الكتاب: التوسل في كتاب الله عز وجل المؤلف: طلال بن مصطفى عرقسوس الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السادسة والثلاثون، 124 - 1424هـ/2004م. عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- التوسل في كتاب الله عز وجل طلال بن مصطفى عرقسوس الكتاب: التوسل في كتاب الله عز وجل المؤلف: طلال بن مصطفى عرقسوس الناشر: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الطبعة: السنة السادسة والثلاثون، 124 - 1424هـ/2004م. عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ال مقدمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} 2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3. أما بعد: فإن كتاب الله نور وهداية وحياة، وإنّ المتدبر في هذا القرآن العظيم ليجد فيه من الكنوز والمعاني والعلوم والمعارف بحوراً تتلاطم لا سواحل لها، إنه قرآن عجب لا يدرك غوره، ولا يستطيع الخلق من إنس وجان ولو اجتمعوا أن يحيطوا به. وكتاب الله عز وجل هو الحكم بين الناس إذا وقع بينهم خلاف قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ   1 آل عمران: 102 2 النساء: 1 3 الأحزاب: 70-71 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} 1. هذا وإن مما تنازع فيه بعض الناس موضوع التوسل، ولرفع هذا النزاع ليس لنا إلا أن نرجع إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولذا أحببت أن يكون بحثي في هذا الموضوع، راجياً أن يكون قاطعاً للخلاف في هذا الموضوع، وجامعاً للقلوب على ما هو الحق فيه، والله من وراء القصد، وهو حسبي ونعم الوكيل.   1 الإسراء: 9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 تمهيد موضوع التوسل من أهم المواضيع، بل هو من أعظمها خطراً، وهو من الأمور التي يخطئ فيها كثير من الناس، وذلك لعدم معرفتهم سبل التوسل الصحيحة المشروعة، وكل ذلك ناشئ عن فهم خاطئ لحقيقة التوسل، أو تصور غير صحيح، أو تقليد أعمى. والمتدبر لكتاب الله عز وجل يجد أن الكتاب الكريم قد أبان في مواضع كثيرة منه السبل المشروعة في التوسل إلى الله جل وعلا، وهذه السبل هي التوسل إلى الله جل وعلا بالإيمان الصادق الصحيح، والتوسل إلى الله تبارك وتعالى بما شرع من أعمال صالحة، والتوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والتوسل إلى الله تعالى بفضله ورحمته وإحسانه، والتوسل إلى الله عز وجل بدعاء الصالحين الأحياء من عباده. هذا ومن المعلوم أن كثيراً من عباد القبور اليوم، والمستغيثين بالأولياء والصالحين، إنما كان سبب انحرافهم هذا هو تعظيمهم للصالحين، تعظيماً بلغ حدّ الغلو، وإذا ما نوقش أحدهم ونهي عما يقع منه من شرك يقول: إنه لا يعبد هذا الصالح وإنما يتوسل به إلى الله تعالى، وربما يضرب لك مثلاً فيقول: إنك عند ما تريد أمراً ما من ملك أو رئيس فإنك تتوسل إليه وتستشفع بمقرّب عنده؛ فيشبه هذا المسكين الخالق جل وعلا بالمخلوق؛ وما علم المسكين أن عظماء الدنيا يحتاجون إلى شفعاء لأمور: منها: أن ذلك العظيم لا يعلم حال الناس، ولا يطلع على حوائجهم، فيحتاج إلى من يبلغه ذلك عنهم، وهل الرب جل وعلا الذي أحاط علمه بكل شيء يحتاج إلى من يخبره عن خلقه؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1.   1 سورة الملك: 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وأيضا فإن ذلك الرئيس إنما يقبل شفاعة الشافع رجاءً أو خوفاً، تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيراً. وهذا العظيم يحتاج إلى من يرقق قلبه، ويسترحمه لينظر في أمور هؤلاء المحتاجين، والله عز وجل هو أرحم الراحمين، بل هو أشد رحمة بالعبد من أمه وأبيه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن يصيبه” 1، وروى مسلم في صحيحه من حديث سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة” 2، والله جل وعلا عند ما أرشد إلى دعائه لم يجعل بيننا وبينه وسائط ووسائل من الخلق في ذلك {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 3 {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 4. هذا وإن ما يقوله بعض مدعي الإسلام اليوم ممن يقع في عبادة القبور هو ما قاله بالأمس كفار قريش {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي   1 صحيح البخاري 8/18. 2 صحيح مسلم 8/96. 3 البقرة: 186 4 غافر: 60 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1 فإنهم لم يكونوا يعتقدون أن أصنامهم تخلق وترزق وتمرض وتشفي {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2 {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3 هذا ومن المعلوم أيضاً أن أول شرك وقع في الأرض وهو شرك قوم نوح عليه السلام إنما كان بسبب تعظيم الصالحين، والتوسل بهم، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح إلى العرب بعد؛ أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع. أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عبدت” 4. وأورد ابن حجر رحمه الله عن السهيلي رحمه الله تعالى في التعريف “إن يغوث هو ابن شيث بن آدم فيما نقل، وكذلك سواع وما بعده، وكانوا يتبركون بدعائهم، فلما مات منهم أحد مثلوا صورته فتمسحوا بها إلى زمن مهلائيل فعبدوا بتدريج الشيطان لهم” 5. وهكذا نرى الشرك إنما دخل على الناس من باب الصالحين والغلو فيهم،   1 الزمر: 3 2 الزمر: 38 3 يونس: 31 4 صحيح البخاري 6/160. 5 فتح الباري 8/668 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وتصوير صورهم، والتبرك بهم، والتوسل بهم، ومن هنا يتبين عظيم حاجتنا إلى معرفة سبل التوسل الصحيحة، وهي بحمد الله تعالى بينة واضحة في كتاب ربنا الذي ما فرط الله عز وجل فيه من شيء، على أن أعظم ما يتوسل به المرء هو التقرب إلى الله عز وجل بصالح الأعمال، وجليل الخلال، وإلى هذا أشار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول فداه أبي وأمي ونفسي “انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا1، فناء 2 بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحبّ الناس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك ففرج عنّا ما نحن فيه، فانفرجت غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد   1 أغبق فلانا: أي أسقيه عشاءً فيشرب. 2 أي ابتعد في طلب شيء فكان سبب تأخره عنهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 حين، فقال يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون” 1. فهؤلاء الثلاثة الصالحون لما وقعوا في الشدة لم يجدوا ما ينقذهم منها، أو يخلصهم من الهلكة سوى أن يتوسلوا إلى الله عز وجل بأفضل ما عملوا مما ابتغوا به وجه ربهم عز وجل، ولم يجدوا أعظم من بر الوالدين والإحسان إليهما، وكذا إعطاء الأجير أجره وحفظه له، وتنميته، ومن ثم تسليمه له دون طمع في شيء منه مع كثرته، وكذا التوسل بالعفاف وترك الحرام مع القدرة التامة عليه. وبمثل هذا أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، وعلمهم كيف يتوسلون إلى ربهم، ومما يؤكد ذلك ويزيل كل وهم في باب الوسيلة ما حدّث به ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: “كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: “سل” فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: “أو غير ذلك” قلت: هو ذاك، قال: “فأعني على نفسك بكثرة السجود” 2. وهكذا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم هذه الأمة كيف تتوسل إلى ربها، وذلك بإخباره عما كان من الأمم السابقة من التوسلات الصحيحة التي قبلت فرأى أصحابها آثارها، وكذلك بإرشاد من أراد مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهذا مقام من أعظم المقامات، ولذا دله الرسول صلى الله عليه وسلم على عمل هو من أفضل الأعمال، ألا وهو الإكثار من الصلاة. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد   1 صحيح البخاري 3/91، وصحيح مسلم 8/89، واللفظ للبخاري. 