الكتاب: السؤال في القرآن الكريم وأثره في التربية والتعليم المؤلف: أحمد بن عبد الفتاح ضليمي الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة الثالثة والثلاثون - العدد 111 - 1421هـ/2001م. عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- السؤال في القرآن الكريم وأثره في التربية والتعليم أحمد ضليمي الكتاب: السؤال في القرآن الكريم وأثره في التربية والتعليم المؤلف: أحمد بن عبد الفتاح ضليمي الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة الثالثة والثلاثون - العدد 111 - 1421هـ/2001م. عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] السؤال في القرآن الكريم وأثره في التربية والتعليم وأثره في التربية والتعليم إعداد د. أحمد بن عبد الفتاح ضليمي أستاذ مساعد بقسم التربية بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بسم الله الرحمن الرحيم ال مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن نعم الله على الإنسان عظيمة، وأفضاله عليه كثيرة، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1 ومن نعم الله على الإنسان منحة القدرة على التعلم، وتزويده بأدوات التعلم ووسائله، قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} 2 وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 3. وقد زوّد الإسلام المسلم بالمنهج السليم للتعلم، وأرشده إلى أدواته وطرائقه والتي من أهمها السؤال، فقال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 4 وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 5. ولأهمية السؤال في التعلم والتعليم فقد عدّه بعض علماء الإسلام مفاتيح العلم6، كما عدّه بعضهم نصف العلم7. والمتأمل في السؤال وأهميته يجد أنه يشغل حيزاً كبيراً وهاماً في النشاطات التعليمية والتربوية، بل ويشكل   1 سورة إبراهيم: آية:34. 2 سورة البقرة: آية:31. 3 سورة النحل: آية:78. 4 سورة النحل: آية:43. 5 سورة الفرقان: آية:59. 6 ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله: 1/89. 7 نفس المرجع: ص:90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 أهمية كبيرة لمختلف عناصر الموقف التعليمي من معلم ومتعلم وطريقة ومحتوى وتقويم وأهداف تعليمية. وانطلاقاً من هذه الأهمية بالإضافة إلى قلة البحوث التربوية الإسلامية في مجال السؤال ولا سيما ما يتعلق منها بالسؤال في القرآن الكريم تبرز أهمية هذا البحث والذي يهدف الباحث - من خلاله - إلى إلقاء الضوء على مكانة السؤال في القرآن الكريم، والآداب التي أرشد المتعلمين والمعلمين إلى التمسك بها في هذا الصدد، فضلاً عن بيان الخصائص التربوية للسؤال والجواب في ضوء المنهج التربوي القرآني، ويأمل الباحث أن يكون هذا البحث خطوة في طريق إبراز وبلورة منهج إسلامي تربوي متكامل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أهميةالسؤال التربوي أولا: قدم طريقة السؤال ... المبحث الأول: أهمية السؤال التربوية. أولاً: قدم طريقة السؤال. ثانياً: أهمية السؤال في التربية الحديثة: أ) - أهمية السؤال للطفل. ب) - أهمية السؤال للمتعلم. ج) - أهمية السؤال للمعلم. د) - أهمية السؤال للدرس وطريقة التدريس. هـ) - أهمية السؤال في مراحل التعليم المختلفة. ثالثاً: أهمية السؤال عند المربيين المسلمين المتقدمين. رابعاً: أهمية السؤال في السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 تمهيد: للسؤال أهمية بالغة في التربية والتعليم، وقد كان السؤال وما زال من أفضل الطرق التربوية وأحسنها أثراً وأعظمها نفعاً. ويُعدّ السؤال الطريقة التي يتعرّف الطفل من خلالها على العالم المحيط به، كما أنه يقدم الكثير من المنافع للمتعلم فيحرك تفكيره، ويثير نشاطه، ويقوي صلته بالموضوعات التي يدرسها، كما يعتمد المعلم على السؤال في تحقيق كثير من الأهداف التعليمية والتربوية، كما أن حسن استخدام المعلم للسؤال يعد آية نجاحه، ومقياس مهارته، ويعد السؤال قوام الدرس، وأساس الطريقة التدريسية، ولأهمية السؤال فإنه لا يمكن الاستغناء عنه في أي مرحلة من المراحل التعليمية، حيث تستمر الحاجة إليه من قبل المتعلم والمعلم على حد سواء. وانطلاقاً من أهمية السؤال ودوره في التربية والتعليم، فإننا سوف نعرض في هذا المبحث لأهمية السؤال التربوية لكل من المتعلم والمعلم، كما نبرز الاهتمام الذي أولته التربية الإسلامية السؤال والمكانة الرفيعة التي نالها في ضوء هذه التربية. أولاً: قدم طريقة السؤال تعدّ طريقة السؤال من أقدم الطرق التعليمية والتربوية التي عرفها الإنسان، حيث استعملت المجتمعات الإنسانية على اختلافها هذه الطريقة، فاستعملها المربون والمعلمون والمصلحون في تلك المجتمعات1.   1 د. محب الدين أبو صالح: أساسيات في طرق التدريس العامة؛ ص: 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وإن الذين درسوا تاريخ التربية يعلمون أن طريقة السؤال طريقة قديمة قدم التربية ذاتها1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ثانياً: أهمية السؤال في التربية الحديثة أ) - أهمية السؤال للطفل: (مرحلة ما قبل الابتدائية) يطلق البعض على هذه المرحلة مرحلة السؤال، حيث تكثر فيها أسئلة الطفل ويسمع فيها من الطفل دائماً (ماذا؟، لماذا؟، متى؟، أين؟، كيف؟، من؟، ... الخ) والطفل في هذه المرحلة علامة استفهام حية بالنسبة لكل شيء، فهو يحاول الاستزادة العقلية والمعرفية. إنه يريد أن يعرف الأشياء التي تثير انتباهه، وأن يفهم الخبرات التي يمر بها. ويقدر بعض الباحثين أن حوالي 10-15 % من حديث الطفل في هذه المرحلة يكون عبارة عن أسئلة. كما يشاهد سلوك الاستطلاع والاستكشاف بكثرة عند طفل الحضانة2. ب) - أهمية السؤال للمتعلم: يقوم السؤال بدور فاعل ومؤثر لدى المتعلم، حيث يجعله محور العملية التعليمية ومركز الفاعلية عوضاً عن المدرس3. ويقدم السؤال للمتعلم العديد من الفوائد والإيجابيات، وذلك كما يلي: 1- يعدّ السؤال عماد المعلم في تعليم صغار التلاميذ الذين لا يطيقون التلقي والاستماع طويلاً دون إثارة انتباههم وتجديد نشاطهم بالمناقشة وتوجيه   1 د. محمد عبد العليم مرسي: المعلم والمناهج وطرق التدريس؛ ص:191. 2 د. حامد عبد السلام زهران: علم نفس النمو؛ ص: 173. 3 د. محب الدين أبو صالح: المرجع السابق؛ ص:91. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الأسئلة1.كما تفيد الأسئلة في توجيه الأطفال إلى التعرف على صفات المحسات وخواصها2. 2 - يدفع السؤال والمناقشة المتعلم إلى إعمال العقل والتفكير لمعرفة ما يتصل بموضوع النقاش3. كما يقود السؤال التلاميذ إلى الطريقة الصحيحة للتفكير، كما يحدث عند قيام المتعلم بفحص الجزئيات والمقدمات، بغرض الوصول إلى العموميات والكليات4، كما يؤدي السؤال دوراً هاماً في الجانب العقلي لدى المتعلم، وذلك عندما يكسبه القدرة على الربط والموازنة والاستنتاج5. 3 - يؤدي السؤال إلى تركيز انتباه التلاميذ وإثارة اهتمامهم نحو الحقائق التي يراد الوصول إليها6. فالأسئلة تثير مزيداً من الانتباه والنشاط والحيوية في حجرة الدراسة، ولا سيما إذا كان الموضوع مما يتصل بميول التلاميذ وحاجاتهم ومشكلاتهم7. 4 - يقوم السؤال بإثارة نشاط التلاميذ ويجعلهم فاعلين، ويحملهم على الاشتراك العملي في الدرس8، فالأسئلة التي يطرحها المعلم تحمل التلاميذ على المشاركة والاستماع والفهم والسؤال عما لا يدركونه من الحقائق.   1 محمد صالح سمك: فن التدريس للتربية اللغوية؛ ص:933. 2 نفس المرجع: ص:935. 3 د. عبد الحميد الهاشمي: الرسول العربي المربي؛ ص:203. 4 محمد صالح سمك: المرجع السابق؛ ص:935. 5 عبد العليم إبراهيم: الموجه الفني لمدرسي اللغة العربية؛ ص:429. 6 د. جودت الركابي: طرق تدريس اللغة العربية؛ ص:60. 7 د. عبد الحميد الهاشمي: المرجع السابق؛ ص:452. 8 د. جودت الركابي: المرجع السابق؛ ص:59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 5 - يعمل السؤال على إقامة علاقة قوية ومستمرة بين التلاميذ وبين حقائق الدرس ومعلوماته، ومن ثم فهو يكفل حضور التلاميذ العقلي وارتباطهم بالدرس وعدم انقطاع صلتهم به ومتابعتهم إياه، كما يؤدي اتباع طريقة السؤال في التعليم إلى عدم ملل التلاميذ من الدروس كما يحدث عند الاقتصار على طريقة الإلقاء1. 6 - تؤدي طريقة الأسئلة والمناقشة إلى ثبات المعلومات واستمرارها لدى المتعلمين حيث يلاحظ أن المعلومات التي يصل إليها المتعلم بجهده عن طريق السؤال تتصف بالثبات والاستمرار فترة أطول من المعلومات التي تصله عن طريق التلقي ولا يبذل جهداً في معرفتها والتوصل إليها2. 7 - تعمل طريقة السؤال - في التدريس - على إكساب التلاميذ مهارات التحدث والاستماع، وإبداء الملاحظات، وتقبل الانتقادات3. 8 - تؤدي مشاركة المتعلم في الدرس من خلال المناقشة والسؤال إلى الشعور بقيمته الذاتية مما يعزز ثقته بنفسه ويدفعه نحو المزيد من النمو والتقدم في دراسته وتعلمه4. ج) - أهمية السؤال للمعلم: يعدّ توجيه الأسئلة إلى المتعلمين والإجابة عن أسئلتهم ووضع الأسئلة الملائمة لتقويم تعلمهم من أهم المهارات التي يحتاجها المعلم5.   1 عبد العليم إبراهيم: المرجع السابق؛ ص:428. 2 د. عبد الحميد الصيد الزنتاني: أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية؛ ص:206. 3 د. محب الدين أبو صالح: المرجع السابق؛ ص:91. 4 د. إبراهيم عباس نتو: أفكار تربوية؛ ص:158. 