تقليده مأجور إن شاء الله تعالى بعمله بها إن أراد الله تعالى ثم وجهان وهما من بلغه نص مخصوص فعمل به على عمومه ولم يبلغه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 الخصوص وترك العمل بعمومه فوافق الحق وهو لا يعلمه أو بلغه نص عام فتأول فيه الخصوص فأما الذي عمل بالعموم في الخصوص ولم يبلغه الخصوص وهو يظنه عموما فمأجور أجرين لأن فرضه أن يعمل بما بلغه حتى يبلغه خلافه إذ وجوب الطاعة لله تعالى فرض عليه فلو تأول أنه مخصوص دون دليل يقوم له على ذلك لكن مطارفة فعمل بالخصوص فوافق الحق فإن كان مستسهلا لمخالفة ظاهر ما يأتيه عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم بلا دليل فهو فاسق عاص بهذه النية فقط غير عاص فيما فعل لأنه لم يخطىء في ذلك فإن فعل ذلك باتفاق دون قصد إلى خلاف ما بلغه من الظواهر عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه البتة والقياس وقول من دون النبي صلى الله عليه وسلم بغير نص ولا إجماع والرأي كل ذلك خطأ ولم يكن قط حقا البتة ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده رجلان هما عنده عدلان فوافق أن شهدا بباطل إما عمدا وإما غلطا فإنه حق مأمور بالحكم بشهادتهما لأنه قد ورد النص بقبول شهادة العدول عندنا ولم نكلف علم غيبهما وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بظاهر الشهادة أو اليمين ولعل الباطن خلاف ذلك وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالحق الذي لا يحل خلافه ففرض على الحاكم أن يحكم بشهادة العدول عنده وإن كانوا كاذبين أو مغفلين وهو في ذلك مأجور أجرين ولا إثم عليه فيما خفي عنه فإن لم يحكم بتلك الشهادة فهو عاص لله عز وجل فاسق بتلك النية وبعمله معا والإثم عليه في تركه الحكم بها ثم وجهان وهما حاكم شهد عنده عدلان بحق فلم يعرفهما فهو غير مأمور بالحكم بشهادتهما ولا يحل له أن يحكم بها أصلا وهما عنده مجهولان ولا إثم عليه فيما خفي عنه من ذلك فلو حكم بها فهو آثم عاص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 بهذه النية وبعمله فاسق بها والإثم عليه في نفس حكمه وإن كان بما وافق الحق وعمدة القول في هذا الباب كله أن الإثم ساقط عن المرء فيما لم يبلغه والإثم لازم له فيما بلغه فخالفه عمدا أو تقليدا وأنه لا يجب على المرء إلا ما جاء به النص أو الإجماع حقا لا ما أفتاه به المفتون مما لم يأت به نص ولا إجماع وأخبر بأنه نص أو إجماع وأنه مأجور على نيته ومثاب عليها فإن كانت خيرا فخير وإن كانت شرا فشر وإن المرء لا يأثم بعمل ما أمر به وإن لم يعلم أنه مأمور به ولا يأثم بترك ما لم يؤمر به وإن لم يعلم أنه ليس مأمورا به وإن ظن أنه مأمور به لأن النية غير العمل إلا أن يبلغه نص فيخالفه وإن كان مخصوصا أو منسوخا بعد أن يبلغه الناسخ أو المخصص ومن هذا الباب من لقي امرأة فراودها عن نفسها فأجابته فوطئها وهو يظنها أجنبية فإذا بها امرأته ولم يكن عرفها بعد ولا كان دخل بها أو لقي إنسانا فقتله وهو يظنه مسلما حرام الدم فإذا به قاتل أبيه عمدا أو كافر حربي أو انتزاع مالا من مسلم كرها فإذا به ماله نفسه فكل هذا إن كان مستسهلا للزنى أو لغصب المال وقتل النفس فهو آثم بتلك النية فاسق بها عاص لله عز وجل ولا إثم عليه في وطئه ولا أخذه ماله ولا قتله الحربي ولا قاتل أبيه لأنه لم يواقع في ذلك إلا مباحا له وقد يظن ظان أن المستسهل للإثم وإن لم يواقعه لا يكتب عليه إثم ذلك لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة قال أبو محمد وهذا الحديث بين أن الذي لا يكتب عليه إثم فهي السيئة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 التي لم يعملها وهذا ما لا شك فيه ولم يقل صلى الله عليه وسلم إن إثم الهم بالسيئة لا يكتب عليه والهم بالشيء غير العمل به قال ضابىء بن الحارث البرجمي هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله ثم استدركنا هذا وتأملنا النصوص فوجدناها مسقطة حكم الهم جملة وأنه هو اللمم المغفور جملته فإن قال قائل فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة قيل له قد صح ذلك وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى فمن هم بسيئة ثم تركها قاصدا بتركها إلى الله تعالى كتبت له حسنة بهذه النية الجميلة فإن تركها لا لذلك لكن ناسيا أو مغلوبا أو بدا له فقط فإنها غير مكتوبة عليه لأنه لم يعملها ولا أجر له في تركها لأنه لم يقصد بذلك الله تعالى ولا يكون من هم بالسيئة مصرا إلا من تقدم منه مثل ذلك الفعل قال الله تعالى {ولذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا لله فستغفروا لذنوبهم ومن يغفر لذنوب إلا لله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} فصح أن لا إضرار إلا على من قد عمل بالشيء الذي هو مصر عليه وهو عالم بأنه حرام عليه وأما من هم بقبيح ولم يفعله قط فهو هام به لا مصر عليه بالنصوص التي ذكرنا فإن قال قائل ما تقولون في حربي كافر لقي مسلما فدعاه المسلم إلى الإسلام فأسلم ثم علمه الشرائع وقال له هذه شرائع الإسلام أيلزمه العمل بما أخبره من ذلك أم لا قيل له وبالله تعالى التوفيق الكلام في هذا كالكلام فيما تقدم وهو أن ما كان مما أمره به موافقا للنص أو الإجماع فهو واجب عليه قبوله ومأجور فيه إن عمله أجران وعاص فيه إن لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 يفعله وما كان من ذلك بخلاف النص فهو غير واجب عليه ولا يأثم في ترك العمل به إلا إن استسهل خلاف ما ورد عليه من النص فهو آثم في هذه النية فقط فلو عمل بذلك أجر أجرا واحدا بقصده إلى الخير فقط ولم يؤجر على ذلك العمل ولا إثم فيه لأنه ليس حقا فيؤجر عليه ولم يقصد عمل الخطأ وهو يعلمه فيأثم عليه وهذا حكم العامي في كل ما أفتاه فيه فقيه من الفقهاء وهذا حكم العالم فيما اعتقده وأفتى به باجتهاد لا يوقن فيه أنه مصيب للحق عند الله عز وجل فهي أربع مراتب هو إنسان عمل بالحق وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه حق فله أجران أجر النية وأجر العمل وآخر عمل الباطل وهو يدري أنه باطل فله إثمان إثم النية وإثم العمل وقال تعالى {ومن جآء بلسيئة فكبت وجوههم في لنار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} فالنية عمل النفس المجرد والعمل على الجوارح بتحريك النفس لها فهما عملان متغايران وثالث عمل بالحق وهو يظنه باطلا أو ترك الباطل وهو يظن أن ذلك الباطل الذي ترك حق فلا إثم عليه فيما عمل ولا فيما ترك لأنه لم يعمل محرما عليه ولا ترك واجبا عليه ولا يؤجر أيضا في شيء من ذلك لأنه لم يقصد بنيته في ذلك وجه الله تعالى فإن نوى في ذلك استسهال مخالفة الحق فهو آثم بهذه النية فقط لا بما فعل ولا بما ترك ورابع عمل بالباطل وهو يظنه حقا أو ترك الحق وهو يظنه باطلا فهذا مأجور في نيته للخير أجرا واحدا ولا إثم عليه فيما فعل ولا فيما ترك ولا أجر أيضا لأنه لم يعمل صوابا فيؤجر ولا قصد الباطل وهو يعلمه باطلا فيأثم فهذه حقيقة البيان في هذه المسألة واليقين فيها والحق عند الله بلا شك وما عدا هذا فحيرة ودعوى بلا دليل فإن سأل العامي فقيهين فصاعدا فاختلفوا عليه فقد قال قوم يأخذ بالأخف وقال قوم يأخذ بالأثقل وقال قوم لا يلزمه منها وقال قوم هو مخير يأخذ ما يشاء من ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 قال أبو محمد أما من قال هو مخير فقد أمره باتباع الهوى وذلك حرام وأخطأ بلا شك وجعل الدين مردودا إلى اختيار الناس يعمل بما شاء وأجاز فيه الاختلاف والله تعالى يقول {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} وقال تعالى {وأطيعوا لله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وصبروا إن لله مع لصابرين} وقال تعالى {فإن لم يستجيبوا لك فعلم أنما يتبعون أهوآءهم ومن أضل ممن تبع هواه بغير هدى من لله إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} فالاختلاف ليس من أمر الله تعالى الذي أباحه وأمر به وقد علمنا أن حكم الله تعالى في الدين حكم واحد وأن سائر ذلك خطأ وباطل فقد خيره هذا القائل في أخذ الحق أو تركه وأباح له خلاف حكم الله تعالى وهذا الباطل المتيقن بلا شك فسقط هذا القول بالبرهان الضروري وأما من قال يأخذ بالأثقل فلا دليل على صحة قوله أيضا وكذلك قول من قال يأخذ بالأخف وكل قول بلا دليل فهي دعوى ساقطة فإن احتج بقول الله عز وجل {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر وبقوله تعالى {وجاهدوا في لله حق جهاده هو جتباكم وما جعل عليكم في لدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم لمسلمين من قبل وفي هذا ليكون لرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على لناس فأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وعتصموا بلله هو مولاكم فنعم لمولى ونعم لنصير} قال أبو محمد والذي نقول به وبالله تعالى التوفيق إنه إن أفتاه فقيهان فصاعدا بأمور مختلفة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو غير فاسق بتركه قبول شيء منها لأنه إنما يلزمه ما ألزمه النص في تلك المسألة وهو لم يدره بعده فهو غير آثم بتركه ما وجب مما لم يعلمه لكنه يتركهم ويسأل غيرهم ويطلب الحق مثال ذلك رجل سأل كيف أحج فقال له فقيه أفرد فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها وقال له آخرون اقرن فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم تكن له بعد الهجرة غيرها وقال له آخرون تمتع فهكذا فعل رسول الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 صلى الله عليه وسلم في حجته التي لم يكن له بعد الهجرة غيرها ففرض عليه أن يتركهم ويستأنف سؤال غيرهم ثم يلزمه ما قلنا آنفا قبل هذا من موافقته للحق أو حرمانه إياه بعد اجتهاده ويكون العامي حينئذ بمنزلة عالم لم يبين له وجه الحكم في مسألة ما إما بتعارض أحاديث أو آي أو أحاديث وآي فحكمه التوقف والتزيد من الطلب والبحث حتى يلوح له الحق أو يموت وهو باحث عن الحق عالي الدرجة في الآخرة في كلا الأمرين ولا يؤاخذه الله تعالى بتركه أمرا لم يلح له الحق فيه لما قدمنا قبل من أن الشريعة لا تلزم إلا من بلغته وصحت عنده والأصل إباحة كل شيء بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وبقوله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن أمر لم يحرم فحرم من أجل مسألته والأصل ألا يلزم أحدا شيء إلا بعد ورود النص وبيانه وبقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم} وبقوله عليه السلام لو قلتها لوجبت فاتركوني ما تركتكم وبقوله صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان خشيت أن يفرض عليكم فمن علم أن عليه الحج ولم يدر كيف يقيمه فلا يؤاخذ من تركه ما وجب عليه من عمل الحج إلا بما علم لا بما لا يعلم ولكن عليه التزيد في البحث حتى يدري كيف يعمل ثم حينئذ يلزمه الذي علم ولا يؤاخذ الله تعالى أحدا بشيء لم تقم عليه الحجة ولا صح عنده وجهه لأنه لم يبلغه ذلك الحكم قال تعالى {قل أي شيء أكبر شهادة قل لله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا لقرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع لله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون} وأما من قال إن الفرض على العامي أن يقبل ما أفتاه به الفقيه ولم يفسر كما فسرنا فقد أخطأ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 ونحن نسأل قائل هذا القول فنقول له إن كنت شافعيا فماذا تقول في عامي سأل مالكيا أو حنفيا عن رجل أعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها فأفتاه بأنها ليست له بزوجة وأن نكاحه فاسد أتجيز له أن يعتر بغير طلاق فيزوجها من غيره فيبيح له فرجا حرمه الله عليه أو تراه عاصيا إن قام معها وإن كان مالكيا قلنا له ما تقول في عامي سأل شافعيا أو حنبليا عن نكاح امرأة أمه أرضعته رضعتين فأفتاه بنكاحها أتبيح له ذلك وتقول إنه لازم الأخذ بقوله أو سأل حنفيا عن المساقاة أتجوز فحرمها عليه أيكون الأخذ بتحريم المساقاة واجبا عليه فإن قال نعم قيل له من أوجب عليه تحريم ذلك إذ يقول إنه واجب عليه أن يأخذ بقول الفقيه الذي يفتيه أنت أم الله عز وجل فإن قال الله عز وجل كذب على الله تعالى وأقر مع ذلك أن الله تعالى أوجب عليه خلاف مذهبه وإن قال أنا أوجبت ذلك ترك مذهبه وزادنا أنه يحرم ويحلل وهذا خروج عن الإسلام وكذلك يسأل الحنفي عن عامي استفتى مالكيا عن كلام الإمام في الصلاة بما فيه إصلاحها فأفتاه بجواز ذلك أيلزمه الأخذ بقوله فيصير له الكلام في الصلاة مباحا ثم يلزمه كل ما ذكرنا آنفا وهكذا نسأل كل معتقد لمسألة يستعظم مخالفة من خالفه فيها من عامي سأل فقيها فأفتاه بما يستعظمه هذا الذي نسأله نحن أفرض الله تعالى عليه قبول ذلك المعنى أم لا فإن قال لا ترك قوله الفاسد إن العامي قد فرض الله تعالى عليه قبول ما أفتاه الفقيه المسؤول وإن لج وقال نعم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 صار حاكما بتحريم شيء وتحليله في وقت واحد وجعل حكم الله تعالى مردودا إلى حكم ذلك المفتي وجعل حكم ذلك المفتي مبطلا لحكم الله تعالى ولحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل دين الله تعالى موكولا إلى آراء الرجال ومتبدلا بتبدل الفتاوى فمرة ساقطا ومرة لازما وفي هذا مفارقة الإسلام ومكابرة العقل وإبطال الحقائق وبالله تعالى التوفيق والناس فيما يعتقدونه ولا يخلون من أحد أربعة أوجه لا خامس لها إما أن يكون المرء طلب الصواب فأداه اجتهاده إلى الصواب حقا فاعتقده على بصيرة وإما أن يكون طلب الصواب فحرم إدراكه لبعض العوارض التي سبقت له في علم الله تعالى وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الصواب وإما أن يكون قلد فوافق في تقليده الخطأ فأما الوجهان الأولان فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من اجتهد فأصاب فله أجران وأن من اجتهد فأخطأ فله أجر وقوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم عموم لكل مجتهد لأن كل من اعتقد في مسألة ما حكما ما فهو حاكم فيها لما يعتقد هذا هو اسمه نصا لا تأويلا لأن الطلب غير الإصابة وقد يطلب من لا يصيب على ما قدمنا ويصيب من لا يطلب فإذا طلب أجر فإذا أصاب فقد فعل فعلا ثانيا يؤجر عليه أجرا ثانيا أيضا فإن أشكل عليه بعد طلبه فلم يأت محرما عليه ولا اعتمد معصية فلا إثم عليه ولم يفعل ما أمر به من الإصابة فلا أجر له فيما لم يفعل وله بالطلب أجر واحد ولكن الطلب يختلف فمنه طلب أمر به وطلب لم يؤمر به فالطلب الذي أمر به هو الطلب في القرآن والسنن ودليلهما فمن طلب في هذه المعادن الثلاثة فقد طلب كما أمر فله أجر الطلب لأنه مؤد لما أمر به منه على ما ذكرنا والطلب الذي لم يؤمر به هو الطلب في القياس وفي دليل الخطاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 وفي الاستحسان وفي قول من دون النبي صلى الله عليه وسلم فلم يطلب كما أمر فلا أجر له على طلب ذلك لكن لما كانت نيته بذلك القصد إلى الله عز وجل وطلب الحق وابتغاءه كان غير قاصد إلى الخطأ وهو يدري أنه خطأ فله من ذلك نية من هم بخير وهم بحسنة وهي الطلب الذي لم يفعله وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من هم بحسنة ولم يعملها فإنها تكتب له حسنة والحسنة بلا شك أجر فالأجر هنا يتفاضل فمن هم بالطلب ثم طلب كما أمر فله عشر حسنات لأنه هم بحسنة فعملها ومن هم بالطلب كما أمر فله حسنة واحدة لأنه لم يعملها كما أمر حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا أبو كريب ثنا أبو خالد الأحمر عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب وإن عملها كتبت وبه إلى مسلم حدثنا شيبان بن فروخ ثنا عبد الوارث هو ابن سعيد التنوري عن الجعد أبي عثمان ثنا أبو رجاء العطاري عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة قال أبو محمد وأما القسم الثالث وهو المقلد المصيب فهو في تقليده عاص لله عز وجل لأنه فعل أمرا قد نهاه الله عنه وحرمه عليه فهو آثم بذلك ويبعد عنه أجر المعتقد للحق لأنه لم يصبه من الوجه الذي أمره الله تعالى به وكل من عمل عملا بخلاف أمر الله تعالى فهو باطل ولا شك أن المجتهد المخطىء أعظم أجرا من المقلد المصيب وأفضل لأن المقلد المصيب آثم بتقليده غير مأجور بإصابته والمجتهد المخطىء مأجور باجتهاده غير آثم لخطئه فأجر متيقن وأجر مضمون أفضل من أجر محروم وإثم متيقن بلا شك فإن قال قائل فردوا شهادة كل مسلم لم يعرف الإسلام من طريق الاستبدال لأنه مقلد والمقلد عاص قيل له ليس من اتبع من أمره الله تعالى باتباعه مقلدا بل هو مطيع فاعل ما أمر به محسن وإنما المقلد من اتبع من لم يأمره الله تعالى باتباعه فهذا عاص لله تعالى ثم لو علمنا أن هذا المسلم إنما اعتقد من الإسلام تقليدا لأبيه وجاره ولمن نشأ معه ولو أنه نشأ من غير المسلمين لم يكن مسلما لما جاز قبول شهادته وهذا لا يبعد من الكفر بل إن عقد نيته على هذا فهو كافر بلا شك وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم إذ وصف فتنة الناس في قبورهم فقال صلى الله عليه وسلم وأما المنافق أو المرتاب لا ندري أسمى أي ذلك قال فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وهذا نص ما قلنا والمسلمون بحمد الله في أغلب أمورهم مبعدون عن هذا بل تجد منهم الأكثر من عقد قلبه على أنه لو كفر أبوه وأهل مصره ما كفر هو ولو أحرق بالنار فهذا ليس مقلدا والحمد لله رب العالمين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 وكذلك من قلد في فتيا أو نحلة وقامت عليه الحجة فعند فهو فاسق مردود الشهادة ولو لم يفهمها فهو معذور ولا يضر ذلك شهادته قال الله تعالى {يجادلونك في لحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى لموت وهم ينظرون} فذم عز وجل من عند بعد أن تبين له الحق وعذر النبي صلى الله عليه وسلم عمر إذ لم يفهم آية الكلالة فهذا فرق ما بين الأمرين وبالله تعالى التوفيق وأما القسم الرابع وهو المقلد المخطىء فله إثم معصية التقليد وإثم المعصية باعتقاده الخطأ فعليه إثمان وقد يخرج على القسم الثالث الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليصلي الصلاة وما له منها إلا نصفها ثلثها ربعها فيكون ذلك على قدر ما وافق فيه الحق من أحكام صلاته وقد بينا فيما خلا كيفية اجتهاد طالب الفقه وما يلزمه من معرفة الرواة والثقات والمجرحين والمسند المرسل وبناء النصوص بعضها على بعض من الآي والأحاديث والاستثناء والإضافة وزيادات العدول والناسخ والمنسوخ والمحكم والعام والخاص والمجمل والمفسر والإجماع والاختلاف وكيفية الرد إلى القرآن والسنة وفهم البراهين والشغب على حسب ما تنتهي إليه طاقته وبينا في هذا الباب وجه اجتهاد العامي وأما من أباح للعامي أن يقلد فقد أخطأ بالبراهين التي قدمنا من نهي الله تعالى عن التقليد جملة ومع خطئه فقد تناقض لأن القائل بما ذكرنا قد أوجب على العامي البحث عن أفقه أهل بلده وهذا النوع من أنواع الاجتهاد فقد فارق التقليد وتركه ولم يقل أحد أن العامي يقلد كل من خرج إلى يده فقد صح معنى ترك التقليد من العامي وغيره بإجماع لما ذكرنا آنفا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 وإن أجاز لفظه مجيزون ناقضون في إجازتهم إياه وكل من أقر بلفظ وأنكر معناه فقد أقر بفساد مذهبه وأيضا فإنه إن بحث عن أفقه أهل بلده لم يكد يجد اتفاقا على ذلك بل في الأغلب يدله قوم على رجل ويدله آخرون على آخر وأيضا فقد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه ومن لا يعلم عنده ومن غيره أعلم منه وقد شهدنا نحن قوما فساقا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة ولا يجوز قبول شهادتهم وقد رأيت أنا بعضهم وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافا ويتخذ في منزله الصور ذوات الأرواح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه ويفتي بالهوى للصديق فتيا وعلى العدو فتيا ضدها ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى وانحرافه عليه شاهدنا نحن هذا عيانا وعليه جمهور أهل البلد إلى قبائح مستفيضة لا نستجيز ذكرها لأننا لم نشاهدها هذا مع ما فشا في الناس من فتيا من يسمونه في الفقه بالتقليد والقياس والاستحسان وإنما أوقع العامة في سؤالهم حسن الظن بهم أنهم لا يقدمون على الفتيا بغير علم ولا بما لا يصح عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو علمت العامة أنهم ليس عندهم في أكثر ما يفتونهم به علم عن الله عز وجل ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يوقعونهم في مخالفة القرآن والسنة ما سألوهم ولا استفتوهم بل لعلهم كانوا يقدمون عليهم إقداما يتلفهم فمن استفتى فقيهين فأفتاه كل واحد منهما بفتيا غير الذي أفتى به الآخر وقال له أحدهما كذا قال الله عز وجل وقال الآخر كذا قال رسول الله صلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 الله عليه وسلم فاللازم له أن يأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله عز وجل {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ولأنه صلى الله عليه وسلم لا يخالف ربه عز وجل لكنه يبين مراده تعالى ولأنه لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نعلم أن القرآن كلام الله تعالى ولا درينا دين الله تعالى ولا عرفنا مراد ربنا تعالى ولا أوامره ولا نواهيه ولا خلاف بين أحد المسلمين في وجوب المصير إلى قوله صلى الله عليه وسلم وترك ما أمرنا أن نترك العمل به من القرآن فمن ذلك أنه لا خلاف بين أحد من المسلمين حاشا الأزارقة في وجوب الرجم على الزاني المحصن وليس ذلك في القرآن ولا في عدد الصلوات وكيفية أخذ الزكوات وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها إلا من شذ عن الحق في ذلك وليس في القرآن شيء من ذلك أصلا وهكذا سائر الأحكام والعبادات كلها وبالله تعالى التوفيق وبرهان قولنا في هذا ما حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي ثنا محمد بن إسحاق بن السليم عن أبي داود نا أحمد بن حنبل نا سفيان بن عيينة عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر بما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدناه في كتاب الله تبعناه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 فصل هل يجوز تقليد أهل المدينة وقال قوم بتقليد أهل المدينة وقد ذكرنا في باب الكلام في الأخبار من كتابنا هذا وفي باب الإجماع من كتابنا هذا بطلان من احتج بعمل أهل المدينة وإجماعهم فأغنى عن تردده ولكن لا بد أن نذكر ههنا طرفا نشاكل غرضنا في هذا الباب إن شاء الله تعالى احتج قوم في تقليد أهل المدينة بقبول قولهم في المد والصاع وهذا لا حجة لهم فيه لأن هذا داخل فيما نقلوه مسندا بالتواتر على أن ذلك أيضا مما قد اختلفوا فيه فقد روي عن موسى بن طلحة بن عبيد الله وهو مدني ما يخالف قولهم ويوافق قول أبي حنيفة ولو كان قبول قولهم في المد والصاع موجبا لقبول قولهم في غير ذلك لوجب تقليد أهل مكة في جميع أقوالهم لاتفاق الأمة كلها يقينا بلا خلاف من أحد منهم على قبول قولهم في موضع عرفة وموضع مزدلفة وموضع منى وموضع الجمار وموضع الصفا وموضع المروة وحدود الحمى فما خالف أحد من جميع فرق الإسلام لا قديما ولا حديثا قول أهل مكة وهذا أكثر من المد والصاع على أن الأمة لم توافق قولهم في المد والصاع وأيضا فإن قولهم في المد والصاع هو أقل ما قيل فهو حجة عندنا من هذه الجهة كما لو قال غيرهم ذلك سواء ولا فرق لأن ما قالوا الصاع ثمانية أرطال وقال قوم أكثر من ذلك وقال جمهور أهل المدينة وقوم من غيرهم خمسة أرطال ونيف فكان هذا المقدار متفقا على وجوب إخراجه في زكاة الفطر وجزاء الصيد وكفارة الواطىء في رمضان والمظاهر وحلق الرأس للمحرم قبل بلوغ الهدي محله فوجب الوقوف عند الإجماع في ذلك وكان ما زاد مختلفا فيه لم يجب القول به إلا بنص ولا نص مسندا صحيحا في ذلك فلم يجب القول بإخراج الزيادة على ذلك بغير نص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 ولا إجماع وأجمعت الأمة كلها بلا خلاف في أحد منها على أن المد والصاع المذكورين في زكاة الفطر هما المذكوران في المقدار الذي تلزم فيه الزكاة من الحب والتمر وأنهما سواء فلما صح المقدار المذكور في زكاة الفطر صح أنه يعينه في زكاة الحب والتمر ولا فرق ويكفي من هذا أنه نقل مبلغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكافة وأما الخلاف في المد والصاع فإنما هو خلاف رأي لا خلاف رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فسقط ذلك الخلاف والحمد لله رب العالمين واحتجوا في ذلك بما روي من قول عبد الرحمن بن عوف لعمر رضي الله عنهما إن الموسم يجمع رعاع الناس فاصبر حتى تأتي المدينة فتخلو بوجوه الناس فالجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يتبع من عبد الرحمن بن عوف وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل التبليغ الذي أمره الله به إلا في مكة في حجة الوداع في الموسم الجامع لكل عالم وجاهل وهنالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا هل بلغت فقال الناس اللهم نعم فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اشهد ولم يجعل صلى الله عليه وسلم ذلك التبليغ العام الذي أقام به الحجة في المدينة ولا في خاص من الناس ولا بحضرة وجوه الناس خاصة دون الرعاع وكذلك لم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة سورة براءة في المدينة وهي آخر سورة نزولا وهي الجامعة للسير وأحكام الخلافة والإمامة حتى يبعث بها عليا ليقرأ في الموسم بمكة في حجة أبي بكر رضي الله عنهما بحضرة كل من حضر وإنما يكون الانفراد بوجوه الناس في الآراء التي تدار ويستضر بكشفها وتجري مجرى الأسرار ومثل هذا كانت مقالة عمر التي حضه عبد الرحمن على تأخيرها إلى أن يخلو بوجوه الناس ولم تكن من الشرائع الواجب معرفتها من الفرض والحرام والمباح ونحن إنما نتكلم مع خصومنا في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 الشرائع التي تلزم أهل صين الصين والخالدات ومن في حوزارين وأقاضي الزنج وأقاضي بلاد الصقالبة كما يلزم الصحابة وأهل المدينة لزوما مستويا لا تفاضل فيه ولم ننازعهم في إدارة رأي ولا في تحذير من طالب خلافة فلو تركوا التمويه لكان أولى بهم ولو كانت تلك المقالة من واجبات الشرائع ما أخرها عمر ولا أمره ابن عوف بتأخيرها والعجب أن القائلين بهذا قد خالفوا إجماع أهل المدينة حقا فمن ذلك سجودهم مع عمر في {إذا لسمآء نشقت} يوم جمعة فقالوا ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة ومن ذلك اشتراكهم في الهدي يوم الحديبية فقالوا ليس عليه العمل فتركوا إجماع أهل المدينة الصحيح وادعوه حيث لا يصح وهكذا يكون عكس الحقائق والأمور في الديانة لا تؤخذ إلا من نص منقول ولا نص على وجوب اتباع أهل المدينة دون غيرهم فإذا كان ذلك دعوى بلا برهان فهو افتراء على الله عز وجل أنه أوجب ذلك وهو تعالى لم يوجبه وهذا عظيم جدا ونسأل الله التوفيق وإذا كان نقل أهل المدينة وغيرهم إنما حكمه أن يراعى الفاسق فيجتنب نقله والعدل فيقبل نقله ففي المدينة عدول وفساق ومنافقون وغيرهم شر خلق الله تعالى وفي الدرك الأسفل من النار وقال تعالى {وممن حولكم من لأعراب منافقون ومن أهل لمدينة مردوا على لنفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} وقال تعالى {إن لمنافقين في لدرك لأسفل من لنار ولن تجد لهم نصيرا} وفي سائر البلاد أيضا عدول وفساق ومنافقون ولا فرق وكيف يدعي هؤلاء المغفلون تقليد أهل المدينة وهم يخالفون عمر بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 الخطاب في نيف وثلاثين قضية من موطأ مالك خاصة وخالفوا أبا بكر وعائشة وابن عمر وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وغيرهم من فقهاء المدينة في كثير من أقوالهم جدا فإن كان تقليد أهل المدينة واجبا فمالك مخطىء في خلافه لهؤلاء فيجب عليهم أن يتركوه إذا خالف من أهل المدينة والحقيقة التي لا شك فيها هي أن مرادهم بالدعاء إلى أهل المدينة والتشييع بوجوب طاعتهم إنما هو دعاء إلى قول مالك وحده لا يبالون بأحد سواه من أهل المدينة وأعجب من هذا أنهم فيما يدعون فيه إجماع أهل المدينة من المسائل ليس عندهم في صحة ذلك إلا نقل مالك وحده ومن المحال أن يثبت الإجماع بنقل واحد لا برهان بيده وكل ما جوزوه على سائر الثقات من رواة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمن دونه إلى قيام الساعة فهو جائز على مالك ولا فرق فظهر بطلان قولهم لكل ذي حس سليم وأيضا فإن مالك بن أنس رحمه الله لم يدع إجماع أهل المدينة في موطئه إلا في نحو ثمان وأربعين مسألة فقط مع أن الخلاف موجود من أهل المدينة في أكثر تلك المسائل بأعيانها وأما سائرها فلا خلاف فيها بين أحد لا مدني ولا غيره ولم يدع إجماعا في سائر مسائله فاستجاز أهل الجهل على الحقيقة من اتباعه الكذب المجرد والجهل الفاضح ونعوذ بالله من الخذلان في إطلاق الدعوى على جميع أقوالهم أو أكثرها أنها إجماع أهل المدينة وحتى لو صح لهم هذا القول الفاسد لوجب ألا تقبل رواية القاسم وأشهب وابن عبد الحكم وسائر المالكيين قديما وحديثا لأنهم ليسوا مدنيين فإن قال قائل إنهم أخذوا عن أهل المدينة قيل وكذلك أهل البصرة والكوفة والشام ومصر ومكة واليمن أخذوا عن أصحاب رسول الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل وأعلم من الذين أخذ عنهم المذكورون وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي به هدى الله تعالى من شاء من أهل المدينة وغيرهم والقرآن واحد مشهور في غير المدينة كما هو بالمدينة وسنن الرسول صلى الله عليه وسلم معروفة منقولة في غير المدينة كما هي بالمدينة والدين واحد ويهب الله من يشاء من أهل المدينة وغير أهل المدينة ما شاء من الحظ في دينه والفهم في كتابه وأهل المدينة وغيرهم سواء ولا فرق بينهم وما عدا هذا القول فإفك وزور وكذب وبهتان وبالله التوفيق وقد ذكرنا أن مالكا وأبا حنيفة والشافعي لم يقلدوا ولا أجازوا لأحد أن يقلدهم ولا أن يقلد غيرهم وروي أن مالكا أفتى في مسألة في طلاق البتة أنها ثلاث فنظر إلى أشهب قد كتبها فقال امحها أنا كلما قلت قولا جعلتموه قرآنا ما يدريك لعلي سأرجع عنها غدا فأقول هي واحدة وهذا ابن القاسم لا يرى بيع كتب الرأي لأنه لا يدري أحق فيها أم باطل ويرى جواز بيع المصاحف وكتب الحديث لأنها حق وقال مالك عند موته وددت أني ضربت بكل مسألة تكلمت فيها برأيي سوطا على أنه لا صبر لي على السياط وذكر الشافعي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض جلسائه يا أبا عبد الله أنأخذ به فقال له يا هذا أرأيت علي زنارا أرأيتني خارجا من كنيسة حتى تقول لي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنأخذ بهذا ولم يزل رحمه الله في جميع كتبه ينهي عن تقليده وتقليد غيره وهكذا حدثني القاضي أبو بكر حمام بن أحمد عن عبد الله بن محمد الباجي عن القاضي أسلم بن عبد العزيز بن هشام عن أبي إبراهيم المزني عن الشافعي فترك هؤلاء القوم ما أمرهم به أسلافهم وعصوهم في الحق واتبعوا آراءهم تقليدا وعنادا للحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 حدثنا القاضي يونس بن عبد الله ومحمد بن سعيد بن نبات قال يونس نا يحيى بن مالك بن عائن نا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل الخشاب نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا إبراهيم بن أبي الجحيم نا محمد بن معاذ نا سفيان بن عيينة وقال محمد بن سعيد نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا أبو موسى الزمن هو محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري ثم اتفق ابن عيينة والثوري واللفظ للثوري عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال قال معاوية لابن عباس أنت على ملة علي قال لا ولا على ملة عثمان أنا على ملة النبي صلى الله عليه وسلم قال محمد بن المثنى وثنا مؤمل نا سفيان الثوري عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال لي معاوية أنت قلت ما أنا بعلوي ولا عثماني ولكني على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا يونس بن عبد الله نا يحيى بن مالك بن عائذ حدثنا الحسين بن أحمد بن أبي حنيفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا يوسف بن يزيد القراطيسي نا سعيد بن منصور نا هشيم عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 كان يكره أن يقال سنة أبي بكر وعمر ولكن سنة الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فإذا كان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم لا يستجيزون نسبة ما يعبدون به ربهم ولا مذاهبهم إلى أبي بكر ولا إلى عمر ولا إلى عثمان ولا إلى علي ولا ينتسبون إلى أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف بهم لو شاهدوا ما نشاهده من المصائب الهادمة للإسلام على من امتحنه الله به من الانتماء إلى مذهب فلان وفلان والإقبال على أقوال مالك وأبي حنيفة والشافعي وترك أحكام القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ظهريا والحمد لله على تثبيته إيانا على دينه وسنته التي مضى عليها أهل الأعصار المحمودة قبل أن تحدث بدعة التقليد وتفشو وبالله نعتصم كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله الحافظ نا سعيد بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن يزيد بن أبي زيادة عن إبراهيم هو النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم عليها الكبير وتتخذ سنة المبتدعة جرى عليها الناس فإذا غير منها شيء قيل غيرت السنة قيل متى ذلك يا أبا عبد الرحمن قال إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم وكثر أمراؤكم وقل أمناؤكم والتمست الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين حدثنا أحمد بن عمر العذري نا أبو ذر عبد بن أحمد نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن خزيم بن مهر نا عبد بن حميد نا محمد بن الفضل نا الصعق بن حزن عن عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له يا عبد الله بن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال أتدري أي الناس أفضل قلت الله ورسوله أعلم قال فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذ فقهوا في دينهم ثم قال يا عبد الله بن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال هل تدري أي الناس أعلم قلت الله ورسوله أعلم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 قال أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان تزحف على استه كتب إلي النمري نا سعيد بن سيد نا عبد الله بن محمد نا أحمد بن خالد نا ابن وضاح نا إبراهيم بن محمد الشافعي نا أبو عصام رواد بن الجراح العسقلاني عن سعيد بن بشر عن قتادة قال من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه كتب إلي النمري ثنا أحمد بن سعيد بن بشر نا أحمد بن أبي دليم نا ابن وضاح نا إبراهيم بن يوسف الفريابي نا ضمرة بن ربيعة عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال لا ينبغي لأحد أن يفتي أحدا من الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه هكذا روينا عن سعيد بن جبير وهكذا قال أحمد بن حنبل وغيره كتب إلي النمري قال روى عيسى بن دينار عن أبي القاسم قال سئل مالك قيل له لمن تجوز الفتيا قال لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه قيل له اختلاف أهل الرأي قال لا اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن وحديث النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك يفتي ولا يجوز لمن لم يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 قال النمري وقال يحيى بن سلام لا ينبغي لمن لم يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي كتب إلي النمري نا خلف بن القاسم نا الحسن بن رشيق نا علي بن سعيد الرازي نا محمد بن المثنى نا عيسى بن إبراهيم سمعت يزيد زريع يقول سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما كتب إلي النمري أخبرني خلف بن القاسم نا محمد بن شعبان القرظي نا إبراهيم بن عثمان نا عباس الدوري قال سمعت قبيصة بن عقبة يقول لا يفلح من لم يعرف الاختلاف كتب إلي النمري أخبرني قاسم بن محمد نا خالد بن سعيد نا محمد بن فطيس نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال سمعت أشهب يقول سئل مالك عن اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خطأ وصواب فانظر في ذلك كتب إلي النمري وذكر يحيى بن إبراهيم بن مزين حدثني أصبغ قال قال ابن القاسم سمعت مالكا والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كما قال ناس فيه توسعة ليس كذلك إنما هو خطأ وصواب كتب إلي النمري أخبرني عبد الرحمن بن يحيى أنا أحمد بن سعيد نا محمد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 بن ريان نا الحارث بن مسكين عن ابن القاسم عن مالك أنه قال في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مخطىء ومصيب فعليك بالاجتهاد وذكره إسماعيل في المبسوط عن أبي ثابت المدني عن ابن القاسم عن مالك كتب إلي النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير حدثني أبي عن سعيد بن عامر ثنا شعبة عن الحاكم بن عتيبة قال ليس أحد من خلق الله تعالى إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي النمري ثنا خلف بن القاسم نا ابن أبي العقب بدمشق نا أبو زرعة ثنا ابن أبي عمر نا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال ليس أحد من خلق الله عز وجل إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير أنا الغلاقي نا خالد بن الحارث قال قال سليمان التيمي لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله كتب إلي النمري نا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا يوسف بن عدي نا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن أبي البختري في قوله عز وجل {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} قال أما أنهم لو أمروهم أن تعبدوهم من دون الله تعالى ما أطاعوهم ولكن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 أمروهم فجعلوا حلال الله تعالى حرامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية قال ابن وضاح وحدثنا موسى بن معاوية نا وكيع نا سفيان والأعمش جميعا عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال قيل لحذيفة بن اليمان في قول الله تعالى {تخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون لله ولمسيح بن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} أكانوا يعبدونهم قال لا ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه كتب إلي النمري أنا سعيد بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال قال معاذ بن جبل يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث دنيا تقطع أعناقكم وزلة عالم وجدال المنافق بالقرآن فسكتوا فقال أما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه أناتكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب وأما القرآن فله منار كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه ما شئتم فيه فكلوه إلى عالمه وذكر باقي الحديث قال أبو محمد هذا هو نص ما ذهبنا والحمد لله رب العالمين في اتباع الظاهر وترك تقليد كتب إلي النمري ثنا محمد بن إبراهيم ثنا محمد بن أحمد بن مفرج ثنا أبو سعيد البصري بمكة ثنا الحسن بن عفان العامري ثنا الحسين الجعفي عن زائدة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال قال سليمان الفارسي كيف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 أنتم عند ثلاث زلة عالم وجدال منافق بالقرآن ودنيا تقطع أعناقكم فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم وأما مجادلة منافق بالقرآن فإن للقرآن منارا كمنار الطريق فما عرفتم منه فخذوا وما لم تعرفوا فكلوه إلى عالمه كتب إلي النمري ثنا عبد الوارث بن سفيان ويعيش بن سعيد قالا أنا قاسم بن أصبغ ثنا بكر بن حماد ثنا بشر بن حجر أنا خالد بن عبد الله الواسطي عن عطاء يعني ابن السائب عن أبي البختري عن علي بن أبي طالب قال إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله عز وجل فيه وذكر الحديث كتب إلي النمري قال ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك قال ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه يقول الله عز وجل {لذين يستمعون لقول فيتبعون أحسنه أولئك لذين هداهم لله وأولئك هم أولو لألباب} قال أبو محمد لو اتبع مقلدوه وهذا القول منه لاهتدوا ونعوذ بالله من الخذلان وقالوا أيضا إن جمهور الصحابة كانوا بالمدينة وإنما خرج عنها الأقل ومن المحال أن تغيب السنة عن الأكثر ويدريها الأقل قال أبو محمد وهذا فاسد من القول جدا لأن الرواية إنما جاءت عن ألف صاحب وثلاثمائة صاحب ونيف أكثرهم من غير أهل المدينة وجاءت الفتيا عن مائة ونيف وثلاثين منهم فقط أكثرهم من غير أهل المدينة وهذه الأمور لا تطلق جزافا ولا يؤخذ الدين عمن لا يبالي أن يطلق لسانه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 بما لا يدري ولا اهتبل به يوما من دهره قط ولا شغل بالبحث عنه ليلة من عمره وإنما يؤخذ ممن جعله وكده وعمدته وآثره على طلب رياسة الدنيا وأعده حجة ليلقى بها ربه إذا سئل يوم القيامة ثم إن كل قولة قلدوا فيها مالكا من تلك الآراء المضطربة وتلك المسائل التي فيها القولان والثلاثة وهي أكثر أقواله فليس كل واحدة منها شهدها جميع أصحابه الباقين بالمدينة نعم ولا سائر الأحكام التي أسندها إلى من أسندها إليه إنما هي حكم حكم بها حاكم إما رضيه غيره منهم وإما سخطه ومن ادعى إجماعهم عليه فقد ادعى الكذب الذي لا يخفى على أحد إذ لا شك أنهم لم يكونوا كلهم ملازمين لكل حكم حكم به الإمام هنالك أو قاضيه فظهر سقوط ما احتجوا به وبالله تعالى التوفيق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 الباب السابع والثلاثون في دليل الخطاب قال أبو محمد هذا مكان عظيم فيه خطأ كثير من الناس وفحش جدا واضطربوا فيه اضطرابا شديدا وذلك أن طائفة قالت إذا ورد نص من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم معلقا بصفة ما أو بزمان ما أو بعدد ما فإن ما عدا تلك الصفة وما عدا ذلك الزمان وما عدا ذلك العدد فواجب أن يحكم فيه بخلاف الحكم في هذا المنصوص وتعليق الحكم بالأحوال المذكورة دليل على أن ما عداها مخالف لها وقالت طائفة أخرى وهم جمهور أصحاب الظاهريين وطوائف من الشافعيين منهم أبو العباس بن سريج وطوائف من المالكيين إن الخطاب إذا ورد كما ذكرنا لم يدل على أن ما عداه بخلافه بل كان موقوفا على دليل قال أبو محمد هذا القول هو الذي لا يجوز غيره وتمام ذلك في قول أصحابنا الظاهريين أن كل خطاب وكل قضية فإنما تعطيك ما فيها ولا تعطيك حكما في غيرها لا أن ما عداها موافق لها ولا أنه مخالف لها لكن كل ما عداها موقوف على دليله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 وتحير في هذا بعض أصحاب القياس من الحنفيين والشافعيين والمالكيين كأبي الحسين القطان الشافعي وأبي الفرج القاضي المالكي لما رأوا عظيم تناقضهم في هذا الباب فقالوا دليل الخطاب على مراتب فمنه ما يفهم منه أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها فحكمها كحكم هذه التي خوطبنا ومنه ما لا يفهم منه أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها فحكمها بخلاف حكم هذه التي خوطبنا ومنه ما لا يفهم أن ما عدا القضية التي خوطبنا بها موافق لحكم هذه التي خوطبنا بها ولا مخالف ومثلوا القسم الأول بقوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} قالوا ففهمنا أن غير {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} وبآيات كثيرة سنذكرها في باب القياس من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى لأن ذلك المكان أمكن بذكرها ومثلوا القسم الثاني بأمثلة اضطربوا فيها فقال الشافعيون والحنفيون من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائمة الغنم في كل أربعين شاة شاة قالوا فدل ذلك على أن ما عدا السائمة لا زكاة فيها وأنها ليست بمنزلة السائمة وأدخل المالكيون هذا الحديث في القسم الأول وقالوا بل ما دل إلا أن غير السائمة بمنزلة السائمة وقال الألوان هذا بمنزلة من قال إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما فيعلم أن هذا شرط فيه وإنه إن دخل أعطى درهما وإن لم يدخل لم يعط شيئا ومثل المالكيون هذا القسم الآخر بقوله تعالى {ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} قالوا فدل ذكر الركوب والزينة على أن ما عداهما ممنوع كالأكل ونحوه قال أبو محمد فأما هؤلاء المتحيرون الذين ذكرنا آخرا يعني الذين قالوا إن الخطاب قد يدل في مواضع على أن ما عداه بخلافه ويدل في مواضع أخر على أن ما عداه ليس بخلافه فإنهم لعبوا في هذا المكان بالخطاب كما يلعب بالمخراق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 فمرة حكموا لغير المنصوص بأن المنصوص يدل على أن حكمه كحكمه ومرة حكموا بأن المنصوص يدل على أن حكمه ليس كحكمه فليت شعري كيف يمكن أن يكون خطابان يردان بالحكم في اسمين فيفهم من أحدهم أن غير الذي ذكر مثل الذي ذكر ويفهم من الآخر أن غير الذي ذكر بخلاف الذي ذكر وهذا ضد ما فهم من الأول وتالله ما خلق الله تعالى عقلا يقوم فيه هذا إلا عقل من غالط نفسه فتوهم ما لا يصح بدعوى لا يعجز عن مثلها أحد بلا دليل وكل من لم يبال بما قال يقدر أن يدعي أنه فهم من هذا اللفظ غير ما يعطي ذلك اللفظ قال أبو محمد وأما أكياسهم فإنهم سموا القسم الأول قياسا وسموا الثاني دليل الخطاب فقد رأوا إذ فرقوا بين معنى واحد باسمين أنهم قد سلموا بذلك من التناقض وهم من التورط فيه بمنزلة من سمى كل ذلك دليل الخطاب ولا فرق ونحن نسألهم من كلامهم فنقول لهم ما الفرق بينكم إذ قالت طائفة منكم إن ذكر السائمة يدل على أن غير السائمة بخلاف السائمة وقالت طائفة أخرى بل ذكر السائمة إلا على أن غير السائمة موافق لحكم السائمة ما الفرق بينكم وبين من عكس عليكم قولكم إن قول الله تعالى {ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون} إن ذكر القنطار يدل على أن ما عدا القنطار مثل القنطار فقال بل ما يدل ذكر القنطار إلا على أن ما عدا القنطار بخلاف القنطار فقد يفزع الخائن من خيانته إذا كانت كثيرة وقد يحتقر اليسير فلا يخونه فهلا جعلتم القنطار ههنا حدا للكثير كما جعلت طوائف منكم ذكره صلى الله عليه وسلم المائتي درهم في وجوب الزكاة فيها دليلا على أن العشرين دينارا كثير فلا يحلف عند المنبر أحد في أقل منها وأن ما دونها قليل فلا يحلف فيها إلا في مجلس الحاكم وجعلت طوائف أخر منكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 ذكره صلى الله عليه وسلم ربع الدينار في قطع السارق دليلا على أن ربع الدينار كثير وأن ما عداه قليل فلا يستباح فرج بأقل منه ولا يحلف عند المنبر في أقل منه وجعلت طوائف أخر ما رووا من ذكره صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم في قطع السارق دليلا على أن العشرة دراهم كثيرة وإن ما دونها قليل فلا يستباح فرج بأقل منها حتى جعلوا ذلك حدا فيما يسقط مما بين قيمة العبد ودية الحر قال أبو محمد ومما ادعوا فيه أنهم فهموا منه أن المسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه قوله تعالى {أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضآروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} قالوا فهذا يدل على أن غير الحامل بخلاف الحامل قال أبو محمد هذا خطأ لأن المطلقة لا تخلو من أن يكون طلاقها رجعيا أو غير رجعي فإن كان رجعيا فلها النفقة إذا كانت ممسوسة كانت حاملا أو كانت غير حامل باتفاق من جميعنا وإن كان غير رجعي فلا نفقة لها بنص السنة سواء كانت حاملا أو غير حامل وإنما جاء النص المذكور في الطلاق الرجعي وبنص الآيات في قوله تعالى في الآية التي ابتدأ فيها في هذه السورة بتعليم الطلاق ثم عطف سائر الآيات عليها {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا} وهذا لا يكون إلا في رجعي وأمسك تعالى عن ذكر غير الحامل في هذه السورة فبينت السنة أن التي هي موطوءة وليست حاملا بمنزلة الحامل ولا فرق ولا يحل لأحد أن يقول لم سكت عن ذكر غير الحامل ههنا فإن قال ذلك مقدم قيل له سكت عن ذلك كما سكت فيها عن ذكر الخلع وعن ذكر المتوفى عنها زوجها وعن الفسخ وغير ذلك فإن قالوا قد ذكر الله تعالى ذلك في آيات أخر قيل وكذلك أيضا قد ذكر وجوب النفقة لغير الحامل بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ومن أراد أن يجد جميع الأحكام كلها في آية واحدة فهو عديم عقل متعلل في إفساد الشريعة ويأبى الله إلا أن يتم نوره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 وادعوا أن جماعة من أهل اللغة منهم المبرد وثعلب قالوا بذلك قال أبو محمد أما إدخال هذا الباب في اللغة فتمويه ضعيف وإيهام ساقط لأن اللغة إنما يحتاج فيها إلى أربابها في معرفة الحروف المجموعة التي تقوم منها الكلمات وأن يخبرونا على ماذا تركبت من المسميات فقط وأما معرفة هل يدخل في حكم الخبر عن الاسم ما قد أقروا لنا أنه ليس يقع عليه ذلك الاسم أو لا يدخل في حكمه فليس هذا في قوة علم اللغة ولا من شروطها إنما يظن هذا من اختلطت عليه العلوم ولم تبلغ قوته أن يفرق بينها وهذا أمر موجود في طبائع العرب والعجم وحتى لو صح ذلك عن ثعلب وعن المبرد وعن الأصمعي وخلف معهم لكان قولهم مع قول جميع أهل اللغة أولهم عن آخرهم بلا خلاف منهم بل قول أهل كل لغة للناس من عرب وعجم إن اسم حجر لا يفهم منه فرس وإن اسم جمل لا يفهم منه كلب وإن من قال ركبت اليوم سفينة أنه لا يفهم منه أنه ركب أيضا حمارا أو أنه لم يركبه وأن من قال أكلت خبزا أنه لا يفهم منه أكل لحما مع الخبز أم لم يأكله ولكان في شهادة العقول كلها باتفاقها على صحة ما ذكرنا كغاية في إبطال قول من قال بخلاف ذلك كائنا من كان ومبين صدق من قال إنما عدا الخبر المخبر به موقوف على دليله قال أبو محمد واعترض بعضهم بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في الاستغفار لمن مات من المنافقين لأزيدن على السبعين فقال هذا القائل في هذا دليل على أن ما عدا السبعين يغفر لهم به ولا بد قال أبو محمد وهذا خطأ من وجهين أحدهما أن ذلك دعوى بلا دليل ولو قطع صلى الله عليه وسلم بذلك لكان حقا ولكنه لم يقطع على ذلك وأنه لما يئس من المغفرة لهم بالسبعين رجا بالزيادة وهذا الحديث من أعظم حجة عليهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 في دعواهم التي نسوا أنفسهم فيها فقالوا إن ما عدا القنطار في قوله تعالى {وإن أردتم ستبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} وما عدا الأف من قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} بمنزلة القنطار والأف فهلا قالوا إن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين كما قالوا إن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين كما قالوا إن ما عدا القنطار بمنزلة القنطار أو هلا قالوا إن ما عدا القنطار بخلاف القنطار كما قالوا إن ما عدا السبعين بخلاف السبعين بل قد أكذب الله تعالى قولهم بإنزاله {سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر لله لهم إن لله لا يهدي لقوم لفسقين} وبنهيه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليهم جملة فبين تعالى بهذه الآية العامة أن ما عدا السبعين بمنزلة السبعين ولا يظن جاهل أننا بهذا القول يلزمنا أن ما عدا المنصوص عليه له حكم المنصوص ومعاذ الله من ذلك ولو ظننا ذلك كما ظنوا لكنا مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رجا أن يكون ما عدا السبعين بخلاف السبعين فإننا لم نقل إن بذكر السبعين وجب أن يكون ما عدا السبعين موافقا للسبعين ولا مخالفا لها بل قلنا ممكن أن يكون ما عدا السبعين موافقا للسبعين في ألا يغفر لهم وممكن أن يكون بخلاف السبعين في أن يغفر لهم وإنما ننتظر في ذلك ما يرد في البيان كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فرق ثم ينزل الله تعالى ما شاء إما بموافقة لما قد ذكر وإما بمخالفة له وكان الأصل إباحة الاستغفار جملة بقوله عز وجل {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} والصلاة ههنا الدعاء بلا خلاف والاستغفار دعاء وهو نوع من أنواع الدعاء فلما نص على خروج السبعين من جملة الدعاء لهم كان ما بقي على ظاهر الإباحة المتقدمة حتى نهى عن الاستغفار لهم جملة وعن الصلاة عليهم البتة وقد جاء نص الحديث هكذا كما قلنا من أخباره صلى الله عليه وسلم أنه مخير في ذلك فأخذ بظاهر اللفظ حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة نا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 عبيد الله بن عمير عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين اعترضه عمر في الصلاة على عبد الله بن أبي إنما خيرني الله فقال {ستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لله لهم ذلك بأنهم كفروا بلله ورسوله ولله لا يهدي لقوم لفاسقين} وسأزيد على السبعين فأخذ صلى الله عليه وسلم بظاهر اللفظ في التخيير والأصل المتقدم في إباحة الاستغفار حتى نهى عن ذلك جملة وقال بعضهم ما عدا الاسم المذكور فبخلاف المذكور إلا أن تقترن إليه دلالة قال أبو محمد فنقول له ما الفرق بينك وبين من عارضك من أهل مذهبك أراد أن ينصر القياس نفسه كما أردت أنت أن تنصر دليل الخطاب فنسيت نفسك فقال لك ما عدا الاسم المذكور فهو داخل في حكم المذكور ما لم تقترن إليه دلالة قال أبو محمد وهكذا يعرض للحمل المائل المرتب على غير اعتدال وبخلاف القوام إذا أراد صاحبه أن يعدل أحد شقيه مال عليه الآخر ثم يقال لهم جميعا ما هذه الدلالة المقترنة التي يشير كل واحد منكما إليها أهي كهانة منكم أم هي طبيعية توجب ضرورة فهم ما ذكر كل واحد منكما على تضادكما أم هي نص واحد فهم لا يدعون كهانة فلم يبق إلا أن يقولوا هي ضرورة توجب فهم كل ما لم يذكر أو أن يقولوا هو نص يبين حكم ما لم يذكره في هذا النص الآخر فأي ذلك قالوا فقد وافقونا في قولنا إنه لا يدل شيء مذكور على شيء لم يذكر وإن الذي لم يذكر في هذا النص فإنما ننتظر فيه نصا آخر إلا أن توجب ضرورة ما أن نعرف حكمه كما أوجبت ضرورة الحس في قوله تعالى {هو لذي جعل لكم لأرض ذلولا فمشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه لنشور} إننا لا نقدر أن نمشي في الهواء ولا في السماء ولا أن نأكل من غير رزقه واحتج بعضهم في قول أبي عبيد في قوله صلى الله عليه وسلم لأن يمتلىء جوف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلىء شعرا وأنكر أبو عبيد قول من قال إن ذلك إنما هي في الشعر الذي هجي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيد لو كان ذلك لكان قد أباح القليل من الشعر الذي هجي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لا يحل قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هو على خلاف ما ظنوا وهو أن الأصل أن رواية الشعر حلال باستنشاد النبي صلى الله عليه وسلم للأشعار وسماعه إياها وأما رواية ما هجي به صلى الله عليه وسلم فحرام سماعه وقراءته وكتابته وحفظه بقول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تدخلوا بيوت لنبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فدخلوا فإذا طعمتم فنتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي لنبي فيستحيي منكم ولله لا يستحيي من لحق وإذا سألتموهن متاعا فسألوهن من ورآء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول لله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند لله عظيما} وبقوله تعالى آمرا بتعزيره وتوقيره في غير ما آية فلما جاء النهي عن امتلاء الجوف من الشعر كان ذلك مخرجا لكثير منه من جمله كله المباح وبقي ما دون الامتلاء مما سوى هجو النبي صلى الله عليه وسلم على الإباحة وحد الامتلاء هو ألا يكون للإنسان علم إلا الشعر فقط وحد ما دون الامتلاء أن يعلم المرء ما يلزمه ويروي مع ذلك من الشعر ما شاء واحتجوا أيضا بقول أبي عبيد فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أن ذلك مخرج لغير الواحد عن إحلال العرض والعقوبة قال أبو محمد وليس هذا كما ظنوا ولكن لما أخبر صلى الله عليه وسلم أن أعراضنا علينا حرام وأن المسلم أخو المسلم لا يسلمه لا يظلمه كان كل أحد حرام العرض والعقوبة فلما جاء النص بتغيير المنكر باليد وكان لي الواجد منكرا لأنه منهي عنه كان ذلك مدخلا لعقوبته في جملة تغيير المنكر المأمور به ومخرجا له مما حرم من أعراض الناس جملة وعقوباتهم هذا الذي لا يفهم ذو لب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 سواه ولا ينفقه غيره واحتجوا بأن الشافعي أحد أئمة أهل اللغة وقد قال إن ذكره صلى الله عليه وسلم السائمة دليل على أن ما عدا السائمة بخلاف السائمة قال أبو محمد أما إمامة الشافعي رحمه الله في اللغة والدين فنحن معترفون بذلك ولكنه رضي الله عنه بشر يخطىء ويصيب وليت شعري أين كان الشافعي رحمه الله عن هذا الاستدلال إذ قال جل ذكره في رقبة القتل أن تكون مؤمنة دليل على أن المسكوت عنه من دين الرقبة في الظهار بمنزلة المنصوص في رقبة القتل أن تكون أيضا مؤمنة وليت شعري أي فرق بين ذكره تعالى الأيمان في رقبة القتل وذكره صلى الله عليه وسلم السائمة في حديث أنس فبقول قائل رقبة الظهار التي سكت عن ذكر دينها بمنزلة رقبة القتل التي ذكر دينها وأما غير السائمة من الغنم وإن كان السوم لم يذكر في حديث ابن عمر فبخلاف السائمة وما الفرق بين من عكس الحكم فقال بل غير السائمة بمنزلة السائمة كما قال المالكيون وأما الرقبة المسكوت عن دينها فبخلاف الرقبة المنصوص على دينها فتجزىء في الظهار كافرة كما قال الحنفيون وفي هذا كفاية وأما نحن فنقول لو لم يرد في السائمة إلا حديث أنس لما أوجبنا زكاة في غير السائمة لأن الأصل أن لا زكاة على أحد إلا أن يوجبها نص فلو لم يأت نص إلا في السائمة لما وجبت زكاة إلا فيها لكن لما ورد حديث ابن عمر بإيجاب زكاة كل أربعين من الغنم كان حديث السائمة بعض الحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة فأوجبنا الزكاة في الغنم سائمة كانت أو غير سائمة ولما نص تعالى في القتل على رقبة مؤمنة قلنا لا يجزىء في القتل إلا مؤمنة كما أمر الله تعالى ولما لم يذكر الإيمان في رقبة الظهار قلنا يجزىء الظهار أي رقبة كانت كما قال تعالى سواء كانت كافرة أو مؤمنة إلا أن المؤمنة أحب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 إلينا لقوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} {ولمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق لله في أرحامهن إن كن يؤمن بلله وليوم لآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل لذي عليهن بلمعروف وللرجال عليهن درجة ولله عزيز حكيم} إلا أن الكافرة تجزىء لعموم ذكره تعالى الرقبة فقط واحتجوا أيضا بإجماع المسلمين على أن ما عدا المنصوص عليه من عدد الزوجات أن يكون أربعا حرام قال أبو محمد وليس هذا من الوجه الذي ظنوا ولكنه لما أمر تعالى بحفظ الفروج جملة حرم النساء البتة إلا ما استثنى منهن فقط أيضا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فسخ نكاح الزائدة على أربع فكفى حكمه صلى الله عليه وسلم من كل دليل سواه وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله تعالى {ولمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق لله في أرحامهن إن كن يؤمن بلله وليوم لآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل لذي عليهن بلمعروف وللرجال عليهن درجة ولله عزيز حكيم} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه تعالى قد أباح لهن النكاح بالنص فقال عز وجل {ولذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بلمعروف ولله بما تعملون خبير} قال أبو محمد والنكاح المباح من المعروف واحتجوا أيضا بقوله تعالى {ولوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم لرضاعة وعلى لمولود له رزقهن وكسوتهن بلمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى لوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ آتيتم بلمعروف وتقوا لله وعلموا أن لله بما تعملون بصير} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الأم إن أرادت أن ترضعه أقل من حولين أو أكثر من حولين فذلك مباح لها ما لم يكن في الفطام قبل الحولين ضرر على الرضيع وكنا نقول إنه لا يحرم إلا ما كان في الحولين من الرضاع لأن الأصل أن الرضاع لا يحرم شيئا فلما حرم تعالى نكاح النساء بالرضاع ووجدناه تعالى قد جعل حكم الرضاع الذي أمر به حولين وما زاد عن الحولين فليس مأمورا ولكنه مباح وجب أن يكون الرضاع المحرم هو الرضاع المأمور به لا ما سواه إلا أن يقوم دليل على ما سواه من نص أو إجماع فيصار إليه ولكن المصير إلى قول الله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وحمل ذلك على عمومه وكلام رسول الله صلى الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 عليه وسلم إذ أخبر أن سالما وهو رجل ذو لحية تحرم عليه التي أرضعته لا يجوز مخالفة شيء من ذلك وبالله تعالى التوفيق هذا على أن أكثر القائلين بدليل الخطاب المذكور قد جعلوا ما زاد على الحولين بشهر وقال بعضهم بستة أشهر وقال بعضهم بسنة كاملة بمنزلة الحولين وحرموا بكل ذلك تناقضا لما أصلوه وهدما لما أسسوه وبيانا منهم أن حكمهم بذلك من عند غير الله تعالى واحتجوا فقالوا قد أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فمحال أن يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم لفظة إلا لفائدة وقد ذكر عليه السلام السائمة فلو لم يكن لها فائدة لما ذكرها قال أبو محمد وهذا سؤال أهل الإلحاد وهو مع ذلك غث وتمويه شديد ونحن مقرون أن الله تعالى لم يذكر لفظه إلا لفائدة وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ولكنا نخالفهم في ماهية تلك الفائدة فنحن نقول إن الفائدة في كل لفظة هي الانقياد لمعناها والحكم بموجبها والأجر الجزيل في الإقرار بأنها من عند الله عز وجل وألا نسأل لأي شيء قبل هذا وألا نقول لم لم يقل تعالى كذا وألا نتعدى حدود ما أمرنا الله به فنضيف إلى ما ذكر ما لم يذكره أو نحكم فيما لم يسم من أجل ما سمي بخلاف أو وفاق وألا تخرج مما أمرنا به شيئا بآرائنا بل نقول إن هذه كلها أقوال فاسدة واعتراضات كل جاهل زائغ عظيم الجرأة فلا فائدة أعظم مما أدى إلى الجنة وأنقذ من النار وأما هم فهم أعرف بالفوائد التي يبطلونها من غير ما ذكرنا وقالوا قد كان يغني ذكر الغنم جملة عن ذكر السائمة قال أبو محمد فيقال لهم هذا تعليم منكم لربكم عز وجل كيف ينزل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 وحيه ولنبيه صلى الله عليه وسلم كيف يبلغ عن ربه تعالى فمن أضل ممن ينزل نفسه في هذه المنزلة ويقال لهم ما الفرق على مذهبكم الفاسد بين ذكره تعالى في الاستغفار سبعين مرة ومراده تعالى بلا خوف منا ومنكم أن ما فوق السبعين بمنزلة السبعين بما بين في الآية الأخرى وبين ذكره صلى الله عليه وسلم السائمة ومراده أيضا مع السائمة غير السائمة بما بين في حديث آخر وهلا اكتفى بذكر النهي عن الاستغفار جملة عن السبعين مرة ويقال لهم في سؤالهم فما معنى ذكر السائمة وقد كان يغني ذكر الغنم جملة ما معنى ذكره تعالى جبريل وميكائيل بعد ذكره الملائكة في قوله تعالى {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن لله عدو للكافرين} وقد كان يغني ذكر الملائكة جملة وما معنى قوله تعالى {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} أترى إسماعيل لم يكن حليما أواها وما معنى قوله تعالى في إسماعيل {وذكر في لكتاب إسماعيل إنه كان صادق لوعد وكان رسولا نبيا} أترى إبراهيم وموسى وعيسى لم يكن وعدهم صادقا ويقال لهم قد وجدنا الله تعالى يأتي في القرآن وهو المعجز نظمه بذكر قصة من خبر أو شريعة أو موعظة فيذكر من كل ذلك بعض جملته في مكان ثم يذكر تعالى ذلك الخبر بعينه وتلك الشريعة بعينها وتلك الموعظة بعينها في مكان آخر بأتم مما ذكرها به في غير ذلك الموضع ولا يعترض في هذا إلا طاعن على خالقه عز وجل لأن الذي ذكرنا موجود في أكثر من مائة موضع في القرآن في قصة موسى ونوح وإبراهيم وآدم وصفة الجنة والنار وأمر الصلاة والحج والصدقة والجهاد وغير ذلك وقد كان صلى الله عليه وسلم يكرر الكلام إذا تكلم به ثلاثا ولا فرق بين تكرار جميعه وبين تكرار بعضه فكرر صلى الله عليه وسلم ذكر الغنم السائمة في مكان وذكر في مكان آخر الغنم جملة كما كرر قوله تعالى {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} وكما كرر تعالى ذكر موسى عليه السلام في القرآن في مائة وثلاثين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 موضعا وإبراهيم عليه السلام في أربع وستين موضعا ولم يذكر إدريس واليسع وإلياس وذا الكفل إلا في موضعين من القرآن فقط وكما كرر تعالى {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أكثر من آية في سورة واحدة إحدى وثلاثين مرة فهل لأحد أن يعترض فيقول هلا بلغها أكثر أو هلا اقتصر على عدد منها أقل أو ما كان يكفي مرة واحدة كما قال هؤلاء المخطئون هلا اكتفى بذكر الغنم عن ذكر السائمة وقد بينا أنه لا فائدة لله تعالى في شيء مما خلق ولا في تركه ما ترك وأن الفائدة لنا في ذلك الأجر العظيم في الإيمان بكل ذلك كما قاله تعالى {وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما لذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون} وأخبر تعالى أن الكفار قالوا {وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} فنحن نزداد إيمانا بما أوردنا ولا نسأل ماذا أراد الله بهذا مثلا فليختاروا لأنفسهم أي السبيلين أحبوا كما قال علي بن عباس أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى مستقيم وأعوج وقد يمكن أن تكون الفائدة في تكرار السائمة والاقتصار عليها في بعض المواضع فائدة زائدة على ما ذكرنا وهي أننا قد علمنا أن بعض الفرائض أوكد من بعض مثل الصلاة فإنها أوكد من الصيام وليس ذلك بمخرج صيام رمضان على أن يكون فرضا ومثل القتل والشرك فإنهما أوكد في التحريم من لطمة المرء المسلم ظلما وليس ذلك بمخرج للطمة ظلما من أن تكون حراما وإنما المعنى فيما ذكرنا من التأكيد أن هذا أعظم أجرا وهذا أعظم وزرا وما استواء كل ذلك في الوجوب وفي التحريم فسواء لا تفاضل في شيء من ذلك وكل ذلك سواء إن هذا حرام وهذا حرام وإن هذا واجب وهذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 واجب فيكون على هذا أجر المزكي غير للسائمة أعظم من أجر المزكي غير السائمة وكل مؤد فرضا ومأجور على ما أدى ويكون إثم مانع زكاة السائمة أعظم من إثم مانع زكاة غير السائمة وكلاهما مانع فرض ومحتقب إثم فلتخصيص السائمة بالذكر في بعض المواضع على هذا فائدة عظيمة كما أن الزاني بامرأة جاره أو امرأة المجاهد والحريمة أعظم إثما من الزاني بامرأة أجنبية أو امرأة أجنبي ذمي أو حربي وكل زان وآت كبيرة وآثم إلا أن الإثم يتفاضل ومثل هذا قوله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} وكقوله تعالى {فأما ليتيم فلا تقهر * وأما لسآئل فلا تنهر} فهل في هذا إباحة قهر غير اليتيم ونهر غير المسكين أو المنع من الإحسان إلى غير الآباء من ذوي القربى والجيران وسائر المسلمين ولكنه لما كان قهر اليتيم ونهر المسكين وترك الإحسان إلى الوالدين أعظم وزرا وأعظم أجرا خصوا بالذكر في بعض المواضع وعموا مع سائر الناس في مواضع أخر فلعل السائمة مع غير السائمة كذلك وكذلك ذكره تعالى الصلوات إذ يقول عز من قائل {حافظوا على لصلوات ولصلاة لوسطى وقوموا لله قانتين} فيسأل هؤلاء المقدمون كما سألوا فيقال لهم المعنى في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم السائمة بالذكر في بعض الأحاديث كالمعنى في تخصيصه تعالى الصلاة الوسطى بالمحافظة دون الصلوات في لفظ مفرد وقد عمهما تعالى في سائر الصلوات كما عم رسوله صلى الله عليه وسلم السائمة مع غير السائمة في حديث ابن عمر فبطل بما ذكرنا اعتراضهم بطلب الفائدة في تكرار السائمة وبأن ذكر الغنم جملة كان يكفي ولاح أن سؤالهم سؤال إلحاد وشر وبالله تعالى التوفيق وقد يكفي من هذا قوله تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون ولا تنطع أعظم من قول قائل لم قال الله تعالى أمرا كذا ولم يقل أمرا كذا وبالله تعالى نستعين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 وقالوا إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق دليل على أن ولاء لمن لم يعتق قال أبو محمد وليس كما ظنوا ولكن لما كان الأصل أن لا ولاء لأحد على أحد بقوله تعالى {يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس لتقوى ذلك خير ذلك من آيات لله لعلهم يذكرون} وبقوله تعالى {بل عجبوا أن جآءهم منذر منهم فقال لكافرون هذا شيء عجيب} وبقوله صلى الله عليه وسلم كل المسلم على المسلم حرام ثم جاء الحديث المذكور وجب به الولاء لمن أعتق وبقي من لم يعتق على ما كان عليه مذ خلق من أن لا ولاء لأحد عليه إلا من أوجب عليه الإجماع المنقول المتيقن إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم ولولا مثل من تناسل من المعتق من أصلاب أبنائه الذكور من كل من يرجع إليه نسبه ممن حمل به بعد الولاء المنعقد على الذي ينتسب إليه كأسامة بن زيد وغيره ولولا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق ما وجب المعتق ولاء على المعتق لأن ذلك إيجاب شريعة وشرط والشرائع لا تكون إلا بإذن من الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وكل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ووجدنا هذا الحديث الذي احتجوا به لم يمنع من وجوب الولاء لغير من أعتق مثل ما ذكرنا من وجوب ولاء ولد المعتق ولم يعتقه أحد ولا ولدته أمه ولا حمل به إلا وهو حر لولد معتق أبيه وهو لم يعتقه قط ولا ملكه قط ولا أعتق أباه ولا جده ولا ملكهما قط ولا أعتقه أبو هذا الذي ولاؤه الآن ولا جده ولا ملكاه قط فبطل ما ادعوه من القول بدليل الخطاب ومن أعجب الأشياء أن هؤلاء المحتجين بهذا الحديث في تصحيح الحكم بدليل الخطاب هم أشد الناس نقضا لأصولهم في ذلك وهدما لما احتجوا به لأنهم قد حكموا بالولاء لغير المعتق على من لم يعتق قط بلا دليل لا من نص ولا من إجماع لكن تحكما فاسدا فأوجبت طوائف منهم أن الولاء يجزىء العم والجد إذا أعتقا وأوجبوه ينتقل كانتقال الكرة في اللعب بها وقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 أكذبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله الولاء لحمة كلحمة النسب والنسب لا ينتقل فوجب ضرورة أن الولاء كالنسب لا ينتقل وهم يقولون في العبد ينكح معتقة فتلد له إن ولاء ولدها لسادتها قالوا أعتق أبوهم يوما ما عاد ولاء والدها إلى معتق أبيهم قال أبو محمد أفيكون أعجب من هذا بينما المرء من بني تميم لكون أمه مولاة منهم ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حملوه على غير وجهه مولى القوم منهم إذ صار بلا واسطة من الأزد بعتق رجل من الأزد لأبيه أفيكون في خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلع عن ربه تعالى أكثر من هذا أو يكون في إكذابهم أنفسهم أن قالوا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الولاء لمن أعتق دليل على أن لا ولاء لمن لم يعتق وهذا الذي حروا ولاءه مرة من اليمانية إلى المضرية ومرة من الفرس إلى قريش لم يعتقه أحد ولا ملك قط ولا حملته أمه إلا وهو حر وأوجبوا الولاء لموالي الأم على ولدها من حربي وعلى ولد الملاعنة بلا نص ولا إجماع فأين احتجاجهم بدليل الخطاب ولكن غرض القوم إقامة الشغب في المسألة التي هم فيها فقط ولا يبالون أن ينقضوا على أنفسهم ألف مسألة بما يريدون به تأييد هذه حتى إذا صاروا إلى غيرها لم يبالوا بإبطال ما صححوا به هذه التي انقضى الكلام فيها في نصرهم للتي صاروا إليها فهم دأبا ينقضون ما أبرموا ويصححون ما أبطلوا ويبطلون ما صححوا فصح أن أقوالهم من عند غير الله عز وجل لكثرة ما فيها من الاختلاف والتفاسد وإنما هم قوم توغلوا فانتسبوا في التقليد لأقوال فاسدة يهدم بعضها بعضا فألفوها ألفة كل ذي دين لدين أبيه ودين من نشأ معه فلا يبالون بما قالوا في إرادتهم نصر ما لم ينصره الله تعالى من تلك المذاهب الفاسدة وقالوا قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات دليل على أن لا عمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 إلا بنية وأن ما عمل بغير نية باطل قال أبو محمد ليس ذلك كما ظنوا ولكن لما قال الله تعالى {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وقال تعالى {ومآ أمروا إلا ليعبدوا لله مخلصين له لدين حنفآء ويقيموا لصلاة ويؤتوا لزكاة وذلك دين لقيمة} كان قد بطل كل أمر إلا تأدية ما أمرنا به من العبادة بإخلاص القصد بذلك إلى الله تعالى فبهذه الآية بطل أن يجزى عمل بغير نية إلا ما أوجبه نص أو إجماع فكان مستثنى من هذه الجملة مثل ما ثبت بالإجماع المنقول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواز لحاق دعاء الحي للميت بالميت ومثل لحاق صيام الولي عن الميت بالميت وصدقته عنه والحج عنه وتأدية الديون إلى الله تعالى وللناس عنه وإن لم يأمر هو بذلك ولا نواه ولحاق الأجر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه ولحاق الوزر من كل عامل بمن علمه ذلك العمل أو سنه وإنما وجب بالحديث الذي ذكروا أن من عمل شيئا بنية ما فله ما نوى فإن نوى به الله تعالى وتأدية ما أمر به من كيفية ذلك العمل فله ذلك وقد أدى ما لزمه وإن نوى غير ذلك فله أيضا ما نوى فإن لم ينو شيئا فلا ذكر له في هذا الحديث لكن حكمه في سائر ما ذكرنا قبل والعجب ممن احتج بهذا الحديث من أصحاب القياس وهم أترك الناس له فأما الحنفيون فينبغي لهم التقنع عند ذكر هذا الحديث والاحتجاج به فإنهم يجيزون تأدية صيام الفرض بلا نية أصلا بل بنية الفطر وتأدية فرض الوضوء بغير نية الوضوء لكن بنية التبرد وقالوا كلهم وأصحاب الشافعي وأصحاب مالك إن كثيرا من فرائض الحج التي يبطل الحج بتركها تجزي بغير نية فأما الحنفيون فقالوا من أحرم وحج ينوي التطوع أجزأه ذلك عن حج الإسلام وقال الشافعيون أعمال الحج كلها حاشا الإحرام تجزيه بلا نية أداء الفرض وقال المالكيون الوقوف بعرفة يجزي بلا نية وأن الصيام لآخر يوم من رمضان يجزي بنية كانت قبله بنحو ثلاثين يوما والصلاة تجزيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 بلا نية مقترنة بها وقال بعضهم غسل الجمعة يجزي من غسل الجنابة وقال بعضهم دخول الحمام بلا نية يجزي من غسل الجنابة فأبطلوا احتجاجهم بالحديث المذكور وأكذبوا قولهم في دليل الخطاب وأوجبوا جواز أعمال بلا نية حيث أبطلها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأبطلوا صيام الولي عن الولي والحج عن الميت وأداء ديون الله تعالى عنه وقد أوجبها الله تعالى واحتجوا أن لا عمل إلا بنية العامل ولا نية للمعمول عنه في ذلك فاستدركوا على ربهم ما لم يستدركوه على أنفسهم وهذا غاية الخذلان واحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن يعلى بن منبه رحمة الله عليه إذ سأل عن قصر الصلاة وقد ارتفع الخوف قالوا فلما جاء القصر في القرآن في حال الخوف دل ذلك على أن الأمر بخلاف الخوف قال أبو محمد وقد غلط في ذلك من أكابر أصحابنا أبو الحسن عن عبد الله بن أحمد بن المغلس فظن مثل ما ذكرنا وهذا لا حجة لهم فيه لأن الأصل في الصلوات كلها على ظاهر الأمر الإتمام وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدد ركعات كل صلاة ثم جاء النص بعد ذلك في القصر في حال السفر مع الخوف فكان ذلك مستثنى من سائر الأحوال فلما رأى عمر القصر متماديا مع ارتفاع الخوف أنكر خروج الحال التي لم تستثن في علمه عن حكم النص الوارد في إتمام الصلاة في سائر الأحوال غير الخوف فأخبر صلى الله عليه وسلم أن حال السفر فقط مستثناة أيضا من إيجاب الإتمام وإن لم يكن هنالك خوف فكان هذا نصا زائدا في استثناء حال السفر مع الأمن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 فإنما أنكر ذلك من جهل أن هذه الصدقة الواجب قبولها قد نزل بها الشرع وهو عمر رضي الله عنه ولسنا ننكر مغيب الواحد من الصحابة أو الأكثر منهم عن نزول حكم قد علمه غيره منهم وأما الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها فرضت الصلاة فلا حجة فيه علينا بل هو حجة لنا وقد يظن عمر إذا نقلت صلاة الحضر إلى أربع ركعات أن صلاة السفر أيضا منقولة والغلط غير مرفوع عن أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وتعلل بعض من غلط في هذا الباب من أصحابنا بأن قالوا قوله صلى الله عليه وسلم استنشق اثنتين بالغتين إلا أن تكون صائما في حديث لقيط بن صبرة الأيادي في ذلك مانع من مبالغة الصائم في الاستنشاق قال أبو محمد وليس ذلك كما ظنوا ولكن حديث لقيط فيه إيجاب المبالغة على غير الصائم فرضا لا بد له من ذلك وفيه استثناء الصائم من إيجاب ذلك عليه فسقط عن الصائم فرض المبالغة وليس في سقوط الفرض ما وجب المنع منها فليس في الحديث المذكور منع الصائم منها لكنه له مباحة لا واجبة ولا محظورة لأن الإباحة واسطة بين الحظر والإيجاب فإذا سقط الإيجاب لم ينتقل إلى الحظر إلا بنهي وارد لكن ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الإباحة أو الندب وإذا سقط التحريم ولم ينتقل إلى الوجوب إلا بأمر وارد لكنه ينتقل إلى أقرب المراتب إليه وهي الإباحة أو الكراهة وقد بينا هذا في باب النسخ من هذا الكتاب قال أبو محمد وقال بعض من غلط في هذا الفصل أيضا من أصحابنا إن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صفوان بن عسال المرادي ألا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 ينزع المسافرون الخفاف ثلاثا إيجاب لنزعها بعد الثلاث وإيجاب على المقيم نزعها بعد يوم وليلة فأوجبوا من ذلك أن يصلي الماسح بعد انقضاء الأمدين المذكورين حتى ينزع خفيه ولم يوجبوا عليه بعد ذلك أن يجدد غسل رجليه ولا إعادة وضوئه وأنكر ذلك أبو بكر بن داود رحمهما الله وأصاب في إنكاره قال أبو محمد وليس في الحديث المذكور إيجاب نزع الخفين ولا المنع من نزعهما وإنما فيه المنع من إحداث مسح زائد فقط وهو الخيار بعد انقضاء أحد الأمدين بين أن ينزع ويصلي دون تجديد وضوء ولا غسل رجليه وبين ألا ينزعهما ويصلي بالمسح المتقدم ما لم ينتقض وضوءه فإذا انتقض وضوءه فقد حرم عليه المسح وإذا حرم عليه المسح لزمه فرض الوضوء فلا بد حينئذ من غسل الرجلين وإذا لم يكن بد من غسل الرجلين فلا سبيل إلى ذلك إلا بإزالة الخفين فحينئذ لزم نزع الخفين لا قبل أن يحدث وبلغنا عن بعض أصحابنا أنه يقول إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لا ينجسه شيء دليل على أن ما عداه ينجس فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا ليس بشيء لوجوه أولها أنها دعوة مجردة بلا دليل ويقال ما الفرق بينك وبين من قال بل ما هو إلا دليل على أنه مثل الماء في أنه لا ينجس فإن قال هذا قياس والقياس باطل قيل له هل كان القياس باطلا إلا لأنه حكم بغير نص فلا بد له من نعم فنقول له وهكذا حكمك لما عدا الماء أنه بخلاف الماء حكم بغير نص ولا فرق ومنها أننا نقول به أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم الطعام بالطعام مثلا بمثل أفيه منع من بيع ما عدا الطعام مثل بمثل أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم نعم الإدام الخل أفيه حكم على أن ما عداه بئس الإدام أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 الخبث أو لم ينجس على أنه أصح من حديث بئر بضاعة أيصح منه أن ما دون القلتين ينجس ومثل هذا كثير لو تتبع فلو قال قد جاء فيما عدا ما ذكر في هذه الأحاديث نصوص صح بها عندنا حكمها قلنا له وقد جاء فيما عدا الماء نص على إباحته بقوله تعالى ف {يأيها لناس كلوا مما في لأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات لشيطان إنه لكم عدو مبين} فلا سبيل إلى تحريم شيء من ذلك إلا بنص وارد فيه ولا إلى تنجيس شيء منه من أجل نجاسة حلته إلا بنص وارد فيه ولا فرق وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد واحتجوا بأن الناس مجمعون على أن من قال لآخر لا تعط غلامي درهما حتى يعمل شغلا كذا قالوا فهذا يقتضي أنه إذا عمله وجب أن يعطي الدرهم قال أبو محمد وهذا خطأ وإن أعطاه المقول له هذا القول الدرهم بعد انقضاء ذلك الشغل وكان ذلك الدرهم من مال السيد فعليه ضمانه إن تلف الدرهم ولم يوجد المدفوع إليه ودليل ذلك إجماع الناس على أن المقول له ذلك يسأل الآمر فيقول له إذا عمل ذلك الشغل أعطيه الدرهم أم لا فلو اقتضى هذا الكلام إعطاءه الدرهم بعمل الشغل المذكور ما كان للاستفهام المأمور به معنى وأيضا فإن الأمة مجمعة على أن الآمر لو قال للمأمور عند استفهامه إياه لا تعطه إياه حتى أجد لك ما تعمل فيه أن ذلك حسن في الخطاب ولازم للمأمور وإنما في الكلام المذكور المنع من إعطاء الدرهم قبل عمل الشغل وليس فيه بعد عمل الشغل لا إعطاؤه ولا منعه وذلك موقوف على أمر له حادث إما بمنع وإما بإعطاء فإن قالوا فقول الله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} أليس إعطاؤهم الجزية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 مانعا من قتلهم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إنما في الآية الأمر بقتلهم إلى وقت إعطاء الجزية ثم ليس فيها إلا المنع من قلتهم بعد إعطائها ولا إيجاب قتلهم ولكن لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقتل ذا عهد في عهده وقال صلى الله عليه وسلم لمن كان يبعث من قواده فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم هذا نص كلامه صلى الله عليه وسلم لكل من يبعثه إلى كتابي حربي حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي عن مسلم قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن هاشم قال أبو بكر ثنا وكيع بن الجراح وقال إسحاق ثنا يحيى بن آدم وقال عبد الله ثنا عبد الرحمن بن مهدي كلهم قالوا ثنا سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فلما قال صلى الله عليه وسلم ذلك مبينا أن دماءهم وأموالهم وأذاهم بالظلم وسبي عيالهم وأطفالهم حرام بإعطائهم الجزية بنص قوله صلى الله عليه وسلم كف عنهم فالكف يقتضي كل هذا وكثير ممن يحتج علينا بما ذكرنا قد نسوا أنفسهم فقالوا في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الزرع حتى يشتد إن ذلك غير مبيح لبيعه بعد اشتداده ولكن حتى يضفى من تبنه ويداس قال أبو محمد وبيع الزرع عندنا بعد اشتداده مباح وإن لم يصف ولا ديس لقوله تعالى {لذين يأكلون لربا لا يقومون إلا كما يقوم لذي يتخبطه لشيطان من لمس ذلك بأنهم قالوا إنما لبيع مثل لربا وأحل لله لبيع وحرم لربا فمن جآءه موعظة من ربه فنتهى فله ما سلف وأمره إلى لله ومن عاد فأولئك أصحاب لنار هم فيها خالدون} فلا يخرج من هذه الجملة إلا ما جاء نص أو إجماع بتحريمه ولهذه الجملة أجزنا بيع منخل بعد أن تزهى والعنب بعد أن يسود والثمر بعد أن يبدو فيه الطيب وليس لأن هذه النواهي توجب إباحة البيع بعد حلول الصفات المذكورة فيها وكذلك قلنا في قوله تعالى {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب لله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} وإنما حرم الأكل من حين يتبين طلوع الفجر بالأمر المتقدم لهذا النسخ فإن الأمر قد كان ورد بتحريم الأكل والشرب والوطء مذ ينام المرء إلى غروب الشمس من غد ثم نسخ ذلك وأبيح لنا الوطء والأكل والشرب إلى حين يتبين طلوع الفجر الثاني فبقي ما بعده على الأصل المتقدم في التحريم وبنصوص وردت في ذكر تحريم كل ذلك بطلوع الفجر الثاني وبقوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} ولو لم يكن ههنا إلا قوله تعالى {أحل لكم ليلة لصيام لرفث إلى نسآئكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم لله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فلآن باشروهن وبتغوا ما كتب لله لكم وكلوا وشربوا حتى يتبين لكم لخيط لأبيض من لخيط لأسود من لفجر ثم أتموا لصيام إلى لليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في لمساجد تلك حدود لله فلا تقربوها كذلك يبين لله آياته للناس لعلهم يتقون} ما كان فيه إيجاب الصيام ولا المنع منه وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله إنما حرم القتال بقوله صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وهكذا سائر النصوص التي وردت على هذا الحسب وبالله تعالى التوفيق وذكروا في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع أو كما قال صلى الله عليه وسلم قالوا فدل ذلك على أن التي لم تؤبر بخلاف التي أبرت وأنها للمبتاع قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأننا لم نقض من هذا الحديث أن الثمرة التي تؤبر للمبتاع لكن لما كانت التي تؤبر غائبة لم تظهر بعد كانت معدومة وكانت بعض ما في عمق النخلة المبيعة كانت داخلة في المبيع لأنها بعضه ثم نقول لهم وبعد أن بينا بطلان ظنكم فنحن نريكم إن شاء الله تعالى تناقضكم في هذا المكان فنقول إن كنتم إذا قضيتم بأن المسكوت عنه بخلاف المذكور فما قولكم لمن قال لكم بل ما المسكوت عنه ههنا إلا في حكم المذكور قياسا عليه فتكون الثمرة التي لم تؤبر للبائع أيضا قياسا على التي أبرت وقد قال أبو حنيفة لا فرق بين الإبار وعدمه فنسي قوله لم يذكر صلى الله عليه وسلم السائمة إلا لأنها بخلاف غير السائمة ولولا ذلك لما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 كان في زكاة السائمة فائدة وجعل ههنا ذكره صلى الله عليه وسلم الإبار لا لفائدة وجعله كترك الإبار فبان اضطراب هؤلاء القوم جملة وبالله تعالى التوفيق واحتج الطحاوي في إسقاط الزكاة عما أصيب في أرض الخراج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت العراق قفيزها ودرهمها الحديث قال فلو كان في أرض الخراج شيء غير الخراج لذكره صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فيقال للطحاوي أرأيت إن قال لك قائل إن قوله صلى الله عليه وسلم فيما سقت السماء العشر دليل على أن لا خراج على شيء من الأرض لأنه لو كان فيها خراج لذكره في هذا الحديث فإن قال قد ذكر الخراج في الحديث الذي قدمنا آنفا قيل له وقد ذكر العشر ونصف العشر في الحديث الذي ذكر آنفا فإن قال قائل ما تقولون في خطاب ورد من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم معلقا بشرط قيل له ينظر أتقدمت ذلك الخطاب جملة حاظرة لما أباح ذلك الخطاب أو مبيحة لما حظر أم لم يتقدمه جملة بشيء من ذلك لكن تقدمت جملة تعمه وتعم معه غيره موافقة لما في ذلك النص ولا بد من أحد هذه الوجوه لأن الجملة التي نص عليها بقوله تعالى {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} مبيحة عامة لا يشذ عنها إلا ما نص عليه وفصل بالتحريم فلا سبيل إلى خروج شيء من النصوص عن هذه الجملة ولا بد لكل نص ورد من أن يكون مذكورا فيه بعض ما فيها بموافقة أو يكون مستثنى منها بتحريم فإن وجدنا النص الوارد وقد تقدمته جملة مخالفة له استثنيناه منها وتركنا سائر تلك الجملة على حالها ولم نحظر إلا ما حظر ذلك النص فقط ولم نبح إلا ما أباح فقط ولم نتعده وإن وجدناه موافقا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 لجملة تقدمته أبحنا ما أباح ذلك الخطاب وأبحنا أيضا ما أباحته الجملة الشاملة له ولغيره معه أو حظرنا ما حظره لك الخطاب وحظرنا أيضا ما حظرته الجملة الشاملة له ولغيره معه ولم نسقط من أجل ذلك الشرط شيئا مما هو مذكور في الجملة الشاملة له ولغيره وهذا هو مفهوم الكلام في الطبائع في كل لغة من لغات بني آدم عربهم وعجمهم ولا يجوز غير ذلك وقد ذكرنا في باب الأخبار من كتابنا هذا بيان هذا العمل ونظرناه بمسائل جمة ولكن لا بد لنا أيضا ههنا من تشخيص شيء من ذلك ليتم البيان بحول الله وقوته فليس كل أحد يسهل عليه تمثيل مسائل تقضيها الجملة التي ذكرنا وبالله تعالى التوفيق وليس قولنا آنفا تقدمته جملة بمعنى تقدم وقت النزول فليس لذلك عندنا معنى إلا في النسخ وحده وإلا فالقرآن والحديث كله عندنا ككلمة واحدة وكأنه نزل معا لوجوب طاعة جميع ذلك علينا وإنما نعني بقولنا تقدمته أي عمت ذلك الخطاب وغيره معه ولكن لما كنا نجعل تلك الجملة مقدمة يستثنى منها ذلك النص أو نضيفه إليها على معنى البيان لها سمينا ورودها من أجل ما ذكرنا تقدما قال أبو محمد فمما ذكرنا قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} فالجملة المتقدمة لهذا الشرط هي أمره تعالى باستعمال الماء فرضا على كل حال لمن أراد الصلاة الواجبة أو التطوع فإن تيمم مع وجود الماء والصحة ولم يستعمل الماء كان عاصيا لأنه لم يأت بما أمر به ولأنه لم يستعمل ما أمر باستعماله في غسل أعضائه المذكورة في آية الوضوء والغسل فإن تيمم مع وجود الماء والصحة واستعمل الماء أيضا كان متكلفا لم يؤمر به والمتكلف لذلك إن سلم من سلم من الإسم لم يسلم من الفضول وسوء الاختيار وقد أمر الله تعالى فيه صلى الله عليه وسلم أن يقول {قل مآ أسألكم عليه من أجر ومآ أنآ من لمتكلفين} فإن اعتقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 وجوب التيمم مع استعمال الماء في حال الصحة ووجود الماء كان عاصيا كافرا لاعتقاده ما لا خلاف أنه لم يؤمر به وزيادة في الدين وتعديه حدود الله تعالى فلما بطلت هذه الوجوه كلها لم يبق إلا استعمال التيمم عند عدم الماء المقدور عليه في السفر وعند المرض وهكذا القول في قوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} إلى منتهى قوله {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} قال أبو محمد فنظرنا هل نجد جملة متقدمة لإباحة نكاح الفتيات المؤمنات بالزواج فوجدنا قبلها متصلا بها ذكر ما حرم الله تعالى من النساء من قوله تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} إلى منتهى قوله فحرم الله تعالى بهذا النص كل محصنة والإحصان يقع على معان منها العفة ومنها الزوجية ومنها الحرية فلم يجز لنا إيقاع لفظة {ة على بعض ما يقع تحتها دون بعض بالبراهين التي ذكرنا في باب العموم فحرم بقوله تعالى كل عفيفة من أمة أو حرة وكل حرة وكل ذات زوج وقد حرم الزواني من الإماء والحرائر بقوله تعالى { لزانية ولزاني فجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين لله إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر وليشهد عذابهما طآئفة من لمؤمنين} فحرمت كل امرأة في الأرض بهذين النصين إلا ما استثنى من ذلك بنص أو إجماع ثم قال تعالى متصلا بالتحريم المذكور غير مؤخر لبيان مراده تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فأباح تعالى ما شاء مما ملكت أيماننا وليس في هذا إباحة الزواج ثم زادنا تعالى بيانا متصلا فقال {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} فاستثنى تعالى الزواج أيضا بالإباحة المذكورة والعمل في هذا يكثر إلا أن اختصار القول والغاية في ذلك قول الله تعالى {خلق لكم ما في الأرض جميعا} فهذه آية لو تركنا وظاهرها لكان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 كل ما خلق الله تعالى في الأرض حلالا لنا لكن حرم الله تعالى أشياء مما في الأرض فكانت مستثناة من جملة التحليل فمن ذلك قوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} مع الآية التي تلونا آنفا من قوله تعالى في آية التحريم {والمحصنات من النساء} فلو تركنا وهذين النصين لحرم النساء كلهن وكن مستثنيات من جملة التحليل ثم قال تعالى {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} فاستثنى الله عز وجل من جملة النساء المحرمات الأزواج وملك اليمين فلو تركنا وهذه الآية لحلت كل امرأة بالزواج خاصة وبملك اليمين فقط لا بالزنى من أم أو إبنة أو حريمة لأن المتزوجات والمملوكات بعض النساء وكانت هذه الآية موافقة لقوله تعالى {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ولقوله تعالى {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم} ولا فرق بين شيء من هذه الآيات ثم قال تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم} الآية إلى منتهى قوله {وأن تجمعوا بين الاختين} وقال تعالى {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} وقال تعالى {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} وقال تعالى {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} وحرم النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وحرم بالرضاعة ما يحرم من النسب وحرم النص فعل قوم لوط ونكاح الزواني ونكاح الزناة للمسلمات وحرم بالإجماع والنص بقوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} إلى قوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} ووطء البهائم والمشركة وبدليل النص أيضا فكان كل ما ذكرنا مستثنى مما أبيح من النساء بالزواج وملك اليمين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 لأن ما في هذه النصوص أقل مما ذكر في آية إباحة الأزواج وملك اليمين وقال تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} إلى قوله عز وجل {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} فاستثنى تعالى الكتابيات بالنكاح خاصة وهذا يقع على الإماء منهن والحرائر وبقيت الأمة الكتابية حراما وطؤها بملك اليمين خاصة وبقوله تعالى {ولا تنكحوا لمشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا لمشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى لنار ولله يدعو إلى لجنة ولمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون} ولما يأت في شيء من النصوص ما يبيحها ثم نظرنا في قوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} فوجدناه تعالى إنما ذكر في هذه الآية إباحة نكاح الأمة لمن لم يجد طولا وخشي العنت وبقي حكم واحد الطول الذي لا يخاف العنت فلم نجده تعالى ذكر في هذه الآية إباحة ولا تحريما عليه فرجعنا إلى سائر الآي فوجدناه تعالى قد أباح نكاح الإماء المؤمنات لكل مسلم ولم يخص فقيرا من غني ولا من عنده حرة ممن ليست عنده حرة بقوله تعالى {وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم} فكان للعبد مباحا أن ينكح حرة وأمة وللحر أيضا كذلك ولا فرق وكذلك الأمة الكتابية نكاحها للمسلم حلال بقوله تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} وهذا قول عثمان البتي وغيره والعجب من الحنفيين في منعهم الزكاة عن غير السائمة بذكره صلى الله عليه وسلم السائمة في حديث أنس وإباحتهم ههنا نكاح الأمة المسلمة لمن وجد طولا لحرة مسلمة فهلا سألوا أنفسهم عن الفائدة في ذكره تعالى {ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح لمحصنات لمؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم لمؤمنات ولله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بلمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذآ أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على لمحصنات من لعذاب ذلك لمن خشي لعنت منكم وأن تصبروا خير لكم ولله غفور رحيم} كما سألوا هناك عن الفائدة في ذكر السائمة ولكن هكذا يكون من اتبع رأيه وقياسه وهواه المضل والعجب من المالكيين في عكسهم ذلك فقالوا ليس في قوله صلى الله عليه وسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 في السائمة ما يوجب أن يسقط الزكاة من غير السائمة وقالوا ههنا ذكره تعالى عادل الطول والأمة المؤمنة موجب التحريم الأمة الكتابية ثم في الوقت أباحوا الأمة المؤمنة لواجد الطول قال أبو محمد فكلا الفريقين تناقض كما ترى وحرم بعضهم نكاح الأمة المؤمنة على واجد الطول بحرة كتابية وليس هذا في نص الآية أصلا وإنما منع من منع من ذلك قياسا للكتابية على المسلمة وقد أكذب الله تعالى هذا القياس الفاسد بقوله {أفنجعل لمسلمين كلمجرمين * ما لكم كيف تحكمون} فلو كان القياس حقا لكان هنا باطلا وإذا قاسوا واجد الطول للحرة الكتابية على واجد الطول للحرة المسلمة ولم ينص تعالى إلا على واجد الطول للحرة المسلمة فقط فهلا فعلوا مثل ذلك فقاسوا إباحة الأمة الكتابية بالنكاح لعادم الطول لحرة وخائف العنت على إباحة الأمة المؤمنة لخائف العنت وعادم الطول كما فعلوا في التي ذكرنا قبل قال أبو محمد وهذا مما تركوا فيه القول بدليل الخطاب لأنه كان يلزمهم على أصلهم أن يقولوا إن ذكره تعالى المحصنات المؤمنات دليل على أن الكافرات بخلافهم ولكن أكثرهم لم يفعلوا ذلك فنقضوا أصلهم في دليل الخطاب ونحن وإن وافقنا أبا حنيفة في بعض قوله ههنا فلسنا ننكر اتفاقنا مع خصومنا في هذه المسائل وقد يجتمع المصيب والمخطىء في طريقهما الذي يطلبانه أحدهما بالجد والبحث والعلم بيقين ما يطلب والثاني بالجد والبحث والاتفاق وغير منكر أن يخرجهم الرؤوف الرحيم تعالى إلى الغرض المطلوب وإن تعسفوا الطريق نحوه ولكنهم مع ذلك تحكموا بلا دليل أصلا فقالوا من كانت عنده حرة فحرام عليه نكاح الأمة وهذا قول ليس في النص ما يوجبه أصلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 وقولنا في هذا هو قول عثمان البتي وغيره وقد روي عن مالك إجازة نكاح الأمة على الحرة إذا رضيت بذلك الحرة وأجاز أبو حنيفة وأصحابه نكاح المسلمة والكتابية لواجد طول لحرة مسلمة وإن لم يخش العنت إذا لم تكن عنده حرة فيؤخذ من قول كل واجد ما أصاب فيه فبان بما ذكرنا تحليل الله تعالى حرائر أهل الكتاب وإماءهم في الزواج وبقي ما ملكت منهن على التحريم لبراهين ذكرناها في باب الإخبار من كتابنا هذا ويقال لهم إنكم منعتم من نكاح الأمة الكتابية وقلتم ليست كالأمة المسلمة فنقيسها عليها وقد تناقضتم فأبحتم نكاح الحرة الكتابية لواجد طول لحرة مسلمة وإن لم يخف عنتا وحرمتم عليه نكاح الأمة المسلمة حتى أن بعضهم قال إن من وجد طولا لحرة كتابية لم يحل له نكاح الأمة المسلمة وحتم أن بعضهم لم يقتل الحر الكتابي المسلم ولا خلاف بين مسلمين أن الأمة المسلمة خير عند الله عز وجل وعند كل مسلم من كل حرة كتابية كانت في الدنيا أو تكون إلى يوم البعث فإن قالوا فأي معنى أو أي فائدة في قصد الله تعالى بالذكر في الآية المذكورة آنفا عادم الطول وخائف العنت والمحصنة المؤمنة والأمة المؤمنة إذا كان واجد الطول وآمن العنت والأمة الذمية والمحصنة والكافرة سواء في كل ذلك قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق هذا سؤال إلحاد وقد ذكر الله تعالى في بعض الآيات التي تلونا بعض ما ذكره في غيرهن فلم يكن ذلك متعارضا وقد قال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وليس تخصيصه الذين آمنوا بالذكر ههنا موجبا أن طاعة الله عز وجل لا تلزم الذين كفروا بل هي لازمة للكفار كلزومها للمؤمنين ولا فرق وقد ذكرنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 طرقا من هذا في باب الأخبار وفي باب العموم من كتابنا هذا قال أبو محمد وكذلك قوله تعالى {وإن خفتم ألا تقسطوا في ليتامى فنكحوا ما طاب لكم من لنسآء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} وهم كلهم قد وافقونا على أن كل من لم يخف أيضا ألا يعدل فمباح له الاقتصار على واحدة وعلى ما ملكت يمينه فتركوا ههنا مذهبهم في دليل الخطاب وكان يلزمهم ألا يبيحوا الواحدة فقط إلا لمن خاف ألا يعدل فإن قالوا إن ذلك إجماع قيل لهم قد أقررتم أن الإجماع قد صح بإسقاط قولكم في دليل الخطاب ويقال لهم سلوا أنفسكم ههنا فقولوا أي فائدة وأي معنى لقصد الله تعالى بالذكر من خاف أن يعدل كما قلتم لنا أي فائدة وأي معنى لقصد الله تعالى بالذكر لمن خاف العنت وعدم الطول وهذا ما لا انفكاك منه والحمد لله فإن قالوا فهلا قلتم مثل هذا في قوله تعالى {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} وقوله تعالى أيضا {وأتموا لحج ولعمرة لله فإن أحصرتم فما ستيسر من لهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ لهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بلعمرة إلى لحج فما ستيسر من لهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في لحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري لمسجد لحرام وتقوا لله وعلموا أن لله شديد لعقاب} وقوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} فتوجبوا إباحة الصيام لمن وجد الرقبة والهدي قلنا لا سواء والأصل أنه لا يلزمنا صيام فرض أصلا إلا ما أوجبه نص كما أن الأصل إباحة نكاحة الإماء بقوله تعالى {ليوم أحل لكم لطيبات وطعام لذين أوتوا لكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم ولمحصنات من لمؤمنات ولمحصنات من لذين أوتوا لكتاب من قبلكم إذآ آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ومن يكفر بلإيمان فقد حبط عمله وهو في لآخرة من لخاسرين} وقوله تعالى {وأنكحوا لأيامى منكم ولصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم لله من فضله ولله واسع عليم} فلم نوجب الصوم فرضا إلا حيث أوجبه النص وأحللنا النكاح في كلتا الآيتين لأنهما معا نص واجب وطاعته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 وأيضا فإن حكم واجد الرقبة في كفارة الوطء وواجد النسك من الهدي في التمتع وواجد الغنى في الإطعام والكسوة والرقبة في كفارة اليمين منصوص على لزوم كل ذلك لهم فلو صام كان عاصيا لله عز وجل تاركا لما نص على وجوبه عليه وليس كذلك واجد الطول وآمن العنت لأنه لا نص على منعه من نكاح الإماء أصلا لا في نص ولا في إجماع فبين الأمرين أعظم الفرق وقد ذهب بعضهم وهو أبو يوسف إلى المنع من صلاة الخوف على ما جاءت به الروايات ولقوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم لصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا} قال فدل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن فينا لم نصل كذلك قال أبو محمد فأول ما يدخل عليه أنه لا يلزمه ألا يأخذ الأئمة زكاة من أحد لأن الله تعالى قال {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} فإنما خوطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما خوطب بتعليمه كيفية صلاة الخوف ولا فرق فقد ظهر تناقضه وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم صلوا كما رأيتموني أصلي ملزم لنا أن نصلي صلاة الخوف وغير صلاة الخوف كما رئي صلى الله عليه وسلم يصليهما وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم أرضوا مصدقيكم وقوله صلى الله عليه وسلم في كتاب الزكاة فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ومن سئل فرقها فلا يعط موجب لأخذ الأئمة الزكاة بإرسال المصدقين وبالله تعالى التوفيق فصل من هذا الباب قال أبو محمد كل لفظ ورد بنفي ثم استثني منه بلفظة إلا أو لفظة حتى فهو غير جار إلا بما علق به مثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ ومثل لا صلاة إلا بأم القرآن ولا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وهذا هو المفهوم من الخطاب بالضرورة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 لأنه نفى قبول الصلاة إلى أن يتوضأ ووجب قبولها بعد الوضوء بالآية التي فيها {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} وبالحديث من توضأ كما أمر ونفى الصلاة إلا بأم القرآن وأثبتها بأم القرآن لأنه لا بد لكل مصل من أن يقرأ أم القرآن أو لا يقرؤها ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلا بوجه من الوجوه والصلاة فرض فلما لم يكن بد من الصلاة ولم يكن فيها بد من قراءة أم القرآن أو ترك قراءتها وكان من لم يقرأها ليس مصليا فمن قرأها فيها فهو مصل بلا شك وفرض على كل مسلم بالغ أن يصلي كما أمر ففرض عليه أن يقرأ أم القرآن وهذا برهان ضروري قاطع وكذلك نفيه صلى الله عليه وسلم القطع جملة ثم أوجبه مستثنى في ربع دينار فصاعدا إلا أن هذا لو لم يتقدم فيه نص أو إجماع لم قطعنا إلا في الذهب فقط ولكن لما قال تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده وأجمعت الأمة على أن حديث ربع دينار لم يقصد به صلى الله عليه وسلم إبطال القطع في غير الذهب وجب علينا أن نستعمل الآية على عمومها فلا يخرج منها إلا سارق أقل من ربع دينار ذهب فقط فمن سرق أقل من ربع دينار ذهب فلا قطع عليه ومن سرق من غير الذهب شيئا قل أو كثر أي شيء كان له قيمة وإن قلت فعليه القطع بالآية والحديث الذي فيه لعن الله السارق قال أبو محمد ومن أبى هذا فإنما يلجأ أن يقول المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في ذكره ربع الدينار إنما عنى القيمة قال أبو محمد وهذه دعوى لا دليل عليها وأن من ظن النبي صلى الله عليه وسلم سها عما تنبه له هذا المتعقب فقد عظم غلطه {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} وليت شعري أي شيء كان المانع لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لا قطع إلا في قيمة ربع الدينار فصاعدا فيكشف عنا الإشكال وقد أمره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 ربه تعالى بالبيان والذي نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه أراد القيمة ولم يبينها فإنما هو تلبيس لا بيان وقد أعاذ الله تعالى من ذلك والحديث الذي فيه ذكر القيمة ليس فيه بيان بأن القطع من أجل القيمة فليس لأحد أن يقول إن التقويم كان من أجل القطع إلا كان لآخر أن يقول بل لتضمين السارق ما جنى في ذلك قال أبو محمد ثم يقنعوا إلا بأن نسبوا إلى الذي وصفه ربه تعالى بأنه رؤوف بنا رحيم وأنه عزيز عليه ما عنتنا إنه زادنا تلبيسا بقوله صلى الله عليه وسلم لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده إنه إنما في بيضة الحديد التي يقاتل بها وأنه صلى الله عليه وسلم عنى حبلا مزينا يساوي ربع دينار هذا مع أنها دعاوى بارية عارية من الأدلة فهي أيضا فاسدة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد بهذا عذر السارق وكيف يريد عذره وهو يلعنه وإنما أراد صلى الله عليه وسلم شدة مهانة السارق ورذالته وأنه يبيح يده فيما لا خطب له من بيضة أو حبل وهذا الذي لا يعقل سواه ولهم من مثل هذا ما ينسبونه إلى مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم غثائث جمة يوقرون أنفسهم عن مثلها فمن ذلك ما ينسبون إلى الآية التي في الوصية في السفر أن قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم لموت حين لوصية ثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في لأرض فأصابتكم مصيبة لموت تحبسونهما من بعد لصلاة فيقسمان بلله إن رتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة لله إنآ إذا لمن لآثمين} أي من غير قبيلتكم وهذا من الهجنة بحيث لا يجوز أن ينسب إلى من له أدنى معرفة باللغة ومجاري الكلام فكيف بخالق الكلام والبيان لا إله إلا هو ومن ذلك قول بعض المالكيين في قوله صلى الله عليه وسلم للذي خطب المرأة ولا شيء معه التمس ولو خاتما من حديد قال هذا القائل إنما كلفه صلى الله عليه وسلم خاتما مزينا مليحا يساوي ربع دينار وهذا وهم يسمعون كلام الرجل أنه لا يملك إلا إزاره فقط وأنه لا يقدر على حيلة فيقول له صلى الله عليه وسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 ولو خاتما من حديد أفيسوغ عن عقل من له مسكة أن يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلف من هذه صفته خاتما بديعا يساوي ربع مثقال وهذا مع ما فيه من الافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم والكذب عليه فقول مفضوح ظاهر العوار لأنه لم يكن بلغ عن غلاء الحديد بالمدينة ومنه مساحيهم ومناحلهم لعمل النخل ودروعهم للقتال أن يساوي خاتم منه قريبا من وزنه من الذهب ولو نطقت بهذا مخدرة غريرة لأضحكت بقولها وبالله عز وجل نستعين قال أبو محمد وقد اعترض بعض الحنفيين على قوله صلى الله عليه وسلم لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا فقال هذا اللفظ لا يوجب قطعا في الربع دينار قال أبو محمد وهذه قحة ظاهرة ومجاهرة لا يرضاها لنفسه من في وجهه حياء وهو بمنزلة من قال {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} أن هذا اللفظ لا يوجب نهيا ولا منعا ومن قال في مثل هذا إن هذا الخطاب لا يوجب القطع في ربع دينار وأن لا صلاة إلا بقراءة القرآن ألا يوجب القراءة ثم قال في الأوامر أنها غير لازمة وأنها على الندب ثم قال في الألفاظ إنها على الخصوص ثم قال في الكلام إنه ليس على ظاهره ثم ترك النص فلم يحكم به ثم أتى إلى أشياء لم تنص فحرمهاوأحلها برأيه فما نعلم أحدا ولا الحلاج ولا الغالية من الروافض أشد كيدا للإسلام منه وأما الجاهل فهو معذور وأما من قامت عليه الحجة فتمادى فهو فاسق بلا شك وسيرد فيعلم وما توفيقنا إلا بالله فإن قال قائل إن مثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم لا إيمان لمن لا أمانة له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 قيل له وبالله تعالى التوفيق هذا على ظاهره ونعم لا إيمان أصلا لمن لا أمانة له ولا يجوز أن نخص بذلك أمانة دون أمانة والإسلام هو الأمانة التي عرضها الله تعالى على السماوات والأرض وقبول الشرائع فمن عدم هذه الأمانة التي هي بعض الأمانات فلا إيمان له ومن قيل فيه لا أمانة له فهو محمول على كل أمانة لا على بعضها دون بعض وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه فكذلك نقول إن الفعل المذموم منه ليس إيمانا لأن الإيمان هو جميع الطاعات والمعصية إذا فعلها فليس فعله إياها إيمانا فإذا لم يفعل الإيمان فلم يؤمن يعني في تركه ذلك الفعل خاصة وإن كان مؤمنا بفعله للطاعات في سائر أفعاله وقد بينا هذا في كتاب الفصل والإيمان هو الطاعات كلها وليس التوحيد وحده إيمانا فقط فمعنى لا إيمان له أي لا طاعة وكذلك إذا عصى فلم يطع وإذا لم يطع فلم يؤمن وليس يلزمنا أنه إذا لم يؤمن في بعض أحواله أنه كفر ولا أنه لا يؤمن في سائرها لكن إذا لم يطع فلم يؤمن في الشيء الذي عصى به وآمن فيما أطاع فيه فإن قال أنه يلزمكم بهذا أن تقولوا إنه مؤمن لا مؤمن قلنا نعم هو مؤمن بما آمن به غير مؤمن فيما لم يؤمن به وهذا شيء يعلم ضرورة ولم نقل إنه مؤمن لا مؤمن على الإطلاق وهكذا يلزم خصومنا في مسيء ومحسن ولا فرق فإن قلتم من أحسن في جهة وأساء في أخرى فهو مسيء عاص فيما أساء فيه ومحسن طائع فيما أحسن فيه أفترى يلزمكم من هذا أن تقولوا هو عاص طائع ومحسن مسيء على الإطلاق ونحن لا نأبى هذا إذا كان من وجهين مختلفين ولا نعيب به أحدا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 وأما من قال لا صلاة لمن لم يقرأ ولا صيام لمن لن يبيته من الليل إنما معناه لا صلاة كاملة فهذه دعوى لا دليل عليها وأيضا فلو صح قولهم لكان عليهم لا لهم لأن الصلاة إذا لم تكن كاملة فهي بعض صلاة وبعض الصلاة لا تقبل إذا لم تتم كما أن صيام بعض يوم لا يقبل حتى يتم اليوم فإن قال إنما معناه أنها صلاة كاملة إلا أن غيرها أكمل منها فهذا تمويه لأن الصلاة إذا تمت بجميع فرائضها فليس غيرها أكمل منها في أنها صلاة ولكن زادت قراءته وتطويله الذي لو تركه لم يضر ولا سميت صلاته دون ذلك ناقصة وقد أمر تعالى بإتمام الصيام وإقامة الصلاة فمن لم يقمها ولا أتم صيامه فلم يصل ولا صام لأنه لم يأت بما أمر به وإنما فعل غير ما أمر به والناقص غير التام وقد قال صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وليس هذا مما يكتفى به في إقامة الصلاة وإتمام الصيام فقط لكن كل ما جاءت به الشريعة زائدا أبدا ضم إلى هذا ومن العجب العجيب أن قوما لم يبطلوا الصلاة بما أبطلها به صلى الله عليه وسلم من عدم القراءة لأم القرآن ومن ترك إقامة الأعضاء في الركوع والسجود ومن فساد الصفوف وأبطلوها بما لم يبطلها به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم من وقوف الإمام في موضع أرفع من المأمومين ومن اختلاف نية الإمام والمأموم ثم فعلوا مثل ذلك في الصيام فلم يبطلوه بما أبطله به الله تعالى من عدم النية في كل ليلة ومن الغيبة والكذب ثم أبطلوه بما لم يبطله به الله تعالى من الأكل ناسيا ومن الحقنة ومن الكحل بالعقاقير فقلبوا الديانة كما ترى وحرموا الحلال وأحلوا الحرام وبالله تعالى نعوذ من الخذلان وإياه نسأل التوفيق لا إله إلا هو قال أبو محمد وكذلك نقول في حديث أبي ذر رضي الله عنه فيما يقطع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 الصلاة فذكر الكلب الأسود وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بال الأسود من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 الأحمر من الأصفر من الأبيض فقال صلى الله عليه وسلم الكلب الأسود شيطان فليس في هذا الحديث أن سائر الكلاب لا تقطع الصلاة ولا أنها تقطع فلما ورد حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب كان هذا عموما لكل كلب وهو قول أنس وابن عباس وغيرهما ومن أنكر هذا علينا من الشافعيين والمالكيين فليتفكروا في قولهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن تولى رجلا بغير إذن مواليه فيلزمهم أن يبيحوا له تولي غير مواليه بإذنهم وهذا قول عطاء وغيره وهم يأبون ذلك ومثل هذا من تناقضهم كثير فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد والمفهوم من الخطاب هو أن التأكيد إذا ورد فإنه رفع للشغب وحسم لظن من ظن أن الكلام ليس على عمومه وقد ضل قوم في قوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون} فقالوا إن حملة العرش ومن غاب عن ذلك المشهد لم يسجد قال أبو محمد ويكفي من إبطال هذا الجنون قوله تعالى {مآ أشهدتهم خلق لسماوات ولأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ لمضلين عضدا} فليت شعري من أين استحلوا أن يقولوا إن أحدا من الملائكة لم يسجد مع قوله تعالى {فسجد لملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع لساجدين} ومثل هذا من الإقدام يسيء الظن بمعتقد قائله إذ ليس فيه إلا رد قول الله تعالى بالميت وقد رام بعض الشافعيين أن يجعل قول الله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} بعد قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} من استطاع إليه على معنى أن ذلك ليس بيانا للذين ألزموا الحج ولا على أنه موافق لقوله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وقال إن هذا خطاب فائدة أخرى موجب أن الاستطاعة من غير قوة قال أبو محمد ولسنا نأبى أن تكون الاستطاعة أيضا شيئا غير القوة للجسم لكننا نقول إن الاستطاعة كل ما كان سببا إلى تأدية الحج من زاد وراحلة وقوة جسم ولا نقول كما قال المالكيون إن الاستطاعة هي قوة الجسم فقط وإن من عدمها وقدر على زاد وراحلة فهو غير مستطيع ولا كما قال الشافعيون إنما الاستطاعة إنما هي الزاد والراحلة فقط وأن قوة الجسم ليست استطاعة بل نقول إن قوة الجسم دون الراحلة استطاعة وإن الزاد والراحلة وإن كان واجدهما مقعد الرجلين مبطل اليدين أعمى أنه مستطيع بماله حملا للآية على عمومها مع شهادة قول الله تعالى وحديث النبي صلى الله عليه وسلم لصحة قولنا يعني حديث الخثعمية وقوله تعالى {وأذن في لناس بلحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} قال أبو محمد وقد ذكرنا فيما خلا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء فأجاب أن ذلك الجواب محمول على عموم لفظه لا على ما سئل عنه صلى الله عليه وسلم فقط لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث معلما فلا فرق بين ابتدائه بأمر وتعليم وبين جوابه عما سئل ومخبرا أيضا عما لم يسأل عنه فإن قال قائل فاحملوا قوله صلى الله عليه وسلم الخراج بالضمان على عمومه فاجعلوا الخراج للغاصب بضمانه قيل له وبالله تعالى التوفيق الحديث في ذلك لا يقوم بمثله حجة لأنه عن مخلد بن خفاف وعن مسلم بن خالد الزنجي وكلاهما ليس قويا في الحديث وأيضا فلو صح لمنع من حمله على الغاصب قوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 صلى الله عليه وسلم من الطريق المرضية ليس لعرق ظالم حق حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي عن محمد بن إسحاق عن ابن الأعرابي عن سليمان بن الأشعث حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب هو الثقفي حدثنا أيوب هو السختياني عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد فخص هذا الحديث الظالمين من جملة الضامنين فنفى الخراج للمشتري بحق وأيضا فقوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون} مانع من أكل مال بغير حق جملة وبالله تعالى التوفيق وقد أمر صلى الله عليه وسلم بالبيان فلفظه كله جوابا كان أو غير جواب محمول على عمومه فإن لم يعط الجواب عموما غير ما سئل عنه لم يحمل على ما سواه حينئذ كما أفتى صلى الله عليه وسلم الواطىء في رمضان بالكفارة فوجب ألا يجعل على غير الواطىء لأنه ليس في لفظه صلى الله عليه وسلم ما يوجب مشاركة غير الواطىء للواطىء في ذلك وكذلك أمره صلى الله عليه وسلم لمن أساء الصلاة أو صلى خلف الصفوف منفردا بالإعادة أمر لمن فعل مثل ذلك الفعل وحكم في ذلك الفعل متى وجد وأمره صلى الله عليه وسلم بغسل المحرم أمر في كل ميت في حال إحرام وذكر صلى الله عليه وسلم أو ذكر ربه تعالى المسجد الحرام حكما في المسجد الحرام أنه لا يشركه فيه غيره لأنه ليس ههنا مسجد حرام غيره وليس لكل لفظ إلا مقتضاه ومفهومه فقط وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش حكم في قريش لا يشاركهم فيه غيرهم ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض إلا من منع منه إجماع من امرأة أو مجنون أو من لم يبلغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 وكذلك حب الأنصار فضل في جميع الأنصار لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يقتصر به على بعضهم دون بعض وكذلك ذو القربى وكذلك فضل أبي بكر لا يشركه فيه غيره وكذلك فضل علي لا يشركه فيه غيره لأن الحكم على الأسماء فكل اسم مسماه لا يعدي به إلى غيره ولا يبدل منه غيره ولا يقتصر به على بعض مسماه دون بعض ولا في الأحوال دون بعض فصل في إبطال دعواهم في دليل الخطاب قال أبو محمد قد أوعينا بحول خالقنا تعالى لا بحولنا الكلام في كل ما شغبوا به وأبنا حل شكوكهم جملة ثم نأتي بالبراهين المبطلة لدعواهم في ذلك إن شاء الله عز وجل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم يقال لهم أرأيتم قول الله عز وجل {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} فيه إباحة أن يقرب مال من ليس يتيما بغير التي هي أحسن فإن قالوا لا ما فيه إباحة لذلك تركوا قولهم الفاسد إن ذكر السائمة دليل على أن غير السائمة بخلاف السائمة ولا فرق بين ذكره صلى الله عليه وسلم السائمة في موضع والغنم جملة في موضع آخر وبين قوله تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون} في مكان ثم قال في آخر {ولا تقربوا مال ليتيم إلا بلتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا لكيل ولميزان بلقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد لله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} وكذلك لا فرق بين من قال إن الحديث الذي فيه ذكر السائمة بيان للحديث الذي فيه ذكر الغنم جملة وبين من قال إن ذكر مال اليتيم في الآية بيان للأحوال المحرمة ويعلم أن المراد بها مال اليتيم خاصة ويقال لهم أترون قول الله تعالى {إن عدة لشهور عند لله ثنا عشر شهرا في كتاب لله يوم خلق لسماوات ولأرض منهآ أربعة حرم ذلك الدين القيم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا لمشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة وعلموا أن لله مع لمتقين} مبيحا للظلم في سائر الأشهر غير الحرم أو ترون قوله تعالى {لملك يومئذ لله يحكم بينهم فلذين آمنوا وعملوا لصالحات في جنات لنعيم} مانعا من أن يكون الملك في غير يومئذ لله وكذلك قوله تعالى {وليستعفف لذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم لله من فضله ولذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال لله لذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على لبغآء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض لحياة لدنيا ومن يكرههن فإن لله من بعد إكراههن غفور رحيم} أتراه مبيحا للبغاء إن لم يردن تحصنا وكذلك قوله تعالى {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة لنسآء أو أكننتم في أنفسكم علم لله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة لنكاح حتى يبلغ لكتاب أجله وعلموا أن لله يعلم ما في أنفسكم فحذروه وعلموا أن لله غفور حليم} أتراه مبيحا لمواعدتهن في العدة جهرا وكذلك قوله تعالى {لعن لذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} أتراه مانعا من لعن من كفر من غير بني إسرائيل وكذلك قوله تعالى {أحل لكم صيد لبحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد لبر ما دمتم حرما وتقوا لله لذي إليه تحشرون} أتراه مانعا من أكل الثمار والحبوب وما ليس من صيد البحر ولا طعامه كما قال المالكيون إن قوله تعالى {ولخيل ولبغال ولحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون} مانع من أكل الخيل إذ لم يذكر الأكل وإذا عارضوا بهذه الآية الحديث الذي فيه إباحة للخيل فهلا عارضوا بالآية التي ذكرنا إباحة كل ما اختلف فيه فحرموه بها ويقال لهم أترون قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها مسقطا لقتلهم إن جحدوا نبوة موسى وعيسى عليهما السلام ويقال لهم لو كان قولكم حقا إن الشيء إذا علق بصفة ما دل على أن ما عداه بخلافه لكان قول القائل مات زيد كذبا لأنه كان يوجب على حكمهم أن غير زيد لم يمت وكذلك زيد كاتب وكذلك محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان ذلك يوجب ألا يكون غيره رسول الله ويلزمهم أيضا إذ قالوا بما ذكرنا أن يبيحوا قتل الأولاد لغير الإملاق لأن الله تعالى إنما قال {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا} ويلزمهم في قوله تعالى {وآمنوا بمآ أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فتقون} إن ذلك مبيح لأن يشترى بها ثمن كثير فلما تركوا مذهبهم في كل ما ذكرنا وكان قول القائل مات زيد وزيد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 كاتب ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسيلمة كذاب حقا ولم يكن في ذلك منع من أن غير زيد قد مات وأن غير زيد كتاب كثير وأن موسى وعيسى وإبراهيم رسل الله وأن الأسود العنسي والمغيرة الجلاح وبناتا كذابون بطل قول هؤلاء القوم إن الخطاب إذا ورد بصفة ما وفي اسم ما أو في زمان ما أن ما عداه بخلاف ولا يغلط علينا من سمع كلامنا هذا فيظن أننا إذ أنكرنا قولهم إن غير المذكور بخلاف المذكور إننا نقول إن غير المذكور موافق للمذكور بل كلا الأمرين عندنا خطأ فاحش وبدعة عظيمة وافتراء بغير هدى ولكنا نقول إن الخطاب لا يفهم منه إلا ما قضي لفظه فقط وأن لكل قضية حكم اسمها فقط وما عداه فغير محكوم له لا بوفاقها ولا بخلافها لكنا نطلب دليل ما عداها من نص وارد اسمه وحكم مسموع فيه أو من إجماع ولا بد من أحدهما وبالله تعالى التوفيق فصل في عظيم تناقضهم في هذا الباب قال أبو محمد وبالجملة فإن مذهبهم في القياس ومذهبهم في دليل الخطاب ومذهبهم في الخصوص مذاهب يبطل بعضها بعضا ويهدم بعضها بعضا وذلك أنهم قالوا في القياس إذا نص على حكم ما فنحن ندخل ما لا ينص عليه في حكم المنصوص عليه ونتبع السنة ما لا سنة فيه فإذا أوجب الربا في البر بالبر أوجبناه نحن في التبن بالتبن وإذا وجبت الكفارة على العامد في الصيد أوجبناه نحن على المخطىء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 وقالوا في دليل الخطاب إذا نص على حكم ما فنحن نخرج ما لم ينص عليه من حكم المنصوص عليه ولا نتبع السنة ما لا سنة فيه فقالت طوائف منهم لا نزكي غير السائمة لأنه ذكرت السائمة في بعض الأحاديث وقالت طائفة منهم لا نأكل الخيل لأنه إنما ذكر في الآية الركوب والزينة وقالت طوائف منهم لا نقضي بالمتعة إلا التي طلقت ولم تمس ولا فرض لها لأن هذه قد ذكرت بصفتها في بعض الآيات قال أبو محمد وهذا ضد قولهم في القياس وإبطاله وقالوا في الخصوص لا نقضي لجميع ما اقتضاه النص لكن نخرج منه بعض ما يقع عليه لفظ فقالوا في قوله تعالى {يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم} إنما عنى الذكر من الأولاد دون الإناث وقالوا في قوله تعالى {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا} إنما عنى من الأحرار لا من العبيد ومن الأباعد لا من الإخوة والآباء والأبناء والأزواج وقالوا في قوله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} وفي قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} لا قصاص من جرح إلا من الموضحة فقط ولا قصاص من متلف ولا من لطم ولا من نتف شعر قال أبو محمد وهذا مذهب يبطل قولهم في القياس وفي دليل الخطاب معا ونحن نرى إن شاء الله تعالى تناقضهم في مذاهبهم هذه في مسألة واحدة روى المالكيون حديث القطع في ربع دينار فقالوا لا يستباح فرج زوجة بأقل من ربع دينار قياسا على ما يقطع فيه يد السارق وذكر ربع الدينار في القطع موجب ألا يكون الصداق أقل منه ثم قالوا لا يقطع المستعير لأنه ليس سارقا وذكر الله تعالى السارق موجب ألا يقطع من ليس سارقا ثم قالوا من سرق شيئا فأكله قبل أن يخرج من حرزه وإن كان يساوي دنانير فلا قطع عليه فخصوا بالقطع بعض السراق دون بعض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 وكذلك فعل الحنفيون سواء بسواء إلا أنهم قالوا لا يقطع سارق لحم ولا مصحف ولا فاكهة ولا زرنيخ وروى محمد بن المغيرة المخزومي عن مالك أن الإناء يغسل من ولوغ الخنزير سبعا قياسا على الحديث الوارد في الكلب ثم قالوا لا يغسل من لعاب الكلب ثوب ولا جسد لأنه إنما ذكر في الحديث الإناء ولم يذكر غيره ثم روى ابن القاسم عنه أنه قال لا يهرق الإناء إلا أن يكون فيه ماء وأما غير الماء فلا يضره ولوغ الكلب وأما الشافعيون فأتوا إلى آية الظهار فقاسوا على الأم والأخت وقالوا ذكر الله تعالى الأم دليلا على أن الأخت مثلها ثم قالوا ذكر الله تعالى المظاهر دليلا على أن المرأة إذا ظاهرت من زوجها بخلاف ذلك ثم قالوا ومن ظاهر من أمته فلا كفارة عليه فخصوا بعض النساء المذكورات في الآية بلا دليل كل ذلك ومثل هذا في أقوالهم كثير بل هو أكثر أقوالهم وما سلم منها من التناقض إلا الأقل وكلها يهدم بعضها بعضا ويدل هذا دلالة قطع على أن أقوالهم من عند غير الله تعالى إذا ما كان من عند الله تعالى فلا اختلاف فيه ولا تعارض وبعضه يصدق بعضا فصل من تناقضهم في ذلك أيضا قال أبو محمد نص الله تعالى على إيجاب الدية والكفارة في قتل المؤمن خطأ فأوجبها القياسيون في قتل المؤمن الذمي خطأ ولا ذكر له في الآية أصلا ثم اختلفوا فطائفة أوجبت الكفارة في قتل العمد قياسا على قتل الخطأ وطائفة منعت من ذلك وكان تناقض هذه الطائفة أعظم لأنهم أوجبوا الكفارة على قاتل الصيد خطأ قياسا على قاتله عمدا ومنعوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 من الكفارة في قتل المؤمن عمدا ولم يقيسوه على قتله خطأ هذا وكلهم يسمع قول الله تعالى {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فوجب بهذين النصين ألا يؤخذ أحد بخطأ من فعله إلا ما جاء به النص من إيجاب الكفارة على المخطىء في قتل المؤمن وما أجمعت الأمة عليه من ضمان الخطأ في إتلاف الأموال وأن الوضوء ينتقض بالأحداث الخارجة من المخرجين بالنسيان كالعمد فقط ومن تناقضهم أن قالت طوائف منهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم من باع نخلا وفيها تمر قد أبر فهو للبائع إلا أن يشترط المبتاع فقال بعضهم إذا ظهر أبر أو لم يؤبر فهو للبائع وهذا قول أبي حنيفة وقد كثر تناقض أصحابه في دليل الخطاب جدا وقالت طوائف منهم واجب أن تكون الرقبة في الظهار إلا مؤمنة لأن الرقبة التي ذكرت في كفارة القتل لا تكون إلا مؤمنة فوجب أن تكون الرقبة المسكوت عن ذكر دينها في الظهار مثل الرقبة المذكور دينها في القتل ثم قال بعض هذه الطائفة لما ذكر صلى الله عليه وسلم القلتين في قوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا وجب أن يكون لها ما دون القلتين بخلاف القلتين قال أبو محمد فهلا قالوا في الرقبة كذلك وأوجبوا أن يكون المسكوت عنها بخلاف المذكور دينها كما جعلوا المسكوت عنه فيما دون القلتين بخلاف المذكور من القلتين أو هلا جعلوا المسكوت عنه مما دون القلتين مثل القلتين كما جعلوا المسكوت عن دينها في الظهار مثل المذكور دينها في القتل وقالت طائفة أخرى منهم لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده لأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 ذلك لم يذكر في بعض الأحاديث ولا يقول الإمام آمين لأنه لم يذكر ذلك في بعض الأحاديث وإن كان قد ذكر في غيرها لكن يغلب المسكوت ههنا فلا نقول إلا ما جاء في كلا الحديثين ذكره ثم قالت الجزية من غير أهل الكتاب وإن كان الله تعالى لم يأمر بأخذها إلا من أهل الكتاب وادعوا ذلك على عثمان رضي الله عنه قال أبو محمد وهذا لا يصح عن عثمان أصلا وأول من أخذ الجزية من غير أهل الكتاب فالقاسم بن محمد الثقفي قائد الفاسق الحجاج أخذها من عباد البد من كفرة أهل السند وأما عثمان رضي الله عنه فلم يتجاوز إفريقية وأهلها نصارى ولا تجاوز في الشرق خراسان وفي الشمال أذربيجان وأهلها مجوس ومن عجائبهم التي تغيظ كل ذي عقل ودين والتي كان يجب عليهم أن يراقبوا الله تعالى في القول بها أو يستحيوا من تقليد من أخطأ فيها إطباقهم على أن قول الله تعالى {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب لله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما} فليس يدخل فيه القاتل خطأ وأن القاتل خطأ بخلاف القاتل عمدا في ذلك ثم أجمع الحنفيون والشافعيون والمالكيون على قول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} إلى منتهى قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} فقالوا كلهم إن القاتل الصيد وهو محرم خطأ تحت هذا الحكم وهم يسمعون هذا الوعيد الشديد الذي لا يستحقه مخطىء بإجماع الأمة فيكون في عكس الحقائق والتحكم في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 دين الله تعالى أعظم من هذا التلاعب في حكمين وردا بلفظ العمد ففرقوا بينهما كما ترى وحسبنا الله ونعم الوكيل وقالوا ذكر الله تعالى {لذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا للائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من لقول وزورا وإن لله لعفو غفور} فقالوا نقيس من يظاهر بجريمته أو بشيء محرم على الأم ونلحق المسكوت عنه بالمذكور ثم قالوا لا نقيس تظاهر المرأة من زوجها بتظاهره منها ولا نلحق عنه بالمذكور ثم قالوا نوجب الكفارة على المرأة الموطوءة نهارا في رمضان قياسا على الرجل الواطىء في رمضان فيلحق المسكوت عنه بالمذكور وقد قالوا كما ذكرنا نلحق الرقبة المسكوت عنها في الظهار بالرقبة المذكور دينها في القتل ثم قالوا نوجب في التعويض من الصيام في كفارة القتل إطعاما وإن كان قد عوض من الصيام بالإطعام في كفارة الظهار التي قسنا آنفا رقبتها على رقبة القتل وقاس بعضهم التيمم على الوضوء أن لا بد من بلوغ التيمم إلى المرفقين وأبوا أن يقيسوا مسح الرأس في التيمم على مسحه في الوضوء وقالوا الحكم المسكوت عنه بحكم المذكور ههنا ثم لم يقيسوا قوله تعالى في الرجعة {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا} على قوله تعالى في الدين {يأيها لذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فكتبوه وليكتب بينكم كاتب بلعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه لله فليكتب وليملل لذي عليه لحق وليتق لله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان لذي عليه لحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بلعدل وستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل ومرأتان ممن ترضون من لشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما لأخرى ولا يأب لشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند لله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم وتقوا لله ويعلمكم لله ولله بكل شيء عليم} فقالوا هذا لا نحكم عنه للمسكوت عنه بحكم المذكور وقالوا هنالك نحكم للمسكوت عنه بحكم المذكور وأما الحنفيون فحكموا في آيتي الشهادة المسكوت عنه بحكم المذكور فقبلوا النساء في الرجعة والطلاق والنكاح وفي آية التيمم فأوجبوا إلى المرفقين ولم يحكموا في رقب الظهار والقتل والكفارة للمسكوت عنه بحكم المذكور ولا حكموا لغير السائمة بحكم السائمة ففرقوا ههنا بين المسكوت عنه وبين المذكور فكل طائفة منهم تحكمت في دين الله بعقولها وتقليدها الفاسد بلا برهان وقد احتج بعضهم علي حيث وافق هواه بأن البدل حكمه حكم المبدل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 منه فأعلمته بأن ذلك باطل بلغة العرب التي خوطبنا بها في القرآن والسنة وبحكم الشريعة أما اللغة فإن البدل على أربعة أضرب بدل البعض من الكل وبدل البيان وبدل الغلط وبدل الصفة من الموصوف فليس في هذه الوجوه بدل يكون حكمه حكم المبدل منه إلا بدل البيان وحده كقولك مررت بزيد رجل صالح على أن أحدهما نكرة الآخر معرفة وأما القرآن فقد أبدل الله تعالى من عتق رقبة الكفارة صيام ثلاثة أيام ومن عتق رقبة الظهار صيام شهرين متتابعين وأبدل من عتق رقبة الكفارة إطعام عشرة مساكين ومن هؤلاء العشرة صيام ثلاثة أيام وأبدل من صيام الشهرين إطعام ستين مسكينا وأبدل تعالى من هدي المتعة صيام عشرة أيام ومن هدي الأذى صيام ثلاثة أيام فبطل ما ادعوه وقالت طائفة منهم في قوله صلى الله عليه وسلم من مس فرجه فليتوضأ لا ينقض الوضوء إلا من مسة بباطن يده دون ظاهرها فلم يحكموا في ذلك بكل ما يقع عليه اسم مس ثم قالوا في ذلك بحديث لا يصح فيه من أفضى بيده إلى فرجه فليتوضأ قال أبو محمد ولو صح لما كان مانعا من إيجاب الوضوء في مسه بغير اليد لأنه إنما يكون في هذه الرواية التي احتجوا بها ذكر الإفضاء باليد فقط وكان يكون في الحديث الآخر المس جملة كما لم يكن في قوله صلى الله عليه وسلم من مس فرجه فليتوضأ ما يوجب إسقاط الوضوء من الريح والغائط بل كان مضافا إليه ومجموعا معه ثم نقضوا هذا فقالوا في حديثين وردا أحدهما إذا وقعت الحدود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 فلا شفعة والآخر إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة فاستعملوا كلا اللفظين ولم يجعلوهما حديثا واحدا بل أوجبوا قطع الشفعة بتحديد الحدود وإن لم تصرف الطرق وقالوا نعم إذا حدث الحدود فلا شفعة وإذا زيد في ذلك فصرفت الطرق فلا شفعة أيضا قال أبو محمد ولم يفعل ذلك الحنفيون ههنا ولكنهم قد نقضوه فيما ذكرنا آنفا من مس الفرج ونقضه بعضهم في حديثين رويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحدهما أنه عليه السلام مسح بناصيته وفي الآخر أنه مسح على العمامة فقالوا هذا حديث واحد ولا يجزىء المسح على العمامة دون الناصية قال أبو محمد وهذا خلاف ما فعلوا في الشفعة مع أن كون الحديث الذي فيه ذكر الناصية غير الحديث الذي فيه ذكر العمامة أبين من أن يحتاج فيه كلفة لأن راوي الناصية المغيرة بن شعبة وراوي العمامة فقط بلال وعمرو بن أبي أمية الضمري معا فمن ادعى أنهما حديث واحد فقد افترى وقفا ما ليس له به علم وذلك لا يحل وقد كان ينبغي لهم أن يحكموا المسكوت عنه من المسح على الرأس المستور بحكمهم على الرجلين المستورين كما حكموا بالمسح على الجرموقين قياسا على الخفين وكما قاسوا المسح على الجبائر في الذراعين على المسح على الخفين في الرجلين والجبائر لم يأت ذكرها في نص صحيح أصلا وإذا جاز عندهم تعويض المسح عليها من غسل الذراعين فتعويض المسح على العمامة من مسح الرأس أولى لأن هذا مسح عوض من مسح وذلك مسح عوض من غسل وكان قياس الرأس على الرجلين لأنهما طرفا الجسد ولأنهما جميعا يسقطان في التيمم أولى من قياس الذراعين بالجبائر على الرجلين ولكن القوم ليسوا في شيء وإنما يقولون ما خرج إلى أفواههم دون تعقب وقلدهم من تلاهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 وأتوا إلى قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا كتب عليكم لقصاص في لقتلى لحر بالحر ولعبد بلعبد ولأنثى بلأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فتباع بلمعروف وأدآء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن عتدى بعد ذلك فله عذاب أليم} فتناقضوا فقالوا هذه الآية موجبة أنه لا يقتل الحر بالعبد وليست موجبة ألا يقتل الذكر بالأنثى أفيكون أقبح تحكما ممن يقول إن قوله تعالى {لحر بالحر} موجب ألا يقتل حر بعبد ويقولون إن قوله تعالى {ولأنثى بلأنثى} موجبا ألا تقتل الأنثى بالذكر والذكر بالأنثى وأما نحن فإن قوله صلى الله عليه وسلم المؤمنون تتكافأ دماؤهم عموم موجب عندنا قتل الحر بالعبد والعبد بالحر والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر وكذلك قوله تعالى {وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على لله إنه لا يحب لظالمين} موجب القصاص بين الحر والعبد والذكر والأنثى فيما دون النفس يقص فيه للحر من العبد وللعبد من الحر والإماء والحرائر فيما بينهن ومع الرجال كذلك ولا قصاص لكافر من مؤمن أصلا لنصوص أخر ليس هذا مكان ذكرها وقال بعضهم قوله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} يدل على أن الدم الذي يكون مسفوحا ليس حراما قال أبو محمد وهم قد نسوا أنفسهم في هذه الآية لأنه إذا كان ذكر المسفوح موجبا أن يكون غير المسفوح مباحا فوجب أن يكون ذكر لحم الخنزير في الآية نفسها موجبا إباحة جلده وشعره وهم لا يقولون هذا فقد تناقضوا فإن ادعوا إجماعا كذبوا لأن كثيرا من الفقهاء يبيحون بيع جلده والانتفاع به إذا دبغ والخرز بشعره فهذا تناقض لم يبعد عنهم فينسوه وأيضا فإن قوله تعالى في سورة المائدة في آية منها من آخر ما نزل {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} مبين أن كل دم فهو حرام ويدخل في ذلك المسفوح وغير المسفوح وهذا بين وبالله تعالى التوفيق الباب الثامن والثلاثون في إبطال القياس في أحكام الدين قال أبو محمد علي بن أحمد رضوان الله عليه ذهب طوائف من المتأخرين من أهل الفتيا إلى القول بالقياس في الدين وذكروا أن مسائل ونوازل ترد لا ذكر لها في نص كلام الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجمع الناس عليها قالوا فننظر إلى ما يشبهها مما ذكر في القرآن أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحكم فيما لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم الوارد في نظيره في النص والإجماع فالقياس عندهم هو أن يحكم لما لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم فيما فيه نص أو إجماع لاتفاقهما في العلة التي هي علامة الحكم هذا قول جميع حذاق أصحاب القياس وهم جميع أصحاب الشافعي وطوائف من الحنفيين والمالكيين وقالت طوائف من الحنفيين والمالكيين لاتفاقهما في نوع من الشبه فقط وقال بعض من لا يدري ما القياس ولا الفقه من المتأخرين وهو محمد بن الطيب الباقلاني القياس هو حمل أحد المعلومين على الآخر في إيجاب بعض الأحكام لهما أو إسقاطه عنهما من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه قال علي وهذا كلام لا يعقل وهو أشبه بكلام المرورين منه بكلام غيرهم وكله خبط وتخليط ثم لو تحصل منه شيء وهو لا يتحصل لكان دعوى كاذبة بلا برهان وأطرف شيء قوله أحد المعلومين فليت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 شعري ما هذان المعلومان ومن علمهما ثم ذكر إيجاب بعض الأحكام أو إسقاطه وهما ضدان ثم قال من جمع بينهما بأمر أو بوجه جمع بينهما فيه وهذه لكنه وعي وتخليط ونسأل الله السلامة وإنما أوردناه ليقف على تخليطه كل من له أدنى فهم ثم نعود إلى ما يتحصل منه معنى يفهم وإن كان باطلا من أقوال سائر أهل القياس وبالله تعالى التوفيق وقال أبو حنيفة الخبر المرسل والضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من القياس ولا يحل القياس مع وجوده قال والرواية عن الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم أولى القياس قال ولا يجوز الحكم بالقياس في الكفارات ولا في الحدود ولا في المقدرات وقال الشافعي لا يجوز القياس مع نص قرآن أو خبر صحيح مسند فقط وأما عند عدمهما فإن القياس واجب في كل حكم وقال أبو الفرج القاضي وأبو بكر الأبهري المالكيان القياس أولى من خبر الواحد المسند والمرسل وما نعلم هذا القول عن مسلم يرى قبول خبر الواحد قبلهما وقسموا القياس بثلاثة أقسام فقسم هو قسم الأشبه والأولى وهو إن قالوا إذا حكم في أمر كذا بحكم كذا فأمر كذا أولى بذلك الحكم وذلك نحو قول أصحاب الشافعي إذا كانت الكفارة واجبة في قتل الخطأ وفي اليمين التي ليست غموسا فقاتل العمد وحالف اليمين الغموس أولى بذلك وأحوج إلى الكفارة وكقول المالكي والشافعي إذا فرق بين الرجل وامرأته لعدم الجماع فالفرقة بينهم العدم النفقة التي هي أوكد من الجماع أولى وأوجب وكقول الحنفي والشافعي والمالكي إذا لزمت المظاهر بظهر الأم الكفارة فالمظاهر بفرج أمه أولى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 وقسم ثان وهو قسم المثل وهو نحو قول أبي حنيفة ومالك إذا كان الواطىء في نهار رمضان عمدا تلزمه الكفارة فالمتعمد للأكل مثله في ذلك وإذا كان الرجل يلزمه في ذلك الكفارة فالمرأة الموطوءة باختيارها عامدة في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل وكقول من قال من التابعين ومن بعدهم إذا كان ظهار الرجل من امرأته يوجب عليه الكفارة فالمرأة المظاهرة من زوجها في وجوب الكفارة عليها مثل الرجل وكقول الشافعي إذا وجب غسل الإناء من ولوغ الكلب فيه سبعا فهو من الخنزير كذلك وكقول المالكيين إذا وجب على الزاني الذي ليس محصنا جلد مائة وتغريب عام فقاتل العمد إذا عفي له عن دمه مثله وكقول الحسن إذا ورثت المطلقة ثلاثا في المرض فهو في وجوب الميراث له منها إن ماتت كذلك أيضا والقسم الثالث قسم الأدنى وهو نحو قول مالك وأبي حنيفة إذا وجب القطع في مقدار ما في السرقة وهو عضو يستباح فالصداق في النكاح مثله وكقول أبي حنيفة إذا كان خروج البول والغائط وهما نجسان ينقض الوضوء فخروج الدم وهو نجس متى خرج من الجسد أيضا كذلك وكقول الشافعي إذا كان مس الذكر ينقض الوضوء فمس الدبر الذي هو عورة مثله كذلك وكقول المالكي إذا كان قول أف عمدا في الصلاة يبطلها فالنفخ فيها عمدا كذلك قال أبو محمد فهذه أقسام القياس عند المتحذلقين القائلين به وذهب أصحاب الظاهر إلى إبطال القول بالقياس في الدين جملة وقالوا لا يجوز الحكم البتة في شيء من الأشياء كلها إلا بنص كلام الله تعالى أو نص كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من فعل أو إقرار أو إجماع من جميع علماء الأمة كلها متيقن أنه قاله كل واحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 منهم دون مخالف من أحد منهم أو بدليل من النص أو من الإجماع المذكور الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا والإجماع عند هؤلاء راجع إلى توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بد من لا يجوز غير ذلك أصلا وهذا هو قولنا الذي ندين الله به ونسأله عز وجل أن يثبتنا فيه ويميتنا عليه بمنه ورحمته آمين وشغب أصحاب القول بالقياس بأشياء موهوا بها ونحن إن شاء الله تعالى ننقض كل ما احتجوا به ونحتج لهم بكل ما يمكن أن يعترضوا به ونبين بحول الله تعالى وقوته بطلان تعلقهم بكل ما تعلقوا به في ذلك ثم نبتدىء بعون الله عز وجل بإيراد البراهين الواضحة الضرورية على إبطال القياس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فما شغبوا به أن قالوا قال الله عز وجل {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} فوجب إذ منع من قول {لهمآ} للوالدين أن يكون ضربهما أو قتلهما ممنوع لأنهما أولى من قول {أف} وقال تعالى {وإذ قال موسى لقومه ياقوم ذكروا نعمة لله عليكم إذ جعل فيكم أنبيآء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من لعالمين} قالوا فوجب أن ما فوق القنطار وما دونه داخل كل ذلك في حكم القنطار في المنع من أخذه وقال تعالى {ونضع لموازين لقسط ليوم لقيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} قالوا فعلمنا أن ما دون مثقال حبة وما فوقها داخلان في حكم مثقال حبة الخردل أنه تعالى يأتي بها وقال تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} قالوا فعلمنا أن ما فوق مثقال الذرة وما دونها يرى أيضا وقال تعالى {ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون} قالوا فعلمنا أن ما فوق القنطار والدينار وما دونهما في حكم القنطار والدينار وقال تعالى {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون} قالوا فعلمنا أن ما عدا الأكل من اللباس وغيره حرام إذا كان بالباطل وقال تعالى {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا} فعلمنا أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 قتلهم لغير الإملاق حرام كما هو خشية الإملاق قالوا وقول الناس لا تعط فلانا حبة فإنه مفهوم منه أن ما فوق الحبة وما دونها داخل كل ذلك في حكم الحبة قالوا ومن ادعى من هذه الآي فهم ما عدا ما فيها من غيرها فهو خارج عن المعقول وعن اللغة قالوا وأنتم توافقوننا في كل ما قلنا في هذه الآيات وهذا الفصل وتقرون معنا بأن ما عدا هذه المنصوصات فإنه داخل في حكمها قالوا وهذا إقرار منكم بالقياس وترك لمذهبكم في إبطاله قال أبو محمد قال الله عز وجل {أم للإنسان ما تمنى} وكل ما ذكروا فلا حجة لهم فيه أصلا بل هو أعظم حجة عليهم لأنه ينعكس عليهم في القول بدليل الخطاب فإنهم على ما ذكرنا في بابه في هذا الديوان يقولون إن ما عدا المنصوص فهو مخالف للمنصوص فيلزمهم على ذلك الأصل أن يقولوا ههنا إن ما عدا {أف} فإنه مباح وما عدا الدينار والقنطار والأكل ومثقال الخردلة والذرة وخشية الإملاق بخلاف حكم ذلك فقد ظهر تناقضهم وهدم مذاهبهم بعضها لبعض ثم نعود فنقول وبالله تعالى التوفيق أما قول الله تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * وخفض لهما جناح لذل من لرحمة وقل رب رحمهما كما ربياني صغيرا} فلو لم يرد غير هذه اللفظة لما كان فيها تحريم ضربهما ولا قتلهما ولما كان فيها إلا تحريم قول {أف} فقط ولكن لما قال الله تعالى في الآية نفسها {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبلوالدين إحسانا إما يبلغن عندك لكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * وخفض لهما جناح لذل من لرحمة وقل رب رحمهما كما ربياني صغيرا} اقتضت هذه الألفاظ من الإحسان والقول الكريم وخفض الجناح والذل والرحمة لهما والمنع من انتهارهما وأوجبت أن يؤتى إليهما كل بر وكل خير وكل رفق فبهذه الألفاظ وبالأحاديث الواردة في ذلك وجب بر الوالدين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 بكل وجه وبكل معنى والمنع من كل ضرر وعقوق بأي وجه كان لا بالنهي عن قول {أف} وبالألفاظ التي ذكرنا وجب ضرورة أن من سبهما أو تبرم عليهما أو منعهما رفده في أي شيء كان من غير الحرام فلم يحسن إليهما ولا خفض لهما جناح الذل من الرحمة ولو كان النهي عن قول {أف} مغنيا عما سواه من وجوه الأذى لما كان لذكر الله تعالى في الآية نفسها مع النهي عن قول {أف} النهي عن النهر والأمر بالإحسان وخفض الجناح والذل لهما معنى فلما لم يقتصر تعالى على ذكر الأف وحده بطل قول من ادعى أن بذكر الأف علم ما عداه وصح ضرورة أن لكل لفظة من الآية معنى غير سائر ألفاظها ولكنهم جروا على عادة لهم ذميمة من الاقتصار على بعض الآية والإضراب عن سائرها تمويها على من اغتر بهم ومجاهرة لله تعالى بما لا يحل من التدليس في دينه كما فعلوا في ذكرهم في الاستنباط قول الله تعالى {وإذا جآءهم أمر من لأمن أو لخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى لرسول وإلى أولي لأمر منهم لعلمه لذين يستنبطونه منهم ولولا فضل لله عليكم ورحمته لاتبعتم لشيطان إلا قليلا} وأضربوا عن أول الآية في قوله تعالى {وإذا سمعوا مآ أنزل إلى لرسول ترى أعينهم تفيض من لدمع مما عرفوا من لحق يقولون ربنآ آمنا فكتبنا مع لشاهدين} وأول الآية مبطل للاستنباط وكما فعل من فعل منهم في قول الله تعالى {وإذا قرىء لقرآن فستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} وأضربوا عما بعدها من قوله تعالى {وذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون لجهر من لقول بلغدو ولآصال ولا تكن من لغافلين} قال أبو محمد ومن البرهان الضروري على أن نهي الله تعالى عن أن يقول المرء لوالديه ليس نهيا عن الضرب ولا عن القتل ولا عما عدا الأف أن من حدث عن إنسان قتل آخر أو ضربه حتى كسر أضلاعه وقذفه بالحدود وبصق في وجهه فشهد عليه من شهد ذلك كله فقال الشاهد إن زيدا يعني القاتل أو القاذف أو الضارب قال لعمرو يعني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 المقتول أو المضروب أو المقذوف لكان بإجماع منا ومنهم كاذبا آفكا شاهد زور مفتريا مردود الشهادة فكيف يريد هؤلاء القوم بنا أن نحكم بما يقرون أنه كذب فكيف يستجيزون أن ينسبوا إلى الله تعالى الحكم بما يشهدون أنه كذب ونحن نعوذ بالله العظيم من أن نقول إن نهي الله عز وجل عن قول للوالدين يفهم منه النهي عن الضرب لهما أو القتل أو القذف فالذي لا شك فيه عند كل من له معرفة بشيء من اللغة العربية أن القتل والضرب والقذف لا يسمى شيء من ذلك فبلا شك يعلم كل ذي عقل أن النهي عن قول ليس نهيا عن القتل ولا عن الضرب ولا عن القذف وأنه إنما هو نهي عن قول فقط وأما ذكره تعالى القنطار في آية الصداق وآية وفاء أهل الكتاب فما فهمنا قط أن ما عدا القنطار فهو حكم القنطار من هاتين الآيتين لكن لما قال تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} قال أبو محمد فبهذه الآية حرم على الزوج أن يأخذ مما أعطى زوجته شيئا وسواء قل أو كثر إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله أو تطيب نفسها كما قال تعالى {وآتوا لنسآء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} لولا هذه الآية وما في معناها من سائر الآيات والأحاديث التي فيها تحريم الأموال جملة وتحريم العود في الهبات لما كان في آية القنطار مانع مما عدا القنطار أصلا وبرهان عن ذلك أنه لو شهد شاهدان لزيد أن له على عمرو قنطارا وكان في علمهما الصحيح أنه له عليه قنطارين أو أكثر من قنطار أو أقل من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 قنطار لكانا شاهدي زور كذابين آفكين وما علمنا في طبيعة بشر أحدا يفهم من قول القائل أخذ لي عمرو قنطارا أنه آخذ له أكثر من قنطار ومدعي هذا مفتر على اللغة ومكابر للحس داخل في نصاب الموسوسين مبطل للحقائق ويقال له لعله تعالى إذا ذكر سبع سموات إنما أراد بها خمس عشرة أو أكثر من ذلك وهذا هو بطلان الحقائق وفساد العقل على الحقيقة وأما الآية التي فيها ذكر الدينار والقنطار في ائتمان أهل الكتاب فقد أخبرنا تعالى أنهم يقولون أو من قال منهم {ومن أهل لكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في لأميين سبيل ويقولون على الله لكذب وهم يعلمون} ففي هذا استجازة أهل الكتاب لخون أماناتنا قلت أو كثرت وقد علمنا بضرورة العقل والمشاهدة وعلم الناس قبل نزول هذه الآية المذكورة أن في أهل الكتاب وفي المسلمين أوفياء يفون بالقليل والكثير وغدرة يغدرون بالقليل والكثير لأن هذا من صفات الناس وإن في الناس من يفي بالقليل تصنعا ويخون الكثير رغبة وأن فيهم من يغدر بالقليل خسة نفس واستهانة ويفي بالكثير مخافة الشهرة أو انقطاع رزقه إن كان لا يعيش في مكسبة إلا بائتمان الناس إياه وهذا كله موجود مشاهد معلوم بالحس فإن قالوا فما فائدة الآية إذن قيل لهم وبالله تعالى التوفيق الفائدة فيها عظيمة فأول ذلك الأجر العظيم في تلاوتها في التصديق أنها من عند الله عز وجل وأيضا فالتنبيه لنا على التفكر في عظيم القدرة في ترتيبه لنا طبائع الناس فمنهم الوفي الكافر والخائن الكافر وأيضا فائتمانهم على المال فإن ذلك مباح لنا إذا قدرنا فيهم الأمانة وإبطال قول من منع من الوصية إليهم بالمال وهذا مثل قوله تعالى {أفلا ينظرون إلى لإبل كيف خلقت} ومثل قوله تعالى {ونزلنا من لسمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب لحصيد} وقد علمنا ذلك قبل نزول القرآن ولكنه تنبيه ووعظ وتحريك إلى اكتساب الأجر بالاعتبار والفكرة في قدرة الله عز وجل وذكره تعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 القنطار ههنا كذكره السبعين استغفارة في قوله تعالى {ستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لله لهم ذلك بأنهم كفروا بلله ورسوله ولله لا يهدي لقوم لفاسقين} وقد سبق في علم الله تعالى أنه سيبين مراده من ذلك أنه تعالى لا يقبل استغفاره لهم أصلا وقد قلنا غير مرة إن مثل هذا السؤال فاسد وأنه تعالى لا يسأل عما يفعل ونحن نسأل عن كل فعلنا وقولنا وأما قوله تعالى {ونضع لموازين لقسط ليوم لقيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} وقوله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} فإنما علمنا عموم ذلك كله فيما دون الذرة وما فوقها من قوله تعالى {ووضع لكتاب فترى لمجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يويلتنا ما لهذا لكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} وبقوله تعالى {فستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فلذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها لأنهار ثوابا من عند لله ولله عنده حسن لثواب} وبقوله تعالى {فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} فهذه الآيات بينت أن ما فوق الذرة والخردلة وما دونها محسوب كل ذلك ومجازى به وكذلك قوله تعالى {يبني إنهآ إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في لسماوات أو في لأرض يأت بها لله إن لله لطيف خبير} فإنما علمنا العموم في ذلك من قول الله تعالى {وما من دآبة في لأرض إلا على لله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين} فشمل تعالى جميع أرزاق الحيوان في هذه الآية فدخل في ذلك ما هو دون الخردلة وما فوقها وقد أجاب أبو بكر بن داود عن هذا السؤال أن قال إن الذي هو فوق الذرة ذرة وذرة وهكذا ما زاد لأنه زاد على الذرة بعض ذرة فذاك البعض إذا أضيف إلى أبعاض الذرة جاء من ذلك مقدار الذرة وأما ما دون مثقال الذرة فحكمه مأخوذ من غير هذا المكان قال علي وهذا جواب صحيح ضروري والذي نعتمد عليه عموما في جميع هذا الباب فهو الذي قلنا آنفا وأن المرجوع إليه في كل ما جرى هذا المجرى نصوص أخر أو إجماع متيقن أو ضرورة المشاهد بالحواس والعقل فقط فإن لم نجد نصا ولا إجماعا ولا ضرورة اقتصرنا على ما جاء به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 النص وقفنا حيث وقف ولا مزيد وإلا فإن ذكره تعالى لما ذكر من هذه المقادير وهذه الأحوال في هذه الآيات كذكره تعالى أخبار بعض الأنبياء عليهم السلام في مكان وذكره تعالى لهم في مكان آخر بأكمل مما ذكرهم به في غيرها ولا يسأل عما يفعل وأما قوله عز وجل {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بلباطل وتدلوا بها إلى لحكام لتأكلوا فريقا من أموال لناس بلإثم وأنتم تعلمون} فإنما علمنا أن ما عدا الأكل حرام بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام وبآيات أخر وأحاديث أخر فبالحديث المذكور حرم التصرف في أموال الناس بغير ما أمر الله تعالى به بالأكل وغير الأكل ولو تركنا والآية المذكورة ما حرم بها شيء غير الأكل ولكان ما عدا الأكل موقوفا على طلب الدليل فيه إما بمنع وإما إباحة من غيرها ولما وجب أن تحكم فيما عدا الأكل من الآية لا بتحريم ولا بتحليل كما يقولون معنا إن الله حرم الأكل على الصائم ولم يحل عليه تملك الطعام ولا ما عدا الأكل من بيه وهبة وغير ذلك فأي فرق بين الأكل المحرم على الصائم وبين الأكل المحرم على الناس في أموالهم وكما أباحوا هم ونحن الأكل من بيت الأب والأم والصديق والأقارب المنصوصين فهلا أباحوا أخذ ما وجدوا للأقارب ما عدا الأكل قياسا على الأكل المباح أهلا حرموا على الصائم تملك الطعام وبيعه قياسا على ما صح من تحريم الأكل عليه كما زعموا أنهم إنما حرموا تملك الأموال بالظلم والباطل قياسا على تحريم الله تعالى أكلها بالباطل فإذ لم يفعلوا ذلك فقد تركوا القياس الذي يقرون أنه حق فظهر تناقضهم والحمد لله رب العالمين وحتى لو لم يرد نص جلي في تحريم الأموال جملة لكان الإجماع على تحريمها كافيا ولعلمنا حينئذ أن اسم الأكل موضوع على أخذ منقول عن موضوعه المختص له في اللغة كما تقول العرب أكلتنا السنة أي أفنت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 أموالنا وكما قال الشاعر فإن قومي لم تأكلهم الضبع يريد لم تفنهم وأما قوله تعالى {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا} فإنما حرم قتلهم جملة لغير الإملاق من آيات أخر وهي قول الله تعالى {قد خسر لذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم لله فترآء على لله قد ضلوا وما كانوا مهتدين} وبقوله تعالى {ولا تقتلوا لنفس لتي حرم لله إلا بلحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في لقتل إنه كان منصورا} وبقوله تعالى {وإذا لموءودة سئلت * بأى ذنب قتلت} وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام وأما قوله تعالى {يولج لليل في لنهار ويولج لنهار في لليل وسخر لشمس ولقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم لله ربكم له لملك ولذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} فإنما أخبر عز وجل في موضع آخر على أنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع وما كان هذا فبالضرورة نعلم أنها لا تملك شيئا وهكذا الحكم في كل ما موهوا به فإن الله تعالى قد بين لنا مراده ولو لم يرد غير النصوص التي ذكرنا لوجب ألا نتعدى البتة إلى ما لم يذكر بها وللزم ألا نحكم بها أصلا إلا فيما وردت فيه ومن تعدى هذا فإنه متعد لحدود الله تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} نعوذ بالله من ذلك وأما قول الناس لا تعط فلانا حبة فإنما يعلم مراد القائل في ذلك أمجدا قال ذلك أم هازلا أم مقتصرا على الحبة أم لأكثر منها بما يشهده من حال الأمر في امتناعه وتسهله وأكثر ذلك فهذا القول من قائله لا يتأتى مجردا البتة ولا بد ضرورة من أن يقول لا تعطه البتة شيئا ولا حبة وربما زاد لا قليلا ولا كثيرا فهذا هو المعهود من تخاطب الناس فيما بينهم ومن ادعى غير هذا فهو مجاهر مدع على العقل ما ليس فيه بل هو مخالف لموجب العقل ولمقتضى اللغة على الحقيقة وبالله تعالى نعتصم فإن ذكروا قول الله تعالى {أم لهم نصيب من لملك فإذا لا يؤتون لناس نقيرا} فقد قال تعالى في آية أخرى {قل لو أنتم تملكون خزآئن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية لإنفاق وكان لإنسان قتورا} فنص تعالى على الإمساك والإمساك على عمومه يقتضي النقير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 وغير النقير وأقل من