2 صحيح مسلم 2/52، ولفظ أبي داود 4/304 والنسائي 2/180 “كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آتيه بوضوئه وبحاجته، فقال: سلني … الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فأكثروا الدعاء” 1 فلعل هذا تفسير قول الله عز وجل {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} 2. هذا وإن التوسل إلى الله عز وجل والتزلف إليه بعمل محابه، واجتناب موجبات سخطه ما زال ديدن المؤمنين، وخاصة النبيين من عباد الله عز وجل وجل، يقول الله جلت قدرته: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً. قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 3. وإن سياق الآيات الكريمات ليوحي بموقف النبيين المخالف لموقف المشركين الذين يتوسلون بأندادهم وآلهتهم التي لا تملك شيئاً، وإنه موقف سادة الموحدين الذين يخلصون الدعاء لربهم عز وجل، ولا يطمعون في أحد سواه كائناً من كان.   1 رواه مسلم 2/49 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. 2 العلق: 19. 3 الإسراء: 55-57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 معنى التوسل : الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، من وسل يسل أي عمل ما يتقرب به، ويكون له به منزلة، والوسيلة: الدرجة، والوسيلة: القربة. والوسيلة: هي التوصل إلى الشيء برغبة. وأنا متوسل إلى الله بكذا، وواسل، ووسلت إليه، وتوسلت إلى الله بالعمل أي تقربت، قال لبيد: أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم بلى كل ذي دين إلى الله واسل1 قال الحلبي: “وقال بعضهم: حقيقة التوسل إلى الله مراعاة سبيله بالعلم   1 البيت في لسان العرب 11/724 مادة (رسل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 والعبادة وتحري أحكام الشريعة، وعلى هذا فهي مقاربة للقربة” 1. وبهذا يتبين أن الوسيلة: هي التقرب إلى الله تعالى بما يحب من الاعتقادات، والأعمال، والأقوال، وسؤاله تعالى بأسمائه وصفاته وبفضله وكرمه. فمن أراد التوسل إلى ربه عز وجل فإنما يصل إليه عن طريق العمل بشريعته واتباع نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2 إن الرب جل وعلا يرشد عباده المؤمنين، بل يأمرهم بتقواه تبارك وتعالى، فباتقائهم ربهم يكونون قد ابتغوا إليه جل وعلا الوسيلة والطريقة التي تقربهم منه، وترضيه عنهم، إذ التقوى إنما هي العمل بما يحبّ وترك ما يكره، فهذا أعظم الوسائل وأقربها لإدراك الفلاح الذي هو الظفر بالمطلوب المرغوب، والنجاة من المخوف المرهوب، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لسلوك ما يحب، إنه سبحانه خير مسؤول ومجيب. قال ابن كثير: “يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم، وترك المنهيات، وقد قال بعدها: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس: “أي القربة” وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن … وقال قتادة: “وتقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه” وقرأ ابن زيد {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} 3“.   1 عمدة الحفاظ 4/359. 2 المائدة: 35. 3 الإسراء: 55-57، تفسير ابن كثير 3/52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ما في سورة الفاتحة من توسلات إن أول ما يتلوه قارئ كتاب الله تعالى أمّ القرآن، والفاتحة قد اشتملت على توسلات لله تعالى هي من أعظم ما يتوسل به العبد لربه تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} الحمد وأول ما يتوسل به العبد هو حمده لربه جل وعلا وشكره له بوصفه رباًّ للعالمين، أي خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم ومصرف أحوالهم، الذي يربيهم بنعمه وإحسانه، وهو جل وعلا الرحمن الذي شملت رحمته كل خلقه من برٍّ وفاجر في الدنيا، وهو جل وعلا الرحيم بعباده المؤمنين كما قال تعالى {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 1 فهذا توسل بأسمائه تعالى الحسنى وبصفاته العلى، وهو جل وعلا مالك يوم الدين وهو يوم القيامة حيث يجازي الخلق بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، ثم يتوجه العبد إلى ربه ويتوسل إليه بتوحيده له قائلاً: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.} أي نخصك يا ربنا بالعبادة، ونفردك بها، فلا نعبد أحداً سواك، ولا نتوجه إلى أحد غيرك كائناً من كان، ونخصك بالاستعانة على العبادة وعلى أمورنا كلها، فلا نتوكل على أحد سواك. وبعد هذه التوسلات العظيمة بشكره جل وعلا وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبتوحيده تبارك وتعالى يدعو العبد قائلاً: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ} فدل ذلك على أن أعظم ما يسأله العبد ربه إنما هو الهداية إلى صراطه المستقيم الذي هو دين الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل به كتابه الكريم، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين2،   1 الأحزاب: 43 2 قال الله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء: 69] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ويخالف صراط المغضوب عليهم 1، وهم اليهود الذين آتاهم الله علماً ولكنهم لم يشكروه بالعمل به، ويخالف صراط الضالين الذين عبدوا الله على غير الهدى2، فعبدوه بالمحدثات والمبتدعات، فعملوا بغير علم، ومن هنا كان ضلالهم. ولما كان هذا من أعظم ما يسأله المرء فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وجعلت ركناً من أركان الصلاة، فيدعو المسلم بهذا الدعاء العظيم ما لا يقل عن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة، ويتعلم المؤمن بذلك كيف يدعو ربه، وكيف يتوسل إليه التوسل الشرعي الصحيح، وكيف يتملق ربه، ويتزلف إليه، ويتقرب إليه بما يحب ويرضى.   1 قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60] 2 قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 التوسل إلى الله بالإيمان والعمل الصالح آيات القرآن الكريم يكثر فيها ذكر توسل المؤمنين بإيمانهم، والتوسل إلى الله عز وجل بالإيمان به، وبما أوجب الإيمان به، وكذا التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة، والقربات النافعة، فهذه توسلات صحيحة نافعة، دل عليها القرآن الكريم، قال تعالى حكاية عن المؤمنين: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1. قال ابن كثير رحمه الله: “يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل فقال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} أي آمنا بك وبكتابك ورسولك {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أي بإيماننا بك، وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك وبرحمتك”2 فهؤلاء الصالحون توسلوا إلى ربهم جل وعلا بإيمانهم بكتاب ربهم ورسله، ذلك الإيمان الذي يدفع صاحبه إلى الأعمال الصالحة، وفعل ما يرضي الرب جل وعلا، ودلّ على توسلهم بالإيمان الفاء في   1 آل عمران: 16 2 تفسير ابن كثير 1/353. قال أبو حيان رحمه الله تعالى: “ثم سألوا الغفران، ووقايتهم من النار مرتبا ذلك على مجردّ الإيمان، فدّل على أن الإيمان يترتب عليه المغفرة” [البحر المحيط 2/399] . وقال الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى: “وقوله (الذين يقولون) عطف بيان للذين اتقوا، وصفهم بالتقوى، وبالتوجه إلى الله تعالى بطلب المغفرة، ومعنى القول هنا الكلام المطابق للواقع في الخبر، والجاري على فرط الرغبة في الدعاء في قولهم (فاغفر لنا ذنوبنا) إلخ، وإنما يجري كذلك إذا سعى الداعي في وسائل الإجابة، وترقيها بأسبابها التي ترشد إليها التقوى، فلا يجازى هذا الجزاء من قال ذلك بفمه ولم يعمل به” [التحرير والتنوير 30/184-185] قلت: والإيمان الصحيح يدعو صاحبه إلى العمل الصالح ولا بدّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 قولهم (فاغفر لنا) لأنها تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، فكأنهم قالوا بإيماننا بك