5 د. عبد الرحمن صالح: التربية العلمية، أهدافها ومبادؤها؛ ص:36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ولأن إتقان وضع الأسئلة وإجادة المعلم طريقة مناقشتها مع تلاميذه فن لا يتقنه إلا كل بارع عليم بطرق التدريس، خبير بطبائع التلاميذ، فقد عد استعمال طريقة السؤال مقياس مهارة المعلم، وجودة طريقته، ووضوح منهجه في التدريس1. ويُقدم استعمال السؤال في التدريس فوائد عديدة إلى المعلم من أهمها ما يلي: 1- دفع المعلم إلى التفكير العميق في جوانب الموضوع الذي يزمع القيام بتدريسه. 2 - تشجيع روح النقد الذاتي لديه لمراجعة أفكاره وخبراته بين الحين والآخر، فالحوار مع النفس أو الآخرين يعد من طرق التعلم الفاعلة، والتي ترافق الفرد في جميع مراحل حياته2. 3 - مناقشة ما يتلقاه من تلاميذه في الإجابة عن الأسئلة، وإصلاح ما قد يقعون فيه من خطأ3. 4 - اكتساب اليقظة والثقة بالنفس، وحضور البديهة، والاستعداد لحل أي مشكلة تعرض أثناء الدرس حلاً سريعاً وموفقاً4. 5 - اشتراك التلاميذ مع المعلم في استنباط المعلومات. 6 - يعد السؤال من أفضل الوسائل التي يستخدمها المعلم للمراجعة والتطبيق. 7 - كشف نواحي اهتمام التلاميذ وقدراتهم.   1 عبد العليم إبراهيم: المرجع السابق؛ ص:428. 2 د. عبد الحميد الهاشمي: المرجع السابق؛ ص:452. 3 محمد صالح سمك: المرجع السابق؛ ص:933. 4 نفس المرجع: ص:934. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 8 - حصر النقاط الهامة في الدرس وتلخيصها1. د) - أهمية السؤال للدرس وطريقة التدريس: لا يستطيع أحد أن ينكر ما للأسئلة من قيمة في التدريس فالسؤال قوام الطريقة التحاورية، وركن أساسي من أركان الطريقة الاستقرائية2. فهو يقوم بتنويع مسلكية الدرس، وذلك بالانتقال من الإلقاء إلى الحوار، فيقوم بذلك بتبديد السأم عن التلاميذ وتجديد نشاطهم3. كما أنه أشبه بالقوة الدافعة في الدرس، فيسير ويتحرك في اتجاه أهدافه4. كما أن الأسئلة تعتبر بحق الوسيلة المنظمة للمناقشة بين الطلاب والأساتذة5. كما تستخدم الأسئلة في جميع خطوات الدرس الأساسية من تمهيد، وعرض، وربط، وتعميم، وتطبيق6. وتستخدم طريقة الأسئلة والمناقشة في كثير من الدروس والخطوات الدرسية التفصيلية، فيستخدمها المعلم عقب سرد القصص، فيكون في توجيهها وإجابة التلاميذ عنها تدريب على الاستعمال اللغوي السليم. وما يقال عن الأسئلة والمناقشات عقب سرد القصص يقال عن الأسئلة والمناقشات عقب دروس المطالعة، فهناك أسئلة تعقب القراءة الصامتة، وأسئلة   1 د. محمد أحمد عبد الهادي: المربي والتربية الإسلامية؛ ص:99. 2 الطريقة الاستقرائية هي التي تبدأ بعرض الأمثلة وفحصها ومقارنتها وتنتهي باستنباط القاعدة. 3 نفس المرجع: ص:935. 4 عبد العليم إبراهيم: المرجع السابق؛ ص:428. 5 عبد الله بغدادي: الانطلاقة التعليمية في المملكة العربية السعودية؛ ص:111. 6 د. محب الدين ابو صالح: المرجع السابق؛ ص:71-76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 تتخلل المناقشات التفصيلية، وكذلك الحال في دروس التعبير عقب انتهاء المتحدث من حديثه1. هـ) - أهمية السؤال في مراحل التعليم المختلفة: للسؤال أهمية كبيرة في جميع مراحل التعليم: الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية والجامعية2 حيث تستخدم طريقة السؤال على نطاق واسع في المراحل الأولى من التعليم بل ويجب أن تكون عماد التدريس فيها، أما في المراحل المتقدمة فهي تقتصر في الغالب على مناقشة المقدمات للوصول إلى النتائج العامة، كما تستخدم للربط والاستنتاج3. وعلى الرغم من أهمية طريقة السؤال وشيوع استعمالها في جميع مراحل التعليم، إلا أن من الحقائق ما لا يمكن الوصول إليها عن طريق السؤال، ولا يستطيع التلاميذ استنباطها مهما دارت الأسئلة حولها، ولا سبيل لمعرفتها إلا بتوضيحها وإلقائها عليهم من قبل المعلم4.   1 محمد صالح سمك: المرجع السابق؛ ص:742. 2 د. عبد الحميد الهاشمي: المرجع السابق؛ ص: 453. 3 د. جودت الركابي: المرجع السابق؛ ص:60. 4 محمد صالح سمك: المرجع السابق؛ ص:935. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ثالثاً: أهمية السؤال عند المربيين المسلمين المتقدمين يبين أحد الدارسين المعاصرين1أن طريقة السؤال كانت من أهم الطرق التعليمية وأكثرها شيوعاً على امتداد التاريخ الإسلامي. وأن هذا الأسلوب كان معروفاً وشائعاً لدى الصحابة والتابعين ومن أوائل من طبق هذا الأسلوب علي   1. ماجد عرسان الكيلاني: تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية؛ ص: 80، 99، 131-132، 146 150-153، 194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 ابن أبي طالب - رضي الله عنه - والذي أثر عنه قوله: "العلم خزائن، ومفتاحه السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمحب لهم"1. وكان هذا الأسلوب شائعاً استعمله عبد الله بن عباس وشجع تلاميذه عليه، وكان يرى فيه أداة تساعد على تمييز التلاميذ ومعرفة مستوياتهم العلمية، كما استعمله الحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، وعكرمة2.وخلصت آراؤهم إلى أن المعلم إذا لم يتح للمتعلمين أن يسألوه ويسألهم ينقص علمه، ويتوقف نموه، وينتهي بهم جميعاً إلى ركود في التفكير، ومن هنا اهتموا بصياغة السؤال وحسن طرحه وقرروا أن ذلك نصف العلم"3. ومن العلماء الذين أكدوا على طريقة السؤال ودعوا إلى رعايتها والاهتمام بها: 1- علي بن محمد الماوردي (364-450هـ) : وقد شدّد على استعمال الأسئلة، وتشجيع المتعلم على السؤال، حيث كان يرى أن كثرة السؤال فيما التبس ليست إعناتاً، وأن الأسئلة مفاتيح العلم، وأن الأحاديث النبوية تحضّ المتعلم على السؤال، وأنها جعلت حسن السؤال نصف العلم4.   1 المرجع السابق: ص:80 نقلاً عن الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه 2/32 تحقيق: إسماعيل الأنصاري، الطبعة الثانية. 2 نفس المرجع والصفحة: نقلاًعن ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله: 1/139-140، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، الطبعة الثانية. 3 نفس المرجع والصفحة: نقلاً عن: ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله: 1/108. 4 المرجع السابق: نفس الصفحة: نقلاً عن الماوردي: أدب الدنيا والدين: تحقيق: مصطفى السقا: الطبعة الثالثة: ص: 1-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 2- أحمد بن علي الخطيب البغدادي (392-463هـ) : وقد ركزّ على أسلوبين من أساليب التعليم كان يرى أن لهما علاقة وثيقة بالاجتهاد والتحرر من التقليد، وهما: أسلوب الأسئلة، وأسلوب المناظرة1. 3- بدر الدين بن جماعة (639-733هـ) : وقد دعا المعلم - بعد فراغه من الدرس - أن يطرح بعض الأسئلة التي تكشف عن مدى فهم التلاميذ لما شرح، شريطة أن تنطلق هذه الأسئلة من منطلق واضح ومحدد2. كما يرى أن العلم إنما يتوصل إليه بطرح المسائل، ودعا إلى حسن فهم السؤال3. 4- ابن قيم الجوزية (691-751هـ) : وقد اهتم بالسؤال وأولاه عناية كبيرة، حيث أكدّ أن الحياء من معوقات التعلم وذلك بعدم السؤال4 وبيّن أن العلم له ست مراتب أولها حسن السؤال5. وفي أهمية السؤال في التعلم يقول الإمام ابن القيم: "من الناس من يحرم العلم لعدم حسن سؤاله، إما أنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم منه"6.   1 د. ماجد عرسان الكيلاني: المرجع السابق؛ ص:152. 2 نفس المرجع: ص:194: نقلاً عن: بدر الدين بن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم: ص:197-199، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار: الطبعة الثانية. 3 بدر الدين بن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم؛ ص:157-158. 4 ابن قيم الجوزية: العلم فضله وشرفه؛ ص:228. 5 نفس المرجع: ص:230. 6 نفس المرجع والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 5- عبد الرحمن بن خلدون (732- 808 هـ) : وقد اهتم اهتماما كبيراً بالسؤال والحوار، وكان يرى "أن أيسر طرق ملكة التعلم فتق اللسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلمية، فهو الذي يقرب شأنها ويحصل مرامها"1. فطريقة المناقشة عنده من أجدى وسائل التعلم، ولذلك أخذ على المغاربة عدم أخذهم بها في التعليم2.   1 عبد الرحمن بن خلدون: مقدمة ابن خلدون؛ ص:431. 2 حسين عبد الله با نبيلة: ابن خلدون وتراثه التربوي؛ ص:106، وانظر مقدمة ابن خلدون؛ ص:432. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 رابعاً: أهمية السؤال في السنة اهتمت السنة بالسؤال اهتماماً كبيراً، حيث يتضح هذا الاهتمام من استخدام النبي صلى الله عليه وسلم للسؤال وكثرة الطرق والموضوعات التي استخدمه فيها: 1- فقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار كوسيلة فاعلة ومؤثرة في تعليم أصحابه أمور دينهم وركائز عقيدتهم، وتوضيح كثير من الأمور الدينية والدنيوية التي تهمهم، ومن أمثلة ذلك: الحوار الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام، بطريقة مشوقة شدت انتباه الصحابة الحاضرين وهيأت عقولهم للتلقي والفهم ومتابعة الحوار من بدايته إلى خاتمته، بوعي وتركيز شديدين. 2- كما كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يكون أصحابه هم البادئون بالسؤال في بعض الأحيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلوني"، فجاء رجل فجلس عند ركبتيه، فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "لا تشرك بالله شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان ... الحديث" 1. ويؤخذ من هذا الحديث فوائد تربوية من أهمها: أ) - مشروعية ترغيب المتعلمين في أن يكونوا هم السائلين، ليكون التعليم مبنياً على رغبتهم، وليكون أشدّ وقعاً في نفوسهم. ب) - إجراء حوار أمام المتعلمين ليتابعوا الحوار، ويتعلموا منه أمور دينهم2. وهذه الطريقة ربما كانت مقصودة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: "هذا جبريل أراد أن تعلموا إذ لم تسألوا" 3. 