النقير وأكثر منه واحتجوا في ذلك أيضا بقول الله تعالى {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بلمعروف وتنهون عن لمنكر وتؤمنون بلله ولو آمن أهل لكتاب لكان خيرا لهم منهم لمؤمنون وأكثرهم لفاسقون} وبقوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قالوا فلم يخص الله تعالى ما قال أولو الأمر منا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم مما قالوه بقياس قال أبو محمد هذا الاحتجاج منهم جمع الشناعة والإثم لأن الله تعالى لم يأمر قط أولي الأمر منا أن يقولوا بآرائهم ولا بقياساتهم ولا أن يقولوا ما شاؤوا وإنما أمرهم الله تعالى أن يقولوا ما سمعوا أو يتفقهوا في الدين الذي أنزله الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وينذروا بذلك قومهم وهذا بين في قوله تعالى {وعتصموا بحبل لله جميعا ولا تفرقوا وذكروا نعمة لله عليكم إذ كنتم أعدآء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من لنار فأنقذكم منها كذلك يبين لله لكم آياته لعلكم تهتدون} وفي قوله تعالى {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} وفي قوله تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وفي قوله تعالى {إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} قال أبو محمد ومن قال بقياسه فقد تعدى حدود الله وقفا ما لا علم به وأخبر عن الله تعالى بما لا يعلم أحد ما عند الله تعالى إلا بإخبار من الله تعالى بذلك وإلا فهو باطل وقد بينا فيما خلا أن قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} إنما هو جميع أولي الأمر لا بعضهم ولم يجمعوا قط على القول بالقياس فكيف نكون نحن مأمورين باتباعهم فيما افترقوا فيه وهذا ضد أمر الله تعالى في القرآن وبرهان قاطع وهو أن الله تعالى قال {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} وحدود الله تعالى هي كل ما حد وبين فصح أنه ليس لأحد أن يتعدى في شيء من الدين ما حده الله تعالى في القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 عليه وسلم بالوحي فبطل أن يحمل أولوا الأمر على تعدي حدود الله تعالى لأنه باطل فقد اتفقنا أنهم لا يجمعون على باطل وكل ما لم يكن من حدود الله تعالى ووحيه فهو من عند الله ضرورة لا بد من ذلك وقد قال تعالى {أفلا يتدبرون لقرآن ولو كان من عند غير لله لوجدوا فيه ختلافا كثيرا} فصح بهذه الآية أنه لا يمكن أن يكون إجماع أبدا إلا على ما جاء من عند الله تعالى بالوحي الذي لا يعلم ما عند الله تعالى إلا به والذي قد انقطع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل بهذه النصوص يقينا أن يجمعوا على غير نص صحيح واحتجوا بقول الله تعالى في آية الكلالة {يستفتونك قل لله يفتيكم في لكلالة إن مرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثهآ إن لم يكن لهآ ولد فإن كانتا ثنتين فلهما لثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونسآء فللذكر مثل حظ لأنثيين يبين لله لكم أن تضلوا ولله بكل شيء عليم} قالوا فأنتم تقولون إن الميراث ههنا إنما هو بعد الدين والوصية قالوا وليس هذا في الآية فإنما قلتموه قياسا على سائر آيات المواريث التي فيها أنها بعد الوصية والدين قال أبو محمد وهذا خطأ عظيم ونعوذ بالله تعالى من أن نثبت الميراث في مواريث الإخوة بعد الوصية والدين من طريق القياس وما أثبتنا ذلك إلا بنص النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان يقدم إلى الجنازة فيسأل صلى الله عليه وسلم أعليه دين فإن قيل له لا صلى عليه وإن قيل له نعم سأل صلى الله عليه وسلم أعليه وفاء فإن قيل له نعم صلى عليه وإن قالوا لا قال صلى الله عليه وسلم صلوا على صاحبكم ولم يصل هو عليه وبقوله صلى الله عليه وسلم إن الشهيد يغفر له كل شيء إلا الدين أو كلاما هذا معناه وقوله صلى الله عليه وسلم إن صاحبكم مرتهن بدينه وبأمره صلى الله عليه وسلم جملة بالوصية لمن عنده شيء يوصي فيه وبأمره صلى الله عليه وسلم بالوصية بالثلث فدون وقال صلى الله عليه وسلم في الوصية بالثلث والنهي عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 الوصية بأكثر إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة أو كما قال صلى الله عليه وسلم فعم صلى الله عليه وسلم الورثة كلهم ولم يخص أخا ولا أختا من غيرهما فصح ضرورة ألا ميراث لأحد إلا بعد الدين ثم الوصية فسقط تمويههم بذكر الآية المذكورة ثم نعكس عليهم هذا السؤال المذكور بعينه فنقول لهم إذا فعلتم أنتم ذلك في آية الكلالة قياسا على سائر المواريث فيلزمكم أن توجبوا الإطعام في كفارة القتل لمن عجز عن الصيام والرقبة قياسا على كفارة الظهار وقياسا على كفارة الواطىء في نهار رمضان ولا تفرقوا بين الأمرين فقد ذكر الله تعالى في كلتا الآيتين عتق الرقبة ثم الصيام لشهرين متتابعين ثم ذكر تعالى في أحدهما تعويض الإطعام من الصيام فافعلوا ذلك في المسكوت عنه من الآية الأخرى لا سيما وأنتم قد قستم أو بعضكم المسكوت عنه من دين الرقبة في الظهار على المنصوص عليه من أن تكون مؤمنة في قتل الخطأ فما الذي جعل قياس الرقبة في الظهار على التعويض في القتل حقا وجعل قياس التعويض بالإطعام من الصيام في كفارة قتل الخطأ على التعويض بالإطعام من الصيام في كفارة الظهار باطلا ولولا التخليط والموق ونعوذ بالله من الخذلان واحتج بعضهم بأن قال إن ثبات العشرين منا للمائتين من الكفار منسوخ بالقياس على نسخ ثبات المائة منا للألف من الكفار قال أبو محمد وهذا تخليط وكذب وعكس الخطأ على الخطأ وما نسخ قط ثبات المائة للألف ولا ثبات العشرين للمائتين وقد بينا هذه المسألة في باب الكلام في النسخ من ديواننا هذا وبالجملة لا يحل لمسلم أن يقول في آية ولا حديث بالنسخ إلا عن نص صحيح لأن طاعة الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم واجبة فإذا كان كلامهما منسوخا فقد سقطت طاعته عنا وهذا خطأ ومن ادعى سقوط طاعة الله تعالى وسقوط طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم في مكان ما من الشريعة فقوله مطروح مردود ما لم يأت على صحة دعواه بنص ثابت فإن أتى به فسمعا وطاعة وإن لم يأت به فهو كاذب مفتر إلا أن يكون ممن لم تقم عليه الحجة فهو مخطىء معذور باجتهاده وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} وهذا عمدة ما موهوا به في إثبات القياس مع آية الاعتبار ومع قوله تعالى {فقلنا ضربوه ببعضها كذلك يحيي لله لموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} قال أبو محمد وهذا من أطرف ما شغبوا به من الجرأة على التمويه بكلام الله تعالى ووضعه في غير موضعه فهذا عظيم جدا نعوذ بالله من الخذلان وما فهم أحد قط له عقل أن للقياس في هذه الآية مدخلا أو طريقا أو نسبة بوجه من الوجوه وما هذه الآية إلا نص جلي أمر تعالى ذوي عدل من المؤمنين أن يحكما في الصيد المقتول بما يشبهه من النعم فهذا نص لا قياس وإنما كان يكون قياسا لو قالوا كما أمرنا تعالى إذا قتلنا الصيد المحرم علينا قتله أن نجزيه بمثله من النعم فكذلك إذا قتلنا شيئا من النعم حراما علينا لملك غيرنا له فواجب علينا أن نجزيه بمثله من الصيد وأيضا فكما قاسوا ملك الله تعالى الصيود فأوجبوا الجزاء على قاتلها مخطئا وخالفوا القرآن في ذلك قياسا على ملك الناس فواجب عليهم على أصلهم الفاسد أن يقيسوا ملك الناس من النعم ومن الصيد إذا قتله فيلزموه أن يجزيه بمثله إن كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 صيدا فمن النعم وإن كان من النعم فمثله من الصيد فهذا حقيقة القياس الذي إن قالوه كفروا وإن تركوا القياس وتناقضوا ووفقوا في تركهم له وأيضا فإن كانت هذه الآية متيحة للقياس فينبغي ألا يكون إلا حتى يحكم فيه ذوا عدل منا أو يكون عدل ذلك صياما فهكذا هو الحكم في الآية وأما الآية المذكورة فلا نسبة بينها وبين القياس البتة وإنما فيها أن الصيد يكون مثلا للنعم وهذا أمر لا ننكره فالعالم كله متماثل في بعض أوصافه وإنما أنكرنا أن نحكم في الديانة شيء لم يأت فيه ذلك الحكم من الله تعالى بمثل الحكم المنصوص فيما يشبهه فهذا هو الباطل والخطأ والحرام الذي لا يحل وبالله تعالى نتأيد واحتج أيضا بعضهم بقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا لا تقربوا لصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغآئط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم إن لله كان عفوا غفورا} وبقوله تعالى {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} قالوا فقستم واجد الثمن للماء والثمن للرقبة وإن لم يكن عنده رقبة ولا ماء على من عنده الرقبة والماء فلم تجيزوا لهما التيمم ولا الصيام قال أبو محمد وهذا من ذلك التمويه المعهود ويعيذنا الله تعالى أن نقول بالقياس في شيء من الدين وليس ما ذكروا قياسا ولكنه نص جلي بلا تأويل فيه البتة لأن الله تعالى إنما قال في آية كفارة قتل الخطأ والعود للظهار بعد إيجاب الرقبة {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من لله وكان لله عليما حكيما} ولم يقل تعالى فمن لم يجد رقبة ولكنه تعالى أطلق الوجود فكل وجود يتوصل به إلى عتق الرقبة فإنه مانع من الصيام فالواجب اتباعه لأنه موافق لظاهر الآية الذي لا يجوز خلافه وهكذا القول في كفارة الواطىء في نهار رمضان وأما التيمم لمن لم يكن له ماء وعنده ثمن يبتاع به الماء فإن أصحابنا قالوا ما ذكر هؤلاء ورأوا واجبا على من وجد ماء للشراء أن يبتاعه بقيمته في الوقت لا بأكثر وقال غيرهم بأكثر من قيمته ما لم يجحف به وقال الحسن البصري الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 يبتاعه بكل ما يملك إن لم يبع منه بأقل قال أبو محمد ولعل من حجة أصحابنا أن يقولوا إن قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} يقتضي بعموم هذا اللفظ واجده بالابتياع والاستيهاب كما يقول القائل أمر كذا موجود في السوق فيقولوا إن واجده بالابتياع والاستيهاب واجد للماء قال أبو محمد وأما نحن فلا يجوز عندنا بيع الماء البتة بوجه من الوجوه ولا بحال من الأحوال لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الماء فهذا عندنا على عمومه وقولنا هذا هو قول إياس بن عبد الله المزني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره فلا يجوز ابتياع الماء للوضوء البتة ولا للغسل لأنه منهي عن ابتياعه وهو غير واجد للماء فحكمه التيمم إلا أن يتطوع عليه صاحب الماء بأن يهبه إياه فذلك جائز وهو حينئذ واجد للماء مالك له ففرضه التطهر به وأما من اضطر إلى شرب الماء وخشي الهلاك من العطش ولم يجد من يتطوع له بماء يحيي به رمقه ففرض عليه إحياء نفسه كيف أمكن بغلبة أو بأخذه سرا مختفيا بذلك أو بابتياعه فإذا لم يقدر على غير البيع فابتاعه فهو حينئذ جائز له والثمن حرام على البائع وهو باق على ملك المبتاع المضطر وهو بمنزلة من اضطر إلى ميتة أو لحم خنزير فلم يجده مع ذلك إلا بثمن ففرض عليه أن يبتاعه لإحياء نفسه وكذلك ما يبذل من المال في فدى الأسرى وفي الرشوة لدفع المظلمة فهذا كله باب واحد وهو مباح للمعطي وحرام على الآخذ لأن المعطي مضطر والآخذ آكل مال بالباطل عاص لله تعالى نعوذ بالله ثم نعكس عليهم اعتراضهم هذا فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق إن كان هذا عندهم قياسا فيلزمهم أن يقولوا بقول الحسن في ابتياع الماء بكل ما يملك لأنه واجد له فلا يسعه التيمم مع وجود الماء كما يقولون فيمن لم يجد رقبة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 إلا بكل ما يملك وهو قادر على اكتساب ما يقوم بقوته وقوت عياله بعد ذلك فإنه لا يجزيه عندهم إلا ابتياع الرقبة بملكه كله فإن لم يقولوا في الماء كذلك فقد تناقضوا وتركوا القياس الذي يزعمون أنه دين وهذا ما لا انفكاك منه واحتجوا بقوله تعالى {ليس على لأعمى حرج ولا على لأعرج حرج ولا على لمريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبآئكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند لله مباركة طيبة كذلك يبين لله لكم لآيات لعلكم تعقلون} قالوا ولم يذكر تعالى بيوت الأولاد فوجب إباحة الأكل من بيوت الأولاد قياسا على الإباحة من بيوت الآباء قال أبو محمد وهذا في غاية الفساد والكذب ومعاذ الله أن تكون الإباحة للأكل من بيوت الأولاد قياسا على إباحة ذلك من بيوت الآباء والأقارب وما أبحنا الأكل من بيوت الأولاد إلا بنص جلي وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أطيب ما أكل أحدهم من كسبه وإن ولد أحدكم من كسبه فبهذا أبحنا الأكل من بيوت الأولاد ولكن يلزمهم إذا فعلوا ذلك قياسا بزعمهم على بيوت الآباء أن يسقطوا الحد على الابن الواطىء أمة أبيه كما أسقطوا الحد عن الأب إذا وطىء أمة ولده ولزمهم أن يسووا في جميع الأحكام بين الأبناء والآباء وسائر القرابات كما فعلوا ذلك قياسا على الأكل وإلا فقد تناقضوا وتركوا القياس واحتجوا بقول الله تعالى {لا جناح عليهن في آبآئهن ولا أبنآئهن ولا إخوانهن ولا أبنآء إخوانهن ولا أبنآء أخواتهن ولا نسآئهن ولا ما ملكت أيمانهن وتقين لله إن لله كان على كل شيء شهيدا} بقوله تعالى {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبآئهن أو آبآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن أو لتابعين غير أولي لإربة من لرجال أو لطفل لذين لم يظهروا على عورات لنسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى لله جميعا أيها لمؤمنون لعلكم تفلحون} قالوا فأدخلتم من لم يذكر في الآيتين المذكورتين من الأعمام والأخوال في حكم من ذكر فيهما قال أبو محمد وهذا ليس قياسا بل هو نص جلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة إنه عمك فليلج عليك وقال صلى الله عليه وسلم لا تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم فأباح لكل ذي محرم أن يسافر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 معها وإذا سافر معها فلا بد له من رفعها ووضعها ورؤيتها فدخل ذو المحارم كلهم بهذا النص في إباحة رؤية المرأة فبطل ظنهم أن ذلك إنما هو قياس وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقول الله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} قالوا فأدخلتم بنات البنين وإن سفلن وبنات البنات وإن سفلن والجدات وإن علون وعمات الآباء والأجداد وخالاتهم وعمات الأمهات والجدات وخالاتهن وإن بعدن في التحريم وإن لم يذكرن في آية التحريم قالوا وهذا قياس وكذلك أدخلتم تحريم ما نكح الأجداد وإن علوا وبنو البنين وإن سفلوا قياسا على تحريم ما نص عليه من نكاح نساء الآباء وحلائل الأبناء قال أبو محمد وهذه دعوى فاسدة بل هذا نص جلي وبنو البنين وبنو البنات وإن سفلوا وبنات البنين وبنات البنات وإن سفلن فإنه يقع عليهن في اللغة بنص القرآن اسم البنين والبنات وإن سفلن قال الله تعالى {يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس لتقوى ذلك خير ذلك من آيات لله لعلهم يذكرون} فجعلنا بنين له وبنو البنين بنون بالنص والجد والجدة وإن بعدا فاسم الأب والأم يقع عليهما كما قال تعالى {يابني آدم لا يفتننكم لشيطان كمآ أخرج أبويكم من لجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهمآ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا لشياطين أوليآء للذين لا يؤمنون} يعني آدم وحواء وهكذا القول فيمن سفل من أولاد الإخوة والأخوات ومن علا من الأعمام والأخوال والعمات والخالات فمن كنت من ولد أخيه فهو عمك وعمتك وأنت ابن أخيه وأخيها ومن كنت من ولد أخته فهو خالك وخالتك وأنت ابن أخته وأختها وإنما فرقنا بين أحكام بعض من يقع عليه الاسم الواحد في المواضع التي فوق النص أو الإجماع المنقول المتيقن بينهم فيها وهذا أيضا الذي ذكروا إجماع والإجماع لا يجوز خلافه ثم نقول لهم إذا فعلتم ذلك بزعمكم قياسا فيلزمكم أن تسووا أيضا قياسا بين كل من ذكرنا في الإنكاح والمواريث ووجوب الإنفاق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 وهم لا يفعلون ذلك فقد نقضوا أصلهم وأقروا بترك القياس وهكذا تكون الأقوال الفاسدة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقول الله تعالى في المطلقة ثلاثا {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود لله وتلك حدود لله يبينها لقوم يعلمون} قالوا فقستم وفاة هذا الزوج الثاني وفسخ نكاحه عنها على علاقة لها في كونها إذا مسها في ذلك حلالا المطلق ثلاثا قالوا لنا بل لم تقنعوا بذلك حتى قلتم إن كانت ذمية طلقها مسلم ثلاثا فتزوجها ذمي فطلقها بعد أن وطئها لم تحل بذلك لمطلقها ثلاثا ولا تحل إلا بموته عنها أو بفسخ نكاحه منها قال أبو محمد فالجواب وبالله تعالى التوفيق أننا أبحنا لها الرجوع إليه بالوفاة وبالفسخ لوجهين أحدهما الإجماع المتيقن والثاني النص الصحيح الذي عنه تم الإجماع وهو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرظية المطلقة ثلاثا أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك قال علي فهذا الحديث أعم من الآية وزائد على ما فيها فوجب الأخذ به ووجب أن كل ما كان بعد ذوق العسيلة مما يبطل به النكاح فهي به حلال رجوعها إلى الزوج المطلق ثلاثا لأنه صلى الله عليه وسلم إنما جعل الحكم الرافع للتحريم ذوق العسيلة في النكاح الصحيح فإذا ارتفع بذلك التحريم فقد صارت كسائر النساء فإذا خلت من ذلك الزوج بفسخ أو وفاة أو طلاق كان لها أن تنكح من شاءت من غير ذوي محارمها ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذوق العسيلة طلاقا من فسخ من وفاة وأيقنا أنه صلى الله عليه وسلم لم يبحها للزوج الأول وهي بعد في عصمة الزوج الثاني ولا خلاف بين أحد في ذلك وأما طلاق الذمي وسائر الكفار فليس طلاقا لأن كل ما فعل الكافر وقال غير اللفظ بالإسلام فهو باطل مردود إلا ما أوجب إنفاذه النص الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 أو الإجماع المتيقن المنقول أو أباحه له النص أو الإجماع كذلك فإذا لفظ بالطلاق فهو لغو لأنه لا نص ولا إجماع في جواز طلاقه فليس مطلقا وهو بعد في عصمته لصحة نكاحهم بالنص من إقرار النبي صلى الله عليه وسلم للكفار لما أسلموا مع نسائهم على نكاحهم معهن ولأنه صلى الله عليه وسلم من ذلك النكاح خلق وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم مخلوق من أصح نكاح ولا يحل لمسلم أن يمر بباله غير هذا ولم يمنع تعالى في الآية من إباحة رجعتها بعد وفاة الزوج أو فسخ نكاحه وإنما ذكر تعالى الطلاق فقط وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجمال لفظه الطلاق وغيره وقد كان يلزم من قال بذلك الخطاب منهم ألا يبيحها إلا بعد الطلاق لا بعد الفسخ والوفاة فهذه الآية حجة عليهم لا لهم وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إذا نكحتم لمؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} قالوا فقستم الكافرات في ذلك على المؤمنات قال أبو محمد وهذا خطأ وقد بينا في باب مفرد من كتابنا هذا لزوم شريعة الإسلام لكل كافر ومؤمن مستويا بقوله تعالى {وأن حكم بينهم بمآ أنزل لله ولا تتبع أهوآءهم وحذرهم أن يفتنوك عن بعض مآ أنزل لله إليك فإن تولوا فعلم أنما يريد لله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من لناس لفاسقون} فهذا لازم في كل حكم حاشا ما فرق النص والإجماع المتيقن فيه بين أحكامنا وأحكامهم وما كان كرامة لنا فإنه ليس لهم فيه حظ لقول الله تعالى {قاتلوا لذين لا يؤمنون بلله ولا بليوم لآخر ولا يحرمون ما حرم لله ورسوله ولا يدينون دين لحق من لذين أوتوا لكتاب حتى يعطوا لجزية عن يد وهم صاغرون} والصغار لا يجتمع مع الكرامة أصلا وأيضا فالأمة كلها مجمعة على أن حكم العدة في الطلاق وسقوطها على الذمية كحكمها على المسلمة والإجماع لا يجوز خلافه وأيضا فإن الآيات التي أوجب الله تعالى فيها العدد على المطلقات معلومة محصورة لا خلاف بين المسلمين أن المراد بها الممسوسات وأصل الناس كلهم على البراءة من وجوب الأحكام عليهم حتى يلزمهم الحكم نص أو إجماع وإلا فلا يلزم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 أحدا حكم إلا أن يلزمه إياه نص أو إجماع فبقيت الذمية المطلقة غير الممسوسة لم يأت قط بإيجاب عدة عليها فلم يجز لأحد أن يلزمها عدة لم يأت بها نص ولا إجماع ووجب المتعة لها ونصف الصداق بإيجاب الله تعالى ذلك لكل مطلقة فرض لها صداق المتعة خاصة لكل مطلقة وهي إحدى المطلقات فبطل ظن هؤلاء القوم والحمد لله رب العالمين واحتجوا بما في القرآن من الآيات التي فيها خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وحده مثل قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم لصلاة فلتقم طآئفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورآئكم ولتأت طآئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود لذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن لله أعد للكافرين عذابا مهينا} ومثل قوله تعالى {وآخرون عترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى لله أن يتوب عليهم إن لله غفور رحيم} وما أشبه ذلك قالوا فقلتم هي لازمة لنا ومباحة كلزومها النبي صلى الله عليه وسلم وإباحتها له قال أبو محمد وهذا من التخليط ما هو لأن النص حكم علينا بذلك إذ يقول {لقد كان لكم في رسول لله أسوة حسنة لمن كان يرجو لله وليوم لآخر وذكر لله كثيرا} وبقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وبغضبه صلى الله عليه وسلم على من تنزه عن أن يفعل مثل فعله فبطل تمويههم بأن هذا قياس وصح وجوب كل شريعة خوطب بها صلى الله عليه وسلم علينا ما لم ننه عن ذلك كقول النبي صلى الله عليه وسلم في الوصال لست كهيئتكم فلو قال قائل إن الذين تعلقوا به مما ذكروا هو حجة عليهم في إبطال القياس لكان حقا لنص النبي صلى الله عليه وسلم على أنه ليس كهيئتنا ولا كأحدنا ولا مثلنا وإذ ليس مثلنا والقياس عند القائلين به إنما هو قياس الشيء على مثله لا على ما ليس مثله فقد بطل القياس ههنا فيلزمهم ألا يحكموا على الناس بشيء خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وحده وإن فعلوا ذلك خرجوا من الإسلام فصح أنه لا مدخل لهذه الآيات ولا لهذا المعنى في القياس البتة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقول الله تعالى {هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 قال أبو محمد وهذه هي قاعدتهم بظنهم في القياس وما كانوا أبعد قط من القياس منهم في هذه الآية وما فهم قط ذو عقل من قول الله تبارك وتعالى {هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار} تحريم مد بلوط بمدي بلوط وما للقياس مجال على هذه الآية أصلا بوجه من الوجوه ولا علم أحد قط في اللغة التي بها نزل القرآن أن الاعتبار هو القياس وإنما أمرنا تعالى أن نتفكر في عظيم قدرته في خلق السموات والأرض وما أحل بالعصاة كما قال تعالى في قصة إخوة يوسف عليه السلام {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي لألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق لذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فلم يستح هؤلاء القوم أن يسموا القياس اعتبارا وعبرة على جاري عادتهم في تسمية الباطل باسم الحق ليحققوا بذلك باطلهم وهذا تمويه ضعيف وحيلة واهية وقد قال تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى * أم للإنسان ما تمنى} فأبطل الله تعالى كل تسمية قام بصحتها برهان إما من لغة مسموعة من أهل اللسان وإما منصوصة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم وما عدا ذلك فباطل وهل هذه الطريقة التي سلكوا من التمويه والغش بقلع الأسماء عن مواضعها وتحريف الكلم عن مواضعه إلا كمن سمى من النخاسين أواريهم بأسماء المدن ثم يحلف بالله لقد جاءت هذه الدابة أمس من بلد كذا تدليسا وغشا وأهل القياس جارون على هذه الطريقة في تسميتهم القياس عبرة واعتبارا ونسألهم في أي لغة وجدوا ذلك وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي لألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق لذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} فليت شعري أي قياس في قصة يوسف عليه السلام أترى أنه أبيح لنا بيع إخوتنا كما باعه إخوته أو ترى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 أن من باعه إخوته يكون ملكا على مصر ويغلو الطعام في أيامه أو ترى إذ قال الله تعالى {هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار} أنه أمرنا قياسا على ذلك أن نخرب بيوتنا بأيديهم وأيدينا قياسا على ما أمرنا الله تعالى أن نعتبر به من هدم بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين أما سمعوا قول الله تعالى {وإن لكم في لأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين * ومن ثمرات لنخيل ولأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون} أفيجوز لذي مسكة عقل أن يقول إن العبرة ههنا القياس وإن معنى هذه الآية {وإن لكم في لأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين} لقياسا أما يرى كل ذي حس سليم أن هذه الآية مبطلة للقياس لما قص تعالى عليه أنه يخرج من بين فرث حرام ودم لبنا حلالا وأننا نتخذ من تمر النخيل والأعناب مسكرا حراما خبيثا ورزقا حلالا وهما من شيء واحد فظهر أن تساوي الأشياء لا يوجب تساوي حكمها وصح أن معنى العبرة التعجب فقط هذا أمر يدريه النساء والصبيان والجهال حتى حدث من كابر الحس وادعى أن الاعتبار القياس مجاهرة بالباطل تالله ما قدرنا أن عاقلا يرضى لنفسه بهذه الخساسة وبهذا الكذب في الدين وبعاجل هذه الفضيحة نعوذ بالله والقوم كالفريق يتعلق بما وجد ولو لم يكن في إبطال القياس إلا هذه الآية لكفى لأن أولها قوله تعالى {هو لذي أخرج لذين كفروا من أهل لكتاب من ديارهم لأول لحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من لله فأتاهم لله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم لرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي لمؤمنين فعتبروا يأولي لأبصار} فنص الله تعالى كما نسمع على أنه أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم وأن المؤمنين لم يظنوا قط ذلك وأن الكفار لم يحتسبوا قط ذلك فثبت يقينا بالنص في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 هذه الآية أن أحكام الله عز وجل جارية على خلاف ما يحتسب الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم والقياس إنما هو يحتسبه القائسون لا نص فيه ولا إجماع كظن المالكي أن علة الربا الإدخار في المأكولات في الجنس وظن الحنفي أنها الوزن أو الكيل في الجنس وظن الشافعي أنها الأكل في الجنس وهذه كلها ظنون واحتسابات فصح أن أحكام الله تعالى تأتي بخلاف ما يقع في النفوس فهذه الآية أبين شيء في إبطال القياس والحمد لله رب العالمين وقد قوى بعضهم احتجاجهم بما ذكرنا في قوله {لمؤمنين} بما روي عن ابن عباس من قوله في دية الأصابع ألا اعتبرتم ذلك بالأسنان عقلها سواء وإن اختلفت منافعها قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن ابن عباس إنما أراد بقوله هلا اعتبرتم أي هلا تبينتم ذلك بالأصابع فاستبنتم لأن العبارة عن الشيء هو ما يتبين به الشيء أي هلا تبينتم أن اختلاف المنافع لا يوجب اختلاف الدية أو هلا فكرتم وعجبتم في الأصابع ورأيتم أن اختلاف منافعها لا يوجب اختلاف دياتها ولا اختلاف أحكامها كما أن الأسنان أيضا كذلك وهذا نص جلي من ابن عباس على إبطال القياس والعلل الموجبة عند القائلين بالقياس لاستواء الأحكام لأنهم يقولون إن الدية إنما هي عوض عن الأعضاء المصابة فيقيسون فقد السمع على فقد البصر في الدية لأن المنفعة بذلك متساوية فأبطل ابن عباس ذلك ورد إلى نص ولم يجد الأصابع أصلا للأسنان يقاس عليه ولا جعل الأسنان أصلا للأصابع يقاس عليه بل سوى بين كل ذلك تسوية واحدة وهذا هو ضد القياس لأن القياس عند القائلين به إنما هو رد الفرع إلى الأصل وليس ههنا أصل وفرع بل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 النص ورد أن الأصابع سواء وأن الأسنان سواء ورودا مستويا فبطل تمويههم الذي راموا به تصحيح أن القياس يسمى عبرة ولقد ناظرني كبيرهم في مجلس حافل بهذا الخبر فقلت له إن القياس عند جميع القائلين به وأنت منهم إنما هو رد ما اختلف فيه إلى ما أجمع عليه أو رد ما لا نص فيه إلى ما فيه نص وليس في الأصابع ولا في الأسنان إجماع بل الخلاف موجود في كليهما وقد جاء عن عمر المفاضلة بين دية الأصابع وبين دية الأضراس وجاء عنه وعن غيره التسوية بين كل ذلك فبطل ههنا رد المختلف فيه إلى المجمع عليه والنص في الأصابع والأسنان سواء ثم من المحال الممتنع أن يكون عند ابن عباس نص ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسوية بين الأصابع وبين الأضراس ثم يفتي هو بذلك قياسا فقال لي وأين النص بذلك عن ابن عباس فذكرت له الخبر الذي حدثناه عبد الله بن ربيع التميمي ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا سليمان بن الأشعث السجستاني ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ثنا شعبة بن الحجاج ثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأصابع سواء الأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء يعني الإبهام والخنصر فانقطع وسكت وزاد بعضهم جنونا فاحتج في إثبات القياس بقول الله تعالى {وقال لملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يأيها لملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون} قال أبو محمد وهذا من الجنون ما هو لأن العبارة إنما هي في اللغة البيان عن الشيء تقول هذا الكلام عبارة عن كذا وعبرت عن فلان إذا بينت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 عنه ولا مدخل للحكم في شيء من ذلك لشيء لم يذكر اسمه في الشريعة بالحكم في شيء ذكر فيها اسمه فعارضوا بأن قالوا العبور هو الجواز والتجاوز من شيء إلى شيء تقول عبرت النهر قالوا والقياس تجاوز شيء منصوص إلى شيء لا نص فيه قال أبو محمد هذا من المكابرة القبيحة لأن هذا من الأسماء المشتركة التي هي مثل ضرب من ضراب الجمل وهو سفادة الناقة وضرب بمعنى الإيلام بإيقاع جسم على جسم المضروب بشدة والضرب العمل وهكذا عبرت الرؤيا فسرتها وعبرت النهر أي تجاوزته فهذان معنيان مختلفان ليس أحدهما من الآخر في ورد ولا صدر ومصدر عبرت النهر إنما هو العبور ومصدر عبرت الرؤيا إنما هو العبارة ومصدر اعتبرت في الشيء إذا فكرت فيه الاعتبار والعبرة الاسم والعبرة والاستعبار التأهب للبكاء والأخذ فيه والعبرى نبات يكون على شطوط الأنهار والعبرانية لغة بني إسرائيل والعبير ضرب من الطيب فإذا قلنا إن معنى عبرت النهر إنما هو تجاوزته ومعنى عبرت الرؤيا إنما هو فسرتها فقد وضح أن هذا غير هذان ولو أن المعبر للرؤيا تجاوزها لما كان مبينا لها بل يكون تاركا لها آخذا في غيرها كما فعل عابر النهر إذا تجاوزه إلى البر والاعتبار أيضا معنى ثالث غير هذين بلا شك فخلط هؤلاء القوم وأتوا بالسفسطة المجردة وهو أن يأتي بألفاظ مشتركة تقع على معاني شتى فيخلط بها على الناس ليوهم أهل العقل أشياء تخرجهم عن نور الحق إلى ظلمة الباطل وقد حذر الأوائل من هذا الباب جدا وأخبروا أنه أقوى الأسباب في دخول الآفات على الأفهام وفي إفساد الحقائق وقد نبهنا نحن عليه في مواضع كثيرة من كتابنا هذا ومن سائر كتبنا وقد بينا ذلك في كتاب التقريب ولم نبق فيه غاية وبالله تعالى التوفيق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 ثم مع ذلك لم يقنعوا بهذا الباب من الباطل حتى زادوا عليه زيادة كثيرة وهو أنهم سموا القياس عبرة جرأة وتمويها والتسمية في اللغة والكلام المستعمل بيننا كله لا تخلو من وجهين لا ثالث لهما أحدهما اسم سمع من العرب والعرب لا تعرف القياس في الأحكام في جاهليتها لأنهم لم يكن لهم شريعة كتابية قبل محمد صلى الله عليه وسلم فبطل أن يكون للقياس عندهم اسم والقسم الثاني اسم شرعي أوقعه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على بعض أحكام الشريعة كالصلاة والزكاة والإيمان والكفر والنفاق وما أشبه ذلك وتعالى الله ورسوله عن أن يقيسا فبطل أن يكون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سميا القياس عبرة فهذان القسمان من الأسماء لازمان لكل متكلم بهذه اللغة ولكل مسلم وأما الأسماء التي يتفق عليها أقوام من الناس التفاهم في مرادهم فلذلك لهم مباح بإجماع إلا أنهم ليس لهم أن يلبسوا بذلك على الناس وهم في أعظم إثم وحرج إن سموا ما يخالفهم فيه غيرهم باسم واقع على معنى حقيقي ليلزموا خصومهم قبول ما خالفهم فيه تمويها على الضعفاء وعدوانا كمن سمى الخمر عسلا يستحلها بذلك لأن العسل حلال فبطل أن يسمي القياس عبرة أو اعتبارا وعلمنا أن أصحاب القياس الذي أحدثوا هذه البدعة هم الذين أحدثوا له هذا الاسم كما أنذر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم يأتون في آخر الزمان يسمون الخمر بغير اسمها ليستحلوها بذلك فقد فعل أصحاب القياس ذلك بعينه وسموا الباطل عبرة واعتبارا لهم ليصبح لهم باطلا بذلك لأن العبرة حق {يريدون أن يطفئوا نور لله بأفواههم ويأبى لله إلا أن يتم نوره ولو كره لكافرون} وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بآبدة أنست ما قبلها وهو أن بعضهم استدل على صحة القياس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 بقول الله تعالى واصفا لأمر آدم عليه السلام إذ تكشفت عورته عند أكل الشجرة فقال تعالى {فدلاهما بغرور فلما ذاقا لشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق لجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما لشجرة وأقل لكمآ إن لشيطآن لكما عدو مبين} قال أبو محمد إنما شرطنا أن نتكلم فيما يعقل وأما الهذيان فلسنا منه في شيء ولا ندري وجه القياس في تغطية آدم عورته بورق الجنة وليت شعري لو قال لهم خصمهم مجاوبا لهم بهذا الهذيان إن هذه حجة في إبطال القياس بماذا كانوا ينفكون منه وهل كان يكون بينه وبينهم فرق واحتجوا أيضا بقول الله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام إذ قال {إن لله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه لحق من ربهم وأما لذين كفروا فيقولون ماذآ أراد لله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا لفاسقين} قال أبو محمد وهذه كالتي قبلها وما يعقل أحد من إحياء الله عز وجل الطير قياسا ولا أنه يوجب أن يكون الأرز بالأرز متفاضلا حراما وأن الاحتجاج بمثل هذا مما ينبغي المسلم أن يخاف الله عز وجل فيه وما بين هذا وبين من احتج في إثبات القياس وفي إبطاله بقول الله تعالى {قل أعوذ برب لناس} فرق ولكن من لم يبال بما تكلم سهلت عليه الفضائح وليس العار عارا عند من يقلده واحتجوا بقول الله تعالى {مثل ما ينفقون في هذه لحياة لدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم لله ولكن أنفسهم يظلمون} وبقوله تعالى {كأنهن لياقوت ولمرجان} قال أبو محمد وهذا من نحو ما أوردناه آنفا من العجائب المدهشة بينما نحن في تحريم شيء لم يذكر تحريمه في القرآن والسنة ولا في الإجماع من أجل شبهه لشيء آخر حرم في النص حتى خرجنا إلى تشبيه الحور العين بالياقوت والمرجان فكل ذي عقل يدري أن الياقوت والمرجان يباع ويدق ويسرق ويخرج من البحر الملح وأنه لا يعقل ولا هو حيوان أفترى الحور العين يفعل بهن هذا كله تعالى الله عن ذلك وقد علم كل مسلم أن الحور العين عاقلات أحياء ناطقات يوطأن ويأكلن ويشربن فهل الياقوت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 والمرجان كذلك وإنما شبه الله تعالى الحور العين بالياقوت والمرجان في الصفاء فقط ونحن لا ننكر تشابه الأشياء وإنما ننكر أن نحكم المتشابهات بحكم واحد في الشريعة بغير نص ولا إجماع فهذا هو الزور والإفك والضلال وأما تشابه الأشياء فحق يقين وكذلك شبه الله تعالى بطلان أعمال الكفار ببطلان الزرع بالريح التي فيها الصر فأي مدخل للقياس ههنا أترى من بطل زرعه خالدا في جهنم كما يفعل بالكافر أو ترى الكافر إذا حبط عمله ذهب زرعه في فدانه كما يذهب زرع من أصاب زرعه ريح فيها صر هذا ما لا يقوله أحد ممن له طباخ وأما الحقيقة فإن هاتين الآيتين تبطلان القياس إبطالا صحيحا لأن الله تعالى مثل الحور العين بالياقوت والمرجان ومثل أعمال الكفار بزرع أصابته ريح فيها صر ولم يكن تشبيه الحور بالياقوت والمرجان يوجب للياقوت والمرجان الحكم أحكام الحور العين ولا للحور العين الحكم بأحكام الياقوت والمرجان ولا كان شبه عمل الكفار بالزرع الذاهب يوجب للزرع الحكم بأحكام أعمال الكفار من اللعين والبراءة والوعيد ولا لأعمال الكفار بأحكام الزرع من الانتفاع بتبنه في علف الدواب وغير ذلك فصح أن تشابه الأشياء لا يوجب لها التساوي في أحكام الديانة ولا شيء أقوى شبها من شيئين شبه الله عز وجل بعضها ببعض فإذا كان الشبه الذي أخبرنا الله تعالى به لا يوجب لذينك المتشابهين حكما واحدا فيما لم ينص فيه فبالضرورة تعلم أن الشبه لا يوجب لذينك المتشابهين حكما واحدا فيما لم ينص فيه فبالضرورة تعلم أن الشبه المكذوب المفترى من دعاوى أصحاب القياس أبعد عن أن يوجب لما شبهوا بينهما حكما واحدا وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقول الله تعالى {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 لعظام وهي رميم * قل يحييها لذي أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم * لذي جعل لكم من لشجر لأخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون * أوليس لذي خلق لسماوات ولأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو لخلاق لعليم} قال أبو محمد وهذا من عجائبهم وطوامهم ليت شعري ما في هذه مما يوجب القياس أو أن يحكم في ألا يكون الصدق أقل مما يقطع فيه اليد وأن يرجم اللوطي كما يرجم الزاني المحصن ولكاد احتجاجهم بهذه الآية أن يخرجهم إلى الكفر لأنه تعالى لم يوجب أنه يعيد العظام من أجل أنه أنشأها أول مرة ولا أخبر تعالى أن إنشاءه لها أول مرة يوجب أن يعيدها ومن ظن هذا فقد افترى ومع ذلك فلو كان إنشاء الله تعالى للعظام أو لا يوجب أن يحييها ثانية لوجب ضرورة إذا أفناها أيضا بعد أن أنشأها أولا أن يفنيها ثانية بعد أن أنشأها ثانية وهذا ما لا يقولونه ولا يقول به أحد من المسلمين إلا جهم بن صفوان وحده ولو كان ذلك أيضا لوجب أن يعيدهم إلى الدنيا ثانية كما ابتدأهم ونشأهم فيها أول مرة وهذا كفر مجرد لا يقول به إلا أصحاب التناسخ فقبح الله كل احتجاج يفر صاحبه من الانقطاع والإذعان للحق إلى ما يؤدي إلى الكفر فبطل تمويههم بهذه الآية وصح أن معناها هو اقتضاء ظاهرها فقط وهو أن القادر على خلق الأشياء ابتداء قادر على إحياء الموتى وقد بين الله تعالى نصا إذ يقول {ومن آياته أنك ترى لأرض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها لمآء هتزت وربت إن لذي أحياها لمحى لموتى إنه على كل شيء قدير} فبين عز وجل أنه إنما بين ذلك قدرته على كل شيء وإنما عارض الله تعالى بهذا قوما شاهدوا إنشاء الله تعالى للعظام من مني الرجل والمرأة أقروا بذلك وأنكروا قدرته تعالى على إنشائها ثانية وإحيائها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 فأراهم الله تعالى فساد تقسيمهم لقدرته كما قال في أخرى {أولم يروا أن لله لذي خلق لسماوات ولأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي لموتى بلى إنه على كل شيء قدير} فهذه كتلك وليس في شيء منها أن نحكم لما لا نص فيه بالحكم بما فيه نص من تحريم أو إيجاب أو إباحة أصلا وأن هذا كله باب واحد ليس بعضه مقيسا على بعض ولا أصلا والآخر فرعا وإقدام أصحاب القياس وجرأتهم متناسبة في مذاهبهم وفيما يؤيدونها نعوذ بالله من الخذلان واحتجوا أيضا بقول الله تعالى {وهو لذي يرسل لرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به لمآء فأخرجنا به من كل لثمرات كذلك نخرج لموتى لعلكم تذكرون} وبقوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 تعالى {يأيها لناس إن كنتم في ريب من لبعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في لأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل لعمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى لأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها لمآء هتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} ولقوله تعالى {ولله لذي أرسل لرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به لأرض بعد موتها كذلك لنشور} وبقوله تعالى {ونزلنا من لسمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب لحصيد} إلى قوله {ونزلنا من لسمآء مآء مباركا فأنبتنا به جنات وحب لحصيد} وبقوله تعالى {أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل لذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا} قال أبو محمد وهذا كله من جنس ما ذكرناه آنفا والمحتج بهذه الآيات في إثبات القياس في الأحكام إما جاهل أعمى لا يدري ما القياس وإما مموه لا يبالي ما قال ولا ما أطلق به لسانه في استدامة حاله ولو كان هذا قياسا لوجب أن يحيي الله الموتى كل سنة في أول الربيع ثم يموتون في أول الشتاء كما تفعل الثمار وجميع النبات وهذا مما لا يقوله إلا ممرو وإنما أخبر تعالى في كل هذه الآيات بأنه يحيي الموتى ويقدر على كل ذلك لا على أن بعض ذلك مقيس على بعض البتة وذكروا أيضا في ذلك قول الله تعالى {ويقول لإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا * أولا يذكر إلإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} وبقوله تعالى {يأيها لناس إن كنتم في ريب من لبعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في لأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل لعمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى لأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها لمآء هتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} {يأيها لناس إن كنتم في ريب من لبعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في لأرحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل لعمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى لأرض هامدة فإذآ أنزلنا عليها لمآء هتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} قال أبو محمد هذا هو إبطال القياس على الحقيقة لأنه لا سبيل إلى أن يخلق ثانية من نطفة ولا من علقة ولا من مضغة فإنما معنى هذه الآية من الله تعالى علينا وتذكيره لنا بقدرته على ما يشاء لا إله إلا هو وكذلك الآية التي قبلها أن الإنسان لم يك شيئا ثم خلق ولا سبيل إلى أن يعود لا شيء أبدا بل نفسه عائدة إلى حيث رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ويعود الجسم ترابا ثم يجمعان يوم القيامة فيخلد حيا باقيا أبد الأبد بلا نهاية ولا فناء في نعيم أو عذاب فبطل القياس ضرورة من حيث راموا إثباته تمويها على اغترابهم وهذه الآيات كلها هي بمنزلة قوله تعالى {أأنتم أشد خلقا أم لسمآء بناها * رفع سمكها فسواها} فإنما بين قدرته على ما شاهدنا وعلى ما أخبرنا به مما لم نشاهد وهذا إبطال للقياس ولظنون الجهال لأن الله تعالى نص على تشابه الأشياء كلها بعضها لبعض ولم يوجب من أجل ذلك التشابه أن تستوي في أحكامها وهذا هو نفس قولنا في إبطال القياس في تسوية الأحكام بين الأشياء المشتبهات وبالله التوفيق ومثل ذلك قوله تعالى {وضرب لهم مثل لحياة لدنيا كمآء أنزلناه من لسماء فختلط به نبات لأرض فأصبح هشيما تذروه لرياح وكان لله على كل شيء مقتدرا} وكقوله تعالى {إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب لجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون} الآيات إلى قوله تعالى {كذلك لعذاب ولعذاب لآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} قال أبو محمد ولا شبه أقوى من شبه شهد الله تعالى بصحبته فإذا كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 الله تعالى قد شبه الحياة الدنيا بالنبات النابت من الماء النازل من السماء فهي أشبه الأشياء به وشبه تلف جثث أولئك العصاة بالعدل وذلك لا يوجب استواءهما في شيء من الحكم في الشريعة غير الذي نص الله تعالى عليه من البلى بعد الجدة فقط فبطل ظنهم الفاسد والحمد لله رب العالمين وكذلك أيضا قوله تعالى {محمد رسول لله ولذين معه أشدآء على لكفار رحمآء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من لله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر لسجود ذلك مثلهم في لتوراة ومثلهم في لإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فستغلظ فستوى على سوقه يعجب لزراع ليغيظ بهم لكفار وعد لله لذين آمنوا وعملوا لصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} قال أبو محمد وذلك الزرع يرعى وليس متعبدا ولا جزاء عليه في الآخر والقوم الذين شبهوا به ولا شك أنهم خلاف ذلك وأنهم متعبدون مجازون بالجزاء التام في الآخرة وأن العجب ليكثر من عظيم تمويههم في الدين وتدليسهم فيه باحتجاجهم بهذه الآيات في القياس وما عقل قط ذو مسكة عقل أنه يجب في هذه الآيات تحريم بيع التبن بالتبن متفاضلا إذا حرم بيع التمر بالتمر متفاضلا وما قائل هذا قريب من الاستخفاف بالقرآن والشرائع ونعوذ بالله من هذا واحتج بعضهم في إثبات القياس بآبدة أنست ما تقدم وهو أنه قال من الدليل على صحة القياس قول الله تعالى {ولمرسلات عرفا} قال فأشار إلى العرف قال أبو محمد وهذا دليل على فساد عقل المحتج به في إثبات القياس وقلة حيائه ولا مزيد وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ونسأله التوفيق ولا عرف إلا ما بين الله تعالى نصا أنه عرف وأما عرف الناس فيما بينهم فلا حكم له ولا معنى وما عرف الناس مذ نشؤوا إلا الظلم والمكوس واحتجوا أيضا بأن قالوا قال الله عز وجل {ولبلد لطيب يخرج نباته بإذن ربه ولذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف لآيات لقوم يشكرون} قالوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 فإذا جاء النص بجلد قاذف المحصنات وأنتم تجلدون قاذف الرجال المحصنين كما تجلدون قاذف المحصنات من النساء وهذا قياس قال أبو محمد وهذا ظن فاسد منهم وحاشا لله أن يكون قياسا ونحن نبدأ فنبين بحول الله وقوته من أين أوجبنا جلد قاذف الرجال من نص القرآن والسنة فإذا ظهر البرهان على ذلك لائحا بحول الله وقوته وأنه من النص عدنا إلى بيان أنه لا يجوز أن يكون قياسا وأنه لو استعمل ههنا القياس لكان حكمه غير ما قالوا وبالله تعالى التوفيق فنقول وبالله تعالى نتأيد إن قول الله عز وجل {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} عموم لا يجوز تخصيصا إلا بنص أو إجماع فممكن أن يريد الله تعالى النساء المحصنات كما قلتم وممكن أن يريد الفروج المحصنات وهذا غير منكر في اللغة التي بها نزل القرآن وخاطبنا بها الله تعالى قال الله عز وجل {وأنزلنا من لمعصرات مآء ثجاجا} يريد من السحاب المعصرات فقلنا نحن إنه أراد الفروج المحصنات وقلتم أنتم إنه أراد النساء المحصنات فوجب علينا ترجيع دعوانا بالبرهان الواضح فقلنا إن الفروج أعم من النساء لأن الاقتصار بمراد الله تعالى على النساء خاصة تخصيص لعموم اللفظ وتخصيص العموم لا يجوز إلا بنص أو إجماع وأيضا فإن الفروج هي المرمية لا غير ذلك من الرجال والنساء برهان ذلك ما قاله تعالى {ولذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} وقال تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون} {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن لله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبآئهن أو آبآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن أو لتابعين غير أولي لإربة من لرجال أو لطفل لذين لم يظهروا على عورات لنسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى لله جميعا أيها لمؤمنون لعلكم تفلحون} وقال تعالى {إن لمسلمين ولمسلمات ولمؤمنين ولمؤمنات ولقانتين ولقانتات ولصادقين ولصادقات ولصابرين ولصابرات ولخاشعين ولخاشعات ولمتصدقين ولمتصدقات ولصائمين ولصائمات ولحافظين فروجهم ولحافظات ولذاكرين لله كثيرا ولذاكرات أعد لله لهم مغفرة وأجرا عظيما} وقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 تعالى {ومريم بنة عمران لتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من لقانتين} فصح أن الفرج هو المحصن وصاحبه هو المحصن له بنص القرآن حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد بن نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه أنا عبد الرزاق ثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ما رأيت أن شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه وبه إلى مسلم ثنا إسحاق بن منصور أنا هشام المخزومي هو ابن سلمة ثنا وهيب بن خالد ثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطا والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه قال أبو محمد فصح يقينا أن المرمية هي الفروج خاصة وأن المحصنة على الحقيقة هي الفروج إلا ما عداها وصح أن الزنى الواجب فيه الحد هو زنى الفروج خاصة لا زنى سائر الأعضاء ولا زنى النفس دون الفرج فلا حد في النص كما أوردنا في زنى العينين ولا في الرجلين ولا في زنى اللسان ولا في زنى الأذنين ولا في زنى القلب الذي هو مبعث الأعمال وصح أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 من رمى العينين بالزنى أو رمى الرجلين بالزنى أو رمى القلب بالزنى أو رمى الأذنين بالزنى أو رمى اليدين بالزنى أو رمى أي عضو كان بالزنى ما عدا الفرج فليس راميا ولا حد عليه بالنص لأن الفرج إن كذب فهو كله لغو فصح يقينا أن الرمي الذي يحد فيه الحدود ورد الشهادة والتفسيق إنما رمي الفروج بلا شك بيقين لا مرية فيه فإذ ذلك كذلك فقد صح أن مراد الله تعالى بالحدود ورد الشهادة في الآية المتلوة إنما هي رمي الفروج فقط فصح قولنا بيقين لا مجال للشك فيه وهذا إذ هو كذلك ففروج الرجال والنساء داخلات في الآية دخولا مستويا ثم نسألهم فنقول لهم أخبرونا عن قول الله تعالى {ولذين يرمون لمحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء فجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم لفاسقون} إذ قلتم أنه تعالى أراد بهذه اللفظة ههنا النساء فقط هل أراد الله أن يحد قاذف الرجل أم لا ولا بد من إحداهما فإن قالوا لم يرد بقوله تعالى فقد حكموا على أنفسهم أنهم يحكمون بخلاف ما أراد الله تعالى وكفونا أنفسهم وإن قالوا إن الله تعالى أراد أن يحد قاذف الرجل قلنا لهم إن هذا عجب أن يكون تعالى يريد في دينه وعلمه من عباده أن يحد قاذف الرجل ثم لا يأمرنا إلا بحد قاذف النساء فقط حاشا لله من ذلك فإنه تلبيس لا بيان فإن قالوا اقتصر على النساء ونبهنا بذلك على حكم قاذف الرجال قلنا له هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ولم تأتوا بأكثر من الدعوى الكاذبة التي فيها خالفناكم فإن كانت عندكم حجة من نص جلي على صحة هذه الدعوى وإلا فهي كذب بحت ولستم بصادقين فيها بنص القرآن قالوا الإجماع قد صح على وجوب حد قاذف الرجل قلنا لهم وأي دليل لكم في الإجماع والإجماع لنا لا لكم لأن الإجماع إنما كان من هذا النص المذكور فهاتوا دليلا على أنه كان عن قياس ولا سبيل لهم إلى دليل ذلك أصلا لا برهاني ولا إقناعي ولا شغبي وظهر بطلان قولهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 والحمد لله رب العالمين ثم نعود إلى إبطال أن يكون حد قاذف الرجل قياسا جملة ولا بد فنقول وبالله تعالى نتأيد إننا وجدنا أحكام الرجال والنساء تختلف في مواضع فالرجال عليهم الجمعات والجماعات فرضا والنساء لا تلزمهن جمعة ولا جماعة فرضا وقد استووا في حكم سائر الصلاة والزكاة والمرأة لا تسافر في غير واجب إلا مع زوج أو ذي محرم والرجل يسافر حيث شاء دون زوجة ودون ذي محرم والخوف عليه من أن يزني كالخوف عليها من أن تزني ولا فرق لأن زناها لا يكون إلا مع رجل وحكمهن في اللباس مخالف لحكم الرجل فلا يجوز للرجل لباس القمص والعمائم والسراويل في الإحرام وهذا مباح للنساء واستووا في تحريم الطيب عليهم وعليهن في الإحرام والرجال عليهم الصلاة مع الإمام بمزدلفة صلاة الصبح ومباح للنساء السفر قبل ذلك فاستووا فيما عدا ذلك والجهاد على الرجال ولا جهاد على النساء وشهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل وخصومنا ههنا لا يقبلون النساء أصلا إلا في الأموال مع رجل ولا بد وفي عيوب النساء والولادات فقط ويقبلون الرجال فيما عدا ذلك ولا يقيسون الرجال عليهن ولا يقيسوهن على الرجال وليس هذا إجماعا ودية المرأة نصف دية الرجل وكثير من الحاضرين من خصومنا ههنا يسوون بينهن وبين الرجال في مقدور محدود من الديات ويفرقون بين أحكامهم وأحكامهن في سائر ذلك ولا يقيسون النساء على الرجال ولا الرجال على النساء وحد المرأة كحد الرجل في القذف والخمر والزنى والقتل والقطع في السرقة وفرق بين الحاضرين من خصومنا في التغريب في الزنى بين الرجال والنساء وفرق آخرون منهم في حد الردة بين الرجال والنساء فرأوا قتل الرجل في الردة ولم يروا قتل المرأة في الردة وتركوا القياس ههنا وللرجل أن ينكح أربعا ويتسرى ولا يحل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 للمرأة أن تنكح إلا واحدا ولا تتسرى ولم يقيسوا عليهن إلى كثير مثل هذا اكتفينا منه بهذا المقدار فلما وجدنا أحكام الرجال وأحكام النساء تختلف كثيرا وتتفق كثيرا على حسب ورود النص في ذلك فقط بطل أن يقاس حكم الرجال على النساء إذا اقتصر النص عن ذكرهن أو أن تقاس النساء على الرجال إذا اقتصر النص على ذكرهم إذ ليس الجمع بين أحكامهن وأحكام الرجال حيث لم يأت النص بالتفريق قياسا على ما جاء النص فيه متساويا بين أحكامهن وأحكامهم أولى من التفريق بين أحكامهن وأحكام الرجال حيث لم يأت النص بالجمع قياسا على ما جاء النص فيه مفرقا بين أحكامهن وأحكامهم وهذا في غاية الوضوح والحقيقة بلا شك فيها فلو كان القياس حقا لكان قياس قاذف الرجل في إيجاب الحد عليه على قاذف المرأة باطلا متيقنا لا يجوز الحكم به أصلا فارتفع توهمهم جملة والحمد لله رب العالمين ومن أوضح برهان على أن حد قاذف الرجل ليس عن قياس على قاذف المرأة بالزنى أن بعد أمر الله بجلد قاذف المحصنات بسطر واحد فقط قوله تعالى {ولذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بلله إنه لمن لصادقين} الآيات فلا خلاف بين أحد من الأمة أنه لا يقاس قاذفة زوجها أن تلاعن على قاذف زوجته أن يلاعن فلو كان القياس حقا لما كان قياس قاذف الرجل على قاذف المرأة أن يجلد الحد أولى ولا أصح من قياس قاذف زوجته أن تلاعنه أيضا ولا يجد أحد فرق بين الأمرين أصلا فصح أن القياس باطل إذ لو كان حقا لاستعمله الناس في الملاعنة وصح أن جلد قاذف الرجل ليس عن قياس وأنه عن نص كما ذكرنا وبالله التوفيق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 واحتج بعضهم بقول الله تعالى {هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب} قال أبو محمد وجمجم هذا المحتج ولم يصرح على ههنا أشياء من القرآن مفتقرة إلى القياس قال أبو محمد وهذا كلام يسيء الظن بمعتقد قائله ولا قول أسوأ من قول من قال إن الله تعالى شبه على عباده فيما أراد منهم وفيما كلفهم وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين تلك الأشياء وتركها مهملة واحتاجوا فيها إلى قياسهم الفاسد وقد بينا الكلام في باب مفرد في ديواننا هذا وأخبرنا أنه لا يحل لأحد أن يتبع متشابه القرآن ولا أن يطلب معنى ذلك المتشابه وليس إلا الإقرار به وأنه من عند الله تعالى كما قال عز وجل في آخر الآية المذكورة {هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب} وأخبر تعالى فيها فقال {هو لذي أنزل عليك لكتاب منه آيات محكمات هن أم لكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه بتغاء لفتنة وبتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا لله ولراسخون في لعلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا لألباب} فنص تعالى على أن من طلب تأويل المتشابه فهو زائغ القلب مبتغي فتنة ونحن نبرأ إلى الله من هذه الصفة فثبت بالنصوص ضرورة أن تأويل المتشابه لا يعلمه أحد إلا الله عز وجل وحده فقط لأن ابتغاء معرفته حرام وما حرم ابتغاء معرفته فقد سد الباب دون معرفته ضرورة إذ لا يوصل إلى شيء من العمل إلا بعد ابتغائه فما حرم ابتغاؤه فلا سبيل إلى الوصول إليه وهذا بين لا خفاء فيه وطرق المعارف معروفة محصورة وهي الحواس والعقل اللذان ركبهما الله في المتعبدين من الحيوان وهم الملائكة والجن ومن وضع من ذلك فيه شيء من الإنس ثم ما أمر الله بتعرفه وتعرف حكمه فيه مما جاء من عنده عز وجل وهو القرآن والسنة فقط وهذه كلها طرق أمرنا بسلوكها والاستدلال بها وقد نهينا عن طلب معنى المتشابه فصح أنه لا يوصل إلى معرفة معناه من جهة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 شيء من الحواس ولا من المعقول ولا من القرآن ولا من السنة فإذا كان الأمر كذلك فلا سبيل لمخلوق إلى معرفته إلا أن الذي صح في الآي المحكمات التي أمرنا الله بتدبرها وبتعلمها وبطلب تأويلها والتفقه فيها فطاعة القرآن فيما أمر الله تعالى فيه ونهى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في الذي أمر فيه ونهى وترك التعدي لهذه الحدود وبطلان ما عداها فبطل القياس ضرورة لأنه غير هذه الحقائق والحمد لله رب العالمين واحتجوا فقالوا حرم الله تعالى لحم الخنزير فحرمتم شحمه والأنثى منه وهذا قياس قال أبو محمد وهذا ظن فاسد منهم ومعاذ الله أن نحرم شحم الخنزير وأنثاه بقياس بل بالإجماع الصحيح وبالنص في القرآن ولو كان الشحم كحكم اللحم لوجب إذ حرم على بني إسرائيل الشحم أن يحرم عليهم اللحم فإذا لم يكن ذلك فقد صح أن الشحم لم يحرم من الخنزير قياسا على اللحم ومن الطرائف أن المحتجين بهذا يقولون أو أكثرهم إن الشحم جنس غير اللحم ويجيزون رطل لحم برطلي شحم حتى إن جمهورهم وهم صحاب أبي حنيفة يرون شحم الظهر غير شحم البطن فيجيزون رطل شحم بطن برطلي شحم الأوز فأين هذيانهم إنه إنما حرم شحم الخنزير قياسا على لحمه والشافعيون والحنفيون والمالكيون يقولون من حلف ألا يأكل شحما فأكل لحما فإنه لا يحنث ولا خلاف بينهم أن من قال لآخر ابتع لي بهذا الدرهم لحما فابتاع له به شحما فإنه ضامن فبطل قياسهم البارد إن الشحم من الخنزير مقيس على لحمه ولا خلاف بينهم أن العظم لا نسبة بينه وبين اللحم ولا يجوز أن يقاس عليه ونحن وهم مجمعون على أن من سحق عظم الخنزير فاستفه فقد عصى الله تعالى فصح ضرورة أنه لم يحرم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 شحمه قياسا على لحمه ولا أنثاه قياسا على ذكره وبطل تمويههم والحمد لله وإنما حرم شحم الخنزير وغضروفه ودماغه ومخه وعصبه وعروقه وجلده وشعره وعظمه وعضله وسنه وظلفه وملكه والأنثى منه ولبنها بقول الله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} والضمير في لغة العرب راجع إلى أقرب مذكور وقد أفردنا لذلك بابا في كتابنا هذا وأقرب مذكور إلى الضمير الذي في {يأيها لذين آمنوا إنما لخمر ولميسر ولأنصاب ولأزلام رجس من عمل لشيطان فجتنبوه لعلكم تفلحون} هو الخنزير لا اللحم فالخنزير كله بالنص رجس والرجس كله خبيث محرم بقول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا إنما لخمر ولميسر ولأنصاب ولأزلام رجس من عمل لشيطان فجتنبوه لعلكم تفلحون} فرجع الضمير في قوله تعالى إلى الرجس لأنه تعالى لو أراد الأربعة المذكورة في أول الآية لقال فاجتنبوها فلما لم يقل تعالى ذلك ولم يجز أن يكون الضمير راجعا في قوله تعالى {يأيها لذين آمنوا إنما لخمر ولميسر ولأنصاب ولأزلام رجس من عمل لشيطان فجتنبوه لعلكم تفلحون} إلى الشيطان لأننا غير قادرين على اجتنابه صح ضرورة أنه راجع إلى الرجس وعمل الشيطان فكان الرجس كله محرما وهو من عمل الشيطان محرم مأمور باجتنابه فكل ما كان رجسا فهو باجتنابه والخنزير رجس فكله محرم مأمور باجتنابه وكذلك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وكل رجس بالنص المذكور وبالله تعالى التوفيق وإنما قلنا هذا حسما للأقوال وإنما فالضمير راجع إلى عمل الشيطان والرجس بنص الآية من عمل الشيطان فهو مأمور باجتنابه بيقين والخنزير رجس بنص القرآن والخنزير كله حرام والخنزير في لغة العرب التي بها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 خوطبنا اسم للجنس يقع تحته الذكر والأنثى والصغير والكبير فبطل ما ظنوا أن تحريم الشحم إنما هو جهة القياس وبالله تعالى التوفيق ثم نقول لهم أخبرونا عن قول الله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} ماذا أراد به عندكم اللحم وحده دون الشحم فإن قلتم ذلك فقد أباح الشحم على قولكم وهذا خلاف الإسلام وخلاف قولكم أم أراد به الشحم واللحم والعظم واللبن فهذا باطل لأن كل ذلك يقع عليه عند أحد اسم لحم فقد حصل قولكم بين كذب وكفر لا بد من إحداهما فإن قالوا حرم اللحم ودل بذلك على الشحم قلنا هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين وفي هذا خالفناكم وكذبنا دعواكم فحصلوا في ضلال محض واحتج بعضهم بأن قال يلزمكم ألا تبيحوا قتل الكفار إلا بضرب الرقاب فقط لقول الله تعالى {فإذا لقيتم لذين كفروا فضرب لرقاب حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا لوثاق فإما منا بعد وإما فدآء حتى تضع لحرب أوزارها ذلك ولو يشآء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض ولذين قتلوا في سبيل لله فلن يضل أعمالهم} قال أبو محمد والجواب بأن الله تعالى إنما قال هذا في المتمكن منهم من الكفار وهذا فرض بلا شك ولا يحل خلافه فمن أراد الإمام قتله من الأسارى لم يحل قتله إلا بضرب الرقبة خاصة لا بالتوسيط ولا بالرماح ولا بالنبل ولا بالحجارة ولا بالخنق ولا بالسم ولا بقطع الأعضاء وأما من لا يتمكن منه فقد قال تعالى {إذ يوحي ربك إلى لملائكة أني معكم فثبتوا لذين آمنوا سألقي في قلوب لذين كفروا لرعب فضربوا فوق لأعناق وضربوا منهم كل بنان} وقال تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} فقتل هؤلاء واجب كيف ما أمكن بالنص المذكور وهذا لا نعلم فيه خلافا وهو ظاهر الآيات المذكورات ويبين أن المراد بالآية التي فيها ضرب رقاب الأسرى فقط قوله تعالى في تلك الآية بعينها {هو لذي أنزل لسكينة في قلوب لمؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود لسماوات ولأرض وكان لله عليما حكيما} فاستثنى الأسرى من جملة قوله تعالى {إذ يوحي ربك إلى لملائكة أني معكم فثبتوا لذين آمنوا سألقي في قلوب لذين كفروا لرعب فضربوا فوق لأعناق وضربوا منهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 كل بنان} و {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} وقال بعضهم أيضا يلزمكم ألا تجيزوا أن يبدأ في غسل الذراعين في الوضوء إلا من الأنامل لقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا إذا قمتم إلى لصلاة فغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى لمرافق ومسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى لكعبين وإن كنتم جنبا فطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جآء أحد منكم من لغائط أو لامستم لنسآء فلم تجدوا مآء فتيمموا صعيدا طيبا فمسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد لله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} قال أبو محمد وهذا خطأ وقول فاسد لأن الله تعالى لم ينص على أن يبدأ في ذلك من مكان من اليدين بعينه وإنما جعل عز وجل المرافق نهاية موضع الغسل لا نهاية عمل الغسل فكيف ما غسل الغاسل ما بين أطراف الأنامل إلى نهاية المرافق فقد فعل ما أمر به في النص ولا مزيد واحتج بعضهم بقول الله تعالى {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا لشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بلله وليوم لآخر ومن يتق لله يجعل له مخرجا} قالوا وإنما قال ذلك تعالى في الطلاق والرجعة يعني اشتراط العدالة واشترط تعالى الرضا في الرجل والمرأتين في الديون فقط فكان ذلك في سائر الأحكام قياسا على الطلاق والرجعة قال أبو محمد وهذا الاحتجاج من غريب نوادرهم فأول ذلك أن المحتج بهذا إن كان مالكيا فقد نسي نفسه في إباحتهم شهادة الطبيب الفاسق وفي شهادة الصبيان في الدماء والجراحات خاصة وهم غير موصوفين بعدالة ولم يقس على ذلك الصبايا ولا تحريق الثياب وإن كان حنفيا فقد نسي نفسه في قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض ونقضهم كلهم هذا الأصل في رد شهادة العبيد العدول والأقارب العدول وأما نحن فلم نأخذ قبول شهادة العدول فيما عدا الطلاق والرجعة والديون قياسا على ذلك ونعوذ بالله من هذا وإنما لزم قبول العدول في كل موضع حاشا ما استثناه النص من قبول شهادة الكفار في الوصية في السفر فقط في قول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيببوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فنهانا الله تعالى عن قبول الفاسق ليس في البالغين العقلاء وإلا فاسق أو عدل فوجب علينا التبين في كل شاهد وكل مخبر حتى نعلم أفاسق هو فلا نعمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 بخبره ولا بشهادته إذا أنبأنا بها أو نعلم أهو عدل فنعمل بخبره وشهادته فبطل ظن هذا الجاهل وأما قبول عدلين في سائر الأحكام فقد كان يلزم هذا الجاهل إن التزم القياس أن يقيس جميع الشهادات في السرقة والقذف والخمر والقصاص والقتل على الشهادة في الزنى فلا يقبل في شيء مما ذكرنا إلا أربعة شهداء لا أقل لأن الحدود بالحدود أشبه من الحدود بالطلاق والرجعة والديون والزنى حد وكل ما ذكرناه في السرقة والقذف والخمر حد وكان يلزمه أيضا أن يقيس على الديون فيقبل في سائر الأشياء رجلا وامرأتين كما جاء النص في الأموال وإلا فلأي معنى وجب أن يقاس على الرجعة والطلاق دون أن يقاس على الديون فإن ادعى الإجماع قيل له كذبت وجهلت فالحسن البصري لا يقبل في القتل إلا أربعة شهداء عدول وهذا عمر بن الخطاب وعطاء بن أبي رباح يقبلان في الطلاق النساء دون الرجال وعطاء يقبل في الزنى ثماني النسوة وأبو حنيفة يقبل في الطلاق والرجعة والنكاح رجلا وامرأتين ولا يقبل ذلك في الحدود وقول الحسن أدخل في القياس لأن القتل أشبه بالزنى الذي يكون فيه القتل في الإحصان فهو قتل وقتل فالقتل بالقتل أشبه من القتل بالطلاق وقول عمر وعطاء أشبه بالقياس لأنهما جعلا مكان كل رجل امرأتين وجلد الزنى جلد وجلد القذف والخمر جلد فالجلد بالجلد أشبه من الجلد بالرجعة في النكاح وهذا ما لا يحل يخيل على من له أدنى حس سليم لا سيما المالكيين الذين يقولون بقياس القتل على الزنى أنه إن عبر عن القاتل أن يجلد مائة سوط ويغرب سنة قياسا على الزاني غير المحصن فهلا قلدوه عليه فيما يقبل عليه من عدد الشهود ولكن هكذا يكون من سلك السبل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 فتفرقت به عن سبيل الله تعالى والعجب أن مالكا أجاز في القتل شاهدا واحدا وأيمان الأولياء وهذا قياس على الشاهد واليمين في الأموال فلا أجاز ذلك في الطلاق والنكاح والعتق وغير ذلك وأي فرق بين هذه الوجوه نعوذ بالله من التخليط والآراء والمقاييس الفاسدة في دين الله تعالى واحتج بعضهم في ذلك بالآية الواردة في تعبير الرؤيا وهذا تخليط ما شئت والرؤيا قتل كل كلام لا يقطع بصحتها وقد تكون أضغاثا والحكم في الدين استباحة للدماء والفروج والأموال وإيجاب العبادات وإسقاط لكل ذلك ولا يجوز الحكم في شيء من ذلك برؤيا أحد دون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وإذا كانت هذه الرؤيا التي جعلها هذا المحتج أصلا لتصحيح القياس لا يجوز القطع بها في دين الله تعالى فالقياس الذي هو فرعها أبعد من ذلك على قضيته الفاسدة التي رضيها لنفسه وأيضا فإن كثيرا من الرؤيا يفسر فيها الشيء بضده فيحمد القيد والسواد ويذم العرس وليس هذا من القياس في ورود ولا صدر ولو كان ذلك في القياس لوجب إذا جاء النص بالأمر أن يفهم منه النهي أو بالنهي أن يفهم منه ضده وهذا عكس الحقائق وبالجملة فهذا شغب فاسد ضعيف لأن الحكم بالقياس عندهم إنما هو أن يحكم المسكوت عنه بحكم المنصوص عليه وهذا هو غير العمل في الرؤيا جملة ومن شبه دينه بالرؤيا وفيها الأضغاث وما تتحدث به النفس فقد كفى خصمه مؤنته وبالله تعالى التوفيق وذكروا أيضا قول الله تعالى {ولقد صرفنا للناس في هذا لقرآن من كل مثل فأبى أكثر لناس إلا كفورا} وقوله تعالى {وتلك لأمثال نضربها للناس وما يعقلهآ إلا لعالمون} قال أبو محمد صدق الله تعالى وكذب أصحاب القياس وما أنكر ضرب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 الله تعالى الأمثال إلا كافر بل قد ضرب الله عز وجل الأمثال في إدبار الدنيا بالزرع وفي أعمال الكفار بسراب بقيعة وفي الظالمين بالأمم السالفين فهذا لا يعقله فيغبط به إلا العالمون ولعمري إن من صرف هذا الأمثال عما وضعها الله تعالى له إلى تحريم القديد بالقديد إلا مثل بمثل أو البتة وإلى أن على المرأة الموطوءة في نهار رمضان عتق رقبة وإلى أن الصداق لا يكون إلا عشرة دراهم أو ربع دينار وإلى أن من لاط حد حد الزنى لجريء على القول على الله تعالى بغير علم وليت شعري لو ادعى خصمهم عليهم واستحل ما يستحلونه فادعى في هذه الآيات أنها تقتضي ضد مذاهبهم فيما ذكرنا أكان بينه وبينهم فرق ونعوذ بالله من الخذلان وكما نقول إن الله تعالى ضرب لنا الأمثال وإن أمثاله المضروبة كلها حق لأنه تعالى قال ذلك فيها فكذلك نقول لا يحل لنا ضرب الأمثال لله تعالى لأنه قال تعالى {فلا تضربوا لله لأمثال إن لله يعلم وأنتم لا تعلمون} والقياس ضرب أمثال الله تعالى بيقين منا ومنهم فهو حرام وباطل لنهي الله تعالى عنا نصا وبالله تعالى التوفيق فهذا كل ما شغبوا به من القرآن ووضعهوه في غير مواضعه وقد أوردناه وبينا ذلك لكل ذي حس سليم أنه لا حجة لهم في شيء منه وأن أكثره مانع من القول في الدين بغير نص من الله تعالى واحتجوا من الحديث بما كتب به إلي يوسف بن عبد الله النمري حدثنا سعيد ابن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار المدائني عن الليث بن سعد عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عبد الملك بن سعيد الأنصاري عن جابر بن عبد الله عن عمر بن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 الخطاب قال هششت إلى المرأة فقبلتها وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أتيت أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو مضمضت بماء وأنت صائم قلت لا بأس قال ففيم قال أبو محمد لو لم يكن في إبطال القياس إلا هذا الحديث لكفى لأن عمر ظن أن القبلة تفطر الصائم قياسا على الجماع فأخبره صلى الله عليه وسلم أن الأشياء المماثلة والمتقاربة لا تستوي أحكامها وأن المضمضة لا تفطر ولو تجاوز الماء الحلق عمدا لأفطر وأن الجماع يفطر والقبلة لا تفطر وهذا هو إبطال القياس حقا ولا شبه بين القبلة والمضمضة فيمكنهم أن يقولوا إنه صلى الله عليه وسلم قاس القبلة على المضمضة لأنهم لا يرون القياس إلا بين شيئين مشتبهين وبضرورة العقل والحس نعلم أن القبلة من الجماع أقرب شيئا لأنهما من باب اللذة فهما أقرب شبها من القبلة إلى المضمضة ثم إن الحديث عائد للمالكيين لأنهم يستحبون المضمضة للصائم في الوضوء ويكرهون له القبلة فقد فرقوا بإقرارهم بين ما زعموا أنه عليه السلام سوى بينهما وفي هذا ما فيه فبطل شغبهم بهذا الحديث وعاد عليهم حجة والحمد لله رب العالمين واحتجوا بما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا إبرهيم بن نصر ثنا الفضل بن دكين ثنا طلحة بن عمر عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 الله عليه وسلم قال إذا كنت إماما فقس الناس بأضعفهم قال أبو محمد طلحة بن عمرو ركن من أركان الكذب متروك الحديث قاله أحمد ويحيى وغيرهما وهذا حديث مشهور من طريق أبي هريرة وعثمان بن أبي العاص ليس في شيء منه هذه اللفظة البتة إلا من هذه الطريق الساقطة ولو صحت ما كانت لهم فيه حجة أصلا لأنه ليس هنا شيء مسكوت قيس بمنصوص عليه وإنما أمر صلى الله عليه وسلم الإمام أن يخفف الصلاة على قدر احتمال أضعف من خلفه وليس يخرج من هذا تحريم البلوط بالبلوط متفاضلا والنص قد جاء بإيجاب أن يخفف الإمام الصلاة رفقا بالناس كلهم فكيف وإنما جاء هذا الخبر بلفظين اقتد بأضعفهم واقدر الناس بأضعفهم كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا أحمد بن سليمان ثنا عفان بن مسلم ثنا حماد بن سلمة ثنا سعيد الجريري عن أبي العلاء عن مطرف بن الشخير عن عثمان بن أبي العاص قال قلت يا رسول الله اجعلني إمام قومي قال أنت إمامهم واقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب نا قتيبة نا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء وهكذا رواه أيضا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 أبو سلمة عن أبي هريرة واحتجوا أيضا بما حدثناه عبد الله بن ربيع نا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر نا أبو داود نا قتيبة عن الليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين قال أبو محمد وقد قلنا مرارا إننا لا ننكر نقل لفظ إلى معنى آخر إذا صح ذلك بنص آخر أو إجماع ولكن إذا كان عندهم هذا قياسا فإنه يلزمهم أنه متى سمعوا ذكر جحر في أي شيء ذكر أن يقيسوا عليه كل ما في العالم كما جاء النهي عن البول في الجحر فلم يقيسوا عليه غيره فإذا لم يفعلوا فلا شك أنه إنما انتقل إلى ههنا لفظ الجحر إلى كل ما عداه بالإجماع وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم للخثعمية وللمستفتية التي ماتت وعليها صوم وهو حديث مشهور رويناه من طرق ومن بعضها ما حدثناه عبد الله بن يوسف عن أحمد بن فتح عن عبد الوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد عن أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني أحمد بن عمر الوكيعي ثنا حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن سليمان الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها قال لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضى قال الأعمش فقال الحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل جميعا ونحن جلوس حين حدث مسلم هذا الحديث فقال سمعنا مجاهدا يذكر هذا الحديث عن ابن عباس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 ومنها ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب حدثنا خشيش بن أصرم النسائي عن عبد الرزاق أنا معمر عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رجل يا نبي الله إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه قال أرأيت لو كان على أبيك دين كنت قاضيه قال نعم قال فدين الله أحق أخبرني محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن أبي بشر هو جعفر بن أبي وحشية قال سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أن امرأة نذرت أن تحج فماتت فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه قال نعم قال فاقضوا الله فهو أحق بالوفاء قال أبو محمد وهذا من أعجب ما احتجوا به وأشده فضيحة لأقوالهم وهتكا لمذاهبهم الفاسدة أما الشافعيون والحنفيون والمالكيون فينبغي لهم أن يستحوا من ذكر حديث الصوم الذي صدرنا به لأنهم عاصون له مخالفون لما فيه من قضاء الصيام عن الميت فكيف يسوغ لهم أو تواتيهم ألسنتهم بإيجاب القياس من هذا الحديث وليس فيه للقياس أثر البتة ويقدمون على خلافه فيقولون لا يصوم أحد عن أحد وأما المالكيون والحنفيون فإنهم زادوا إقداما فلا يقولون بقضاء ديون الله تعالى من الزكاة والنذور والكفارات من رأس مال أحد ويقولون ديون الناس أحق بالقضاء من ديون الله تعالى واقضوا الناس فهم أحق بالوفاء وإن ديون الناس من رأس المال وديون الله تعالى من الثلث إن أوصى بها وإلا فلا تؤدى البتة لا من الثلث ولا من غيره والله إن الجلود لتقشعر من أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 يكون الرسول صلى الله عليه وسلم يقول اقضوا الله فهو أحق بالوفاء ودين الله أحق أن يقضى فيقول هؤلاء المساكين بآرائهم المخذولة تقليدا لمن لم يعصم من الخطأ ولا أتته براءة من الله تعالى بالصواب من أبي حنيفة ومالك وأصحابهما دعوا كلام نبيكم صلى الله عليه وسلم ولا تلتفتوه وخذوا قولنا فاقضوا ديون الناس فدينهم أحق من دين الله تعالى قال أبو محمد ما نعلم في البدع أقبح من هذا ولا أشنع منه لأن أهل البدع لم يصححوا الأحاديث فهم أعذر في تركها وهؤلاء يقولون بزعمهم بخبر الواحد العدل وأنه حق لا يجوز خلافه وليس لهم في هذه الأسانيد مطعن البتة ثم يقدمون على المجاهرة بخلافها والذي لا يشك فيه أن من بلغته هذه الآثار وصحت عنده ثم استجاز خلاف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إتباعا لقول أبي حنيفة ومالك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال لاحق باليهود النصارى وأما من صحح مثل هذا الإسناد وحكم به في الدين ثم قال في هذه لا يصح فهو فاسق وقاح قليل الحياء بادي المجاهرة نعوذ بالله من كلتي الخطتين فهما خطتا خسف ثم تركهم كلهم أن يقيسوا الصوم عن الميت وإن أوصى به على الحج عنه إذا أوصى به وهم يدعون أنهم أصحاب قياس فهم أول من ترك القياس في الحديث الذي احتجوا به مع تركهم لحديث الصوم وقياسهم عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 وهم لا يأخذون به ثم نقول وبالله تعالى التوفيق إنه ليس في هذا الحديث قياس أصلا ولا دلالة على القياس ولكنه نص من الله تعالى أخبر في آية المواريث فقال {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم لربع مما تركن من بعد وصية يوصين بهآ أو دين ولهن لربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن لثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بهآ أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو مرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما لسدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركآء في لثلث من بعد وصية يوصى بهآ أو دين غير مضآر وصية من لله ولله عليم حليم} فعم الله عز وجل الديون كلها وبضرورة العقل علمنا أن ما أوجبه الله علينا في أموالنا فإنه يقع عليه اسم دين بلا شك ثم بالنصوص علمنا وبضرورة العقل أن أمر الله أولى بالانقياد له وأحق بالتنفيذ وأوجب علينا من أمر الناس وكان السائل والسائلة للنبي صلى الله عليه وسلم مكتفين بهذا النص لو حضرهما ذكره فأعلمها للنبي صلى الله عليه وسلم بأن كل ذلك دين وزادهم علما بأن دين الله تعالى أحق بالقضاء من ديون الناس وهذا نص جلي فأين للقياس ههنا أثر أو طريق لو أن هؤلاء القوم أنصفوا أنفسهم ونظروا لها ولكن ما في المصائب أشنع من قول من قال إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصام عن الميت ويحج عنه وأخبر أنه دين الله تعالى وهو أحق بالقضاء من سائر ديون الناس فترك ذلك واجب فلا يجوز أن يصام عن ميت ولا يستعمل هذا الحديث فيما جاء فيه لكن منه استدللنا على أن بيع العسل في قيره بعسل في قيره لا يجوز أو أن بيع رطل لحم تيس برطلي لحم أرنب لا يجوز أو أن رطل قطن برطلي قطن لا يجوز تبارك الله ما أقبح هذا وأشنعه لمن نظر بعين الحقيقة ونعوذ بالله من الخذلان واحتجوا بما روى الحديث المشهور أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إن امرأتي ولدت ولدا أسود وهو يعرض لنفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لك من إبل قال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 نعم قال ما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال إن فيها لورقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى ترى ذلك أناه أو كلاما هذا معناه فقال له الرجل لعل عرقا نزعه فقال صلى الله عليه وسلم لعل هذا عرقا نزعه قالوا وهذا قياس وتعليم للقياس قال أبو محمد وهذا من أقوى الحجج عليهم في إبطال القياس وذلك لأن الرجل جعل خلاف ولده في شبه اللون علة لنفيه عن نفسه فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الشبه وأخبره أن الإبل الورق قد تلدها الإبل الحمر فأبطل صلى الله عليه وسلم أن تتساوى المتشابهات في الحكم ومن المحال الممتنع أن يكون من له مسكة عقل يقيس ولادات الناس على ولادات الإبل والقياس عندهم إنما هو رد فرع إلى أصله وتشبيه ما لم ينص بمنصوص وبالضرورة نعلم أنه ليس الإبل أولى الولادة من الناس ولا الناس أولى من الإبل وأن كلا النوعين في الإيلاء والإلقاح سواء فأين ههنا مجال للقياس وهل من قال إن توالد الناس مقيس على توالد الإبل إلا بمنزلة من قال إن صلاة المغرب إنما وجبت فرضا لأنها قيست على صلاة الظهر وإن الزكاة إنما وجبت قياسا على الصلاة وهذه حماقة لا تأتي بها عضاريط أصحاب القياس لا يرضون بها لأنفسهم فكيف أن يضاف هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي آتاه الله الحكمة والعلم دون معلم للناس وجعل كلامه على لسانه ما أخوفنا أن يكون هذا استخفافا بقدر النبوة وكذبا عليه صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نعجب من إقدام أصحاب القياس في نسبتهم إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 عمر وعلي وعبد الرحمن رضي الله عنهم قياس حد الشارب على حد القاذف ونقول إن هذا استنقاص للصحابة إذ ينسب مثل هذا الكلام السخيف إليهم حتى أتونا بالثالثة الأثافي والتي لا شوى لها فنسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قاس ولادة الناس على ولادة الإبل فأذكرنا هذا الفعل منهم قول بشر بن أبي حازم الأسدي غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعقبوا بالصيلم هذا مع أن بعضهم لا يأخذ بهذا الحديث فيما ورد فيه ويروى في التعريض الحد وهو يسمع فيه أن الأعرابي كان يعرض بنفي ولده فلم يزده النبي صلى الله عليه وسلم على أن أراد بطلان ظنه ووجوب الحكم بظاهر المولد والفراش ولم ير عليه حدا أفيكون أعجب ممن يترك الحديث فيما ورد فيه ويطلب فيه ما لا يجده أبدا ومن أن القاتل إذا عفي عنه ضرب مائة سوط ونفي سنة قياسا على الزاني إن هذا العجب ونسأل الله العصمة والتوفيق واحتجوا أيضا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إذ سئل عن الإبل تكون في الرسل كأنها الظباء فيدخل فيها البعير الأجرب فتجرب كلها فقال صلى الله عليه وسلم ومن أعدى الأول قال أبو محمد وهذا كما قبله وأطم وما فهم قط أحد أن هذا القياس وجها بل فيه إبطال القياس حقا لأنهم أرادوا أن يجعلوا الإبل إنما جربت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 من قبل الأجرب الذي انتقل حكمه إليها فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الظن الفاسد وأخبر أن كل وارد من قبل الله عز وجل وأنه فعل ذلك بالإبل والنعم ولا فرق وذكروا ما حدثناه أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا إسماعيل هو ابن إسحاق ثنا علي هو ابن المديني ثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ثنا هشام هو ابن حسان عن الحسن عن عمران ابن الحصين قال أسرينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلما كان من آخر السحر عرسنا فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس فجعل الرجل يثب دهشا فزعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اركبوا فركب وركبنا فسار حتى ارتفعت الشمس ثم نزل فأمر بلال فأذن قضى حاجاتهم وتوضؤوا فصلينا ركعتين قبل الغداة ثم أقام فصلى بنا فقلنا يا رسول الله ألا نقضيها لوقتها من الغد فقال لا ينهاكم ربكم عن الربا ويقبله منكم قالوا فقاس صلى الله عليه وسلم حكم قضاء صلاتين مكان صلاة على الربا قال أبو محمد وهذا باطل من وجوه أحدها أنه قد تكلم في سماع الحسن بن عمران بن الحصين فقيل سمع منه وقيل لم يسمع منه وأيضا فإنه قد صح من طريق جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين فقضاني وزادني فهذا أشبه بالربا من صلاتين مكان صلاة إلا أن هذا حلال والربا حرام وأيضا فقد صح عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 النبي صلى الله عليه وسلم فيمن جامع عامدا في يوم رمضان أن يصوم مكانه ستين يوما أو ثمانية وخمسين يوما أو تسعة وخمسين يوما فلو كان القياس كما ذكروا لكان هذا عين الربا على أصلهم وأيضا فإن هذا الحديث لا يقول به المالكيون والشافعيون لأنهم لا يرون أن يؤذن للصلاة الفائتة ولا يصلي ركعتا الظهر قبل صلاة الصبح إذا فاتت ولا أقبح من قول من يحتج بخبر ثم هو أول مخالف لنصه وحكمه والقول الصحيح هو أن هذا الخبر حجة في إبطال القياس لأنهم رضي الله عنهم أرادوا أن يصلوا مكان صلاة صلاتين وقد نهاهم الله تعالى عن تعدي حدوده ومن تعدي الحدود أن يزيد أحد شرعا لم يأمر الله تعالى به والربا في لغة العرب الزيادة فصح بهذا الخبر نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى عن الزيادة على ما أمر به فقط وبيقين يدري كل ذي حس أن القول بالقياس زيادة في الشرع على ما أمر الله تعالى به فلما حرم الله تعالى الأصناف الستة متفاضلة في ذاتها زادوا هم ذلك في المأكولات أو المكيلات أو الموزونات أو المدخرات فزيادتهم هذه هي الربا حقا والله تعالى قد نهى عنه فهذا الخبر حجة لو صح في إبطال القياس وإلا فلا نسبة بين الصلاة والبيع وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن هذا الخبر نص جلي لا مدخل للقياس فيه أصلا ولا بينه وبين شيء من القياس نسبة لأنه اسم الربا يجمع الزيادة في الدين والزيادة في الصلاة بنص هذا الخبر فتحريم الربا مقتضى لتحريم الأمرين وكل ما جاء به النص فصحيح وكل ما أرادوا هم أن يريده مما ليس منصوصا عليه فهو باطل فظهر أن من احتج بهذا الخبر فموه بما ليس مما يريد في شيء بل هو حجة عليه والحمد لله رب العالمين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 ثم لو صح لهم نصوصا من القرآن والسنن ووردت باسم القياس وحكمه وهذا لا يوجد أبدا لما كان لهم في شيء من ذلك حجة لأنه كان يكون الحكم حينئذ أن ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو الحق وإنما ما يقولونه هم مما لم يقله الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فهو الباطل الذي لا يحل القول به وفي هذا كفاية لمن عقل وقد أوجب الله تعالى وحرم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كتابه ولم يحل لأحد أن يحرم ولا أن يوجب ولا أن يحل ما لم يحله الله تعالى ولا أوجبه ولا حرمه لأن الله تعالى حرم وأوجب وأحل وكل ذلك تعد لحدود الله تعالى وموهوا أيضا بأن قالوا لو كان العلم كله جلي لاستوى العالم والجاهل في البيان ولو كان العلم كله خفيا لاستوى العالم والجاهل في الجهل به فصح أن بعضه جلي وبعضه خفي فوجب أن يقاس الخفي على الجلي قال أبو محمد وهذا كلام في غاية الفساد لأنه إذا كان بعضه جليا وبعضه خفيا فالواجب على أصلهم هذا الفاسد أن يستوي العالم والجاهل في تبين الجلي منه وأن يستوي الجاهل والعالم في خفاء الخفي منه عليهما أيضا فبطل العلم على أصلهم الخبيث الظاهر الفساد وأما نحن فنقول إن العلم كله جلي بين نعني علم الديانة قال تعالى {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين للناس ما نزل إليه والمبين بين والحمد لله رب العالمين لمن يعلم اللغة التي بها خوطبنا وإنما خفي ما خفي من علم الشريعة على من خفي عليه لإعراضه عنه وتركه النظر فيه وإقباله على وجود الباطل التي ليست طريقة إلى فهم الشريعة أو لنظره في ذلك بفهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 كليل إما لشغل بال أو مرض أو غفلة ولو لم يكن علم الدين جليا كله ما أمكن الجهل فهم شيء منه أبدا نعني مما يدعون أنه خفي فلما صح أن العالم ممكن له إقامة البرهان وإيضاح ما خفي على الجاهل حتى يفهمه ويتبين له صح أن العلم كله جلي بين نعني علم الديانة والحمد لله رب العالمين وموهوا أيضا بما روي من قول نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثناه عن عبد الله بن ربيعة التميمي ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا سليمان بن الأشعري ثنا حفص بن عمر العوضي عن شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال كيف تقضي إذا عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله عز وجل قال فإن لم تجد في كتاب الله عز وجل قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله قال اجتهد رأيي ولو آلو قال فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله قال أبو محمد وحدثنا أيضا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك الخولاني ثنا محمد بن بكر ثنا داود ثنا مسدد ثنا يحيى هو القطان عن شعبة بن أبي عون عن الحارث بن عمر عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فذكر معناه قال أبو محمد هذا حديث ساقط لم يروه أحد من غير هذا الطريق وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا فلا حجة فيمن لا يعرف من هو وفيه الحارث بن عمر وهو مجهول لا يعرف من هو ولم يأت هذا الحديث قط من غير طريقه أخبرني أحمد بن عمر العذري ثنا أبو ذر الهروي ثنا زهر بن أحمد الفقيه زنجويه بن النيسابوري ثنا محمد بن إسماعيل البخاري هو جامع الصحيح قال فذكر سند هذا الحديث وقال رفعه في اجتهاد الرأي قال البخاري ولا يعرف الحارث إلا بهذا ولا يصح هذا كلام البخاري رحمه الله وأيضا فإن هذا الحديث ظاهر الكذب والوضع لأن من المحال البين أن يكون الله تعالى يقول {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} و {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} و {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ينزل في الديانة ما لا يوجد في القرآن ومن المحال البين أن يقول الله تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يقع في الدين ما لم يبينه صلى الله عليه وسلم ثم من المحال الممتنع أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بالرأي فضلوا وأضلوا جاء هذا بالسند الصحيح الذي لا اعتراض فيه وقد ذكرنا في باب الكلام في الرأي ثم يطلق الحكم في الدين بالرأي فهذا كله كذب ظاهر لا شك فيه وقد كان في التابعين الراوين عن الصحابة رضي الله عنهم خبث كثير وكذب ظاهر كالحارث الأعور وغيره ممن شهد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 عليه بالكذب فلا يجوز أن تؤخذ رواية عن مجهول لم يعرف من هو ولا ما حاله ولقد لجأ بعضهم إلى أن ادعى في هذا الحديث أنه منقول نقل الكافة قال أبو محمد ولا يعجز أحد عن أن يدعي في كل حديث مثل هذا ولو قيل له بل الحديث الذي جاء من طريق ابن المبارك إن أشد الفرق فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحلون الحرام هو من نقل الكافة أكان يكون بينه وبين فرق ولكن من لم يستح قال ما شاء ولكن الذي لا شك فيه أنه من نقل الكواف كلها نقل تواتر يوجب العلم الضروري فقول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فهذا هو الذي لا شك في صحته وليس فيه الرد عند التنازع إلا إلى الله تعالى وهو القرآن وإلى الرسول وهو كلامه صلى الله عليه وسلم ولا أذكر القياس في ذلك فصح أن ما عدا القرآن والحديث لا يحل الرد إليه عند التنازع والقياس أصلا ليس قرآنا ولا حديثا فلا يحل الرد إليه أصلا وبالله تعالى التوفيق مع أن هذا الحديث الذي ذكرنا من طريق معاذ لا ذكر للقياس فيه البتة بوجه من الوجوه ولا بنص ولا بدليل وإنما فيه الرأي والرأي غير القياس لأن الرأي إنما هو الحكم بالأصلح والأحوط والأسلم في العاقبة والقياس هو الحكم بشيء لا نص فيه بمثل الحكم في شيء منصوص عليه وسواء كان أحوط أو لم يكن أصلح أو لم يكن كان أسلم أو أقتل استحسنه القاتل له أو استشنعه وهكذا القول في قوله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران ليس فيه للقياس أثر لا بدليل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 ولا بنص ولا للرأي أيضا لا يذكر ولا بدليل بوجه من الوجوه وإنما فيه إباحة الاجتهاد فقط والاجتهاد ليس قياسا ولا رأيا وإنما الاجتهاد إجهاد النفس واستفراغ الوسع في طلب حكم طلب النازلة في القول والسنة فمن طلب القرآن وتقرأ آياته وطلب في السنن وتقرأ الأحاديث في طلب ما نزل به فقد اجتهد فإن وجدها منصوصة فقد أصاب فله أجران أجر الطلب وأجر الإصابة وإن طلبها في القرآن والسنة فلم يفهم موضعا منهما ولا وقف عليه وفاتت إدراكه فقد اجتهد فأخطأ فله أجر ولا شك أنها هنالك إلا أنه قد يجدها من وفقه الله لها ولا يجدها من لم يوفقه الله تعالى لها كما فهم جابر وسعد وغيرهما آية الكلالة ولم يفهمها عمر وكما قال عثمان في الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية فأخبر أنه لم يقف على موضع حقيقة حكمهما ووقف غيره على ذلك بلا شك ومحال أن يغيب حكم الله تعالى عن جميع المسلمين وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بما حدثناه أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد ثنا جدي قاسم ابن أصبغ نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا سعيد بن أبي مريم أنا سلمة بن علي حدثني الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعلم العلم قبل ذهابه قال صفوان بن عسال وكيف وفينا كتاب الله ونعلمه أولادنا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك فيه ثم قال أليست التوراة والإنجيل في أيدي اليهود والنصارى فما أغنت عنهم حين تركوا ما فيهما قال أبو محمد هذا الحديث من أعظم الحجج عليهم في وجوب إبطال القياس لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن من ترك القرآن والعمل به فقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 ترك العلم أو سلك سبيل اليهود والنصارى وأصحاب القياس أهل هذه الصفة لأنهم تركوا القرآن والعمل به وأقبلوا على قياساتهم الفاسدة ونعوذ بالله من الخذلان ثم يقال لهم إنما تعلقتم بتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم فعل من حرم التوفيق من أمته في ذلك بفعل اليهود والنصارى إذ نبذوا كتابهم ونحن نقر بصحة هذا التشبيه وإنما ننكر أن يكون حكم من فعل ذلك من المسملين كحكم من أشبه فعله من اليهود والنصارى وأما أهل القياس فيلزمهم لزوما ضروريا إذ حكموا للمشتبهين بحكم واحد أن يحكموا فيمن ترك أحكام القرآن منا بما نحكم به في اليهود والنصارى من القتل والسبي للذراري والنساء وأخذ الجزية إن سالموا فإن تمادوا على قياسهم لحقوا بالصفرية الأزارقة وعاد هذا من الحكم عليهم في تركهم لأحكام القرآن والعمل بالقياس وإن جحدوا عن ذلك تناقضوا وتركوا القياس وبالله تعالى التوفيق فهذا كل ما موهوا به من إيراد الحديث الذي قد أوضحنا بحول الله تعالى وقوته أنه كله حجة عليهم وموجب لإبطال القياس وكل من له أدنى حس يرى أن إيرادهم ما أوردوا لا طريق للقياس فيه ولأنهم يوهمون الضعفاء أننا ننكر تشابه الأسماء ونحن ولله الحمد أعلم بتشابه الأسماء منهم وأشد إقرارا به منهم وإنما ننكر أن نحكم في الدين للمتشابهين في بعض الصفات بحكم واحد من إيجاب أو تحريم أو تحليل بغير إذن من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا أنكرنا وفي هذا خالفنا لا في تشابه الأشياء فلو تركوا التمويه الضعيف لكان أولى بهم وادعى بعضهم دون مراقبة إجماع الصحابة رضي الله عنهم على القول بالقياس وهذه مجاهرة لا يعدلها في القبح شيء أصلا وباليقين نعلم أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 ما روي قط عن أحد من الصحابة القول بأن القياس حق بوجه من الوجوه لا من طريق تصح ولا من طريق ضعيفة إلا حديثا واحدا نذكره إن شاء الله تعالى بعد فراغنا من ذكر تمويههم بدلائل الإجماع وهو لا يصح البتة ولو أن معارضا يعارضهم فقال قد صح إجماع الصحابة على إبطال القياس أكان يكون بينه وبينهم فرق في أنها دعوى ودعوى بل إن قائل هذا من إجماعهم على إبطال القياس يصح قوله ببرهان نذكره إن شاء الله تعالى وهو أنه قد صح بلا شك عند كل أحد من ولد آدم يدري الإسلام والمسلمين من مؤمن أو كافر أن جميع الصحابة مجمعون على إيجاب ما قال الله تعالى في القرآن مما لم يصح نسخه وعلى إيجاب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنه لا يحل لأحد أن يحرم ولا يحلل ولا أن يوجب حكما لم يأت به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم في الديانة وعلى أن رسول الله لم يلبس على أمته أمر دينها وأنه صلى الله عليه وسلم قد بينه كله للناس وهذا كله مجمع عليه من جميع الصحابة أولهم عن آخرهم بلا شك ولولا ذلك ما كانوا مسلمين فإن هذا مجمع عليه بلا شك فهذه المقدمات مبطلة للقياس لأنه عند القائلين به حوادث في الدين لم ينزل الله تعالى فيها حكما في القرآن بينا ولا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حكمها بنصه عليها وهذا ما لا يشك مسلم أن الصحابة لو سمعوا قائلا يقول بهذا لبرئوا منه وأيضا فالصحابة عشرات ألوف روى الحديث منهم ألف وثلاثمائة ونيف مذكورون بأسمائهم وروى الفقه والفتيا منهم عن نحو مائة ونيف وأربعين مسمين بأسمائهم حاشا الجمل المنقول عن أكثرهم أو جميعهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 كإقامة الصلاة وأداء الزكاة والسجود فيما سجد بهم إمامهم فيه من سجود القرآن والاشتراك في الهدى والصلاة الفريضة خلف التطوع ومثل هذا كثير وإنما أوردنا بنقل الفتيا من ذكر عنه باسمه أنه أجاز أمر كذا أو نهى عن أمر كذا أو أوجب كذا أو عمل كذا فما منهم أحد روي عنه إباحة القياس ولا أمر به البتة بوجه من الوجوه حاشا الحديث الواحد الذي ذكرنا آنفا وسنذكره إن شاء الله تعالى بإسناده ونبين وهيه وسقوطه وروي أيضا نحو عشر قضايا فيها العمل بما يظن أنه قياس فإذا حقق لم يصح أنه قياس منها صحيح السند ومنها ساقط السند ويروى عنهم أكثر من ذلك وأصح في إبطال القياس نصا وأما القول بالعمل التي يقول بها حذاق القياسيين عند أنفسهم ولا يرون القياس جائزا إلا عليها فباليقين ضرورة تعلم أنه لم يقل قط بها أحد من الصحابة بوجه من الوجوه ولا أحد من التابعين ولا أحد تابعي التابعين وإنما هو أمر حدث في أصحاب الشافعي واتبعهم عليه أصحاب أبي حنيفة ثم تلاهم فيه أصحاب مالك وهذا أمر متيقن عندهم وعندنا وما جاء قط في شيء من الروايات عن أحد من كل من ذكرنا أصلا لا في رواية ضعيفة ولا سقيمة أن أحدا من تلك الأعصار علل حكما بعلة مستخرجة يجعلها علامة للحكم ثم يقيس عليها ما وجد تلك العلة فيه مما لم يأت في حكمه نص وإذا لا يجوز القياس عند جمهور أصحاب القياس إلا على علة جامعة بين الأمرين هي سبب الحكم وعلامته وإلا فالقياس باطل ثم أيقنوا هم ونحن على أن ليس أحد من الصحابة ولا من تابعيهم ولا من تابعي تابعيهم نطق بهذا اللفظ ولا نبه على هذا المعنى ولا دل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 عليه ولا علمه ولا عرفه ولو عرفوه ما كتموه فقد صح إجماعهم على إبطال القياس بلا شك وقد اضطر هذا الأمر وهذا البرهان طائفة من أصحاب القياس إلى الفرار من ذكر العلل وتعليل الأحكام جملة وعن لفظ القياس ولجؤوا إلى التشبيه والتمثيل والتنظير وهو المعنى الذي فروا منه بعينه لأنه لا بد لهم من التعريف بالشبه بين الأمرين الموجب تسوية حكم ما لم ينص عليه مع ما نص عليه منهما فكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار وكمحلل الخمر باسم النبيذ وأكثر ما هي هذه الطائفة فمن أصحاب مالك وأحمد ومن لم يقلد أحدا من علماء أصحاب الحديث ومنهم نبذ من أصحاب مالك ويسير من أصحاب أبي حنيفة فكيف يستحل من له علم وورع وفرار عن الكذب أن يدعي الإجماع فيما هذه صفته وفي أمر قد روي عن أصحابه أزيد من عشرين ألف قضية ليس فيها ما يدل على القياس إلا قضية واحدة لا تصح ونحو عشر قضايا يظن أنها قياس وليست عند التحقيق قياسا وهم مجمعون معنا على أنه لم يحفظ قط عن أحد من الصحابة قياس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإذ ذلك كذلك فنحن نبرأ إلى الله تعالى من كل دين حدث بعده صلى الله عليه وسلم ولو كان القياس حقا لما أغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانه العمل به ثم من الباطل المتيقن أن يكون القياس مباحا في الدين ثم لا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي شيء نقيس ولا على ما نقيس ولا أين نقيس ولا كيف نقيس فصح أن القياس باطل لا شك فيه وأما القول والرأي والاستحسان والاختيار فكثير عنهم رضي الله عنهم جدا ولكنه لا سبيل إلى أن يوجد لأحد منهم أن جعل رأيه دينا أوجبه حكما وإنما قالوا إخبارا منهم بأن هذا الذي يسبق إلى قلوبهم وهكذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 يظنون على سبيل الصلح بين المختصمين ونحو هذا مع أن أصحاب القياس قد كفونا ولله الحمد التعلق بهذا الباب لأنهم نعني حذاقهم ومتكلميهم مبطلون للرأي والاستحسان إلا أن يكون قياسا على علة جامعة وقد أصفق على هذا أكابر المتأخرين من الحنفيين المالكيين وسلكوا في ذلك مسلك الشافعيين وتركوا طرائق أسلافهم في الاعتماد على الرأي والاستحسان وقياس التمثيل المطلوب والتشبيه ولو لم يفعلوا لكان أمرهم أهون مما يظن لأنه لم يبق إلا بالرأي وحده مجردا والاستحسان المطلق فليس رأي زيد أولى من رأي عمرو ولا استحسان زيد أولى من استحسان رأي عمرو فحصل الدين وأعوذ بالله لو كان ذلك هملا غير حقيقة وحراما حلالا معا وحقا باطلا معا وتخليطا فاسدا وهذا أبين من أن يغلط فيه من له حس وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بإجماع الأمة على تقديم أبي بكر إلى الخلافة وأن ذلك قياس على تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له إلى الصلاة وأن عمر قال للأنصار ارضوا لإمامتكم من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاتكم وهي عظم دينكم قال أبو محمد وهذا من الباطل الذي لا يحل ولو لم يكن في تقديم أبي بكر حجة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف عليا على المدينة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته عليه السلام فقياس الاستخلاف على الاستخلاف اللذين يدخل فيهما الصلاة والأحكام أولى من قياس الاستخلاف على الصلاة وحدها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 فإن قالوا إن استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر هو آخر فعله قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إن عليا لم ينحط فضله بعد أن استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة في غزوة تبوك بل زاد خيرا بلا شك فلم يكن استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الصلاة لأجل نقيصة حدثت في علي لم تكن فيه إذا استخلفه على تبوك كما لم يكن استخلافه عليه السلام عليا على المدينة في عام تبوك لأنه كان أفضل من أبي بكر فليس استخلاف أبي بكر على الصلاة حاطا لعلي وإنما العلماء في خلافة أبي بكر على قولين أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه وولاه خلافته على الأمة وأقامه بعد موته مقامه صلى الله عليه وسلم في النظر عليه ولها وجعله أميرا على جميع المؤمنين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم وهذا هو قولنا الذي ندين الله تعالى به ونلقاه إن شاء الله تعالى عليه مقرونا منا بشهادة التوحيد وحجتنا الواضحة في ذلك إجماع الأمة حينئذ جميعا على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانوا أرادوا ذلك أنه خليفة على الصلاة لكان أبو بكر مستحقا لهذا الاسم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والأمة كلها مجمعة على أنه لم يستحق أبو بكر هذا الاسم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه إنما استحقه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم إذ ولي خلافته على الحقيقة وأيضا فلو كان المراد بتسميتهم إياه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة لا على الأمة لما كان بهذا الاسم في ذلك الوقت أولى من أبي زهم وابن أم مكتوم وعلي فكل هؤلاء فقد استخلفه النبي صلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 الله عليه وسلم على المدينة ولا من عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس وقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على مكة ولا من عثمان بن أبي العاص الثقفي فقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على الطائف ولا من خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس فقد استخلفه صلى الله عليه وسلم على صنعاء فلما اتفقت الأمة كلها على أنه لا يسمى أحد ممن ذكرنا خليفة رسول الله لا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعد موته يسمى بذلك علي إذ ولي الخلافة علمنا ضرورة أنه سمي أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه استخلفه على الخلافة التامة بعد موته في ولاية جميع أمور الأمة وهذا بين وبالله تعالى التوفيق ومعنى خليفة فعيلة من مخلوف وهذا الهاء للمبالغة كقولك عقير وعقيرة منقول عن معقورة فهذا قول والقول الثاني أنه إنما قدمه المسلمون لأنه كان أفضلهم وحكم الإمامة أن يكون في الأفضل واحتجوا بامتناع الأنصار في أول الأمر وبقول عمر إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل بعضه عائد عليهم لأن الأنصار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 لم يكونوا ليتركوا رأيهم وهم أهل الدار والمنعة السابقة الذين لم يبالوا بمخالفة أهل المشرق والمغرب وحاربوا جميع العرب حتى أدخلوهم في الإسلام طوعا وكرها إلا لنص من النبي صلى الله عليه وسلم لا لرأي أضافهم النزاع إليهم من المهاجرين وأما قول عمر فظن منه وقد قال رضي الله عنه إذ بشره ابن عباس عند موته بالجنة والله إن علمك بذلك يا ابن عباس لقليل فخفي عليه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة مع ما في القرآن من ذلك لأهل الحديبية وهم منهم فهكذا خفي عليه نص النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر وهذا من عمر مضاف إلى ما قلنا آنفا ومضاف إلى قول يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم والله ما مات رسول الله وإلى قوله يوم أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب في مرضه الذي مات فيه كما حدثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا أبو زيد المروزي ثنا محمد بن يوسف ثنا البخاري ثنا يحيى بن سليمان الجعفي ثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قال ائتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدي فقال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط فقال قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس يقول إن الرزية ما حال بين رسول الله وبين كتابه وحدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن منصور عن سفيان الثوري سمعت سليمان هو الأحول عن سعيد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 بن جبير عن ابن عباس فذكر الحديث وفيه إن قوما قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ما شأنه هجر قال أبو محمد هذه زلة العالم التي حذر منها الناس قديما وقد كان في سابق علم الله تعالى أن يكون بيننا الاختلاف وتضل طائفة وتهتدي بهدى الله أخرى فلذلك نطق عمر ومن وافقه بما نطقوا به مما كان سببا إلى حرمان الخير بالكتاب الذي لو كتبه لم يضل بعده ولم يزل أمر هذا الحديث مهما لنا وشجى في نفوسنا وغصة نألم لها وكنا على يقين من أن الله تعالى لا يدع الكتاب الذي أراد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتبه فلن يضل بعده دون بيان ليحيا من حي عن بينة إلى أن من الله تعالى بأن أوجدناه فانجلت الكربة والله المحمود وهو ما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عبيد الله بن سعيد ثنا يزيد بن هارون ثنا إبراهيم بن سعد ثنا صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والنبيون إلا أبا بكر قال أبو محمد هكذا في كتابي عن عبد الله بن يوسف وفي أم أخرى ويأبى الله والمؤمنون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 وهكذا حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام الطرسوسي ثنا يزيد بن هارون ثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وفيه إن ذلك كان في اليوم الذي بدىء فيه عليه السلام بوجعه الذي مات فيه بأبي هو وأمي قال أبو محمد فعلمنا أن الكتاب المراد يوم الخميس قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام كما روينا عن ابن عباس يوم قال عمر ما ذكرنا إنما كان في معنى الكتاب الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يكتبه في أول مرضه قبل يوم الخميس المذكور بسبع ليال لأنه صلى الله عليه وسلم ابتدأه وجعه يوم الخميس في بيت ميمونة أم المؤمنين وأراد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وكانت مدة علته صلى الله عليه وسلم اثني عشر يوما فصح أن ذلك الكتاب كان في استخلاف أبي بكر لئلا يقع ضلال في الأمة بعده صلى الله عليه وسلم فإن ذكر ذاكر معنى ما روي عن عائشة إذ سئلت من كان رسول الله مستخلفا لو استخلف فإنما معناه لو كتب الكتاب في ذلك قال أبو محمد فهذا قول ثان وقالت الزيدية إنما استخلف أبو بكر استيلانا للناس كلهم لأنه كان هنالك قوم ينافرون عليا فرأى علي أن قطع الشغب أن يسلم الأمر إلى أبي بكر وإن كان دونه في الفضل قال أبو محمد وأما أن يقول أحد من الأمة إن أبا بكر إنما قدم قياسا على تقديمه إلى الصلاة فيأبى الله ذلك وما قاله أحد قط يومئذ وإنما تشبث بهذا القول الساقط المتأخرون من أصحاب القياس الذين لا يبالون بما نصروا به أقوالهم مع أنه أيضا في القياس فاسد لو كان القياس حقا لما بينا قبل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 ولأن الخلافة ليست علتها علة الصلاة لأن الصلاة جائز أن يليها العربي والمولى والعبد والذي لا يحسن سياسة الجيوش والأموال والأحكام والسير الفاضلة وأما الخلافة فلا يجوز أن يتولاها إلا قرشي صليبة عالم بالسياسة ووجوهها وإن لم يكن محكما للقراءة وإنما الصلاة تبع للإمامة وليست الإمامة تبعا للصلاة فكيف يجوز عند أحد من أصحاب القياس أن تقاس الإمامة التي هي أصل على الصلاة التي هي فرع من فروع الإمامة هذا ما لا يجوز عند أحد من القائلين بالقياس وقد كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم أكابر المهاجرين وفيهم عمرو وغيره أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ممن تجوز له الخلافة فكان أحقهم بالصلاة لأنه كان أقرأهم وقد كان أبو ذر وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابن مسعود أولى الناس بالصلاة إذا حضرت إذا لم يكونوا بحضرة أمير أو صاحب منزل لفضل أبي ذر وزهده وورعه وسابقته وفضل سائر من ذكرنا وقراءتهم ولم يكونوا من أهل الخلافة ولا كان أبو ذر من أهل الخلافة ولا كان أبو ذر من أهل الولايات ولا من أهل الاضطلاع بها وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر إني أحب لك ما أحب لنفسي وإنك ضعيف فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأسامة بن زيد على من هو أفضل منهم وأقرأ وأقدم هجرة وأفقه وأسن وهذه هي شروط الاستحقاق للإمامة في الصلاة وليست هذه شروط الإمارة وإنما شروط الإمارة حسن السياسة ونجدة النفس والرفق في غير مهانة والشدة في غير عنف والعدل والجود بغير إسراف وتمييز صفات الناس في أخلاقهم وسعة الصدر مع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 البراءة من المعاصي والمعرفة بما يخصه في نفسه في دينه وإن لم يكن صاحب عبارة ولا واسع العلم ولو حضر عمرو وخالد وأسامة مع أبي ذر وهم غير أمراء ما ساغ لهم أن يؤموا تلك الجماعة ولا أن يتقدموا أبا ذر ولا أبي بن كعب ولو حضروا في مواضع يحتاج فيها إلى السياسة في السلم والحرب لكان عمرو وخالد وأسامة أحق بذلك من أبي ذر وأبي ولما كان لأبي ذر وأبي من ذلك حق مع عمرو وخالد وأسامة وبرهان ذلك استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا وأسامة وعمرا دون أبي ذر وأبي وأبو ذر وأبي أفضل من عمرو وأسامة وخالد بدرج عظيمة جدا وقد حضر الصحابة يوم غزوة مؤتة فقتل الأمراء وأشرف المسلمون على الهلكة فما قام منهم أحد مقام خالد بن الوليد كلهم إلا الأقل أقدم إسلاما وهجرة ونصرا وهو حديث الإسلام يومئذ فما ثبت أحد ثباته وأخذ الراية ودبر الأمر حتى انحاز بالناس أجمل انحياز فليست الإمامة والخلافة من باب الصلاة في ورد ولا صدر فبطل تمويههم بأن خلافة أبي بكر كانت قياسا على الصلاة أصلا فإن قالوا لو كانت خلافة أبي بكر منصوصا عليه من النبي صلى الله عليه وسلم ما اختلفوا فيها قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق هذا تمويه ضعيف لا يجوز إلا على جاهل بما اختلف فيه الناس وهل اختلف الناس إلا في المنصوصات والله العظيم قسما برا ما اختلف اثنان قط فصاعدا في شيء من الدين إلا في منصوص بين في القرآن والسنة فمن قائل ليس عليه العمل ومن قائل هذا تلقى بخلاف ظاهره ومن قائل هذا خصوص ومن قائل هذا منسوخ ومن قائل هذا تأويل وكل هذا منهم بلا دليل في أكثر دعواهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 كاختلافهم في وجوب الوصية لمن لا يرث من الأقارب والإشهاد في البيع وإيجاب الكتابة وقسمة الخمس وقسمة الصدقات وممن تؤخذ الجزية والقراءات في الصلوات والتكبير فيها والاعتدال والنيات في الأعمال والصوم ومقدار الزكاة وما يؤخذ فيها المتعة في الحج والقرآن والفسخ وسائر ما اختلف الناس فيه وكل ذلك منصوص في القرآن والصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى هذا وعلى النسيان للنص كان اختلاف من اختلف في خلافة أبي بكر وأما الأنصار فإنهم لما ذكروا وكان قبل ذلك قد نسوا حتى قال قائلهم منا أمير ومنكم أمير ودعا بعضهم إلى المداولة وبرهان ما قلنا أن عبادة بن الصامت الأنصاري روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار بايعوه على ألا ينازعوا الأمر أهله وأنس بن مالك الأنصاري روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأئمة من قريش فبهذا ونحوه رجعت الأنصار عن رأيهم ولا ذلك ما رجعوا إلى رأي غيرهم ومعاذ الله أن يكون رأي المهاجرين أولى من رأي الأنصار بل النظر والتدبير بينهم سواء وكلهم فاضل سابق وقد قال عمر يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم والله ما مات رسول الله وهو يحفظ قول الله عز وجل {إنك ميت وإنهم ميتون} فلما ذكر بها خر مغشيا عليه وهكذا عرض للأنصار وقد روينا ذلك نصا كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري فذكر حديث وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقال رجال أدركناهم فذكر باقي الحديث وفيه أن أبا بكر قال وقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد إن الأئمة من قريش والناس برهم تبع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم قال صدقت أو قال نعم قال أبو محمد ومن أعاجيب أهل القياس أنهم في هذا المكان يحتجون بأن إمامة أبي بكر كانت قياسا لا نصا ثم نسوا أنفسهم أو تناسوا عمدا فإذا أرادوا إثبات التقليد للمصاحب قالوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قال أبو محمد وهذا اعجب ما شئت منه فإن كان هذا الحديث صحيحا فقد صح النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلافة أبي بكر بعده ثم على خلافة عمر بعد أبي بكر وبطل قولهم إن بيعة أبي بكر كانت قياسا على صلاته بالناس وإن كان هذا الحديث لا يصح فلم احتجوا به في تقليد الإمام من الصحابة أفيكون أقبح من هذه المناقضات بما يبطل بعضه بعضا ولكن إنما شأن القوم نصر المسألة التي يتكلمون فيها بما أمكن من حق أو باطل أو ضحكة أو بما يهدم عليهم سائر مذاهبهم ليوهموا من بحضرتهم من المغرورين بهم أنهم غالبون فقط فإذا تركوها وأخذوا في غيرها لم يبالوا أن ينصروها أيضا بما يبطل قولهم في المسألة التي تركوا وهكذا أبدا ونعوذ بالله من الخذلان واحتجوا بأن أبا بكر قاتل أهل الردة مع جميع الصحابة قياسا على منع الصلاة واحتجوا في ذلك بما روي من قوله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة حتى إن بعض أصحاب القياس قال على هذا عول أبو بكر لا على الآية التي في براءة قال أبو محمد وهذا من الجرأة واستحلال الكذب ونسب الضلال إلى أبي بكر بحيث لا مرمى وراءه ومن نسب هذا إلى أبي بكر فقد نسب إليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 الضلالة وقد أعاذه الله من ذلك وبيان كذبهم في هذا الاعتراض أوضح من كل واضح لأن أبا بكر لم يقل لأقاتلنهم لأنهم فرقوا بين الصلاة والزكاة وإنما قال لأقاتلن المفرقين بين الصلاة والزكاة وإنما فعل ذلك بلا شك وقوفا عند إلزام الله تعالى لنا وللمسلمين قديما وحديثا إذ يقول تعالى {فإذا نسلخ لأشهر لحرم فقتلوا لمشركين حيث وجدتموهم وخذوهم وحصروهم وقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا لصلاة وآتوا لزكاة فخلوا سبيلهم إن لله غفور رحيم} فلم يبح الله تعالى لنا ترك سبيلهم إلا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فهذا الذي حمل أبا بكر على قتالهم لا ما يدعونه من الكذب المفضوح من القياس الذي لا طريق له ههنا وصدق أبو بكر في إيجابه قتال من فرق بين الصلاة والزكاة لأن نص الله تعالى عليهما سواء وليست إحداهما أصلا والأخرى فرعا فيجب قياس الفرع على الأصل وهذا تخليط ما شئت منه ولو اتعظوا بهذا القول من أبي بكر فلم يفرقوا ما ساوى النص بينه لكان أولى بهم لكنهم لم يفعلوا بل قالت طائفة منهم الزكاة تجزىء إلا بنية والصلاة تلزم العبد والزكاة لا تلزمه وإن كان ذا مال وأما في سائر النصوص فلا يبالون أن يقولوا في بعض النص هذا مخصوص وفي بعضه هذا عموم وفي بعضه هذا واجب وفي بعضه هذا ندب ومثل هذا لهم كثير وقد عارض الصحابة أبا بكر بقول النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال أبو محمد ونسبوا رضي الله عنهم الآية التي ذكرنا آنفا في براءة وكلهم قد سمعها لأنها في سورة براءة التي قرئت على الناس كلهم في الموسم في حجة أبي بكر سنة تسع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 وفي الجملة أيضا أبو هريرة وابن عمر وكلاهما قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بقتال الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة كما حدثنا ابن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو غسان مالك بن عبد الواحد المسمعي ثنا عبد الملك بن الصباح عن شعبة عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله قال مسلم وحدثنا أمية بن بسطام ثنا يزيد بن زريع نا روح عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله قال أبو محمد فلولا هذه النصوص من القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الصحابة الحديث الذي تعلقوا به ولكن ليس كل أحد يحضره في كل حين ذكر كل ما عنده واحتجوا بإجماع الأمة على استخلاف إمام إذا مات إمام ولا نص على المستخلف قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن النص قد صح بطاعة أولي الأمر منا وجاءت الآثار الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 الطاعة للأئمة ولزوم البيعة وهذا ما يوجب استخلاف إمام إذا مات الإمام فهو نص صحيح على وجوب الاستخلاف لمن يوثق بدينه ويقوم بأمور المسلمين من قريش نصوصا بينة على وجوب العدل على الإمام والرفق بالرعية والنصح لهم فصفات الإمام منصوصة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينة واضحة فمن كانت فيه تلك الصفات فقد نص على تقديمه وإفراده بالأمر ما عدل كالأمر بالعتق ولا حاجة بنا إلى تسمية المعتق وإيجاب الأضحية والنسك ولا حاجة بنا إلى صفة لونها وهكذا جمع الشريعة وليت شعري أي مدخل للقياس في هذا إن هذا الأمر كان ينبغي لكل ذي عقل أن يستحي من الاحتجاج بمثله واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبي بعدي قالوا لنا فقولوا إنه يكون بعده رسول لأنه أخبر بأنه لا يكون بعده نبي ولم يقل لا رسول بعدي قال أبو محمد وهذا جهل مظلم ممكن أتى بهذا لأن هذا من جوامع الكلم التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا فلو قال عليه السلام لا رسول بعدي لأمكن أن يقول بعده نبي لكن إذ قال لا نبي بعدي فقد صح أنه لا رسول بعده لأن كل رسول فهو نبي بلا شك ولا سبيل إلى وجود رسول ليس نبيا فبطل هذا التمويه الضعيف على أن هذا كله لو صح لهم كما ادعوه ومعاذ الله من ذلك لما كان من شيء منه دليل على قياس التين على البر ولا على وجوب القياس في الشرائع فكيف وكل ما أوتوا به عليهم هو لا لهم والحمد لله رب العالمين وقد حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي عن المختار بن فلفل عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن النبوة والرسالة قد انقطعت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 فجزع الناس فقال قد بقيت مبشرات وهن جزء من النبوة قال أبو محمد واحتجوا بأن الحائض إنما أمرت بالتيمم إذ عدمت الماء في السفر قياسا على الجنب قال أبو محمد هذا تمويه ضعيف ومعاذ الله أن نأمر الحائض بذلك قياسا بل بالنص وهو قوله تعالى إذ أمر باعتزال الحيض حتى يطهرن {ويسألونك عن لمحيض قل هو أذى فعتزلوا لنسآء في لمحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم لله إن لله يحب لتوابين ويحب لمتطهرين} فأمرهن الله تعالى بالطهور جملة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فالتراب طهور والماء طهور بالنص وفسر الإجماع أن التراب لا يستعمل ما دام يوجد الماء لغير المريض أو من أوجبه له النص فدخلت الحائض في هذا النص ولقد كان ينبغي لمن فرق بين الحائض والجنب فيما أباح لها من قراءة القرآن ومنعه الجنب من ذلك أن يعلم أنه ترك القياس واحتجوا أيضا بإيجاب الزكاة في الجواميس وأنه إنما وجب ذلك قياسا على البقر قال أبو محمد وهذا شغب فاسد لأن الجواميس نوع من أنواع البقر وقد جاء النص بإيجاب الزكاة في البقر والزكاة في الجواميس لأنها بقر واسم البقر يقع عليها ولولا ذلك ما وجدت فيها زكاة وكذلك البخت والمهاري والفوالج هي أنواع من الإبل وكذا الضأن والماعز يقع عليها اسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 الغنم وقد قال بعض الناس البخت ضأن الإبل والجواميس ضأن البقر وقد رأينا الحمر المريسية وحمر الفجالين وحمر الأعراب المصامدة نوعا واحدا وبينها من الاختلاف أكثر مما بين الجواميس وسائر البقر وكذلك جميع الأنواع واحتجوا بأن الناس قاسوا على ذي الحليفة وأنهم قاسوا ذات عرق على قرن قال أبو محمد وهذا كذب وباطل لأن الحديث في توقيت ذات عرق لأهل العراق مشهور ثابت مسند لا يجهله من له بصر بالحديث حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم القاضي ومحمد بن معاوية قال ابن إسحاق ثنا أبو سعيد الأعرابي ثنا سليمان بن الأشعث ثنا هشام بن بهرام وقال ابن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن عبد الله عمار ثنا أبو هاشم محمد بن علي قال بهرام ثنا المعافى بن عمران وقال أبو هاشم عن المعافى بن عمران ثم اتفقا عن أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق قال أبو محمد هشام بن بهرام ثقة والمعافى ثقة جليل وأفلح بن حميد كذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 وأما قياسهم على ذي الحليفة فهذيان لا يدرى ما هو ولا ماذا قيس عليه والمواقيت مختلفة فمنها ذو الحليفة على عشر ليال ومنها الجحفة على ثلاث ليال ومنها قرن على أكثر من ليلة ومنها يلملم على ليلة فعلى أي هذا يقاس إن هذا الأمر لا يفهمه إلا ذو لب واحتجوا بما روي من قول ابن عمر فعدل الناس بصاع من شعير مدين من بر قال أبو محمد وهذا من طرائف ما احتجوا به لأن المحتج بهذا إن كان مالكيا أو شافعيا فهو مخالف لهذا الإجماع عنده ومن أقر على نفسه بأنه مخالف للإجماع فأقل ما عليه اعترافه بأنه مخالف للحق ثابت على الباطل غير تائب عنه وهذا فسق مجرد ومن أعجب العجب احتجاج المرء بما لا يراه حجة ولكن هذا غير بديع منهم فهذا أبو حنيفة يحتج أن الخيار لا يكون إلا ثلاثة أيام لا أكثر بحديث المصراة فإذا قيل له فهذا الذي تحتج به أتأخذ به قال لا وهذا مالك احتج في تضمين القائد والسائق ما تجنيه الدابة المسوقة والمقودة بأن عمر غرم بني سعد بن ليث نصف دية رجل من جهينة أصاب أصبعه رجل من بني سعد بن ليث كان يجري فرسه فمات الجهني فإذا سئل أتبدي المدعى عليهم في هذا المكان كما فعل عمر قال لا يجوز ذلك وإذا قيل له أتغرم المدعى عليهم بغير أن يحلف المدعون كما فعل عمر في هذا المكان قال لا يجوز ذلك وإذا قيل له أتقتصر في هذا المكان على نصف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 الدية كما فعل عمر قال يجوز ذلك وإذا قيل له أتجعل ما جنى الذي يجري فرسه على عاقلته في هذا المكان كما فعل عمر قال لا يجوز ذلك ثم يجعل هذا الحديث نفسه حجة في تضمين القائد والسائق قياسا على الراكب وهذا عجب عجيب ثم تلاه في ذلك ابن الجهم فاحتج أنه لا يجزئه من ذبح الهدي أو الأضحية ليلا بالنهي عن حصاد الليل وجذاذه فإذا قيل له أتمنع من حصاد الليل وجذاذه قال لا فهو يخالف ما أقر أنه حجة فيما ورد فيه ويحتج به فيما ليس منه في ورد ولا صدر ثم تلاه في ذلك ابن أبي زيد فاحتج في مخالفته نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على القبر بصلاته صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة السوداء رضي الله عنها فإذا سئل أتأخذ بصلاته صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة السوداء قال لا قال أبو محمد وهذا كثير منهم جدا كاحتجاج المالكيين في شق زقاق الخمر وكسر أوانيها بالحديث الوارد في إحراق رجل الغال فإذا قيل لهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 أتحرقون رجل الغال قالوا لا وقد رأيت لرجل منهم يدعى الأبهر ويكنى بأبي جعفر احتجاجا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم بحديث رواه إن الصداق لا يكون أقل من عشرة دراهم ومثل هذا من نوادرهم كثير وحسبنا الله ونعم الوكيل ثم نرجع إلى ما احتجوا به من قول ابن عمر فعدل الناس بصاع من شعير نصف صاع بر فأول ذلك أن ابن عمر الذي يروون عنه هذا القول لا يرضى به ولا يقول به حدثنا أحمد بن محمد الجسور ثنا أحمد بن مطرف نا عبد الله بن يحيى نا أبي ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر الزاهد نا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع بن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال قلت لابن عمر إن الله تعالى قد أوسع والبر أفضل من التمر قال إن أصحابي سلكوا طريقا فأنا أحب أن أسلكه حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا عبد الله بن حسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا ابن اجهم نا معاذ بن المثنى نا مسدد نا إسماعيل بن إبراهيم نا محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض بن سعد قال ذكرت لأبي سعيد الخدري صدقة الفطر فقال لا أخرج إلا ما كنت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاع زبيب أو صاع أقط فقلت له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 أو مدين من قمح قال لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها قال أبو محمد أفيكون أعجب ممن يدعى الإجماع على قول يقول به ابن عمر إن الصحابة على خلاف ذلك الإجماع كما ذكرنا وإنه لا يخرج البر أصلا اتباعا لطريق أصحابه ثم يقول أبو سعيد تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها فأين الإجماع لولا الجنون وقلة الدين ومن طرائف الدهر قول الطحاوي ههنا إنما أنكر أبو سعيد المقوم لا القيمة فيكون أعجب من هذه المهاجرة وهو يذكر أنه قال أبو سعيد وقد ذكر القيمة لا أقبلها ولا أعمل بها فهل ضمير المؤنث راجع إلى القيمة وهذا ما لا يشك فيه ذو بصر بشيء من مخاطبات الناس ولكن الهوى يعمي ويصم حدثنا أحمد بن عمر العذري ثنا عبد الله بن حسين بن عقال ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا محمد بن أحمد بن الجهم ثنا موسى بن إسحاق الأنصاري ثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا جرير عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أم المؤمنين قالت كان الناس يعطون زكاة رمضان نصف صاع فأما إذا وسع الله تعالى على الناس فإني أرى أن يتصدق بصاع فصح بما ذكرنا أن قول ابن عمر وعائشة فعدل الناس بذلك مدين من بر إنما هو على الإنكار لفعل من فعل ذلك وبرهان هذا ثبات ابن عمر وعائشة على صاع صاع لا على ما ذكروا من عمل الناس فلو كان عمل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 الناس عندهما حقا لما وسعهما خلافه فبطل تمويههم وبالله تعالى التوفيق مع أن عائشة لم تقل نصف صاع من بر ولعلها عنت من لا يجد أكثر من نصف صاع شعير إلا أنه لا شك أن ما حكته من فعل الناس في ذلك لم يكن عندها حجة ولا عملا مرضيا ولكن كقولها إذا أمرت هي وأمهات المؤمنين أن يخطر على حجرهن بجنازة سعد فأنكر الناس ذلك فقالت ما أسرع الناس إلى إنكار ما لا علم لهم به وقالوا وقد وجدنا مسائل مجمع عليها ولا نص فيها فصح أنها قياس قال أبو محمد قد ذكرنا هذه المسألة في باب الإجماع من ديواننا هذا وتكلمنا عليها وبيناها بعون الله تعالى غاية البيان وأرينا البراهين الضرورية على أن ذلك لا يجوز البتة وأنها إنما هي أحوال كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر بها وقد علمها ومن ذلك القراض وليس ههنا شيء يقاس عليه جواز القراض بل القياس يمنع من جوازه لأنه إجازة إلى غير أجل وعلى غير عمل موصوف وبأجرة فاسدة وربما لم يأخذ شيئا فضاع عمله وربما أخذ قليلا أو كثيرا وهكذا القول في سائر الإجماعيات من المسائل مع أن قولهم إنها عن قياس خبر كاذب ودعوى بلا دليل والبرهان قد قام على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين جميع واجبات الإسلام وحلاله وحرامه فكل ما أجمع عليه فعن الرسول وبيانه بلا شك هذا هو اليقين إذ لا يجوز إجماع الناس على شريعة لم يأت بها نص فبطل أن يكون قياس وبالله تعالى التوفيق واعترضوا ههنا على من أجاب من أصحابنا في هذه المسألة بأن قال الناس مختلفون في القياس بلا شك فكيف يجوز أن يجمعوا على ما اختلفوا فيه وهذا تخليط ظاهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 قال أبو محمد وهذا جواب صحيح عياني لا مجال للشك فيه فاعترض بعض أصحاب القياس فيه بأن قال لنا إنكم تجيزون الإجماع عن سنن كثيرة أتت في أخبار الآحاد وقد علمتم أن أخبار الآحاد مختلف في قبولها وهذا هو الذي أنكرتم قال أبو محمد وهذا تمويه ضعيف منحل ظاهر الانحلال لأننا لم ندع إجماع الناس على ما اختلفوا عليه من قبول خبر الواحد وإنما قلنا ونقول إن الأمة كلها مجمعة على قبول ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خلاف بين أحد ممن ينتمي إلى الإسلام في ذلك من جميع الفرق أولها عن آخرها ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى معرفة صحة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا نحن خبر الواحد العدل من جملة ذلك وقال آخرون ليس من جملة ذلك ثم تأتي سنن قلنا نحن صحت عندنا من طريق من الآحاد وقال من خالفنا إنما صحت عندنا من طريق التواتر ولو لم تأت إلا من طريق الآحاد فقط ما أخذنا بها فهذه الصفة النقل هو الذي اتفق الناس كلهم من المسلمين على قبوله وأجمعوا على الأخذ به كإجماع الناس على أن في خمس من الإبل شاة وعلى أن فيما سقي بالنضح من القمح والشعير نصف العشر وسائر ما أجمعوا عليه من آيات النبوة التي جاءت من طريق الكافة وجاءت أيضا من طريق الآحاد وليس هكذا أمر القياس الذي ادعوه ولكنا لا ننكر أن تأتي مسائل تستوي في حكم القياس على أصولهم وقد صح بها نص أو إجماع أيضا فأخذنا نحن بها لأن النص أتى بها أو لأنها إجماع ولم نبال وافقت القياس أو خالفته وأيضا فإن من ينكر القياس ينكره على كل حال وبكل وجه وفي كل وقت وليس في فرقة من فرق المسلمين أحد ينكر الخبر جملة بوجه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 الوجوه بل كلها مجمعة بلا خلاف عن أن الديانة لا تعرف إلا بالخبر وإنما أنكرت طوائف خبر الواحد وقالت بخبر التواتر وقال آخرون بالخبر المشتهر وقال آخرون بخبر الواحد العدل فالفرق بين ما أنكرنا وبين ما نظروه به بين واضح وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بإيجاب التحرير على المسيء قالوا وهذا قياس قال أبو محمد وهذا من ذلك المرار ليت شعري على أي شيء قيس التعزير إن كانوا إنما قالوا به قياسا وأما نحن فإنما قلنا به للنص الوارد في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يجلد أحد في غير حد أكثر من عشر جلدات وأما السجن فإنما هو منع المسجون من الأذى للناس أو من الفرار بحق لزمه وهو قادر على أدائه فقط وهذا وقع تحت قوله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أوفوا بلعقود أحلت لكم بهيمة لأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي لصيد وأنتم حرم إن لله يحكم ما يريد} وله حد لا يتجاوز وهو توبة المسجون وإقلاعه أو خروجه عما لزمه من الحق أو موته إن فعل به ذلك قصاصا واحتجوا أيضا بالتوجه إلى القبلة عند المعاينة فإذا غبنا عنها فبالاجتهاد قال أبو محمد وهذا من ذلك التخليط وليس ههنا شيء قيس عليه ذلك بوجه من الوجوه ولا هو أيضا موكول إلى الرأي ولا إلى الاستحسان ولكنه نص من الله تعالى {قد نرى تقلب وجهك في لسمآء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر لمسجد لحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن لذين أوتوا لكتاب ليعلمون أنه لحق من ربهم وما لله بغافل عما يعملون} فأما وصولنا إلى معرفة جهة القبلة فبالدليل الذي أنكروه علينا ولم يعرفوا ما هو وظنوه قياسا وهذه مسألة يلوح فيها لمن له أدنى حس الفرق بين الدليل والقياس لأن جهة طلب القبلة ليس قياسا أصلا ولا ههنا شيء يقاس عليه ولا هو موكول إلى رأي كل إنسان فيستقبل أي جهة شاء ولا إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 استحسانه فصح أنه يتوصل إلى ذلك بدليل ليس رأيا ولا قياسا ولا استحسانا وإنما كان يكون قياسا إذا خفيت عنا الكعبة توجهنا إلى بيت المقدس قياسا عليها لأنها قد كانت أيضا قبلة أو إلى المدينة وهذا كفر من قائله وهذا نحو قولكم لما حرم البر بالبر نسيئة حرمنا التبن بالتبن نسيئة وإنما الدليل على جهتها مطالع الكواكب والشمس ومعرفة نسبة العرض من الطول وقالوا أيضا قد أسقطتم الزكاة عن الثياب قياسا على سقوطها عن الحمير وتركتم أخذ الزكاة من الثياب بعموم قول الله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} وقوله تعالى {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} قال أبو محمد وكذبوا في ذلك ما شاؤوا ومعاذ الله أن نترك أخذ الزكاة من الثياب قياسا على الحمير ولكن لما كانت الآيتان المذكورتان لم ينص عز وجل فيهما على مقدار ما يؤخذ في الزكاة ولا متى يؤخذ لم يحل لأحد العمل بما لم يبين له إذ لا يدري أيأخذ الأقل أو الأكثر أو كل يوم أو كل شهر أو كل سنة أو مرة من الدهر ووجب عليه طلب بيان الزكاة في نص آخر فوجدناه صلى الله عليه وسلم قد قال إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام قال هذا في حجة الوداع بعد نزول {وأقيموا لصلاة وآتوا لزكاة وركعوا مع لراكعين} بيقين وبعد نزول {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ولله سميع عليم} بيقين لا شك فيه عند أحد من المسلمين لأن هاتين الآيتين نزلتا في صدر الهجرة فوجب بهذا النص ألا يؤخذ من مال أحد شيء إلا بنص على ما أخذه باسمه فما نص صلى الله عليه وسلم في واجب أخذه في الزكاة وجب قبوله وما لم ينص على وجوبه فلا يحل أخذه لأحد فهكذا سقطت الزكاة عن الثياب والعروض كلها على كل حال وأيضا فقد قال صلى الله عليه وسلم ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 تمر صدقة ودون في لغة العرب بمعنى غير وبمعنى أقل قال تعالى {من ورآئهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما تخذوا من دون لله أوليآء ولهم عذاب عظيم} يريد من غير الله فوجب بهذا الحديث أن لا يؤخذ شيء من غير التمر والحب إلا ما جاء النص على وجوب أخذه بعينه واسمه وليس حمل لفظه دون على بعض ما تقتضيه أولى من حملها على كل ما تقتضيه وأيضا فإن سقوط الزكاة عن الثياب المتخذة لغير التجارة إجماع لا خلاف فيه من أحد والإجماع الانقياد وكان يلزمهم وهو الموجبون لاستعمال القياس والتدين به أن يوجبوا الزكاة في الثياب قياسا على وجوبها في القمح والتمر والذهب والفضة لأن هذا كله موات لا حيوان فالثياب بالذهب والفضة والقمح والتمر أشبه منها بالحمير وليت شعري ما الذي أوجب عندهم قياس الثياب على الحمير دون أن يقيسوها على الغنم والإبل فيوجبوا فيها الزكاة لأن الثياب لا تكون إلا من جلود أو نبات إلا من شذ كالحرير وهو أيضا من حيوان فقياسها على ما هي مأخوذة منه أولى من قياسها على ما لا شبه بينها وبينه هذا إن كان القياس حقا بل ههنا قياس هو أقرب وأشبه على أصولهم وهو قياس المنتقاة على الثياب المتخذة للتجارة وكما أوجب المالكيون الزكاة في غير السائمة قياسا على السائمة وكما قالوا يجمع بين الذهب والفضة في غير التجارة كما يجمع بينهما في التجارة وبين سائر العروض المتخذة للتجارة فبطل تمويههم والحمد لله رب العالمين واحتجوا أيضا بوجوب الزكاة في الذهب وقالوا هو قياس على الفضة قال أبو محمد وهذا في الفساد كالذي قبله لأن الخبر في زكاة الذهب ووجوب حق الله تعالى فيه أشهر من أن يجهله ذو علم بالآثار ثم اختلف العلماء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 فقالت طائفة بيان المأخوذ منه مرجوع فيه إلى الإجماع إذ لم يصح فيه أثر فما أجمع المسلمون على وجوب تزكيته من الذهب قلنا به وما اختلفوا فيه لم نوجبه إلا بنص وما اتفقوا فيه ثم اختلفوا لم نزل عن إجماعهم إلا بنص وبالله التوفيق وقالت طائفة بل في المقدار الذي يجب فيه الزكاة من المذهب نص صحيح فالواجب الوقوف عنده بهذا نقول واحتجوا أيضا بتسويتنا في حديث عتق الشقص واشتراط مال العبد بأننا سوينا بين العبد والأمة في ذلك وهذا خطأ بل النص قد جاء في ذلك بلفظ مملوك وهذا اسم يقع على الأمة كوقوعه على العبد وأيضا فإن لفظة العبد واقعة على الجنس وقولنا عبيد يقع على الذكور والإناث لأنك تقول عبد وعبدة بلا خوف من أهل اللغة ولهم علينا في خاصتنا اعتراض ننبه عليه وهو أن أصحابنا لا يجوزون المزارعة ونحن نجيزها وهذا الاعتراض علينا على أصحابنا في المساقاة فإنهم يقولون إن الشروط فاسدة بقوله صلى الله عليه وسلم كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل فأنتم إذا أجزتم المساقاة والمزارعة على النصف فكلم مقال لفعله صلى الله عليه وسلم في خيبر فلم أجزتموها بالثلث والربع وقد جاء النهي نصا عن ذلك فهل هذا إلا قياس الثلث والربع على النصف قال أبو محمد ومعاذ الله أن نقول قياسا وما قلنا ذلك اتباعا للإجماع فإن الأمة كلها بلا خلاف من أحد منها مساوية بين النصف وبين سائر الأجزاء يقينا فمن مانع من كل ذلك قاطع على أن حكم كل ذلك سواء مبيح لكل ذلك قاطع على أن كل ذلك سواء فقد صح الإجماع يقينا على أن حكم النصف وسائر الأجزاء سواء ثم وجدنا النص قد جاء بالمساقاة والمزارع على النصف فوجب القول به وصح بالإجماع أن حكم سائر الأجزاء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 كحكم النصف والنصف حلال فسائر الأجزاء حلال وهذا برهان متيقن لا يجوز خلافه وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن المتعاقدين على النصف والنصف فقد تعاقدا على ما دون النصف بدخول ذلك في النصف فإذا اقتصر أحدهما على بعض ماله أن يعاقد عليه مع سائره فذلك جائز له بالنص المجيز له أن يعاقد على ما دون النصف مع قوله تعالى {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا لذي بيده عقدة لنكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا لفضل بينكم إن لله بما تعملون بصير} فتجافيه عن بعض ماله أن يشترطه فضل منه واحتجوا بقيم المتلفات ومهر المثل ومقدار المتعة والنفقات وإن كل ذلك لا نص فيه قالوا فوجب الرجوع إلى القياس قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه البتة ولا للقياس هنا مدخل أصلا لأنه ليس ههنا شيء آخر منصوص عليه يقيسون عليه هذه الأشياء وهذا هو القياس عندهم فبطل تمويههم إن هذا القياس وما هو إلا نص جلي لا داخلة فيه وهو قول الله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما عتدى عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} فهل في البيان أكثر من هذا وهل هذا إلا نص على كل قصة وجب فيها ضمان المثل فأي معنى للقياس فيمن أتلف الآخر ثوبا قيمته دينار فقضى عليه بثوب مثله فإن لم يوجد فمثله من القيمة في سوق البلد الذي وقع فيه الغصب أو الذي وقع فيه الحكم وكذلك امرأة وجب لها مهر مثلها بالنص فعلم مقدار ما تطيب به نفس مثلها في المعهود الذي أحالنا الله تعالى عليه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وكذلك نص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن للأزواج والأقارب والمماليك النفقة والكسوة بالمعروف وساوى في ذلك بين الأقارب وبين من ذكرنا وأحالنا على المعروف والمعروف هو غير المنكر فهو ما تعارفه الناس في نفقات من ذكرنا وما فيه مصالحهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 من كسوة معروفة لأمثالهم وإسكان وغير ذلك مما لا قوم للمعاش إلا به مما لا جوع فيه ولا عري ولا عطش ولا برد ولا شهرة ولا اتضاع ولا إسراف ولا تبذير ولا تقصير ولا تقتير فهذا هو المنكر وضده هو المعروف فأين القياس ههنا وعلى أي شيء قاسوا ما ذكرنا فإذ ليس ههنا شيء يقاس عليه ما ذكرنا البتة فقد بطل أن يكون قياسا وبطل تمويههم في ذلك واحتجوا أيضا بأروش الجراحات والجنايات والديات قال أبو محمد وهذا في التمويه كالذي قبله وقولنا في ذلك إن كل ما أوجبه من ذلك نص وقف عنده وما لم يوجبه نص فهو ساقط لا يقضى به للنص الوارد إن دماءنا وأموالنا علينا حرام وما تيقن أنه أجمع عليه واختلف في مقداره وجب من ذلك أقل ما قيل فقط وما عدا ذلك فتحكم في الدين لا يحل وأي شيء في معرفة مقدار شبع الناس في الجمهور في أقواتهم في ذلك البلد مما يكون فيه للقياس معنى وكذلك ما اتفقوا على وجوبه في المتعة وهل شيء من هذا يوجب تحريم البلوط بالبلوط متفاضلا إن انطلاق اللسان بمثل هذا لعظيم ونعوذ بالله من نصر الباطل والتمادي عليه فهذا كل ما احتجوا به من دلائل الإجماع فقد بينا بحول الله وقوته أنه عائد عليهم ومبطل للقياس والحمد لله كثيرا كما هو أهله واحتجوا أيضا بأحاديث وردت عن الصحابة رضي الله عنهم كرسالة منسوبة إلى عمر رضي الله عنه ذكروا أنه كتب بها إلى أبي موسى وكقول ابن عباس ولا أرى كل شيء إلا مثله ولو لم يعتبروا ذلك إلا بالأصابع أرأيت من ادهن وعن سعد أينقض الرطب إذا يبس وعن معمر بن عبد الله أخشى أن يضارع وعن أبي سعيد فأيما أولى التمر أو الورق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا سكر هذى وعن علي وزيد في الجد وعن علي لو كان هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل حمزة وعن ابن عباس قد أمر الله بالتحكيم بين الزوجين وفي أرنب قيمتها ربع درهم وعن علي في احتجاجه بمحو اسمه من الصحيفة بمحو النبي صلى الله عليه وسلم اسمه يوم الحديبية من الصحابة وعن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد وبالقطع في السرقة قال أبو محمد هذا كل ما يحضرنا ذكره مما يمكنهم أن يتعلقوا به ونحن إن شاء الله تعالى نذكر كل ما يحضرنا ذكر كل ذلك بأسانيده ونبين بعون الله عز وجل أنه لا حجة لهم في شيء منه لو صح فكيف وأكثر ذلك لا يصح فأما رسالة عمر فحدثنا بها أحمد بن عمر العذري نا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي نا أبو سعيد الخليل بن أحمد القاضي السجستاني نا يحيى بن محمد بن صاعد نا يوسف بن موسى القطان نا عبيد الله بن موسى نا عبيد الله بن موسى نا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري فذكر الرسالة وفيها الفهم الفهم يعني فيما يتلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة ثم اعرف الأمثال والأشكال فقس الأمور عند ذلك ثم اعمد إلى أشبهها بالحق وأقربها إلى الله عز وجل وذكر باقي الرسالة وحدثناها أحمد بن عمر نا عبد الرحمن بن الحسن الشافعي نا القاضي أحمد بن محمد الكرخي نا محمد بن عبد الله العلاف نا أحمد بن علي بن محمد الوراق نا عبد الله بن سعد نا أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني نا سفيان عن إدريس بن يزيد الأودي عن سعيد بن أبي موسى الأشعري بن أبي بردى عن أبيه قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى فذكر الرسالة وفيها الفهم فيما يتلجلج في نفسك مما ليس في الكتاب ولا السنة ثم قس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 الأمور بعضها ببعض ثم انظر أشبهها بالحق وأحبها إلى الله تعالى فاعمل به وفيها أيضا المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجريا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة وذكر باقيها قال أبو محمد وهذا لا يصح لأن السند الأول فيه عبد الملك بن الوليد بن معدان وهو كوفي متروك الحديث ساقط بلا خلاف وأبوه مجهول وأما السند الثاني فمن بين الكرجي إلى سفيان مجهولون وهو أيضا منقطع فبطل القول به جملة ويكفي من هذا أنه لا حجة في قول أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم وكم قصة خالفوا فيها عمر وأيضا فلا يخلو من أن تكون صحيحة أو غير صحيحة فإن كانت غير صحيحة فهو قولنا ولا حجة علينا فيها وإن كانت صحيحة تقوم بها الحجة فقد خالف أبو حنيفة ومالك والشافعي والحاضرون من خصومنا المحتجين بها ما فيها فأجازوا شهادة المجلود في الخمر والزنى إذا تاب وأجاز مالك والشافعي شهادة المجلود في حد القذف إذا تاب وهذا خلاف ما في رسالة عمر وإن ادعوا إجماعا كذبهم الأوزاعي فإنه لا يجيز شهادة مجلود في شيء من الحدود أصلا كما في رسالة عمر التي صححوا وأجازوا شهادة الأخ لأخيه والمولى لذي ولائه ولم يجعلوهما ظنينين في ولاء وقرابة وردوا شهادة الأب العدل لابنه وجعلوه ظنين في قرابة وليس إجماعا لأن عثمان البتي وغيره يجيز شهادته له وردوا شهادة العبد وهو مسلم وكل هذا خلاف ما في رسالة عمر ومن الباطل المحال أن تكون حجة علينا في القياس ولا تكون حجة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 عليهم فيما خالفوها فيه ويكفي في هذا إقرارهم بأنها حق وحجة ثم خلافهم ما فيها فقد أقروا بأنهم خالفوا الجن والحجة ونحن لا نقر بها ولله الحمد والصحيح عن عمر غير هذا من إنكار القياس مما سنذكره في هذا الباب إن شاء الله تعالى وأما الرسالة التي تصح عن عمر فهي غير هذه وهي التي حدثنا بها عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن معاوية المرواني نا أحمد بن شعيب النسائي نا محمد بن بشار نا أبو عامر العقدي نا سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر يسأله فكتب إليه عمر أن اقض بما في كتاب الله تعالى فإن لم يكن في كتاب الله فسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما قضى الصالحون فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ولم يقض به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر ولا أرى التأخر إلا خيرا لك والسلام قال أبو محمد وهذا ترك الحكم بالقياس جملة واختيار عمر لترك الحكم إذا لم يجد المرء تلك النازلة في كتاب ولا سنة ولا إجماع فسقطت الرواية عن عمر في الأمر بالقياس لسقوط راويها ولوجه ثان ضروري مبين لكذب تلك الرسالة وأنها موضوعة بلا شك وهو اللفظ الذي فيها ثم اعمد لأشبهها بالحق وأقربها إلى الله عز وجل وأحبها إليه تعالى فاقض به قال أبو محمد وهذا باطل موضوع وما يدري القايس إذا شبهت الوجوه أيها أحب إلى الله عز وجل أو أيها أقرب إليه وهذا ما يقطعون به ولا يقطع به أحد له حظ من علم ثم قوله اعمد إلى أشبهها بالحق ولا نعلم إلا حقا أو باطلا فما أشبه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 الحق فلا يخلو من أن يكون حقا أو باطلا فالباطل لا يحل الحكم به وإن كان حقا فلا يجوز أن يقال في الحق إنه أشبه طبقته ونظرائه بالحق ولكن يقال في الحق إنه حق بلا شك ولا يجوز أن يقال فيه يشبه الحق فصح أن القياس باطل بلا شك وبطلت تلك الرسالة بلا شك وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل افتقطعون في خبر الواحد العدل أنه حق إذا قضيتم به أم تقولون إنه باطل أم تقولون إنه يشبه الحق وهذا نفس ما دخلتم علينا قال أبو محمد والجواب وبالله التوفيق إن خبر الواحد العدل المتصل وشهادة العدلين حق عند الله عز وجل مقطوع به إلا أننا نحن نقول إن كل خبر صح مسندا بنقل من اتفق على عدالته فهو حق عند الله بخلاف الشهادات وقال غيرنا إن كل شخص من أشخاص الأخبار وأشخاص الشهادات إما حق عند الله فهو حق مطلق وإما باطل عند الله فهو باطل مطلق ولا يجوز أن يقال إنه يشبه الحق ولا إنه أشبه بالحق من غيره ولسنا نوقفهم في هذه المراجعة على مذهبهم في أشخاص القياس وإنما نتكلم على ما رووا عن عمر من لفظ أشبهها بالحق فعلى هذه اللفظة تكلمنا وفسادها بينا لنرى بعون الله كذب الرواية في ذلك عن عمر وأما ولا أحسب كل شيء إلا مثله فحدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد الأشقر ثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم ثنا قتيبة ثنا حماد وهو ابن زيد عن عمر بن دينار عن طاوس عن ابن عباسأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه قال ابن عباس واحسب كل شيء مثله قال أبو محمد ولا حجة لهم في هذا لأن كثيرا من أصحاب القياس لا يقولون بهذا ولا يرون غير الطعام داخلا في حكم الطعام في ذلك بل يرون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 ما عدا الطعام جائز بيعه قبل أن يستوفى وهذا قول المالكيين فمن المحال أن يحتج امرؤ بشيء يقر أنه خطأ لا يجوز أن يؤخذ به وأيضا فإن ابن عباس لم يقطع بصحة ظنه في ذلك وإنما أخبر أنه يحسب كل شيء مثل الطعام في ذلك وهذا هو الذي قلنا عنهم رضي الله عنهم إنهم لا يقطعون برأيهم فيما رأوه وإنما هو ظن لا يثبتونه دينا وليس حكم القياس عند القائلين به من باب الحسبان الذي ذكره ابن عباس في هذا الحديث فصح يقينا أنه لا مدخل للقياس في هذا الحديث فاحتجاجهم به باطل وبالله تعالى التوفيق وأما لو لم تعتبروا ذلك إلا بالأصابع فحدثناه حمام بن أحمد ثنا محمد بن أبي مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو يعقوب الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا مالك عن داود بن الحصين عن أبي غطفان أن مروان أرسله إلى ابن عباس يسأله ماذا جعل في الضرس قال فيه خمس من الإبل قال فردني إلى ابن عباس فقال أتجعل مقدم الفم مثل الأضراس فقال ابن عباس لو أنك لا تعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء قال أبو محمد وهذا لا مدخل للقياس فيه البتة بل هو إبطال للتعليل جملة لأن مروان علل الدية بأنها عرض من العضو المصاب فينبغي أن تكون دية العضو الأفضل أكثر وهذه هي علل أصحاب القياس على الحقيقة فأراه ابن عباس بطلان هذا وتناقضه في قوله بأن الأصابع منافعها متفاضلة وديتها سواء وهذا إبطال العلل على الحقيقة وفي إبطال العلل إبطال للقياس إذ لا قياس إلا على علة جامعة عند حذاق القائلين به فهذا الحديث مبطل للقياس كما ذكرنا وراد إلى النص وألا يتعقب بتعليل وبالله تعالى التوفيق وبرهان واضح فيما ذكرنا هو أن القياس بلا خلاف إنما هو أن يحكم لما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 نص فيه بالحكم فيما نص أو فيما اختلف فيه بالحكم فيما اجتمع عليه وليس في الأصابع إجماع فيقاس عليه الأضراس بل الخلاف موجود فيها كما هو في الأضراس وليس في الأصابع نص دون الأضراس بل الخلاف موجود فيها كما هو في الأضراس وليس في الأصابع نص دون الأضراس بل النص فيهما جميعا فبطل أن تكون الأصابع أصلا يقاس عليه الأضراس فأما الخلاف في كل ذلك فكما حدثنا حمام بن أحمد ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الديري ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج أخبرني يحيى بن سعيد هو الأنصاري قال قال ابن المسيب قضى عمر بن الخطاب فيما أقبل من الفم أعلى الفم وأسفله خمس قلانص وفي الأضراس بعير بعير وقال عبد الرزاق أيضا عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب جعل في الإبهام خمس عشرة وفي السبابة والوسطى عشرا عشرا وفي البنصر تسعا وفي الخنصر سبعا فبطل أن يكون ههنا إجماع في الأصابع يقاس عليه أمر الأسنان والأضراس وأما النص فإن عبد الله بن ربيع ثنا قال حدثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود السجستاني ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري ثنا شعبة حدثنا قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء فصح أن النص عند ابن عباس في الأضراس كما هو في الأصابع بأصح إسناد وأجوده وشعبة لم يسمع قتادة حديثا إلا فقه على سماعه إلا حديثا واحدا في الصلاة فبطل أن يكون ابن عباس أراد بقوله ولو لم تعتبروا ذلك بالأصابع قياسا البتة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 وبالله تعالى التوفيق نعم قد روى التسوية أيضا بين الأضراس والأسنان وبين الأصابع عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسندا وفي كتاب عمرو بن حزم أيضا فبطل ما ظنوه بيقين والحمد لله رب العالمين وأما أرأيت لو ادهن فحدثناه حمام بن أحمد حدثنا ابن مفرج حدثنا ابن الأعرابي حدثنا الديري حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن جعفر بن يرقان قال كان أبو هريرة يتوضأ مما مست النار فبلغ ذلك ابن عباس فأرسل إليه أرأيت لو أخذت دهنة طيبة فدهنت بها لحيتي أكنت متوضئا قال أبو هريرة يا ابن أخي إذا حدثت بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال جدلا قال أبو محمد وليس ههنا للقياس مدخل البتة بوجه من الوجوه وابن عباس قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شاهده أكل شيئا مما مست النار فلم يتوضأ وهذا الحديث عنه مشهور فلم يترك ابن عباس الوضوء مما مست النار قياسا لكن اتباعا للنص وإنما عارض أبا هريرة بأمر الدهن في هذا الحديث ليعلم أيطرد أبو هريرة قوله أم لا يرى الوضوء من الدهن فقط فإنما هو استفهام عن مذهب أبي هريرة في الدهن أيوجب الوضوء أم لا ليس في هذا الحديث شيء غير هذا البتة ولكن في قول أبي هريرة إذا حدثت بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال جدلا إبطال صحيح للقياس لأن القياس ضرب أمثال في الدين لم يأذن بها الله تعالى وقد نهى أبو هريرة عن ذلك وأمره باتباع الحديث والتسليم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 له فهذا الحديث عليهم لا لهم والصحيح عن ابن عباس إبطال القياس على ما ذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى وأما أينقص الرطب إذا يبس فحدثناه أحمد بن محمد الجسور نا أحمد بن سعيد بن حزم نا عبيد الله بن يحيى نا أبي عن مالك بن أنس عن عبد الله بن زيد أن زيدا أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت قال له سعد أيتهما أفضل فقال البيضاء فنهاه عن ذلك وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال صلى الله عليه وسلم أينقص الرطب إذا يبس فقالوا نعم فنهاه عن ذلك قال أبو محمد فأول هذا إن هذا خبر لا يصح لأن زيدا أبا عياش مجهول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 فارتفع الكلام فيه وأيضا فلو صح لما كانت لهم فيه حجة لأن جميع أصحاب القياس أولهم عن آخرهم لا يرون هذا قياسا ولا يمنعون من البيضاء بالسلت فمحال أن يحتج قوم بما لا يقولون به وأيضا فإن هذا ليس قياسا عند القائلين به لأنه تنظير للأفضل بما ينقص إذا يبس وهذا ليس شبها البتة عند من يقول بالقياس فسقط تعلقهم بهذا الأثر والحمد لله رب العالمين وأما أخاف أن يضارع فحدثناه عبد الله بن يوسف بن نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم حدثني أبو الطاهر أخبرني ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال بعه ثم اشتر به شعيرا فذهب الغلام فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع فلما جاء معمرا أخبره بذلك فقال له معمر لم فعلت ذلك انطلق فرده ولا تأخذ إلا مثلا بمثل فإني كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الطعام بالطعام مثلا بمثل وكان طعامنا يومئذ الشعير فقيل إنه ليس بمثله قال إني أخاف أن يضارع قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه أصلا وإنما هو تورع من معمر بن عبد الله لا إيجاب ولا أنه قطع بذلك وبيان ذلك إخبار معمر بأنه يخاف أن يضارع ولم يقطع بأنه يضارع وأيضا فإن الحنفيين والشافعيين لا يقولون بهذا وهم يجيزون القمح بالشعير متفاضلا فلا وجه لاحتجاج المرء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 بما لا يراه صحيحا ولا ممن يخطىء ويصيب ممن لا يلزم اتباعه ولعل من جهل يظن أن احتجاجنا بمن دون النبي صلى الله عليه وسلم هو أننا نرى من دونه صلى الله عليه وسلم حجة لازمة فليعلم من ظن ذلك أن ظنه كذب وأننا لا نورد قولا عمن دون النبي صلى الله عليه وسلم إلا على أحد وجهين لا ثالث لهما إما خوف جاهل يدعي علينا خلاف الإجماع فنريه كذبه وفساد ظنونه وأنه لا إجماع فيما ظن فيه إجماعا وإما لنرى من يحتج بمن دون النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يحتج به مخالف له فنوقفه علي تناقضا في أنه يخالف من يراه حجة حاشا موضعا واحدا وهو حكم الحكمين بجزاء الصيد فإننا نورده احتجاجا به لقول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقتلوا لصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزآء مثل ما قتل من لنعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ لكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا لله عما سلف ومن عاد فينتقم لله منه ولله عزيز ذو نتقام} فألزمنا الله عز وجل قبول العدلين ههنا فنحن نورد قول العدلين من السلف رضي الله عنهم احتجاجا بقولهما لأن الله تعالى أوجب ذلك وأما حديث أيما أولى فحدثناهابن نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا إسحاق بن إبراهيم أنا عبد الأعلى أنا داود عن أبي نضر قال سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم ير بأسا فإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري إذ جاءه رجل فسأله عن الصرف فقال ما زاد فهو ربا فأنكرت ذلك لقولهما فقال لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر جنيب وكان تمر النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا اللون فقال النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 أنى لك هذا قال انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع فإن سعر هذا في السوق كذا وسعر هذا كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك أرأيت إذا أردت ذلك فبع تمرا بسلعة ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت قال أبو سعيد فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا أما الفضة بالفضة قال أبو محمد وهذا ليس