يا ربنا وتصديقنا بما أمرتنا به فاغفر لنا ذنوبنا وأعذنا من عذاب النار. وقال تعالى حكاية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما أعلنوا استسلامهم لأمر الله عز وجل، واستعدادهم التام للمسارعة إلى ما يطلب منهم {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1 قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وقوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه، وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه {غفرانك ربّنا} سؤال للمغفرة والرحمة واللطف) 2، فقولهم غفرانك كأنهم قالوا: اغفر لنا ياربنا لاستجابتنا لك واستسلامنا لأمرك، وطاعتنا لك فيما تطلبه منا. وقال عز وجل حكاية عن المتقين {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 3، فكأنهم قالوا بإيماننا بك يا ربنا وتصديقنا بما أمرتنا فاغفر لنا ذنوبنا وأعذنا من عذاب النار. وفي قوله تعالى حكاية عن الحواريين أتباع عيسى عليه السلام: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 4 فهؤلاء الحواريون من أنصار عيسى عليه السلام توسلوا إلى الله عز وجل بإيمانهم الصادق، واتباعهم لرسوله عيسى عليه السلام ليجعلهم الله تعالى من الشاهدين الذين يشهدون لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة والبلاغ، أو أنهم دعوا الله عز وجل أن يجعلهم من الشاهدين وهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الذين يشهدون للأنبياء   1 البقرة: 285. 2 تفسير ابن كثير 1/342. 3 آل عمران: 16. 4 آل عمران: 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 والرسل صلوات الله وسلامه عليهم بأداء الأمانة وتبليغ الرسالة، قال في الفتوحات الإلهية “قوله {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} يعني الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق، واتبعوا أمرك ونهيك، فاثبت أسماءنا مع أسمائهم، واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به” 1. وأياً كان فإن سؤالهم لربهم كان بالإيمان والاتباع، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم ما يتقرب به إلى الله عز وجل، ويتوسل به إليه لغفران الذنوب وتكفير السيئات، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.وفي آخر سورة آل عمران نجد مشهداً مؤثراً يذكره الله عز وجل عن أولئك المؤمنين أولي الألباب الصحيحة، والعقول الراجحة إنه مشهد الضراعة والتذلل الذي ينمّ عن الخشوع، والخشية والإنابة، قال تبارك وتعالى حكاية عنهم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 3 وهذه التوسلات الضارعة الصادرة عن قلوب منيبة خاشعة، إنما كانت توسلاً بسرعة الاستجابة لداعي الله عز وجل دونما تردد ولا تلكؤ، فما أن سمعوا الداعي حتى آمنوا بربهم إيمانا راسخاً دعاهم إلى هذا الابتهال الدالّ على عظيم خوفهم من ربهم، وكبير رجائهم وطمعهم في   1 الفتوحات الإلهية 1/333. 2 آل عمران: 31 3 آل عمران: 191-194 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 والرسل صلوات الله وسلامه عليهم بأداء الأمانة وتبليغ الرسالة، قال في الفتوحات الإلهية “قوله {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} يعني الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق، واتبعوا أمرك ونهيك، فاثبت أسماءنا مع أسمائهم، واجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به” 1. وأياً كان فإن سؤالهم لربهم كان بالإيمان والاتباع، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم ما يتقرب به إلى الله عز وجل، ويتوسل به إليه لغفران الذنوب وتكفير السيئات، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2.   1 الفتوحات الإلهية 1/333. 2 آل عمران: 31 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 توسل الصحابة رضي الله عليهم ... وقال تعالى حكاية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما أعلنوا استسلامهم لأمر الله عز وجل، واستعدادهم التام للمسارعة إلى ما يطلب منهم {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 1 قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (وقوله: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه، وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه {غفرانك ربّنا} سؤال للمغفرة والرحمة واللطف) 2، فقولهم غفرانك كأنهم قالوا: اغفر لنا ياربنا لاستجابتنا لك واستسلامنا لأمرك، وطاعتنا لك فيما تطلبه منا. وقال عز وجل حكاية عن المتقين {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 3، فكأنهم قالوا بإيماننا بك يا ربنا وتصديقنا بما أمرتنا فاغفر لنا ذنوبنا وأعذنا من عذاب النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 توسل الحواريين ... وفي قوله تعالى حكاية عن الحواريين أتباع عيسى عليه السلام: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 4 فهؤلاء الحواريون من أنصار عيسى عليه السلام توسلوا إلى الله عز وجل بإيمانهم الصادق، واتباعهم لرسوله عيسى عليه السلام ليجعلهم الله تعالى من الشاهدين الذين يشهدون لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة والبلاغ، أو أنهم دعوا الله عز وجل أن يجعلهم من الشاهدين وهم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الذين يشهدون للأنبياء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 توسل أولي الألباب ... وفي آخر سورة آل عمران نجد مشهداً مؤثراً يذكره الله عز وجل عن أولئك المؤمنين أولي الألباب الصحيحة، والعقول الراجحة إنه مشهد الضراعة والتذلل الذي ينمّ عن الخشوع، والخشية والإنابة، قال تبارك وتعالى حكاية عنهم: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 3 وهذه التوسلات الضارعة الصادرة عن قلوب منيبة خاشعة، إنما كانت توسلاً بسرعة الاستجابة لداعي الله عز وجل دونما تردد ولا تلكؤ، فما أن سمعوا الداعي حتى آمنوا بربهم إيمانا راسخاً دعاهم إلى هذا الابتهال الدالّ على عظيم خوفهم من ربهم، وكبير رجائهم وطمعهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 رحمة ربهم، وإنّ المتأمل في هذا الدعاء ليستشعر اليقين الذي ملأ قلوبهم، والذل والاستكانة التي ملأت نفوسهم وهم يبتهلون ضارعين مستنجزين ربهم جل شأنه ما وعدهم من إجابة دعائهم، وغفران ذنوبهم وإجارتهم من دخول النار، وإدخالهم في رحمته 1، وأن يتوفاهم مع الأبرار لينزلوا منازلهم، ويكونوا في جوار ربهم، وكل ذلك كان ثمرة تفكرهم في مخلوقات الله تعالى، ذلك التفكير الذي هداهم إلى الإيمان بربهم، وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق بجلاله وعظمته، وأنه جل وعلا لم يخلق الخلق باطلاً، ولم يوجدهم عبثاً، فهو المنزه عن العبث، بل له الحكم البالغة والأسرار العظيمة التي اقتضت إيجاده هذا الخلق العظيم. فهذا توسل بسرعة الاستجابة لداعي الله عز وجل، واتباعه، كما أنه توسل بالإيمان بالرب جل وعلا، وتوسل بصفة عظيمة من صفات الله عز وجل وهو عدم إخلافه تبارك وتعالى لما وعد به عباده المؤمنين، فهذه كلها توسلات صحيحة، دلّ كتاب الله عز وجل على مشروعيتها، ومحبة الله عز وجل لعباده أن يتوسلوا إليه بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 التوسل الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ... هذا وإن أعظم ما يتوسل به المرء من الأعمال الصالحة بعد توحيده لربه إنما هو الصلاة، التي تجمع بين أنواع من العبادة، فهي تشتمل على تلاوة القرآن، وعلى ذكر الله عز وجل، وعلى الركوع، والسجود، والدعاء، والتذلل، والخشوع، والإنابة، والرجاء، والتضرع، والاستكانة؛ فلذا كانت من أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه جل وعلا، وحقّ للمصلي أن يدعو مولاه، وأن يستجيب   1 إن التالي لقول الله تعالى حكاية عن هؤلاء الصالحين {مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ليحسّّ في دعائهم? بالتضرع والتذلل والمسكنة وإظهار