3- وقد كانت طريقة السؤال تروق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: "نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل، فيسأله ونحن نسمع ... الحديث"4. 4- وقد استخدم أسلوب السؤال في السنة استخدامات كثيرة ومتنوعة منها ما يلي: - تعليم المسلمين أمور دينهم، كما في حديث جبريل المشار إليه آنفاً. - لفت أنظار المسلمين إلى بعض الأفعال التي يؤدي الوقوع فيها إلى سوء العاقبة والتي لا ينفع معها القيام بأعمال صالحة، كقوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما المفلس؟ … .الحديث" 5.   1 صحيح مسلم: 1/40، كتاب الإيمان، باب 1، ح: 7. 2 عبد الرحمن النحلاوي: أصول التربية الإسلامية؛ ص:206. 3 صحيح مسلم: 1/40، باب: 2، ح: 10. 4 المرجع السابق: 1/41: باب 3 ح 12 5 صحيح مسلم: 4/1997، كتاب البر والصلة والآداب: باب: 15، ح: 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 - التنبيه على بعض المفاهيم والحقائق الأساسية، وكيفية ترجمتها إلى جانب عملي مثل حقيقة الإسلام، والهجرة، وأنهما ليسا ادعاء، وإنما هما عمل وتطبيق. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" 1. - تصحيح مفاهيم وسلوكيات خاطئة، مثل مؤازرة الإخوان، والأقارب والأصدقاء، ونحوهم في الخير والشر. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قالوا: يا رسول هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: "تأخذ فوق يديه" 2. - غرس خصال الخير، وتشجيع العطاء والبذل لدى المسلم والتشجيع على التفكير. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: "هي النخلة" 3.   1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 1/53، كتاب الإيمان، باب: 4، ح: 10. 2 نفس المرجع: 5/98، كتاب المظالم، باب: 4، ح: 2443. 3 فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 1/145، كتاب العلم، باب: 4، ح: 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 المبحث الثاني: مكانة السؤال في القرآن الكريم أولاً: الحث على السؤال والترغيب فيه. ثانيا: السؤال في قصة موسى والخضر عليهما السلام . تمهيد: عني القرآن الكريم بالسؤال عناية كبيرة، فالسؤال في المنهج التربوي وسيلة من أهم وسائل التعلم، بل هو الأداة التي يتوصل عن طريقها إلى الإلمام بالحقائق والمعلومات التي يرغب المتعلمون في معرفتها، لذلك وجه القرآن إلى الانتفاع بأسلوب السؤال وحثّ عليه ورغّب فيه. وسوف نوضح في هذا المبحث الأهمية التي أولاها القرآن السؤال والمكانة التي تبوأها السؤال في ظل المنهج التربوي القرآني. أولاً: الحث على السؤال والترغيب فيه قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1 فقد وجه القرآن الكريم كفار قريش إلى سؤال علماء التوراة والإنجيل عن حقيقة إرسال الله رسلاً من البشر عندما استعظموا ذلك وأنكروا أن يرسل الله بشراً2،فكان سؤال أهل العلم والاختصاص وسيلة استخدمها القرآن لتثبيت حقيقة إيمانية، وترسيخها في النفوس، فلا يتطرق إليها الشك بعد ذلك وفي استعمال السؤال في التعلم، والانتفاع بسؤال أهل الخبرة والمعرفة، يقول أحد الدارسين: "من الأدبيات القرآنية المهمة في مجال العلم وجوب الرجوع إلى أهل الخبرة في كل علم وفن، وسؤال أهل الذكر في كل موضوع،   1 سورة النحل: آية: 43. 2 تفسير الطبري: م: 8، ج: 14، ص: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 فهم الذين يستطيعون أن يحلوا العقد، ويعالجوا العضل من المسائل والعويص من القضايا"1. وقد استعمل السؤال في القرآن لزيادة طمأنة الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن نبوته ورسالته وذلك بسؤال أهل التوراة والإنجيل عن وجود هذه الحقيقة في كتبهم2. قال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} 3. ومرة ثالثة يوجه القرآن الكريم إلى أخذ الحقائق من أهلها العارفين بها4 ويكون أقرب الطرق وأصدقها في ذلك هو السؤال، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 5.   1 د. يوسف القرضاوي: العقل والعلم في القرآن الكريم؛ ص:212. 2 تفسير الطبري: م: 7، ج: 11، ص:168. 3 سورة يونس: آية: 94. 4 تفسير القرطبي: م:7، ج: 13، ص: 63. 5 سورة الفرقان: آية: 58، 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ثانياً: السؤال في قصة موسى والخضر عليهما السلام لقد كان السؤال في هذه القصة من أهم طرق التعلم ووسائله، وقد حقق السؤال الكثير من الفوائد والإيجابيات، نبين بعضها في هذا الجزء من البحث، ونبين البعض الآخر في مكانها المناسب من البحث. وقد تكرر استعمال السؤال مرات عديدة في هذه القصة، وكان استعماله فيها جميعها استعمالاً راشداً وموفقاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 1- فقد استخدم نبي الله موسى عليه السلام السؤال ليعرف مكان الخضر عليه السلام ويتعلم منه، روى الإمام البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى فمرّ بهما أُبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيه، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ فقال أُبي: نعم سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه يقول: "بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: أتعلم أحداً أعلم منك؟ فقال موسى: لا فأوحى الله عز وجل إلى موسى: بلى عبدنا خضر. فسأل السبيل إلى لقيه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت الحوت فارجع فإنك ستلقاه ... الحديث"1. 2- كما استخدم عليه السلام السؤال في اتباعه الخضر والتعلم منه، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} 2 قال الإمام القرطبي في تفسير الآية: "هذا سؤال الملاطف المستنزل المبالغ في حسن الأدب، والمعنى هل يتفق لك ويخف عليك"3. وقد استخدم نبي الله موسى عليه السلام السؤال هنا لتحقيق أغراض منها: الاتباع، والتعلم الراشد. 3- إن طلب الخضر من نبي الله موسى أن لا يسأله عن شيء حتى يبينه له، يدل على أن السؤال من الوسائل الأولية والهامة لمعرفة أسباب القيام ببعض الأمور التي لا يرى لها حكماً ظاهرة، فيكون السؤال من أهم أسباب اجتلاء كنهها، ومعرفة أسرارها وخفاياها.   1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 1/173- 174. كتاب العلم: باب الخروج في طلب العلم: ح78. 2 سورة الكهف: آية: 66. 3 تفسير القرطبي: م:6، ج: 11، ص: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 4- إن السؤال هو الوسيلة الوحيدة التي استخدمها نبي الله موسى عليه السلام للتعبير عن إنكاره لما جرى أمام عينيه من تعدٍّ وظلم، كما كان ظاهر ما حدث، وذلك كما جاء في قوله تعالى: {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} 1 وقوله تعالى: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس} 2 وقوله تعالى: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} 3. 5- إن أسئلة نبي الله موسى المتكررة هي التي جعلت الخضر عليه السلام لا يجد مناصاً من تبيين حكمة ما فعل لموسى عليه السلام، وهذا يدل على فاعلية السؤال وقوة تأثيره في القصة، إذ أثمر معرفةً وفهماً وتفسيراً لأمور كانت أسبابها غير معروفة وغير ظاهرة للعيان. 6- إن التزام المتعلم بعدم سؤال المعلم فيما لا يجب أن يسأل فيه من الأسباب المؤدية إلى استمرار العلاقة بين المعلم والمتعلم وقوتها4، فالاستخدام الحكيم للسؤال يدل على أهمية السؤال في تحقيق الهدف المتقدم وغيره من الأهداف التعليمية والتربوية الإيجابية.   1 سورة الكهف: آية:71. 2 سورة الكهف: آية: 74. 3 سورة الكهف: آية: 77. 4 عبد الرحمن بن ناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 5/36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 آداب السؤال عند المتعلمين ... تمهيد يعدّ السؤال من أهم وسائل بناء الجانب التعليمي لدى المتعلم، فعن طريق السؤال يستطيع المتعلم أن ينمي هذا الجانب، وذلك بما يضيفه إليه من خبرات تعليمية عديدة ولكن استخدام السؤال من قبل المتعلم لتحقيق الهدف المتقدم لا يمكن أن يتحقق ما لم يلتزم المتعلم بضوابط ومعايير يتحقق في ضوء التمسك بها ذلك الهدف، لذلك أرشد المربون والمختصون في مجال التربية التعليم إلى ضرورة التزام المتعلم بتلك الضوابط والمعايير والتمسك بها من أجل تحقيق ما يطمح إليه. ولقد سبق القرآن الكريم إلى تنبيه المتعلم إلى تلك الضوابط والمعايير، وتوجيهه إلى ضرورة التحلي بها وجعلها أساساً ومنطلقاً لنشاطاته التعليمية، ومن أهم ضوابط وآداب السؤال التي أرشد إليها القرآن الكريم ما يلي: (1) - احتمال عناء السؤال: وقد قص علينا القرآن الكريم قصة رحلة نبي الله موسى عليه السلام وتحمله المشقة والتعب من أجل الالتقاء بالخضر عليه السلام والتعلم منه. ومما هو جدير بالذكر هنا أن سبب هذه الرحلة كان السؤال، فسؤال بني إسرائيل موسى عليه السلام أي الناس أعلم كان سبب خروجه وطلبه ملاقاة الخضر وقد احتل السؤال مكاناً بارزاً في القصة: مرة عند سؤال موسى عليه السلام الخضر أن يسمح باتباعه يتعلم منه، ومرات عند سؤاله عما كان يقوم به من أفعال لم تكن حكمتها ظاهرة لديه. وإذا كان السؤال يكلف صاحبه عناءً ومشقةً، إلا أن فيه فوائد جليلة ومنافع عظيمة. قال الإمام القرطبي: "في هذا - أي في رحلة موسى إلى الخضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 عليهما السلام - من الفقه: رحلة العالم في طلب الازدياد من العلم. واغتنام لقاء الفضلاء وإن بعدت أقطارهم، وذلك كان دأب السلف الصالح، وبسبب ذلك وصل المرتحلون إلى الحظ الراجح، وحصلوا على السعي الناجح، فركزت لهم في العلوم أقدام، وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام"1. وقال الزجاج: "فيما فعل موسى وهو من جملة الأنبياء من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته"2. وقال الشيخ السعدي: " في هذه القصة - قصة موسى والخضر - فضيلة العلم والرحلة في طلبه وأنه أهم الأمور، فإن موسى - عليه السلام - رحل مسافة طويلة ولقي النصب في طلبه، وترك القعود عند بني إسرائيل لتعليمهم وإرشادهم، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك"3. (2) - الحرص على السؤال والتعلم وقد وجه القرآن الكريم المتعلمين إلى الحرص على السؤال والتعلم حتى لو كان من يتعلم منه أقل فضلاً ممن يتعلم، فنبي الله موسى عليه السلام كان حريصاً على التعلم من الخضر مع كونه أفضل من الخضر، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} 4 قال الإمام الرازي: "إن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه واستجماع موجبات الشرف التام في   1 تفسير القرطبي: م:6، ج: 11، ص: 11. 