قياسا لأن النهي عن التفاضل في الفضة بالفضة عند أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روينا وبالسند المذكور إلى مسلم حدثنا محمد بن رمح ثنا الليث بن سعد عن نافع مولى ابن عمر قال ذهب ابن عمر وأنا معه حتى دخل على أبي سعيد الخدري فذكر سؤال ابن عمر لأبي سعيد عن الصرف فقال أبو سعيد وأشار بأصبعه إلى عينيه وأذنيه فقال أبصرت عيناني وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تفشوا بعضه على بعض وذكر الحديث وبه إلى مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا إسماعيل بن مسلم العبدي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد واستزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء قال أبو محمد فمن المحال البين أن يكون نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل عند أبي سعيد سماعا من لفظ النبي صلى الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 عليه وسلم ويعول في تحريمه على القياس فصح أن هذا الأثر لا مدخل للقياس فيه أصلا لأن القياس عند القائلين به إنما هو حكم في شيء ولا نص فيه على نحو الحكم في نظيره مما جاء فيه النص والنص عند أبي سعيد مسموع في الفضة بالفضة كما هو في التمر بالتمر فبطل ضرورة إقرار أصحاب القياس أن يكون أحد الأمرين عنده قياسا على الآخر فإن قيل فما وجه قول أبي سعيد إذن هو القول فنقول وبالله تعالى التوفيق إننا لا نشك أن أبا نضرة مسخ لفظ أبي سعيد وحذف منه ما لا يقوم المعنى إلا به كما فعل في صدر هذا الحديث نفسه من قوله سألت ابن عباس وابن عمر عن الصرف فلم يريا به بأسا وهذا كلام مطموس لأن الصرف لا بأس به عند كل أحد من الأمة إذا كان على ما جاء به النص من التماثل والتعاقد في الفضة بالفضة وفي الذهب بالذهب ومن التفاضل والتناقد في الذهب بالفضة فطمس أبو نضرة كل هذا وكذلك فعل بلا شك في كلام أبي سعيد ولا يجوز غير هذا أصلا إذ من الباطل أن يروي من هو أوثق من أبي نضرة عن أبي سعيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يوجب أن التفاضل في الفضة بالفضة ربا ثم لا يعول أبو سعيد في تحريم ذلك إلا على تحريم التمر بالتمر متفاضلا هذا ما لا يدخل في عقل أحد وجميع أصحاب القياس لا يجوزون هذا القياس ولا يدخلون الصفر بالصفر قياسا على الربا في التمر بالتمر فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة والحمد لله رب العالمين وبالله تعالى نعتصم وأما سكر هذى فحدثناه حمام بن أحمد ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن عكرمة أن عمر بن الخطاب شاور الناس في حد الخمر وقال إن الناس قد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 شربوها واجترؤوا عليها فقال له علي إن السكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فاجعله حد الفرية فجعله عمر حد الفرية ثمانين وحدثناه أيضا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا عبيد الله بن يحيى بن يحيى ثنا أبي ثنا مالك عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب نرى أن نجلده ثمانين فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى أو كما قال فجلد عمر في الخمر ثمانين حدثناه محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا ابن أبي خالد عن عامر الشعبي قال استشارهم عمر في الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف هذا رجل افترى على القرآن رأى أن تجلده ثمانين حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي نا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ثنا أحمد بن خالد نا عبد الله بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار إن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شربوا الخمر بالشام وإن يزيد بن أبي سفيان كتب فيهم إلى عمر فذكر الحديث وفيه إنهم احتجوا على عمر بقول الله تعالى {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} فشاور فيهم الناس فقال لعلي ماذا ترى فقال أرى قد شرعوا في دين الله تعالى ما لم يأذن به الله تعالى فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم فإنهم قد أحلوا ما حرم الله وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين ثمانين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 فقد افتروا على الله الكذب وقد أخبر الله تعالى بحد ما يفتري به بعضنا على بعض حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ثنا سعيد بن عفير ثنا يحيى بن فليح بن سليمان المدني عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس أن الشراب كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصي حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبو بكر يجلدهم أربعين حتى توفي ثم كان عمر فجلدهم كذلك أربعين حتى أتي برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فأمر به أن يجلد فقال لم تجلدني بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وفي أي كتاب الله تجد ألا أجلدك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 قال له إن الله تعالى يقول في كتابه {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد فقال عمر ألا تردون عليه ما يقول فقال ابن عباس إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن يحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله تعالى يقول {يأيها لذين آمنوا إنما لخمر ولميسر ولأنصاب ولأزلام رجس من عمل لشيطان فجتنبوه لعلكم تفلحون} ثم قرأ الأخرى فإن كان من الذين {ليس على لذين آمنوا وعملوا لصالحات جناح فيما طعموا إذا ما تقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ولله يحب لمحسنين} فإن الله نهاه أن يشرب الخمر فقال عمر صدقت فما ترون فقالعلي إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر به عمر فجلد ثمانين قال محمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي وحدثنا سعيد بن أبي مريم أنا يحيى بن فليح بن سليمان حدثني ثور بن زيد الديلمي عن عكرمة عن ابن عباس فذكر هذا الحديث وفي آخر ثم سأل من عنده عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب إنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين فجلده عمر ثمانين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا يوسف بن سليمان نا حاتم بن إسماعيل نا أسامة بن زيد عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن أزهر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد فأتي بسكران فأمر من كان في أيديهم وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب عليه ثم إن أبا بكر أتي بسكران فتوخى الذي كان يومئذ من ضربهم فضرب أربعين ثم ضرب عمر أربعين قال ابن شهاب ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن وبرة الكلبي قال بعثني خالد بن الوليد إلى عمر فأتيته وعنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف متكئون معه في المسجد فقلت له إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام ويقول لك إن الناس انتهكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فما ترى فقال عمر هم هؤلاء عندك قال فقال علي أراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فأجمعوا على ذلك فقال عمر بلغ صاحبك ما قالوا فضرب خالد ثمانين وضرب عمر ثمانين قال وكان عمر إذا أتي بالرجل القوي المنهمك في الشراب ضربه ثمانين وإذا أتي بالرجل الذي كان منه زلة الضعيف ضربه أربعين وفعل ذلك عثمان أربعين وثمانين قال أبو محمد فهذا كل ما ورد في ذلك قد تقصيناه وكله ساقط لا حجة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 فيه مضطرب ينقض بعضه بعضا أما الآثار التي صدرنا بها من طريق الثقات أيوب ومالك والشعبي ومحارب بن دثار فمرسلات كلها لا يدري عمن هي في أصلها فسقط الاحتجاج بها وأما المتصلان فمن طريق يحيى بن فليح بن سليمان وهو مجهول البتة والحجة لا تقوم بمجهول وأبو فليج متكلم فيه مضعف والثاني عن أسامة بن زيد وهو ضعيف بالجملة فسقط كل ما في هذا الباب مع أنه لو صح هذان الأثران المتصلان لكان حجة عليهم قاطعة لأن في رواية يحيى بن فليح أن أبا بكر فرض الحد في الخمر أربعين فلو جاز لعمر أن يزيد على ما فرض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 أبو بكر لمن بعد عمر أن يزيد ويحيل الحد الذي فرض عمر أو يسقط منه ولا فرق فإن لم يكن فرض أبي بكر بحضرة جميع الصحابة حجة وعمر وغيره بالحضرة وفي أقل من هذا يزعمون أنه إجماع ففرض عمر وقد مات كثير من الصحابة قبل ذلك الفرض أحرى ألا يكون حجة وهذا على أقوالهم إجازة لمخالفة وفي هذا ما فيه وأن من يرى ما في هذا الخبر من فعل أبي بكر بحضرة الصحابة إجماعا ثم يرى رسالة مكذوبة من عمر إلى الأشعري إجماع لمنحرف عن الحق وأما الذي من طريق أسامة بن زيد ففيه بيان جلي على أن عمر لم يجعل ذلك فرضا واجبا وأنه إنما كان منه تعزيرا وذلك أنه ذكر فيه إذا أتي بالمنهمك في الشراب جلده ثمانين جلدة وإذا أتي بالذي كانت منه في ذلك زلة الضعيف جلده أربعين وأن عثمان أيضا جلد أربعين وثمانين فباليقين يعلم كل ذي عقل أنه لو كانت الثمانون فرضا لما جاز أن يحال في بعض الأوقات فسقط احتجاجهم بالجملة وعاد عليهم مسقطا لقولهم فكيف ولا يصح من ذلك كله شيء وقد نزه الله عز وجل عليا رضي الله عنه عن هذا الكلام الساقط الغث ثم سأل عمر عن من عنده عن الحد فيهما فقال علي بن أبي طالب الذي ليس وراءه مرمى في السقوط والهجنة لوجوه أحدها أنه لا يحل لمسلم أن يظن أن عمر وعليا يضعان شريعة في الإسلام لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم ولكانا في ذلك كالذين أنكرا عليهم في الحديث نفسه أنهم شرعوا ما لم يأذن به الله تعالى فمن المحال أن ينكر على علي من شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى ويشرع هو في الحين نفسه شريعة لم يأذن بها الله تعالى وهذا ما لا يظنه بعلي ذو عقل ودين ولا فرق بين وضع حد في الخمر وبين إسقاط حد الزنى أو الزيادة فيه أو إسقاط ركعة من الظهر أو زيادة فيها أو فرض صلاة غير الصلوات المعهودة أو وضع حد مفترض في أكل الربا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 وكل هذا كفر ممن أجازه ثم المشهور عن علي رضي الله عنه بالسند الصحيح أنه جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين في أيام عثمان رضي الله عنه فبطل يقينا أن يكون يرى الحد ثمانين ويجلد هو أربعين فقط وهذا الحديث يكذب كل ما عن علي بخلافه وأيضا فليس كل من يشرب الخمر يسكر وشارب الجرعة لا يسكر والحد عليه ولا كل من يسكر يهذي ففي الناس كثير يغلب عليهم السكون حينئذ نعم وذكر الله تعالى الآخرة والبكاء والدعاء والتأدب الزائد ولا كل من يهذي يفتري فالمبرسم يهذي ولا يفتري ولا كل من يفتري يلزمه الحد فقد يفتري المجنون والنائم فلا يحدان فوضح أن هذا الكلام المنسوب إلى علي وقد نزهه الله تعالى عنه من الكذب في منزله ينزه عنها كل ذي عقل فكيف مثله رحمة الله عليه وأيضا فإن كان يجلد لفرية لم يفترها بعد فهذا ظلم بإجماع الأمة ولا خلاف بين اثنين أنه لا يحل لأحد أن يؤاخذ مسلما أو ذميا بما لم يفعل ولا أن يقدم إليه عقوبة معجلة لذنب لم يفعله عسى أن يفعله أو عسى ألا يفعله وإنما عندنا هذا من فعل ظلمة الملوك ذوي الأعياث المشتهرين بأتباعهم من السخفاء المتطايبين بمثل هذا وشبه من السخف ومثل هذا الجنون لا يضيفه إلى عمر وعلي إلا جاهل بهما وبمحلهما من الفضل والعلم رضي الله عنهما وعهدنا بهؤلاء القوم يقولون ادرؤوا الحدود بالشبهات فصاروا ههنا يقيمون الحدود وينسبون إلى عمر وعلى إقامتها بأضعف الشبهات لأن لا شبهة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 أحمق من شبهة من يقيم حد القذف على شارب الخمر خوف أن يفتري وهو لم يفتر بعد وأيضا فإن كان حد الشارب إنما هو للفرية فأين حد الخمر وإن كان للخمر فأين حد الفرية ولا يحل سقوط حد لإقامة آخر وأيضا فإنه إذا سكر هذى وإذا هذى كفر فينبغي لهم أن يضربوا عنقه وإذا شرب سكر وإذا سكر زنى فينبغي لهم أن يرجموه ويجلدوه وإذا شرب سكر وإذا سكر سرق فينبغي لهم أن يقطعوا يده وإذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى خرج فأفسد أموال الناس وأقر في ماله لغيره فينبغي لهم أن يلزموه كل هذه الأحكام فإن لم يفعلوا فقد أبطلوا حدهم إياه ثمانين لأنه إذا هذى افترى وهذا كله جنون نبرأ إلى الله تعالى منه ونقطع يقينا بلا شك أنه كذب موضوع مفترى على علي رضي الله عنه لم يقله قط وكذلك الرواية التي ذكرنا أيضا عن عبد الرحمن بن عوف فهالكة جدا مبعد عن مثله أن يقول افترى على القرآن اجلده ثمانين وهذا محال ظاهرا وكيف يمكن أن يفتري أحد على الله تعالى أو على القرآن فرية توجب ثمانين جلدة والفرية الموجبة لذلك إنما هي في القذف بالزنى فقط وهذا ما لا سبيل إلى إضافته إلى القرآن لأنه ليس إنسانا فإن صحح أهل القياس هذه القضية فليوجبوا ثمانين جلدة حدا واجبا لا يتعد على كل من افترى على أحد بكذبة مثل أن يرميه بكفر أو بتهمة أو بسرقة أو كذب على القرآن أو على الله تعالى وهذا ما لا يقولونه فقد أقروا بضعف هذا القياس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 الذي جعلوه أصلهم وبنوا عليه أو أنهم تركوا القياس في سائر ما ذكرنا ولا بد لهم من أحد الوجهين ضرورة وأول من كان يلزمهم هذا فهم لأنهم مفترون فيما يدعونه من القياس وبالله تعالى التوفيق والصحيح في هذا الباب هو ما حدثناه عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر نا شعبة قال سمعت قتادة يحدث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين وفعله أبو بكر فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر قال أبو محمد فصح أنه تعزير لا حد نعني الأربعين الزائدة وقد حدثنا حمام ثنا ابن مفرج نا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق ثنا ابن جريج ثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبيد بن عمير يقول كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه فكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض إمارة عمر حتى خشي أن يغتال الرجال فجعله أربعين سوطا فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين ثم قال هذا أدنى الحدود حدثنا أحمد بن عمر العذري نا عبد الله بن حسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري ثنا ابن الجهم نا موسى بن إسحاق نا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو خالد عن حجاج عن الأسود بن هلال عن عبد الله هو ابن مسعود أنه أتي برجل قد شرب خمرا في رمضان فضربه ثمانين وعزره عشرين وقد فعل ذلك أيضا علي بالنجاشي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا أبو إسحاق البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن عبد الوهاب أنا خالد بن الحارث ثنا سفيان الثوري ثنا أبو حصين قال سمعت عمير بن سعد النخعي قال سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه هكذا رويناه من طريق الهمداني وغيره عمير بن سعد والصواب سعيد كما رويناه من طريق يزيد بن زريع حدثنا عبد الله بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا إسحاق بن راهويه ثنا يحيى بن حماد ثنا عبد العزيز بن المختار ثنا عبد الله بن فيروز الديباج مولى ابن عامر نا حصين بن المنذر أبو ساسان قال شهدت عثمان أتي بالوليد صلى الصبح ركعتين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 فقال أزيدكم فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر والثاني أنه قاءها فقال عثمان يا علي فاجلده فقال علي للحسن قم فاجلده فقال الحسن ول حارها من تولى قارها فكأنه وجد عليه علي فقال علي يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال أمسك جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة قال أبو محمد فهذه الأحاديث مبينة ما قلنا من أن زيادة عمر على الأربعين التي هي حد الخمر إنما هي تعزير فمرة زاد عشرين فقط ومرة زاد أربعين ومرة زاد علي وابن مسعود ستين وأخبر علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن ذلك يعني الزيادة على الأربعين فقط ومن ظن غير هذا فإنه يكذب النقل الصحيح ويصدق الواهي الضعيف الساقط وهذا علي يجلد في أيام عثمان بحضرة الحسن وعبد الله بن جعفر وسائر من هنالك من الصحابة وغيرهم أربعين فقط وقال عمر وعبد الرحمن بأخف الحدود فصح يقينا أن تلك الزيادة على الأربعين لم يوجبوها فرضا ولا حدا البتة ونعيذهم بالله تعالى من ذلك ولو أخبار مرسلة وردت بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر ثمانين لكفر من يقول إن حد الخمر ثمانون ولكن من تعلق بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد اجتهد فإن وفق لخبر صحيح فله أجران وإن يسر لخبر غير صحيح وهو لا يدري وهيه فهو معذور وله أجر واحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 وهو مخطىء وإنما الشأن والبلية في اثنين هالكين وهو من قامت عليه حجة صحيحة فتمادى فهو ضال فاسق أو مقلد بغير علم متجاسر في دين الله عز وجل فهو أيضا ضال فاسق ونعوذ بالله من الخذلان وأما القياس في الجد فحدثنا حمام بن أحمد القاضي بالغرب ثنا ابن مفرج القاضي برية نا عبد الأعلى بن محمد بن الحسن البوسي قاضي صنعاء نا أبو يعقوب الدبري نا عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن عيسى هو ابن أبي عيسى الخياط عن الشعبي قال كره عمر الكلام في الجد حتى صار جدا فقال إنه كان من أبي بكر أن الجد أولى من الأخ وذكر الحديث وفيه فسأل عنه زيد بن ثابت فضرب له مثلا شجرة خرجت لها أغصان قال فذكر شيئا لا أحفظه فجعل له الثلث قال الثوري وبلغني أنه قال يا أمير المؤمنين شجرة نبتت فانشعب منها غصن فانشعب من الغصن غصنان فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني وقد خرج الغصنان من الغصن الأول قال ثم سأل عليا فضرب له مثلا واديا سال فيه سيل فجعله أخا فيما بينه وبين ستة فأعطاه السدس وبلغني عنه أن عليا حين سأله عمر جعله سيلا قال فانشعب منه شعبة ثم انشعبت شعبتان فقال أرأيت لو أن ماء هذه الشعبة الوسطى يبس أما كان يرجع إلى الشعبتين جميعا قال الشعبي فكان زيد يجعله أخا حتى يبلغ ثلاثة وهو ثالثهم فإن زادوا على ذلك أعطاه الثلث وكان علي يجعله أخا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم ويعطيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 السدس فإن زادوا على ستة أعطاه السدس وصار ما بقي بينهم وحدثنا أيضا أحمد بن عمر العذري عن عبد الرحمن بن الحسن العباسي عن أحمد بن محمد الكرجي أنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاف النصيبي ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي نا إسماعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث بين الجد والإخوة قال زيد وكان رأيي يومئذ الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته فتحاورت أنا وعمر محاورة شديدة فضرب له في ذلك مثلا فقلت لو أن شجرة تشعب من أصلها غصن ثم تشعب في ذلك الغصن خوطان ذلك الغصن يجمع الخوطين دون الأصل ويغدوهما ألا ترى يا أمير المؤمنين أن أحد الخوطين أقرب إلى أخيه منه إلى الأصل قال زيد فأنا أعبر له وأضرب له هذه الأمثال وهو يأبى إلا أن الجد أولى من الأخوة ويقول والله لولا إني قضيته اليوم لبعضهم لقضيت به للجد كله ولكن لعلي لا أخيب سهم أحد ولعلهم أن يكونوا كلهم ذي حق وضرب علي وابن عباس يومئذ لعمر مثلا معناه لو أن سيلا سال فخلج من خليج ثم خلج من ذلك الخليج شعبتان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لوجهين أحدهما أن كلا من هذين الإسنادين ضعيف في الأول عيسى بن أبي عيسى الخياط وهو ضعيف ومع ذلك منقطع لأن الشعبي لم يدرك عمر والثاني فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف البتة فهذا وجه والثاني أنهما صحا لما كان فيهما للقياس مدخل بوجه من الوجوه ولا بمعنى من المعاني لأن السيل لا يستحق ميراثا أصلا لا سدسا ولا ثلثا وكذلك الغصن ولا فرق ومن أنوك النوك أن يظن أحد بمثل علي وزيد رضي الله عنهما إن أحدهما قاسم الجد مع الإخوة إلى خمسة وهو سادسهم ثم له السدس وإن كثروا وإن الثاني قاسم بالجد الإخوة إلى اثنين هو ثالثهما لا ينقضه من الثلث ما بقي أو السدس من رأس المال قياسا على غصنين تفرعا من غصن شجرة وأن إدخال أصحاب القياس لهذا في القياس في القحة الظاهرة والاستخفاف البادي فإن قال قائل فما وجه هذين الصاحبين لهذين المثلين في هذه المسألة فالجواب وبالله تعالى التوفيق إن هذا باطل بلا شك ونحن نبت أنهم رضي الله عنهم ما قالوا قط شيئا من هذا ولقد كانوا أرجح عقولا وأثقب نظرا وأضبط لكلامهم في الدين من أن يقولوا شيئا من هذا الاختلاط ولكن عيسى الخياط وعبد الرحمن بن أبي الزناد غير موثوق بهما ولعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 الشعبي سمعه ممن لا خير فيه كالحارث الأعور وأمثاله ثم لو قال قائل إن وجه ذلك لو صح بين ظاهر لا خفاء به وهو أن زيدا وعليا رضي الله عنهما يذهبان من رأيهما الذي لم يوجباه حتما على أحد إلى أن الميراث يستحق بالدنو في القرابة فإذا كان ذلك والإخوة عندهما أقرب من الجد فإذ هم أقرب من الجد فلا يجوز أن يمنعوا من الميراث معه وللجد فرض بإجماع فلم يجز أن يمنع أيضا من أجلهم وخالفهما غيرهما في قولهما إن الأخ أقرب من الجد فههنا ضربا هذين المثلين ليريا أن قربى الأخ من الأخ المتولدين من الأب كقربى الغصن والغصن المتفرعين من غصن واحد ومن شجرة أو كقربى جدول من جدول تفرعا جميعا من خليج من واد لكان قولا وهذا تشبيه حسي عياني ضروري لا شك فيه إلا أنه ليس من قبل التشبيه بقرب الولادة تستحق الميراث فالعم وابن الأخ أقرب من الجد ولا خلاف بيننا وبين خصومنا أنهما لا يرثان معه شيئا وابن البنت أقرب ابن العم الذي يلتقي مع المرء إلى الجد العاشر وأكثر ولا يرث معه شيئا بإجماع الأمة ونحن لم ننكر الاشتباه وإنما أنكرنا أن نوجب أحكاما لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم من أجل الاشتباه في الصفات فبطل أن يكون لهذا الخبر مدخل في القياس أو تعلق به بوجه من الوجوه ولكن تمويه أصحاب القياس في قياسهم وفيما يحتجون به لقياسهم متقارب كله في الضعف والسقوط والتمويه على الضعفاء المغترين بهم نسأل الله أن يفيء بهم إلى الهدى والتوفيق بمنه وأما قول علي إذ بلغه أن معاوية قال إذ قتل عمار فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتل عمارا الفئة الباغية فقال معاوية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 إنما قتله من أخرجه فبلغ ذلك عليا فقال فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن هو قتل حمزة فلا أعجب من تجليح من أدخل هذا القياس وهل هذا إلا الائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم في قتل الصالحين بين يديه ناصرين له ومن استجاز أن يقول إن هذا قياس فليقل إن قول لا إله إلا الله قياس لأنه إذا قيل لنا لم تقولون ذلك قلنا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها وأن الاشتغال بمثل هذا لعناء لولا الرجاء في الأجر الجزيل في بيان تمويه هؤلاء القوم الذين اختدعوا الأغمار بمثل هذه الدعاوى وإنما هذا من علي رضي الله عنه ليري معاوية تناقض قوله إنه إنما قتل عمارا من أخرجه وهذا مثل قول المالكي والحنفي إن نكاح من اعتق أمته وتزوجها وجعل عتقها صداقها نكاح فاسد فيقول لهم أصحابنا والشافعيون فنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن صفية فاسد فإن أقدموا على ذلك كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا وكقول الحنفي إن الحكم باليمين مع الشاهد مخالف للقرآن فنقول لهم نحن والشافعيون والمالكيون فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إذن مخالف للقرآن فإن قالوا بذلك كفروا وإن كعوا تناقضوا وكقول المالكيين إن صلاة الصحيح المؤتم بإمام مريض قاعدة فاسدة فنقول لهم نحن والشافعيون والحنفيون فصلاة الناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه كذلك وأمره صلى الله عليه وسلم الناس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 إذا صلى إمامهم قاعدا أن يصلوا قعودا فاسد كل ذلك باطل فإن قالوه كفروا وإن كعوا عنه تناقضوا وإن من ظن أن هذا قياس لمخذول أعمى القلب ومن هذا الباب هو قول علي فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن هو قتل حمزة إذ أخرجه وأي قياس ههنا لو عقل هؤلاء القوم وحسبنا الله ونعم الوكيل وكذلك قصة علي رضي الله عنه يوم القضية بينه وبين أهل الشام إذ أراد أن يكتب علي أمير المؤمنين فأنكر ذلك عمرو ومن حضر من أهل الشام وقالوا اكتب اسمك واسم أبيك ففعل فقالت الخوارج لما محا أمير المؤمنين قد خلعت نفسك فاحتج عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إذ أنكر سهيل بن عمرو حين القضية يوم الحديبية أن يكتب في الكتاب محمد رسول الله فمحا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب محمد بن عبد الله فقال علي أترون رسول الله صلى الله عليه وسلم محا نفسه من النبوة إذ محا رسول الله من الصحيفة قال أبو محمد وهذا كالذي في قصة عمار سواء بسواء ولا مدخل للقياس ههنا وإنما هو إئتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم وكلا الأمرين محو من رق ليس أحدهما مقيسا على الآخر وهكذا الأمر حديثا وقديما وإلى يوم القيامة وليس إذا كتبت نار ثم محى امحت النار من الدنيا وهذا من جنون الخوارج وضعف عقولهم إذ كانوا أعرابا جهالا بل قولهم في هذا هو القياس المحقق لأنهم قاسوا محو الخلافة عن علي على محو اسمه من الصحيفة وهذا قياس يشبه عقولهم وقد علم كل ذي مسكة عقل أنه إذا محيت سورة من لوح فإنها لا تمحى بذلك من الصدور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 ومن ظن أن بين القياس وبين قول علي نسبة فإنما هو مكابر للعيان لأن القياس إنما هو تحريم أو إيجاب أو إباحة في شيء غير منصوص تشبيها له بشيء منصوص وليس في هذه القضية تحريم ولا إيجاب ولا تحليل وبالله تعالى التوفيق وأما قول ابن عباس للخوارج إذ أنكروا تحكيم الحكمين يوم صفين إن الله تعالى أمر بالتحكيم بين الزوجين وفي أرنب قيمتها ربع درهم فإن هذا الخبر حدثناه أحمد بن محمد الجسور ثنا وهب بن مسرة ثنا محمد بن وضاح ثنا عبد السلام بن سعيد التنوخي ثنا سحنون ثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عمن حدثه عن ابن عباس قال أرسلني علي إلى الحرورية لأكلمهم فلما قالوا لا حكم إلا لله قلت أجل صدقتم لا حكم إلا لله وإن الله قد حكم في رجل وامرأته وحكم في قتل الصيد فالحكم في رجل وامرأته والصيد أفضل أو الحكم في الأمة يرجع بها ويحقن دماؤها ولم شعثها قال أبو محمد وهذا لا يصح البتة لأنه عمن لم يسم ولا يدري من هو ثم هبك أنه أصح من كل صحيح وأننا شهدنا ابن عباس يقول ذلك فإنه ليس من القياس من ورد ولا صدر بل هو نص جلي ومعاذ الله أن يظن ذو عقل بأن عليا ومعاوية ومن معهما من الصحابة حكموا في النظر للمسلمين قياسا على التحكيم في الأرنب وبين الزوجين فما يظن هذا إلا مجنون البتة وهل تحكيم الحكمين إلا نص قول الله عز وجل {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فنص تعالى على أن كل تنازع في شيء من الدين فإن الواجب فيه تحكيم كتاب الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم والتنازع بين علي ومعاوية لا يجهله من له أقل معرفة في الأخبار ففرض عليهما تحكيم القرآن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 كما فعلا فأي قياس ههنا لو أنصف هؤلاء القوم عقولهم فإن كان هذا عندهم قياسا فقد ضيعوه وتركوه ويلزمهم إن تحاكم إليهم اثنان في بيع أو دين أو غير ذلك فليبعثوا من أهل كل واحد منهما حكما وإلا فقد تركوا القياس بزعمهم فإن قالوا فهلا كفاهم حكم واحد حتى احتجوا إلى اثنين قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إن أهل العراق لم يرضوا حكما من أهل الشام ولا رضي أهل الشام حكما من أهل العراق فلذلك اضطروا إلى حكم من كلتا الطائفتين وأما الرواية عن علي وعمر في قتل الجماعة بالواحد فكما حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج أخبرني عمرو قال قال أخبرني حيي بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يعلى يقول وذكر قصة الذي قتله امرأة أبيه وخليلها أن عمر بن الخطاب كتب إلي اقتلهما فلو اشترك في دمه أهل صنعاء كلهم لقتلتهم قال ابن جريج فأخبرني عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعا إن عمر كان يشك فيها حتى قال له علي يا أمير المؤمنين أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضوا وأخذ هذا عضوا كنت قاطعهم قال نعم قال فذلك حين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 ليس أحدهما أصلا للآخر لأن النص قد ورد بقتل من قتل وكما ورد بقطع من سرق ليس أحد النصين في القرآن بأقوى من الآخر قال تعالى {ولكم في لقصاص حياة يأولي لألباب لعلكم تتقون} وقال تعالى {وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على لله إنه لا يحب لظالمين} وقال تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} ولم يخص تعالى من كلا الأمرين منفرد من مشارك فلو صح لكان علي إنما أنكر على عمر اختلاف حكمه فقط وتركه أحد النصين وأخذه بالآخر وهذا هو الذي ننكره نحن سواء بسواء فخرج هذا الخبر لو صح من أن يكون له في القياس مدخل أو أثر أو معنى والحمد لله رب العالمين ثم قد روينا عن علي أنه كان لا يرى قتل اثنين بواحد فلو قاله لكان قد تركه ورجع عنه ورآه باطلا من الحكم فهذا كل ما ذكروه مما روي عن الصحابة قد بيناه بأوضح بيان بحول الله تعالى وقوته أنه ليس لهم في شيء منه متعلق وهو أنه إما شيء بين الكذب لم يصح وإما شيء لا مدخل للقياس فيه البتة فإذا الأمر كما ترون ولم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس وأيقنا أنهم لم يعرفوا قط العلل التي لا يصح القياس إلا عليها عند القائل به فقد صح الإجماع منهم رضي الله عنهم على أنهم لم يعرفوا ما القياس وبأنه بدعة حدثت في القرن الثاني ثم فشا وظهر في القرن الثالث كما ابتدأ التقليد والتعليل للقياس في القرن الرابع وفشا وظهر في القرن الخامس فليتق الله امرؤ على نفسه وليتداركها بالتوبة والنزوع عمن هذه صفته فحجة الله تعالى قد قامت باتباع القرآن والسنة وترك ما عدا ذلك من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 القياس والرأي والتقليد ولقد كان من بعض الصحابة نزعات إلى القياس أبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم نذكرها إن شاء الله تعالى في الدلائل على إبطال القياس إذا استوعبنا بحول الله تعالى وقوته كل ما اعترضوا به وبقيت أشياء من طريق النظر موهوا بها ونوردها إن شاء الله تعالى ونبين بعونه عز وجل بطلان تعلقهم وأنه لا حجة لهم في شيء منها كما بينا بتأييد الله تبارك وتعالى ما شغبوا به من القرآن وما موهوا به من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما لبسوا به من الإجماع وما أوهموا به من آثار الصحابة وبالله تعالى التوفيق فمن ذلك أنهم قالوا إن القياس هو من باب الاستشهاد على الغائب بالحاضر فإن لم يستشهد بالحاضر على الغائب فلعل فيما غاب عنا نارا باردة قال أبو محمد هذه شغبية فاسدة فأول تمويههم ذكرهم الغائب والحاضر في باب الشرائع وقد علم كل مسلم أنه ليس في شيء من الديانة شيء غائب عن المسلمين وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين للناس دينهم اللازم لهم قال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فلا يخلو رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون لم يبلغ ولا بين للناس فهذا كفر ممن قاله بإجماع الأمة بلا خلاف وإما أن يكون صلى الله عليه وسلم بلغ كما أمر به وبين للناس جميعهم دينهم وهذا هو الذي لا شك فيه فأين الغائب من الدين ههنا لو عقل هؤلاء القوم إلا أن يكون هؤلاء القوم وفقنا الله وإياهم يتعاطون استخراج أحكام في الشريعة لم ينزلها الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم فهي غائبة عنا فهذا كفر ممن أطلقه واعتقده وتكذيب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 لقول الله عز وجل {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد وأما تمويههم بذكر النار ولعل في الغائب نارا باردة فكلام غث في غاية الغثاثة لأن لفظة نار إنما وقعت في اللغة على كل حار مضيء صعاد فإن كنتم تريدون أن شيئا حارا يكون باردا فهذا تخليط وعين المحال وأما لفظة نار فقد وقعت أيضا في اللغة على ما لا يحرق فالنار عند العرب اسم الميسم الذي توسم به الإبل فيقولون ما نارها بمعنى ما وسمها فليس الاسم مضطرا إلى وجوده كما هو ولا بد ولكنه اتفاق أهل اللغة وليس من قبل أننا شاهدنا النار محرقة صعادة مضيئة وجب ضرورة أن تسمى نارا ولا بد بل لو سموها باسم آخر ما ضر ذلك شيئا وليس أيضا من قبل أننا شاهدنا النار على هذه الهيئة عرفنا أن ما غاب عنا منها كذلك أيضا بل قد علمنا أن أهل اللغة لم يوقعوا اسم نار في الغائب والحاضر إلا على الحار المضيء المحرق الصعاد فإن قلتم فلعل في الغائب جسما مضيئا باردا صعادا قلنا لكم هذا ما لا دليل عليه والقول بما لا دليل عليه غير مباح وقد عرفنا صفات العناصر كلها إلا إن قلتم لعل الله تعالى عالم بهذه الصفة فالله تعالى قادر على ذلك ولكنه تعالى لم يخلق في هذا العالم مما شاهدنا بالحواس أو بالعقل أو بالمقدمات الراجعة إلى الحواس والعقل غير ما شاهدنا بذلك ولعله تعالى قد خلق عوالم بخلاف صفة عالمنا هذا إلا أن هذا أمر لا نحققه ولا نبطله ولكنه ممكن والله أعلم ولا علم لنا إلا ما علمنا الله وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا فقالوا إن في النصوص جليا وخفيا فلو كانت كلها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 جلية لاستوى العالم والجاهل في فهمها ولو كانت كلها خفية لم يكن لأحد سبيل إلى فهمها ولا إلى علم شيء منها قالوا فوجب بذلك ضرورة أن نستعمل القياس من الجلي على معرفة الخفي قال أبو محمد وهذه مقدمة فاسدة والأحكام كلها جلية في ذاتها لأن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} ولا يحل لمسلم أن يعتقد أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالبيان في جميع الدين فلم يفعل ولا بين وهذا ما لا يجوز لمسلم أن يخطره بباله فإذ لا شك في هذا ونوقن أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الدين كله فالدين كله بين وجميع أحكام الشريعة الإسلامية كلها جلية واضحة وقد قال عمر رضي الله عنه تركتم على الواضحة ليلها كنهارها أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا وقال أيضا رضي الله عنه سننت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض إلا أن يضل رجل عن عمد قال أبو محمد إلا أن من الناس من لا يفهم بعض الألفاظ الواردة في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم لشغل بال أو غفلة أو نحو ذلك وليس عدم هذا الإنسان فهم ما خفي عليه بمانع أن يفهمه غيره من الناس وهذا أمر مشاهد يقينا وهكذا عرض لعمر رضي الله عنه إذا لم يفهم آية الكلالة وفهمها غيره وقال عمر رضي الله عنه اللهم من فهمته إياها فلم يفهمها عمر وقال ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة وما أغلظ لي بشيء ما أغلظ لي فيها إلى أن طعن بأصبعه في صدري وقال لحفصة ما أراه يفهمها أبدا أو كما قال صلى الله عليه وسلم فصح ما قلناه يقينا وأخبر صلى الله عليه وسلم أن آية الصيف كافية الفهم وأن عمر لم يفهمها ليس لأنها غير كافية بل هي كافية بينة ولكن لم ييسر لفهمها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 وكذلك أخبر صلى الله عليه وسلم أن الحلال بين وأن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فلم يقل صلى الله عليه وسلم إنها مشتبهات على جميع الناس وإنما هي مشتبهة على من لا يعلمها وإذ هذا كذلك فحكم من لا يعلم أن يسأل من يعلم كما قال تعالى {ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسألوا أهل لذكر إن كنتم لا تعلمون} ولم يقل فارجعوا إلى القياس فوضع دعوى هؤلاء القوم وصح أن الدين كله بين واضح وسواء كله في أنه جلي مفهوم إلا أن من الناس من يخفى عليه الشيء منه بعد الشيء لإعراضه عنه وتركه النظر فيه فقط وقد يخفى على العالم الفهم أيضا إذا نظر في مقدماته وقضاياه بفهم كليل إما لشغل بال وإما لطلبه في اللفظ ما لا يقتضيه فقط حتى يعلمه إياه العلماء الذين هو عندهم بين جلي ولو لم يكن الأمر هكذا لما عرف الجاهل صحة قول مدعي الفهم أبدا فصح أنه لما أمكن العالم إقامة البرهان حتى يفهم الجاهل من القضايا كالذي فهم العالم فإن العلم كله جلي ممكن فهمه لكل أحد ولولا ذلك ما فهم الجاهل شيئا ولا لزم من لا يفهم العمل بما لا يفهم وأيضا فيلزم فيما كان منه خفيا ما ألزموه لو كان كله خفيا وفي الجلي منه ما يلزم لو كان كله جليا ولا فرق وليس للقياس ههنا طريق البتة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا فقالوا لما رأينا البيضتين إذا تصادمتا تكسرتا علمنا أن ذلك حكم كل بيضة لم تنكسر قالوا وهذا قياس قال أبو محمد وهذا خطأ ولم نعلم ذلك قياسا ولكن علمنا بأول العقل وضرورة الحس أن كل رخص الملمس فإنه إذا صدمه ما هو أشد منه اكتنازا أثر فيه إما بتفريق أجزائه وإما بتبديل شكله ولم نقل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 قط إن البيضة لما أشبهت البيضة وجب أن تنكسر إذا لاقت جرما صليبا بل هذا خطأ فاحش وفي هذا القول إبطال القياس حقا فبيضة الحنش وبيضة الوزعة وبيضة صغار العصافير لا تشبه بيضة النعام البتة في أغلب صفاتها إلا أنهما جميعا واقعان تحت نوع البيض وكلاهما ينكسر إذا لاقا جسما صليبا مكتنزا ونحن لو خرطنا صفة بيضة من عاج أو من عود البقس حتى تكون أشبه ببيضة النعامة من الماء بالماء ولم تشبه بيضة الحجلة إلا في الجسمية فقط ثم ضربنا بها الحجر لما انكسرت فصح أن الشبه لا معنى له في إيجاب استواء الأحكام البتة وبطل قولهم إننا علمنا انكسار ما بأيدينا من البيض لشبهها بما شاهدنا انكساره منها وصح أنه من أجل الشبه بينهما وجب انكسار هذه كانكسار تلك وإنما الذي يصح بهذا فهو قولنا إن كل ما كان تحت نوع واحد فحكمه مستو وسواء اشتبها أو لم يشتبها فقد علمنا أن العنب الأسود الضخم المستطيل أو المستدير أشبه بصغار عيون البقر الأسود منه بالعنب الأبيض الصغير لكن ليس شبهه به موجبا لتساويهما في الطبيعة ولا بعده عن مشابهة العنب بموجب لاختلافهما في الطبيعة فبطل حكم التشابه جملة وصح أن الحكم للاسم الواقع على النوع الجامع لما تحته وهكذا قلنا نحن إن حكمه صلى الله عليه وسلم في واحد من النوع حكم منه في جميع النوع وأما القياس الذي ننكر فهو أن يحكم لنوع لا نص فيه بمثل الحكم في نوع آخر قد نص فيه كالحكم في الزيت تقع فيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 النجاسة بالحكم في السمن يقع فيه الفأر وما أشبه هذا فهذا هو الباطل الذي ننكره وبالله التوفيق ومعرفة المرء بأول طبيعته لا ينكرها إلا جاهل أو مجنون فنحن نجد الصغير يفر عن الموت وعن كل شيء ينكره وعن النار وإن كان لم يحترق قط ولا رأى محترقا وعن الإشراف على المهواة ونجده يضرب بيده إذا غضب وهو لا يعلم أن الضرب يؤلم ويعض بفمه قبل نبات أسنانه وهو لم يعضه قط أحد فيدري ألم العض نعم حتى نجد ذلك في الحيوان غير الناطق فنجد الصغير من الثيران ينطح برأسه قبل نبات قرنيه والصغير من الخنازير يشتر بفمه قبل كبر ضرسه والصغير من الدواب يرمح قبل اشتداد حافره وهذا كثير جدا فبمثل هذا الطبع علمنا أن كل رخص المجسمة فإنه يتغير بانكسار أو تبدل شكل إذا لاقى جسما صليبا وبه علمنا أن كل نار في الأرض وفيما تحت الفلك فهي محرقة لا بالقياس البارد الفاسد وليس هذا في شيء من الشرائع البتة بوجه من الوجوه لأنه لم تكن النار قط منذ خلقها الله تعالى إلا محرقة حاشا نار إبراهيم لإبراهيم عليه السلام وحده لا لغيره بالنص الوارد فيها ولم يجز أن يقاس عليها غيرها ولا كانت البيضة قط إلا متهيئة للانكسار إذا لاقت شيئا صلبا وقد كان البر بالبر حلالا متفاضلا برهة من الدهر وكذلك كل شيء من الشريعة واجب فقد كان غير واجب حتى أوجبه النص وغير حرام حتى حرمه النص فليست ههنا شيء أن يجب أن يقاس عليه ما لم يأت بإيجابه نص ولا تحريم أصلا وبالله تعالى التوفيق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 واحتجوا بأن قالوا إن علمنا بما في داخل هذه الجوزة والرمانة على صفة ما إنما هو قياس على ما شاهدنا من ذلك وإلا فلعل داخلهما جوهر أو شيء مخالف لما عهدناه وكذلك أن في رؤوسنا أدمغة وفي أجوافنا مصرانا وأن هذا الصبي لم تلده حمارة وأن الأحياء يموتون إنما علمنا ذلك قياسا على ما شاهدنا قال أبو محمد وهذا من أبرد ما موهوا به وما علم قط ذو عقل أن من أجل علمنا بأن ما في داخل هذه الرمانة كالذي في داخل هذه وأن في أجوافنا مصرانا وفي رؤوسنا أدمغة وأن الناس لم تلدهم الأتن وأن الأحياء يموتون علمنا أن الزيت ينجس إذا مات فيه عصفور ولا ينجس إذا مات فيه مائة عقرب وأن التمرة بالتمرة حرام والتفاحة بالتفاحة حلال وأن البئر إذا مات فيها سنور نزح منها أربعون دلوا فإن سقط فيها نقطة بول نزحت كلها وأن من مس دبره انتقض وضوءه وأن من مس أنثييه لم ينتقض وضوءه وهل بين هذه الوجوه والتي قبلها تشبيه وإن المشبه بين هاتين الطريقتين لضعيف التمييز وتلك أمور طبيعية ضرورية تولى الله عز وجل إيقاعها في القلوب لا يدري أحد كيف وقع له علمها وهذه الأخر إما دعاوى لا دليل عليها وإما سمعية لم تكن لازمة ثم ألزم الله منها بالنص لا بالكهانة ولا بالدعوى ونحن نجد الصغير الذي لم يحب بعد وإنما هو حين هم أن يجلس إذا رأى رمانة قلق وشره إلى استخراج ما فيها وأكلها وكذلك الجوز وسائر ما يأكله الناس فليت شعري متى تعلم هذا الصبي القياس بأن ما في هذه الرمانة كالتي أطعمناه عام أول أو قبل هذا بشهر ولقد كان ينبغي لهم أن يعرفوا على هذا أحكام القياس بطبائعهم دون أن يأخذوها تقليدا عن أسلافهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 ولو أنهم تدبروا العالم وتفكروا في طبائعه وأجناسه وأنواعه وفصوله وخواصه وأعراضه لما نطقوا بهذا الهذيان فإن كانوا يريدون أن يسموا جري الطبائع على ما هي عليه قياسا فهذه لغة جديدة ولم يقصدوا بها وجه الله تعالى لكن قصدوا الشغب والتخليط كمن سمى الخنزير أيلا ليستحله والأيل خنزيرا ليحرمه وكل هذه حيل ضعيفة لا يتخلصون بها مما نشبوا فيه من الباطل وإنما تكلمهم عن المعنى لا على ما بدلوه برأيهم من الأسماء فإذ حققوا معنا المعنى الذي يرمون إثباته ونحن نبطله فحينئذ يكلف البرهان من ادعى أمرا منا ومنهم فمن أتى به ظفر ومن لم يأت به سقط وليسموه حينئذ بما شاؤوا ويكفي من سخف هذا الاحتجاج منهم أن يقال لكل ذي حس هل نسبة التين من البر كنسبة الجوزة من الجوزة وكنسبة الرمانة من الرمانة وكنسبة الإنسان من الإنسان فإن وجد في العالم أحمق يقول نعم لزمه إخراج البلوط والتين عن زكاة البر كيلا بكيل وهذا ما لا يقوله مسلم ولزمه أن يقول فيمن حلف لا يأكل برا فأكل تينا أن يحنث ولزمه أكثر من هذا كله وهو الكذب إن التين بر وإن قالوا لا تركوا قولهم في تشبيه القياس في الشرائع لمعرفتنا بأن ما في هذه الرمانة كهذه والذي لا نشك فيه فهذا الاحتجاج منهم مبطل لقولهم ومثبت لقولنا لأن الرمانة من الرمانة والجوزة من الجوزة والإنسان من الإنسان كالسمن من السمن والفأر من الفأر وكل نوع من نوعه والجوز مخالف للرمان كخلاف السنور من الفأر وخلاف الزيت للسمن وهذا هو الذي ينكره ذو عقل وأنه إذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم البر بالبر متفاضلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 لزم ذلك في كل بر ولم يجب فيما ليس ببر إلا بنص آخر وإذا أمر بهرق السمن المائع الذي مات فيه الفأر وجب ذلك في كل سمن مات فيه فأر ولم يجب ذلك في غير السمن الذي مات فيه الفأر وهذا هو الذي لا تعرف العقول غيره وبالله تعالى التوفيق وأما تحريم البلوط قياسا على البر وهرقهم الزيت قياسا على السمن فهو كمن قال الذي داخل اللوز كالذي داخل الرمان ولا فرق فبطل قولهم بالبرهان الضروري وصح أن القياس إنما هو قياس نوع على نوع آخر وهذا باطل بنفس احتجاجهم وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم أمعرفتكم بأنكم تموتون وهو شيء يستوي في الإقرار به كل ذي حس هو مثل معرفتكم بالشرائع كالصلاة والزكاة والصيام وغير ذلك مما يحرم في البيوع والنكاح وما يحل فإن قالوا لا كفونا أنفسهم وأبطلوا ما استدلوا به ههنا وإن قالوا نعم كابروا ولزمهم أن يكونوا مستغنين عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم كانوا يدرون الشريعة بطبائعهم قبل أن يعلموها وهذا ما لا يقوله ذو عقل ويقال لهم هل كان على قشر الرمان قط على لوز فإن قالوا نعم لحقوا بسكان المارستان وإن قالوا لا سألناهم أكانت الخمر قط حلالا وكان بيع البر بالبر متفاضلا غير محرم في صدر الإسلام أو لم يزل ذلك والخمر حلالا مذ خلق الله الخمر وللبر بينة الطبع فإن قالوا كانت الخمر وبيع البر متفاضلا غير حرام برهة من الإسلام ثم حرم ذلك أقروا بأن ذلك ليس من باب ما في قشر اللوز والرمان في ورد ولا صدر لأن الطبائع قد استقرت مذ خلق الله تعالى العالم على رتبة واحدة هذا معلوم بأول العقل والحس اللذين يدرك بهما علم الحقائق وأما الشرائع فغير مستقرة ولم يزل تعالى مذ خلق الخلق ينسخ شريعة بعد شريعة فيحرم في هذه ما أحل في تلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 ويسقط في هذه ما أوجب في تلك ويوجب في هذه ويحل فيها ما أسقط في تلك وما حرم إلى أن نص الله تعالى أنه لا تبدل هذه الملة أبدا فصح أن من شبه الطبائع التي تعلم بالحس والعقل بالشرائع التي لا تعلم إلا بالنص لا مدخل للعقل ولا للحس في تحريم شيء منها ولا في إيجاب فرض منها إلا بعد ورود النص بذلك فهو غافل جاهل ولو احتج بهذا يهودي لا يرى النسخ لكان هذا الاحتجاج أشبه بقوله منه بقول أصحاب القياس وأما الموت فهو حكم كل جسم مركب من العناصر إلى نفس حية فقد رتب الله تعالى في العالم هذا اصطحابهما مدة ثم افتراقهما ورجوع كل عنصر إلى عنصره وليس هذا قياسا يوجب موت أهل الجنة والنار فبطل تمويههم وبالله تعالى التوفيق وقالوا القياس فائدة زائدة على النص قال أبو محمد لا فائدة في الزيادة على ما أمر الله تعالى به ولا في النقص منه بل كل ذلك بلية ومهلكة وتعد لحدود الله تعالى وظلم وافتراء وبالله تعالى نعوذ من ذلك ولا أعظم جرما ممن يقر على نفسه أنه يزيد على النص الذي أذن الله به ولم يأذن في تعديه وبالله تعالى نعوذ من الخذلان واحتج بعضهم فقال لمن سلف من أصحابنا فقهكم في اتباع الظاهر يشبه فعل الغلام الذي قال له سيده هات الطست والإبريق فأتاه بهما ولا ماء في الإبريق فقال له وأين الماء لم تأمرني وإنما أمرتني بطست وإبريق فهاهما وأنا لا أفعل إلا ما أمرتني قال أبو محمد فقال لهم وبالله تعالى التوفيق بل فقهكم أنتم يشبه فعل المذكور على الحقيقة إذ قال له سيده إذا أمرتك بأمر فافعله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 وما يشبهه فعلمه سيده القياس حقا على وجهه وحفظ الغلام ذلك وقبله قبولا حسنا فوجد سيده حرارة فقال سق إلي الطبيب فإني أجد التياثا فلم ينشب أن أتاه بعض إخوانه فزعا فقال له يا فلان من مات لك فقال ما مات لي أحد فقال له فإن الغاسل والمغتسل والنعش وحفار القبور عند الباب فدعا غلامه فقال له ما هذا الباب فقال له ألم تأمرني إذا أمرتني بأمر أن أفعله وما يشبهه قال نعم قال فإنك أمرتني بسوق الطبيب لالتياثك وليس يشبه العلة وإحضار الطبيب إلا الموت والموت يوجب حضور الغاسل والنعش والحفار لحفر القبر فأحضرت كل ذلك وفعلت ما أمرتني وما يشبهه فنحن نقول إن هذا الغلام أعذر في الائتمار لأمر مولاه في الإبريق الفارغ إذ لعله يريد أن يعرضه على جليسه أو يبيعه أو يقبله لمذهب له فيه منه في جلب الحفار والغاسل والنعش قياسا على العلة والطبيب ولقد كان الغلام قوي الفهم في القياس إذ لا قياس بأيديكم إلا مثل هذا وهو أن تشبهوا حالا بحال في الأغلب فتحكمون لهما بحكم واحد وهو باب يؤدي إلى الكهانة الكاذبة والتخرص في علم الغيب والتحذلق في الاستدراء على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيما لم يأذن به عز وجل وبالله تعالى نعوذ من ذلك واحتجوا فقالوا أنتم تقولون إذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في عين ما فهو حكم واحد في جميع نوع تلك العين التي يقع عليها اسم نوعها وهذا قياس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 قال أبو محمد هذا تمويه زائف وقد بينا وجه هذه المسألة وهو أنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من يخلق إلى يوم القيامة من الإنس والجن وليحكم كل نوع من أنواع العالم بحكم ما أمره به ربه تعالى ولا سبيل إلى أن يخاطب صلى الله عليه وسلم من لم يخلق بعد بأكثر من أن يأمر بالأمر فيلزم النوع كله إلا أن يخص صلى الله عليه وسلم كما خص أبا بردة بن نيار بقوله يجزيك ولا تجزىء جذعة عن أحد بعدك قالوا فهلا قلتم في أمره صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت حبيش بما أمرها به إذا استحيضت إنه لازم لكل امرأة تسمى فاطمة فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق لم ينص عليه السلام على أن ذلك حكم كل امرأة تسمى فاطمة وإنما نص صلى الله عليه وسلم على أن دم الحيض أسود يعرف فإذا أقبل فافعلي كذا وإذا أدبر فافعلي كذا فنص صلى الله عليه وسلم على صفة الحيض والطهر والاستحاضة وعلى حكم كل ذلك متى ظهر فوجب التزام ذلك متى وجد الحيض أو الطهر أو الاستحاضة ثم ينعكس هذا السؤال عليهم بعد أن أريناه أنه حجة لنا فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق أنتم أهل القياس وتفتيش العلل في الديانة وتعدي القضايا عما نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما لم ينصا عليه وأنتم أهل الكهانة والاستدراك في الديانة ما لم يذكر الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فاستعملوا مذهبكم في هذا الحديث فقد قال عليه السلام في دم الاستحاضة عندكم إنما هو عرق وبين أن دم الحيض أسود يعرف فكما قستم الحمرة والصفرة والكدرة على الدم الأسود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 فجعلتموه كله حيضا فكذلك قيسوا كل عرق يسيل من المرأة من رعاف أو جرح على عرق الاستحاضة وأحكموا لها حينئذ بحكم الاستحاضة وإلا كنتم متناقضين وتاركين للقياس ولا شك عند كل ذي حسن إن كان القياس حقا إن قياس عرق يدمي عن عرق يدمي أشبه وأولى من قياس الدلاع أو الشاهبلوط على البر والتمر على أن بعضهم قد فعل ذلك وهم الحنفيون وأوجبوا أن الوضوء ينتقض بكل عرق دمي قياسا على عرق المستحاضة عندهم فيلزمهم أن يوجبوا من ذلك الغسل كما جاء النص على المستحاضة وهذا ما لا انفكاك لهم منه وبالله تعالى التوفيق وقالوا لم نعلم أن أجسام أهل الصين كأجسامنا إلا قياسا منا بالشاهد على الغائب قال أبو محمد وهذا من الجنون المكرر وقد بينا آنفا أن علمنا بهذا علم ضروري أولي يعرف ببديهة العقل ولم يكن المميز قط من الناس إلا وهو عالم بطبعه أن كل من مضى أو يأتي أو غاب عنه من الناس فعلى هيئتنا بلا شك ولا يتشكل في عقل أحد سوى هذا وبالضرورة يعلم كل ذي عقل أن علمنا أن المطلقة ثلاثا لا تحل لمطلقها إلا بعد زواج يطؤها ليس من علمنا بأن أهل الصين من الناس هم على هيئاتنا بل كان جائزا أن تحل له بعد ألف طلقة دون زوج ولولا النص وهكذا القول في البئر وسائر ما وردت به النصوص لأنه قد كانت هذه الأعيان موجودة آلافا من السنين ليس فيها شيء من هذا التحريم ولا هذا الإيجاب ولم تكن الأجسام قط خالية من حركة أو سكون ولا كانت أجسام الناس على خلاف هذا الشكل الذي هم عليه والمشبه للشرائع بالطبائع مجنون أو في أسوأ حالا من الجنون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 لأن من سلك سبيل المجانين وهو مميز فالمجنون أعذر منه ولو أنصفوا أنفسهم لعلموا أن الذي قالوا حجة عليهم لأن علمنا بأن أجسام الناس في الصين وفيما يأتي إلى يوم القيامة على هيئة أجسامنا هو كعلمنا بعد ورود النص بأن كل بر في الصين والهند وكل بر يحدثه الله تعالى إلى يوم القيامة فحرام بيع بعضه ببعض متفاضلا وأما هم فإنه يلزمهم إذ نقلوا حكم البر المذكور إلى التين والأرز أن ينقلوا حكم أجسام الناس إلى أجسام البغال فيقولوا إن بغال الصين على هيئة أجسام الناس لأن نسبة الأرز إلى البر كنسبة البغال إلى الناس ولا فرق وكل ذلك أنواع مختلفة ويلزمهم أيضا إذا قاسوا الغائب على غير نوعه من الشاهد أن يقولوا إن الملائكة والحور العين لحم ودم قياسا على الناس وأنهم يمرضون ويفيقون ويموتون وأن فيهم حاكة وملاحين وفلاحين وحجامين وكرباسيين قياسا على الشاهد وإلا فقد نقضوا وبطلوا قياسهم للغائب على الشاهد والحق من هذا أن لا غائب عن العقل من قسمة العالم التي تدرك بالعقل ولا غائب عن السمع من الشريعة وبالله تعالى نعتصم وكل ذلك ثابت حاضر معلوم والحمد لله رب العالمين وقالوا إن كل مشتبهين فوجب أن يحكم لهما بحكم واحد من حيث اشتبها قال أبو محمد وهذا تحكم بلا دليل ودعوى موضوعة وضعها غير مستقيم والحقيقة في هذا أن الشيئين إذا اشتبها في صفة ما فهما جميعا فيها مستويان استواء واحدا ليس أحدهما أولى بتلك الصفة من الآخر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 ولا أحدهما أصل والثاني فرع ولا أحدهما مردود إلى الآخر ولا أحدهما أولى بأن يكون قياسا على الآخر من أن يكون الآخر قياسا كزيد ليس أولى بالآدمية من عمرو ولا حمار خالد أولى بالحمارية من حمار محمد والغراب الأسود والسح ليس أحدهما أولى بالسواد من الآخر وهذا كله باب واحد في جميع ما في العالم وكذلك الشرائع ليس بر بغداد بأولى بالتحريم في بيع بعضه ببعض متفاضلا من بر الأندلس ولا سمن المدينة إذا مات فيه الفأر وهو مائع بأولى أن يهراق من سمن مصر فهذا هو الذي لا شك فيه وأما ما يريدون من دس الباطل وما لا يحل جملة الواجب فلا يجوز لهم بعون الله تعالى إلا على جاهل مغتر بهم أهلكوه إذ أحسن الظن بهم وذلك أنهم يريدون أن يأتوا إلى ما ساوى نوعا آخر في بعض صفاته فيلحقونه به فيما لم يستو معه وهذا هو الباطل المحض الذي لا يجوز البتة أول ذلك أنه تحكم بلا دليل وما كان هكذا فقط سقط وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المؤمن كقتله وكل مسلم يعلم أنه لا تشابه أقوى من تشابه أخبر به صلى الله عليه وسلم فإذا لا شك في هذا وصح يقينا أن لعن المؤمن كقتله وأجمعت الأمة بلا خلاف أن لعن المؤمن لا يبيح دم اللاعن كما يبيح القتل دم القاتل ولا يوجب دية كما يوجب القتل دية فبطل قول من قال إن الاشتباه بين الشيئين يوجب لهما في الشريعة حكما واحدا فيما لم على اشتباههما فيه وبعد فإن البرهان يبطل قولهم من نفس هذه المقدمة التي رتبوا وذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 أنه ليس في العالم شيئان أصلا بوجه من الوجوه إلا وهما مشتبهان من بعض الوجوه وفي بعض الصفات وفي بعض الحدود لا بد من ذلك لأنهما في محدثان أو مؤلفات أو جسمان أو عرضان ثم يكثر وجود التشابه على قدر استواء الشيئين تحت جنس أعلى ثم تحت نوع فنوع إلى أن تبلغ نوع الأنواع الذي يلي الأشخاص كقولنا الناس أو الجن أو الخيل أو البر أو التمر وما أشبه ذلك فواجب على هذه المقدمة الفاسدة التي قدموا إذا كانت عين ما مما في العالم حراما إما أن يكون ما في العالم أوله عن آخره حراما قياسا عليه لأنه يشبهه ولا بد في بعض الوجوه إن تمادوا على هذا سخطوا وكفروا وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها ثم نلزمهم إلزاما آخر وهو أننا نجد أيضا شيئا آخر حلالا فيلزم أن يكون كل ما في العالم حلالا قياسا على هذا لأنه أيضا يشبهه من بعض الوجوه وهذا إن قالوه حمقوا وخرجوا عن الإسلام وإن أبوا منه تركوا مذهبهم الفاسد في قياس الحكم فيما لم ينص عليه من الأنواع على ما نص عليه منها ثم تجمع عليهم هذين الإلزامين معا فيلزمهم أن يجعلوا الأشياء كلها حراما حلالا معا قياسا على ما حرم وما حلل وهذا تخليط ولا شك في فساد كل قول أدى إلى مثل هذا السخف فإذ لا شك في بطلان هذا الهذيان فالواجب ضرورة أن يحكم بالتحريم فيما جاء فيه النص بالتحريم وأن يحكم بالتحليل فيما جاء فيه النص بالتحليل وأن يحكم بالإيجاب فيما جاء فيه النص بالإيجاب ولا يتعدى حدود الله تعالى فلم يبق لهم إلا أن يقولوا إن النص لا تستوعب كل شيء قال أبو محمد وهذا قول يؤول إلى الكفر لأنه قول بأن الله تعالى لم يكمل لنا ديننا وأنه أهم أشياء من الشريعة تعالى الله عن هذا والله تعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 أصدق منهم حيث يقول {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} و {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} و {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فبطل قولهم بالقياس والحمد لله رب العالمين وما نعلم في الأرض بدع السوفسطائية أشد إبطالا لأحكام العقول من أصحاب القياس فإنهم يدعون على العقل ما لا يعرفه العقل من أن الشيء إذا حرم في الشريعة وجب أن يحرم من أجله شيء آخر ليس من نوعه ولا نص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على تحريمه وهذا ما لا يعرفه العقل ولا أوجب العقل قط تحريم شيء ولا إيجابه إلا بعد ورود النص ولا خلاف في شيء من العقول أنه لا فرق بين الكبش والخنزير ولولا أن الله حرم هذا وأحل هذا فهم يبطلون حجج العقول جهارا ويضادون حكم العقل صراحا ثم لا يستحبون أن يصفوا بذلك خصومهم فهم كما قال الشاعر ويأخذ عيب الناس من عيب نفسه مراد لعمري ما أراد قريب وأيضا فإنه يقال لهم إذا قلتم إن كل شيئين اشتبها في صفة ما فإنه يجب التسوية بين أحكامهما في الإيجاب والتحليل وبالتحريم في الدين فما الفرق بينكم وبين عكس من عليكم هذا القول بعينه فقال بل كل شيئين في العالم إذا افترقا في صفة ما فإنه يجب أن يفرق أحكامهما في الإيجاب والتحليل والتحريم في الدين فأجاب بعضهم بأن قال هذا لا يجب دون أن يأتي بفرق فقال أبو محمد وهذا تحكم عاجز عن الفرق ويقال له بل قولك هو الذي لا يجب فما الفرق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 وقال بعضهم هذا قياس منكم فإنكم ترومون إبطال القياس بالقياس فأنتم كالذين يرومون إبطال حجة العقل بحجة العقل قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق لم نحتج عليكم بهذا تصويبا منا له ولا للقياس لكن أريناكم أن قولكم بالقياس ينهدم بالقياس ويبطل بعضه بعضا وليس في العالم أفسد من قول من يفسد بعضه بعضا فأنتم إذا أقررتم بصحة القياس فنحن نلزمكم ما التزمتم به ونحجكم به لأنكم مصوبون له مصدقون لشهادته وهو قولكم بالفساد وعلى مذاهبكم بالتناقض أقررتم به أو أنكرتموه وأما نحن فلم نصوبه قط ولا قلنا به فهو يلزمكم ولا يلزمنا وكل أحد فإنما يلزمه ما التزم ولا يلزم خصمه كما أن أخبار الآحاد المتصلة بنقل الثقات لازم لنا للاحتجاج بها علينا في المناظرة ولا نلزم من أنكرها فمن ناظرنا بها لم ندفعه عما يلزمنا بها وهذا هو فعلنا بكم في القياس وأما تشبيهكم إيانا في ذلك بمن جنح في إبطال حجة العقل بحجة العقل فتشبيه فاسد لأن المحتج علينا في إبطال حجة العقل لا يخلو من أحد وجهين إما أن يصوب ما يحتج به ويحققه فقد تناقض أو يبطل ما يأتي به فقد كفانا مؤنته ولسنا نحن كذلك في احتجاجنا عليكم بالقياس لكنا نقول لكم إن كان القياس حقا عندكم فإنه يلزمكم منه كذا وكذا وليس يقول لنا المبطلون لحجج العقول هكذا لكنهم محققون لما يحتجون به فيتناقضون إذا حققوا ما أبطلوا كما تناقضتم أنتم في إبطالكم ما حققتموه من نتائج القياس فطريقكم هي طريقهم ونحن نقول إن هذا الذي نعارضكم به من القياس أنتم التزمتم حكمه وهو عندنا باطل كقولكم سواء بسواء فإن التزمتموه أفسد قولكم وإن أبيتموه فكذلك لأنكم تقرون حينئذ بإبطال ما قد صوبتموه ولا فساد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 أشد من فساد قول أدى إلى التزام الباطل وليس من يبطل قضايا العقل كذلك لأنه لا يصح شيء أصلا إلا بالعقل أو بالحواس مع العقل أو ما أنتج من ذلك فمن أبطل حجة العقل ثم ناظر في ذلك بحجة العقل فإن صححها رجع إلى الحق ودخل معنا وإن أبطلها سقط القول معه لأنه يقر أنه يتكلم بلا عقل وليس القياس هكذا بإقراركم ويكفي من هذا أن من رام إبطال حجة العقل بحجة فقد رام ما لا يجده أبدا وحجة العقل لا تبطل حجة العقل أصلا بل توجبها وتصححها وكذلك من رام إبطال خبر الواحد بخبر الواحد فإنه لا يجد أبدا خبرا صحيحا يبطل خبر الواحد وهكذا كل شيء صحيح فإنه لا يوجد شيء صحيح يعارضه أبدا هذا يعلم ضرورة ولو كان ذلك لكان الحق يبطل الحق وهذا محال في البنية وليس كذلك القياس لأنه يبطل بالقياس جهارا وبأسهل عمل فصح أنه باطل وهكذا كل باطل في العالم فإنه يبطل بعضه بعضا بلا شك وقال بعضهم من الدليل على أن حكم المماثلين حكم واحد أن الله عز وجل قد تحدى العرب بأن يأتوا بمثل هذا القرآن وأعلم أنهم لو أتوا بمثله لكان باطلا لأن مثل الباطل لا يكون إلا باطلا ومثل الحق لا يكون إلا حقا قال أبو محمد هذا قول صحيح وهو حجة عليهم لأن المشبه للباطل في أنه باطل هو بلا شك باطل وبهذا أبطلنا القياس بالقياس ورأينا أنه كله باطل وليس ما أشبه الباطل في أنه مخلوق مثله وأنه كلام مثله يكون باطلا بل هذا حكم يؤدي إلى الكفر لأن الكفر كلام والكذب كلام والقرآن كلام والحق كلام وليس ذلك بموجب اشتباه كل ذلك في غير ما اشتبه فيه يرومون وأيضا فهذا من ذلك التمويه الذي إذا كشف عاد مبطلا لقولهم بعون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 الله عز وجل وذلك أننا لم ننكر قط أن ما وقع عليه مع غيره اسم يجمع تلك الأشخاص فإنها كلها مستحقة لذلك الاسم بل نحن أهل هذا القول ونقول إن كل ما يوضع من الكلام في غير مواضعه التي وضعها الله تعالى فيها في الشرائع أو في غير المواضع التي وضعه فيها أهل اللغات للتفاهم فهو باطل وتحريف للكلم عن مواضعه وتبديل له وهذا محرم بالنص وتدليس بضرورة العقل وكل ما كان من الكلام موضوعا في مواضعه التي ذكرنا فهو حق فإذ لا شك في هذا فلم نحكم لشيء من الباطل بأنه باطل من أجل شبهه بباطل آخر بل ليس أحد الباطلين أولى أن يكون باطلا من سائر الأباطيل بل كل الأباطيل في وقوعها تحت الباطل سواء ولا أحد الحقين أولى أن يكون حقا من حق آخر بل كل حق فهو في أنه حق سواء مع سائر الحقوق كلها وليس شيء من ذلك مقيسا على غيره والقول مطرد هكذا بضرورة العقل في كل ما في العالم من الشرائع وغيرها فكذلك كل بر فهو بر وكل تمر فهو تمر وكل ما أشبه البر مما ليس برا فليس برا وكل ما أشبه الذهب مما ليس ذهبا فليس ذهبا وكل ما أشبه الحرام مما لم ينه النص عنه فليس حراما وهكذا جميع الأشياء أولها عن آخرها فهذا الذي أتوا به مبطل للقياس لو عقلوا وأنصفوا أنفسهم وبالله تعالى التوفيق وإنما عول القوم على التمويه والكذب والتلبيس على من اغتر بهم فقالوا إن أصحاب الظاهر ينكرون تماثل الأشياء ثم جعلوا يأتون بآيات وأحاديث ومشاهدات فيها تماثل أشياء وهذا خداع منهم لعقولهم وما أنكرنا قط تماثل الأشياء بل نحن أعرف بوجوه التماثل منهم لأننا حققنا النظر فيها فأبانها الله تعالى لنا وهم خلطوا وجه نظرهم فاختلط الأمر عليهم وإنما أنكرنا أن نحكم للمتماثلات في صفاتهما من أجل ذلك في الديانة بتحريم أو إيجاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 أو تحليل دون نص من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو إجماع من الأمة فهذا الذي أبطلنا وهو الباطل المحض والتحكم في دين الله تعالى بغير هدى من الله نعوذ بالله من ذلك وقالوا أيضا إن أصحاب الظاهر يبطلون حجج العقول قال أبو محمد وكذبوا بل نحن المثبتون لحجج العقول على الحقيقة وهم المبطلون لها حقا لأن العقل يشهد أنه يحرم دون الله تعالى ولا يوجب دون الله تعالى شريعة وأنه إنما يفهم ما خطب الله تعالى به حامله ويعرف الأشياء على ما خلقها الله تعالى عليه فقط وهم يحرمون بعقولهم ويشرعون الشرائع بعقولهم بغير نص من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم ولا إجماع من الأمة فهذا هو إبطال حجج العقول على الحقيقة وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بالموازنة يوم القيامة قال أبو محمد وهذا من أغرب ما أبدوا فيه عن جهلهم وهل هذا إلا نص جلي وأي شيء من موازنة أعمال العباد وجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته والعفو عن التائب بعد أن أجرم والعفو عن الصغائر باجتناب الكبائر والمؤاخذة بها لمن فعل كبيرة وأصر عليها مما يحتج به في إيجاب تحريم الأرز بالأرز متفاضلا وهل يعقل وجوب هذا من موازنة الأعمال يوم القيامة وجزاء الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة وجزاء السيئة بمثلها إلا مجنون مصاب وقالوا أخبرونا عن قولكم بالدليل أبنص قلتموه أم بغير نص فإن قلتم قلناه بنص فأروناه وإن قلتم بغير نص دخلتم فيما عبتم من القياس قال أبو محمد وقد أفردنا فيما خلا من كتابنا هذا بابا لبيان الدليل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 الذي نقول به فأغني عن ترداده إلا أننا نقول ههنا جوابا لهم وبالله تعالى التوفيق ما لا يستغني هذا المكان عن إيراده وهو أن الدليل نقول هو المقصود بالنص نفسه وإن كان بغير لفظه كقول الله تعالى {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} فبالضرورة نعلم أنه ليس بسفيه ومثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل خمر حرام فصح ضرورة من هذا اللفظ أن كل مسكر حرام فدليلنا هو النص والإجماع نفسه لا ما سواهما وبالله تعالى التوفيق وقالوا لا نص في ميراث من بعض حر وبعضه عبد ولا في حده ولا في ديته فما تقولون في ذلك وكذلك نكاحه وطلاقه والجناية عليه ومنه قال أبو محمد وصاحب هذا الكلام كان أولى به أن يتعلم قبل أن يتكلم وذلك أن النص ورد بعموم ميراث الأبناء والبنات والآباء والأمهات والإخوة والأخوات والعصبة والأزواج فواجب ألا يخرج عن النص أحد فيمنع الميراث إلا بنص والنص قد صح من حديث علي وابن عباس إن المكاتب إذا أصاب حدا أو دية أو ميراثا ورث وورث منه وأقيم عليه الحد وودي بمقدار ما أدى دية وميراث حر وبمقدار ما لم يؤده دية عبد وميراث عبد فحص أن العبد لا يرث وقد قال قوم من العلماء إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية وقال آخرون لا شيء لهما من الميراث فكان قول هؤلاء مساقطا لمخالفته النص ولأنه دعوى بلا دليل فلم يبق قول من قال إن لهما من الميراث بمقدار ما فيهما من الحرية فقلنا به فهكذا القول في حده وديته إذ قد بطل قول من قال إن حده كحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 الحر بحديث ابن عباس في المكاتب إذا في نص ذلك الحديث الفرق بين حد الحر وحد العبد وأما نكاحه فإن النص جاء بأن كل عبد نكح بغير إذن مواليه فنكاحه عهر والمعتق بعضه ليس عبدا كله ولا حرا كله ولا ينتقل عن حكمه المجمع عليه والثابت عليه بالنص إلا بنص آخر أو إجماع فهو غير خارج عن هذا النص فليس له أن ينكح كسائر المسلمين إلا بإذن من له فيه ملك وطلاقه جائز على عموم النص في المطلقين وأما جنايته والجناية عليه وشهادته فكالأحرار ولا فرق إذ لم يمنع من ذلك نص ولا إجماع هذا مع صحة حديث ابن عباس في ميراث المكاتب وديته وحدوده وإن ذلك بمقدار ما فيه من الحرية والرق وقسموا أنواع القياس فقال بعضهم من القياس قياس المفهوم مثل قياس رقبة الظهار على رقبة القتل قالوا ومنه قياس العلة كالعلة الجامعة بين النبيذ والخمر وهي الإسكار والشدة ومنه قياس الشبه ثم اختلفوا في هذا النوع من القياس فقالوا هو على الصفات الموجودة في العلة وذلك مثل أن يكون في الشيء خمسة أوصاف من التحليل وأربعة من التحريم فيغلب الذي فيه خمسة أوصاف على الذي فيه أربعة أوصاف وقال آخرون منهم وهو على الصور كالعبد يشبه البهائم في أنه سلعة متملكة ويشبه الأحرار في الصور الآدمية وأنه مأمور منهي بالشريعة قال أبو محمد وكل هذا فاسد باطل متناقض لأنه كله دعاوى باردة بلا دليل على صحة شيء منها ثم تسميتهم قياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل أنه مفهوم وليت شعري بماذا فهموه حتى علموا أنها لا تجزىء إلا مؤمنة هذا وقد خالفهم إخوانهم من القائسين في ذلك من أصحاب أبي حنيفة فلم يفهموا من هذا القياس العجيب ما فهم الشافعي والمالكي وكل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 ما فهم من كلام فأهل اللغة متساوون في فهمه بلا شك فصار دعواهم للفهم كذبا ثم هلا إذا فهموا أن كلتا الرقبتين سواء مشوا في قياسهم ففهموا أنه يجب التعويض من الصيام في القتل إطعام ستين مسكينا كالتعويض لذلك من صيام الظهار كما تساوى التعويض من رقبتي الظهار والقتل صيام شهرين متتابعين فما هذا التباين في فهم ما لا تقضيه الآية ولا اللغة وأما قولهم قياس العلة وأن النبيذ مقيس على الخمر فكذب مجرد بارد سمج وجرأة على الله تعالى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر وكل مسكر حرام فساوى صلى الله عليه وسلم بين كل مسكر ولم يخص من عنب ولا تمر ولا تين ولا عسل ولا غير ذلك ثم أخبر أن كل مسكر حرام فليست خمر العنب في ذلك بأولى من خمر التين ولا خمر العنب أصلا وغيرها فرعا بل كل ذلك سواء بالنص فظهر برد قولهم وفساده فإن قالوا فهلا كفرتم من استحل نبيذ التين المسكر كما تكفرون مستحل عصير العنب المسكر قيل له وبالله تعالى التوفيق إنما كفرنا من استحل عصير العنب المسكر لقيام الحجة بالإجماع ولو استحله جاهل لم يعرف الإجماع في ذلك ما كفرناه حتى يعرفه بالإجماع وكذلك لم نكفر مستحل نبيذ التين لجهله بالحجة في ذلك ولو أنه يصح عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم كل مسكر على عمومه ثم يستجيز مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لكان كافرا بلا شك وقد أفردنا بعد هذا بابا ضخما في إبطال قولهم في العلل وبالله تعالى التوفيق وأما قولهم في موازنة صفات التحليل وصفات التحريم فإنا نقول لهم هبكم لو سامحناكم في هذا الهذيان المفترى وماذا تصنعون إذا تساوت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 عندكم صفات التحريم وصفات التحليل فإن قالوا نغلب التحريم احتياطا قلنا لهم ولم لا تغلبوا التحليل تيسيرا لقول الله تعالى {شهر رمضان لذي أنزل فيه لقرآن هدى للناس وبينات من لهدى ولفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد لله بكم ليسر ولا يريد بكم لعسر ولتكملوا لعدة ولتكبروا لله على ما هداكم ولعلكم تشكرون} وإن قالوا نغلب التحليل قيل لهم وهلا غلبتم التحريم ولقول الله تعالى {كتب عليكم لقتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ولله يعلم وأنتم لا تعلمون} فظهر بطلان قولهم وفساده وبالجملة فليس تغليب أحد الوجهين أولى من الآخر وقد قال تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} فنص تعالى على أن كل محرم ومحلل بغير نص من الله تعالى فهو كاذب ومفتر وبالله تعالى التوفيق وأيضا فلو كانت صفة شبه التحريم توجب التحريم وصفة شبه التحليل توجب التحليل لما وجد كلا الأمرين في شيء واحد البتة لأنه كان يجب من ذلك أن يكون الشيء حراما حلالا معا وهذا حمق محال فصح أن الشبه لا يوجب تحريما ولا تحليلا كثرت الأوصاف بذلك أو قلت وقد أقدم بعضهم فقال إن الله تعالى قال {يسألونك عن لخمر ولميسر قل فيهمآ إثم كبير ومنافع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل لعفو كذلك يبين لله لكم لآيات لعلكم تتفكرون} قالوا غلب تعالى الإثم فحرمها قال أبو محمد هذا من الجرأة على القول على الله تعالى بغير علم وهذا يوجب إن الله تعالى اعترضه في الخمر والميسر أصلان أحدهما المنافع والثاني الإثم فغلب الإثم هذا هو نص كلامهم وظاهره ومقتضاه وليت شعري من رتب هذا الإثم في الخمر والميسر وقد كانا برهة قبل التحريم حلالين لا إثم فيهما وقد شربها أفاضل الصحابة رضي الله عنهم وأهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتنادم الصالحون عليها أزيد من ستة عشر عاما في الأصل صح ذلك عن عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح وسهيل بن بيضاء وأبي بن كعب وأبي دجانة وأبي طلحة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 وأبي أيوب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمرو بن حرام وغيرهم كلهم شربوا الخمر بعد الهجرة واصطحبها جماعة يوم أحد ممن أكرمهم الله تعالى في ذلك اليوم بالشهادة فهل أحدث الإثم فيها بعد أن لم يكن إلا الله تعالى فأين قول هؤلاء النوكى إن الله تعالى حرمها لأجل الإثم الذي فيها أو لأجل الشدة والإسكار وهل هذا إلا كذب بحت وهل حدث الإثم إلا بعد حدوث التحريم بلا فصل وهل خلط قط عن الشدة والإسكار مذ خلقها الله تعالى فبطل قولهم بتجاذب الأوصاف والحمد لله كثيرا وأما قولهم في تغليب الصورة الآدمية في العبيد على شبهة البهائم إنه سلعة مملوكة فقول بارد وهلا إذ فعلوا ذلك قبلوا شهادته إذ غلبوا شبهة الأحرار على شبهة البهائم وهل هذا كله إلا لهو ولعب وشبيه بالخرافات نعوذ بالله من الخذلان ومن تعدي حدوده ومن القول في الدين بغير نص من الله تعالى أو رسوله وحسبنا الله ونعم الوكيل وإذا أبطلوا حكم الشبه من أجل شبه آخر أقوى منه فقد صاروا إلى قولنا في إبطال حكم التشابه في إيجاب حكم له في الدين لم يأت به نص ثم تناقضوا في إثباته مرة وإبطاله أخرى بلا برهان وشنع بعضهم بأن قال إن إبطال القياس مذهب النظام ومحمد بن عبد الله الإسكافي وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر وعيسى المراد وأبي عفار وبعض الخوارج وإن من هؤلاء من يقول إن بنات البنين حلال وكذلك الجدات وكذلك دماغ الخنزير قال أبو محمد ولسنا ننكر أن تقول اليهود لا إله إلا الله ونقولها أيضا نحن ولكن إذا ذكروا هؤلاء فلا تنسوا القائلين بقولهم القياس أبا الهذيل العلاف وأبا بكر بن كيسان الأصم وجهم بن صفوان وبشر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 بن المعتمر ومعمرا وبشرا المريسي والأزارقة وأحمد بن حائط ومن هؤلاء من يقول بقياس الأطفال على الكبار وأنهم نسخت أرواحهم في الأطفال وبالقياس على قوم نوح فأباحوا قتل الأطفال وقاسوا فناء الجنة والنار على فناء الدنيا وغير ذلك من شنيع الأقوال فهذا كل ما موهوا به في نص القياس قد تقصيناه والحمد لله ولم ندع منه بقية وبينا بعون الله أنه لا حجة لهم بوجه من الوجوه ولا متعلق في شيء منه البتة وأنه كله عائد عليهم ومبطل لقولهم في إثبات القياس وقد كان هذا يكفي من تكلف إبطال القياس لأن كل قول لا يقوم بصحته برهان فهو دعوى ساقطة ولكنا لا نقطع بذلك حتى نورد بحول الله البراهين القاطعة على إبطال القياس والقول به فصل في إبطال القياس وهذا حين نأخذ في إبطال القياس بالبراهين الضرورية إن شاء الله تعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 قال أبو محمد ويقال للقائلين بالقياس أليس قد بعث الله عز وجل محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الإنس والجن فأول ما دعاهم إليه فقول لا إله إلا الله ورفض كل معبود دون الله تعالى ومن وثن وغيره وأنه رسول الله فقط لم يكن في الدين شريعة غير هذا أصلا لا إيجاب حكم ولا تحريم شيء فمن قولهم وقول كل مسلم وكافر نعم هذا أمر لا شك فيه عند أحد فإذ هذا لا خلاف فيه ولا شك فيه ولا ينكره أحد فقد كان الدين والإسلام لا تحريم فيه ولا إيجاب ثم أنزل الله تعالى الشرائع فما أمر به فهو واجب وما نهى عنه فهو حرام ومالم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح مطلق حلال كما كان هذا أمر معروف ضرورة بفطرة العقول من كل أحد ففي ماذا يحتاج إلى القياس أو إلى الرأي أليس من أقر بما ذكرنا ثم أوجب ما لا نص بإيجابه أو حرم ما لا نص بالنهي عنه قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقال ما لا يحل القول به وهذا برهان لائح واضح وكاف لا معترض فيه ثم يقال لهم أيضا وبالله تعالى التوفيق فماذا يحتاج إلى القياس أفيما نص عليه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أم فيما لم ينص عليه فإن قالوا فيما نص عليه فارقوا الإجماع وقاربوا الخروج عن الإسلام لأنه لم يقل بهذا أحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 وهو مع ذلك قول لا يمكن أحد أن يقوله لأنه لا قياس إلا على أصل يرد ذلك الفرع إليه ولا أصل إلا نص أو إجماع فصح على قولهم أن القياس إنما هو مردود إلى النص وإن قالوا فيما لم ينص عليه فقلنا وبالله تعالى التوفيق قال الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وقال تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} وقال صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع اللهم هل بلغت قالوا نعم قال اللهم اشهد حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن مرة الهمداني قال قال عبد الله بن مسعود من أراد العلم فليثر القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين هكذا رويناه عن مسروق والزهري أنه ليس شيء اختلف فيه إلا وهو في القرآن فصح بنص القرآن أنه لا شيء من الدين وجميع أحكامه إلا وقد نص عليه فلا حاجة بأحد إلى القياس فإن قالوا إنما نقيس النوازل من الفروع على الأصول قال أبو محمد وهذا لأنه ليس في الدين إلا واجب أو حرام أو مباح ولا سبيل إلى قسم رابع البتة فأي هذه أصل وأي هذه فرع فبطل قولهم وصح أن أحكام الدين كلها أصول لا فرع فيها وكلها منصوص عليه فلما اختلف الناس قط إلا في الأصول كالوضوء والصلاة والزكاة والحج والحرام من البيوع والحلال منها وعقود النكاح والطلاق وما أشبه ذلك فإن قالوا لسنا ننكر أن الله تعالى لم يفرط في الكتاب من شيء ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين ولكن النص والبيان ينقسم قسمين أحدهما نص على الشيء باسمه والثاني نص عليها بالدلالة وهذا هو الذي نسميه قياسا وهو التنبيه على علة الحكم فحيثما وجدت تلك العلة حكم بها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 قالوا وهذا هو الاختصار وجوامع الكلم التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لهم وبالله تعالى التوفيق هذا هو الباطل لأن الذي تذكرون دعوى بلا دليل وتلك الدلالة تخلو من أن تكون موضوعة في اللغة التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن لذلك المعنى بعينه فهذا غير قولكم وهذا هو القسم الأول من النص على الشيء باسمه فلا تموهوا فتجعلوا النص قسمين أو تكون تلك الدلالة غير موضوعة في اللغة التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن لذلك المعنى فإن كانت كذلك فهذا هو التلبيس والتخليط الذي تنزه الله تعالى ونزه رسوله صلى الله عليه وسلم عنه ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا برهان ضروري ولا محيد عنه بين لا إشكال فيه على من له أقل فهم وليس هذا طريق اختصار ولا تنبيه ولا بيان ولكنه خبط وإشكال وإفساد وتدليس ولا تنبيه ولا بيان فيمن يريد أن يعلمنا حكم الصداق فلا يذكر صداقا ويدلنا على ذلك بما نقطع فيه اليد أو يريد الأكل فيذكر الوطء أو يريد الجوز فيذكر الملح أو يريد المخطىء فيذكر المتعمد وهذا تكليف ما لا يطاق وإلزام لعلم الغيب والكهانة وإيجاب للحكم بالظن الكاذب تعالى الله عن ذلك وتنزه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وإنما الاختصار وجوامع الكلم والتنبيه أن يأتي إلى المعنى الذي يعبر عنه بألفاظ كثيرة فيبينه بألفاظ مختصرة جامعة يسيرة لا يشذ عنها شيء من المراد بها البتة ولا تقتضي من غير المراد بها شيئا أصلا فهذا هو حقيقة الاختصار والبيان والتنبيه وذلك مثل قول الله تعالى {لشهر لحرام بلشهر لحرام ولحرمات قصاص فمن عتدى عليكم فعتدوا عليه بمثل ما اعتدى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 عليكم وتقوا لله وعلموا أن لله مع لمتقين} فدخل تحت هذا اللفظ مالو تقصى لملئت منه أسفار عظيمة من ذكر قطع الأعضاء عضوا عضوا وكسرها عضوا عضوا والجراحات جرحا جرحا والضرب هيئة هيئة وذكر أحد الأموال وسائر ما يقتضيه هذا المعنى من تولي المجني عليه للاقتصاص ونفاذ أمره في ذلك ومثل قوله صلى الله عليه وسلم جرح العجماء جبار وسائر كلامه صلى الله عليه وسلم وأما من إسقاط معاني أرادها فلم يذكرها بالاسم الموضوع لها في اللغة التي بها خوطبنا وطمع أن يدل عليها باسم غير موضوع لها في اللغة فهذا فعل الشيطان المريد إفساد الدين والتخليط على المسلمين لا فعل رب العالمين وخاتم النبيين وبالله تعالى نستعين فإن قالوا لسنا نقول إنه تنزل نازلة لا توجد في القرآن والسنة لكنا نقول إنه يوجد حكم بعض النوازل نصا وبعضها بالدليل قيل لهم وبالله تعالى التوفيق إن هذا حق ولكن إذا كان هذا الدليل الذي تذكرون لا يحتمل إلا وجها واحدا فهذا قولنا لا قولكم وأما إن كان ذلك الدليل يحتمل وجهين فصاعدا فهذا ينقسم على قسمين إما أن يكون هنالك نص آخر بين مراد الله تعالى من ذينك الوجهين فصاعدا بيانا جليا أو إجماع كذلك فهذا هو قولنا والنص بعينه لم نزل عنه وإما ألا يكون هنالك نص آخر ولا إجماع يبين بأحدهما مراد الله عز وجل من ذلك فهذا إشكال وتلبيس تعالى الله عن ذلك ولا يحل لأحد أن ينسب هذا إلى شيء من دين الله تعالى الذي قد بينه غاية البيان رسوله صلى الله عليه وسلم فإن قالوا إن التشابه بين الأدلة هو أحد الأدلة على مراد الله تعالى قيل لهم هذه دعوى تحتاج إلى دليل يصححها وما كان هكذا فهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 باطل بإجماع ولا سبيل إلى وجود نص ولا إجماع يصحح هذه الدعوى ولا فرق بينها وبين من جعل قول إنسان من العلماء بعينه دليلا على مراد الله تعالى في تلك المسألة وكل هذا باطل وافتراء على الله تعالى وأيضا فإنهم في التشابه الموجب للحكم مختلفون فبعضهم يجعل صفة ما علة لذلك الحكم وبعضهم يمنع من ذلك ويأتي بعلة أخرى وهذا كله تحكم بلا دليل وقد صحح بعضهم العلة بطردها في معلولاتها وهذا تخليط تام لأن الطرد إنما يصحح بعد صحة العلة لأن الطرد إنما هو فرع يوجبه صحة العلة وإلا فهو باطل ومن المحال ألا يصح الأصل إلا بصحة الفروع وأيضا فإنهم إذا اختلفوا في طرد تلك العلة فليس من طردها ليصححها بأولى ممن لم يطردها ليبطلها وطرد غيرها وهذا كله تحكم في الدين لا يجوز وذلك نحو طرد الشافعي علة الأكل في الربا ومنع أبي حنيفة ومالك من ذلك وطرد أبي حنيفة علة الوزن والكيل ومنع مالك والشافعي من ذلك وطرد مالك علة الادخار والأكل ومنع أبي حنيفة والشافعي من ذلك فإن قالوا فأرونا جمع النوازل منصوصا عليها قلنا لو عجزنا عن ذلك لما كان عجزنا حجة على الله تعالى ولا على رسوله صلى الله عليه وسلم إذ لم ندع لكم الواحد فالواحد منه الإحاطة بجميع الفتن لكن حسبنا أننا نقطع بأن الله تعالى بين لنا كل ما يقع من أحكام الدين إلى يوم القيامة فكيف ونحن نأتيكم بنص واحد فيه كل نازلة وقعت أو تقع إلى يوم القيامة وهو الخبر الصحيح الذي ذكرناه قبل بإسناده وهو قوله صلى الله عليه وسلم دعوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فصح نصا أن ما لم يقل فيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 النبي صلى الله عليه وسلم فليس واجبا لأنه لم يأمر به وليس حراما لأنه لم ينه عنه فبقي ضرورة أنه مباح فمن ادعى أنه حرام مكلف أن يأتي فيه بنهي من النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاء سمعنا وأطعنا وإلا فقوله باطل ومن ادعى فيه إيجابا كلف أن يأتي فيه بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم فإن جاء به سمعنا وأطعنا وإن لم يأت به فقوله باطل وصح بهذا النص أن كل ما أمر به صلى الله عليه وسلم فهو فرض علينا إلا ما لم نستطع من ذلك وأن كل ما نهانا عنه فحرام حاشا ما بينه صلى الله عليه وسلم أنه مكروه أو ندب فقط فلم يبق في الدين حكم إلا وهو ههنا منصوص جملة ثم نعكس عليهم هذا السؤال وهذا القول فنقول لهم أنتم تقولون لا نازلة إلا ولها نظير في القرآن أو السنة فنحن نعكس السؤال عن تلك النوازل التي تريدون سؤالنا عنها من دينار وقع في محبرة وسائر تلك الحماقات فأرونا نظائرها في القرآن والسنة وأنتم تقرون أنه لا نصوص فيها فخبرونا كيف تصنعون فيها أتحكمون فيها بقولكم فهذا دينكم لا دين الله ففي هذا ما فيه فظهر فساد كل سؤال لهم والحمد لله رب العالمين كثيرا وقال من سلف من أصحابنا رحمهم الله يقال لمن قال بالقياس قد أجمعتم أنتم وجميع المسلمين بلا خلاف من أحد منهم على أن الأحكام كلها في الديانة جائز أن تؤخذ نصا واتفقوا كلهم بلا خلاف من واحد منهم لا من القائلين بالقياس ولا من غيرهم على أن أحكام الديانة كلها لا يجوز أن تؤخذ قياسا ولا بد عندهم من نص يقاس عليه فيقال لأصحاب القياس عندكم حقا فمن ههنا ابدؤوا به فقيسوا ما اختلفنا فيه من المسائل التي جوزتم القياس فيها ومنعنا نحن منها على ما اتفقنا عليه من المسائل التي أقررتم أنها لا يجوز أن تؤخذ قياسا فإن لم تفعلوا فقد تركتم القياس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 وإن فعلتم تركتم القياس ولسنا نقول إن هذا العمل صحيح عندنا ولكن صحيح على أصولكم ولا أبطل من قول نقض بعضه بعضا ويقال لهم وجدنا مسائل كثيرة قد أجمعتم وأنتم وجميع الأمة على ترك القياس فيها كقاتل تاب قبل أن يقدر عليه وندم فلا يسقط عنه القصاص عند أحد ولم تقيسوا ذلك على محارب تاب قبل أن يقدر عليه فالحد في الحرابة عنه ساقط وكذلك اتفقوا على ألا يقاس الغاصب على السارق وكلاهما أخذ مالا محرما عمدا أو كترك قياس تعويض الإطعام من الصيام في قتل الخطأ على تعويضه من الصيام في الظهار ومثل هذا كثير جدا بل هو أكثر مما قاسوا فيه فلو كان القياس حقا ما جاز الإجماع على تركه كما لا يجوز الإجماع على ترك الحق الذي هو القرآن أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم مما صح عنه فإنه لم يجمع قط على ترك شيء منه إلا لنص آخر ناسخ له فقط وهذا يوجب بطلان القياس ضرورة ويقال لهم أخبرونا عن القياس أيخلو عندكم أن يحكم للشيء الذي لا نص فيه ولا إجماع بمثل الحكم الذي فيه نص أو إجماع إما لعلة فيهما معا هي في المحكوم فيه علامة الحكم وإما لنوع من الشبه بينهما وإما مطارفة لا لعلة ولا لشبه ولا سبيل إلى قسم رابع أصلا فإن قالوا مطارفة لا لعلة ولا لشبه كفونا مؤنتهم وصار قائل هذا ضحكة ومهزأة ولم يكن أيضا أولى بما يحكم به من غيره يحكم في ذلك الأمر بحكم آخر وهذا ما لا يقوله أحد منهم فإن قالوا بل لنوع من الشبه قيل لهم وما دليلكم على أن ذلك النوع من الشبه يجب به ذلك الحكم ولا سبيل إلى وجود ذلك الدليل وتعارضون أيضا بشبه آخر يوجب حكما آخر وهذا أبدا فإن قالوا بل لعلة جامعة بين الحكمين سألناهم ما الدليل على أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 الذي تجعلونه علة الحكم هي علة الحقيقة فإن ادعوا نصا فالحكم حينئذ للنص ونحن لا ننكر هذا إذا وجدناه فإن قالوا غير النص قلنا هذا الباطل والدعوى التي لا برهان على صحتها وما كان هكذا فهو ساقط بنص القرآن وبحكم الإجماع والعقول وإن قالوا طرد حكم العلة دليل على صحتها قيل لهم طردكم أنتم أو طرد أهل الإسلام فإن قالوا طرد أهل الإسلام قيل هذا إجماع لا خلاف فيه ولسنا نخالفكم في صحة الإجماع إذا وجد يقينا وإن قالوا بل طردنا نحن قيل لهم ما طردكم أنتم حجة على أحد فهاتوا برهانكم على صحة دعواكم إن كنتم صادقين وهذا ما لا مخلص منه أصلا والحمد الله رب العالمين قال أبو محمد وقال جاءت نصوص بإبطال القياس فمن ذلك قول الله تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تقدموا بين يدي لله ورسوله وتقوا لله إن لله سميع عليم} وقال تعالى {ولا تقف ما ليس لك به علم إن لسمع ولبصر ولفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} وقال تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} وقال تعالى {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} وهذه نصوص مبطلة للقياس وللقول في الدين بغير نص لأن القياس على ما بينا قفو لما لا علم لهم به وتقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم واستدراك على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يذكراه فإن قال أهل القياس فلعل إنكاركم للقياس قول بغير علم وقفو لما لا علم لكم به وتقدم بين يدي الله ورسوله قيل لهم وبالله تعالى التوفيق نحن نريكم إنكارنا للقياس أنه قول بعلم وبنص وبيقين وذلك أن الله عز وجل قال {ولله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم لسمع ولأبصار ولأفئدة لعلكم تشكرون} فصح يقينا لا شك فيه أن الناس خرجوا إلى الدنيا لا يعلمون شيئا أصلا بنص كلام الله عز وجل وقال تعالى {كمآ أرسلنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم لكتاب ولحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} فصح يقينا أن الله أرسل محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم إلينا ليعلمنا ما لم نعلم فصح ضرورة أن ما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور الدين فهو الحق وما لم يعلمنا منها فهو الباطل وحرام القول به وقال تعالى يعني به إبليس اللعين {إنما يأمركم بلسوء ولفحشآء وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} وقال تعالى {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} فصح بنص القرآن أننا خرجنا إلى الدنيا لا نعلم شيئا ثم حرم علينا القول على الله تعالى بما لا نعلم وأخبرنا تعالى أن إبليس يأمرنا بأن نقول على الله ما لا نعلم فقد صح بهذه النصوص ضرورة أن القول بقياس وبغير القياس كمن أثبت العنقاء والغول والكيميا وكقول الروافض في الإمام وكقول من قال بالإلهام وكل هذا فالقول به على الله تعالى في الدين حرام مقرون بالشرك أمر من أمر إبليس إلا ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الحق الذي نقوله على الله تعالى ولا يحل لنا أن نقول عليه غيره فإذ لم يأمرنا عليه السلام بالقياس فهو حرام من أمر الشيطان بلا شك وقد بينا فيما خلا كل ما شغبوا مما أرادوا التمويه به فيه بالحديث فحرم القول بالقياس البتة وبهذا بطل كل قول بلا برهان على صحته حتى لو لم يقيم برهان بإبطاله فلو لم يكن لنا برهان على إبطال القياس لكان عدم البرهان على إثباته برهانا في إبطاله لأن الفرض علينا ألا نوجب في الدين شيئا إلا ببرهان وإذ ذلك كذلك فالفرض علينا أن نبطل كل قول قيل في الدين حتى يقوم برهان بصحته وهذا برهان ضروري لا محيد عنه وبالله تعالى التوفيق وقد اعترض بعضهم في قول الله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخميس قبل موته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا من بعدي وبما روي عن عائشة رضي الله عنها قولها لم يكن الوحي قط أكثر منه قبيل موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه أشياء زائدة على ما كان حين قوله تعالى في حجة الوداع {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} واعترض آخرون من أهل الجهل على الحديث المذكور بالآية المذكورة وصوبوا فعل عمر وقوله في ذلك اليوم قال أبو محمد وهذان الاعتراضان من هاتين الطائفتين لا يشبهان اعتراض المسلمين وإنما يشبهان اعتراض أهل الكفر والإلحاد وبعيد عندنا أن يعترض بها مسلم صحيح الباطن لأن الطائفة الأولى مكذبة لله عز وجل في قوله إنه أكمل ديننا مدعية أنه كانت هنالك أشياء لم تكمل والطائفة الثانية مجهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مدعية عليه الكذب في أمر الكتاب الذي أراد أن يكتبه أو التخطيط في كلامه وأن قول عمر أصوب من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلا هذين القولين كفر مجرد وكل هذه النصوص حق لا تعارض بين شيء منها بوجه من الوجوه لأن الآية المذكورة نزلت يوم عرفة في حجة الوداع قبل موته صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وحتى لو نزلت بعد ذلك شرائع لما كان نزولها معارضا للآية المذكورة لأن الدين في كل وقت تام كامل ولله تعالى أن يمحو من الدين ما يشاء وأن يزيد فيه وأن يثبت وليس ذلك لغيره بل قد صح أمر النبي صلى الله عليه وسلم قبيل موته بساعة بإخراج الكفار من جزيرة العرب وألا يبقى فيها دينان ولمن يكن هذا الشرع ورد قبل ذلك ولو ورد لما أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما غرضنا في هذه الآية أن الله تعالى تولى إكمال الدين وما أكمله الله تعالى فليس لأحد أن يزيد فيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 رأيا ولا قياسا لم يزدهما الله تعالى في الدين وهذا بين وبالله تعالى التوفيق وأما أمر الكتاب الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتبه يوم الخميس قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربعة أيام فإنما كان في النص على أبي بكر رضي الله عنه ولقد وهل عمر وكل من ساعده على ذلك وكان ذلك القول منهم خطأ عظيما ولكنهم الخير أرادوا فهم معذورون مأجورون وإن كانوا قد عوقبوا على ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بالخروج عنه وإنكاره عليهم التنازع بحضرته ولقد ولد الامتناع من ذلك الكتاب من فرقة الأنصار يوم السقيفة ما كاد يكون فيه بوار الإسلام لولا أن الله تداركنا بمنه وولد من اختلاف الشيعة وخروج طوائف منهم عن الإسلام أمرا يشجي نفوس أهل الإسلام فلو كتب ذلك الكتاب لانقطع الاختلاف في الإمامة ولما ضل أحد فيها لكن يقضي الله أمرا كان مفعولا وقد أبى ربك إلا ما ترى وهذه زلة عالم نعني قول عمر رضي الله عنه يومئذ قد حذرنا من مثلها وعلى كل حال فنحن نثبت ونقطع ونوقن ونشهد بشهادة الله تعالى ونبرأ من كل من لم يشهد بأن الذي أراد صلى الله عليه وسلم أن يمله في ذلك اليوم في الكتاب الذي أراد أن يكتبه لو كان شرعا زائدا من تحريم شيء لم يتقدم تحريمه أو تحليل شيء تقدم تحريمه أو إيجاب شيء لم يتقدم إيجابه إو إسقاط إيجاب شيء تقدم إيجابه لما ترك صلى الله عليه وسلم بيانه ولا كتابه لقول عمر ولا لقول أحد من الناس فصح ضرورة أنه فيما قد علم بوحي الله تعالى إليه أنه سيتم من ولاية أبي بكر وذلك بين قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة الذي قد ذكرنا قبل ويأبى الله والمؤمنون وروي أيضا والنبيون إلا أبا بكر فوضح البرهان بصحة قولنا يقينا والحمد لله كثيرا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 وأما تتابع الوحي فإنما كان بلا شك تأكيدا في التزام ما نزل من القرآن قبل ذلك ومثل ما روي من {إذا جآء نصر لله ولفتح * ورأيت لناس يدخلون في دين لله أفواجا} ونزول {وتقوا يوما ترجعون فيه إلى لله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وآية الكلالة التي قد تقدم حكمها فصح أنه لا تعارض بين شيء من هذه النصوص والحمد لله رب العالمين فإن قالوا فأرونا كل نازلة تنزل على ما تقولون في نص القرآن والسنة قلنا لهم نعم وبالله تعالى التوفيق وهذا واجب علينا وأول ذلك أن نقرر ما الديانة وهي أن نقول إن أحكام الشريعة كلها أولها عن آخرها تنقسم ثلاثة أقسام لا رابع لها وهي فرض لا بد من اعتقاده والعمل به مع ذلك وحرام لا بد من اجتنابه قولا وعقدا وعملا وحلال مباح فعله ومباح تركه وأما المكروه والمندب إليه فداخلان تحت المباح على ما بينا قبل لأن المكروه لا يأثم فاعله ولو أثم لكان حراما ولكن يؤجر فاعله والمندوب إليه لا يأثم تاركه ولو أثم لكان فرضا ولكن يؤجر فاعله فهذه أقسام الشريعة بإجماع من كل مسلم وبضرورة وجود العقل في القسمة الصحيحة إلى ورود السمع بها فإذ لا شك في هذا فقد قال الله عز وجل {هو لذي خلق لكم ما في لأرض جميعا ثم ستوى إلى لسمآء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم} وقال تعالى {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر سم لله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما ضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بلمعتدين} فصح بهاتين الآيتين أن كل شيء في الأرض وكمل عمل فمباح حلال إلا ما فصل الله تعالى لنا تحريمه اسمه نصا عليه في القرآن وكلام النبي صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه عز وجل والمبين لما أنزل عليه وفي إجماع الأمة كلها المنصوص على اتباعه في القرآن وهو راجع إلى النص على ما بينا قبل فإن وجدنا شيئا حرمه النص بالنهي عنه أو الإجماع باسمه حرمناه وإن لم نجد شيئا منصوصا على النهي عنه باسمه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 ولا مجمعا عليه فهو حلال بنص الآية الأولى وقد أكد الله تعالى هذا في غير ما موضع من كتابه فقال عز وجل {يأيها لذين آمنوا لا تحرموا طيبات مآ أحل لله لكم ولا تعتدوا إن لله لا يحب لمعتدين} فبين الله تعالى أن كل شيء حلال لنا إلا ما نص على تحريمه ونهانا عن اعتداء ما أمرنا تعالى به فمن حرم شيئا لم ينص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على تحريمه والنهي عنه ولا أجمع على تحريمه فقد اعتدى وعصى الله تعالى ثم زادنا تعالى بيانا فقال {قل هلم شهدآءكم لذين يشهدون أن لله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهوآء لذين كذبوا بآياتنا ولذين لا يؤمنون بلآخرة وهم بربهم يعدلون} فصح بنص هذه الآية صحة لا مرية فيها أن كل ما لم يأت النهي فيه باسمه من عند الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حلال لا يحل لأحد أن يشهد بتحريمه وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} وقال تعالى {يأيها لذين آمنوا لا تسألوا عن أشيآء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل لقرآن تبد لكم عفا لله عنها ولله غفور حليم * قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} فبين الله تعالى أن ما أمرنا به في القرآن أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو واجب طاعته وضد الطاعة المعصية فمن لم يطع فقد عصى ومن لم يفعل ما أمر به فلم يطع ونهانا عن أن نسأل عن شيء جملة البتة ولم يدعنا في لبس أن يقول قائل إن هذه الآية نزلت في السؤال عن مثل ما سأل عنه عبد الله بن حذافة من أبى فأكذب الله ظنونهم لكن قال الله تعالى {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} فصح أن ذلك في الشرائع التي يكفر في جحدها ويضل من تركها فصح أن ما لم يأت به نص أو إجماع فليس واجبا علينا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 فأي شيء بقي بعد هذا وهل في العالم نازلة تخرج من أن يقول قائل هذا واجب فنقول له إن أتيت على إيجابه بنص من القرآن أو بكلام صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع فسمعا وطاعة وهو واجب ومن أبى عن إيجابه حينئذ فهو كافر وإن لم يأت على إيجابه بنص ولا إجماع فإنه كاذب وذلك القول ليس بواجب أو يقول قال هذا حرام فنقول له إن أتيت على النهي عنه بنص أو إجماع فهو حرام وسمعا وطاعة ومن أراد استباحته حينئذ فهو آثم كاذب عاص وإن تأت على النهي عنه بنص ولا إجماع فأنت كاذب وذلك الشيء ليس حراما فهل في العالم حكم يخرج عن هذا فصح أن النص مستوعب لكل حكم يقع أو وقع إلى يوم القيامة ولا سبيل إلى نازلة تخرج عن هذه الأحكام الثلاثة وبالله تعالى التوفيق ثم قد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما جاءت به هذه الآيات كما حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمذاني ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا إسماعيل هو ابن أبي أويس ثنا مالك بن أنس عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم قال أبو محمد فهذا حديث جامع لكل ما ذكرنا بين فيه صلى الله عليه وسلم أنه إذا نهى عن شيء فواجب أن يجتنب وأنه إذا أمر بأمر فواجب أن يؤتى منه حيث بلغت الاستطاعة وأن ما لم ينه عنه ولا أمر به فواجب ألا يبحث عنه في حياته صلى الله عليه وسلم وإذ هذه صفته ففرض على كل مسلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 ألا يحرمه ولا يوجبه وإذا لم يكن حراما ولا واجبا فهو مباح ضرورة إذ لا قسم إلا هذه الأقسام الثلاثة فإذا بطل منها اثنان وجب الثالث ولا بد ضرورة وهذه قضية النص وقضية السمع وقضية العقل التي لا يفهم العقل غيرها إلا الضلال والكهانة والسخافة التي يدعيها أصحاب القياس أنهم يفهمون من الوطء الأكل ومن الثمر الجلوز ومن قطع السرقة مقدار الصداق وحسبنا الله ونعم الوكيل ثم نعكس عليهم سؤالهم فنقول لهم إذا جوزتم وجود نوازل لا حكم لها في قرآن ولا سنة فقولوا لنا ماذا تصنعون فيها فهذا لازم لكم وليس يلزمنا لأن هذا عندنا باطل معدوم لا سبيل إلى وجوده أبدا فأخبرونا إذا وجدتم تلك النوازل أتتركون الحكم فيها فليس هذا قولكم أم تحكمون فيها ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن حكمتم فيها فأخبرونا عن حكمكم فيها أبحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم حكمتم فيها فإن قلتم نعم قلنا قد تناقضتم لأنكم قلتم ليس فيها نص بحكم الله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم وقد كذب آخر قولكم أوله وإن قلتم بغير حكم الله تعالى أو بغير حكم رسوله صلى الله عليه وسلم نحن برآء إلى الله تعالى من كل حكم في الدين لم يحكم به الله عز وجل وفي هذا كفاية لمن عقل فوضح لنا وبطل ما سواه والحمد لله رب العالمين وبهذا جاءت الأحاديث كلها مؤكدة متناصرة كما ثنا حمام بن أحمد ثنا عبد الله بن إبراهيم ثنا أبو زيد المروزي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن زيد المقرىء ثنا سعيد ثنا عقل عن ابن شهاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته فنص صلى الله عليه وسلم كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 تسمع أن كل ما لم يأت به تحريم من الله تعالى فهو غير محرم وهكذا أخبر صلى الله عليه وسلم في الواجب أيضا كم ثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي القلانسي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب ثنا يزيد بن هارون ثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه قال أبو محمد فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن ما لم يوجبه فهو غير واجب وما أوجبه بأمره فواجب ما أستطيع منه وأن ما لم يحرمه فهو حلال وأن ما نهى عنه فهو حرام فأين للقياس مدخل والنصوص قد استوعبت كل ما اختلف الناس فيه وكل نازلة تنزل إلى يوم القيامة باسمها وبالله تعالى التوفيق وقال تعالى {أم لهم شركاء شرعوا لهم من لدين ما لم يأذن به لله ولولا كلمة لفصل لقضي بينهم وإن لظالمين لهم عذاب أليم} قال أبو محمد فصح بالنص أن كل ما لم ينص عليه فهو شيء لم يأذن به الله تعالى وهذه صفة القياس وهذا حرام وقال تعالى {وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بلكتاب لتحسبوه من لكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند لله ويقولون على لله لكذب وهم يعلمون} قال أبو محمد فكل ما ليس في القرآن والسنة منصوصا باسمه واجبا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 مأمورا به أو منهيا عنه فمن أوجبه أو جرمه أو خالف لما جاء به النص فهو من عند غير الله تعالى والقياس غير منصوص على الأمر به فيهما فهو من عند غير الله تعالى وما كان من عند غير الله تعالى فهو باطل وقال تعالى {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} وقد علمنا ضرورة أن الله تعالى إذا حرم بالنص شيئا فحرم إنسان شيئا غير ذلك قياسا على ما حرم الله تعالى أو أحل بعض ما حرم الله قياسا أو أوجب غير ما أوجب الله تعالى قياسا أو أسقط بعض ما أوجب الله تعالى قياسا فقد تعدى حدود الله تعالى فهو ظالم بشهادة الله تعالى عليه بذلك وقد قال تعالى {فبدل لذين ظلموا قولا غير لذي قيل لهم فأنزلنا على لذين ظلموا رجزا من لسمآء بما كانوا يفسقون} قال أبو محمد وهذه كالتي قبلها سواء بسواء وقال تعالى {أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم لله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من لله وما لله بغافل عما تعملون} قال أبو محمد ومن استدرك برأيه وقياسه على ربه تعالى شيئا من الحرام والواجب لم يأت بتحريمها ولا إيجابها نص فقد دخل تحت هذه العظيمة المذكورة في هذه الآية ونحمد الله تعالى على توفيقه لا إله إلا هو وقال تعالى يصف كلامه {ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلآء ونزلنا عليك لكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين} وقال تعالى {فإذا قرأناه فتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه} وقال تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} قال أبو محمد فنص الله تعالى على أنه لم يكل بيان الشريعة إلى أحد من الناس ولا إلى رأي ولا إلى قياس لكن إلى نص القرآن وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقط وما عداهما فضلال وباطل ومحال وقال تعالى {ومن لإبل ثنين ومن لبقر ثنين قل ءآلذكرين حرم أم لأنثيين أما شتملت عليه أرحام لأنثيين أم كنتم شهدآء إذ وصاكم لله بهذا فمن أظلم ممن فترى على لله كذبا ليضل لناس بغير علم إن لله لا يهدي لقوم لظالمين} قال أبو محمد فصح أن كل ما لم يأتنا به وصية من عند الله عز وجل فهو افتراء على الله كذب وناسبه إلى الله تعالى ظالم ولم تأتنا وصية قط من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 قبله تعالى بالحكم بالقياس فهو افتراء وباطل وكذب بل جاءتنا وصاياه عز وجل بألا نتعدى كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وألا نحرم ولا نوجب إلا ما أوجبا وحرما ونهيا فقط فبطل كل ما عدا ذلك والقياس مما عدا ذلك فهو باطل وقال تعالى {أولم يكفهم أنآ أنزلنا عليك لكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} فأوجب تعالى أن يكتفى بتلاوة الكتاب وهذا هو الأخذ بظاهره وإبطال كل تأويل لم يأت به نص أو إجماع وألا نطلب غير ما يقتضيه لفظ القرآن فقط وقال تعالى {وما ختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى لله ذلكم لله ربي عليه توكلت وإليه أنيب} وقال تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فلم يبح الله تعالى عند التنازع والاختلاف أن يتحاكم أو يرد إلا إلى القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لا إلى أحد دون النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى رأي ولا قياس فبطل كل هذا بطلانا متيقنا والحمد لله رب العالمين على توفيقه هذا مع شدة شرط الله تعالى بقوله {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} فلقد يجب على كل مسلم قامت عليه الحجة أن يهاب لحقوق هذه الصفة به وفرض عليه ألا يقتدي بمن سلف ممن تأول فخطأ فليس من قامت عليه الحجة كمن لا ندري أقامت عليه الحجة أم لم تقم إلا أننا نحسن الظن بهم كما نحسنه بسائر المؤمنين والله أعلم بحقيقة أمر كل أحد وقال تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم لكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على لله لكذب إن لذين يفترون على لله لكذب لا يفلحون} فحرم تعالى الحكم في الشيء من الدين بتحريم أو تحليل وسمى من فعل ذلك كاذبا وفعله كذبا إلا أن يحرمه الله أو يحلله الله في النص أو الإجماع وقال تعالى {قل أرأيتم مآ أنزل لله لكم من رزق فجعلتم منه حراما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على لله تفترون} فسمى تعالى من حرم بغير إذن من الله تعالى في تحريم ذلك الشيء أو حلل بغير إذن من الله في تحليله مفتريا وهذه صفة القائسين المحرمين المحللين الموجبين بالقياس بغير إذن من الله تعالى وقال تعالى {فلا تضربوا لله لأمثال إن لله يعلم وأنتم لا تعلمون} فنص تعالى على ألا تضرب له الأمثال وهذا نص جلي على إبطال القياس وتحريمه لأن القياس ضرب أمثال للقرآن وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه النص ومن مثل ما لم ينص الله تعالى على تحريمه أو إيجابه بما حرمه الله تعالى وأوجبه فقد ضرب له الأمثال وواقع المعصية نعوذ بالله من ذلك ونص تعالى على أنه يعلم ونحن لا نعلم فلو علم تعالى أن الذي لم ينص عليه مثل الذي نص عليه لأعلمنا بذلك وما أغفله وما ضيعه قال تعالى {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا} وقال تعالى {ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وهو لعزيز لحكيم} فصح أن العربية بها أرسل الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فبهذا بين لنا وقال تعالى {وما ينطق عن لهوى * إن هو إلا وحي يوحى} فكل ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله تعالى بينه وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها وأن البر لا يسمى تبنا وأن الملح لا يسمى زبيبا وأن التمر لا يسمى أرزا وأن الشعير لا يسمى بلوطا ولا الواطىء آكلا ولا الآكل واطئا ولا القاتل مظاهرا ولا المظاهر قاتلا ولا المعرض قاذفا فإذ قد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره ولم يبعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالعربية التي ندريها فقد علمنا يقينا أنه صلى الله عليه وسلم إذا نص في القرآن أو كلامه على اسم ما بحكم ما فواجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم فقط ولا نتعدى به الموضع الذي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وألا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم ويقع عليه فالزيادة على ذلك في الدين وهو القياس والنقص منه نقص من الدين وهو التخصيص وكل ذلك حرام بالنصوص التي ذكرنا فسبحان من خص أصحاب القياس بكلا الأمرين فمرة يزيدون إلى النص ما ليس فيه ويقولون هذا قياس ومرة يخرجون من النص بعض ما يقتضيه ويقولون هذا خصوص ومرة يتركونه كله ويقولون ليس عليه العمل والعبرة معترضة عليه كما فعل الحنفيون في حديث المصراة والإقراع بين الأعبد وكما فعل المالكيون في حديث تمام الصوم لمن أكل ناسيا وحديث الحج على المريض البائس والميت وغير ذلك وحسبنا الله ونعم الوكيل وقال الله تعالى {إن هي إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم مآ أنزل لله بها من سلطان إن يتبعون إلا لظن وما تهوى لأنفس ولقد جآءهم من ربهم لهدى} قال أبو محمد والقياس اسم في الدين لم يأذن به الله تعالى ولا أنزل به سلطانا وهو ظن منهم بلا شك لتجاذبهم علل القياسات بينهم كتعليلهم الربا بالأكل وقال آخرون منهم بالكيل والوزن وقال آخرون بالادخار وهذه كلها ظنون فاسدة وتخاليط وأسماء لم يأذن تعالى بها ولا أنزل بها سلطانا وقال تعالى {فخلف من بعدهم خلف ورثوا لكتاب يأخذون عرض هذا لأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق لكتاب أن لا يقولوا على لله إلا لحق ودرسوا ما فيه ولدار لآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} وقال تعالى {ويحق لله لحق بكلماته ولو كره لمجرمون} فنص تعالى على ألا يقال عليه إلا الحق وأخبر تعالى أنه يحق الحق بكلماته فما لم يأتنا كلام الله تعالى بأنه حق من الدين فهو باطل لا حق وقال تعالى حكاية عن رسله صلى الله عليهم وسلم {قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن لله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 إلا بإذن لله وعلى لله فليتوكل لمؤمنون} قال أبو محمد فنص الله تعالى عن الأنبياء الصادقين أنه ليس لهم أن يأتوا بسلطان إلا بإذن الله تعالى والسلطان الحجة بلا شك فكل حجة لم يأذن الله تعالى بها في كلامه فهو باطل ولم يأذن قط تعالى في القياس فهو باطل وقال تعالى {ما جعل لله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم للائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم ولله يقول لحق وهو يهدي لسبيل * دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} وقال تعالى {لذين يظاهرون منكم من نسآئهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا للائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من لقول وزورا وإن لله لعفو غفور} فأنكر تعالى غاية الإنكار أن يجعل أحد أمه غير التي ولدته ولا أن يجعل ابنه إلا ولده وهو تعالى قد جعل أمهاتنا من لم تلدنا كنساء النبي صلى الله عليه وسلم واللواتي أرضعتنا وجعل أبناءنا من لم تلده كنحن لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وكمن أرضعه نساءنا بألباننا فصح بالنص أن الشيء إذا حكم الله تعالى به فقد لزم دون تعليل وأن من أراد أن يحكم بمثل ذلك بما لا نص فيه فقد قال منكرا من القول وزورا وأنه ليس لأحد أن يقول بغير ما لم يقل الله تعالى به وفي هذا كفاية لمن جعلنا نحن وهم نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتنا في التحريم كما جاء النص فقط ثم لم نقس على ذلك رؤيتهن كما نرى أمهاتنا بل حرم ذلك علينا ولا قسنا إخوتهم وبنيهم على أخوال الولادة وإخوة الولادة بل حل لهم نكاح نساء المسلمين وحل لرجال المسلمين نكاح إخواتهن وبناتهن فبطل حكم القياس يقينا وصح لزوم النص فقط وألا يتعدى أصلا وفي آية واحدة مما ذكرنا كفاية لمن اتقى الله عز وجل ونصح نفسه فكيف وقد تظاهرت الآيات بإبطال ما يدعونه من القياس في دين الله تعالى وكذلك أيضا جاءت الأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 بإبطال القياس كما حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم ثنا ابن نمير ثنا روح بن عبادة ثنا شعبة مسلم وحدثني زهير بن حرب ثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال أخبرني أبو بكر بن حفص عن سالم بن عمر قال إن عمر رأى على رجل من آل عطارد قباء من ديباج أو حرير فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لو اشتريته فقال إنما يلبس هذا من لا خلاق له فأهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء فأرسل بها إلي فقلت أرسلت بها إلي وقد سمعتك قلت فيها ما قلت قال إنما بعثت إليك لتستمتع بها وقال ابن نمير في حديثه إنما بعثتها إليك لتنتفع بها ولم أبعث بها إليك لتلبسها والسند المذكور إلى مسلم قال حدثنا شيبان بن فروخ ثنا جرير بن حازم ثنا نافع عن ابن عمر قال رأى عمر عطاردا اليمني يقيم بالسوق حلة سيراء فقال عمر يا رسول الله إني رأيت عطاردا يقيم في السوق حلة سيراء فلو اشتريتها فلبستها لوفود العرب إذ قد مرا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة فلما كان بعد ذلك أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلل سيراء فبعث إلى عمر بحلة وإلى ابن زيد بحلة وأعطى علي بن أبي طالب حلة وقال اشققها خمرا بين نسائك فذكر أمر عمر قال وأما أسامة فراح في حلته فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرا عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكر ما صنع فقال يا رسول الله ما تنظر إلي فأنت بعثت بها إلي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 فقال إني لم أبعثها إليك لتلبسها ولكن بعثت بها لتشققها خمرا بين نسائك فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر تسويته بين الملك والبيع والانتفاع وبين اللباس المنهي وأنكر على أسامة تسويته بين الملك واللباس أيضا وكل واحد منهما قياس فأحدهما حرم قياسا والآخر أحلى قياسا فأنكر صلى الله عليه وسلم القياسين معا وهذا هو إبطال القياس نفسه ولا بد في هذين الحديثين من أحد مذهبين إما أن يقول قائل إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ نهى عن لباس الحرير ثم وهبهما حلل الحرير أن يكون لبس عليهما وهذا كفر من قائله أو أنه صلى الله عليه وسلم بين عليهم المحرم من الحرير وهو اللباس المنصوص عليه فقط وبقي ما لم يذكر على أصل الإباحة فأخطآ رضي الله عنهما إذا قاسا وهذا هو الحق الذي لا يحل لأحد أن يعتقد غيره وبالله تعالى التوفيق حدثنا أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ نا بكر بن حماد نا حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء من غير نسيان لها رحمة لكم فلا تبحثوا عنها كتب إلي النمري يوسف بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن محمد علي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 الباجي نا الحسين بن إسماعيل نا عبد الملك بن يحيى نا محمد بن إسماعيل ثنا سنيد بن داود نا محمد بن فضيل عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة لكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها حدثنا أحمد بن قاسم قال نا أبي القاسم بن محمد بن قاسم قال نا جدي قاسم بن أصبغ نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا نعيم بن حماد نا عبد الله بن المبارك ثنا عيسى بن يونس عن جرير هو ابن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال قال أبو محمد حريز بن عثمان ثقة وقد روينا عنه أنه تبرأ مما أنسب إليه من الانحراف عن علي رضي الله عنه ونعيم بن حماد قد روى عن البخاري في الصحيح وفي الأحاديث التي ذكرنا في هذا الفصل وفيما قبل هذا من أمره صلى الله عليه وسلم بأن يتركوا ما تركهم وأن ينتهوا عما نهاهم وأن يفعلوا ما أمرهم به ما استطاعوا كفاية في إبطال القياس لمن نصح نفسه وقد قال بعض أصحاب القياس إنما أنكر في هذه الأحاديث من يقيس برأيه وأما من يقيس على تشابه المنصوص فلم يذم قال أبو محمد فقلنا لهم من أين فرقتم هذا الفرق وهل رددتموها على الدعوة المفتراة الكاذبة شيئا وقولكم هذا من أشد المجاهرة بالباطل وقد وجدنا للصحابة فتاوى كثيرة بالرأي يتبرؤون فيها من خطأ إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 كان إلى الله تعالى ولا يوجدون شيئا منها دينا ولا يقولون إنه الحق بل يذمون القول بالرأي في خلال ذلك خوف أن يظن ظان أنه منهم على سبيل الإيجاب والقطع بأنه حق فمن تعلق بالرأي هكذا فله متعلق وأما القياس الذي ذكر هذا القائل على التعديل واستخراج علة الشبه فما نطق بذلك قط أحد من الصحابة ولا قال به فالذي فر إليه أشد مما فر عنه وبالله تعالى التوفيق وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم وعمن بعدهم إبطال القياس نصا كالذي ذكرنا عن أبي هريرة من قوله لابن عباس إذ أتاك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تضرب له الأمثال وهذا نص من أبي هريرة على إبطال القياس حدثنا عبد الله بن يوسف نامي نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا زهير ثنا منصور عن هلال بن يساف عن ربيع بن عميلة عن سمرة بن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الكلام إلى الله عز وجل أربع فذكر الحديث وفي آخره لا تسمين غلامك يسارا ولا رباحا ولا نجيحا ولا أفلح فإنك تقول أثم هو فيقول لا إنما هن أربع فلا تزيدوا علي قال أبو محمد فهذا سمرة بن جندب لم يستجز القياس وأخبر أنه زيادة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 في السنة ولم يستجز أن يقول ومثل هذا يلزم في خيرة وسعد وفرج فتقول أثم سعد أثم فرج أثم خيرة فيقول لا هذا وقد نص على السبب المانع من التسمية بالأسماء المذكورة التي يسمون مثلها التي يكذبون في استخراجها علة يقيسون عليها فقد كان ينبغي لو اتقوا الله عز وجل أن يقولوا إن التي نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يقاس عليها ما يشبهها لكن لم يفعلوا ذلك ولا فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خص هذه الأسماء ولا سمرة بعده وهذا إبطال صحيح للقياس فإن قالوا لعل هذا الكلام إنما هن أربع فلا تزيدون علي هو من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم قيل لهم فذلك أشد عليهم وأبطل لقولكم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القياس والتعليل وأمر بالاقتصار على ما نص عليه فقط حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي نا محمد بن معاوية المرواني نا أحمد بن شعيب النسائي نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر وأبو داود الطيالسي وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأبو الوليد الطيالسي ومحمد بن أبي عدي قالوا ثنا شعبة قال سمعت سليمان بن عبد الرحمن قال سمعت عبيد بن فيروز قال قلت للبراء بن عازب حدثني ما كره أن نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأضاحي فقال هكذا بيده ويده أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع لا تجزىء في الأضاحي وذكر الحديث قال فإني أكره أن يكون نقص في القرن والأذن قال فما كرهت منه فدعه ولا تحرمه على أحد وروينا نحو ذلك عن عتبة بن عبد السلمي ألا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 يتعدى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أحمد بن عمر العذري ثنا عبد الله بن حسين بن عقال الفريسي نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا أحمد بن الهيثم نا محمد بن شريك عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وذكر الحديث وقال محمد بن أحمد بن الجهم ثنا أحمد بن الهيثم ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد ابن زيد نا المعلى بن زياد عن الحسن قال بينا عمر بن الخطاب يمشي في بعض طرق المدينة إذ وطىء رجل من القوم عقبه فقطع نعله فأهوى له ضربة فقال يا أمير المؤمنين لطمتني وظلمتني لا والله ما هذا أردت فألقى إليه الدرة فقال دونك فاقتص فقال بعضهم اغفرها لأمير المؤمنين فقال لا والله ما أريد مغفرتها لقد كتبت وحفظت ولكن إن شئت دللتك على خير من ذلك {وكتبنا عليهم فيهآ أن لنفس بلنفس ولعين بلعين ولأنف بلأنف ولأذن بلأذن ولسن بلسن ولجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بمآ أنزل لله فأولئك هم لظالمون} قال فإني قد تصدقت فجاء عمر رقيق فأعطاه خادما وذكر الحديث قال أبو محمد فهذا عمر لم يستجز قياس المغفرة على الصدقة والعلة عند القائسين واحدة ولا أرى أن يفارق ظاهر النص حدثنا يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الوارث بن جبرون نا قاسم بن أصبغ ثنا أبو بكر بن أبي خيثمة نا أبي هو زهير بن حرب نا جرير عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد أن عمر بن الخطاب نهى عن المكايلة قال مجاهد يعني المقايسة حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا إسماعيل بن إسحاق البصري نا عيسى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 بن حبيب نا عبد الرحمن بن عبد الله بن يزيد المقرىء نا جدي محمد بن عبد الله بن يزيد نا سفيان بن عيينة عن خلف بن حوشب عن سلمة بن كهيل قال قال عمر بن الخطاب وقد وضحت الأمور وسنت السنن ولم يترك لأحد متكلم إلا أن يضل عبد عن عبد حدثنا ابن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن رجلا وامرأته أتيا ابن مسعود في تحريم فقال إن الله تعالى بين فمن أتى الأمر من قبل وجهه فقد بين له ومن خالف فوالله ما نطيق خلافه وربما قال خلافكم قال أبو محمد فهذا ابن مسعود يجعل كل ما ليس في النص خلافا لله تعالى ويخبر أن البيان قد تم وهذا إبطال القياس أخبرنا المهلب التميمي نا بن مناس نا محمد بن مسرور القيرواني أنا يونس بن عبد الأعلى نا عبد الله بن وهب قال سمعت سفيان بن عيينة يحدث عن المجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال ليس عام إلا والذي بعده شر منه لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلام وينثلم وكتب إلي النمري أحمد بن فتح الرسان نا أحمد بن الحسن بن عتبة الرازي نا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري نا الزبير بن بكار حدثني سعيد بن داود بن أبي زبر عن مالك بن أنس عن داود بن الحصين عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 طاوس عن عبد الله بن عمر قال العلم ثلاثة أشياء كتاب ناطق وسنة ماضية ولا أدري حدثنا أحمد بن عمر حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي حدثنا أحمد بن عبدان بن محمد الحافظ النيسابوري بالأهواز نا محمد بن سهل بن عبد الله المقرىء نزيل فسا ثنا محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف الصحيح قال قال لي صدقة عن الفضل بن موسى عن ابن عقبة عن الضحاك عن جابر بن زيد قال لقيني ابن عمر قال يا جابر إنك من فقهاء البصرة وستستفتى فلا تفتين إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية قال أبو محمد وهذا نص المنع من القياس والرأي والتقليد حدثنا عبد الرحمن بن سلمة الكتاني نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعيد نا طاهر بن عبد العزيز نا أبو القاسم مسعدة العطار بمكة وكان طاهر وأحمد بن خالد يحسنان الثناء عليه قال أنا الخزامي يعني إبراهيم بن المنذر وحدثنا طاهر بن عصام كان طاهرا وكان ثقة عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أنه قال العلم ثلاثة كتاب الله الناطق وسنة ماضية ولا أدري حدثنا محمد بن سعيد نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن سليمان الشيباني هو أبو إسحاق سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر قلت فالأبيض قال لا أدري قال أبو محمد فلو جاز القياس عند ابن أبي أوفى لقال ما الفرق بين الأخضر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 والأبيض كما يقول هؤلاء الفرق بين الزيت والسمن وبين الفأر الميت والسنور الميت وبين الأرز والبر وسائر ما قاسوا فيه لكنه وقف عند النص وهذا الذي لا يجوز غيره حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفريري نا البخاري نا أبو اليمان الحكم بن نافع أنا شعيب هو ابن حمرة عن الزهري قال كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب الله تعالى ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولئك جهالكم وذكر باقي الكلام والخبر حدثنا عبد الله بن ربيع بن محمد بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة أنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن زيد بن عميرة عن معاذ بن جبل قال تكون فتن يكثر فيها الملل ويفتح فيها القرآن حتى يقرؤه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمؤمن والمنافق فيقرؤه الرجل فلا يتبع فيقول والله لأقرأنه علانية فيقرؤه علانية فلا يتبع فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإياكم وإياه فإنها بدعة ضلالة قالها ثلاث مرات فهؤلاء عمر وابن عمر وابن مسعود وأبو هريرة ومعاذ بن جبل وسمرة بن جندب وابن عباس والبراء بن عازب وعبد الله بن أبي أوفى ومعاوية كلهم يبطل القياس وما ليس موجودا في القرآن ولا في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه صفة الرأي والقياس والتعليل وقد قدمنا أنه لا يصح خلاف هذا عن أحد من الصحابة بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 وأما التابعون ومن بعدهم فحدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا يحيى بن مالك بن عائذ نا هشام بن محمد بن قرة المعروف بابن أبي حنيفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي نا ابن غليب حدثني عمران بن أبي عمران ثنا يحيى بن سليمان الطائفي حدثني داود بن أبي هند قال سمعت محمد ين سيرين يقول القياس شؤم وأول من قاس إبليس فهلك وإنما عبدت الشمس والقمر بالقياس حدثنا المهلب نا ابن مناس نا محمد بن مسرور القيرواني نا يونس بن عبد الأعلى نا ابن وهب قال أخبرني مسلمة بن علي أن شريحا الكندي هو القاضي قال إن السنة سبقت قياسكم كتب إلي النمري قال قال أبو ذر الهروي نا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني بالري نا عبد الرحمن بن أبي حاتم نا محمد بن إسماعيل الأحمسي نا وهب بن إسماعيل عن داود الأودي قال قال لي الشعبي احفظ عني ثلاثا لهما شأن إذا سئلت عن مسألة فأجبت فيها فلا تتبع مسألتك أرأيت فإن الله تعالى قال في كتابه {أرأيت من تخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا} حتى فرغ من الآية والثانية إذا سئلت عن مسألة فلا تقس شيئا بشيء فربما حرمت حلالا أو حللت حراما والثالثة إذا سئلت عما لا تعلم فقل لا أعلم وأنا شريكك كتب إلي يوسف بن عبد الله نا خلف بن قاسم نا ابن شعبان نا محمد بن محمد نا أبو همام نا الأشجعي عن جابر عن الشعبي عن مسروق قال لا أقيس شيئا بشيء قلت لم قال أخاف أن تزل رجلي كتب إلي النمري نا عبد الرحمن بن يحيى بن محمد العطار نا علي بن محمد بن مسرور حدثنا أحمد نا سحنون نا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 بن أبي عيسى عن الشعبي أنه سمعه يقول إياكم والمقايسة فوالذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال ولكن ما بلغكم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحفظوه حدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا يحيى بن مالك بن عائذ نا أبو عبد الله ابن أبي حنيفة نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي نا يوسف بن يزيد القراطيسي نا سعيد بن منصور نا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال السنة لم توضع بالمقاييس وحدثنا أيضا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا محمد بن أحمد بن يحيى نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس العبقسي نا محمد بن علي بن زيد الصائغ ثنا سعيد بن منصور نا جرير هو عبد الحميد عن المغيرة عن الشعبي قال السنة لم توضع بالمقاييس حدثنا يونس بن عبد الله القاضي نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم بن العنان ثقة نا أحمد بن خالد نا أحمد بن عبد السلام الخشني محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا صالح بن مسلم قال قال لي عامر الشعبي يوما وهو آخذ بيدي إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس لقد بغض إلي هذا المسجد فلهو أبغض إلي من كناسة داري هؤلاء الصفافقة كتب إلي النمري نا محمد بن خليفة شيخ فاضل جدا واسع الرواية ثنا محمد بن الحسين الآجري ثنا أحمد بن سهل الأشناني نا الحسين بن علي بن الأسود نا يحيى بن آدم نا المبارك عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال كتاب الله تعالى وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي النمري أخبرنا عبد الوارث بن سفيان نا قاسم بن أصبغ ثنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران في قول الله تعالى {يا أيها لذين آمنوا أطيعوا لله وأطيعوا لرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله ولرسول إن كنتم تؤمنون بلله وليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} قال إلى الله إلى كتاب الله تعالى وإلى الرسول ما دام حيا فإذا قبض قال سنته حدثنا يونس بن عبد الله بن مغيث نا محمد بن الحسن الزبيدي نا أحمد هو ابن سعيد بن حزم الصدفي نا أحمد هو ابن خالد نا مروان هو ابن عبد الملك النجار نا العباس بن الفرج الرياشي عن الأصمعي أنه قيل له إن الخليل بن أحمد يبطل القياس فقال الأصمعي أخذ هذا عن إياس بن معاوية حدثني أبو العباس العذري نا الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن فراس أنا عمر بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أبي سفيان بن عبد الرحمن بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي نا علي بن عبد العزيز نا أبو الوليد القرضي نا محمد بن عبد الله بن بكار القرشي نا سليمان بن جعفر نا محمد بن يحيى الربعي عن ابن شبرمة أن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن قال لأبي حنيفة اتق الله ولا تقس فإنا نقف غدا نحن ومن خالفنا بين يدي الله تعالى فنقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تبارك وتعالى وتقول أنت وأصحابك سمعنا ورأينا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن أصبغ ثنا ابن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن هارون بن إبراهيم البربري قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قال قال أبي الله لا يدع شيئا أن يبينه أن يكون نسبه فما قال الله عز وجل فهو كما قال الله وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يقل الله ورسوله فبعفو الله ورحمته فلا تبحثوا عنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا علي بن الحسن بن فهر ثنا محمد بن علي نا محمد بن عبد الله الحفاظ إجازة نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنا وهب سمعت مالك بن أنس يقول ألزم ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمران تركتهما فيكم لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حدثنا أحمد بن عمر نا علي بن الحسن بن فهر أنا الحسن بن علي بن شعبان وأبو حفص عمر بن محمد بن عراك نا أبو بكر أحمد بن مروان المالكي نا علي بن عبد العزيز نا الزبير بن بكار قال سمعت سفيان بن عيينة يقول سألت مالك بن أنس عن رجل أحرم من المدينة أو من وراء الميقات فقال مالك هذا رجل مخالف لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم أخشى عليه الفتنة في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة أما سمعت قوله تعالى {لا تجعلوا دعآء لرسول بينكم كدعآء بعضكم بعضا قد يعلم لله لذين يتسللون منكم لواذا فليحذر لذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} ثم ذكر حديث المواقيت حدثنا عبد الرحمن بن سلمة نا أحمد بن خليل نا خالد بن سعد نا أحمد بن خالد نا يحيى بن عمر نا الحارث بن مسكين أنا ابن وهب قال قال لي مالك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المرسلين وسيد المرسلين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء قال أبو محمد فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيب إلا بالوحي وإلا لم يجب فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب في الدين برأي أو قياس أو استحسان أو احتياط أو تقليد إلا بالوحي وحده وبالله تعالى التوفيق حدثنا أحمد بن عمر بن أنس نا أحمد بن عيسى غندر نا خلف القاسم نا أبو الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر نا يزيد بن عبد ربه قال سمعت وكيع بن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 الجراح يقول ليحيى بن صالح الوحاظي يا أبا زكريا احذر الرأي فإني سمعت أبا حنيفة يقول البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم حدثنا القاضي حمام بن أحمد نا عبد الله بن علي الباجي اللخمي حدثنا أحمد بن خالد حدثنا عبيد بن محمد الكشوري ثنا محمد بن يوسف الحذافي ثنا عبد الرزاق قال قال لي حماد بن أبي حنيفة قال أخبرني أبي من لم يدع القياس في مجلس القضاء لم يفقه قال أبو محمد فهذا أبو حنيفة يقول إنه لا يفقه من لم يترك القياس في مواضع الحاجة إلى تصريف الفقه وهو مجلس القضاء فتبا لكل شيء لا يفقه المرء إلا بتركه وقد ذكرنا أيضا قول مالك آنفا في إبطال القياس فإن وجد لهذين الرجلين بعد هذا القول منهما قياس فهو اختلاف من قولهما وواجب عرض القولين على القرآن والسنة فلأيهما شهد النص أخذ به والنص شاهد لقول من أبطل القياس على ما قدمنا لا سيما وهذان الرجلان لم يعرفا قط القياس الذي ينصره أصحاب القياس ومن استخراج العلل ولكن قياسهما كان بمعنى الرأي الذي لم يقطعا على صحته وكذا صدر الطحاوي في اختلاف العلماء بأن أبا حنيفة قال علمنا هذا رأي فمن أتانا بخير منه أخذناه أو نحو هذا القول والمتحققون بالقياس لا يقرون بهذا ولا يرضوه ولا يقولون به وهكذا جميع أهل عصرها وبالله تعالى التوفيق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 ولا معنى لفشو القول بالقياس وغلبته على أكثر الناس فهذا برهان بطلانه وفساده وقد أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلبة الباطل وظهوره وخفاء الحق ودثوره كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى حدثنا أحمد بن محمد الفقيه الأشقر ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عياد وابن أبي عمر جميعا عن مروان الفزاري عن يزيد يعني بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء وقال مسلم ثنا محمد بن رافع والفضل بن سهيل الأعرج قال ثنا شبابة بن سوار ثنا عاصم هو ابن محمد العمري عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأزر بين المسجدين تأرز الحية إلى حجرها حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا ابن أبي دليم ووهب بن مسرة حدثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حفص عن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء قيل ومن الغرباء قال نزاع القبائل قال أبو محمد وأما الإجماع فقد بيناه على ترك القياس من وجوه كثيرة وهي إجماع الأمة كلها على وجوب الأخذ بالقرآن وبما صح عن رسول الله صلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 الله عليه وسلم وبما أجمعت الأمة كلها على وجوبه أو تحريمه من الشرائع وأجمعت على أنه ليس لأحد أن يحدث شريعة من غير نص أو إجماع وأجمعت على تصديق قول الله تعالى {وما من دآبة في لأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في لكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون} وعلى قوله تعالى {حرمت عليكم لميتة ولدم ولحم لخنزير ومآ أهل لغير لله به ولمنخنقة ولموقوذة ولمتردية ولنطيحة ومآ أكل لسبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على لنصب وأن تستقسموا بلأزلام ذلكم فسق ليوم يئس لذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم وخشون ليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم لأسلام دينا فمن ضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن لله غفور رحيم} وهذا إجماع على ترك القياس وأن لا حجة لأحد إليه حتى نقص من نقص بالغفلة المركبة في البشرية في التفصيل والخطأ لم يعصم منه أحد بعد النبيين صلى الله عليهم وسلم فإنما يوجد القياس ممن وجد منه على سبيل الخطأ والغفلة عن الواجب عليه هي زلات علماء كمن قال بالتقليد وما أشبه ذلك وأيضا فقد قلنا وبينا أنه لم يصح قط عن أحد من الصحابة القول بالقياس يعني باسمه وباليقين فإنه يتكلم قط أحد منهم بلا شك ولا من التابعين بلا شك باستخراج علة يكون القياس عليها ولا بأن القياس لا يصح إلا على جامعة بين الحكمين فهذا أمر مجمع عليه ولا شك فيه البتة إلا عند من أراد أن يطمس عين الشمس وهذا أمر إنما ظهر في القرن الرابع فقط مع ظهور التقليد وإنما ظهر القياس في التابعين على سبيل الرأي والاحتياط والظن لا على إيجاب حكم به ولا أنه حق مقطوع به ولا كانوا يبيحون كتابه عنهم وأيضا فقد وجدنا مسائل كثيرة جدا اتفقوا هم فيها ونحن وجميع المسلمين على خلاف جميع وجوه القياس وعلى ترك القياس كله فيها ومسائل كثيرة جاء النص بخلاف القياس كله فيها ولم نجد قط مسألة جاء النص بالأمر بالقياس فيها ولا مسألة اتفق الناس على الحكم فيها قياسا فلو كان القياس حقا لما جاز الإجماع على تركه في شيء من المسائل ولا جاء النص بخلافه البتة فالإجماع لا يجوز على ترك الحق ولا يأتي النص بخلاف الحق وهذا إجماع صحيح على ترك القياس وسنبين طرفا من المسائل التي ذكرنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 ولعل قياس الورع يعارض هذا القول بأن يقول قد جاء الإجماع على ترك بعض النصوص فليعلم الناس أن من قال ذلك كاذب آفك وما جاء قط نص صحيح بخلاف نص صحيح السند متصل وهو الحق عندنا لا ما عداه وما جاء قط نص صحيح بخلاف الإجماع فإن قال سوفسطائي فقد جاء نص بخلاف نص قلنا نعم ينسخ له وهو نص على كل حال ولم نذكر لكم قياسا خلاف قياسا وإنما قلنا بأنه قد وجد إجماع على ترك جميع وجوه القياس وورود نص مخالف لجميع وجوه القياس وهكذا هي جميع الشرائع ككون الظهر أربعا والصبح ركعتين والمغرب ثلاثا وكصوم رمضان دون شعبان وكالحدث من أسفل فيغسل له الأنواع وكأنواع الزكاة وسائر الشرائع كلها وليس أحد من القائلين بالقياس إلا وقد تركه في أكثر مسائله وسنبين من هذا إن شاء الله تعالى في آخر هذا الباب طرفا يدل على المراد وأما من براهين العقول فإنه يقال لهم أخبرونا أو شيء هو القياس الذي تحكمون به في دين الله تعالى فإن قالوا لا ندري أو تلجلجوا فلم يأتوا فيه بحد حاصر أقروا بأنهم قائلون بما لا يدرون ومن قال بما لا يدري فهو قائل بالباطل وعاص لله عز وجل إذ يقول {قل إنما حرم ربي لفواحش ما ظهر منها وما بطن ولإثم ولبغي بغير لحق وأن تشركوا بلله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على لله ما لا تعلمون} مع الرضا لنفسه بهذه الصفة الخسيسة التي لا تكون إلا في النوكي وإن قالوا حكم جامع بين شيئين بعلة يستخرجه أو قالوا بكثرة التشابه كانوا قائلين بما لا دليل على صحته وبما لم يقل به قط صاحب ولا تابع وإن قالوا بما يقع في النفس كانوا شارعين بالظن وفي هذا ما فيه وقد أقروا كلهم بلا خلاف منهم أنه جائز أن توجد الشريعة كلها أولها عن آخرها نصا وأقروا كلهم بلا خلاف من أحد منهم أنه لا يجوز أن توجد الشريعة كلها قياسا البتة ومن البراهين الضرورية عند كل ذي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 حس وعقل أن ما لزم الكل لزم البعض فالشرائع كلها لا يمكن البتة ولا يجوز أن توجد قياسا من أحد فبعضها لا يجوز أن يوجد قياسا وليس هذا قياسا ولكنه برهان ضروري كقول القائل إن كان الناس كلهم أحياء ناطقين فكل واحد منهم حي ناطق ولا يموه مموه فيقول بعض الناس أعور وليس كلهم أعور فليس هذا مما ألزمناهم في صفة لكن كل الناس ممكن أن يوجدوا عورا وليس ذلك بممتنع في البقية وأما أخذ الشرائع كلها قياسا فممتنع في البتة إذ لا بد عندهم من نص يقاس عليه ولا هذا أيضا من قول القائل لا يجوز أن يكذب الناس كلهم وجائز أن يكذب بعضهم بل كل أحد على حدته فالكذب عليه ممكن وليس كل شريعة على حدتها جائز أن توجد قياسا وهذا بيان يوضح كل ما أرادوا أن يموهوا به في هذا المكان وبرهان آخر وهو أنه يقال لأصحاب القياس إذا قلتم لما حرم الله تعالى القطع في أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة دراهم حرم أن يكون الصداق أقل من ثلاثة دراهم ولما وجبت الكفارة على الوطء عمدا في نهار رمضان وجبت على الأكل عمدا في نهار رمضان ولما حرم حلق الشعر في الرأس بغير ضرورة في الإحرام حرم حلق العانة في الإحرام كما حرم مد بر بمدي بر نقدا حرم مد شعير بمد سلت نقدا وقال آخرون منكم لا ولكن حرم رطل حديد برطل حديد نقدا وقال آخرون لا ولكن حرم أصل كرنب بأصل كرنب نقدا ولما أبيح اتخاذ كلب الصيد والغنم بعد تحريمه أبيح ثمنه بعد تحريمه ولما أبيح الثلث في الوصية للموصي أبيح بيع الثمر قبل صلاحه إذا كان أقل من ثلث كرام الدار وسائر ما أوجبتموه قياسا وحرمتموه قياسا وأبحتموه من هذا الموجب لهذا كله ومن هو المحرم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 لهذا كله إذ لا بد لكل فعل من فاعل ولكل تحريم من محرم ولكل إيجاب من موجب ولكل إباحة من مبيح فإن قالوا الله تعالى ورسوله أباحا ذلك وحرماه وأوجباه كذبوا على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وجاهروا بالفرية عليهما وهم لا يقدمون على أن ينسبوا ما حكموا فيه بقياسهم إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه إن أقدم منهم قليل الدين على أكذبه سائرهم لأنه إنما سألناهم عن مسائل يخالف فيها بعضهم بعضا ووقع حينئذ بأسهم بينهم وكفونا مؤنتهم فلم يبق بالضرورة إلا أن يحيلوا في التحريم والإيجاب والإباحة على أنفسهم أو على أحد دون الله تعالى ودون رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا كما تراه بلا مؤنة ولا تكلف تأويل إقرار بإحداث دين وشريعة لم يأت بها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أذن بها الله تعالى فإن سألونا عن مثل هذا فيما أوجبناه أو حرمناه أو أبحناه بخبر الواحد العدل المسند فلسنا نقنع بأن نقول لهم إن هذا السؤال لازم لكم كلزومه لنا لأننا لا نتكثر بهم ولا نبالي وافقونا في ذلك أو خالفونا لكن نقول وبالله تعالى التوفيق إن الله تعالى حرم وأوجب وأباح كل ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شك في ذلك كما نقول فيما أمر الله تعالى به من قبول شهادة العدول في الأحكام وبالله تعالى التوفيق ويقال لهم أيضا أخبرونا أكل قياس قاسه قائس من أصحاب القياس حق وصواب أم من القياس خطأ وصواب ولا بد من أحد الوجهين فإن قالوا كل قياس في الأرض فهو صواب تركوا مذهبهم وأوجبوا المحال وكون الشيء حراما حلالا فرضا مباحا على إنسان واحد في وقت واحد وإن قالوا من القياس خطأ ومنه صواب قلنا لهم بأي شيء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 تعرفون الحق من الباطل في القياس فإن تلجلجوا وقالوا لا نأتي بذلك إلا في كل مسألة قلنا هذا لو إذ عما لزمكم مما لا سبيل لكم إلى وجوده كمن قاس أن يقبل امرأتان حيث تجوز عنده شهادة النساء مفردات على قبول رجلين حيث يقبل الرجال وكمن قاس وجود أربع في ذلك على تعويش امرأتين بدل رجل حيث يقبل النساء مع الرجل وقلما تخلو لهم مسألة من مثل هذا فإذا بطل وجود برهان يصحح الصحيح من القياس ويبطل الباطل منه فقد صح أن ما لا سبيل إلى الفرق بين باطله وبين ما يدعي قوم أنه منه حق فهو باطل كله فإن قالوا لنا فكل الأخبار عندكم حق أو فيها باطل وحق قلنا بل كل ما اتصل برواية الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم حق لا يحل تركه إلا بيقين نسخ أو بيقين تخصيص ولا نسخ في القياس أصلا فصل في وضوح الطريقة على فساد القياس قال أبو محمد ونحن نرتب إن شاء الله تعالى ولا حول ولا قوة إلا به طريقة لا يتعدى بها على أحد من أهل الحق إفساد كل قياس يعارض به أحد من أصحاب القياس أو يحتج منهم وذلك أنه إذا احتج محتج ممن يقول بالقياس بأن هذه المسألة تشبه مسألة كذا فواجب أن نحكم لها بمثل حكمها فليطلب من يعارضه من أصحابنا صفة في المسألة التي شبهها خصمه بالمسألة الأخرى مما يشبه فيه مسألة ثالثة ثم يلزمه أن يحكم لها أيضا بمثل ذلك الحكم وهذا أمر موجود في جميع مسائلهم أولها عن آخرها وهذا وجه يفسد مسائلهم في القياس وسنذكر من هذا طرفا كافيا في الباب الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى ونذكر ههنا مسألة واحدة تدل على المراد إن شاء الله تعالى وبالله تعالى التوفيق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 قالوا لا يكون صداق إلا ما تقطع فيه اليد لأنه عضو يستباح كعضو يستباح فيقال لهم وهلا قسمتموه على استباحة الظهر في جرعة خمر لا تساوي فلسا فهو أيضا عضو يستباح فما الذي جعل قياس الفرج على اليد أولى من قياسه على الظهر وهو إلى الظهر أقرب منه إلى اليد وليس يقطع الفرج كما لا يقطع الظهر وأما تعليلهم في الربا فكل طائفة منهم قد كفتنا الأخرى إذ كل واحد منهم يبطل علة صاحبه التي قاس عليها وهكذا في كل ما قاسوا فيه وبالله تعالى التوفيق وقال بعضهم إنما نقيس في النصين المتعارضين فننظر أشبههما بما اتفق عليه في النصوص فنأخذ به قال أبو محمد وهذا أمر قد تقدم إفسادنا له في باب الكلام في الأخبار وأحكمناه وبالله تعالى التوفيق ولكننا نذكر ههنا من بعض قولهم ما لا غنى بهذا المكان عنه وهو أنا نقول هذا عمل فاسد ولا مدخل للقياس ههنا لأن كل حديثين تعارضا أو آيتين تعارضتا أو كل حديث عارض آية فليس أحد هذين النصين أولى بالطاعة من الآخر ولا الذي يردون إليه حكم هذين النصين أولى بالطاعة له من كل واحد من هذين وكل من عند الله تعالى ولا يقوي النص إجماع الناس عليه ولا يضعفه اختلاف الناس فيه فقد أجمع على بعض الأخبار واختلف في آيات كثيرة والنص إذا صح فالأخذ به واجب ولا يضره من خالفه فسقط ما أرادوا في ذلك من رد النصين المتعارضين إلى نص ثالث ووجب استعمال كل ذلك ما دام يمكن فإن لم يمكن أخذ بالزائد لأنه شرح متيقن رافع لما قبله ولم نتيقن أنه رفعه غيره مع أنهم لم يفعلوا ما ذكروا بل جاء لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وجاء لعن السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الجمل فتقطع يده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 فلم يردوهما إلى الآية المتفق على ورودها من الله تعالى وهي { ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} بل غلبوا لا قطع إلا في ربع دينار وهو نص مختلف في الأخذ به على الآية وعلى الحديث الآخر ثم تناقضوا في حديث لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان فتركوه وأخذوا بظاهر الآية وهذا خلاف ما فعلوا في آية القطع وكلا الحديثين صحيح وكلاهما مختلف فيه مع صحته فإن عللوا أحدهما بأنه اختلف فيه الرواة فالآخر كذلك ولا فرق وأما حديث الحنفيين فيما تقطع فيه اليد فساقط جدا وقد قال بعضهم إذا سألناهم عن معارضة قياسهم بقياس آخر وتعليلهم بتعليل آخر فما الذي جعل أحد القياسين أولى من الآخر أو أحد التعليلين أولى من الآخر ولا سبيل إلى وجود قياس لهم أو تعليل لهم تتعذر معارضتهما بقياس آخر أو تعليل آخر كما وصفنا فقال هذا القائل العمل حينئذ في هذا كالعمل في الحديثين المتعارضين قال أبو محمد فقلنا هذا باطل لأن النصين أو الحديثين المتعارضين لا بد من جمعهما واستعمالهما معا لأن كليهما حق وواجب الطاعة إذا صحا من طريق السند ولا يمكن هذا في القياسين المتعارضين ولا في التعليلين المتعارضين بوجه من الوجوه فإن تعذر هذا في الحديثين أو الآيتين أو الآية والحديث فالواجب الأخذ بالناسخ أو بالزائد إن لم يأت تاريخ يبين الناسخ منهما لأن الوارد بالزيادة شريعة من الله تعالى لا يحل تركها وليس يمكن هذا في القياسين المتعارضين ولا في التعليلين المتعارضين بوجه من الوجوه لأنه ليس فيهما نسخ أصلا ولا يوجد في القياسين زيادة من أحدهما على الآخر في أكثر الأمر لأن التعارض فيهما إنما هو يتعلق أحد القياسين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 بصفة ويتعلق آخر إلا بأخرى فبطل تمويه هذا القائل وبقي الإلزام يحسبه لا مخلص منه البتة وبالله تعالى التوفيق وقد زاد بعض مقدميهم ممن لم يتق الله عز وجل ولا أبالي الفضيحة في كلامه فقال إن القياس أقوى من خبر الواحد ورأيت هذا لأبي الفرج المالكي والمعروف بالأبهري واحتجا في ذلك بأن الخبر الواحد يدخله السهو وتعمد الكذب وأما القياس فلا يدخله إلا خوف الخطأ في التشبيه فقط قالا فما يدخله عيب واحد أولى مما يدخله عيبان قال أبو محمد وما يعلم في البدع أشنع من هذا القول ثم هو مع شناعته بارد سخيف متناقض ويقال لهذا الجاهل المقدم أخبرنا عنك أتقيس على خبر الواحد أم لا فإن قال لا كذب وأفصح وأريناهم خزيهم في قياسهم صداق النكاح على القطع في عشرة دراهم وهو خبر واهي ساقط والآخرون منهم قاسوا على خبر في ذلك وإن كان صحيح السند فهو خبر واحد وأريناهم قولهم في تقويم الملتفات بالقيمة لا بالمثل على الخبر في عتق الشقص ومدة الخيار في البيع على حديث المصراة والاستطهار في المستحاضة على حديث المصراة وهذا أكثر قياساتهم وإن قال أقيس على خبر الواحد فضح نفسه وأبان عن جهله وقلة ورعه في إقراره بأنه يقيس على ما هو أضعف من القياس وفي هذا غاية الجنون والتناقض وهم يقولون إن الأصل أقوى من الفرع والمقيس عندهم فرع والمقيس عليه أصل هذا ما لا يختلفون فيه فإذا كان خبر الواحد هو المقيس عليه عندهم فهو الأصل والقياس هو الفرع فعلى قول هذين المذكورين إذا كان القياس أقوى من خبر الواحد فالفرع أقوى من الأصل وقد قالوا إن الأصل أقوى من الفرع وهذا تناقض فاحش وبناء وهدم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 ونعوذ بالله من الخذلان وأيضا فإنهم يتركون في أكثر أقوالهم ظاهر القرآن بخبر الواحد ثم يتركون خبر الواحد للقياس فقد حصل من كلامهم وعملهم أنهم غلبوا القياس على الحديث وغلبوا الحديث على القرآن فقد صار القياس على هذا أقوى من القرآن ولا قياس البتة إلا على قرآن أو حديث وهذا كله تخليط وسخنة عين وغباوة جهل وإقدام واستحلال لما لا يحل ولا يخفى على ذي بصر وبالله تعالى التوفيق وأيضا فهم كثيرا ما يقولون فيما يرد عليهم من أقوال موقوفة على بعض الصحابة مما يوافق ما قلدوا فيه مالكا وأبا حنيفة مثل هذا لا يقال بالقياس فيغلبونه على ما يوجبه القياس عندهم كقولهم فيمن باع شيئا إلى أجل ثم ابتاعه بأقل إلى أقل من ذلك الأجل وفي البناء في الصلاة على الرعاف والحدث وفي مواضع كثيرة جمة وهذا ترك منهم للقياس وتغليب للظن أنه خبر واحد على القياس لأنهم لا يقطعون على أن هذه الأقوال توقيف وإنما يظنون ذلك ظنا فقد صار الظن أنه خبر واحد عندهم أقوى من القياس الذي هو عندهم أقوى من يقين أنه خبر واحد فقد صار الظن أقوى من اليقين وفي هذا عجب عجيب ونعوذ بالله من الخذلان وأما الحقيقة فإن الظن باطل بنص حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أكذب الحديث وبنص قول الله تعالى {وما لهم به من علم إن يتبعون إلا لظن وإن لظن لا يغني من لحق شيئا} فالظن بنص القرآن ليس حقا فإذ ليس حقا فهو باطل فإذا كان الظن الذي هو الباطل أقوى من القياس فالقياس بحكمهم أبطل من كل باطل وبالله تعالى التوفيق وجملة القول أن قولهم إن خبر الواحد يدخله السهو والغلط والكذب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 إنما هو من اعتراضات من لا يقول بخبر الواحد من المعتزلة والخوارج وقد مضى الكلام في إيجاب خبر الواحد العدل وقد وجب قبوله بالبرهان فاعترض المعترض بأنه قد يدخله السهو وتعمد الكذب اعتراض بالظن وبعض الظن إثم والظن أكذب الحديث وقولهم إن القياس يدخله خوف خطأ التشبيه إقرار منهم بأنهم لا يثقون بجملته وهذا هو الحكم بالظن وهو محرم بنص القرآن ويسألون عن إنسان مشهور بالباطل معروف بادعائه قد كثر ذلك منه وفشا فتقدم إلى قاضي يخاصم عنده فإن الأمة كلها مجمعة عن ألا يقاس أمره الآن على ما عهد منه فإذا خرم أن يقاس حكم المرء اليوم على حكمه بنفس أمس فهو أبعد من أن تقاس على غيره وهذا هدم من القياس للقياس وتفاسد منه بعضه لبعض وما كان هكذا فهو فاسد كله وبالله تعالى التوفيق وقال قائل منهم هل يجوز أن يتعبدنا الله تعالى بالقياس قال أبو محمد فالجواب إن كان جائزا قبل نزول قول الله تعالى {قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا} وقوله تعالى {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وكان يكون ذلك لو كان حمل إصر كما حمله على الذين من قبلنا وتحميلا لما لا طاقة لنا به وكما قال تعالى {في لدنيا ولآخرة ويسألونك عن ليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ولله يعلم لمفسد من لمصلح ولو شآء لله لأعنتكم إن لله عزيز حكيم} وأما بعد نزول الآيتين اللتين ذكرنا وبعد أن أمننا الله تعالى من أن يكلفنا الحكم بالتكهن وبالظنون وبعد أن نهانا عن أن نقول عليه تعالى ما لم نعلم فلا يجوز البتة أن يتعبدنا بالقياس لأن وعد الله تعالى حق لا يخلف البتة وقوله الحق وبالله تعالى التوفيق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 فصل في ذكر طرق يسير من تناقض أصحاب القياس في القياس يدل على فساد مذهبهم في ذلك إن شاء الله تعالى قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه أكثرهم لم يقس الماء الوارد على النجاسة على الماء الذي ترد عليه النجاسة وفرقوا بينهما بغير دليل وبعضهم لم يقس وجوب إراقة ما ولغ فيه الكلب على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب فيما ولغ فيه ولم يقيسوا الماء في ذلك على غير الماء وأكثرهم فرق بين الماء الذي تقع فيه النجاسة وبين المائعات التي تقع فيها النجاسات فيجدوا مقدارا إذا بلغه الماء لم ينجس ولم يجدوا في سائر المائعات شيئا البتة وإن كثرا وبعضهم قاس سائر المائعات في ذلك على الماء في حد المقدار وهو أبو ثور وبعضهم فرق بين حكم الماء في البئر وبين الماء في غير البئر ولم يقس أحدهما على الآخر اتباعا زعم لقول بعض العلماء في ذلك وهو قد عصى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة من الفقهاء في المصراة والمسح على العمامة وفي أزيد من ألف قضية نعم وحكم القرآن وفرق أيضا بين أحكام الجيف الواقعة في التيار وبين أحكامها وأحكام سائر النجاسات ولم يقس بعضها على بعض وبعضهم قاس الخنزير على الكلب في حكم الغسل مما ولغ فيه كلاهما في الواحد أو السبع وبعضهم لم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم قاس الماء بحكم الوالغ فيه مما يحرم أكله أو يحل أو يكره وبعضهم لم يقس ذلك وبعضهم قاسم ما لا دم له من الميتات على ماله دم فرأى كل ذلك ينجس ما مات فيه وبعضهم لم ير ذلك وبعضهم قاس العقارب والخنافس والدود المتولد في القول على الذباب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 ولم يقسها على الوزغ وشحمة الأرض والعظماء وصغار الفيران وبعضهم قاس عذر ما يؤكل لحمه من الدواب وأبوالها على لحومها ولم يقسها على دمائها ولم يقسها على لحومها وبعضهم قاس ذنب الكلب ورجله على لسانه وبعضهم لم يقس ذلك وأكثرهم قاس إباحة المسح على الجبائر على المسح على الخفين ولم يقيسوا إباحة مسح العمامة على الرأس وعلى المسح على الخفين وبعضهم قاس ذلك وكلهم فيما نعلم لم يقس نزع الخفين بعد المسح على حلق الشعر وقطع الأظفار بعد المسح والغسل وبعضهم لم يقس إباحة الصلاة الفريضة بتيمم النافلة على إباحة الصلاة النافلة بتيمم الفريضة وبعضهم قاس ذلك وتناقض الأولون فقاسوا جواز صلاة المتوضئين خلف المتيمم على جواز صلاة المتيممين خلف المتوضىء على أن الخلاف في تسوية كلا الأمرين مشهور ومن طرائف قياس بعضهم إيجابه أن تستطهر الحائض بثلاث قياسا على انتظار ثمود صيحة العذاب ثلاثا على المصراة أفلا يراجع بصيرته من يقيس هذا القياس السخيف فيمنع به خمس عشرة صلاة فريضة ويوجب به إفطار ثلاثة أيام من رمضان من أن يقيس مسح العمامة على مسح الخفين وبعضهم قاس بول ما يأكل لحمه بعضه على بعض وبعضهم قاس البول المذكور على ما يتولد منه فإن تولد من ماء نجس فهو نجس وإن تولد من ماء طاهر فهو طاهر وكذلك فعل بنحوه ولم يقس اللحم المتولد فيه على ما تولد منه بل رأى ذلك حلالا أكله وإن تولد من ميتة ولحم خنزير وعذرة وبعضهم لم يقس نبيذ التين على نبيذ التمر في جواز الوضوء به عند عدم الماء في السفر وبعضهم قاس الحظر عليه في الإباحة وهو الحسن بن حي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 وقد روى أيضا قياس نبيذ التين على نبيذ التمر عن أبي حنيفة ومنع أكثرهم من الكلام في الأذان قياسا على الصلاة ولم يقيسوه عليها إذ أجازوه بلا وضوء وأجاز بعضهم تنكيس الوضوء ولم يجز تنكيس الأذان ولا تنكيس الطواف ولم يقس أحدهما على الآخرين وقاس ذلك كله بعضهم في المنع في الكل أو في الإباحة في الكل وفرق بعضهم بين صلاة الفريضة والنافلة فأجاز أن يؤم النافلة من يجوز أن يؤم في الفريضة ثم لم يجز أن تؤم المرأة النساء في شيء منهما وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وبعضهم لم يقس جواز صلاة النفل خلف من يصلي الفرض على جواز صلاة من يصلي الفرض خلف المتنفل وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وكلهم فيما أعلم لم يقس المنع من إتمام المسافر خلف المقيم على المنع من قصر المقيم على المسافر وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس إتمام أهل مكة بمنى على إتمام أهل منى بمكة وهذا عجيب ما شئت ولم يقيسوا جواز الحج على العبد إذا حضره على جواز الجمعة عنه إذا حضرها وبعضهم لم يقس جواز صلاة الفرض خلف الفاسق من الأمراء على جواز صلاة الجمعة خلفه وبعضهم قاس كل ذلك وجعله سواء وبعضهم لم يقس حكم ابتداء التكبير للقائم من الركعتين على حكم ابتداء التكبير في الركوع