العجز والحاجة إلى ربهم جل وعلا كما يشعر بأن هؤلاء قوم تنزهوا عن الظلم بجميع أنواعه، وأنهم يعلمون يقيناً أن الظالمين لا يجدون من ينصرهم يوم القيامة من دون الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 له ربه، قال الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً} 1 إنه دعاء أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر بإقامة الصلوات الخمس، وقيام الليل يتلو كتاب ربه متهجداً به، ضارعاً إليه ليكون ذلك موصلاً له إلى ذلك المقام المحمود الذي يحمده عليه الخلائق أجمعون، وهو مقام الشفاعة العظمى التي لا يتقدم لها يوم القيامة أحد سواه صلوات الله وسلامه عليه 2. فهذا أمر من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم، وهو تعليم للأمة يدلّ على أن الصلوات المفروضة من أعظم ما يتوسل به العبد إلى ربه تبارك وتعالى، ومن أعظم ما يتوسل به العبد بعد الصلوات المفروضة إنما هو قيام الليل، حيث يستيقظ العبد في جوف الليل تاركاً لذيذ منامه ليناجي ربه، ويتضرع إليه. ومن أعظم ما يتوسل به كذلك قراءة القرآن الكريم، وخاصة في صلاة الفجر، ذلك الوقت الذي تشهده الملائكة الحفظة عليهم السلام الذين يكتبون أعمال بني آدم 3.   1 الإسراء: 78-80 2 حديث الشفاعة الطويل المشهور رواه البخاري 9/121، مسلم 1/123، وينظر البخاري 6/86. 3 روى البخاري رحمه الله تعالى بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح” يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً} [الإسراء: 78] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 توسل كليم الله موسى عليه السلام ... وهنالك موقف جليل من مواقف كليم الله موسى على نبينا وعليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الصلاة والسلام، وذلك عند ما أمره الله تبارك وتعالى أن يذهب إلى فرعون الطاغية ليدعوه إلى توحيد الله عز وجل، وترك ما عليه من الشرك وادعاء الألوهية، وليخلص بني إسرائيل من العذاب المهين، ويرسلهم معه، فبادر موسى عليه السلام بالاستجابة لأمر ربه، وقال مستعينا على ما كلّف به: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي. وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً. إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً. قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} 1 فهذا توسل الكليم عليه السلام، إنه توسل بسرعة استجابته لأمر الله عز وجل بالذهاب إلى فرعون، وجعل قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} علّة لدعائه بإشراك أخيه هارون في الرسالة، وكأنه طلب إجابة دعائه ليكون وأخوه من الذاكرين الله كثيرا الذي لا يشغلهم شيء عن ذكر مولاهم، وهذا هو التوسل الصحيح بالذكر والدعاء، ولذا استجاب الله عز وجل دعاءه، قال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وجدير بمثل هذا الدعاء المتضمن للتوسل الصحيح أن يجاب، ولصاحبه أن لا يخيب.   1 طه: 25-29 2 الأحقاف: 15 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 التوسل ببر الوالدين ... ومن مواقف التوسل المشروع الذي عرض له كتاب الله عز وجل موقف من هو صالح بارّ بوالديه، قال الله تبارك وتعالى {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 2 إنه حال رجل عرف إنعام ربه عليه، فهو يرى نعم الله عليه تترى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وإحسانه لا ينقطع، فيلهج لسانه بالتضرع والدعاء أن يلهمه شكر نعمه التي أنعمها عليه وعلى والديه، وأن يوفقه للعمل الصالح الذي يرضاه جل وعلا، وأن يصلح في ذريته ليكونوا عبادا صالحين مثله، يطيعون ربهم، ويعمرون الأرض بالصالحات، فتوسل إلى ربه جل وعلا بتوبته إليه، وندمه على تقصيره وتفريطه، وإقراره بذنبه، وتوسل إليه بأنه مستسلم لأمره، خاضع لطاعته، مخلص له العبادة، وإنه لتوسل من أعظم التوسلات؛ إذ توسل بإقراره بنعم ربه عليه، وشكره لأنعمه، وطلب العون من ربه على شكره، وحسن عباده، وصلاح ذريته، وهذا التوسل بالخطأ والإقرار بالذنب، والندم على الزلة، وأخيراً التوسل بالاستسلام التام لله رب العالمين، ولهذا كان عاقبة هذا التوسل ما قاله ربنا جل وعلا {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 التوسل بالصبر ... ومن التوسل المشروع التوسل إلى الله تعالى بالصبر على ما يصاب به المؤمن ويبتلى به من تسلّط أعداء الله عليه، وإذاقته صنوف العذاب ليردّوه عن دينه، ويفتنوه في إيمانه، يقول الله تعالى حاكيا عن سحرة الأقباط الذين أعلنوا إيمانهم بين يدي فرعون عليه لعائن الله {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ. قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقلِبُونَ. وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} 2 إنه لموقف عظيم لا يقفه إلا من قد ملأ الإيمان قلبه، وخالطت بشاشته فؤاده، موقف الثبات على الإيمان رغم هذا الوعيد الشديد،   1 الأعراف: 121-126 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 والتهديد الأكيد الذي صدر من طاغية قادر لا يتورع عن إيذاء من لا ذنب له، فكيف بمن كفر به، وأعلن خروجه عن ولائه، وسيؤثر موقفه في النظارة الحاضرين؛ إذ يزعزع إيمانهم بفرعون، ويكشف كذبه وافتراءه في ادعائه الربوبية، ويفضح زيفه في ادعاء الألوهية. ولعلم أولئك المؤمنين بصدقه في وعيده، وأنه سيفعل ما قال دون تردد أظهروا ثباتهم، وعدم تراجعهم ولو كلفهم ذلك أرواحهم، فلذا دعوا الله عز وجل أن يفرغ عليهم الصبر، ويعمهم به ليثبتوا على دينهم، ولا يرتدوا عنه، وسألوا ربهم جل وعلا أن يتوفاهم على الإسلام ليكون ذلك سببا لنجاتهم من عذاب هو أشد من عذاب فرعون، وليكون سببا في رضا الله عز وجل عنهم، ومن ثم دخولهم الجنة دار رحمته. إن هذا الموقف من مواقف التوسل إلى الله عز وجل بالإيمان به، والثبات على الإيمان، موقف الراغبين فيما عند الله عز وجل، الذين لا يؤثرون شيئاً في هذه الحياة الدنيا على مرضاة ربهم ولو كان في ذلك إزهاق لأرواحهم، وإتلاف لنفوسهم؛ ألا ما أجّله من موقف!، وما أعظمه من درس ينبغي أن يحتذيه كل من يريد أن يتوسل إلى ربه عز وجل؛ إن التوسل لله عز وجل لا يكون إلا بعمل صالح، وجهد يقوم به المرء يبتغي به وجه ربه، لا توسل العاجزين الذين يتطلعون إلى أعمال غيرهم، ومنازل سواهم، فيتوسلون بها ـ إنها وسيلة غير نافعة، وطريق مقطوع لا يصل به صاحبه إلى مراده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 التوسل بالجهاد في سبيل الله ... هذا وإن من أعظم ما يتوسل به العبد إلى ربه هو جهاده في سبيل إعلاء كلمته، وثباته في القتال، وصبره على ما يصيبه في سبيل الله عز وجل، وعدم استكانته وضعفه في مواطن الابتلاء، وإنا لنلمس ذلك فيما حكاه الله عز وجل عن الربانيين الصالحين أتباع النبيين قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 1. فهذه الآيات المباركات، والآيات التي قبلها في سورة آل عمران فيها تعريضٌ وعذلٌ وعتابٌ لمن انهزم يوم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح أن محمداً قد قتل، وكذا أولئك الذين نزلوا من الجبل، وتركوا الموقع الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بملازمته وعدم تركه كائنا ما كان 2، فالآيات بين الله عز وجل فيها ثبات هؤلاء الربانيين الصابرين المحسنين، إذ خرجوا للجهاد في سبيل الله عز وجل مع أنبيائهم فثبتوا ولم يفروا، ولم يصبهم وهنٌ ولا ضعفٌ، ولا ذلوا لأعدائهم، وما كان هجيراهم إذ ذاقوا ألم القتال، ومرارة المواجهة مع أعداء الله عز وجل إلا أن قالوا {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} إنهم توسلوا إلى الله عز وجل بخروجهم للجهاد في سبيل إعلاء كلمته عز وجل طالبين مغفرة ذنوبهم، والثبات في ذلك الموطن الشديد، والنصر على أعدائهم الكافرين، إنه لتوسل صحيح يصل به صاحبه إلى مقصده، ولذا أجاب الله دعاءهم بما أرادوا {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا} أي بالنصر والظفر على أعدائهم، {وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} وهو النعيم المقيم في الجنة، فكانت الخاتمة الحميدة جزاءهم دنيا وأخرى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . وهذا الموطن من مواطن التوسل شبيه بما وقع من أصحاب طالوت {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ   1 آل عمران: 146-148 2 ينظر سيرة ابن هشام 2/77-78، وسيرة ابن كثير 3/29-43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 1. إنه لمشهد مؤثر يحكي الله عز وجل فيه حال هؤلاء الصابرين الذين اجتازوا الامتحان الذين ابتلوا به، إذ سلط عليه العطش الشديد والماء بين أيديهم، فنهوا عن الشرب من النهر إلا غرفة واحدة بيد الشارب ثم يمسك، فلم ينجح في هذا الامتحان سوى ثلاثمائة وبضع عشرة رجلاً 2 {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} ذلك أنهم رأوا قلة عددهم وكثرة عدوهم فهالهم ذلك الأمر، فما كان من علمائهم الذين يدركون بأن وعد الله عز وجل لهم بالنصر حقٌّ، ولن يخلف الله وعده، فالنصر من عند الله عز وجل، وكثيرا ما غلبت فئةٌ قليلةٌ جماعةً كثيرةً بإذن الله، والله مع الصابرين، أي بنصره ومعونته وتأييده، وهذا حثٌّ منهم لهم على الصبر لأنه من أعظم مقومات النصر، وهنا أقدم المؤمنون على القتال، وبرزوا لجالوت وجنوده، و {قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} هكذا عند ما تركوا الشرب مع عظيم العطش والحاجة إلى الماء، وأقدموا على لقاء العدو، وبرزوا له غير خائفين، عند ما قدموا هذه الوسائل التي تقربهم من ربهم دعوا الله عز وجل بأن ينزل عليهم الصبر، وأن يثبت أقدامهم في لقاء العدو لئلا يجبنوا   1 البقرة: 249-251. 2 وهذا العدد هو عدد من حضر بدراً من الصحابة رضوان الله عليهم. ينظر: صحيح البخاري 5/73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 ويفروا، وأن ينصرهم على القوم الكافرين، فأجاب الله دعاءهم، وهزم أعداءهم، وحقّ لدعاءٍ يتقدمه مثل هذا التوسل الصحيح أن يجاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 التوسل بالتوبة ... هذا وإن من التوسلات الصحيحة توسل المعترف بذنبه، العائد إلى ربه، المقر بخطئه، توسل المنكسر بين يدي ربه، المستحي من زلته وخطيئته، يقول الله جلت قدرته حكايةً عن كليمه عليه السلام {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} 1 إن موسى عليه السلام ما أن ضرب ذلك القبطي بجمع كفيه، أو بعصا كانت في يده حتى سقط قتيلاً بفعل تلك الضربة القوية، علما بأن موسى عليه السلام لم يرد قتله، وما أن سقط ميتاً حتى تنبه إلى عمله هذا الذي كان بسبب الشيطان إذ هيّج غضبه حتى ضرب القبطي فقضى عليه، وهنا ندم كليم الرحمن عليه السلام فبادر بالتوبة إلى ربه مظهراً تألمه لما وقع منه، معترفا بتسرعه وخطئه {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} إنه موقف ذليل منكسر بين يدي ربه، موقف من أسقط في يديه، فلم يجد غير باب ربه يطرقه راجياً عفوه وصفحه، فلم يخب رجاؤه في ربه {فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 توسل آدم وحواء عليهما السلام ... ويذكرنا حال موسى عليه السلام هذا بحال أبينا آدم عليه السلام، قال الله عز وجل {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} 1، إن آدم وحواء عليهما السلام لما تمكن إبليس عدو الله من أن يغرّهما ويخدعهما بمعسول القول، ولم يكونا ليتصورا أن يقسم أحد بالله عز وجل وهو كاذب، فانخدعا به؛ لأنه حلف لهما، وأكلا من الشجرة، وما أن أكلا منها حتى بدت عوراتهما، فأخذا من ورقة الجنة يلزقان بعضها إلى بعض لستر سوآتهما، وناداهما ربهما {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} 2 وهنا انقشعت غمامة الغفلة عنهما، وأدركا عظيم ما صنعا، وأنهما قد عصيا ربهما بطاعتهما لعدو الله إبليس، فندما غاية الندم وقالا {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3 وإن القارئ للآية ليشعر بحرارة الأسى، وعظيم الندم من آدم وزوجه عليهما السلام، ويتبين من كلامهما استسلامهما وانكسارهما بين يدي ربهما، طالبين المغفرة والرحمة، وإلا كانا من الخاسرين لأنفسهم بظلمهم وعصيانهم، إنه موقف النادم على المعصية، العائد إلى ربه، المعترف بذنبه، المتذلل بين يدي مولاه يطلب رحمته وصفحه، وحق لمن كان بهذه الحال أن يعفى عنه، وأن يتجاوز عن سيئاته؛ فإنه قد توسل توسلاً صحيحاً، وولج البيوت من أبوابها قال عز وجل {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 توسل إبراهيم عليه السلام ... وفي سورة إبراهيم دعوات توجه بها إبراهيم الخليل عليه السلام إلى ربه عز وجل ضارعاً خاشعاً متذللاً، وإن التالي لكتاب الله عز وجل ليحس أن تلك 1 الأعراف: 19-22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الدعوات إنما تخرج من أعماق قلب الخليل عليه السلام، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ. رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ. رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} 1 إن إبراهيم الخليل عليه السلام في دعائه هذا ليتوسل إلى ربه عز وجل بتوحيده له، ويسأله أن يثبته على التوحيد، وأن يبعده وبنيه عن عبادة الأصنام، ويتوسل كذلك بطاعته لربه واستجابته لأمر مولاه إذ أمره أن يسكن ابنه إسماعيل وزوجه هاجر عليهما السلام في ذلك المكان القفر الموحش الذي لا أنيس به ولا جليس، وفي ذلك الوادي الذي لا زرع فيه ولا ثمر، عند بيت الله عز وجل المحرم، وأنه فعل ذلك رجاء أن يحيوا مؤمنين طائعين مقيمين للصلاة، ولذلك أسكنهم عند البيت المحرم، وبناءً على ذلك دعا الله عز وجل أن يهيئ أناساً ليؤنسوا وحدتهم، وأن ييسر أمر معيشتهم، وأن يرزقهم من جميع أنواع الثمار، وأصنافه، رجاء أن يشكروا الله تعالى على إنعامه وإفضاله، ثم يتوسل إلى الله عز وجل بعلمه بكل شيء، وأنه لا يفوت علمه شيء من ذلك، لقد توسل إلى الله تعالى بتلك البواعث والمقاصد التي دعته إلى أن يسكن ذريته تلك الديار الموحشة في ذلك الوقت، ولا ريب أن الله عز وجل يعلم صدقه وإخلاصه وانقياده لأمر ربه تعالى، وهذا توسل بالإخلاص   1 إبراهيم: 35-39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 النفس لتذعن لأمر الله عز وجل، وإن كان في ذلك ما لا ترغب فيه ولا تريده، وفي قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} توسل بشكره لربه عز وجل على أن وهبه الذرية بعد أن يئس منها، وانقطع رجاؤه، وتوسّل بكون ربه عز وجل سميع دعاء من يدعوه، ومجيب رجاء من يرجوه، وأخيراً يختم دعاءه مبتهلاً إلى ربه ليجعله وذريته مقيمين للصلاة، محافظين عليها وعلى حدودها، ليتحقق بذلك ما أراده من إسكان بعض ذريته في ذلك الوادي المبارك، ويسأل ربه أن يقبل دعاءه، وأن يغفر له ولوالديه ولجميع المؤمنين يوم القيامة، حيث يحاسب الله عز وجل الخلائق على ما قدموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 توسل أصحاب الكهف ... وهنالك موقف رائع من مواقف التوسل إلى الله تعالى، ألا وهو موقف الفتية أصحاب الكهف، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً. فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً. هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} 1، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: “وقوله {إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربّنا آتنا من لدنك رحمةً وهيّئ لنا من أمرنا رشداً} يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منهم، فلجؤوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين الله تعالى رحمته ولطفه بهم {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} أي   1 الكهف: 9-13 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} أي وقدّر لنا من أمرنا رشداً (هذا) 1، أي اجعل عاقبتنا رشداً كما جاء في الحديث “وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً”2 وفي المسند من