2 فتح القدير: 3/299. 3 عبد الرحمن بن ناصر السعدي: المرجع السابق: 5/32. 4 سورة الكهف: آية: 66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 حقه، ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له"1. وقال الإمام الشوكاني: "في الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل، وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيوب ومعرفة البواطن"2. وقال الشيخ السعدي: "ومن فوائد الآية: تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه، فإن موسى بلا شك أفضل من الخضر"3. وقال: "كان موسى أعلم من الخضر بأكثر الأشياء، وخصوصاً في العلوم الإيمانية والأصولية، لأنه من أولي العزم من المرسلين الذين فضلهم الله على سائر الخلق بالعلم والعمل وغير ذلك"4. (3) - التلطف في السؤال ومن آداب المتعلم التلطف والتواضع والاستئذان عند سؤال المعلم، وقد كان نبي الله موسى في غاية التلطف عند سؤال الخضر في اتباعه والتعلم منه، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} 5.قال الإمام الشوكاني في تفسير الآية: "في هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في حسن الأدب، لأنه استأذنه أن يكون تابعاً له على أن يعلمه مما علمه الله من العلم"6. وفي الآداب التي اشتملتها الآية يقول الإمام الرازي:   1 تفسير الرازي: م: 11، ج: 21، ص: 144. 2 فتح القدير: 3/299. 3 عبد الرحمن بن ناصر السعدي: المرجع السابق: 5/32. 4 نفس المرجع: ص: 30. 5 سورة الكهف: آية: 66. 6 فتح القدير: 3/299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 "اعلم أن هذه تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر، فأحدها أنه جعل نفسه تابعاً له لأنه قال {هَلْ أَتَّبِعُكَ} ، وثانيها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية، فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع"1. وقال الإمام ابن القيم: "كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يلطف لابن عباس في السؤال، فيعزه بالعلم عزاً"2. وقال ابن جريج: "لم أستخرج العلم الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به"3. ويرى بدر الدين بن جماعة أن على المتعلم: "أن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الامكان، ولا يقول له لم؟ ولا نسلم، ولا من نقل هذا؟ وأين موضعه؟ وشبه ذلك، فإن أراد استفادته تلطف في الوصول إلى ذلك"4. (4) - السؤال عن العلم النافع والعلم النافع هو العلم الذي يهدي إلى الحق والخير والصواب والهدى، "فكل علم يكون فيه علم وهداية لطريق الخير، وتحذير عن طريق الشر أو وسيلة لذلك، فإنه من العلم النافع، وما سوى ذلك فإما أن يكون ضاراً أو ليس فيه فائدة"5. وينبغي للمتعلم ألا يسأل عما لا فائدة عملية أو مصلحة حقيقية ترجى من ورائه لأن ذلك لا يعود عليه بفائدة في دينه أو دنياه، وقد ذكر القرآن أنواعاً   1 تفسير الرازي: م: 11، ج: 21، ص: 152. 2 ابن قيم الجوزية: العلم فضله وشرفه؛ ص: 230 -231. 3 نفس المرجع: ص: 231. 4 بدر الدين بن جماعة: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم؛ ص:101. 5 عبد الرحمن بن ناصر السعدي: المرجع السابق: 5/34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 من الأسئلة بعضها عن المشركين، مثل: السؤال عن الساعة، وبعضها عن اليهود مثل: السؤال عن الروح وهي أسئلة لا ثمرة لها، لذلك كان الجواب أن ذلك من أمر الله ولا يعلمه سواه1. قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} 2. وقال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 3. (5) - التريث وعدم الاستعجال في السؤال وهو من الآداب الضرورية والهامة للمتعلم، إذ كثيراً ما تأتي اعتراضات المتعلمين ومناقشاتهم وسؤالاتهم نتيجة التعجل وعدم التثبت، أو عدم فهم مراد المعلم وقصده، قال تعالى: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} 4 قال القاضي أبو السعود في تفسير الآية: "قوله تعالى: {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ} تشاهده من أفعالي أي لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض {حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي حتى أبتدأ ببيانه، وفيه إيذان بأن كل ما صدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة، وهذا من أدب المتعلم مع العالم"5. ويقول الشيخ السعدي: "من فوائد الآية: التأني والتثبت وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء حتى يعرف ما هو المراد منه وما هو المقصود"6.   1 د. يوسف القرضاوي: العقل والعلم في القرآن الكريم: مرجع سابق؛ ص:215. 2 سورة الأعراف: آية: 187. 3 سورة الإسراء: آية: 85. 4 سورة الكهف: آية:70. 5 تفسير أبي السعود:5/235. 6 عبد الرحمن بن ناصر السعدي: المرجع السابق؛ ص: 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 (6) - حسن السؤال وقد سبق أن ذكرنا قول بعض السلف أن حسن السؤال نصف العلم، وقول ابن القيم: "إن أول مراتب العلم حسن السؤال، وإن من الناس من يحرم العلم لعدم حسن سؤاله"1. وقد دعا القرآن الكريم إلى حسن السؤال والبعد عن الأسئلة السيئة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} 2 وقد ذكر العلماء عديداً من صور السؤال المجانبة لحسن المسألة، والتي منها ما يلي: (أ) - السؤال عما لا يعني السائل. (ب) - المسائل التي نزلت فيها قول الله عزوجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . (ج) - الإكثار من تفريع المسائل، ومن ثم كره جماعة من السلف السؤال عما لا يقع، لما يتضمن من التكلف في الدين، والتنطع، والرجم بالظن من غير ضرورة3. وعن الزهري قال: "بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم قد كان، حدث فيه بالذي يعلم والذي يرى، وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون"4 "وعن عبادة بن   1 انظر مبحث الأهمية التربوية للسؤال؛ ص:12 -13. 2 سورة المائدة: آية: 101، 102. 3 فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 11/307. 4 سنن الدارمي: المقدمة؛ ص:50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 نسي الكندي وسئل عن المرأة ماتت مع قوم ليس لها ولي، فقال: أدركت أقواماً ما كانوا يشددون تشديدكم ولا يسألون مسائلكم"1. (د) - السؤال عما لا فائدة فيه قال الحافظ بن كثير في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين ونهي لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها"2. (هـ) - السؤال عما يسوء وتشق إجابته قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق، وقد ورد في الحديث: "إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته"3. (و) - السؤال على سبيل الاستهزاء والعناد كما في قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} 4 أي قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قوما من قبلكم، فأجيبوا عنها، ثم لم يؤمنوا بها، فأصبحوا بها كافرين، أي بسببها أن بينت لهم، فلم ينتفعوا بها، لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد، بل على وجه الاستهزاء والعناد"5.   1 نفس المرجع: المقدمة؛ ص: 51. 2 تفسير ابن كثير: 2/ 108. 3 فتح الباري بشرح صحيح البخاري: 13/264، كتاب الاعتصام، باب: ما يكره من كثرة السؤال، ح: 7286. 4 سورة المائدة: آية: 102. 5 تفسير ابن كثير: 1/109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 (ز) - الأسئلة التعجيزية التي يراد منها إظهار عدم قدرة المعلم على الإحاطة والإلمام بضروب المعرفة، وقد سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف للحكم على صدق نبوته في ضوء إجابته ولكن الله أنزل وحيه على نبيه مجيباً إياهم عن أسئلتهم التي سألوها، ومع ذلك فقد ذكر بعض المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار1 كما أن ذهاب نبي الله موسى إلى الخضر ليتعلم منه يدل على المعنى ذاته2. وفي البعد عن هذا النوع من الأسئلة يقول الإمام ابن القيم: "إذا جلست إلى عالم فسل تفقهاً لا تعنتاً"3. (7) - الاعتذار إلى المعلم عند سؤاله فيما لا يرغب أن يسأل فيه قال تعالى: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} 4. فقد يرغب بعض المعلمين في تأجيل الأسئلة إلى آخر الدرس، أو عدم السؤال عن أمور بعينها، أو عدم السؤال فيما لا علاقة له بالدرس، أو نحو ذلك، وينبغي للمتعلم أن يحترم رغبة المعلم في ذلك، وإذا بدر منه خلاف ما وجه إليه المعلم، فعليه أن يسارع بالاعتذار والتعهد بعدم تكرار ذلك، وقد وجه القرآن المتعلمين إلى هذا الأدب الرفيع من خلال قصة موسى والخضر عليهما السلام، فقال تعالى: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي   1 فتح القدير: 3/297. 