والسجود والرفع من السجود وبعضهم ساوى بين ذلك كله وقاس بعضه على بعض وبعضهم لم يقس إيجاب البناء على المحدث على إيجاب البناء على الراعف وبعضهم ساوى بينهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 وبعضهم لم يقس وجوب البناء قبل تمام السجدتين على وجوب البناء بعد تمام السجدتين وبعضهم قاس كلا الأمرين على السواء وبعضهم لم يقس وقوع الجبهة والرجلين على نجاسة الصلاة على وقوع اليدين والركبتين على نجاسة في الصلاة وبعضهم قاس كل ذلك بعضه على بعض وهؤلاء الذين قاسوا بعض ذلك على بعض تناقضوا فلم يقيسوا جواز وقوع الرجلين والركبتين على غير الأرض أو ما تنبت على جواز وقوع الجبهة واليدين على ذلك وفرقوا بين الأمرين وبعضهم لم يقس الثبات على يقين الحدث لمن شك في الوضوء على الثبات على يقين الوضوء لمن شك في الحدث وبعضهم ساوى بين الأمرين وبعضهم لم يقس كثير السهو على قليله فرأى من قليله السجود فقط ومن كثيره الإعادة ومنهم من رأى من السلام ساهيا السجود فقط ورأى من الكلام ساهيا الإعادة ورأى بعضهم على من تكلم في صلاته ساهيا أنها قد بطلت فإن أحدث بغلبة لم تبطل صلاته فإن أكل ساهيا وهو صائم لم يبطل صيامه وقلب غيره منهم الأمر فرأى إن تكلم ساهيا في صلاته لم تبطل فإن أحدث بغلبة بطلت وإن أكل ناسيا وهو صائم بطل صومه وفرقوا بين من نسي صلاة يوم وليل وبين من نسي أكثر ولم يقيسوا أحدهما على الآخر وبعضهم قاس كل ذلك على السواء وقاس بعضهم الجمع بين الذهب والفضة في الزكاة على الجمع بين المعز والضأن في الزكاة ولم يقسه على التفريق بين التمر والزبيب في الزكاة وبعضهم قاسه على التفريق المذكور لا على الجمع وأعجب من ذلك أن من ذكرنا رأى إخراج ذهب عن فضة وفضة عن ذهب ولم ير إخراج عنز عن ضانية ولا ضانية عن عنز ولا برا عن شعير ولا شعيرا عن بر ولم يقس بعض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 ذلك على بعض أو بعضهم أجاز كل ذلك بالقيمة قياسا وفرق بعضهم بين غلة ما ابتيع للتجارة وبين الربح المتولد في ذلك فرأى في الغلة الاستئناف ورأى في الربح ضمه إلى أصل الحول في رأس المال ولم يقس أحدهما على الآخر وقاس غيره منهم بعض ذلك ببعض في الاستئناف أو في الضم وأوجبوا ديون الناس من رأس المال ولم يوجبوا ديون الله تعالى إلا من الثلث ولم يقيسوا أحدهما على الآخر وساوى بعضهم بين الأمرين ولم يقس بعضهم الحلي وإن كان لكراء أو لباس على العوامل المعلوفة من الإبل والبقر والغنم فبعضهم أوجب الزكاة في الحلي وأسقطها عن العوامل وبعضهم أوجب الزكاة في العوامل وأسقطها عن الحلي وبعضهم قاس أحدهما على الآخر في إسقاط الزكاة عن كل ذلك والعجب أن الذي أسقط الزكاة عن الحلي الكراء لم يقس عليه الحلي المبتاع للتجارة ورأى فيه الزكاة وبعضهم فرق بين عبيد العبيد فلم يرهم كسادتهم ولا كسادات ساداتهم في وجوب زكاة الفطر المأخوذة ورأى على عبيد أهل الذمة أن يؤخذ منهم ما يؤخذ من ساداتهم إذا اتجروا إلى غير أفقهم وبعضهم رأى الزكاة في زيت الفجلة ولم يرها في الترمس ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم الزكاة في جب الآس ولم يرها في البلوط ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم لم يقس الدين على الرهن في الكفن فرأى الكفن فيه أولى من الدين ولم يره أولى من الرهن إذا كان رهنا وبعضهم ساوى بين الأمرين وبعضهم لم يقس المدبر على المحتكر وبعضهم قاسه عليه وبعضهم لم يقس الخليطين في الثمار والزرع والعين على الخليطين في المواشي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 وبعضهم ساوى بين كل ذلك قياسا وفرق بعضهم بين من أعطى آخر مالا ليأكل ربحه والأصل لصاحب المال وأعطاه غنما ليأكل نسلها ورسلها والأصل لصاحب المال فرأى في الغنم الزكاة ولم ير في ربحه زكاة وهو مال تجارة لا على التاجر ولا على الذي له أصل ولم يقس أحدهما بالآخر وقاس غيره أحدهما على الآخر ولم يقس بعضهم فائدة العين على فائدة الماشية فرأى في فائدة الماشية الزكاة إذا كان عنده نصاب منها ولم ير في فائدة العين الزكاة وإن كان عنده نصاب منه وقاس غيره منهم بعض على بعض في إيجاب الزكاة في الكل وفي إسقاطها عن الكل ولم يقس بعضهم فائدة الكسب على فائدة الولادة في إيجاب الزكاة في كل ذلك وقاس كل ذلك بعضهم فرأى في الكل الزكاة ولم يقس بعضهم فائدة المعدل على سائر الفوائد وقاسه بعضهم عليها وقال بعضهم لا يجزىء في زكاة الغنم إلا الجذع من الضأن فصاعدا والثني فصاعدا من الماعز قياسا على ما يجيز منها الأضحية وأجازوا في البقر والإبل الجذع ودون الجذع ولم يقيسوا ذلك على ما يجوز منهما في الأضحية ولا قاسوا حكم الغنم في ذلك على الإبل والبقر ولا حكم الإبل والبقر على حكم الغنم وقال بعضهم من بادل ذهبا بفضة زكى الآخر بحول الأول ولم يقس ذلك على ما بادل بقرا بإبل وقاسه على ما بادل غنما بماعز وقال بعضهم تؤخذ الزكاة من الزيتون قياسا على التمر والعنب ولم يقسه عليها في الخرص في الزكاة وقال بعضهم يخرج الأرز والذرة في زكاة الفطر قياسا على الشعير والبر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 ولم يجز أن يخرج فيها الزيتون قياسا على التمر والزبيب ولم يجز أن يخرج فيها الدقيق قياسا على البر وقد قاسه على البر في تحريم بيع بعضه ببعض متفاضلا وأجاز بيعه بالبر متماثلا وأسقط بعضهم زكاة التجارة على الماشية المشتراة للتجارة لزكاة الأصل ولم يقس على ذلك سقوط زكاة التجارة عن الدقيق المشترى للتجارة من أجل زكاة الفطر فيهم وأوجب بعضهم الزكاة في العسل وفي الحبوب وفي الثمار إذا كانت في أرض غير خراجية وأسقط الزكاة عن كل ذلك في الأرض الخراجية ولم يسقط الزكاة عن الماشية وإن رعت في أرض خراجية فلم يقس رعي النحل على رعي الماشية ولا رعي الماشية على رعي النحل وسقط بعضهم الزكاة في العين والماشية عن الصغير والمجنون قياسا على سقوط الصلاة عنهما ولم يسقط الزكاة عن ثمارهما وزرعهما قياسا على سقوط الصلاة عنهما وقال آخرون منهم في هذا إن حق الزكاة ثابت مع الزرع والثمر قال أبو محمد وهذا كذب لأن قائل هذا لا يرى فيما دون خمسة أوسق صدقة فلم ير الزكاة ثابتة مع هذه الثمرة ولم يقيسوا وجوب الزكاة في ذلك عليهما على وجوب زكاة الفطر عليهما وقياس زكاة على زكاة أولى من قياس زكاة على صلاة ولا قاسوا وجوب الزكاة وهي حق المال على وجوب سائر الحقوق في الأموال على الصغار والمجانين من النفقات والأروش وقياس مال على مال أولى من قياس زكاة على صلاة ولم يقس سقوط الصلاة عن الفقراء على سقوط الزكاة عنهم وفرق بعضهم بين حكم من رأى هلال شوال وحده وبين حكم من رأى هلال رمضان وحده ولم يقس أحدهما على الآخر وبعضهم قاس كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 واحد منهما على الآخر ولم يقس بعضهم حكم الحائض تطهر والكافر يسلم والمسافر يقدم في نهار رمضان على حكم من بلغه بعد الفجر إن هلال رمضان رئي البارحة فأوجبوا على هذا ألا يأكل باقي النهار ولم يوجبوا ذلك على الآخرين ثم قاسوا بعضهم على بعض في وجوب القضاء عليهم حاشا الكافر يسلم فلم يقيسوه عليهم في وجوب القضاء وقاسه بعضهم عليهم فأوجبوا عليه القضاء وأطرف من هذا قياس بعضهم من غلبته ذبابة فدخلت حلقه على الأكل عمدا في إيجاب القضاء فقط عليه ولم يقس على ذلك من أخرج بلسانه من بين أسنانه الجريدة ولعلها من مقدار الذبابة فيبلغها عمدا في نهار رمضان فقالوا صومه تام ولا قضاء عليه وقاس بعضهم المجنون على الحائض في إيجاب قضاء رمضان عليهما ولم يقيسوه عليها في وجوب الحدود عليها وقاس بعضهم من لمس عمدا فأمنى على المجامع عمدا في القضاء والكفارة ولم يقس من استعط عمدا فوجد طعم ذلك في حلقه على الأكل عمدا لم يوجب فيه كفارة وقاس بعضهم المغمى عليه في رمضان على المريض في إيجاب القضاء عليه ولم يقسه عليه في إيجاب قضاء ما ترك من الصلوات عليه وقاسه بعضهم في إيجاب الصلوات وأوجب بعضهم على من أكره امرأته على الجماع في نهار رمضان أن يكفر عنها فيصوم عنها ولم يقس على ذلك إيجاب الصوم على من مات وعليه صوم وقاس بعضهم الأكل عمدا في نهار رمضان على الواطىء عمدا في نهار رمضان وأوجب عليهما الكفارة ولم يقيسوه على المتقيىء عمدا في نهار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 رمضان في إسقاط الكفارة عنه وقياس الأكل على القيء أولى من قياسه على الوطء وقاسه بعضهم على المتقيء فيما ذكرنا وفرقوا بين الواطىء والآكل بأن قالوا الوطء يوجب أحكام لا يوجبها الأكل فالوطء يوجب الغسل والحد والصداق ولا يوجب شيئا من ذلك الأكل ولا الشرب والأكل يوجب الغرامة ولا يوجبها الوطء والأكل من مال الصديق مباح ولا يجوز وطء ملكه فقاسوا ترك الكفارة في الأكل على هذه الفروق وقال بعضهم إنما القياس على التشابه لا على عدم التشابه قال أبو محمد وكل هذا تحكم كما ترى ولا دليل ولم يقس بعضهم من أفطر عمدا في قضاء رمضان وهو فرض في وجوب الكفارة عليه على إفطاره عمدا في رمضان وكلاهما فرض وقد أوجب ذلك عليهما بعض السلف وأوجب الكفارة على المظاهر من زوجته وعلى المرأة الموطوءة في رمضان طائعة وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فلم يوجب عليها شيئا ولم يقيسوا المرأة المظاهرة من زوجها في إيجاب الكفارة عليها على المظاهر ولا على المرأة الموطوءة وقد أوجب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها جمهور من السلف ومن بعدهم وقاسوا الأكل عمدا في رمضان في إيجاب الكفارة عليه على الواطىء في رمضان عمدا ولم يقيسوا على ذلك مفسد صلاته عمدا والصلاة أعظم حرمة من الصوم ومن طرائف بعضهم إيجابه قياس من أفطر ناسيا في رمضان على من أفطر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 عمدا في إيجاب القضاء عليهما ولم يقسه عليه في إيجاب الكفارة عليهما نعم ولم يقس الأكل ناسيا على المتقيىء ناسيا أو مغلوبا فأسقط على هذا ولم يسقطه عن الآخر وفرق بعضهم بين أحكام النيات ولم يقس بعضها على بعض فأجاز بعضهم الطهارات بلا نية ولم يجز الصلاة إلا بالنية وبعضهم لم يجز الطهارات إلا بنية وأجاز الصوم في الواجبات بلا نية محدثة لكل يوم منه وبعضهم أوجب النية في كل ذلك ولم يوجبها في أعمال الحج وأما تناقضهم في أعمال الحج فأكثر من أن يجمع في سفر وذلك فيما أوجبوا فيه الفدية وما أسقطوها فيه ولم يقيسوا بعض ذلك على بعض وأيضا فإن بعضهم قال من طرح القراد عن نفسه لم يطعم فإن طرحه عن بعيره أطعم ولم يقس أحدهما على الآخر ولم يقس بعضهم إباحة قتل الفأرة وإن لم تؤذه على نهيه عن قتل الغراب والحدأة إن لم تؤذياه ورأى بعضهم الجزاء على قاتل السنور ولم يره على قاتل الفهد ولم يقس أحدهما على الآخر ورأى قتل الفهد قياسا على قتل السبع ولم ير قتل الصقر البري قياسا على الغراب والحدأة بل رأى في الصقر البري الجزاء ولم يقس بعضهم استظلال المحرم في المحمل على استظلاله في الخباء في الأرض ورأى على المستظل في المحمل الفدية وكذلك في السفينة ولم يقس على ذلك من مشى في ظل المحمل فلم ير عليه الفدية ولم يقس بعضهم على دهن باطن يديه وباطن قدميه بسمن أو زيت فلم ير عليه فدية على من دهن بذلك ظاهرهما فرأى عليه الفدية ولم يقس بعضهم تحريمه ما ذبح المحرم من الصيد على ما ذبحه السارق أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 الغاصب فأباحه وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأباح الكل ولم يقس بعضم من دل من الحرمين حلالا على صيد أو أعطاه سيفا يقتله به فلم يوجب عليه الفدية على محرم آكل من صيد صيد من أجله فأوجب عليه الجزاء وقاس بعضهم عليه فأوجب الجزاء في كل ذلك ولم يقس بعضهم حكمه بأن جناية العبد في رقبته على قوله أن أقتله الصيد ليس في رقبته وقاس بعضهم بيض الصيد على جنين المرأة ولم يقسه بعضهم عليه ولم يقس بعضهم تحريمه على المحرم ذبح صيد صاده حلال على إباحته ذبح الصيد في الحرام إذا دخل من الحل وقاس بعضهم قاتل الأسد على قاتل الذئب فلم ير فيه جزاء ولم يقس قاتل النسر والعقاب على قاتل الحدأة والغراب فرأى أن في النسر والعقاب الجزاء ولم يقس بعضهم قاتل الأسد والخنزير على قاتل الذئب فرأى في الأسد والخنزير الجزاء وقاس بعضهم إن أصاب القارن صيدا فجزاء واحد ولم يقسه على القارن يفسد حجه فرأى عليه هديين وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض فأوجب في كل ذلك هديين وبعض أوجب في كل ذلك هديا واحدا وأظرف من هذا أن بعضهم قال على العبد الفار إذا دخل مكة أن يحرم وليس ذلك على الأعجمي المسلم ولا على الجارية المصونة للبيع وله مثل ذلك في الفرق بين الشريعة والدنية في النكاح بغير الولي وهذا أشنع مما أنكروه من ترك القياس لأن هذا فرق بين الناس فأين هذا مما استعملوه من التسوية بين الزاني والقتل في جلد مائة وتغريب عام وبين الصداق والقطع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 في السرقة وبين المستحاضة والمصراة وهل في التخليط أكثر من هذا وفرقوا أو أكثرهم بين صوم المرء عن غيره وحجه عنه فلم يروا ذلك ولم يقيسوه على الصدقة عنه واحتجوا في ذلك ب {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وهذا إن منعت من الصيام منعت من الصدقة ولا فرق ثم لم يقيسوا وصيته بالحج على وصيته بالصوم ولم يقس بعضهم من وقف بعرفة قبل غروب الشمس ثم دفع منها ولم يعد إليها تلك الليلة فقالوا بطل حجه على من يقف بمزدلفة حتى طلعت الشمس من يوم النحر ولم يقس بعضهم من لم يدفع عن عرفة مع الإمام في إباحة الجمع له بمزدلفة على من لم يدرك الصلاة بعرفة مع الإمام في إباحتهم له الجمع بين الصلاتين بعرفة وقاس بعضهم قصر أهل منى بعرفة وأهل عرفة بمنى على قصر أهل مكة بمنى وعرفة ولم يقيسوا على ذلك في سائر البلاد وقاس بعضهم كل ذلك في سائر البلاد وقاس بعضهم الهدي على الأضحية فيما يجزي منها ولم يقسه عليها في الذبح والنحر قبل الإمام فأي ذلك يجزىء قبل الإمام في الهدي ولا يجزئه في الأضحية وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في الإباحة ولم يقس بعضهم الأعمى في وجوب الحج عليه على المقعد في سقوط الحج عنه وقاسه بعضهم عليه وقال بعضهم سكان ذي الحليفة وهم على نحو مائتي ميل وخمسين ميلا من مكة على سكان يلملم وهو على نحو ثلاثين ميلا من مكة إنها لا هدي عليهما إن تمتعا ولم يقسم على ما بينهم وبين مكة كالذي بينهم وبينها ولم يقس أهل يلملم على أهل ذي الحليفة في قصر الصلاة والإفطار في الصوم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 وساوى غيرهم منهم بين كل ذلك في إيجاب الهدي عليهم كلهم التمتع ولم يسو بينهم في قصر الصلاة ولم يقس بعضهم لابس المخيط في الإحرام يوما من غير ضرورة على لابسه أقل من يوم لغير ضرورة ولم يقس بعضهم قوله في تحريم قتل المحرم للسبع الذي لا يؤذيه وإيجاب الجزاء في ذلك على قوله في إباحة قتله للذئب ومن لم يؤذه ولم يجعل في ذلك جزاء وهم مع ذلك قليلا منهم يقيسون قاتل الصيد خطأ على قاتله عمدا وعلى قاتل حيوان وغيره خطأ فأوجبوا الجزاء في ذلك ولم يقيسوا إلا قليلا منهم قاتل النفس عمدا على قاتلها خطأ فلم يروا في قاتلها عمدا كفارة وقاس بعضهم سقوط الجزاء على قاتل السبع العادي عليه على سقوط الضمان عنه في البعير العادي فيقتله ولم يقس بعضهم ذلك فرأى الضمان على قاتل البعير العادي عليه ولم ير الجزاء على قاتل السبع العادي عليه وقد قاسوا بعض ذلك على بعض في إيجاب الجزاء في قتل الخطأ ولم يقس بعضهم الحلال بقتل الصيد في الحرام في حكم الجزاء على المحرم بقتل الصيد في الحل فرأى الصيام على المحرم ولم يجزه للحلال إلا بالمثل والإطعام فقط وساوى الأمرين ولم يقيسوا قاتل الصيد في حرم المدينة في إيجاب الجزاء عليه على قاتله في حرم مكة وقد أوجب ذلك بعض السلف والخلف ولم يقس بعضهم من اشترى أحد أربعة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثا فلم يجز هذا العقد على إجازته إذا اشترى أحد ثلاثة أثواب بغير عينه على أن يأخذ أيها شاء بدينار بالخيار ثلاثا وسوى بعضهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 بين كل ذلك من المنع أو الجواز ولم يقس بعضهم قوله في تحريم بيع لبن النساء محلوبا في قدح على إباحته بيع سائر الألبان محلوبة في قدح ولم يقس بعضهم تحريم البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في الذهب بعينه بالذهب بغير عينه وفي الفضة بالفضة كذلك على إباحة تمام البيع قبل تمام القبض قبل التفرق في البر بالبر كذلك والشعير بالشعير كذلك والتمر بالتمر كذلك والملح بالملح كذلك فأبطل البيع في الذهب بالذهب والفضة بالفضة على كل حال وأجازه في هذه الأربعة إذا قبض الذي بغير عينه ولم يقبض الذي بعينه وقاس بعضهم كل ذلك في المنع من جوازه ولم يقس بعضهم قوله في المنع من جواز بيع شحم البطن باللحم متفاضلا على إباحته جواز بيع شحم الظهر باللحم متفاضلا وسوى بعضهم بين كل ذلك ولم يقس بعضهم قوله إن الألية يجوز أن تباع باللحم متفاضلا على منعه من بيع سائر الأعضاء باللحم متفاضلا وسوى بعضهم بين كل ذلك وقاس بعضهم جواز بيع الرطب بالتمر على جواز بيع التمر الحديث بالتمر القديم وقاس بعضهم جواز بيع الدقيق بالبر متماثلا على المنع من انتباذ الرطب والتمر وقال هما صنفان وقاس بعضهم منعه من بيع الدقيق بالبر البتة على النهي عن بيع الرطب بالتمر وقال هما صنف واحد مجهول تماثله ولم يقس بعضهم رجوع من أعتق مملوكا اشتراه ثم اطلع على عيب بأرش العيب على منعه من ابتاع طعاما فأكله ثم اطلع على عيب كان به من الرجوع بأرش العيب ولم يقس بعضهم من باع مال غيره بغير إذن على من اشترى له شيئا بغير إذنه وساوى بعضهم بين كلا الأمرين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 ولم يقس بعضهم بيع من طرأ عليه الخرس على بيع من ولد أخرس فأجازه ههنا وأبطله هنالك ولم يقس بعضهم بيع السكران على طلاقة فأجاز طلاقه وأبطل بيعه وقاسه بعضهم فأبطل كل ذلك وقد أجاز كل ذلك بعضهم ولم يقس بعضهم جواز السلم في الشحم على جوازه في اللحم وقاس ذلك بعضهم فأجاز كل ذلك ولم يقس بعضهم جواز السلم في السمك المالح على قوله في المنع من السلم في السمك الطري وقاس بعضهم بعض ذلك على بعض في المنع من الكل أو جواز الكل ولم يقس بعضهم على جواز سلم الذهب والفضة في سائر الموزونات جواز سلم الموزونات بعضها على بعض وقاس ذلك بعضهم فأجازه فيما عدا ما يؤكل ولم يقس بعضهم جواز السلم في قوله بتأخير النقد لرأس المال اليوم واليومين بشرط وبغير شرط على منعه من ذلك في الأيام الكثيرة بشرط وبغير شرط وقاس غيره بعض ذلك على بعض في المنع من الكل ولم يقس بعضهم جواز السلم في القمح والفاكهة والكناش واللبن على أن يأخذ منه كل يوم مقدارا معلوما واشترطا تأخير نقد الثمن إلى الأجل البعيد على سائر قوله في المنع من تأخير النقد في السلم ومن منعه الدين بالدين ولم يقس بعضهم قوله في إباحة دقيق البر بالبر متماثلا والمنع منه متفاضلا على قوله إن من سلم في قمح موصوف فحل الأجل فجائز عنده أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 يأخذ مكان القمح شعيرا أو سلتا مثل كيل قمحه ولا يأخذ دقيق قمح ولا علسا مثل مكيلة قمحه وكل ذلك عنده صنف واحد ولم يقس بيع البر بالشعير والتمر والملح جزافا على بيع الذهب والفضة جزافا وأطرف من ذلك أنه لم يقس جواز بيع المصوغ من الذهب والفضة جزافا على قوله في المنع من بيع المصوغ من الذهب والفضة جزافا على قوله في المنع من بيع المسكوك منهما جزافا ولم يقس بعضهم من سلم في طعام إلى أجل مسمى فأتاه به الذي هو عليه قبل الأجل فقال لا يجيز على قبوله قبل أجله على قوله فيمن أقرض آخر طعاما إلى أجل فأتاه به قبل الأجل قال يجيز على قبضه وقاس غيره منهم أحدهما على الآخر أن يجيز على القبض قبل الأجل ولم يقس بعضهم تعين الدنانير والدراهم في المغصوب والبيوع على تعين سائر العروض وقاس غيره منهم بعض ذلك على بعض في تعيين كل ذلك ولم يقس بعضهم قوله فيمن ابتاع طعاما فعاب عليه فأباح الإقامة فيه من جميعه ولم يبح من بعضه على قوله فيه إذا لم يعب عليه فأجاز الإقالة من كله ومن بعضه ولم يقس بعضهم قوله في بطلان الصرف التفرق قبل تمام القبض من قوله في جواز الإقالة مع التفرق قبل القبض التفرق اليسير ولا قاس إباحة ذلك في الإقالة بالتفرق اليسير على التفرق الكثير ولم يقس بعضهم منعه من التفاضل في الدقيق بالبر على إباحة التفاضل في السويق بالبر وكلاهما بر مطحون لم يسق الدقيق السويق ولا السويق الدقيق وأطرف من هذا أنه لم يقس جواز بيع البلح الصغار بالتمر عنده متفاضلا على المنع البلح الكبار بالتمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 ولم يقس بعضهم ما يبس من الزفيرف وعيون البقر والخوخ والكمثرى في حكم جواز بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا على منعه من بيع الزبيب والبر والتين والبلوط بعضه ببعض من جنس واحد متفاضلا ثم قاس الأصناف الأول على الأصناف الأخر في المنع من بيع كل ذلك قبل أن يقبض وقاس غيره منهم كل ذلك بعضه ببعض حتى السقمونيا والهليلج وقاس بعضهم المأكول على المأكول في الربا ولم يقس المعادن بالمعادن في الربا فأباحوا رطل حديد برطلي حديد والحديد بالنحاس والذهب والفضة والرصاص والقصدير والزئبق معدنيات كلها ولم يقس بعضهم قوله إن القطنية كلها جنس واحد في الزكاة على أنها أصناف متفرقة في البيوع ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع الزبد باللبن أو الجبن باللبن أو السمن باللبن جملة ولا الزيت بالزيتون جملة على قوله في جواز بيع البر بالدقيق من البر متماثلا ولا على قوله في جواز بيع السويق في البر بالبر متفاضلا ولم يقس بعضهم قوله إن سمن البقر وسمن الغنم صنف وقولهم إن لحم الخروف من الضأن ولحم الحمار الوحشي صنف واحد وكذلك لحم الأرنب على قوله إن زيت الزيتون وزيت الجلجلان وزيت الفجل أصناف متفرقة يجوز بعضها ببعض متفاضلا يدا بيد ولا يجوز ذلك في نبيذ التمر بنبيذ الزبيب ولا يجوز ذلك في لحم الجمل بلحم الأرنب ولا في لحم حمار الوحش بلحم الخروف ولا فرق بين تعليله بأن كل ذلك ذو أربع وبين تعليل غيره أن كل ذلك من الطير ومن غيره لحم ومن تعليل غيره بالتأنس في الطير وذي الأربع والتوحش أيضا فيهما لأن الله تعالى جزى الصيد بالأنعام ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع العنب بالعصير البتة على قوله في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 إجازة بيع العنب بخل العنب متفاضلا وقد يخرج الخل من العنب دون توسط كونه عصيرا ولم يقس بعضهم قوله لا يباع اللبن بالسمن أصلا لأنهما صنف واحد مجهول نماثله ولا الشاة اللبون باللبن أصلا على إجازته مع الشاة اللبون بالسمن ولا اللبن بالقمح إلى أجل على إجازته الشاة اللبون بالقمح إلى أجل ولم يقيسوا قولهم في المنع من بيع القمح بالقمح بالتحري دون كيل ولا وزن على جواز ذلك عندهم في اللحم باللحم من صنفه نعم ولم يجيزوا الذهب بالفضة بالتحري وأجازوه في القمح بالتمر بالتحري ولم يقس بعضهم جواز القمح بالقمح عنده وزنا على منعه من سحالة الذهب بالذهب كيلا وأطرف من هذا أن بعضهم لم يقس منعه من اللحم المشوي باللحم النيء جملة على قول في إباحة اللحم المطبوخ باللحم النيء متماثلا ومتفاضلا وكلاهما يدخله ملح وصنعة وأغرب حكم من ذكرنا بأن اللحم والشحم صنف واحد وأن لحم النعامة والكركي ولحم الزرزور صنف واحد وأن لحم النعامة المطبوخ ولحمها النيء صنفان يجوز فيهما التفاضل ولم يقس بعضهم جواز دجاجة بدجاجتين على قوله في لحم دجاجة بلحم دجاجتين ولم يقس بعضهم منعه من ابتياع شاة واستثناء جلدها في الحضر على قوله في إباحة ذلك في السفر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 وأغرب من هذا أن بعضهم لم يقس قوله في إباحة ابتياع شاة واستثناء أرطال خفيفة منها أو استثناء رأسها على قوله في التحريم أن يستثني يدها أو رجلها أو فخذها ولم يقس بعضهم منه من ابتياع لحم هذه الشاة الحية على إباحته ابتياعها واستثناء البائع جلده والعجب أن هذا الذي منع هو الذي أباح بعينه ليس هو شيئا آخر لأنه في كلتا المسألتين إنما اشترى مسلوخها فقط ولا مزيد ولم يقس بعضهم قوله في جواز بيع صغار الحيتان جزافا على منعه من بيع كباره جزافا وقد يكون تكلف عد الكبار لكثرتها أصعب من عد الصغار لقلتها ولم يقس بعضهم قوله في المنع من ابتياع رطل لحم من هذه الشاة وإن شرع في ذبحها على قوله في إباحه ابتياع رطل من لبنها إذا شرع في حلبه ولم يقس بعضهم قوله في المنع من بيع لبن هذه الشاة شهرا على إباحة بيع لبنها كيلا وعلى إباحة بيع لبن هذه الغنم شهرا ولم يقس بعضهم قوله في منع اقتسام الزرع والقمح بالتحري على قوله في إجازة قسمة اللحم بالتحري ولم يقس بعضهم بيع بطن بعد بطن جملة شجر تحمل بطنين في السنة على قوله في إجازة بيع المقاثي بطنا بعد بطن والفصيل كذلك وقاس بعضهم جواز السلم في المعدود والمزروع وغير ذلك على جواز السلم في المكيل والموزون ولم يقيسوا جواز السلم حالا على جوازه إلى أجل وقاس بعضهم كل ذلك بالجواز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 ولم يقس بعضهم جواز إنكاح اليتيمة بنت عشر سنين للفاقة على منعه في إباحة الفروج للضرورة وقاس بعضهم فاعل فعل قوم لوط على الزاني ولم يقس واطىء البهيمة على الزاني وكلاهما واطىء في مكان محرم ولم يقيسوا الغاصب على السارق ولا على المحارب وكلاهما أخذ مالا بغير حق والغاصب بالمحارب مستويان في الإخافة وأخذ المال ولا سيما بعضهم يقول بقياس الشارب على القاذف فقد بان تناقضهم فإن قالوا إن الصحابة قاسوا الشارب على القاذف فقد تقدم تكذيب هذه الدعوى لا سيما وقد كفانا بعضهم المؤنة في هذا فنسوا أنفسهم وقالوا الحدود لا تؤخذ قياسا وقد علمنا أن كل ما جاز للصحابة فهو جائز لمن بعدهم وما حدث دين جديد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وأين الائتساء بالصحابة رضوان الله عليهم حتى يتركوا النصوص لقول بعضهم إذا وافق تقليدهم فيلزمهم أن يوجبوا حدا على شارب الدم وأكل الميتة ولحم الخنزير وقد قاس بعض الفقهاء هؤلاء على شارب الخمر فرأى على كل واحد منهما ثمانين جلدة وهو الأوزاعي مع أن قياس شرب الدم على شرب الخمر لو جاز القياس أولى من قياس شرب الخمر على قذف محصنة ووجدنا بعضهم قد قاس من سرق أو شرب أو زنى ثم تاب واعترض على المحارب في سقوط الحد عنه حدثنا يحيى بن عبد الرحمن حدثنا أحمد بن دحيم حدثنا إبراهيم بن حماد حدثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا نصر بن علي ثنا محمد بن بكر هو البرساني عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه قال إذا سرق اللص ثم جاء تائبا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 فلا قطع عليه وبعضهم لم يقس هؤلاء على المحارب وقاسهم على القاتل والقاتل أبعد شبها من الحدود الواجبة من المحارب وقد قاس بعضهم القاتل إذا عفي عنه على الزاني غير المحصن ولم يقس المرتد إذا راجع الإسلام ولا المحارب إذا تاب قبل القدرة عليه أو إذا عفا الإمام عن قتله أو اقتصر على ما دون ذلك وكل هذا تناقض وقد ساوى الله تعالى بين الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فهلا قاسوا وأوجبوا على لاعب القمار والميسر وعلى المستقسم بالأزلام حدا كحد الخمر ثانيا وبعضهم لم يقس قوله في جواز بيع جزء مشاع على قوله في المنع من جواز رهنه وهبته والصداق به وأكثرهم قاس البيع حين النداء للجمعة على النكاح حينئذ والإجازة في جواز ذلك أو في إبطال كل ذلك وقد قاس بعضهم دخول حمل الجارية من غير سيدها وابن الشاة وحمل الشجر في الرهن على كون الحوامل لكل ذلك في الرهن ولم يقس سقوط ما قابل الحوامل إذا تلفت من الشيء المرتهن فيه على قوله إنه لا يسقط من الحق شيء يتلف الولد والحمل واللبن وبعضهم لم يقس قوله في بيع القاضي دنانير الغرم في ديونه التي هي دراهم أو دراهمه في ديونه التي هي دنانير على قوله في المنع من بيع ما هذا ما عدا ذلك في ديونه وبعضهم لم يقس قوله في المنع من بيع مال الحي على قوله في إباحة بيع مال الميت في ديونهما وبعضهم لم يقس قوله في جواز النكاح بشهادة حرين فاسقين على قوله في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 إبطال النكاح بشهادة عبدين عدلين وأكثرهم لم يقس الكافر الوثني يسلم فيعرض على امرأته الإسلام فتأبى فيفسخ النكاح عنده على قوله في امرأة الكافر تسلم فيستأني عنده بفسخ نكاحه ما لم تنقض عدتها ولم يسلم هو وبعضهم ساوى بين الأمرين وبعضهم لم يقس قوله في كل كافر تزوج كافرة على خمر بعينها أو خنزير بعينه ثم أسلما فلا شيء لها غير ذلك على قوله إن أصدقها خمرا بغير عينها أو خنزيرا بغير عينه ثم أسلما فقال لها في الخمر قيمتها ولها في الخنزير مهر مثلها وبعضهم لم يقس الحر يتزوج المرأة على خدمته لها شهرا فقال لها مهر مثلها على العبد يتزوجها على ذلك وقال ليس لها إلا خدمته لها ولم يقس بعضهم إيجابه الطلاق على الذمي على قوله في إسقاط العدة عن الذمية يطلقها الذمي ولم يقس بعضهم قوله إن أجل العبد في العنة ستة أشهر وأجله في الإيلاء شهران وأجل الأمة في المفقود سنتان وطلاق العبد تطليقتان وعدة الأمة حيضتان على قوله إن للعبد أن يتزوج أربعا وعلى قوله إن صيامه في الظهار شهران وفي الوطء في نهار رمضان كذلك وفي قتل الخطأ كذلك وشهادة العبد والأمة أربع شهادات في اللعان كالحر والحرة وعدة المستحاضة الأمة سنة كالحرة وقاس كل ذلك بعضهم فجعل حكم العبد كل ذلك على نصف حكم الحر وقال آخرون منهم أجل العبد في الإيلاء أربعة أشهر ولا يتزوج إلا امرأتين فأبو حنيفة يقول عدة الأمة حيضتان ومن الوفاة نصف عدة الحرة وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة وتحرم الأمة على زوجها الحر أو العبد بتطليقتين إلا بعد زوج ولا يتزوج العبد إلا امرأتين فقط وأجل العبد يولي من زوجته الأمة نصف أجل الحر في إيلائه وأجل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 الحر في إيلائه من الأمة نصف أجل إيلائه من الحرة قال أبو حنيفة صيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة كصيام الحر في ظهاره من الزوجة الحرة والأمة ولا تحرم الحرة على زوجها العبد إلا بثلاث طلقات وأجل العبد على زوجته الحرة أو الأمة كأجل الحر في ذلك وأجل العبد يولي من الزوجة الحرة كأجل الحر وقال مالك عدة الأمة حيضتان ومن الوفاة نصف عدة الحرة وتحرم الزوجة الحرة والأمة على العبد بتطليقتين وأجل العبد يولي من زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر في إيلائه وأجل العبد يعن عن زوجته الحرة والأمة نصف أجل الحر وقال مالك يتزوج العبد أربعا من الحرائر والإماء وصيام العبد في ظهاره من زوجته الحرة والأمة كصيام الحر وعدة الأمة في الطلاق بالشهور ثلاثة أشهر كالحرة وقال الشافعي عدة الأمة حيضتان وفي الوفاة وبالشهور في الطلاق نصف عدة الحرة وتحرم الحرة والأمة على العبد بتطليقتين ولا يتزوج العبد إلا اثنتين وأجل العبد يعن أيولي من الحرة أو الأمة كأجل الحر في كل ذلك وصيامه في الظهار كصيام الحر فاعجبوا لتناقض قياساتهم وهكذا في سائر الأحكام ولا فرق فاتفقوا في صوم الظهار على ألا يقيسوه على سائر أحكام العبد ولا إجماع في ذلك لأن قتادة وغيره يقول هو على نصف صيام الحر ولم يتفقوا على نصف حكم العبد من حكم الحر إلا في عدة الوفاة وعدة الحيض وطلاق العبد والأمة ولا إجماع في ذلك لأن ابن سيرين يرى عدة الأمة كعدة الحرة في الوفاة وفي الإقراء وصح عن ابن عباس أنه أمر عبده بمراجعة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 زوجته وهي أمة بعد طلقتين ولم يقس بعضهم قوله من نظر إلى فرج امرأة طلقها طلاقا رجعيا في العدة بشهوة فهي رجعة على قوله فإن نظر إلى شيء من بدنها غير الفرج بشهوة فليست رجعة ولا على قوله إنه إن لمسها في بدنها بشهوة فهي رجعة ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته لست لي بامرأة ونوى الطلاق ولم يره طلاقا على قوله لها قومي ونوى الطلاق فهو طلاق ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته اختاري فقالت أنا أختار نفسي قال فهي بذلك طالق على قوله لها طلقي نفسك فقالت أنا أطلق نفسي أو قالت قد اخترت نفسي فلم ير ذلك كله طلاقا ولا على قوله لو قال لها لا ملك لي عليك قال هو طلاق ولا قاس بعضهم قوله لمن قال لامرأته أنت طالق مثل الجبل فجعلها واحدة رجعية على قوله إن قال لها أنت طالق مثل عظيم الجبل فجعلها واحدة بائنة ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي بالأولى أو قالت بالوسطى أو قالت بالآخرة فهي طلقة واحدة على قوله فيمن قال لامرأته اختاري اختاري اختاري فقالت قد اخترت نفسي بالواحدة أو قالت واحدة قال فهي طالق ثلاثا وقاس بعضهم قوله في التخيير على قوله في التمليك ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها أنت علي حرام مثل الخنزير والميتة والدم فقال هي ثلاث ولا بد على قوله ذلك في غير المدخول بها وقال بعد ذلك لم أنو إلا واحدة فإنه يحلف وتكون واحدة ويراجعها إن أحبا ولم يقس ذلك كله على قوله قال لمدخول بها أو لغير مدخول بها أنت بتة أو أنت البتة فقال هي ثلاث على حال فيهما معا ولم يقس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته المدخول بها وغير المدخول بها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 قد خليت سبيلك إنه ينوي ويحلف على ما نوى على قوله لمن قال لامرأته حبلك على غاربك إنها في المدخول بها ثلاث ولا بد وفي غير المدخول بها ينوي وتكون واحدة ولا قاس أكثرهم في قوله في التحريم في الزوجة على قوله في التحريم في الأمة وقد سوى بعضهم بين كل ذلك ولا قاس بعضهم قوله فيمن شك أطلق زوجته أم لم يطلق وهي تقول له لم تطلق أنه تطلق عليه ولا بد على قوله فيمن قال لامرأته إن كتمتني أمرا كذا فأنت طالق أو قال لها إن أبغضتني فأنت طالق فأخبرته بخبر لا يدري أكتمه ما خاف عليه أم لا وقالت له لست أبغضك وهو لا يدري أصدقت أم كذبت أنه طلاق عليه ولا قاس بعضهم قوله في إباحة جميع كفارات الإيمان قبل الحنث على قوله إن كفارة يمين الإيلاء لا تكون إلا بعد الحنث ولا قاس بعضهم جواز تسري العبد عبده على منعه من التفكير بالعتق فيما لا يجزي فيه إلا العتق لواجد الرقبة وهو واجد رقابا يطؤهن ولا قاس بعضهم قوله فيمن قال لامرأته كل امرأة أتزوجها عليك فهي كظهر أمي قال ليتزوج عليها واحدة أو اثنتين معا أو ثلاثا معا وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة على قوله لها ومتى تزوجت عليك فالتي أتزوج عليك كظهر أمي فرأى عليه لكل امرأة يتزوجها كفارة ولم يقس بعضهم سقوط اللعان على الأعمى والمحدودة لسقوط شهادتها على قوله إن اللعان لا يسقط عن الفاسق المعلن لسقوط شهادته ولم يقس بعضهم قوله من أعسر النفقة أجل شهرين أو نحوهما وإلا فرق بينهما على قوله فإن أعسر بالصداق أجل عامين أو نحوهما ثم فرق بينهما ولم يقس بعضهم عدة المستحاضة من الطلاق سنة ميزت الدم أم لم تميز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 كانت لها أيام معهودة أو لم تكن على قوله عدتها من الوفاة أربعة أشهر وعشر ولم يقس بعضهم قوله من قتل أمة أو عبدا قيمة كل واحد منهما مائة ألف درهم لم يغرم في العبد إلا عشرة آلاف درهم غير عشرة دراهم وفي الأمة خمسة آلاف درهم غير خمسة دراهم فإن كانت القيمة أقل من عشرة آلاف في العبد وخمسة آلاف في الأمة غرم القيمة كلها على قوله إن غصب عبدا أو أمة فماتا عنده غرم قيمتهما ولو بلغت ألف درهم ولم يقس هذا الهذيان على سائر أقواله إن أحكام العبد على نصف أحكام الحر في النكاح والطلاق وغير ذلك ولم يقس قوله إنه يقص بين الحر والعبد والكافر والمؤمن في النفس على قوله إن ما دون النفس يقص فيه بين المؤمن والكافر ولا يقص فيه بين العبد والحر ولم يقس بعضهم قوله يقتل عشرة بواحد على قوله لا تقطع يدان بيد ولا عينان بعين ولم يقس بعضهم قوله لا يستقاد من أحد بحجارة ولا بطعنة رمح على قوله يقتل الزاني المحصن بالحجارة والمحارب بالطعن بالرمح ولم يقس بعضهم إباحته قتل المرأة في الزنى وفي القود على قوله في منع قتلها إذا ارتدت قال أبو محمد فيما ذكرنا كفاية على أننا لم نكتب من تناقضهم في القياس وتركهم في القياس وتركهم له إلا جزءا يسيرا جدا من أجزاء عظيمة جدا ولو تقصينا ذلك لقام منه ديوان أعظم من جميع ديواننا هذا كله وكل ما ذكرنا فإنهم إن احتجوا فيه بإجماع على تركه لم ينفكوا من أحد وجهين إما أن يدعوه بغير علم فيكذبوا وإما أن يصدقوا في ذلك فإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 كانوا قد صدقوا أقروا أن الإجماع جاء بترك القياس ولو كان حقا ما جاء الإجماع بتركه وإن ادعوا أنهم تركوا القياس حيث تركوه لنص وارد في ذلك فاعلموا أن كل قياس خالفناهم فيه فإن النص قد ورد بخلاف ذلك القياس لا بد من ذلك وإن قالوا بتركنا القياس حيث تركناه لدليل غير النص قلنا لهم هذا ما لا نعرفه ولا قدرته وأي دليل يكون أقوى من النص هذا عدم لا سبيل إلى وجوده أبدا وبالجملة فكل واحد منهم إنما استعمل القياس في يسير من مسائله جدا وتركه في أكثرها فإن كان القياس حقا فقد اخطؤوا بتركه وهم يعلمونه وإن كان باطلا فقد اخطؤوا باستعماله فهم في خطأ متيقن إلا في القليل من أقوالهم وقال بعضهم لا نقيس على شاذ قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد لأنه ليس شيء في الشريعة شاذا تعالى الله أن يلزمنا الشواذ بل كل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق والحق لا يكون شاذا وإنما الشاذ الباطل وقال بعضهم لا نقيس على فرع قال أبو محمد وهذا كالأول ولا فرع في الشريعة وكل ما جاء نصا أو إجماعا فهو أصل فأين ههنا فرع لو أنصف القوم أنفسهم وقال بعضهم الحدود والكفارات لا تؤخذ قياسا قال أبو محمد وما الفرق بينهم وبين من قال بل العبادات وأحكام الفروج لا تؤخذ قياسا وكل من فرق بين شيء من أحكام الله تعالى فهو مخطىء بل الدين كله لا يحل أن يحكم في شيء منه بقياس على أنهم قد تناقضوا وقاسوا في البابين وأوجبوا حد اللوطي قياسا وأوجبوا كفارات كثيرة قياسا والقوم متناقضون تناقضا يشبه اللعب والهزل أعوذ بالله مما امتحنوا به فإن قال قائل وأنتم قد تركتم حديثا كثيرا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 قلنا لهم وبالله تعالى التوفيق كذبتم وأفكتم ولا يوجد ذلك من أحد منا أبدا إلا أربعة أوجه لا خامس لها إما لقيام البرهان على نسخه أو تخصيصه بنص آخر وهذا لا يحل لأحد وإما أنه لم يبلغ إلى الذي لم يقل به منا وهذا عذر ظاهر و {لا يكلف لله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما كتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على لذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وعف عنا وغفر لنا ورحمنآ أنت مولانا فنصرنا على لقوم لكافرين} وإما أن بعضنا يرى ترك كل ما رواه المدلس إلا ما قال فيه حدثنا أو أنبأنا وهذا خطأ وبعضنا يرى قبول جميع روايته إذا لم يدلس المنكرات إلى الثقات إلا ما صح فيه تدليسه وبهذا نقول وعلى كل ما ذكرنا البرهان والبرهان لا يتعارض والحق لا يعارضه حق آخر وإما أن بعضنا يرى ترك الحديثين المتعارضين لأنه لم يصح عنده الناسخ وإذ لم يصح عنده الناسخ منهما فهو منهي أن يقفو ما لا علم له به وهذا خطأ وبعضنا يرى ههنا الأخذ بالزائد وبه نقول فليس منا أحد ولله الحمد ترك حديثا صحيحا بلغه بوجه من الوجوه لقول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لرأي ولا لقياس ونعوذ بالله من ذلك وأما هم فإنهم يتركون نصوص القرآن لآرائهم وأهوائهم وتقليدهم ويتركون الصحيح من الحديث عندهم كذلك ويتركون القياس وهم يعرفونه ويعلمونه وهو ظاهر إليهم كذلك فالقوم لم يتمسكوا إلا باتباع الهوى والتقليد فقط ونعوذ بالله من الخذلان وقد انتهينا من إيضاح البراهين على إبطال الحكم بالقياس في دين الله تعالى إلى حيث أعاننا الله تعالى عليه راجين الأجر الجزيل على ذلك ولاح لكل من ينصف نفسه أن القياس ضلال ومعصية وبدعة لا يحل لأحد الحكم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 به في شيء من الدين كله فليتق كل امرىء ربه ولا يحمله اللجاج على الإعراض عن الحق ولا يقتحم به حب استدامة رياسة قليلة على تحمل ندامة طويلة فعن قريب يقف في مواقف الحكم بين يدي عالم الخفيات فليفكر من حكم في دين الله تعالى بغير ما عهد به إليه في كلامه وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ماذا تكون حجته إذا سئل عن ذلك وليوقن أن من سئل يوم القيامة بماذا حكمت فقال بكلامك يا رب وكلام رسوله إلي فقد برىء من التبعة من هذا الوجه جملة ومن زاد على ذلك أو تعداه فلينظر في المخلص وليعد المسألة في حكمه بتقليد الآباء ورأيه وقياسه جوابا و {فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمري إلى لله إن لله بصير بلعباد} وحسبي الله ونعم الوكيل الباب التاسع والثلاثون في إبطال القول بالعلل في جميع أحكام الدين قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه ذهب القائلون بالقياس من المتحذلقين المتأخرين إلى القول بالعلل واختلف المبطلون للقياس فقالت طائفة منهم إذا نص الله تعالى على أنه جعل شيئا ما سببا لحكم ما فحيث ما وجد ذلك السبب وجد ذلك الحكم وقالوا مثال ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى عن الذبح بالسن وأما السن فإنه عظم قالوا فكل عظم لا يجوز الذبح به أصلا قالوا ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في السمن تقع فيه الفأرة فإن كان مائعا فلا تقربوه قالوا فالميعان سبب ألا يقرب فحيث ما وجد مائع حلت فيه نجاسة فالواجب ألا يقرب قال أبو محمد وهذا ليس يقول به أبو سليمان رحمه الله ولا أحد من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 أصحابنا وإنما هو قول لقوم لا يعتد بهم في جملتنا كالقاساني وضربائه وقال هؤلاء وأما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال فيه إن هذا لسبب كذا وقال أبو سليمان وجميع أصحابه رضي الله عنهم لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا بوجه من الوجوه فإذا نص الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على أن أمر كذا لسبب كذا أو من أجل كذا ولأن كان كذا أو لكذا فإن ذلك كله ندري أنه جعله الله أسبابا لتلك الأشياء في تلك المواضع التي جاء النص بها فيها ولا توجب تلك الأسباب شيئا من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة قال أبو محمد وهذا هو ديننا الذي ندين به وندعو عباد الله تعالى إليه ونقطع على أنه الحق عند الله تعالى فأما الحديث الذي ذكروا في السن أنه عظم فكل عظم ما عدا السن فالتذكية به جائزة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عاجزا عما قدر عليه هؤلاء المتخرضون ولو كانت الذكاة بالعظام حراما لما اقتصر صلى الله عليه وسلم على ذكر السن وحده ولما رضي بهذا العي من ذكر شيء وهو يريد غيره ولقال ما أنهر الدم وفرى الأوداج فكلوا ما لم يكن عظما أو ظفرا وصح ضرورة أنه لو كانت العظمة مانعة من الذبح لما هي فيه لما كان لذكر السن معنى ولكان تلبيسا لا بيانا فوضح يقينا أن العظمة ليست مانعة من الذبح بالجرم الذي هي فيه إلا أن يكون في سن فقط وكذلك القول في الحديث الآخر ولا فرق والقائلون بخلاف قولنا قد تناقضوا في الحديث المذكور نفسه ولم يعنونا في طلب تناقضهم إلى مكان بعيد لكن أتوا إلى قوله صلى الله عليه وسلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 في ذلك الحديث نفسه وأما الظفر فإنه مدى الحبشة فكان يلزمهم إذا جعلوا قوله صلى الله عليه وسلم فإنه عظم سببا مانعا من الذبح بكل عظم أن يجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم وأما الظفر فإنه مدى الحبشة مانعا من التذكية بكل مدية ك أنت لحبشي وهذا ما لا يقولونه بل اقتصروا على المنع من الذبح بالظفر فقط فلو فعلوا كذلك في السن فمنعوا من الذبح به ولم يتعدوه إلى سائر العظام لكان اهدى لهم ولكن هكذا يتناقض أهل الخطأ وأما أصحاب مالك وأبي حنيفة وهم المغلبون للقياس على نصوص القرآن والحديث في كثير من أقوالهم فإنهم تركوا القياس ههنا جملة فأجازوا الذبح بكل عظيم لم يقنعوا بهذا إلا حتى تجاوزوا ذلك إلى تخصيص النص بلا دليل فأجازوا الذبح بكل سن نزعت واقتصروا على المنع من الذبح بالسن التي لم تنزع وأجازوا الذكاة بكل ظفر قلع وهذا خطأ منهم والناقص من الدين كالزائد فيه ولا فرق {يأيها لنبي إذا طلقتم لنسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا لعدة وتقوا لله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود لله ومن يتعد حدود لله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل لله يحدث بعد ذلك أمرا} فلو كان التعليل صوابا لكان ما له نص الله تعالى عليه ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن جعله سببا للحكم أولى عند كل من له مسكة عقل ودين من علة يتكهنون في استخراجها بلا دليل فهم قد قلبوا ذلك كما ترى قال أبو محمد وأما الصواب الذي لا يجوز غيره فهو أن السن والظفر لا يحل الذبح بهما ولا النحر منزوعين كانا أو غير منزوعين فأما ما عداهما من عظم ومن مدي الحبشة أو غير ذلك مما يفري فحلال الذبح به والنحر والتذكية فإن قالوا إن الإجماع منعنا أن يطرد التعليل في مدي الحبشة في الحديث المذكور قيل لهم وبالله تعالى التوفيق قد ثبت الإجماع على صحة قولنا وعلى إبطال التعليل وإلا نتعدى السبب المنصوص عليه إلى ما لم ينص الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 عليه ولو كان التعليل حقا ما جاز وجود الإجماع بخلافه قال أبو محمد وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن الصباح ثنا أبو علي الحنفي ثنا قرة بن خالد قال انتظرنا الحسن فجاء فقال دعانا جيراننا هؤلاء ثم قال قال أنس بن مالك نظرنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى إذا كان شطر الليل يبلغه جاء فصلى لنا ثم خطبنا فقال ألا إن الناس قد صلوا رقدوا وإنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة قال أبو محمد فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسباب التي يختار لها تأخير العتمة انتظار الصلاة فيكون المنتظر لها في صلاة ما انتظرها ولم يكن هذا علة عند القائلين بالعلل في اختيار تأخير العصر والمغرب فإذا كان ما نص النبي صلى الله عليه وسلم عندهم ليس علة يبنى عليها فالتي ولدوها بآراهم الكاذبة أولى من ألا يبنى عليها وقد تعدى بعضهم ممن لم يتق الله عز وجل إلى أطم من هذا فقال إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالأمر ويقول بالقول مما لا يجوز لكن لعلة شيء آخر أراده قال وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم ذكر أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلوات في الجماعات فقالوا هذا لا يجوز وإنما قاله صلى الله عليه وسلم تغليظا لا أنه أراد ذلك وقالوا إن أمره صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ليس على إيجاب ذلك وإنما فعله ليزدجر الناس عن اتخاذها لأنها كانت تؤذي المهاجرين قالوا ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي دخل المسجد بهيئة بذة ورسول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال قم فاركع ركعتين قالوا والركوع حينئذ لا يجوز وإنما أمره بذلك ليفطن له الناس فيتصدقوا عليه وقالوا من ذلك أيضا أمره صلى الله عليه وسلم بفسح الحج إنما أمر به وهو لا يجوز ليريهم جواز العمرة في أشهر الحج ولهم من هذا التخليط المهلك كثير قال أبو محمد وقائل هذا لولا أنه يعذر بشدة ظلمة الجهل وضعف العقل لما كان أحد أحق بالتفكير منه وبضرب العنق وباستيفاء المال لأنهم ينسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يأمر بالباطل وبما لا يجوز ويصفونه بالكذب وليت شعري أعجز النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يأمر بقتل الكلاب كما فعل إذ أمره الله تعالى حتى يحلق هذا التحليق السخيف الذي يشبه عقول المعللين بغسل الإناء من ولوغها سبعا أما من كان لهم عقل يعلمون به أنه أن من عصى أمره بألا تتخذ الكلاب وأن من اتخذ كلبا لم يبح له اتخاذه نقص من عمله كل يوم قيراطان فهو لأمره بغسل الإناء سبعا أعصى وأترك تعالى الله عن هذا وتنزه نبيه صلى الله عليه وسلم عن هذا الوصف الساقط والصحابة رضي الله عنهم أطوع وأجل لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم من أن تكون هذه صفتهم أو تراه صلى الله عليه وسلم عجز عن أن يأمر أصحابه بالصدقة كما صرح لهم بذلك غير مرة حتى يأمر بركوع لا يجوز أترى الصحابة لم يعقلوا أن العمرة في أشهر الحج جائزة وقد اعتمد بهم النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك في أشهر الحج عمرتين متصلتين بعد ثالثة لم تتم عمرة الحديبية وعمرة القضاء بعدها وعمرته من الجعرانة بعد فتح مكة كلهن في أشهر الحج قبل حجة الوداع أما اكتفوا بهذا وبأمره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 صلى الله عليه وسلم لهم في حجة الوداع فمن شاء منكم أن يهل بعمرة فليفعل فأهل بالعمرة نساؤه وكثير من أصحابه أما يكفي هذا من البيان بأن العمرة في أشهر الحج جائزة حتى يحتاج إلى أمرهم بما لا يحل بزعم من لا زعم له من فسخ الحج أما لمن نسب هذا إلى الصحابة رضي الله عنهم عقل أو حس يردعه عن هذا السخف والجنون إن من ظن هذا بهم لفي الغاية القصوى من الاستخفاف بأقدارهم أو في غاية الشبه بالأنعام بل هو أضل سبيلا وتراه صلى الله عليه وسلم لو لم يكن يريد إحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة في الجماعة حقا أما كان يكتفي بأن يأمر بهجرهم كما فعل بالمتخلفين عن تبوك أو بطردهم كما طرد الحكم وهيثا المخنث أو بأدبهم كما أدب في الخمر قبل استقرار الحد فيها بالأربعين حتى يتعد إلى الكذب والأخبار بما لا يحل اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول الفاحش المهلك حدثنا حمام بن أحمد ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر قال قلت لعبيد الله بن عمر أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاد بالقسامة قال لا قلت فأبو بكر قال لا قلت فعمر قال لا قلت فيم تجترئون على ذلك فسكت قال فقلت ذلك لمالك فقال لا تضع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحيل ثم ذكر باقي الكلام قال أبو محمد وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه وهذا مذهب الأئمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 وكل من في قلبه إسلام ثم يقع لهم الخطأ والوهلات التي لم يعصم منها بشر فأتى هؤلاء الأوباش المقلدون فقلدوهم في خطئهم الذي لم ينتبهوا له وعصوهم في الحقيقة التي ذكرنا من أن لا يحمل أمر النبي صلى الله عليه وسلم على الحيل قال أبو محمد فإن ذكروا في ذلك مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بهم وقد نهاهم عن الوصال فليعلموا أن ذلك كان منه عليه السلام صياما مقبولا لأن الوصال له مباح بالنص من قوله صلى الله عليه وسلم لست كأحد منكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني وكان منهم عقوبة لهم لا صياما وهكذا في نص الحديث أنه كان كالتنكيل بهم وجائز للإمام أن يمنع المرء الطعام اليوم والليلة ومقدارا يدري أنه لا يبلغ به الموت على سبيل النكال كما فعل صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق ونحن إن شاء الله تعالى موردون مشاغب أصحاب العلل على حسب ما التزمنا لجميع خصومنا ومبينون بحول الله واهب القوة لا إله إلا هو وعونه لنا إن شاء الله تعالى تمويههم بها وحل شغبهم الفاسد ثم موردون البراهين الضرورية الصادقة عن إبطال العلل جملة إن شاء الله تعالى وبه نعتصم احتج القائلون بالعلل بآيات ظاهرها كون بعض الأحكام من أجل بعض الأحوال فمن ذلك قول الله عز وجل وقد ذكر قتل أحد ابني آدم عليه السلام لأخيه {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في لأرض فكأنما قتل لناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جآءتهم رسلنا بلبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في لأرض لمسرفون} قال أبو محمد فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق هذا أعظم حجة عليكم لأن الله تعالى لم يلزم هذا الإصر غير بني إسرائيل فقط ولو أن ذلك علة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 مطردة كما يدعوا للزم جميع الناس فإن قالوا هو لازم لجميع الناس سألناهم ما تقولون في جميع الكبائر أهي فساد في الأرض أم ليست فسادا في الأرض إلا ما سمي فسادا في الأرض وليس هذا واقعا إلا على المحاربة فقط ولا بد من أحد الجوابين فإن قالوا الكبائر كلها فساد في الأرض أريناهم شارب الخمر والسارق والمرابي وآكل أموال اليتامى والزاني غير المحصن وآكل لحم الخنزير والدم والميتة والغاصب والقاذف مفسدين في الأرض ولا يحل قتلهم بل من قتلهم قتل بهم قودا فقد نقضوا قولهم إن حكم الآية المذكورة جار علينا لأن في نص تلك الآية إباحة قتل كل مفسد في الأرض فإن قالوا ليس شيء من الكبائر فسادا في الأرض حاشا المحاربة أريناهم الزاني المحصن يقتل وليس مفسدا في الأرض فانتفضت العلة التي ادعوها علة لأن في الآية المذكورة ألا تقتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض الزاني المحصن لم يقتل نفسا ولا أفسد في الأرض وهو يقتل ولا بد ولا يكون قاتله كأنه قتل الناس جميعا فإن قالوا إن زنى المحصن وحده ووطء امرأة الأب وردة المرتد وشرب المحدود ثلاث مرات في الخمر مرة رابعة فساد في الأرض وما عدا هذا فليس فسادا في الأرض كابروا وتحكموا بلا دليل وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الزاني وهو شيخ أو بامرأة جاره أو بامرأة المجاهد في سبيل الله أعظم جرما من سائر الزناة وسواء كانوا محصنين أو غير محصنين إلا أن غير المحصن على كل حال لا يقتل وإن كان أعظم جرما من المحصن في بعض الأحوال التي ذكرنا والمحصن على كل حال يقتل وإن كان غير المحصن أعظم جرما منه في بعض الأحوال التي ذكرنا وأيضا فإن هذا القول الذي قالوه ناقض لأصولهم في العلل وموجب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 ألا يكون الشيء علة إلا حيث نص الله عز وجل على أنه علة لأنهم يقولون إن الكبيرة لا تكون فسادا إلا حيث نص على أنها فساد وحيث أمر الله تعالى بقتل فاعلها وبطل إجراؤهم العلة حيث وجدت وهذا قولنا نفسه حاشا التسمية بعلة أو سبب فإنا لا نطلقه لأن النص لم يأت به وإذ ليس بيننا إلا التسمية فقط فقد ارتفع الخلاف إذ إنما تضايق في تصحيح المعنى المسمى أو إبطاله ولا معنى للاسم ولا للمضايقة فيه إذا حققنا المعنى وإنما نمنع منه خوف التشكيك به والتلبيس وتسمية الباطل باسم الحق فهذا توقف على فساد عمله ونبين له قبح مغبته وبالله تعالى التوفيق واحتج بعضهم بقول الله عز وجل حكاية عن المنافقين أنهم قالوا {فرح لمخلفون بمقعدهم خلاف رسول لله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل لله وقالوا لا تنفروا في لحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} قال أبو محمد وهذه الآية كافية في إبطال العلل لأن الله تعالى أخبر أن جهنم ذات حر وأن الدنيا ذات حر ثم فرق تعالى بين حكميها وأمرهم بالصبر على حر الدنيا وأنكر عليهم الفرار عنه وأمرهم الفرار عن حر جهنم وألا يصبروا عليها أصلا نعوذ بالله منها واحتجوا أيضا بقوله تعالى {وإذ تقول للذي أنعم لله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك وتق لله وتخفي في نفسك ما لله مبديه وتخشى لناس ولله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على لمؤمنين حرج في أزواج أدعيآئهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر لله مفعولا} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه نص على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ تزوج امرأة زيد وهو قد كان استلحقه ونحن مأمورون باتباعه صلى الله عليه وسلم في تحليل ما أحل وتحريم ما حرم فنكاحه صلى الله عليه وسلم إياها موجب علينا تحليل أزواج المستلحقين في الجاهلية غير استلحاق الولادة لكن الاستلحاق المنسوخ فقط وهذا الذي قلنا هو نص الآية ولو كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 علة كما ادعوا للزم كل أحد أن ينكح امرأة دعيه ولا بد فلما لم يكن ذلك بلا خلاف سقط ظنهم أن إنكاحه عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم زينب أم المؤمنين علة لما راموا تعليله بذلك وصح قولنا أنه نص على إيجاب تحليل ما أحل الله تعالى لرسوله عليه السلام فقط وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله تعالى {مآ أفآء لله على رسوله من أهل لقرى فلله وللرسول ولذي لقربى وليتامى ولمساكين وبن لسبيل كي لا يكون دولة بين لأغنيآء منكم ومآ آتاكم لرسول فخذوه وما نهاكم عنه فنتهوا وتقوا لله إن لله شديد لعقاب} قال أبو محمد وهذا أيضا لا حجة لهم فيه والقول في هذه الآية كالقول في الآية التي ذكرنا آنفا ولا فرق لأننا قد وجدنا أموالا كثيرة لم تقسم هذه القسمة بل قسمت على رتبة أخرى فلو كان عليه قسمة هذا الذي أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هي ألا يكون دولة بين الأغنياء لكان ذلك أيضا علة في قسمة سائر الأموال من الغنائم وغيرها كذلك فبطل ما توهموا وصح أن الله تعالى أراد فيما أفاء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى مما لو يوجف عليه بخيل ولا ركاب خاصة ألا يكون دولة بين الأغنياء منهم فلا يتعدى بهذا الحكم هذا الموضع وإلا حيث نص الله تعالى عليه أيضا في قسمة خمس الغنائم ولا مزيد وهذا قولنا لا قولهم في إجراء العلل وبالله تعالى نتأيد واحتجوا بقوله تعالى {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على لله حجة بعد لرسل وكان لله عزيزا حكيما} وقال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأنه لم يكن لأحد على الله تعالى قط حجة لا قبل الرسل ولا بعدهم بل لله الحجة البالغة {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وقد أخبر تعالى أنه لم ينذر آباء هم وإن لم ينذروا فلا حجة لهم على الله عز وجل ولكن الله تعالى أراد الإحسان إلى من آمن من المنذرين بالرسل وأراد الإعذار إلى من لم يؤمن منهم فهذا غرض الله عز وجل فيهم ومراده وليس هذا علة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 وسنبين بعد انقضاء ذكر حجاجهم إن شاء الله تعالى فرق ما بين العلة والسبب والغرض ببيان جلي لا يحيل على من له أدنى فهم وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقوله تعالى {وعلى لذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن لبقر ولغنم حرمنا عليهم شحومهمآ إلا ما حملت ظهورهما أو لحوايآ أو ما ختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون} قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه بل هي حجة عليهم لأنه تعالى نص على أنه جزى أولئك ببغيهم بأنواع العذاب المعجل في الدنيا من السخف والصيحة وعذاب الظلة والرجم وغير ذلك فلو كان البغي علة في إيجاب الجزاء بذلك لكان ذلك واجبا أن يجزى به البغاة منا ومن غيرنا فلما رأينا كفار زماننا بغاة كأولئك وفينا نحن أيضا أهل بغي كبغي أولئك نفسه ففينا تطفيف الميزان وفينا فعل قوم لوط وفينا الكفر الصريح كما كان في أولئك في المؤمنين منا وفي الكافرين من الحربيين والكتابيين ولم نجاز ولا جوزوا بشيء بما جوزي به أولئك علمنا أن البغي ليس علة للجزاء بما جوزي به أولئك لأن العلة مطردة في معلوماتها أبدا لا تجوز أصلا وصح أن البغي من أولئك كان سببا لجزائهم بما جوزوا به وليس سببا في غيرهم لأن يجازوا بمثل ذلك فصح قولنا إن الأسباب لا يتعدى بها المواضع التي نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عليها ولا يوجب في كل مكان الحكم الذي وجب من أجلها في بعض الأمكنة وسقط قولهم سقوطا لا إشكال فيه والحمد لله رب العالمين وهذا قد ظهر كما ترى في الأسباب الصحيحة فما الظن بالأسباب الكاذبة التي يدعونها في الأحكام ويضعونها وضعا مختلفا متخاذلا بلا برهان إلا المجاهرة بالقربة وما لا يصح بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق واحتجوا أيضا بقول الله تعالى {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 فاعتبروا يأولي الأبصار} الآيات إلى قوله {ههههه إلى قوله {ذلك بأنهم شآقوا لله ورسوله ومن يشآق لله فإن لله شديد لعقاب} قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم لأن المحاربين فيما بيننا وأهل الإلحاد منا فهم مشاقون لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب منا كذلك وهم يخربون بيوتهم بأيديهم وبأيدي المؤمنين ولا يهدمون بل يبنونها فصح يقينا أن المشاقة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليست علة لخراب البيت وأصلا ولا سببا في خراب بيوت المشاقين ما عدا أولئك الذين نص الله تعالى على أنه عاقبهم بإخرابهم بيوتهم من أجل مشاقهم وهذا هو نفس قولنا إن الشيء إذا نص الله تعالى عليه بلفظ يدل على أنه سبب لحكم ما في مكان ما فلا يكون سببا البتة في غير ذلك الموضع لمثل ذلك الحكم أصلا وبالله تعالى التوفيق واحتجوا بقوله تعالى {إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون} قالوا فكانت هذه علل في وجوب تحريمها أو الانتهاء عنها قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم من وجوه أحدها أن كسب المال والجاه في الدنيا أصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وأوقع العداوة والبغضاء فيما بيننا من الخمر والميسر وليس ذلك محرما إذا بغى على وجهه وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بنص قولنا إذ قال صلى الله عليه وسلم والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكت من كان من قبلكم أو كما قال صلى الله عليه وسلم مما هذا حقيقة معناه فلا يظن جاهل أننا نقول شيئا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 من عند أنفسنا أو برأينا أو بغير ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فالميسر ما عهد منه قبل أن يحرم إيقاع عداوة بذاته ولا فقد عقل ولا كان إلا وافقا للناس ونافعا لهم وكذلك قليل الخمر ليس فيه مما ذكر في الآية ولا في كل من يشربها تفسد أخلاقهم بل نجد كثيرا من الناس يبكون إذا سكروا ويكثرون ذكر الآخرة والموت والإشفاق من جهنم وتعظيم الله تعالى والدعاء في التوبة والمغفرة ونجدهم يكرمون حينئذ ويحلمون ويزول عنهم كثير من سفههم وتؤمن غوائلهم فصح بكل ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل إرادة الشيطان لما ذكر تعالى في الآية سببا إلى تحريمها قط لكن شاء تعالى أن يحرمها إذ حرمها وقد كانت حلالا مدة ستة عشرة عاما في الإسلام وقد كان كل ذلك موجودا من الشيطان فينا وفي كثير الخمر وهي حلال يشربها الصالحون بعلم النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر ذلك فلو كان ما وصفها الله تعالى به من الصد عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى وإيقاع الشيطان العداوة والبغضاء بها علة للتحريم لما وجدت قط إلا محرمة لأنها لم تكن قط إلا مسكرة ولم يكن الشيطان قط إلا مريدا لإلقاء العداوة والبغضاء بيننا فيها وكانت حلالا وهي بهذه الصفة فبطل أن يكون إسكارها علة لتحريمها أو سبب لا في الوقت الذي نص الله عز وجل على تحريمها فيه ولا قبله البتة لأن قوله عز وجل {إنما يريد لشيطان أن يوقع بينكم لعداوة ولبغضآء في لخمر ولميسر ويصدكم عن ذكر لله وعن لصلاة فهل أنتم منتهون} إنما هو إخبار عن سوء معتقد الشيطان فينا ولم يقل قط تعالى إن إرادة الشيطان لذلك هو علة تحريمها ولا أنه سبب تحريمها ولا يحل لأحد أن يخبر عن الله تعالى بما لم يخبر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 به عز وجل عن نفسه ولا أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا هو قولنا إن المراعى هو النص لا ما عداه أصلا وبالله تعالى التوفيق وقد قال بعض أصحابنا إن إرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في الخمر إنما كان بعد تحريمها لأن شاربها بعد التحريم صاد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة مبغض من الصالحين ومعاد لهم قال أبو محمد وهذا أيضا قد اقتضاه الذي ذكرناه وزاد عليه وبالله تعالى نتأيد وقد أدى تعليلهم هذا الفاسد المفترى جماعة من الجهال إلى الضلال المبين فإذا رأوا سكرانا معربدا متلوثا في أقذاره وأهذاره جعلوا يقولون في مثل هؤلاء حرمت الخمر نعوذ بالله من هذا القول ومما سببه من التعليل الملعون واحتجوا بقوله تعالى {فبظلم من لذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل لله كثيرا} قال أبو محمد وهذه حجة عليهم لا لهم لأننا نحن نظلم من بكرة إلى المساء ولم يحرم علينا طيبات أحلت لنا فصح أن الظلم ليس علة في تحريم الطيبات ولا سببا له إلا حيث جعله الله تعالى بالنص سببا له فقط لا فيما عدا ذلك المكان البتة واحتجوا بقوله تعالى {وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} قال أبو محمد وهذا عليهم لأن الحكم المذكور لم يوجب استيقان جميع أهل الكتاب بل فيهم غير مستيقن وفيهم من تمادى على شكه وإفكه وشركه ولو كان علة لاستيقانهم لما وجد فيهم أحد غير مستيقن فبطل ظنهم والحمد لله رب العالمين واحتجوا بقوله تعالى لموسى عليه السلام {إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بلواد لمقدس طوى} قال أبو محمد وهذا حجة عليهم لأن الكون بالواد المقدس طوى لو كان علة لخلع النعال أو سببا له لوجب علينا خلع نعالنا بالوادي المقدس وبالحرم وبطوى فلما لم يلزم ذلك بلا خوف صح قولنا إن الشيء إذا جعله الله سببا لحكم ما في مكان ما فلا يكون سببا إلا فيه وحده لا في غيره فهذا كل ما راموا تبديله من وجهه من آيات القرآن وقد أريناهم بعون الله تعالى أنه كله حجة عليهم مبطل لقولهم بالتعليل الموجب عندهم للقياس والحمد لله رب العالمين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث إنما فعلت ذلك من أجل الدابة قال أبو محمد أحق الناس أن يستحي من الله تعالى عند ذكر هذا الحديث فأصحاب القياس القائلون بالعلل لأنهم يبطلون هذا السبب الذي يعدونه علة في المكان الذي ورد فيه ولا يقيسون عليه شيئا أصلا نعم ولا يأخذون بذلك الحكم بعينه بل يعصونه ويجيزونه ادخار لحوم الأضاحي ما شاء المرء من الدهور وإن دفت الدواف أفلا يستحي من يبطل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه إذا دفت دافة أن يدخر لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث ويستجيز خلافه في ذلك من أن يحتج بذلك القول المطرح عنده في إثبات العلل الكاذبة لو أن الجوز باللوز إلى أجل لا يحل إن هذا لخلق فاسد منتج من رذائل جمة منها الجهل وقلة الحياء وقلة الورع وشدة العصبية وقلة المبالاة بالصدق وشدة الجور وقلة النصيحة وضعف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 والعقل ونعوذ بالله من كل ذلك وأما نحن فنقول إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السبب في النهي عن إدخار لحوم الأضاحي أكثر من ثلاث ليال أن دافة دفت بحضرة الأضحى فإذا كان ذلك أبد الأبد حرم إدخار لحومها أكثر من ثلاث ليال فإن لم تدف دافة بحضرة الأضحى فليدخل الناس لحومها ما شاؤوا وانقيادا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يأت ما ينسخه وهذا الذي قلنا به هو قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الأذان من أجل البصر قال أبو محمد وهذا موافق لقولنا لا لقولهم لأننا لم ننكر وجود النص حاكما بأحكام ما لأسباب منصوصة لكنا أنكرنا تعدي تلك الحدود إلى غيرها ووضع تلك الأحكام في غير ما نصت فيه واخترع أسباب لم يأذن بها الله تعالى وأيضا فهذا الحديث حجة عليهم لأنهم أول عاص له أكثر أهل القياس مخالفون لما في هذا الحديث من أن من اطلع على آخر ففقأ المطلع عليه عين المطلع فلا شيء عليه وقالوا إن قول المظاهر لامرأته أنت علي كظهر أمي لما كان منكرا من القول وزورا كان ذلك علة لوجوب الكفارة قال أبو محمد وقد أبطلوا تعليلهم هذا فكفوا مؤنة أنفسهم فأقروا أن قول المرأة لزوجها أنت علي كظهر أمي منكر من القول وزورا ولم يوجب ذلك عليها الكفارة وقال تعالى {ما جعل لله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم للائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم ذلكم قولكم بأفواهكم ولله يقول لحق وهو يهدي لسبيل} فسوى الله تعالى بين قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي وبين ادعائه ولد غيره ولم يجعل في أحد الوجهين كفارة وجعل في الآخرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 الكفارة فصح أن المساواة في الشبه لا توجب المساواة في الحكم وبطل قولهم في التعليل إذا وجب في أحد المنكرين كفارة ولم يجب في الآخر وقد قال غيره من الفقهاء إيجاب الكفارة على المرأة المظاهرة من زوجها ككفارة المظاهر ولا فرق فهذا كل ما موهوا به من الحديث لاح أنه حجة عليهم وبالله تعالى التوفيق وجملة القول إن كل شيء نص الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق وكل ما أوردوه بآرائهم مما ليس في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو باطل وإفك وهم كمن قال لما حرم الله تعالى وفرض ما شاء حرمت أنا أيضا وفرضت ما شئت لأنه تعالى حرم وفرض ولا فرق وقد صح على رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عمر بن عنبسة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها إن تلك ساعة تطلع ومعها قرن الشيطان ويسجد لها الكفار حينئذ وعن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس وإن تلك الساعة تسجر فيها النار لو كان هذا على بادىء الرأي وظاهر الاحتياط لكانت الصلاة حينئذ أحرى وأولى معارضة الكفار فإذا سجدوا للشمس صلينا نحن لله تعالى وإذا سجرت النار صلينا ونعوذ بالله منها هذه صفة عللهم المفتراة الكاذبة وهذا ما جاء به النص فصح أنه لا يحل لأحد تعليل في الدين ولا القول بأن هذا سبب هذا الحكم إلا أن يأتي به نص فقط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 فصل في الاشتقاق قال أبو محمد واحتج بعضهم في إيجاب القول بالعلل وأن الأحكام إنما وقعت العلل بأن الأسماء مشتقة في اللغة وهذا لو صح لما كان لهم فيه حجة إذ لا سبب في الاشتقاق يتوصل به إلى إثبات العلل في الأحكام فكيف وهو باطل الاشتقاق الصحيح إنما هو اختراع اسم لشيء ما مأخوذ من صفة فيه كتسمية الأبيض من البياض والمصلي من الصلاة والفاسق من الفسق وما أشبه ذلك وليس في ذلك من هذا ما يوجب أن يسمى أبيض ما لا بياض فيه ولا مصليا من لا يصلي ولا فاسقا من لا فسق فيه فأي شيء في هذا مما يتوصل به إلى إيجاب القياس والقول بأن البر إنما حرم أن يباع البر متفاضلا لأنه مأكول أو لأنه مكيل أو لأنه مدخر وهل يتشكل هذا الحمق في عقل ذي عقل وبالله تعالى التوفيق وأما ما عدا هذا من الاشتقاق ففاسد البتة وهو كل اسم علم وكل اسم جنس أو نوع أو صفة فإن الاشتقاق في كل ذلك مبطل ببرهان ضروري وهو أننا نقول لمن قال إنما سميت الخيل خيلا لأجل الخيلاء التي فيها وإنما سمي البازي بازيا لارتفاعه والقارورة قارورة لاستقرار الشيء فيها والخابية خابية لأنها تخبىء ما فيها إنه يلزمك في هذا وجهان ضروريان لا انفكاك لك منهما البتة أحدهما أن تسمي رأسك خابية لأن دماغك مخبوء فيها وأن تسمي الأرض خابية لأنها تخبىء كل ما فيها وأن تسمي أنفك بازيا لارتفاعه وأن تسمي السماء والسحاب بازيا لارتفاعهما وكذلك القصر والجبل وأن تسمي بطنك قارورة لأن مصيرك مستقر به وأن تسمي البئر قارورة لأن الماء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 مستقر فيها وأن تسمي المستكبرين من الناس خيلا للخيلاء التي فيهم ومن فعل هذا لحق بالمجانين المتخذين لإضحاك سخفاء الملوك في مجالس الطرب وصار ملهى وملعبا وضحكة يتطايب بخبره وكان للحرمة ومداواة الدماغ أولى منه بغير ذلك فإن أبى ترك اشتقاقه الفاسد والوجه الثاني أن يقال إن اشتققت الخيل من الخيل أو القارورة من الاستقرار والخابية من الخبء فمن أي شيء اشتققت الخيلاء والاستقرار والخبء وهذا يقتقضي الدور الذي لا ينفك منه وهو أن يكون كل واحد منهما اشتق من صاحبه وهذا جنون أو وجود أشياء لا أوائل لها ولا نهاية وهذا مخرج إلى الكفر والقول بأزلية العالم ومع أنه كفر فهو محال ممتنع وأيضا فإذا بطل الاشتقاق في بعض الأسماء كلف من قال به في بعضها أن يأتي ببرهان وإلا فهو مبطل وأيضا فليس قول من قال إن الخيل مشتقة من الخيلاء أولى بالقبول من قول من قال إن الخيلاء مشتقة من الخيل وكلا القولين دعوى فاسدة زائفة لا دليل على صحتها في البرهان الضروري قد قام على بطلانها لأنه لم توجد قط الخيلاء إلا والخيل موجودة ولا وجدت الخيل إلا والخيلاء موجودة ولم يوجد قط أحدهما قبل الآخر فبطل قولهم وبالله تعالى نتأيد ولو كان ما قالوا لكانت الأسد أولى أن تسمى خيلا لأنهم أكثر خيلاء من الخيل ولكانت النسور أولى أن تسمى بزاة من الصقور لأنها أشد ارتفاعا منها وإلا فما الذي جعل القوارير أولى بهذا الاسم من الرمان والعتائد والإدراج والقلال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 وقالوا لما وجدنا العصير حلو لا يسمى خمرا وهو حلال ثم حدثت فيه الشدة فسمي خمرا فحرم ثم ارتفعت الشدة فلم يسم خمرا لكن سمي خلا علمنا أن العلة المحرمة والتي حرم من أجلها والتي من أجلها سمي خمرا هي الشدة قال أبو محمد هذا كلام فاسد في غاية الفساد فأول ذلك أن يقال لهم في أي عقل وجدتم أن كون الشدة فيه أوجبت أن يسمى بالخاء والميم والراء ولكن لا بد لكل عين فيها صفات مخالفة لصفات عين أخرى أن يوقع على كل واحد منها اسم غير اسم العين الأخرى ليقع التفاهم فيها بين المخاطبين فعلق على ما فيه الشدة اسم ما وعلى ما لا شدة فيه اسم آخر لا لشيء إلا ليفهم الناس مراد من كلمهم وخاطبهم وكذلك موجود في العالم وإلا ما ضاقت اللغة عن تسميته أو عجز أهلها عن ذلك أو لم يرد الله تعالى أن يكون له في هذه اللغة اسم وأيضا فإن اللغة العربية أول من نطق بها إسماعيل والخمر أقدم من كون إسماعيل في الأرض لأنهما من الأشياء التي علم آدم أسماءها قال تعالى {وعلم آدم لأسمآء كلها ثم عرضهم على لملائكة فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء إن كنتم صادقين} فعم تعالى ولم يخص فقد كانت الخمر على حالها من الإسكار والشدة وهي حلال وهي لا تسمى خمرا فقد كذب هذا القائل وأثم وأيضا فإن الخمر تسمى في كل لغة بغير اسم الخمر عندنا فما وجدنا ألسنتهم تلتوي لذلك ولا أحكامهم تنطوي ولا الخمر حلت لهم لأجل أن اسمها عندهم في اللغة العربية ولم نجد قط تلك العين المسماة خمرا إلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 وهي مسكرة في كل وقت وفي كل أمة وفي كل مكان حاشا خمر الجنة فقط فبطل قولهم في العلل وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإن العرب تسمي الخمر بخمسة وستين اسما ما وجدناها تضطر إلى ترك شيء منها ولا اضطرت إلى وضعه وقد بينا الكلام في كيفية أصل اللغات في باب مفرد من كتابنا هذا ولله الحمد وكذلك قالوا إن كون البر مطعوما محرما متفاضلا هو علة تسمية ذلك ربا والقول عليهم في ذلك كالقول في الخمر ولا فرق وبالله تعالى لا إله إلا هو التوفيق وقالوا العلة في وجوب كون الرقبة في الظهار مؤمنة هي وجوب كونها سليمة الأعضاء كرقبة القتل قال أبو محمد وهذا تحكم فاسد واحتجاج للخطأ بالخطأ وللدعوى بالدعوى ومثلهم في هذا القول كإنسان قال لي على زيد درهم فقيل له هل لك بينة فقال نعم فقيل وما هي قال إن لي على عمر درهما فقيل له وما بينتك على أن لك على عمر درهما قال بينتي على ذلك أن لي على زيد درهما فهو يريد أن يجعل دعواه صحة لدعوى أخرى وكلتاهما ساقطة إذ لا دليل عليهما وليس هذا الفعل من أفعال أهل العقول ودعواهم أن الرقبة في كلا الموضعين لا تجزىء إلا أن تكون سليمة دعوى زائفة لا تصح فكيف أن يقاس عليها ألا تكون إلا مؤمنة وقال بعضهم العلة في ذلك أنها كفارة عن ذنب قال أبو محمد وليس على قاتل الخطأ ذنب أصلا فبطل تعليلهم الفاسد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 وأيضا فهذه دعوى كالأولى لا دليل عليها وما الفرق بينهم وبين من قال إنما وجبت في القتل أن تكون الرقبة مؤمنة لأنها كفارة عن قتل فما عدا القتل فلا تجب فيه مؤمنة وهذا لا انفكاك منه فكل هذه دعوى لا دليل عليها ولا ينفكون ممن بطل ما أثبتوه ويثبت ما أبطلوا واعلم أنه لا يمكن أحدا منهم أن يدعي علة في شيء من الأحكام إلا أمكن لخصمه أن يأتي بعلة أخرى يدعي أن ذلك الحكم إنما وجب لها وهذا ما لا مخلص لهم منه وبالله تعالى نعتصم فصل في إبطال القول بالعلل قال أبو محمد هذا كل ما شغبوا به قد بينا عواره ولاح اضمحلاله والحمد لله رب العالمين ونحن الآن بعون الله تعالى وقوته لا إله إلا هو شارعون في إبطال القول بالعلل في شيء من الشرائع وبالله تعالى التوفيق فيقال لمن قال إن أحكام الشريعة إنما هي العلل أخبرونا عن هذه العلل التي تذكرون أهي من فعل الله تعالى وحكمه أم من فعل غيره وحكم غيره أم لا من فعله تعالى ولا من فعل غيره ولا سبيل إلى قسم رابع أصلا فإن قالوا من فعل غير الله من غير حكمه جعلوا ههنا خالقا غيره وفاعلا للحكم غيره وجعلوا فعل ذلك الفاعل موجبا على الله تعالى أن يفعل ما فعل وأن يحكم بما حكم به وهذا شرك مجرد وكفر صريح وهم لا يقولون ذلك فإن قالوا ليست من فعله ولا من فعل غيره أوجبوا أن في العالم أشياء لا فاعل لها أو أنهم في هذا الحاكمون على الله تعالى بها وهم الذين يحللون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 ويحرمون ويقضون على الباري عز وجل وهذا كفر مجرد ومذهب أهل الدهر وهم لا يقولون ذلك فإن قالوا بل هي من فعل الله عز وجل وحكمه قلنا لهم أخبرونا عنكم أفعلها الله تعالى لعلة أو فعلها لغير علة فإن قالوا فعلها تعالى لغير علة تركوا أصلهم وأقروا أنه تعالى يفعل الأشياء لا لعلة وقيل لهم أيضا ما الذي أوجب أن تكون الأحكام الثواني لعلل وتكون الأفعال الأول التي هي علل هذه الأحكام لا لعلل وهذا تحكم بلا دليل ودعوى ساقطة لا برهان عليها وإن قالوا بل فعلها تعالى لعلل أخر سئلوا في هذه العلل أيضا كما سئلوا في التي قبلها وهكذا أبدا فلا بد لهم ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقفوا في أفعال ما فيقولون إنه فعلها لغير علة فيكونون بذلك تاركين لقولهم الفاسد إنه تعالى لا يفعل شيئا إلا لعلة أو يقولون بمفعولات لا نهاية لها وأشياء موجودة لا أوائل لها وهذا كفر وخروج عن الشريعة بإجماع الأمة وقبح الله قولا يضطر قائله إلى مثل هذه المواقف فبطل قولهم في العلل وصح قولنا إن الله تعالى يفعل ما يشاء إلا لعلة أصلا بوجه من الوجوه بهذا البرهان الضروري الذي لا انفكاك عنه وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ويكفي من هذا كله أن جميع الصحابة رضي الله عنهم أولهم عن آخرهم وجميع التابعين أولهم عن آخرهم وجميع تابعي التابعين أولهم عن آخرهم ليس منهم أحد قال إن الله تعالى حكم في شيء من الشريعة لعلة وإنما ابتدع هذا القول متأخرو القائلين بالقياس وأيضا فدعواهم إن هذا الحكم حكم به الله تعالى لعلة كذا فرية ودعوى لا دليل عليها ولو كان هذا الكذب عن أحد من الناس لسقط قائله فكيف على الله عز وجل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 ولسنا ننكر وجود أسباب لبعض أحكام الشريعة بل نثبتها ونقول بها لكنا نقول إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله تعالى أسبابا ولا يحل أن يتعدى بها المواضع التي نص فيها على أنها أسباب لما جعلت أسبابا له وقد بينا كثيرا من ذلك في أول هذا الباب قال أبو محمد ومن عجائب هؤلاء القوم أنهم لو قيل لهم تعمدوا الباطل ما قدروا على أكثر مما فعلوا ومن ذلك أنهم أتوا إلى حكم لم