حديث بسر بن أرطأة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو “اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة”3 وقوله {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة، (ثم بعثناهم) أي من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاما يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله، ولهذا قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ} أي المختلفين فيهم {أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} قيل: عددا، وقيل: غاية … {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} من هنا شرع في بسط القصة وشرحها، فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب، وهم أمثل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل … وقال مجاهد: (بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق، فألهمهم الله رشدهم، وآتاهم تقواهم، فآمنوا بربهم، أي اعترفوا له بالواحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً} ولن لنفي التأبيد، أي لا يقع منا هذا أبداً لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً، ولهذا قال عنهم: {لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} أي باطلا وكذباً وبهتاناً {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} يقولون بل   1 صحة العبارة: هذا رشداً 2 رواه أحمد بلفظ “واسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشداً” المسند 6/147. 3 المسند 4/181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ} أي وإذ فارقتموهم، وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ففارقوهم أيضاً بأبدانكم {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم {وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ} الذي أنتم فيه {مِرْفَقاً} أي أمراً ترتفقون به” اهـ 1. وهكذا نرى هؤلاء الفتية المؤمنين لم يرضوا ما عليه قومهم من الشرك بالله تعالى، فوحدوا الله تعالى، وتركوا عبادة غيره، ولما أراد قومهم أن يفتنوهم عن دينهم خرجوا فارين بدينهم لا يلوون على شيء، ودخلوا الكهف، وعندئذ قالوا: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} فهؤلاء الفتية توسلوا إلى الله تعالى بتوحيدهم لله عز وجل وتركهم عبادة غيره، واعتزالهم لقومهم، وفرارهم بدينهم، وبعد أن قدّموا هذه الوسائل الصحيحة المقبولة دعوا الله عز وجل وهم واثقون من إجابته دعاءهم، وقد استجاب تعالى دعاءهم فعمّى عنهم أعين طالبيهم من قومهم، ولبثوا في كهفهم ما ينيف على ثلاثمائة عام وهم نيام لا يمسهم سوء 2، ولا يشعر بهم أحد. وإن التالي لقصصهم ليشعر بقوة يقين هؤلاء الفتية، وثقتهم بربهم عز وجل، وعظيم توكّلهم عليه جل وعلا {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} إن موقف هؤلاء الفتية موقف يثير العجب، ويبعث على التأمل، موقف ينبغي أن يدرس لطلابنا في مدارسهم ليكون لهم بهؤلاء الأبطال الذين آثروا الفرار بدينهم، والثبات عليه على الراحة التي كانوا فيها، والرغد الذي عاشوا   1 تفسير ابن كثير 1/73-75 2 قال الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف: 25] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 عليه، والترف الذي تربوا فيه، وفارقوا أهليهم وديارهم طمعا في رحمة ربهم، ونجاة أنفسهم من سخط الله عز وجل، إذ لو بقوا مع قومهم لهلكوا وخسروا، ولكن أراد الله عز وجل بهم خيراً فآثروا ما عند الله وإن كان آجلاً على الراحة العاجلة الزائلة فنجوا بذلك، وفازوا برحمة الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 التوسل بالأسماء والصفات إن مما يستدعي التدبر والتأمل قول الله عز وجل حكاية عن موسى وهارون عليهما السلام قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 1 فهذا كليم الله موسى عليه السلام عند ما كان على موعد مع ربه تبارك وتعالى، فذهب إليه ومكث أربعين يوما، وعاد إلى قومه، فوجد قومه قد غيروا ما كانوا عليه من التوحيد، وعبدوا العجل، وذلك بتسويل وتزيين السامري لهم ذلك، حيث صنع لهم عجلاً جسداً له خوار؛ ذلك العجل الذي صنعه من الذهب الذي أخذوه من القبط قبل خروجهم من مصر، وخلطه بتراب من أثر الرسول (جبريل عليه السلام) ، وكان يصدر صوتا، وأصبح فتنة لهم، فعبدوه وقالوا ما حكاه الله عز وجل عنهم: {هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} 2. هذا وقد حاول هارون عليه السلام أن يثنيهم عن عزمهم الباطل فلم يفلح، وأصروا على شركهم، فلما رأى موسى عليه السلام وقد تغير حال قومه من توحيد، إلى شرك ألقى الألواح التي فيها التوراة، وأمسك برأس أخيه هارون يجره إليه؛ فقال له: {يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} 3 وقال له: {ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي   1 الأعراف: 150-151 2 طه: 88 3 طه: 94 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1. وهنا تبين موسى عليه السلام، وعلم أن أخاه هارون بريء من عمل قومه، وأنه لم يأل جهدا في تذكير قومه، وتحذيرهم مما هم عليه، فما كان منه عليه السلام إلا أن توجه إلى ربه جل وعلا بالدعاء قائلا: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 2 ألا ما أعظمه من دعاء توسّل به موسى عليه السلام فيه ـ بكون الله عز وجل هو أرحم الراحمين ـ بأن يغفر له ولأخيه ما قد يكون فرط منهما من تقصير في جانب ربهم والدعوة التي كلّفا به، وأن يدخلهما في رحمته التي وسعت كل شيء، فلا يؤاخذهما بما اقترف قومهم وافتروه على الله عز وجل. وبعد أن بين الله عز وجل جزاء الذين اتخذوا العجل، وأنه عز وجل يتوب على من تاب، يقول عز وجل: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك} 3 إن موسى عليه السلام يتوسل إلى ربه عز وجل بكونه وليا له ولعباده الصالحين، أي متوليهم بعنايته ورعايته ونصره وتأييده، ويتوسل بذلك ليغفر لهم ما فرط من طلب أصحابه الذين اختارهم ما لاينبغي لهم، وليرحمهم، وتوسل أيضا بكون الله عز وجل هو خير الغافرين، أي هو خير من يعفو عن عباده، ويصفح عن زلاتهم، ويستر خطاياهم، إنه لتوسل من أعظم أنواع التوسلات الصحيحة إلى   1 الأعراف: 150 2 الأعراف: 151 3 الأعراف: 156 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الله عز وجل، إنه توسل بولاية الله عز وجل لعبده، وبصفة غفرانه عز وجل لذنوب عباده، وتجاوزه عن سيئاتهم. ثم دعا الله عز وجل أن يكتب لهم في هذه الدنيا حسنة، وحسنة الدنيا تشمل كل ما يَسُرُّ الإنسان ويرتفق به، ويحتاجه الإنسان مما هو طيب صالح، وأن يكتب لهم في الآخرة حسنة، وحسنة الآخرة الجنة وما فيها من النعيم المقيم، والسعادة الأبدية، وتوسل إلى الله عز وجل بقوله {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك} أي تبنا إليك، ورجعنا إليك، نادمين على ما وقع منا ومن سفهائنا، فلا تؤاخذنا بسيئات أعمالنا، ولا بتقصيرنا وتفريطنا. إنه لتوسل من أعظم أنواع التوسل الصحيح إلى الله عز وجل، إنه توسل بولاية الله تعالى، أي توليه لعبده وإعانته له، وهو توسل بكونه محبوباً لله عز وجل؛ إذ لا ولاية بغير محبة، وهو توسل بصفة غفران الله عز وجل لذنوب عباده، وتجاوزه عن سيئاتهم، فهو خير من يغفر لعباده، وتوسل بالتوبة والعودة إليه، وترك ما لا يريده ولا يحبه عز وجل، وقد بدأ دعاءه بالتوسل برحمته كذلك، فما أعظمه من توسل، وما أجمله وما أحسنه، وما أحراه بالإجابة.   