2 تفسير الرازي: م: 11، ج: 21، ص: 144. 3 ابن قيم الجوزية: العلم فضله وشرفه: مرجع سابق؛ ص:229. 4 سورة الكهف: آية: 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عُسْراًً} 1. إن على المتعلم أن يسأل في الوقت المناسب، وفي الحال المناسب، ولا يكثر من الأسئلة فيما لا طائل تحته2. (8) - أن يقيم المتعلمون مناقشتهم معلمهم على الأدلة والبراهين وليس على مجرد الظن، فالمناقشة السليمة هي التي تبنى على الدليل، أما المناقشة التي تبنى على عدم المعرفة بموضوع النقاش فلا تقبل من المتعلم، وهكذا كان التوجيه الرباني لنوح عليه السلام عندما ذهب يسأل ربه الرحمة بابنه، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3. وهكذا يقرر القرآن الكريم أن المعرفة بالحقائق والمعلومات شرط أساسي لمناقشتها، لذلك يجب على المتعلم أن يكون على معرفة وفهم وإلمام بما يناقش فيه معلميه. (9) - عدم السؤال عن الحقائق بغرض التشكيك فيها أو الاستهزاء بها وذلك لأن الحقائق لا تقبل التشكيك فيها والاستهزاء بها، كحقائق الإسلام، وما ثبت من حقائق العلم، وإنما تؤخذ مأخذ اليقين والتسليم والإذعان، وإن التشكيك في الحقائق أو الاستهزاء بها يعد تفريطاً في أدب هو من أعظم آداب المتعلم.   1 سورة الكهف: آية: 73. 2 د. يوسف القرضاوي: العقل والعلم في القرآن الكريم: مرجع سابق؛ ص: 214. 3 سورة هود: آية: 45-47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وقد بين القرآن الكريم أن التشكيك في الحقائق هو من شأن الكافرين، قال تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} 1 قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: "أي يقول: متى يكون يوم القيامة؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده"2. ومن ثم يتضح أن القرآن الكريم يوجه طالب العلم المسلم إلى احترام الحقائق والتسليم بها وعدم التشكيك فيها أو استبعاد وقوعها وحدوثها.   1 سورة القيامة: آية: 6. 2 تفسير ابن كثير: 4/478. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 آداب السؤال عند المعلمين ... تمهيد: تبين لنا في المبحث السابق آداب السؤال وضوابطه في القرآن الكريم وأهمية هذه الآداب للمتعلم. وإذا كان يطلب من المتعلم أن يهتم بالسؤال ويحافظ على آدابه، فإن المعلم مطالب بالأمر ذاته، وذلك لأهمية السؤال وضرورة العناية به لكل من المعلم والمتعلم، بيد أن آداب السؤال التي يتوجب على المعلم التمسك بها والانطلاق منها تختلف عن تلك الآداب المتعلقة بالمتعلم، وذلك نظراً لاختلاف موقف المعلم والمتعلم من السؤال ولاختلاف الدور الذي يقوم به كل من المعلم والمتعلم في الموقف التعليمي. وبغض النظر عن اختلاف آداب السؤال لدى المعلم عنها لدى المتعلم، إلا أنها تعد في غاية الأهمية والضرورة لنجاح المعلم في مهامه التعليمية والتربوية. ولأهمية هذه الآداب وضرورة تمسك المعلم بها فقد أرشد القرآن الكريم المعلمين إلى طائفة من الآداب والأخلاق ودعاهم إلى التحلي بها والتعامل مع المتعلمين في ضوئها، ومن بين هذه الآداب ما يلي: (1) - إدراك قيمة السؤال في التعليم والتعلم فالمعلم الذي لا يدرك أهمية السؤال في التعلم والتعليم قد لا يعمد إلى استخدامه كوسيلة من وسائل تحقيق الأهداف التعليمية والتربوية المنشودة، أو لا يعطيه الاهتمام الذي يتناسب مع أهميته ودوره، وإن أهمية السؤال في التعلم والتعليم ومكانته في المنهج التربوي القرآني واضحتان تمام الوضوح، فالسؤال في القرآن هو وسيلة اكتساب العلم ورفع الجهل عن النفس، ولكن وفق منهج سليم وتوجيه سديد، وذلك بأخذ العلم من مصادره الموثوقة، قال تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 1 بل إن التربية الإسلامية في لفتها الأنظار إلى مكانة السؤال تجعل ضرورته للمتعلم كالدواء للمريض، قال صلى الله عليه وسلم: "إنما شفاء العي السؤال" 2. (2) - تشجيع المتعلمين على السؤال إن توجيه الأسئلة له فوائده الإيجابية للمتعلم والمعلم على حد سواء3 وإن وجود الأسئلة الكثيرة في القرآن الكريم والإجابة عليها في ضوء المنهج القرآني الحكيم يدل دلالة واضحة على ضرورة أن يتيح المعلم الفرصة للمتعلمين أن يسألوا وأن يحسن استثمار أسلوب السؤال في تعليمهم وتربيتهم. وقد سبق أن بينّا موقف القرآن من السؤال وترغيبه فيه وحثه وتشجيعه عليه4 بما يوضح تمام الإيضاح أن من أوجب واجبات المعلم أن يشجع المتعلمين على طرح أسئلتهم واستفساراتهم، وأن يسمح لهم بمناقشته ومحاورته، وأن يتقبل أسئلتهم بوجه بشوش وروح طيبة. (3) - التوجيه إلى طرح الأسئلة الهامة إن من أهم واجبات المعلم تجاه تلاميذه أن يلفت انتباههم إلى توجيه الأسئلة الهامة وذات العلاقة بموضوع الدرس وترك ما عدا ذلك5. وقد وجه القرآن النبي صلى الله عليه وسلم أن يرشد أمته إلى سلوك المنهج السديد في طرح الأسئلة،   1 سورة النحل: آية: 43. 2 سنن أبي داود: 1/240، كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم، ح: 336. 3 انظر مبحث: الأهمية التربوية للسؤال؛ ص: 253-255، ص 255-257. 4 انظر مبحث: مكانة السؤال في القرآن؛ ص: 265-269. 5 د. محب الدين أبو صالح: أساسيات في طرق التدريس: مرجع سابق؛ ص:87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وذلك بالسؤال عما ينفع وترك السؤال عما لا ينفع أو ما قد يجلب الإساءة للسائل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} 1 وقال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} 2 وقال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} 3. وقد استنبط بعض المفسرين توجيه القرآن إلى طرح الأسئلة المهمة وترك ما عداها من قول الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} 4. فقال: "هناك تفسير يتجه بهذه الفقرة من الآية {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وهو أنهم في سؤالهم عن تغير الهلال عكسوا في سؤالهم، فسألوا عما لا يعنيهم ولا يفيدهم، فهم بمثابة من يأتي البيوت من ظهورها، وكان الأولى أن يأتوها من أبوابها فيسألوا عما يعنيهم وينفعهم في أمر دينهم ودنياهم"5. (4) - عدم إرهاق المتعلمين بالأسئلة وذلك بتوجيه صعاب المسائل إليهم، فينبغي للمعلم أن يختار المسائل الميسرة ويتجنب الصعبة منها، وذلك تيسيراً للمتعلمين وتشجيعاً لهم للإقبال على التعلم، وفي قصة موسى مع العبد الصالح توجيه إلى هذا المعنى، قال تعالى:   1 سورة المائدة: آية: 101. 2 سورة الإسراء: آية: 85. 3 سورة الأعراف: آية: 187. 4 سورة البقرة: آية: 189. 5 د. يوسف القرضاوي: العقل والعلم في القرآن الكريم؛ ص:217: نقلاًعن: نظم الدرر البقاعي: 3/99،100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} 1 قال الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: "ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم، العفو منها، وما سمحت به أنفسهم، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون، أو يشق عليهم ويرهقهم، فإن هذه مدعاة إلى النفور منه والسآمة بل يأخذ المتيسر له ليتيسر له الأمر"2. وقال القاضي أبو السعود في معنى عسرا: "أي لا تعسر عليّ متابعتك ويسرها عليّ بالإغضاء وترك المناقشة"3. وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الأغلوطات"4 قال الأوزاعي: "الأغلوطات: شداد المسائل وصعابها". (5) - توجيه المتعلمين بعدم التعجل في طرح الأسئلة فمن حق المعلم - كما بيّن القرآن الكريم - أن يوجه تلاميذه إلى عدم التعجل في طرح أسئلتهم وأن يتريثوا ويصبروا حتى يفرغ مما هو بصدده ثم يسألوا بعد ذلك، قال تعالى: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} 5 قال الشيخ السعدي: "من فوائد هذه الآية أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها، فإن المصلحة تتبع، كما إذا كان فهمه   1 سورة الكهف: آية: 73. 2 عبد الرحمن بن ناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 5/34. 3 تفسير أبي السعود: 5/235. 4 المسند: 5/435. 5 سورة الكهف: آية: 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 قاصراً، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها أو لا يدركها ذهنه، ويسأل سؤالاً لا يتعلق بموضوع البحث"1. (6) - عدم الإجابة على كل سؤال فلا يلزم المعلم أن يلم بجميع المعلومات والحقائق الخاصة بالمادة أو الدرس، بحيث يجيب على كل سؤال من أسئلة المتعلمين، وإذا كان الله لم يعطِ هذه السعة في العلم لأنبيائه عليهم السلام، فمن باب أولى ألا تعطى لغيرهم. وقد ذكر الإمام الشوكاني في سبب ذكر قصة موسى والخضر في سورة الكهف: "أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قصة أصحاب الكهف وقالوا: إن أخبركم فهو نبي وإلا فلا، ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار" 2. ومن ثم فإنه لا يقدح في مكانة المعلم ولا يقلل من قدره ألا يجيب على بعض أسئلة المتعلمين، ومما يجدر ذكره هنا أن بعض التلاميذ قد يوجه أسئلة بهدف إضاعة الوقت أو إشغال المعلم عن سؤال التلاميذ3. كما أن بعض التلاميذ قد يسأل أسئلة بعيدة كل البعد عن موضوع الدرس. (7) - رد العلم فيما لا يعلم إلى الله ومن آداب المعلم تجاه أسئلة المتعلمين أن يقول لما لا يعلم الله أعلم. وقد ذكر المفسرون أن سبب رحيل موسى إلى الخضر أنه لما سئل أي الناس أعلم؟ لم   1 عبد الرحمن بن ناصر السعدي: المرجع السابق، ص:34. 2 فتح القدير: مرجع سابق: 3/297. 3 د. محب الدين أبو صالح: المرجع السابق؛ ص:87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 يرد العلم إلى الله، بل قال أنا أعلم، فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إليه، وبين له أن هناك من هو أعلم منه وأمره بالسير إليه1. ولذلك ينبغي للمعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يرد العلم إلى الله تمسكاً بهذا الأدب الرفيع الذي وجه إليه الإسلام، عن ابن مسعود قال: "إن من علم المرء أن يقول لما لا يعلم الله أعلم"2 وعن مالك قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء، فلا يجيب حتى يأتيه الوحي"3 وعن ابن وهب قال: " لو كتبنا عن مالك لا أدري لملأنا الألواح"4 وقال مالك: " كان ابن عباس يقول: "إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله"5. (8) - الحرص على التزود الدائم بالعلم إن تزود المعلم الدائم والمستمر بالمعلومات والحقائق العلمية يعينه في دروسه وتعليمه، كما يعينه على الإجابة على أسئلة المتعلمين واستفساراتهم، ولذلك أرشد القرآن إلى ضرورة التزود الدائم بالعلم، وأن الإنسان مهما أوتي من العلم يبقى في حاجة ماسة إلى المزيد منه، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 6 وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} 7. وفي رحيل موسى إلى الخضر للتعلم منه مع ما هو عليه من علم ومكانة بين الأنبياء خير دليل على ضرورة الطلب الدائم للعلم والاستزادة المستمرة منه،   1 تفسير الطبري: م: 9، ج: 15، ص:276 278. 2 ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله: 2/51. 3 نفس المرجع: 2/51. 4 نفس المرجع: 2/51. 5 نفس المرجع: 2/51. 6 سورة طه: آية: 114. 7 سورة الإسراء: آية: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 قال الزجاج في معرض تعليقه على رحيل موسى إلى الخضر: "فيما فعل موسى - وهو من جملة الأنبياء - من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته1. وقال الشيخ السعدي: "ينبغي للفقيه المحدث إذا كان قاصراً في علم النحو أو الصرف أو نحوه من العلوم أن يتعلمه ممن مهر فيه وإن لم يكن محدثاً ولا فقيهاً"2.   1 فتح القدير: 3/299. 2 عبد الرحمن بن ناصر السعدي: المرجع السابق: 5/3334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 خصائص السؤال في القرآن الكريم ... تمهيد: تميز السؤال في ضوء المنهج التربوي القرآني بالعديد من المزايا والخصائص التربوية حيث تميز بالشمول، والتنوع، والتوجيه إلى القضايا والموضوعات الهامة، كما تميز باهتمامه بالجانب الإيماني الذي هو أهم جوانب الشخصية الإنسانية، كما تميز بتوجيه المتعلم إلى أحسن الطرق وأصدقها في تحصيل العلوم واكتساب المعارف، كما تميز السؤال في القرآن الكريم بتنوع مصادره وأسلوبه الفذ في التعامل مع السائلين على اختلاف معتقداتهم ودوافعهم وأغراضهم. وفيما يلي تفصيل لتلك الخصائص والمميزات. (1) الشمول والتنوع حيث عالجت الأسئلة القرآنية جوانب متعددة من حياة مجتمع الصدر الأول، فقد شملت: أ - أموراً خاصة بجانب الغيب، كالسؤال عن الساعة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} 1. ب - وأموراً خاصة بالجانب المالي، كالسؤال عن أوجه الإنفاق، والإنفاق على وجه الصدقة: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} 2. ج - وأموراً خاصة بالحرب والقتال، كالسؤال عن الظروف الزمنية للقتال: {َسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} 3.   1 سورة الأعراف: آية 187. 2 سورة البقرة: آية 215 3 سورة البقرة: آية 217 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 د- وأموراً خاصة ببعض ما يراد توجيهاً حاسماً وشافياً بصدده، مثل تعاطي الخمر والميسر: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} 1. ? - وأموراً خاصة ببعض الفئات، كفئة اليتامى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} 2. و وأموراً خاصة بالجانب الصحي، كالجماع عند المحيض: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} 3. ز - وأموراً خاصة ببعض السابقين، كالسؤال عن ذي القرنين: {وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} 4. ح - وأموراً خاصة بموضوعات غامضة وغير مفهومة، كالسؤال عن الروح: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ} 5. ط - وأموراً خاصة ببعض الظواهر الكونية، كالسؤال عن الجبال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} 6. والسؤال عن الأهلة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} 7. وهكذا ينبغي للمعلم أن يتأسى بالمنهج التربوي القرآني في طريقته في التربية بالسؤال، فيتيح الفرصة للتلاميذ أن يسألوا فيما يعن لهم من أمور تتعلق بما يدرسونه وبما يواجهونه ويعرض لهم من مشكلات في حياتهم. كما ينبغي للمعلم أن يحرص على استخدام طريقة السؤال في مختلف خطوات درسه من تمهيد   1 سورة البقرة: آية 219 2 سورة البقرة: آية 220 3 سورة البقرة: آية 222 4 سورة الكهف: آية 83 5 سورة الإسراء: آية 85 6 سورة طه: آية 105 7 سورة البقرة: آية 189 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وعرض وربط وتقويم، كما يجب على المعلم أي يشمل جميع التلاميذ بأسئلته فلا يخص بها بعضهم دون البعض الآخر. (2) الأهمية. وقد امتازت الأسئلة التي جاءت في القرآن الكريم بالأهمية، يدل على هذه الأهمية ما شملته تلك الأسئلة من مجالات الحياة الأساسية وما طرحته من قضايا ملحة وهامة تتعلق بحياة مجتمع الصدر الأول، وقد بينا في الخاصية الأولى المجالات التي شملتها الأسئلة القرآنية، وذكرنا بعض الموضوعات والجوانب التي تناولتها، وإن تأمل خاصية الأهمية في المنهج التربوي القرآني يوضح أن القرآن الكريم قد أرسى قاعدة تربوية عظيمة، وهي أن الأهمية لا تحصر في الدرس أو فيما يتعلق بالجانب التعليمي، بل هي أوسع من ذلك بكثير، فهي تمتد لتشمل جميع ما يهم المتعلم ويتصل بحياته، سواء كان ذلك يتعلق بما يتعلمه داخل حجرة الدراسة أم كان يتعلق بمختلف جوانب حياته ويحتاج إلى فهمه ومعرفته والإجابة عما يثيره من أسئلة واستفسارات. (3) تثبيت العقيدة وإثبات الوحدانية لله وقد استخدم القرآن السؤال كطريقة للإقناع والوصول إلى الحق الذي هو التوحيد ونبذ الباطل الذي هو الشرك، فقال تعالى منكراً على الكفار شركهم بالله في عبادته في الوقت الذي يقرون فيه بربوبيته: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 1 وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ   1 سورة العنكبوت: آية 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} 1 وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2 وإن بإمكان المعلم أن يستثمر استخدام القرآن السؤال على هذا النحو في غرس التوحيد الخالص لله في نفوس المتعلمين فيسألهم عن خالق السموات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، ويسألهم عمن أحي الأرض بعد موتها، ويسألهم عمن خلقهم وخلق كل شيء ويسألهم عن الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والخشوع والخشية والإنابة والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك من العبادات التي أمر الله بها، ليصل بعد هذه الأسئلة إلى نفس النتيجة التي أراد القرآن الوصول إليها من توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده وبذلك يعمل المعلم على تثبيت الإيمان الصحيح في نفوس التلاميذ معتمداً في ذلك على أسلوب السؤال وطريقته الناجحة في رعاية الجانب الإيماني لدى المتعلمين. (4) بيان أفضال الله على خلقه بهدف هدايتهم إلى الحق. وهو أسلوب يقوم على استمالة العاطفة فضلاً عن مخاطبة العقل، وذلك أن النفوس مجبولة على محبة من يحسن إليها والميل إليه، وقد استخدم القرآن هذا الأسلوب في مواضع عديدة، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} 3 وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 4 وقال تعالى: {قُلْ مَنْ   1 سورة العنكبوت: آية 63. 2 سورة الزخرف: آية 87. 3 سورة الأنعام: آية 63. 4 سورة يونس: آية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 يَكْلأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} 1 وإن المعلم مطالب بأن ينتفع بهذا الأسلوب القرآني وذلك بذكر تلك النعم التي بينها القرآن والتأكيد عليها في كل فرصة وفي كل مناسبة سانحة، وذلك على نحو يؤدي إلى محبة المتعلمين خالقهم وتقوية صلتهم به. (5) التوجيه إلى سؤال أهل العلم والخبرة وهو أسلوب تربوي علمي يوفر الجهد والوقت، ويبني الجانب العلمي لدى المتعلم وفق أقوى الأسس وأمتنها، وذلك بأخذ العلوم والمعارف من مصادرها الصحيحة والموثوقة قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2 وقال تعالى: {فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} 3 وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 4 كما أن التوجيه إلى سؤال أهل العلم والخبرة يرشد إلى أهمية السؤال وأنه طريقة من أهم طرق التعلم والكشف عن الحقائق والمعلومات. (6) تنوع مصادر الأسئلة فقد تنوعت الأسئلة في مصادرها واختلف السائلون وتنوعوا بين مسلمين ومشركين، وأعراب، وأهل كتاب، ومنافقين، وكان لكل فئة من هذه الفئات أهدافها ودوافعها من السؤال، وقد عالج القرآن الكريم كل سؤال بما يتناسب مع أغراضه ودوافعه وأجاب عن كل سؤال في ضوء منهجه الحكيم الخالد. وإن مما يجدر التنبيه إليه هنا أن المعلم المسلم في أمس الحاجة إلى المعرفة بتلك الأسئلة ومعرفة أصحابها ودوافعهم وأغراضهم ومعرفة كيفية تعامل القرآن معها، وذلك من أجل الانتفاع بهذه المعرفة في حياته التعليمية والعامة.   