ينص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أن له سببا وهو تحريم البر بالبر متفاضلا فجعلوا له سببا وعلة وحرموا من أجله الحديد بالحديد متفاضلا وبيع الأرز بالأرز متفاضلا وبيع السقيمونيا بالسقمونيا متفاضلا ثم أتوا إلى حكم جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبا وأخبر أنه حكم بذلك من أجله فعصوه وأطرحوه وهو قوله صلى الله عليه وسلم إنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث لأجل الدافة فقالوا ليست الدافة سببا ولا يجب من أجلها ترك ادخار لحوم الأضاحي وهكذا يكون عكس الحقائق وبالله تعالى نعوذ من الخذلان قال أبو محمد فإن قال قائل أنتم تنكرون القول بالعلل وتقولون بالأسباب فما الفرق بين الأمرين فالجواب وبالله تعالى التوفيق أن الفرق بين العلة وبين السبب وبين العلامة وبين الغرض فروق ظاهرة لائحة واضحة وكلها صحيح في بابه وكلها لا يوجب تعليلا في الشريعة ولا حكما بالقياس أصلا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن العلة هي اسم لكل صفة توجب أمرا ما إيجابا ضروريا والعلة لا تفارق المعلول البتة ككون النار علة الإحراق والثلج علة التبريد الذي لا يوجد أحدهما دون الثاني أصلا وليس أحدهما قبل الثاني أصلا ولا بعده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 وأما السبب فهو كل أمر فعل المختار فعلا من أجله لو شاء لم يفعله كغضب أدى إلى انتصار فالغضب سبب الانتصار ولو شاء المنتصر ألا ينتصر لم ينتصر وليس السبب موجبا للشيء المسبب منه ضرورة وهو قيل الفعل المتسبب منه ولا بد وأما الغرض فهو الأمر الذي يجري إليه مفاعل ويقصده ويفعله وهو بعد الفعل ضرورة فالغرض من الانتصار إطفاء الغضب وإزالته وإزالة الشيء هي شيء غير وجوده وإزالة الغضب غير الغضب والغضب هو السبب في الانتصار وإزالة الغضب هو الغرض في الانتصار فصح أن كل معنى مما ذكرنا غير المعنى الآخر فالانتصار بين الغضب وبين إزالته وهو مسبب للغضب وإذهاب الغضب هو الغرض منه وأما العلامة فهي صفة يتفق عليها الإنسانان فإذا رآها أحدهما علم الأمر الذي اتفقا عليه ومثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود إذنك على أن يرفع الحجاب وأن تستمع سوادي حتى أنهاك فكان رفع الحجاب واستماع حركة الني صلى الله عليه وسلم علامة الإذن لابن مسعود وكقوله صلى الله عليه وسلم إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار فكانت أصوات الأشعريين بالقرآن علامة لموضع نزولهم ومن هذا أخذت الأعلام الموضوعة في الفلوات لهداية الطريق والأعلام في الجيوش لمعرفة موضع الرئيس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 وقال أبو محمد وهذا معنى رابع وقد سمي أيضا العلل معاني وهذا من عظيم شغبهم وفاسد متعلقهم وإنما المعنى تفسير اللفظ مثل أن يقول قائل معنى الحرام فتقول له هو كل ما لا يحل فعله أو يقول معنى الفرض فنقول هو كل ما لا يحل تركه أو يقول ما الميزان فنقول له آلة يعرف بها تباين مقادير الأجرام فهذا وما أشبه هو المعاني وهذا أيضا شيء خامس وكل هذا لا يثبت علة الشرائع ولا يوجب قياسا لأن العلامة إذا كانت موضوعة لأن يعرف بها شيء ما فلا سبيل إلى أن يعرف بها شيء آخر بوجه من الوجوه لأنه لو كان ذلك لما كانت علامة لما جعلت له علامة ولوقع الإشكال قال أبو محمد فلما كانت هذه المعاني المسماة الخمسة التي ذكرنا مختلفة متغايرة كل واحد منها غير الآخر وكانت كلها مختلفة الحدود والمراتب وجب أن يطلق على كل واحد منها اسم غير الاسم الذي لغيره منها ليقع الفهم واضحا ولئلا تختلط فيسمى بعضها باسم آخر منها فيوجب ذلك وضع معنى في غير موضعه فتبطل الحقائق والأصل في كل بلاء وزعماء تخليط وفساد اختلاط أسماء ووقوع اسم واحد على معاني كثيرة فيخبر المخبر بذلك الاسم وهو يريد أحد المعاني التي تحته فيحمله السامع على غير ذلك المعنى الذي أراد المخبر فيقع البلاء والإشكال وهذا في الشريعة أضر شيء وأشده هلاكا لمن اعتقد الباطل إلا من وفقه الله تعالى وإذ قد بينا هذه الأسماء الأربعة وهي العلة والغرض والسبب والعلامة وبينا أن معانيها مختلفة وأن مسمياتها شتى وحسمنا داء من أراد إيقاع اسم العلة في الشريعة على معنى السبب فيخرج بذلك إلا ما لا يحل اعتقاده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 من أن الشرائع شرعها الله تعالى لعلل أوجبت عليها أن يشرعها أو إلى الفرية على الله تعالى في الإدعاء أنه شرع عللا لم ينص عليها هو تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أذنا بها ولا بد لأهل العلل من أحد هذين السبيلين وكلاهما مهلك ولسنا ننكر أن يكون الله تعالى جعل بعض الأشياء سببا لبعض ما شرع من الشرائع بل نقر بذلك ونثبته حيث جاء به في النص كقوله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وكما جعل تعالى كفر الكافر وموته كافرا سببا إلى خلوده في نار جهنم والموت على الإيمان سببا لدخول الجنة وكما جعل السرقة بصفة ما سببا للقطع والقذف بصفة ما سببا للجلد والوطء بصفة ما للجلد والرجم وكما نقر بهذه الأسباب المنصوص عليها فكذلك ننكر أن يدعي أحد سببا حيث لم ينص عليه ولسنا نقول إن الشرائع كلها لأسباب بل نقول ليس منها شيء لسبب إلا ما نص منها أنه لسبب وما عدا ذلك فإنما هو شيء أراده الله تعالى الذي يفعل ما شاء ولا نحرم ولا نحلل ولا نزيد ولا ننقص ولا نقول إلا ما قال ربنا عز وجل ونبينا صلى الله عليه وسلم ولا نتعد ما قالا ولا نترك شيئا منه وهذا هو الدين المحض الذي لا يحل لأحد خلافه ولا اعتقاده سواء وبالله تعالى التوفيق وقد قال الله تعالى واصفا لنفسه {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} فأخبر تعالى بالفرق بيننا وبينه وأن أفعاله لا يجزىء فيها لم وإذا لم يحل لنا أن نسأله عن شيء من أحكامه تعالى وأفعاله لم كان هذا فقد بطلت الأسباب جملة وسقطت العلل البتة إلا ما نص الله تعالى عليه أنه فعل أمرا كذا لأجل كذا وهذا أيضا مما يسأل عنه فلا يحل لأحد أن يقول لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 كان هذا السبب لهذا الحكم ولم يكن لغيره ولا أن يقول لم جعل هذا الشيء سببا دون أن يكون غيره سببا أيضا لأن من فعل هذا السؤال فقد عصى الله عز وجل وألحد في الدين وخالف قوله تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} فمن سأل عما يفعل فهو فاسق وجب أن تكون العلة كلها منفية عن الله تعالى ضرورة وفي قوله تعالى {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} بيان جلي أنه لا يجوز لأحد منا أن يقول قولا لا يسأل عنه ولزمنا فرضا سؤال كل قائل من أين قلت كذا فإن بين لنا أن قوله ذلك حكاية صحيحة من ربه تعالى وعن نبيه صلى الله عليه وسلم لزمنا طاعته وحرم عليه التمادي في سؤاله وإن لم يأت به مصححا عن ربه تعالى ولا عن نبيه صلى الله عليه وسلم ضرب برأيه عرض الحائط ورد عليه أمره متروكا غير مقبول معه ولا مرضي عنه فهذا حكم السبب وفعله والعلامة والغرض والمعنى قد بينا كل ذلك غاية البيان ولم نقل إلا ما قاله الله ربنا عز وجل وليست العبارة بالألفاظ المخالفة خلافا إذا حقق المعنى فلم يبعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب فقط بل إلى أهل كل لغة من الإنس والجن فلا بد ضرورة لكل أحد من عبارة يفهم بها كلام ربه تعالى ومعنى مراده في الدين اللازم له وإنما أوردنا هذا لئلا يتعلق جاهل فيقول إن كلامك هذا ليس منصوصا في القرآن فأرينا أن حقيقة مفهومه كلها ومعناه الذي لا يتحمل كلامنا معنى غيره منصوص في القرآن نصا جليا ظاهرا وبالله تعالى التوفيق فاعلم الآن أن العلل كلها منفية عن أفعال الله تعالى وعن جميع أحكامه البتة لأنه لا تكون العلة إلا في مضطر واعلم أن الأسباب كلها منفية عن أفعال الله تعالى كلها وعن أحكامه حاشا ما نص تعالى عليه أو رسوله صلى الله عليه وسلم وأما الغرض في أفعاله تعالى وشرائعه فليس هو شيئا غير ما ظهر منها فقط الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 والغرض في بعضها أيضا أن يعتبر بها المعتبرون وفي بعضها أن يدخل الجنة من شاء إدخاله فيها وأن يدخل النار من شاء إدخاله فيها وكل ما ذكرنا من غرضه تعالى في الاعتبار ومن إدخاله الجنة من شاء ومن إدخاله النار من شاء وتسبيبه ما شاء لما شاء فكل ذلك أفعال من أفعاله وأحكام من أحكامه لا سبب لها أصلا ولا غرض له فيها البتة غير ظهورها وتكوينها فقط {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} ولولا أنه تعالى نص على أنه أراد منا الاعتبار وأراد إدخال الجنة من شاء ما قلنا به ولكنا صدقنا ما قال ربنا تعالى وقلنا ما علمنا ولم نقل ما لم نعلم فهذه حقيقة الإيمان الذي تعضده البراهين الحسية والعقلية ودليل ذلك أن السبب والغرض لا يخلوان من أنهما مخلوقان لله تعالى أو أنهما غير مخلوقين أصلا أو أنهما مخلوقان لغيره فمن جعلهما غير مخلوقين أصلا كفر لأنه يجعل في العالم شيئا لم يزل ومن قال إنهما مخلوقان لغير كفر لأنه يجعل خالقا غير الله تعالى فثبت أنهما مخلوقان له تعالى وقد قام البرهان على أن كل ما دون الله تعالى فهو خلق الله فإذا قد ثبت أن الغرض والسبب مخلوقان لله تعالى فلا يخلو من أن يكون خلقهما لسبب أيضا ولغرض أو لا لسبب ولا لغرض فإن كان فعلها لسبب آخر وغرض آخر لزم أيضا فيهما مثل ذلك حتى تنتهي بقائل هذا إلى إثبات معدودات ومخلوقات لا نهاية لها وهذا كفر من قائله وإن كان تعالى فعلهما لا لسبب ولا لغرض فهذا هو قولنا إنه تعالى يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه لا لسبب ولا لغرض حاشا ما نص تعالى عليه فقط أنه فعله للغرض أراده أو لسبب وأما ما لم ينص ذلك فيه فإنا نقطع على أنه تعالى فعله كما شاء لا لغرض ولا لسبب ولولا النصوص الواردة بذلك في بعض المواضع ما حل لمسلم أن يقول إن الله تعالى فعل كذا لسبب كذا ولا إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 له عز وجل في فعل كذا إرادة كذا {لطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود لله فإن خفتم ألا يقيما حدود لله فلا جناح عليهما فيما فتدت به تلك حدود لله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود لله فأولئك هم لظالمون} قال أبو محمد ويقال لمن قال بالعلل وجعلها صفات في أشياء توجد فتشتبه بها فيوجب ذلك أن يحكم لها بحكم واحد إنك لا تعدم معارضا بصفات أخر توجب غير الأحكام التي أوجبتم فإن أنتم أبطلتم حكم التشابه الذي يعارضكم به خصومكم فقد أقررتم أن الأتباع لا معنى له ولا يوجب حكما وليس قول خصومكم فيما أتى به من ذلك بأولى بالسقوط من قولكم ومثال ذلك أن تقولوا لما أشبه النبيذ الخمر في أنه شديد ملذ مسكر وجب له التحريم من أجل ذلك فيعارضكم خصومكم فيقولون لما أشبه النبيذ المسكر العصير في أنه لا يفكر مستحله وجب له التخليل من أجل ذلك فإن أبطلتم التشبيه الذي أتى به خصومنا فقد أقررتم أن التشبيه لا يوجب حكما وهذا عائدا على تشبهكم الذي شبهتم ولا فرق وقال بعضهم علة تحريم البر بالبر متفاضلا أنه مطعوم وقال بعضهم العلة في ذلك أنه مكيل وقال بعضهم العلة في ذلك أنه مدخر قال أبو محمد وكل واحد من هذه الطوائف مبطلة لما عدت به الأخرى فكلهم قد اتفق على إبطال التعليل بلا خلاف بينهم فليس ما أثبتت هذه الطائفة من التعليل بأثبت مما أثبتت الأخرى ولا بعض هذه العلل أولى بالسقوط من سائرها بل كلها دعوى زائفة ساقطة لا برهان عليها وهكذا جميع عللهم وليت شعري كيف يسهل على من يخاف سؤال الله تعالى يوم القيامة أن يأتي بعلة لم يجدها قط لا لله تعالى ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم فيثبتها في الدين فإنما ينسبها إلى الله تعالى فيكذب عليه أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فيقوله ما لم يقل أو لا ينسب ذلك إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 فيحصل في أن يحدث دينا من عنده نفسه ولا بد من إحداهما وهما خطتا خسف نعوذ بالله منهما وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ومنهم طوائف يمنعون من تخصيص العلل ثم يجعلون علة الربا في التمر بالرطب مخصوصة يحدث العرايا فيقرون أن النص أبطل علتهم ولو كانت حقا ما أبطلها لأن الحق لا يبطل الحق وكذلك لا يمكن أن يبطل حديث صحيح حديثا صحيحا إلا على سبيل النسخ فقط وأما على معنى ألا يقبل فلا سبيل إلى ذلك البتة والحق لا يكذب بعضه بعضا أبدا قال أبو محمد وقد سألهم من سلف من أصحابنا فقالوا لو كانت العلة التي تدعون في الشرائع موجبة لما ادعيتم من تحليل أو تحريم لكانت غير مختلفة أبدا كما أن العلل العقلية لا تختلف أبدا مثال ذلك أن الشدة والإسكار لو كانا علة لتحريم لكانت الخمر حراما مذ خلقها الله تعالى فالخمر لم تزل مذ خلقها الله تعالى شديدة مسكرة وقد كانت حلال في الإسلام سنين وهي على الصفة هي الآن لم تبدل ولا حدثت لها حال لم تكن قبل ذلك فبطل بهذا أن تكون الشدة علة التحريم كما أن الباري تعالى جعل النارية علة الإحراق وتصعيد الرطوبات فلا تزال كذلك أبدا حاشا ما خص عز وجل منها من نار إبراهيم الخليل عليه السلام ولم تزل كذلك مذ خلقها تعالى حتى في جهنم أعاذنا الله تعالى منها قال الله تعالى {إن لذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا لعذاب إن لله كان عزيزا حكيما} قال أبو محمد فتفسخوا تحت هذا السؤال وتضوروا منه لأنه صحيح لا مخرج منه البتة فقال بعضهم إنما تكون العلة علة إذا جعلها الله تعالى علة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 قال أبو محمد وهذا ترك منهم لقولهم في العلل جملة وترك منهم للقياس ورجوع إلى النص وإذ قد راجعوا إلى هذا فلم يبق بيننا وبينهم إلا تسميتهم الحكم علة فقط فلو قالوا لا يجب الحكم إلا إذا نصه الله عز وجل لوافقونا البتة ولكنهم تعلقوا باسم العلة لأنه مشترك ليرجعوا من قريب إلى تخليطهم وليتعدوا النص إلى ما لا نص فيه وهذا ما لا يسوغونه وبالله تعالى التوفيق وقال بعضهم هذا خبر الواحد هو حجة في إيجاب العمل وليس حجة في إيجاب العلم فلا تنكروا علينا كون الشيء علة في مكان وغير علة في مكان آخر فيقال له وبالله تعالى التوفيق هذا تمويه منكم لا تتخلصون به مما ألزمناكم إياه لأننا لم ننكر نحن عليكم أن يكون الشيء حجة في مكانه وبابه وغير حجة فيما ليس بمكانه ولا ببابه وإنما أنكرنا عليكم أن يكون ما ادعيتموه علة حجة موجبة للحكم في بعض مكانها وبابها بغير نص وغير حجة في سائر بابها وبعض أماكنها من غير نص أيضا فهذا الذي أنكرنا عليكم لا ما سواه وأما خبر الواحد المسند من طريق العدول فهو حجة في إيجاب العمل أبدا إذا كان عن النبي صلى الله عليه وسلم عند جميعنا ثم اختلفنا فقالت طائفة منهم ومنه ما لا يضطر إلى العلم فهو غير موجب للعلم أبدا وما كان منه يضطر إلى العلم بأسباب معروفة فيه فهو موجب للعلم أبدا وقالت طائفة هو موجب للعلم أبدا إذا كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل تشبيههم للعلة بالخبر قال أبو محمد واحتج عليهم من سلف من أصحابنا فقالوا ما تقولون في إنسان قال في حياته أو عند موته أعتقوا عبدي ميمونا لأنه أسود وله عبيد سود كثير أتعتقونهم لعلة السواد الجامعة لهم والتي جعلها علة في عتق ميمون قياسا على ميمون أم لا تعتقون منهم أحدا حاشا ميمون وحده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 فإن قلتم نعتقهم نقضتم فتاويكم وخالفتم الإجماع وإن قلتم لا نعتقهم تركتم القول بإجراء العلل وبالقياس وعدتم إلى قولنا قال أبو محمد وهذا إلزام صحيح ونحن نزيده بيانا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأمراء سراياه إذا نزلتم بأهل حصن أو مدينة أرادوا أن تنزلوهم على حكم الله تعالى فلا تفعلوا فإنكم لا تدرون أتوافقون حكم الله تعالى فيهم أم لا ولكن أنزلوهم على حكمكم ثم اقضوا فيهم ما شئتم فإذا سألوكم أن تعطوهم ذمة الله عز وجل وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ولكن أعطوهم ذمتكم فإن تخفروا ذمتكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله أو كلاما هذا معناه فهذا نص جلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الإقدام على نسبة شيء إلى الله تعالى بغير يقين لا يحل وأن نسبة ذلك إلى الإنسان أهون وإن كان كل ذلك باطلا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان كذبا علي ليس ككذب على أحد فلو جاز أن يقال بالقياس وبالفعل لكان الإقدام به على كلام الناس وأحكامهم أولى من الإقدام به على الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فلما اتفقوا على أن من قال اعتقوا عبدي سالما لأنه أسود وله عبيد سود أنه لا يعتق غير سالم وحده الذي نص عليه اتقاء أن يعتقه وخوفا من تبديل أمر الموصي وكلامه فإن الأولى بهم أن يتقوا الله عز وجل في قوله صلى الله عليه وسلم في النهي عن الذبح بالسن فإنه عظم وفي أمره صلى الله عليه وسلم بهرق السمن إذا مات فيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 الفأر فلا يتعدوا ذلك إلى كل عظم وكل زيت وكل دهن وكل كلب وكل سنور وفي أمره صلى الله عليه وسلم البائل في الماء الراكد الذي لا يجزي ألا يتوضأ منه ولا يغتسل فلا يتعدوه إلى المحدث في الماء ولا إلى ما لم يبل فيه أصلا فإن الأوجب عليهم ألا ينسبوا إلى الله تعالى ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تعليلا لم ينصا عليه وأحكاما لم يأذنا بها ولا ذكراها أصلا ولا في كلامهما ما يوجبهما البتة ولكنهم اتقوا أن ينسبوا إلى الناس ما لا يقولون ولم يتقوا أن ينسبوا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يقولا وحسبك بهذا عظيمة نعوذ بالله منها وقد شغب بعضهم في هذا السؤال بأن قال كنا نعتق سائر عبيده السودان لو أن الموصي يقول لنا بعقب قوله اعتقوا عبدي سالما لأنه أسود واعتبروا فكنا حينئذ نعتق كل عبد له أسود قال أبو محمد وهذا جواب فاسد من وجهين أحدهما أنه حتى لو قال ذلك ما جاز أن يعتق كل عبد له أسود لأنه ليس قوله اعتبروا أولى بأن يكون معناه قيسوا منه بأن يكون معناه واعتبروا بحالي التي أنا فيها فبادروا إلى طاعة ربكم ولا تخالفوا وصيتي وأيضا فيلزم من أجاب بهذا الجواب الفاسد ألا يقيس على شيء من الأحكام إلا حتى يكون إلى جنب كل حديث فيه حكم أو كل آية فيها حكم واعتبروا واعتبروا وهذا غير موجود في شيء من الأحكام ولا في الحديث ولا في صلة شيء من الآيات فبطل القياس جملة بنص قوله هذا المجيب والله تعالى الحمد قال أبو محمد والسؤال باق بحسبه عليهم ونزيدهم فيه فنقول حتى لو قال فاعتبروا ثم لما كان نهارا آخر قال اذبحوا كبشي الفلاني لأنه أعرج وله كباش عرج أيذبحون كل كبش له أعرج من أجل قوله بالأمس في أمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 عتق عبد واعتبروا أم لا يقدمون على ذلك إلا حتى يكون عند وصيته به واعتبروا فإن قالوا نكتفي بقوله واعتبروا مرة واحدة خرقوا الإجماع وهذا أمر لا يقولونه ولو قالوه لكانوا حاكمين بلا دليل ومدعين بلا برهان وإن لم يقولوا بذلك فقد تركوا القياس جملة ولزمهم طلب هذه اللفظة إلى جنب كل آية وحديث وهذا لا يجدونه أبدا قال أبو محمد وقد قال بعضهم في جواب هذا السؤال إذ تتبعنا عليهم إدخالهم في أحكام الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ما لم يأت به نص لكن تعليلا منهم وقياسا ثم يتحرون تجنب مثل هذا في أقوال أبي حنيفة ومالك والشافعي فلا يتعدون نصوص أقوالهم فقالوا خطاب الآدميين وقد يكون فاسدا ولا حكمة فيه وخطاب الله تعالى حكمة قال أبو محمد وهذا تمويه لا ينفك به من السؤال المذكور ويقال له أي فساد في خطاب امرىء موص في ماله بما أباحه له الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة ولم يتعد إلى مكروه فلو جاز ألا يحمل كلامه على موجبه ومفهومه خوف فساده لما جاز تنفيذ تلك الوصية جملة خوف فسادها فلما اتفقوا معنا على تجويز تلك الوصية وحملها على ظاهرها صح أنها حق وبطل تمويه من رام الفرق بين ما سألناهم عنه من حملهم كلام الناس على ظاهره ومفهومه وحملهم كلام ربهم تعالى على الكهانات بالدعاوى والظنون وما ليس فيه ولا مفهوما منه وقلنا لهم فيم غلبتم ما لم يؤمن فساده وما لا حكمة فيه من أقوال أبي حنيفة المتخاذلة وأقوال مالك المتناقضة وأقوال الشافعي المتعارضة على المضمون فيه الحكمة من كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حتى صرتم لا تأخذون من النصوص إلا ما وافق كلام أحد المذكورين ولا تزالون تتحيلون في إبطال حكم ما خالف قولهم من القرآن السنة بأنواع الحيل الباردة الغثة والسؤال يعد لهم لازم لا انفكاك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 عنه أصلا وبالله تعالى التوفيق ومما احتج به عليهم أصحابنا في إبطال العلل والقياس نهي الله تعالى الناس عن سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم الاقتصار على ما يفهمون مما يأمرهم به فقط فلو كان المراد من النص غير ما سمع منه لكان السؤال لهم لازما ليتبينوا ويتعلموا فلما منعوا من السؤال أيقنا أنهم إنما لزمهم ما أعلموا به فقط فأجاب بعض أصحاب القياس فقال إنما نهوا عن سؤال من سأل عن أبيه قال أبو محمد وهذا الكذب بعينه لأن نص الآية يكذب هذا القائل في قوله تعالى بعقب النهي عن السؤال {قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين} وبين ذلك طلحة رضي الله عنه في قوله كنا نهينا أن نسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي بالرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونسمع وقال النواس بن سمعان أقمت بالمدينة سنة لا أهاجر يريد لا أبايع على الهجرة لأننا كنا إذا هاجر أحدنا لم يجز له أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أو كلاما هذا معناه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس جرما في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته وقد قال صلى الله عليه وسلم اتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ولكن إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم فبطل اعتراض هذا المعترض فصل فيما ورد في القرآن من النهي عن القول بالعلل قال أبو محمد ونحن موردون إن شاء الله تعالى ما في القرآن من النهي عن القول بالعلل في أحكام الله عز وجل وشرائعه فكتاب الله تعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 هو الحق الذي يقذف بالحق عن الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ومن أبى ذلك ختمنا له الآية وهو قوله تعالى {بل نقذف بلحق على لباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم لويل مما تصفون} قال أبو محمد قال الله تعالى {وما جعلنآ أصحاب لنار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن لذين أوتوا لكتاب ويزداد لذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب لذين أوتوا لكتاب ولمؤمنون وليقول لذين في قلوبهم مرض ولكافرون ماذآ أراد لله بهذا مثلا كذلك يضل لله من يشآء ويهدي من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر} فأخبر تعالى أن البحث عن علة مراده تعالى ضلالا لأنه لا بد من هذا أو من أن تكون الآية نهيا عن البحث عن المعنى المراد وهذا خطأ لا يقوله مسلم بل البحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى فرض على كل طالب علم وعلى كل مسلم فيما يخصه فصح القول الثاني ضرورة ولا بد وقال الله تعالى {خالدين فيها ما دامت لسماوات ولأرض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد} وقال تعالى {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ودعوا شهدآءكم من دون لله إن كنتم صادقين} قال أبو محمد وهذه كافية في النهي عن التعليل جملة فالمعلل بعد هذا عاص لله عز وجل وبالله نعوذ من الخذلان وقال تعالى {ويا آدم سكن أنت وزوجك لجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه لشجرة فتكونا من لظالمين * فوسوس لهما لشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه لشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من لخالدين * وقاسمهمآ إني لكما لمن لناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا لشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق لجنة وناداهما ربهمآ ألم أنهكما عن تلكما لشجرة وأقل لكمآ إن لشيطآن لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من لخاسرين} قال أبو محمد وقال الله تعالى حاكيا عن إبليس إذ عصى وأبى عن السجود أنه قال {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} فصح أن خطأ آدم عليه السلام إنما كان من وجهين أحدهما تركه حمل نهي ربه تعالى عن الوجوب والثاني قبوله قول إبليس أن نهي الله عن الشجرة إنما هو لعلة كذا فصح يقينا بهذا النص البين أن تعليل أوامر الله تعالى معصية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 وأن أول ما عصى الله تعالى به في عالمنا هذا القياس وهو قياس إبليس على أن السجود لآدم ساقط عنه لأنه خير منه إذ إبليس من نار وآدم من طين ثم بالتعليل للأوامر كما ذكرنا وصح أن أول من قاس في الدين وعلل في الشرائع فإبليس فصح أن القياس وتعليل الأحكام دين إبليس وأنه مخالف لدين الله تعالى نعم ولرضاه ونحن نبرأ إلى الله تعالى من القياس في الدين ومن إثبات علة لشيء من الشريعة وبالله تعالى التوفيق وقال الله عز وجل حاكيا عن قوم من أهل الاستخفاف أنهم قالوا إذا أمروا بالصدقة {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم لله قال لذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشآء لله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين} قال أبو محمد فهذا إنكار منه تعالى للتعليل لأنهم قالوا لو أراد الله تعالى إطعام هؤلاء لأطعمهم دون أن يكلفنا نحن إطعامهم وهذا نص لا خفاء به على أنه لا يجوز تعليل شيء من أوامره وإنما يلزم فيها الانقياد فقط وقبولها على ظاهرها وقال تعالى {فبظلم من لذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل لله كثيرا} فهم ظلموا فحرمت عليهم ونحن نظلم فلم تحرم علينا الطيبات التي أحلت لنا وقال صلى الله عليه وسلم إننا سنركب سنن أهل الكتاب لو دخلوا جحر ضب لدخلناه فصح أننا ظلمنا كظلمهم ولم يحرم علينا ما حرم عليهم فبطل التعليل جملة إذ لو كان ظلمهم علة التحريم لوجب أن يكون ظلمنا علة فينا لمثل ذلك فلما لم يكن هذا كذلك علمنا أن الله تعالى جعل ظلمهم سببا لأن حرم عليهم ما حرم ولم يجعل ظلمنا سببا لأن يحرم علينا مثل ذلك فصح أنه يفعل ما يشاء في مكان ما من أجل شيء ما ولا يفعل ذلك في مكان آخر من أجل مثل ذلك الشيء بعينه وهذا بطلان ما ادعاه خصومنا من العلل القياس نصا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 وقال تعالى لموسى عليه السلام {إني أنا ربك فخلع نعليك إنك بلواد لمقدس طوى} فكان كون موسى عليه السلام بالوادي المقدس سببا لخلع نعليه ونحن نكون بذلك الوادي وبكل مكان مقدس كمكة والمدينة وبيت المقدس ولا يلزمنا خلع نعالنا ولو كان دخول الوادي المقدس علة للخلع للزمنا ذلك وقال تعالى {إن لله لا يستحى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما لذين آمنوا فيعلمون أنه لحق من ربهم وأما لذين كفروا فيقولون ماذآ أراد لله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا لفاسقين} قال أبو محمد هذه آية كافية إنه لا يحل التعليل في شيء من الدين ولا أن يقول قائل لم حرم هذا وأحل هذا فقد صح قولنا إن قول القائل حرم البر بالبر لأنه مكيل أو أنه مدخل أو أنه مأكول بدعة نعوذ بالله منها فصل في تناقض قولهم في التعليل والقياس قال أبو محمد ونحن نورد إن شاء الله تعالى طرفا يسيرا من تناقضهم في التعليل لندل بذلك عن إفساد مذهبهم وإلا فتناقضهم لو تتبع لدخل في أزيد من ألف ورقة ولعل الله تعالى يعيننا على تقصي ذلك في كتاب الإعراب إن شاء الله تعالى فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها فكان يلزمهم أن يجعلوا ما حرم أكله محرما بيعه لكنهم لم يفعلوا ذلك بل كثير منهم يبيحون بيع الزبول ولا خلاف أن أكل الحيوان حيا كما هو محرم ولا خلاف في جواز بيع أكثره وكذلك فعلوا في قوله صلى الله عليه وسلم في الاستحاضة فإنه عرق فكان يلزمهم أن يجعلوا كل عرق يسيل من الجسد في مثل حكم المستحاضة كما جعلوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 الميعان في الزيت علة لتحريمه إن مات فيه فأر قياسا على السمن لكنهم تناقضوا في ذلك وهذا إجماع منهم على ترك الحكم بالعلل والقياس وهكذا يكون الباطل مرة مصحوبا ومرة متروكا وصح قولنا إن ما كان سببا في مكان نص عليه لحكم ما فلا يكون سببا في مكان آخر لم ينص عليه لمثل ذلك الحكم فقالوا معنى التعليل هو إجراء صفة الأصل في فروعه قال أبو محمد وهذا قول فاسد لأن جميع أحكام الشريعة كلها أصول فإن كانوا عنوا بذلك أن الصلاة جملة أصل جامع ثم النوازل فيها فروع إنما هي أجزاء من الصلاة ولا تسمى أجزاء الشيء فروعا له لأن الفرع غير الأصل والأجزاء ليست غير الكل فبطل ما موهوا به من تقسيمهم الشريعة على فروع وأصول وصح أن جميع أحكام الشريعة كلها سواء وأصول ولا يوجد شيء منها إلا عن قرآن أو عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن إجماع ونص تعالى عن ألا يقرب المشركون المسجد الحرام فقال بعضهم إن علة ذلك تطهير المسجد الحرام منهم فأجروا ذلك في كل مسجد فكان يلزمهم وإذا لزم الحج إلى مكة أن يلزم إلى المدينة لأن مسجد المدينة والمدينة عند القائلين بما ذكرنا أفضل من مسجد مكة ومن مكة وهذا إن طردوا فيه أصولهم كفروا فإذا ادعوا الإجماع المانع لهم من ذلك قيل لهم لا عليكم قيسوا إيجاب جزاء الصيد بالمدينة وحرمه فقد قال بذلك بعض التابعين من الأئمة وقيسوا الجزاء فيما حرم قطعة من شجر الحرم على الجزاء فيما حرم صيده من صيد الحرم فإن لم يفعلوا فقد تناقضوا وتركوا إجراء العمل وتركوا القياس وتركوا أن يتعدوا النص ولو فعلوا هذا في كل مسائلهم لاهتدوا ولنجوا من ضلال القياس وفتنته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 وقالوا إن علة الحدود الزجر والردع قال أبو محمد كذبوا في ذلك إذا كان ذلك لما جاز العفو في قتل النفس ولم يجز العفو في الزنى بالأمة وفي السرقة ولو كان ذلك لما كانت السرقة أولى بوجوب حد محدود فيها من الغضب ولا كانت الخمر أولى بذلك من لحم الخنزير ومن الربا ولا كان الزنى أولى بذلك من القذف بالكفر أو بترك الصلاة ولا كان الزنى بذلك أولى من ترك الصلاة فظهر كذب دعواهم في ذلك والحمد لله رب العالمين وقالوا إن علة القصر في الصلاة في السفر إنما هي المشقة فلذلك حدت بيوم ويومين وثلاثة أيام على اختلافهم في ذلك قال أبو محمد وهذا أمر كان ينبغي لأهل التقوى ألا يمروه على خواطرهم فكيف أن يحلوا به ويحرموا ويتركوا له قول ربهم تعالى فأول ذلك الكذب البحث أن أصل القصر المشقة ولو كان ذلك لكان المريض المدنف المثبت العلة كالمبطون والذي به ناقض الحمى والموم والسل ممن تثقل عليه الكلمة يسمعها ويصعب عليه رد الجواب بكلمة فما فوقها أولى بالقصر العظيم مشقة الصلاة عليه وتكلف القراءة فيها والإيماءة والتشهد صرف ذهنه إليها من المراكب في عمارية ومعه مائة عبد يتمشى في أيام الربيع على ضياعه من روضة إلى نهر ومن نهر إلى صيد ومن صيد إلى نزهة ومن كل منظر بديع إلى منظر حسن ينزل إذا شاء ويرجل إذا شاء إلا أنه من ذلك قاصد مسافة أكثر من ثلاثة أيام من وطنه وهذا ما لا يحيل على صبي له أدنى فهم فكيف على من يتعاطى التحريم والتحليل ويستدرك على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 ربه تعالى أشياء لم يذكرها ربه تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم إن هذا لهو الضلال المبين هذا والمريض والمسافر قد سوى الله عز وجل بينهما في الفطر في رمضان وفي إباحة متيمم فهلا ساوى القياسيون المعللون بينهما في قصر الصلاة للذي المريض أحوج عليه من المسافر لأنه أكثر مشقة منه وأحوج إلى الراحة فأين قياسهم وعللهم ثم هلك لو صح ما قالوه إن العلة في قصر الصلاة مشقة السفر وأعوذ بالله من ذلك فأي تمام للمشقة في ثمانية وأربعين ميلا في سهل وأمن وظلال أشجار وفي أيام الربيع في آذار وفي نيسان ولفارس مريح قوي على سبعة وأربعين ميلا في أوعار وشعار وفي حمارة القيظ في تموز وفي خوف شديد لراجل مكدود كبير السن ضعيف الجسم فأباحوا للفارس الذي ذكرنا أن يفطر في رمضان ويقصر الصلاة ومنعوا الرجل المكدود في الوعر والحر من ذلك وقالوا لا بد له من الصيام والإتمام أفترى الميل الواحد هو الذي حصلت فيه المشقة أو ترى نصف اليوم الذي به تمت الثلاثة هو الذي حصلت المشقة دون اليومين ونصف يوم هذا لا يحتمل مثله إلا من الله تعالى الذي لا يسأل عما يفعل وأما نحن فنسأل أو من رسوله صلى الله عليه وسلم المبين مراد ربه تعالى ثم لم يكفهم إلا أن ادعوا على العقل هذا البهتان لأنهم عند أنفسهم أهل الحكمة في الشريعة بما توجبه عقولهم وقد موه بعضهم بأنه إنما تعلق في ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة يوما وليلة إلا مع ذي محرم قال أبو محمد إن احتجاجهم بهذا الحديث في إيجاب الفطر والقصر والقريب من تحديدهم المذكور فليت شعري أي شيء في منع المرأة من السفر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 يوما وليلة مما يوجب القصر في يوم وليلة ومشي يوم وليلة يختلف ففي أيام كانون الأول لا يكمل الراحل ثلاثين ميلا إلى الليل وفي أيام صدر حزيران في طيب الهواء وطول الأيام والشمس في آخر الجوزاء وأول السرطان يكمل أربعين ميلا والركبان كذلك والسير يختلف فمن أين لهم أن يجدوا اليوم والليلة بأربعة برد وقد علمنا أن بين مشي شيخ ضعيف وحمار أعرج وبين مشي العساكر وبين مشي الرفاق وبين مشي المسافر الراكب دابة مطيقة وبين مشي البريد في اختلاف الأزمان أشد الاختلاف وأعظم التباين فكيف يستجيز ذو لب أن يجد ما يقصر فيه ويفطر بثلاثة أيام اتو اليوم التام ولا خلاف أن ما تمشيه العساكر في أربعة أيام الشتاء يمشيه البريد في يوم واحد في آخر الربيع وأول الصيف وهذا معروف بالمشاهدة وأيضا فإن ذلك الحديث قد جاء بألفاظ شتى ففي بعضها أكثر من ثلاثة أيام وفي بعضها ثلاثة أيام وفي بعضها ليلتين وفي بعضها يوم وليلة وفي بعضها يوم وفي بعضها بريد وفي بعضها لا تسافر على الإطلاق دون تحديد شيء أصلا فبطل احتجاجهم به فإن تعلقوا بابن عمر وابن عباس فقد خالفهم ابن مسعود وعائشة ودحية بن خليفة وشرحبيل بن السمط وغيرهم من الصحابة نعم وابن عمر نفسه فقد صح عنه القصر في الأميال اليسيرة جدا وفي الميل وفي سفر ساعة وعللوا الشفعة في الأرضين والحكم على الشريك يعتق شقصه في العبد والأمة يعتق الباقي بأن ذلك الضرر بالشريك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 وتناقضوا في ذلك في قولهم لا شفعة في الجوهر ولا في العبيد ولا في الحيوان ولا في الثياب ولا في السيوف وقد علم كل ذي عقل أن الضرر في ذلك بالشركة وانتقال الملك بالصدقة أو البيع أعظم من الضرر في الأرضين فهلا قاسوا ههنا كما قاس المالكيون الشفعة في التين والرطب على الشفعة في الأرضين خوف الضرر الداخل على الشريك وهلا قاسوا هبة الشريك على بيعه فيقولوا شريكه أولى بالهبة لئلا يدخل عليه ضرر فإن قالوا لم يرد أن يهبه قيل لهم وكذلك لم يرد أن يبيع منه فإن رجعوا إلى النص فقد امتدوا ولزمهم ألا يقيسوا أصلا ولا يتعدوا حدود الله في النصوص ولا يقيسوا الشفعة في التين والثمار دون سائر العروض على وجوبها في الأرضين والأشجار عندهم وهلا قاسوا من حبس شقصا له في أرض مشارعه على من أعتق شقصا له في عبد لاجتماعهما في الضرر ولكن هكذا يفضح الباطل أهله وكذلك يكون تناقض أهله وهل قاسوا المعسر بعتق شقصه على الموسر بعتق شقصه لأن الضرر في ذلك واحد وهم يقيسون عليه كل من أتلف شيئا فيوجبون عليه فيما عدا المكيلات والموزونات القيمة لا المثل قالوا نفعل ذلك قياسا على تقويم الشقص على المعتق فهلا قوموا على المعسر إذا أعتق كما يقومون عليه فيما أتلف ويتبعه به دينا قال أبو محمد وفيما ذكرنا كفاية وقلما تخلو لهم مسألة من مثل ما أوردنا وبالله تعالى التوفيق وقال بعض حذاقهم قد تكون علة الخصم علة لخصمه عليه في إبطال قوله مثال ذلك أن يقول الحنفي والمالكي لما كان الوقوف بعرفة لا يصح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الإحرام وجب ألا يصح الاعتكاف إلا بمعنى آخر يقترن إليه وهو الصيام فيقول الشافعي لما كان الوقوف بعرفة لا يقتضي الصيام وجب أن يكون الاعتكاف لا يفتقر إلى الصيام وعلتهم كلهم فيما ذكروا أن الوقوف بعرفة والاعتكاف لبث وإقامة في موضع مخصوص قال أبو محمد ومثل هذا لا يعجز أن يأتي به من استجاز الهذيان في حال صحته من البرسام ولو تتبعنا ترجيحاتهم العلل لأوردنا من ذلك مضاحك تغني عن كل ملهى وحسبنا الله ونعم الوكيل ومن تأمل كتب متأخريهم ومناظراتهم وتكلفهم إخراج العلل لكل حكم مختلف فيه أو مجتمع عليه في الشريعة كان فيه نص يعرفونه أو لم يعرفوا فيه نصا رأى كلاما لا يأتي بمثله سالم لدماغ أصلا إلا أن يكون سالكا سبيل المجون والسخافة ونعوذ بالله من الخذلان فصل الحكيم إلا لعلة قال أبو محمد وقالوا الحكيم بيننا لا يفعل إلا لعلة صحيحة والسفيه هو الذي يفعل لا لعلة فقاسوا ربهم تعالى على أنفسهم وقالوا إن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لمصالح عباده وراموا بذلك إثبات العلل في الديات قال أبو محمد وتكاد هذه القضية الفاسدة التي جعلوها عمدة لمذهبهم وعقدة تنحل عنها فتاويهم تكون أصلا لكل كفر في الأرض وأما على التحقيق فهي أصل لقول الدهرية الذين جعلوا برهانهم في إبطال الخالق لما رأوا الأمور لا تجري على المعهود فيما يحسن في عقولهم وأنه لا بد من علة للمفعولات وإذ لا بد من علة فلا بد لتلك العلة من علة وهكذا أبدا حتى يوجبوا كون أشياء لا أوائل لها وهي أيضا أصل لقول من قال إن الفاعل للعالم إنما هو النفس وأما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 الله تعالى فيحل عن أن يحدث هذه الأقذار في العالم وهذا الظلم الظاهر من استطالة بعض الحيوان على بعض وهي أيضا أصل لقول من قال إن للعالم لم يزل وخالقه تعالى لم يزل لأنهم جعلوا علة الخلق وجوده تعالى ووجوده لم يزل فخلقه لم يزل وهي أيضا أصل لقول من قال بأن العالم له خالقان من المانية والديصانية لأنهم قالوا تعالى الله عن أن يفعل شيئا من غير الحكمة ولغير مصالح عباده فصح بذلك عندهم أن خالق السفه والشر ومضار العباد خالق آخر تعالى عن ذلك علوا كبيرا وهي أيضا أصل لقول من قال بالتناسخ لأنهم قالوا محال أن يعذب الحكيم من لم يذنب وأن يفعل شيئا إلا لعلة ومحال أن يعذب أقواما ليعظ آخرين أو ليجازي بذلك آخرين أو ليجازيهم بذلك وهو قادر على المجازاة بلا أذى ذلك هذا عبث فيما بيننا فلما رأيناه تعالى يعذب الأطفال بالجدري والقروح والجوع ويسلط بعض الحيوان على بعض علمنا أن ذلك لذنوب تقدمت لأنفس ذلك الحيوان وأولئك الصبيان وأنهم قد كانوا بالغين عصاه قبل أن تنسخ أرواحهم في أجسام الصبيان والحيوان وهي أيضا أصل لقول من أبطل النبوات كالبراهمة ومن اتبعها فإنهم قالوا ليس من الحكمة أن يبعث الله تعالى نبيا إلى من يدري أنه لا يؤمن به قال أبو محمد ثم حسدتهم المعتزلة على هذه القضية فأخرجوا على حكم الله تعالى وعن خلقه وقدرته وجميع أفعال العباد فضلوا ضلالا بعيدا وأثبتوا خالقين كثيرا غير الله تعالى وسلم الله تعالى من هذه البلية أهل الإثبات فنفس عليهم إبليس اللعين عدو الله السلامة فبغي لهم الغوائل ونصب لهم الحبائل ووسوس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 لهم القول بالعلل في الأحكام فوقعوا في القضية الملعونة التي ذكرنا وأصحب الله تعالى عصمته منها أصحاب الظاهر فثبتوا على الجادة المثلى وتبرؤوا إلى الله تعالى من أن يتعقبوا عليه أحكامه أو أن يسألوه لم فعل كذا أو أن يتعدوا حدوده أو أن يحرموا غير ما حرم ربهم أو أن يوجبوا غير ما أوجب تعالى أو أن يحلوا غير ما أحل عز وجل ولم يتجاوز ما أخبرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم فاهتدوا بنور الله التام الذي هو العقل الذي به تعرف الأمور على ما هي عليه ويمتاز الحق من الباطل ثم بنص القرآن وبيان رسول الله صلى الله عليه وسلم للدين إذ لا سبيل إلى السلامة في الآخرة إلا بهذين السبيلين والحمد لله رب العالمين وهو المسؤول أصحاب الهداية حتى نلقاه على أفضل أحوالنا آمين قال أبو محمد وكل هذه المقالات الفاسدة التي ذكرنا قد بينا بطلانها بالبراهين الضرورية في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل في الملل والنحل والحمد لله رب العالمين ونقول في ذلك ههنا قولا كافيا يليق بغرض كتابنا هذا إن شاء الله تعالى فنقول وبالله تعالى التوفيق إن أول ضلال هذه المسألة قياسهم الله تعالى على أنفسهم في قولهم إن الحكم بيننا لا يفعل شيئا إلا لعلة فوجب أن يكون الحكيم عز وجل كذلك قال أبو محمد وهم متفقون على أن القياس هو تشبيه الشيء بالشيء فوجب أنهم مشبهون الله تعالى بأنفسهم وقد أكذبهم الله تعالى في ذلك بقوله {فاطر لسماوات ولأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن لأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو لسميع لبصير} ولو أن معارضا عارضهم فقال لما كنا نحن لا نفعل إلا لعلة وجب أن يكون تعالى بخلافنا فوجب ألا يفعل شيئا لعلة لكان أصوب حكما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 وأشد اتباعا لقوله {فاطر لسماوات ولأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن لأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو لسميع لبصير} وبالله تعالى التوفيق وأيضا فإنهم بهذه القضية الفاضحة قد أدخلوا ربهم تحت الحدود والقوانين وتحت رتب متى خالفها لزمه السفه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذا كفر مجرد دون تأويل ولزمهم إن طردوا هذا الأصل الفاسد أو يقولوا لما وجدنا الفعل منا لا يكون إلا جسما مركبا ذا ضمير وفكرة وجب أن يكون الفعال الأول جسما مركبا ذا ضمير وفكرة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا قال أبو محمد فهذا يلزمهم كما ذكرنا ثم نبين بالبرهان الضروري بطلان قضيتهم من غير طريق إلزامهم طردها فنقول بالله تعالى التوفيق إن الحكيم منا إنما صار حكيما لأنه انقاد لأوامر ربه تعالى ولتركه نواهيه فهذا هو السبب الموجب على الحكيم منا ألا يفعل شيئا إلا لمنفعة ينتفع بها في معاده أو لمضرة يستدفعها في معاده وأما الباري تعالى فلم يزل وحده ولا شيء معه ولا مرتب قبله فلم يكن على الله تعالى رتبة توجب أن يقع الفعل منه على صفة ما دون غيرها بل فعل ما فعل كما شاء ولم يفعل ما لم يفعل كما لم يشأ فبطل تشبيههم أفعال الحكيم منا بأفعال الباري تعالى وأيضا فإنا لم نسم الله تعالى حكيما من طريق الاستدلال أصلا ولا لأن العقل أوجب أن يسمى تعالى حكيما وإنما سميناه حكيما لأنه سمى بذلك نفسه فقط وهو اسم علم له تعالى لا مشتق ويلزم من سمى ربه تعالى حتما من طريق الاستدلال أن يسميه عاقلا من طريق الاستدلال وقد بينا فساد هذه الطريقة وبطلانها وضلالها في كتاب الفصل فبطلت قضيتهم الفاسدة جملة وصح أنها دعوة فاسدة منتقضة وأما قولهم إنه تعالى يفعل الأشياء لمصالح عباده فإن الله تعالى أكذبهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 بقوله {وإما تعرضن عنهم بتغآء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا} فليت شعري أي مصلحة للظالمين في إنزال ما لا يزيدهم إلا خسارا بل ما عليهم في ذلك إلا أعظم الضرر وأشد المفسدة ولقد كان أصلح لهم لو ينزل وما أراد الله تعالى بهم مصلحة قط ولكنهم من الذين قال تعالى فيهم {وترى لشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات ليمين وإذا غربت تقرضهم ذات لشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات لله من يهد لله فهو لمهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} قال أبو محمد ويقال لهم المصلحة جميع عباده فعل تعالى ما فعل أم لمصلحة بعضهم فإن قالوا لمنفعة جميعهم كابروا وأكذبهم العيان لأن الله تعالى لم يبعث قط موسى عليه السلام لمنفعة فرعون ولا لمصلحته ولا بعث محمدا صلى الله عليه وسلم لمنفعة أبي جهل ولا لمصلحته بل لمضرتهما ولفساد آخرتهما ودنياهما وهكذا القول في كل كافر لو لم يبعث الله من كذبوه من الأنبياء لكان أصلح لدنياهم وآخرتهم وأيضا فلا شيء في العالم فيه مصلحة لإنسان إلا وفيه مضرة لآخر فليت شعري ما الذي جعل الصلاح على زيد بفساد عمرو حكمه وكل من فعل هذا بيننا فهو سفيه بل هو أسفه السفهاء والله تعالى يفعل كل ذلك وهو أحكم الحكماء فيلزمهم على قياسهم الفاسد وأصلهم الفاضح أن يسفهوا ربهم تعالى لأنه عز وجل يفعل ما هو سفه بيننا لو فعلناه نحن وقد وجدنا من أعرى بين الحيوانات بيننا حتى تتقابل كالديكة والكباش والقبج وقتلها لغير أكل أنه غاية السفه والباري تعالى يفعل كل ذلك ويقتل الحيوانات لغير أكل ويسلط بعضها دون مثوبة للقاتل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 منهما ولا المقتول وهو أحكم الحاكمين وهذا خلاف الرتبة بيننا فبطل قوله إن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لمصالح عباده وصح بالضرورة أنه يفعل ما يشاء لصلاح ما شاء ولفساد ما شاء ولنفع من شاء ولضر من شاء ليس ههنا شيء يوجب إصلاح من صلح ولا إفساد من أفسد ولا هدي من هدى ولا إضلال من أضل ولا إحسان إلى من أحسن إليه ولا الإساءة إلى من أساء إليه لكن فعل ما شاء {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} وهم دائبا يسألون ربهم لم فعلت كذا كأنهم لم يقرؤوا هذه الآية نعوذ بالله من الخذلان ونجده عز وجل قد حبب بين زوجين حتى أطاعاه وحبب بين آخرين حتى عصياه واشتغلا بما هما فيه عن الصلاة في أوقاتها وجذم صالحا وطالحا وسلم صالحا وطالحا وابتلى قوما فصبروا وابتلى قوما فكفروا وعافى قوما فصبروا وشكروا وعافى آخرين فبطروا وكفروا وعمر صالحا وصالحا أقصى العمر واخترم صالحا وطالحا في حداثة السن وجعل عيسى عليه السلام نبيا حين سقوطه من بطن أمه وآتى يحيى الحكم صبيا وبسط لفرعون أنواع الغرور حتى قال أنا ربكم الأعلى وخلق قوما ألباء فهماء كفارا كالفيومي اليهودي وأبي ريطة اليعقوبي وقوما ألباء فهماء مسلمين وقوما بلداء كفارا وقوما بلداء مسلمين فبأي شيء استحق عنده هؤلاء أن يرزقهم الفهم وهؤلاء أن يمنعهم إياه فإن قالوا لو رزق بلداء الكفار الفهم لكانوا ضررا على المسلمين أريناهم من ذكرنا ممن كان ضررا عليهم فصح تناقضهم وأكذبهم الباري عز وجل بقوله إنما نملى لهم ليزدادوا إثما وبقوله تعالى أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات فأخبر تعالى أنه إنما أملى لهم لضررهم لا لنفهم ولا لمصلحتهم وكذلك يكذبهم أيضا إنما يريد الله أن يعذبهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون وكذلك قال تعالى أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم فأبان الله تعالى كذبهم في قولهم إن الله تعالى إنما يفعل الشرائع لمصالح عباده وأيضا فقد كان أصلح لهم أن يدخلهم الجنة دون تكليف عمل ولا مشقة واحتج بعضهم في ذلك بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننساأها نأت بخير منها أو مثلها قال أبو محمد وهذا لا حجة لهم فيه لأن الناسخة إنما صارت خيرا لنا معشر المؤمنين بها خاصة إذ جعلها الله تعالى خيرا لنا لا قبل ذلك ولم يكن قط هنا سبب يوجب أن تكون خيرا لنا إلا أنه تعالى شاء ذلك بلا سبب ولا علة أصلا ويقال لهم وبالله تعالى التوفيق متى كانت الناسخة خيرا لنا إذ نسخ بها ما تقدم أو قد كنت خيرا لنا قبل أن يسنخ ما تقدم قإن قالوا كانت خيرا قبل أن يخاطبنا بها فقضوا أصلهم وأثبتوا أنه تعالى قد منعنا ما هو خير لنا مدة طويلة وإن قالوا بل صارنت خيرا لنا إذا نسخت هبا ما تقدم وإذ خاطبنا وأبطل بها الرتبة الأولى قيل لهم وما الذي أوجب أن تصير حينئذ خيرا لنا وما الذي أوجب أن تنتقل الرتبة الأولى عن كونها خيرا لنا أعلة متقدمة حكمت على البارى تعالى بذلك أم أنه شاء ذلك فقط فإن قالوا بل علة أوجبت ذلك على البارى عز وجل كفروا بإجماع الأمة وجعلوا الله تعالى مدبرا مصرفا تعالى الله عن ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 فإن قالوا بل إنه شاء ذلك فقط رجعوا إلى أنه تعالى شاء ما فعل بلا علة أصلا ولم يشأ ما لم يفعل وأنه تعالى يريد ضلال من ضل ولم يرد به الهدى ولا المصلحة أصلا وبالله تعالى التوفيق وقد بين تعالى ذلك بقوله وفي آذانهم وقرا وبقوله تعالى ختم الله على قلوبهم فليت شعرى أي صلاح إرادة الله تعالى لمن ختم على قلبه وجعل في أذنيه وقرا عن قبول الحق نعوذ بالله من أن يريد منا ما أراد بهؤلاء ونقول لمن قال إنه تعالى أراد صلاحهم أن يدعو ربه أن يريد به من الصلاح ما أراد بهم ونجده تعالى خلق الكلب مضروبا به المثل في الرذالة والخنزير رجسا وخلق الخيل في نواصيها الخير فأي علة وأي سبب أوجب على هذه الحيوانات أن يرتبها هكذا وما الذي أوجب أن يخترع بعضها نجسا وبعضها مباركا وبأي شيء استحقت ذلك قبل أن يكون منها فعل أو قبل أن توجد وأي علة أوجبت أن يخلق ما خلق من الأشياء على عدد ما دون ان يخلق أكثر من ذلك العدد أو أقل وأن يخلق الخلد أعمى والسرطان صارفا بصره أمام ووراء أي ذلك شاء والأفعى أضر من الخلد ولها بصر حاد فإن قالوا خلقها لتعتبر بها وعذب الأطفال بالأمراض ليعوضهم أو ليأخر آباءهم فهذا كله فاسد لأنه قد كان يعتبر ببعض ما خلق كالاعتبار بكله ولو زاد في الخلق لكان الاعتبار أكثر فلزم التقصير على قولهم تعالى الله على ذلك ولا فساد فيما بيننا أعظم من فعل من عذب آخر ليعطيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 على ذلك مالا أو من فعل من عذب إنسانا لا ذنب له يعظ به آخر أو ليثبت على ذلك آخر وكل هذا يفعله البارى تعالى وهو أحكم الحاكمين فبطل قولهم إن الحكيم لا يفعل شيئا إلا لعلة قياسا على ما بيننا وأي فرق بين ذبح صغار الحيوان لمنافعنا وبين ذبح صغارنا لمنافعنا فيذبح ولد عمرو لمصلحة زيد إلا أن الله تعالى شاء فأباحه ولم يشأ هذا فحرمه ولو أحل هذا وحرم ذلك لكان عدلا وحكمة وإذا لم يفعله تعالى فهو سفه ولا علة لكل ذلك أصلا وقد أباح تعالى سبى نساء المشركين وأطفالهم واسترقاقهم قهرا وتملكنا رقابهم وأخذنا أموالهم غصبا لذنوب وقعت من آبائهم والدليل على أن ذلك لذنوب آبائهم أن آبائهم لو أسلموا لحرم علينا سبى أولادهم وتملكهم فما الذي جعل الأبناء مؤاخذين بذنوب غيرهم أو ما الذي جعل مصلحة أولى من مصلحة ابائهم وكل لا ذنب له لو فعل ذلك فاعل بيننا بغير نص من الله تعالى أما كان يكون أظلم الظالمين وأسفه السفهاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 الباب الأربعون وهو باب الكلام في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذورا به ومن يقطع على أنه خطأ عند الله تعالى فيما أراد إليه اجتهاده ومن لا يقع على أنه مخطىء عند الله عز وجل وإن خالفناه قال أبو محمد علي بن أحمد رحمه الله لفظة الاجتهاد مما يجب معرفة تفسيرها لأن أكثر المتكلمين في الاجتهاد وحكمه لا يعلمون معنا فنقول وبالله تعالى التوفيق إن حقيقة بناء لفظة الاجتهاد أنه افتعال من الجهد وحقيقة معناها أنه استنفاد الجهد في طلب الشيء المرغوب إدراكه حيث يرجى وجوده فيه أو حيث يوقن بوجوده فيه هذا مالا خلاف بين أهل اللغة فيه والجهد بضم الجيم الطاقة والقوة تقول هذا جهدي أي طاقتي وقوتي والجهد بفتح الجيم سوء الحال وضيقتها تقول القوم في جهد أي في سوء حال فإذ ذلك كذلك فالاجتهاد في الشريعة هو استنفاد الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم ما لا خلاف بين أحد من أهل العلم بالديانة فيه قال أبو محمد وإنما قلنا في تفسير الاجتهاد العام حيث يرجى وجوده فعلقنا الطلب بمواضع الرجاء وقلنا في تفسير الاجتهاد في الشريعة حيث يوجد ذلك الحكم فلم نعلقه بالرجاء لأن احكام الشريعة كلها متيقن أن الله تعالى قد بينها بلا خلاف ومن قال إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يبن لنا الشريعة التي أراها الله تعالى منا وألزمنا إياها فلا خلاف في أنه كافر فأحكام الشريعة كلها مضمونة الوجود لعامة العلماء وإن تعذر وجود بعضها على بعض الناس فمحال ممتنع أن يتعذر وجوده على كلهم لأن الله تعالى لا يكلفنا ما ليس في وسعنا ما نعذر وجوده على الكل فلم يكلفنا الله تعالى إياه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 قط قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وقال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وبالضرورة ندرى أي تكليف أصابه مالا سبيل إلى وجوده حرج فصح قولنا وبالله تعالى التوفيق ثم اتفق العلماء على أن القرآن وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قاله أو فعلعه أو أقره وقد علمه مواضع لوجود أحكام النوازل واختلفوا في نقل السنن على ما ذكرناه قبل وبينا البرهان هنالك بحول الله تعالى وقوته على وجوب قبول الخبر المسند بنقل العدول ثم اختلفوا فقالت طائفة لا موضع البتة لطلب حكم النوازل من الشريعة ولا وجود إلا هذه المعادن التي ذكرنا أما نص على اسم تلك النازلة وأما دليل منها على حكم تلك النازلة لا يحتمل إلا وجها واحدا وهذا قول جميع أهل الإسلام قطعا وإن اختلفوا في الطرق التي توصل إلى معرقة السنن وهو قول جميع اصحابنا الظاهريين وبه نأخذ وقد بينا أقسام الدليل المذكور فيما سلف من ديواننا هذا وحضرناها هنالك والحمد لله رب العالمين وقال آخرون بل ههنا مواضع أخر يطلب فيها حكم النازلة وهي الخبر المرسل وقال الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة إذا اشتهر وقال آخرون وإن لم يشتهر وقول الإمام الوالي منهم ودليل الخطاب والقياس والرأى المجرد والاستحسان وقول أكثر العلماء وعمل أهل المدينة والأخذ بقول عالم وإن كان له مخالف مثله وقد شرحنا معانى هذه الأسماء وأبطلنا الحكم بكلها أو بشيء منها بالبراهين الضرورية فيما سلف من كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين فأما تعلق قوم فيما اعتقدوه من أحكام بعض النوازل بقول صاحب له مخالفون أو بقول تابع أو بقول فقيه من الفقهاء المتقديم وإن خالفه غيره من أهل العلم فهذا هو التقليد الذي قد تكلمنا في إبطاله فيما سلف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 من كتابنا هذا والحمد لله رب العالمين قال أبو محمد وليس للمتكلمين في الديانة اليوم قول يكون عندهم اجتهادا غير ما ذكرنا وقد كانت أقوال في ذلك لقوم من أهل الكلام قد درست مثل قول بعضهم إن ما وقع في النفس من أول الفكر فهو الواجب ان يقال به وقال بعضهم الواجب أن يقال بالأثقل لأنه خلاف الهوى وقال بعضهم بل الأخف منها لقول الله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر قال أبو محمد وهذه أقوال فاسده لأنها كلها دعاوى يعارض بعضها بعضا وكل ما ألزمنا الله تعالى فهو يسر وإن نقل علينا وكل شريعة تتكلف فهى خلاف الهوى لأن تركها كان موافقها للهوى لأنه قد يقع في أوائل الفكر الوسواس وقال تعالى ذاما لقوم شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ومن قطع بشيء مما يقع في نفسه من الدين فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى وقال تعالى قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فنص تعالى على أن من لا برهان له فليس بصادق وقال تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم فهذا يدفع قول من قال بالأخف وقال تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج وهذا يدفع قول من قال بالأثقل وصح أنه لا لازم إلا ما ألزمنا الله تعالى وسواء وقع في النقس أو لم يقع وسواء كان أخف أو أثقل قال أبو محمد وإذ قد انحصرت وجوه الاجتهاد إلى ما قد وضحنا براهينه من القرآن أو الخبر المسند بنقل الثقات إلى النبي صلى الله عليه وسلم أما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 نصا على الإسم وإما ليلا من النص لا يحتمل إلا معنى واحدا وسقط كل ما عداها من الوجوه التي قد حصرت فالواجب أن ننظر في أقسام المجتهدين فنظرنا في ذلك فوجدنا أقسام المجتهدين بقسمة العقل الضرورية لا تخرج عن ثلاثة أقسام عندنا وأما عند الله تعالى فقسمان لا ثالث لهما فالقسمان اللذان عند الله تعالى إما مصيب أو مخطىء لا بد أن يكون كل مجتهد عند الله تعالى واقعا في التعيين إما مصيب وإما مخطىء فقد أوضحنا فيما سلف من كتابنا هذا البراهين الضرورية على أن الحق لا يكون في قولين مختلفين في حكم واحد في إنسان واحد في وجه واحد وأما الثلاثة أقسام التي عندنا فمصيب تقطع على صوابه عند الله عز وجل أو مخطىء نقع على خطئه عند الله عز وجل أو متوقف فيها لا ندري أمصيب عند الله تعالى أو مخطىء وإن أيقنا أنه في أحد الحيزين عند الله عز وجل بلا شك لأن الله تعالى لا يشك بل عنده علم حقيقة كل شيء ولكنا نقول مصيب عندنا أو مخطىء عندنا والله أعلم أو نتوقف فلا نقول إنه مخطىء ولا مصيب وإنما هذا فيما لم يقم على حكمه عندنا دليل أصلا وما كان من هذه الصفة فلا تحل الفتيا فيه لمن لم يلح له وجهه إذ لا شك في أن عند غيرنا بيان ما جهلناه كما أن عندنا بيان كثيرا مما جهله غيرنا ولم يعر بشر من نقص أو نسيان أو غفله فإذا قال البرهان عند المرء على صحة قوله ما قياما صحيحا فحقه التدين به والعمل به والدعاء إليه والقطع أنه الحق عند الله عز وجل لما ذكرنا قبل وليس من هذا الحكم بالشهادة من العدلين وقد يكونان في باطن أمرهما عند الله تعالى كاذبين أو مغفلين وإذ لم يكلفنا الله تعالى معرفة باطن ما شهدا به ولكن كلفنا الحكم بشهادتهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 وقد عملنا أنه لا يمكن أن يخفى الحق في الدين على جميع المسلمين بل بل لا بد أن تقع طائفة من العلماء على صحة حكمه بيقين لما قدمنا في كتابنا في هذا من أن الدين مضمون بيانه ورفع الإشكال عنه بقول الله تعال تبيانا لكل شيء وبقوله تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم ولكن قد قال الله تعالى وليس عليكم جناح فيما اخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم فصح بالنص أن الخطأ مرفوع عنا فمن حكم بقول ولم يعرف أنه خطأ وهو عند الله تعالى خطأ فقد أخطأ ولم يتعمد الحكم بما يدري أنه خطأ فهذا لا جناح عليه في ذلك عند الله تعالى وهذه الآية عموم دخل فيه المفتون والحكام والعاملون والمعتقدون فارتفع الجناح عن هؤلاء بنص القرآن فيما قالوه أو عملوا به مما هم مخطئون فيه وصح أن الجناح إنما هو على من تعمد بقلبه الفتيا أو التدين أو الحكم أو العمل بمن يدرى أنه ليس حقا أو بما لم يقدم إليه دليل أصلا وصح بهذه الآية أن من قام عنده برهان على بطلان قول فتمادى عليه فهو في جناح لأنه قد تعمد بقلبه ذلك وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإذا اجتهد فأصاب فله أجران وقد ذكرناه بإسناده فيما سلف من كتابنا هذا فأغنى عن إعادته فنص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر فيما أداه اجتهاده إلى أنه حق عنده وأسقط عنه بذلك الإثم وإن كان مخطئا في الحقيقة عند الله تعالى قال أبو محمد واعتقاد الشيء والعمل به والفتيا به حكم به فدخل هؤلاء تحت لفظ الحديث المذكور وعمومه فصح ما ذكرناه وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد ثم ينقسم المخطىء المجتهد قسمين لا ثالث لهما إما مخطىء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 معذور كما قلنا وإما مخطىء غير معذور على ما شهد به قول الله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم أن المخطىء المعذور هو الذي يتعمد الخطأ وهو الذي يقدر أنه على حق اجتهاده وأن المخطىء وغير المعذور هو من تعمد بقلبه ما صح عنده أنه خطأ أو قطع بغير اجتهاده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 فإن قال قائل فإنكم على هذا يلزمكم أن كل من قال من الصحابة أو من التابعين وفقهاء الأمة وخيارها بقول يخالف قولكم في كل مسألة فإنه داخل فيما ذكرتم من التكفير أو التفسيق أو الكذب وفي هذا ما فيه قلنا هذه دعوى منكم كاذبة بل هو اللازم لكم ولكل من قال إن الحق في واحد من الأقوال لأنكم في قوله لكم تزعمون في نصركم إياها أنها موافقة لما جاءه من عند الله تعالى إما لقرآن أو لسنة مسندة أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 مرسلة وهما عندكم سواء في أمر الله تعالى بقبوله أو لقياس بل هو عندكم مما أمر الله تعالى به فيلزمكم أن كل من خالفكم فيها من صاحب أو تابع أو فقيه مخالف لما جاء من عند الله تعالى والمخالف لما جاء من عند الله تعالى عندكم إما كافر وإما فاسق فإن قال لا يكون كافرا ولا فاسقا ولا عاصيا إلا أن يعاند الحق الذي جاء من عند الله تعالى وهو يدري أنه حق قلنا هذا نفس قولنا ولله الحمد فإن كل من خالف قرآنا أو سنة صحيحة أو إجماعا متيقنا وهو لا يلوح له أنه مخالف لشيء من ذلك فليس كافرا ولا عاصيا ولا فاسقا بل هو مأجور أجرا واحدا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن اجتهد فأخطأ ولا خطأ في شيء من الشريعة إلا في خلاف قرآن أو سنة صحيحة فهذا برهاننا من السنة وأما من القرآن فقوله تعالى للمسلمين {دعوهم لآبآئهم هو أقسط عند لله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في لدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيمآ أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان لله غفورا رحيما} ومن الإجماع أنه لا خلاف بين أحد من الأمة أن من قرأ فبدل من القرآن بلفظ آخر أو أسقط كلاما أو زاد ساهيا مخطئا فإنه لا يكفر ولا يبتدع ولا يفسق ولا يعصي وإنما الشأن فيمن قامت عليه الحجة فعند وخالف الآية بعد أن وقف عليها مقلدا أو متبعا لهواه أو خالف السنة بعد أن عرفها كذلك فهؤلاء هم الذين يقع عليهم التكفير والتفسيق على حسب خلافهم لذلك إن استحلوا خلاف ذلك كفروا وإن خالفوه معاندين غير مستحلين فسقوا وهكذا القول في الشريعة كلها ووطء الفرج الحرام وأكل الحرام واستباحة العرض الحرام والبشرة الحرام ونحو ذلك كل هذا من فعله مخطئا غير عالم أنه خالف ما جاء من عند الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فلا يكفر ولا يفسق ولا يعصي ومن فعله عامدا غير معتقد لإباحة ما حرم الله تعالى من ذلك فهو فاسق ومن فعله عامدا مستحلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 خلاف الله تعالى فهو كافر وقد نزه الله تعالى كل صاحب وكل فاضل عن هاتين المنزلتين وأوقع فيهما كل فاسق متبع هواه قاصدا إلى نصر الباطل والثبات عليه وهو يدري أنه باطل وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد فإذا قد صح كل ما قلناه فلنبين بحول الله تعالى وقوته وجوه الاجتهاد التي قدمنا وحكم من أخذ بوجه منها وفي أي خبر يقع عندنا من القطع بصوابه أو القطع بخطئه أو التوقف في أمره وبالله تعالى نعتصم فأول ذلك من تعلق بآية منسوخة فهذا لا يخلو من أحد وجهين إما أن تكون تلك الآية قد جاء نص منقول نقل تواتر بأنها منسوخة أو قال دليل متيقن النص أو الحال بأنها منسوخة فإن كان نسخها ثبت أحد هذه الوجوه فحكمها الثبات على ما بلغه من المنسوخ عند الله عز وجل بلا شك ما لم يثبت البرهان عنده بنسخها معذور مأجور مرتين فإذ قام عليه البرهان المذكور بأنها منسوخة فتمادى على ذلك من الأخذ بالمنسوخ معتقدا لصوابه في ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم كمن تمادى على القول بأن المتوفى عنها وصية إلى الحول أو على القول بالصلاة إلى بيت المقدس وما أشبه ذلك وأما إن قام الدليل عنده على أنها منسوخة من النص المتيقن كما ذكرنا إلا أنها مما اختلف الناس في نسخها فتمادى على القول بالمنسوخ وهو يعلم خلاف ذلك فهو فاسق عاص لله تعالى لتعمد قلبه القول بمخالفة الحق الصحيح فهو عامد كبيرة وبالله تعالى التوفيق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 فإن كانت تلك الآية مما قام الدليل على نسخها من نقل الآحاد وهو ممن يصحح مثل ذلك النقل فتمادى على القول بها فهو فاسق بتعمده مخالفة ما هو الحق عنده وإن كنا لا نقطع على أنه مخطىء وليس هذا فيما لم يأت من جهة الثقات مسندا فقط لكن من جهة من اختلف في توثيقه ولا بد ولا مزيد وهذا كمن رد شهادة العدلين من الحكام فيما يقبلان فيه بغير شيء يوجب رد شهادتهما فهذا فاسق لرده ما هو الحق عنده ولعله في باطن الأرض مصيب في ردها إذ لعلهما كاذبان أو مغفلان أو غاب عنهما سر تلك الشهادة فهذا أفضل وفصل ثان وهو أن يتعلق بآية مخصوصة مثل قوله {لئن أشركت ليحبطن عملك} فهذه خاصة فيمن مات كافرا ببرهان نص آخر فهذه أيضا ما لم يقم عنده برهان بأنها مخصوصة فحكمه الثبات على المخصوص الذي بلغه وهو مأجور مرتين حتى إذا قام عليه الدليل البرهاني بأنها مخصوصة فكما قلنا في الفصل الذي قبل هذا وفصل ثالث وهو أن يتعلق بآية قد خص منها بعضها كقوله تعالى {قل لا أجد في مآ أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير لله به فمن ضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} وكقوله تعالى {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} إلى قوله {ولمحصنات من لنسآء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب لله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما ستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد لفريضة إن لله كان عليما حكيما} وكقوله تعالى {ولسارق ولسارقة فقطعوا أيديهما جزآء بما كسبا نكالا من لله ولله عزيز حكيم} فهذا أيضا حكمه الثبات على ما بلغه وهو مأجور مرتين فإن قام عليه البرهان فتمادى فإن كان صحيحا عنده الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 فهو كافر كمن أحل الخمر بعموم هذه الآية أو أحل العبيد بملك اليمين وفصل رابع وهو أن يتعلق بآية مزيد عليها نص آخر كمن تعلق بقوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية إلى قوله {وأحل لكم ما وراء ذلكم} وقد زيد في هذه الآية تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ومثل هذا كثير فهذا أيضا حكمه الثبات على ما بلغه وهو مأجور مرتين ما لم يقل عليه دليل بالزيادة فإن كان الدليل صحيحا عنده فخالفه معتقدا خلاف النص فهو كافر وفصل خامس وهو أن يتعلق بآية فيصرفها عن وجهها كمن ادعى في قول الله عز وجل {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} وقوله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} أنهما مخالفان لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم باليمين مع الشاهد وموجبان ألا يحكم بأقل من الشاهدين أو شاهد وامرأتين قال أبو محمد وهذا تمويه تعمدوه أو جاز عليهم بغفلة أو صرف للآيتين عن وجههما وتمويه بوضعهما في غير موضعهما لأنه ليس في الآيتين المذكورتين أمر بالحكم بالشاهدين أو الشاهد والمرأتين أصلا ولا دليل على ذلك بوجه من الوجوه وإنما فيهما الأمر باستشهاد الشاهدين أو الشاهد والمرأتين المداينة والطلاق والرحمة فقط مع ما فيهما من قوله تعالى {وأشهدوا إذا تبايعتم} دون ذكر عدد إشهاد واحد يقع عليه اسم إشهاد وقوعا صحيحا في اللغة بلا شك فهو جائز بنص القرآن وكمن تعلق في إيجاب الزكاة بقوله تعالى {وآتوا حقه يوم حصاده} وهذا خطأ لأن إيتاء حق الزكاة فيما أنبتت الأرض لا يمكن يوم الحصاد وهي أيضا مكية والزكاة مدنية فصح أن من احتج بهذه الآية في أحكام الزكاة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 فصارف للآية عن وجهها فمن جهل هذه النكتة واحتج بهاتين الآيتين فيما ذكرنا فهو مخطىء لأنه لم يأمره الله تعالى قط بما ذهب إليه لكنه بجهله مأجور مرة معذور فإن وقف على ما ذكرنا فتمادى على قوله فهو فاسق أو كافر على ما قسمنا قبل مخطىء عند الله تعالى بيقين لما ذكرنا قبل قال أبو محمد وهذه الفصول كلها داخلة على من تعلق بالأحاديث كما ذكرنا قبل سواء بسواء كمن تعلق بحديث منسوخ أو مخصوص أو مخصوص منه أو مزيد عليه فهذا كما قلنا في الآيات سواء بسواء إلا أنه لا يكفر إلا برد حديث ثبت عنده وإن كان مختلفا في الأخذ به فكما قلنا في الآيات إن خالف في ذلك ما هو الحق عنده معتقدا لذلك فهو كافر مخطىء عند الله تعالى وإن خالف ذلك بلسانه دون قلبه فهو فاسق ومما ذكرنا أيضا قول من احتج في إباحة الصلاة في المقبرة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة السوداء وهو لا يبيح الصلاة على القبر وأما لو اتخذ بهذا لكان هذا منه قياسا لا صرفا للخبر عن وجهه وكمن احتج بقوله صلى الله عليه وسلم إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث في رد الحج عن الميت وترك للصيام عنه وترك كشف رأسه إن مات محرما ومنها أن يدعي المرء في عموم آية نسخا أو تخصيصا أو تخصيصا منها أو ندبا فإن حق له دعواه في ذلك بنص صحيح فقوله حق مقطوع على صحته عند الله عز وجل ومن قال إن هذه الآية أو الخبر قد نسخها الله عز وجل أو خصهما أو خصص منهما أو يلزمنا ما فيهما أو أراد بهما غير ما يفهم منهما ولم يأت على دعواه بنص صحيح فقد قال الله ما لم يعلم قال أبو محمد وليس هؤلاء كمن تقدم ذكرنا لهم لأن من تعلق بنص لم يبلغه ناسخه ولا ما خصه ولا ما زيد به عليه فقد أحسن ولزم ما بلغه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 وليس عليه غير ذلك حتى يبلغه خلافه من نص آخر ومن ذكرنا في هذا الفصل فلم يتعلق بشيء أصلا بل تحكم في الدين كما اشتهى وهذا عظيم جدا فمن قال بهذا ممن نشاهده ساهيا غير عارف بما اقتحم فيه من الدعوى فهو معذور بجهله ما لم ينبه على خطئه فإن نبه عليه فثبت على خلاف ما بلغه عامدا فهذا غير معذور لأنه خالف الحق بعد بلوغه إليه وأما من روي عنه شيء من ذلك من الصحابة أو التابعين أو ممن سلف ممن يمكن أن يظن به أنه سمع في ذلك نصا شبه له فيه فهؤلاء معذورون لأننا لا نظن بهم إلا أحسن الظن وقد حضنا الله تعالى على أن نقول {ولذين جآءوا من بعدهم يقولون ربنا غفر لنا ولإخواننا لذين سبقونا بلإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنآ إنك رءوف رحيم} قال أبو محمد ولا يقين عندنا أنهم تحكموا في الدين بلا شبهة دخلت عليهم ولا شك أنهم لم يتبين لهم الحق في ذلك وأما من نشاهده أو لم نشاهده ممن صح عندنا بيقين حاله ومقدار عمله فنحن على يقين أنه ليس عنده في ذلك أكثر من الدعوى والقول على الله تعالى بما لا يعلم فهؤلاء فساق راكبون أعظم الكبائر ونعوذ بالله من الخذلان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 ومنها أن يتعلق بدليل الخطاب أو بالقياس فهذا أيضا معذور مأجور مخطىء عند الله تعالى بيقين إلا أنه لا يفسق ما لم تقم عليه الحجة في بطلان هذين العلمين فإن قام بذلك عنده البرهان من النصوص الثابتة المتظاهرة فتمادى على القول بالقياس أو بدليل الخطاب فهو فاسق لأنه ثابت على ما لم يأذن به الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم كما قدمنا ومنها أن يتعلق بالرأي والاستحسان وهذا أضعف من كل ما تقدم إذ الشبهة المتعلق بها في هذين الوجهين في غاية الوهاء لأنه دليل على صحتهما بل البرهان قائم على بطلانهما إلا أنهم قد تعلقوا في ذلك بأثرين واهيين ساقطين مصروفين أيضا عن وجههما أحدهما الحديث المنسوب إلى معاذ إلا أن من شبه عليه فظن أنه مصيب في ذلك فهو معذور مأجور فإن قامت عليه الحجة بطلان الرأي والاستحسان فثبت على القول بهما فهو فاسق لحكمه في الدين بما لم يأذن به الله تعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 ومنها أن يتعلق بقول صاحب قد خالفه غيره من الصحابة أو بقول عالم ممن دونه ممن قد خالفه غيره من العلماء فهذا هو التقليد بعينه وليس من فعل هذا مجتهدا أصلا وهو حرام لا يحل فمن قد رأته معذور في ذلك ولم يبلغه المنع منه ولا بلغه أن ههنا عالما آخر مخالفا لهذا الذي تعلق به فهو معذور لأنه يظن أن هذا هو الحق وأما إذا بلغه أن عالما آخر مخالفا للذي تعلق هو به فهو فاسق لأنه ليس بيده شبهة أصلا يتعلق بها في اتباع رجل بعينه دون غيره بل هو ضلال مبين ونعوذ بالله من الخذلان وأما الوجوه التي لا تقع فيها على تفسيق المخالف لنا ولا على أنه مخطىء عند الله تعالى بل نقول نحن على الحق عند أنفسنا ومخالفنا عندنا مخطىء مأجور والله أعلم فأدق ذلك وأغمضه أن ترد آيتان عامتان أو حديثان صحيحان عامان أو آية عامة وحديث صحيح وفي كل واحدة من الآيتين أو في كل واحد من الحديثين أو في كل واحد من الآية والحديث تخصيص لبعض ما في عموم النص الآخر منهما وذلك مثل قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} مع قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات لأخ وبنات لأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من لرضاعة وأمهات نسآئكم وربائبكم للاتي في حجوركم من نسآئكم للاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم لذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين لاختين إلا ما قد سلف إن لله كان غفورا رحيما} وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن مع قوله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر الإمام وإذا قرأ القرآن فأنصتوا ومثل قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم فإن خصومنا يقولون {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وقد خص منه الأختين بملك اليمين قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وقلنا نحن إن قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} خص منه الأختين بملك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 اليمين قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} وقال خصومنا لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن خص منه المأموم قوله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن فأنصتوا وقلنا نحن قوله صلى الله عليه وسلم وإذا قرأ القرآن فأنصتوا خص أم القرآن منه قوله لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن وقال خصومنا قول الله تعالى خص النساء منه قوله صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم وقلنا نحن إن قوله صلى الله عليه وسلم لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم خص سفر الحج قوله تعالى {فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على لناس حج لبيت من ستطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن لله غني عن لعالمين} قال أبو محمد فهذا وإن رجعنا استعمالنا للحديثين بدليل لازم صحيح فإن متعلق خصومنا هنا قوي ووجه خطأ من أخطأ ههنا خفي جدا دقيق البتة لا يؤمن في مثله الغلط على أهل العلم الواسع والفهم البارع والإنصاف الشائع وليس كسائر ما قدمنا مما تقود إليه العصبية ولا يخفى وجه الخطأ فيه على من أنصف أو تورع هذا ما لم يوجد فيه نص يشهد لأحد الاستعمالين فإن وجد نص صحيح بذلك عاد الأمر إلى ما قد ذكرناه في الفصول المتقدمة ولا بد من وجوده لأن الله تعالى قد ضمن لنا بيان الدين بقوله تعالى {بلبينات ولزبر وأنزلنا إليك لذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون} فلا يجوز البتة أن يبقى في الدين شيء مشكل بل هو كله مقطوع على أنه بين بيانا جليا والحمد لله رب العالمين الوجه الثاني أن يرد حديثان صحيحان متعارضان أو آيتان متعارضتان أو آية معارضة لحديث صحيح تعرضا مقاوما في أحد النصين منع وفي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 الثاني إيجاب في ذلك الشيء بعينه لا زيادة في أحد النصين على الآخر ولا بيان في أيهما الناسخ من المنسوخ كالنص الوارد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب قائما والنص الوارد أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما فإن من ترك الخبرين معا ورجع إلى الأصل الذي كان يجب لو لم يرد ذلك الخبران أو رجع أحد الخبرين على المعارض له بكثرة رواته أو بأنه رواه من هو أعدل ممن روى الآخر وأحفظ وما أشبه هذا من وجوه الترجيحات التي قد أوردناها في باب الكلام في الأخبار من ديوننا هذا وبيان وجوه الصواب منها من الخطأ فإن هذا أيضا مكان يخفى بيان الخطأ فيه جدا وأما نحن فنقول بالأخذ الزائد شرعا إلا أننا نقول وبالله تعالى التوفيق إن من مال إلى أحد هذه الوجوه في مكان ثم تركه في مثل ذلك المكان وأخذ بالوجه الأخر مقلدا أو مستحسنا فما دام لم يوقف على تناقضه وتفاسد حكمه فمعذور مأجور حتى إذا وقف على ذلك فتمادى فهو فاسق عاص لله عز وجل لاتباعه الهوى قال الله تعالى {يداوود إنا جعلناك خليفة في لأرض فحكم بين لناس بلحق ولا تتبع لهوى فيضلك عن سبيل لله إن لذين يضلون عن سبيل لله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم لحساب} وكل من قال في الدين بقول لم يأت عليه ببرهان لكن بما وقع في نفسه الميل فإنه بيقين متبع لهواه والوجه الثالث أن يتعلق بحديث ضعيف لم يتبين له ضعفه أو بحديث مرسل أو ادعى تجريحا في راوي حديث صحيح إما بتدليس أو نحوه أو ادعى أن الناقل أخطأ فيه فمن اعتقد صحة ما ذكر من ذلك معذور مأجور حتى إذا ترك في مكان آخر مثل ذلك الحديث أو رد مرسلا آخر لإرساله فقط وأخذ بحديث آخر فيه من التعليل كالذي فيما قد رده في مكان آخر ووقف على ذلك فإن تمادى فهو فاسق وإن لم تقطع على أنه مخطىء عند الله عز وجل لكن لإقدامه على الحكم في الدين بما قد شهد لسانه ببطلانه في موضع آخر فهو متبع هواه فهو ضال بالنص كمن حكم شهادة فاسقين يعلم فسقهما فيما لا يدري هو صحة شهادتهما به أو رد شهادة عدلين يعلم عدالتهما بغير جرح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 ثبت عنده بل علم منه ببطلان ما شهدا به فهذا فاسق بإجماع الأمة كلها وإن كان في الممكن أن يكون قد صادف الحق عند الله تعالى ولكن لما أقدم على خلاف ما أمر به بغير يقين كان عاصيا لله تعالى ونعوذ بالله من الخذلان فإن قال قائل فكيف تقولون فيمن بلغه نص قرآن أو سنة صحيحة بخبر ليس من باب الأمر أنه قد جاء ذلك الخبر في نص آخر باستثناء منه أو زيادة عليه ولم يبلغه النص الثاني فجوابنا وبالله تعالى التوفيق إن هذا بخلاف الأمر لأن الأوامر قد ترد ناسخا بعضها بعضا فيلزمه ما بلغه حتى يبلغه ما نسخه وليس الخبر كذلك بل يلزمنا تصديق ما بلغنا في ذلك لأن الله تعالى لا يقول إلا الحق وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وعليه أن يعتقد مع ذلك أن ما كان في ذلك الخبر من تخصيص لم يبلغه أو زيادة لم تبلغه في حق ولا نقطع بتكذيب ما ليس في ذلك الخبر أصلا وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال لا تصدقوا أهل الكتاب إذا حدثوكم ولا تكذبوهم تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل أو كلاما هذا معناه فهذا حكم الأخبار الواردة في الوعظ وغيره وبالله تعالى التوفيق وما كان من الأخبار لا يحتمل خلاف نصه صدق كما هو ولزم تكذيب كل ظن خالف نص ذلك الخبر وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل لا إله إلا هو عليه توكلت قال أبو محمد علي بن أحمد رضي الله عنه قد انتهينا من الكلام في الأصول إلى ما أعاننا الله تعالى عليه ويسرنا له على حسب ما شرطنا في أول كلامنا في ديواننا هذا من التقصي والاستيعاب نسأل الله عز وجل أن يجعله لوجهه ودعاء إليه ونصرا له وأن يدخلنا بما من به علينا من ذلك في جملة من أثنى عليهم بقوله تعالى {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 هم المفلحون} وبقوله تعالى {لذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا لله ولولا دفع لله لناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها سم لله كثيرا ولينصرن لله من ينصره إن لله لقوي عزيز} قال أبو محمد فلنختم كلامنا بما ابتدأنا به فنقول والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وسلم تسليما ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151