1 البقرة: 127-129 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 توسل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ... هذا وإن من المواقف المؤثرة الدالة على التوسل الصحيح المقبول موقف إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام عند ما أخذ إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام يرفعان قواعد البيت، ويبنيانه امتثالاً لأمر ربهما، فإنهما انتهزا فرصة هذا العمل المبارك الكريم الذي يعد من أعظم القربات وأفضل الطاعات، توسلا إلى الله عز وجل بها إذ أخذا يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1 أي تقبل منا يا ربنا هذا العمل الصالح الذي أمرتنا به، وسارعنا إلى امتثاله، فتقبله منا، فإنك يا ربنا أهل لإجابة دعائنا لأنك أنت السميع لدعاء عبادك، العليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 بأحوالهم وحوائجهم، فتجيبهم إليها وتمنحهم إياها، ثم توسلا إلى الله تعالى بتوبتهم إذ قالا {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1 أي واقبل توبتنا إليك فإنك أنت قابل التوبة من عبادك؛ لأنك التواب ذو الرحمة العظيمة التي وسعت كل شيء، وهكذا نرى الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام توسلا إلى الله تعالى بسرعة استجابتهما لأمر الله عز وجل، وتلبيتهما لأمره ببناء البيت الحرام، وتقاولا هذا الدعاء العظيم الذي توسلا فيه أيضاً بأسماء الله الحسنى، وصفاته العليا؛ إذ توسلا بالتواب الرحيم السميع العليم – وجعلا في كل موضع ما يناسبه فقد طلبا القبول توسلاً بسمع الله تعالى وبعلمه؛ لأنه يسمع دعاءهما ويعلم ما هما في شأنه من بناء الكعبة المشرفة، وعند طلب قبول التوبة توسلا بالتواب الرحيم، وهو ما يناسب هذا الحال.   1 البقرة: 128 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 توسل أيوب عليه السلام ... ومن مواقف التوسل التي حكاها كتاب الله تعالى ما في سورة الأنبياء، وبدئت بموقف أيوب عليه السلام لما ابتلي بما ابتلي به، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 2 إنه موقف الشاكي إلى ربه، الذي يسترحم ربه بأسلوب يَنِمُّ عن غاية التضرع ونهاية التذلل والمسكنة لله رب العالمين رب إني مسني الضر أي فلا كاشف له غيرك، ولا مزيل له سواك، وتوسل إليه تعالى بأنه جل وعلا هو أرحم الراحمين، فلا توجد رحمة أتم ولا أكمل ولا أجمل من رحمة الله عز وجل بعباده. ولما كان دعاؤه دعاء المتضرع الخائف الذليل الموقن بإجابة ربه له قال عز وجل: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} بل وزاده الله عز وجل، وأعطاه أكثر مما طلب {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} إنه موقف فيه   1 الأنبياء: 83 2 الأنبياء: 84 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 ذكرى عظيمة، وموعظة كبرى للعابدين المخلصين الصادقين الصابرين الصالحين {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} 1 نعم إن الصالحين يستحقون رحمة الله الشاملة، فمن أراد أن يكون من أهل رحمة الله تعالى فليقتد بهؤلاء الأنبياء عليهم السلام في صبرهم وصلاحهم.   1 الأنبياء: 85-86 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 توسل يونس عليه السلام ... ويمضي السياق الكريم فيذكر موقف يونس عليه السلام بقوله {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 2 قال ابن كثير رحمه الله تعالى: “هذه القصة مذكورة هنا وفي سورة الصافات3 وفي سورة ن 4، وذلك أن يونس بن متى عليه السلام، بعثه الله إلى أهل قرية نينوى، وهي قرية من أرض الموصل5، فدعاهم إلى الله تعالى، فأبوا عليه، وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أنّ النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم، وأنعامهم، ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها 6، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ   1 الأنبياء: 87-88 2 الآيات 139-148. 3 الآيات 48-50. 4 في معجم البلدان 7/339 “نينوى بكسر أوله، وسكون ثانيه، وفتح النون والواو”. قلت: والموصل مدينة كبيرة في شمال ما يعرف بالعراق اليوم. 5 الرغاء: صوت الإبل، والفصلان جمع فصيل، وهي صغار الإبل، والخوار: صوت البقر، والثغاء: صوت الغنم، والسخال: جمع سخلة، وهي صغار الغنم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 1. وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت2 بهم، وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضاً فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً، قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} 3 أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر ـ فيما قاله ابن مسعود ـ حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً، ولا تهشم له عظماً 4، فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً. وقوله: {وَذَا النُّونِ} يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} قال الضحاك لقومه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي نضيق عليه في بطن الحوت، يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} 5 وقال   1 يونس: 98 2 يقال: لججت السفينة أي خاضت اللجة، وهي معظمه ووسطه، وهي أيضاً هيجان أمواجه وترددها. ينظر: القاموس 1/205، ومختار الصحاح ص 592، والمعجم الوسيط ص 816 مادة لجج. 3 الصافات: 141 4 أي لا تكسر له عظماً. 5 الطلاق: 7، وينظر: تفسير الطبري 7/78، وروى ابن جرير رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} يقول: “ظن أن لن نقضي عليه عقوبة، ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه؛ إذ غضب عليهم، وفراره، وعقوبته أخذ النون إيّاه “. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 عطية العوفي: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} ، أي نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تقول: قدر وقدّر بمعنى واحد، وقال الشاعر: فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يكن ذلك الأمر ومنه قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} 1 أي قدّر. {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 2 قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل3“ وهنالك دعا يونس عليه السلام قائلا {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} إنها دعوة تائب منيب إلى ربه، معترفٍ بخطئه، وقدّم بين يدي اعترافه بذنبه توحيد ربه بقوله {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} فهذا إقرار موقن بوحدانية ربه تبارك وتعالى، ثم قال {سُبْحَانَكَ} أي أنزهك وأقدسك عما لا يليق بجنابك وبعظمتك، وبعد هذا التوسل العظيم، قدم أيضا إقراره بخطئه قائلا: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} أي الظالمين لأنفسهم بفعل ما لا ينبغي فعله، وإنه لتوسل من أعظم أنواع التوسلات، فكان أن أجاب الله عز وجل دعاءه، قال تعالى {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 4. ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 5 فإنه لم يدع بها مسلم ربه في   1 القمر: 12 2 الأنبياء: 87. 3 تفسير ابن كثير 3/191-192 4 الأنبياء: 88 5 الأنبياء: 87 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 شيء قط إلا استجاب له” رواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 توسل زكريا عليه السلام ... ويمضي السياق الكريم أيضاً فيقول تعالى {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} 2 قال ابن كثير رحمه تعالى “يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولداً يكون من بعده نبياً، وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة مريم 3 وفي سورة آل عمران أيضاً 4، وههنا أخصر منها {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي خفية عن قومه {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً} أي لا ولد لي، ولا وارث يقوم بعدي في الناس {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دعاء وثناء مناسب للمسألة، قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي امرأته، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: “كانت عاقراً لا تلد فولدت”. وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء: “كان في لسانها طول، فأصلحها الله” وفي رواية: “كان في خلقها شيء فأصلحها الله” وهكذا قال محمد بن كعب والسدي، والأظهر من السياق الأول، وقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي في عمل القربات، وفعل الطاعات {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} قال الثوري: رغباً فيما عندنا ورهبا مما عندنا {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس “أي مصدقين بما أنزل الله”، وقال مجاهد: “مؤمنين حقاً”، وقال أبو العالية: “خائفين”، وقال أبو سنان: “الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا يفارقه أبداً” وعن مجاهد أيضاً:   1 الترمذي 5/529، وأحمد 1/170، والحاكم 2/583، وقال: (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، والحديث من رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. 