1 سورة الأنبياء: اية 42. 2 سورة النحل: آية 43. 3 سورة يونس: آية 94. 4 سورة الفرقان: آية 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 خصائص الإجابات القرآنية ... تمهيد: يوصي المتخصصون في مجال التربية والتعليم بضرورة العناية بالسؤال والاستفادة منه في كافة أنشطة الدرس وخطواته وعناصره، كما يوصون بالعناية بالإجابات وأن تتوفر فيها بعض الشروط والضوابط لتؤدي الغرض المطلوب منها وتحقق الأهداف المعلقة عليها. ومن الشروط والضوابط التي ينبغي أن تتوفر في الإجابات: حسن الصياغة والوضوح، وأن تكون على قدر السؤال، وأن تبتعد عن الإساءة إلى المتعلمين والاستهزاء بهم، وأن يتوخى منها النفع والفائدة. وقد شملت إجابات الأسئلة في القرآن الكريم هذه الخصائص وغيرها كما تميزت بخصائص أخرى تدل على تفوق المنهج التربوي القرآني واحتفاظه بهذا التفوق مهما تقدم الإنسان في علومه ونشاطاته التعليمية والتربوية. ومن الخصائص التي تميزت بها الإجابات القرآنية ما يلي: (1) - الاتصال بالواقع. فقد استمدت الإجابات القرآنية من واقع السائلين ومما يدور ويجري في حياتهم فإذا سأل الناس عن الخمر والميسر تكون الإجابة بالتوجيه إلى الرجوع إلى الواقع، والنظر إلى ما تحدثه الخمر وما يؤدي إليه الميسر في واقع حياتهم، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 1.   1 سورة البقرة: آية: 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 1. وإذا سأل الناس عن المحيض فإن في واقع حياتهم ما يبين لهم خطورة هذا الفعل وإضراره بهم، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2 وقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة أن إتيان الحائض يصيب كلاً من الرجل والمرأة بالضرر3. وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الخبائث تثبت الدراسات والوقائع والأرقام ضررها وخطرها وبالتالي ضرورة الإقلاع عنها واجتنابها. والمربي الناجح هو الذي يربط إجاباته على أسئلة تلاميذه بواقع حياتهم فيكون هذا الربط خير معين لهم - بعد الله عزوجل - على تقبل إجاباته والانتفاع بها. (2) - الإقناع العقلي وقد تميزت الإجابات العقلية بالإقناع، فهي مقنعة للعقل في مخاطبتها إياه، ولا تجد العقول السليمة غضاضة في قبولها والتسليم بها. فالعاقل يسلم بضرورة الإقلاع عن تعاطي الخمر لكثرة مضارها وقلة منافعها، وهو كذلك يأبى القيام بما يضر بصحته، كإتيان الحائض، كما أن العقلاء يبتعدون دائماً عن الخبائث التي ترفضها فطرهم السليمة وتأباها عقولهم الرشيدة.   1 سورة المائدة: آية: 90،91. 2 سورة البقرة: آية: 222. 3 د. محمد علي البار: هل هناك طب نبوي؛ ص:149152. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وهكذا ينبغي للمعلم أن يستفيد من هذه الميزة وذلك بأن يبني إجاباته على أسئلة المتعلمين على أساس من الإقناع العقلي، فيجتهد في تقديم إجابات تكون مقنعة للمتعلمين، تحظى بقبولهم إياها وانتفاعهم بها. (3) - التوجيه إلى التعامل مع الأمور في ضوء ما يغلب عليها من الخير والشر فإن كان جانب الخير هو الغالب عليها أخذ بها وإلا طرحت وتركت، لأن الأخذ بها عند غلبة الشر عليها يكون فيه الوبال والخراب والدمار الذي يعم الفرد والمجتمع ويهلك الحرث والنسل. وهكذا كان التوجيه القرآني بصدد ما كان يتعاطاه العرب قبل الإسلام معتقدين النفع فيه، كتعاطي الخمر والميسر، والاحتكام إلى الأزلام 1، وعبادة الأصنام، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 2. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 3. قال الحافظ ابن كثير في تفسير آية السؤال عن الخمر والميسر: "أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية، من حيث أن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، وتشحيد بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة التي فيها ... وكذا بيعها والانتفاع بثمنها، وكان يقمشه4 بعضهم من الميسر فينفقه   1 الأزلام: هي السهام التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. 2 سورة البقرة: آية: 219. 3 سورة المائدة: آية: 90،91. 4 يقمشه: يجمعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة، لتعلقها بالعقل والدين"1. وهكذا ينبغي أن يحرص المربي المسلم على غرس هذا المبدأ وغيره من المبادئ الإسلامية في نفوس المتعلمين وذلك من أجل تكوين منهج صالح يسير النشء والشباب المسلم في ضوئه ويستظلون بظلاله الوارفة. (4) - اغتنام الفرصة للتوجيه والإصلاح فالقرآن الكريم لم يدع فرصة السؤال عن الأهلّة تذهب دون الاستفادة منها بل رأى فيها فرصة مناسبة للتوجيه نحو السلوك الصحيح ومجانبة السلوك غير السوي. فسلامة الفطرة واستقامة الخلق وصحة العقيدة تقضي بأن تؤتى الأمور من مآتيها الصحيحة فذلك أجدر أن يؤدي إلى الخير والنفع، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2. قال الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: "كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره"3. فالقرآن الكريم قد اغتنم الفرصة ووجه أولئك الأقوام إلى السلوك السوي الذي ينبغي أن يسلك، وهكذا ينبغي للمربي أن يغتنم الفرص المناسبة لتوجيه المتعلمين نحو الفضائل وتنفيرهم من الرذائل، لعل ذلك أن يطبع نفوسهم بالخصال الحميدة ويقيهم الخلال المذمومة.   1 تفسير ابن كثير: 1/263. 2 سورة البقرة: آية: 189. 3 تفسير ابن كثير: 1/ 232-233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 (5) - التوجيه إلى عدم استعظام خطأ في وقت يرتكب فيه خطأ أكبر فعندما سأل المشركون عن الشهر الحرام وحرمة القتال فيه بين لهم القرآن الكريم صحة ما ذهبوا إليه، ولكنه أوضح لهم - في الوقت ذاته - أن هناك أمراً هو أعظم بكثير من الأمر الذي سألوا عنه وهو التعدي على حرمة المسجد الحرام وإخراج أهله منه، وفتنتهم بالإخراج والرد إلى الكفر هو أعظم عند الله من القتال في الشهر الحرام، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} 1. وهكذا فإنه ينبغي للمتعلم ألا يناقش في مسألة ما في وقت يقع فيه في خطأ هو أعظم من الخطأ الذي يناقش بخصوصه. (6) - مراعاة مصلحة الفرد والمجتمع وقد تميزت الإجابات القرآنية بمراعاة المصلحة الفردية والاجتماعية وهذا واضح في كافة الإجابات القرآنية، وعلى سبيل المثال فإن الانتهاء عن الخمر والميسر فيه مصالح كثيرة للناس بما يقيهم من ويلات وآلام وخراب فردي واجتماعي ينتج عن تعاطي الخمر والميسر، وعدم التعدي على حقوق اليتامى يعود بالخير على اليتامى الذي هم فئة من فئات المجتمع، وعلى المجتمع أيضاً، لأن رفع الظلم وإقامة العدل من أسباب الرخاء والنهوض الاجتماعي، بينما يؤدي الظلم وهضم الحقوق إلى التقهقر والتخلف الاجتماعي.   1 سورة البقرة: آية: 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 (7) - التوجيه إلى أعمال البر والإصلاح والتوجيه نحو هذه الأمور ملحوظ في الإجابات القرآنية: (أ) - فعندما كان السؤال عن الكيفية التي تنفق بها الأموال، كان التوجيه القرآني الحكيم بأن تنفق فيما يحفظ الصلات ويدعم الروابط والعلاقات ويقي مئونة الحاجة، فتنفق على الوالدين والأقربين والمساكين ونحوهم من أهل الحاجات، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} 1. (ب) - وتتكرر الإجابة بالأمر بالإصلاح عند السؤال عن اليتامى، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} 2. (8) - التوجيه إلى عدم تبديد الطاقة العقلية ومن خصائص الإجابات القرآنية المحافظة على الطاقات العقلية وعدم تبديدها فيما لا طائل وراءه، فالله عز وجل قد وهب الإنسان هذه الطاقة ليستخدمها فيما ينفعه في دينه ودنياه ويبتعد بها عما لا يجديه نفعاً أو يجلب التخريب والدمار. (أ) - ومما فيه تبديد للطاقة العقلية أن يسأل عن أمور لا يستطيع العقل إدراكها وفهمها، لأنها أكبر من قدراته مهما بلغت، وأعظم من أن يصل إليها بعلومه ومعارفه، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} 3.   1 سورة البقرة: آية: 215. 2 سورة البقرة: آية: 220. 3 سورة الإسراء: آية: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 (ب) - كما أن السؤال عن الساعة لا يجدي الإنسان شيئاً وخير من السؤال عنها الاستعداد لها بالعمل الصالح، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} 1 وفي ضوء هذا المنهج الحكيم يتعامل المعلم مع أسئلة التلاميذ فيجيب على ما فيه نفعهم ومصلحتهم ويدع ما عدا ذلك. (9) - التوسع في الإجابة أو الإنقاص منها وفق مقتضى الحال والأصل في الإجابة على الأسئلة - في القرآن الكريم والدراسات التربوية الحديثة - أن يكون الجواب على قدر السؤال2. إلا أن المنهج التربوي القرآني قد فاق تلك الدراسات، وذلك بالتوجيه إلى أنه ليس من الضروري التطابق بين السؤال والجواب، وإنما يترك ذلك لمقتضى الحال، وبذلك جاءت بعض الإجابات على قدر السؤال، كما هو حال كثير من الإجابات التي تناولناها في هذا البحث، بينما جاءت بعض الإجابات أعم من أسئلتها، كما في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} 3 في جواب: {مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 4 كما جاءت بعض الإجابات أنقص من أسئلتها، كما في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} 5 في جواب: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} وذلك لأن التبديل أسهل من الاختراع، وقد نفى إمكانه فالاختراع أولى6.   1 سورة النازعات: آية: 4245. 2 محمد صالح سمك: فن التدريس للتربية اللغوية: مرجع سابق؛ ص: 944. 3 سورة الأنعام: آية: 64. 4 سورة الأنعام: آية: 63. 5 سورة يونس: آية: 15. 6 مناع القطان: مباحث في علوم القرآن؛ ص:205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 ومما تميزت به الإجابات القرآنية أنه قد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال تنبيهاً على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك، وهو المسمى بأسلوب الحكيم، ويمثل له بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} 1 فأجيبوا ببيان حكمة ذلك تنبيهاً على أن الأهم السؤال عن ذلك لا عما سألوا عنه2. ولعل هذا التنوع في الإجابة على الأسئلة يكسب المعلم حنكة ومقدرة في التعامل مع أسئلة التلاميذ والإجابة على كل سؤال منها بالطريقة المناسبة. 1 سورة البقرة: آية: 189. 2 كان سؤالهم عن الهلال لِمَ يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد قليلاً قليلاً حتى يكتمل، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما كان، فوجهوا إلى المنافع المترتبة على ذلك من حل دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم، ووقت صومهم وإفطارهم، تنبيهاً على أن الأهم السؤال عن ذلك لا عما سألوا عنه. انظر: مناع القطان: المرجع السابق: نفس الصفحة، وانظر: تفسير ابن كثير: 1/232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 الخاتمة اتضح فيما سبق من هذا البحث أهمية السؤال ومكانته التعليمية والتربوية، كما اتضحت عناية الإسلام بالسؤال والمنهج التربوي المتكامل الذي أرشد إليه لاستخدام السؤال والانتفاع به، ولعل أهم النتائج التي توصل إليها الباحث في هذا البحث ما يلي: 1- إعلاء الإسلام من شأن السؤال، وعناية نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم به وتشجيع أصحابه عليه. 2- إن السؤال قد احتل مكانة بارزة في القرآن الكريم واتضاح هذه المكانة من تشجيع القرآن على السؤال وترغيب المتعلمين فيه، كما أبرز القرآن الكريم أهمية السؤال ومكانته التعليمية والتربوية من خلال الأحداث التي حفلت بها قصة موسى والخضر عليهما السلام. 3- إن الأسئلة القرآنية قد تميزت بخصائص ومميزات شملت مختلف جوانب شخصية المتعلم ولا سيما الجانب الإيماني منها، كما عنيت بربط المتعلم بواقعه ومشكلاته. 4- تميزت الإجابات القرآنية بالشمول واهتمامها بحاجات المتعلم، كما تميزت باتصالها بواقعه، وعملها على تنمية شخصيته وإصلاحها. 5- عناية العلماء والمربين المسلمين بالسؤال على امتداد التاريخ الإسلامي وتأكيدهم على أهميته ودوره الأساسي في التعليم. 6- أهمية السؤال ودوره الهام والأساسي في كثير من الأنشطة التعليمية والتربوية وحاجة المتعلم والمعلم الضرورية إليه، وأنه جزء لا يتجزأ من الدرس والطريقة والتقويم. 7- إن نجاح السؤال في تحقيق الأهداف المنوط به مرتهن بالآداب التي أرشد إليها القرآن الكريم ووجه المتعلمين والمعلمين إلى التحلي بها والمحافظة عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 8- إن نجاح التربية بالسؤال لا يتوقف على المتعلم فحسب إذ المعلم هو كذلك طرف أساسي في تحقيق ذلك النجاح، وذلك باتباع الإرشادات والتوجيهات التي أسداها القرآن للمعلم فيما يتعلق بالأسئلة والإجابات المتعلقة به وبالمتعلمين. وفي ضوء هذه النتائج، فإن الباحث يوصي بما يلي: 1- الاهتمام بالسؤال وإعطائه الاهتمام الذي يستحقه، ولا سيما في ضوء ما ثبت في هذا البحث من أهمية السؤال ودوره الكبير والفاعل في التربية والتعليم. 2- التأكيد على الدور والمكانة البارزة التي أولاها الإسلام السؤال، والتي تتضح من الرجوع إلى الكتاب والسنة وآراء العلماء والمربين المسلمين. 3- اتخاذ الطرق والأساليب الكفيلة بتمسك المتعلمين والمعلمين بآداب السؤال والجواب والتي يتم في ضوئها تحقيق الأهداف والنتائج التي تنشدها التربية الإسلامية. 4- إجراء المزيد من الدراسات التربوية الإسلامية فيما يتعلق بالسؤال وبغيره من الجوانب والموضوعات التعليمية والتربوية، والعمل على الانتفاع بنتائج هذه الدراسات في إرساء دعائم المنهج التربوي الإسلامي داخل المؤسسات التعليمية والتربوية الإسلامية. 5- الرجوع الدائم والمستمر إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتدبر ما فيهما، واستنباط منهجنا التربوي والتعليمي منهما، والبحث من خلالهما عن علاج جميع مشكلاتنا. وبعد؛ فهذا ما يسر الله لي الوصول إليه في هذا البحث، أسأله سبحانه أن يتقبله مني وأن يجعله خالصاً لوجهه، وأن يجعل فيه النفع والفائدة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 مصادر ومراجع ... فهرس المصادر والمراجع 1- القرآن الكريم. 2- د. إبراهيم عباس نتو: أفكار تربوية: جدة: تهامة: الطبعة الأولى: 1401?-1981م. 3- أحمد بن علي بن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري: تحقيق: عبد العزيز بن عبد الله بن باز: بيروت: دار المعرفة. 4- أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني: المسند: بيروت: المكتب الإسلامي: الطبعة الرابعة: 1403?- 1983م. 5- إسماعيل بن عمر بن كثير: تفسير القرآن العظيم: دار المعرفة: بيروت: الطبعة الأولى: 1406?-1986م. 6- د. جودت الركابي: طرق تدريس اللغة العربية: دمشق: دار الفكر: الطبعة الثانية: 1406?-1986م. 7- د. حامد بن عبد السلام زهران: علم نفس النمو: القاهرة: عالم الكتب: الطبعة الرابعة: 1977م. 8- حسين عبد الله بانبيلة: ابن خلدون وتراثه التربوي: بيروت: دار الكتاب العربي: الطبعة الأولى: 1404?- 1984م. 9- سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي: سنن أبي داود: إعداد وتعليق: عزت عبيد الدعاس، عادل السيد: بيروت: دار الحديث الطبعة الأولى: 138?- 1969م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 10- د. عبد الحميد الصيد الزنتاني: أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية: ليبيا - تونس: الدار العربية للكتاب: 1984م. 11- د. عبد الحميد الهاشمي: الرسول العربي المربي: دمشق: دار الثقافة للجميع: الطبعة الأولى: 1401?- 1981م. 12- د. عبد الرحمن صالح عبد الله: التربية العملية أهدافها ومبادئها: عمان: دار العدوي: الطبعة الأولى: 1406? - 1986م. 13- عبد الرحمن بن محمد بن خلدون: مقدمة ابن خلدون: بيروت: دار القلم: الطبعة السادسة: 1406?-1986م. 14- عبد الرحمن بن ناصر السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: مكة المكرمة: مؤسسة مكة للطباعة والإعلام: 1398?. 15- عبد الرحمن النحلاوي: أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع: دمشق: دار الفكر: الطبعة الأولى: 1399?- 1979م. 16- عبد العليم إبراهيم: الموجه الفني لمدرسي اللغة العربية: القاهرة: دار المعارف: الطبعة الثالثة عشرة. 17- عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل الدارمي: سنن الدارمي: استانبول: دار الدعوة: 1401?- 1981م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 18- عبد الله عبد المجيد بغدادي: الانطلاقة التعليمية في المملكة العربية السعودية: جدة: دار الشروق: الطبعة الأولى: 1402?- 1982م. 19- د. ماجد عرسان الكيلاني: تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية: دمشق - بيروت: دار ابن كثير: الطبعة الثالثة. 20- د. محب الدين أحمد أبو صالح: أساسيات في طرق التدريس العامة: الرياض: دار الهدى للنشر والتوزيع: الطبعة الثانية: 1412?- 1991م. 21- محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم: بيروت: دار الكتب العلمية. 22- محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية: العلم فضله وشرفه: تحقيق: علي بن حسن الحلبي الأثري: الرياض: مجموعة التحف والنفائس الدولية: الطبعة الأولى: 1416?-1996م. 23- محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: بيروت: دار الشآم للتراث: الطبعة الثانية. 24- محمد أحمد عبد الهادي: المربي والتربية الإسلامية: جدة: دار البيان العربي: الطبعة الأولى: 1404?- 1984م. 25- محمد بن جرير الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن: بيروت: دار الفكر: 1405?- 1984م. 26- محمد صالح سمك: فن التدريس للتربية اللغوية: القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية: 1979م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 27- د. محمد عبد العليم مرسي: المعلم المناهج وطرق التدريس: الرياض: دار الإبداع الثقافي: الطبعة الثانية: 1415?- 1995م. 28- د. محمد علي البار: هل هناك طب نبوي: جدة: الدار السعودية: الطبعة: الأولى: 1409?- 1988م 29- محمد بن علي الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: عالم الكتب. 30- محمد بن عمر الرازي: تفسير الفخر الرازي: بيروت: دار الفكر: الطبعة الثالثة: 1405?- 1985م. 31- محمد بن محمد العمادي: تفسير أبي السعود: بيروت: دار إحياء التراث العربي. 32- مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري: صحيح مسلم: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: بيروت: دار إحياء التراث العربي. 33- مناع خليل القطان: مباحث في علوم القرآن: الرياض: مكتبة المعارف: الطبعة الثامنة: 1401?- 1981م. 34- يحيى بن شرف النووي: صحيح مسلم بشرح النووي: بيروت: دار الكتب العلمية. 35- د. يوسف القرضاوي: العقل والعلم في القرآن الكريم: القاهرة: مكتبة وهبة: الطبعة الأولى: 1416?-1996م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308