2 الأنبياء: 89-90 3 الآيات 2-15 4 الآيات 38-41 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 “خاشعين أي متواضعين”، وقال الحسن، وقتادة، والضحاك: “خاشعين أي متذللين لله عز وجل” وكل هذه الأقوال متقاربة” 1. وهكذا نرى زكريا عليه السلام وقد دعا ربه عز وجل متوسلا بكونه سبحانه هو خير الوارثين، مع ما في دعائه من التذلل والخضوع والخشوع، والاستسلام لله عز وجل، وإظهار حاجته وافتقاره إلى ربه تبارك وتعالى، وشفع له ما سبق من هذه الأسرة من مسارعتهم في عمل القربات والطاعات، وكثرة دعائهم لربهم عز وجل راغبين فيما عنده من الخير العميم في الدنيا والآخرة، خاشعين لعظمته، خاضعين لجلاله. وإنه لجدير بمن كان بهذه الصفات أن يجاب دعاؤه؛ وأن لا يخيب رجاؤه لربه عز وجل، ويلاحظ أن ما في هذه الآيات بيان عملي لما في قوله جلت قدرته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2. هذا وإن تفصيل دعوة زكريا عليه السلام في سورة مريم إذ يقول جل وعلا {كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا. إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً. قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً. وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} 3 فهذا نبي الله زكريا عليه السلام داهمه الكبر، فرقّ عظمه، واضطرم الشيب برأسه، فانتشر الشيب فيه كاشتعال النار في الهشيم، ولم يولد له؛ إذ امرأته عاقر لا تلد، وخشي على قومه من بعده أن يتصرف فيهم مواليه وعصبته تصرفاً سيئاً، فيكون فتنة لهم، فدعا الله عز وجل أن يهب له ولداً يرثه العلم   1 تفسير ابن كثير 3/193. 2 المائدة: 35 3 مريم: 1-5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 والنبوة، والقيام على شئون قومه، ولذا سأل الله عز وجل أن يكون الولد الذي يهبه إياه رضيا أي مرضيا عند ربه عز وجل، وعند خلقه، يحبه الله عز وجل لقيامه بطاعته، ويحبه خلق الله لكمال دينه، وحسن خلقه، وقدّم بين يدي دعائه ما عهده من إجابة الله عز وجل دعاءه، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “وأما قول زكريا عليه السلام {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً} فقد قيل: إنه دعاء المسألة، والمعنى: إنك عودتني إجابتك وإسعافك، ولم تشقني بالردّ والحرمان، فهو توسل إلى الله تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه، كما حكي أن رجلاً سأل رجلاً وقال: أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا وكذا، فقال: مرحبا بمن توسل إلينا بنا، وقضى حاجته، وهذا ظاهر هنا، ويدل عليه أنه قدّم ذلك أمام طلبه الولد، وجعله وسيلة إلى ربه، فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوّده من قضاء حوائجه، وإجابته إلى ما سأله” 1.   1 بدائع الفوائد 3/6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 توسل من جاء بعد الصحابه رضوان الله عليهم ... لقد أثنى الله عز وجل ثناء جميلاً على المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا الأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان رضي الله عنهم جميعاً، ثم ذكر الله عز وجل أهل الإيمان الذين جاءوا من بعدهم ممن اتبعهم واقتفى أثرهم بإحسان فقال عز وجل {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2 فهؤلاء التابعون المحسنون لا ينسون فضل المؤمنين السابقين لهم في كونهم قدوتهم في الإيمان، وهم الذين وصل إليهم عن طريقهم هذا الخير الذي وفّقوا له، ولذا نراهم يسألون الله عز وجل ضارعين أن يغفر لهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، ويدعون ربهم أن يسلَّ السخائم من قلوبهم 3، فلا يبقي في قلوبهم غلاًّ ولا بغضاً ولا   1 الحشر: 10 2 السخائم جمع سخيمة: وهي الحقد والضغينة، وسلّ السخائم: أي إزالتها بلطف وترضّي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 حسداً للذين آمنوا، ويتوسلون لتحقيق ذلك بقولهم {رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} إنهم يتوسلون بكون ربهم عز وجل هو الرؤوف بعباده الرحيم بهم، ونعم ما توسلوا به؛ لقد توسلوا بوصفين لله تبارك وتعالى، من مقتضاهما إجابة دعوة الداعين، وإعطاء السائلين سؤلهم. ومما يدعو للتأمل ما وقع من نبي الله نوح عليه السلام حيث دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلم يجد منهم غير الصدّ والإعراض، وإيذائه والمؤمنين به، فأمره الله عز وجل أن يصنع الفلك، فاستجاب لأمر ربه وصنع السفينة، ولما جاء أمر الله، وبدت علامات هلاك القوم، ركب نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وحملوا معهم ما أمروا بحمله في الفلك قال تعالى {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} 1 علم الله عز وجل رسوله نوحا أن يدعو بهذا الدعاء، وبعد أن قدّم من الوسائل ما يكون سببا في إجابة دعائه، وهي دعوته لقومه هذه المدة الطويلة، وصبره على أذاهم، واجتهاده في دعوتهم؛ إذ سلك كل ما يمكن أن يكون سبباً في هدايتهم، ثم استجابته لأمر ربه بصنع الفلك، ثم حمله عليها من كل صنف من الحيوانات والنباتات زوجين أي ذكر وأنثى، بعد هذه الوسائل أمر أن يقدّم بين يدي دعائه شكر ربه، وحمده على إنجائه والمؤمنين معه من القوم الظالمين، ثم أمر أن يدعو ويقول {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} وهكذا يختم دعاءه بالتوسل بكون ربه عز وجل خير المنزلين، أي أنت خير من أنزل عباده المنازل المباركة الطيبة بل لا ينزلهم تلك المنازل سواك.   1 المؤمنون: 28-29 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 توسل إبراهيم عليه السلام ... هذا وقد حكى الله عز وجل في سورة الممتحنة ما كان من خليله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه، ولندع المجال للإمام أبي الفداء ابن كثير رحمه الله وهو يقول: “ثم قال تعالى مخبراً عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم، فلجؤوا إلى الله وتضرعوا إليه فقالوا {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} 1 أي توكلنا عليك في جميع الأمور وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي المعاد في الدار الآخرة {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} 2 قال مجاهد: “معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا”، وكذا قال الضحاك، وقال قتادة: “لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه”، واختاره ابن جرير، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: “لا تسلطهم علينا فيفتنونا”، وقوله تعالى: {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3 أي واستر ذنوبنا عن غيرك، واعف عنها فيما بيننا وبينك {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} أي الذي لا يضام من لاذ بجنابك {الْحَكِيمُ} في أقوالك وأفعالك، وشرعك وقدرك” 4. فهذا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ومن معه من أهل الإيمان فارقوا قومهم طاعة لله عز وجل، وهرباً بدينهم من الفتنة، وطلباً لمكان يقيمون فيه شرع الله عز وجل، ويظهرون شعائر الإيمان، فبعد أن قدموا هذه الوسيلة العظيمة دعوا الله عز وجل مظهرين اعتمادهم على ربهم، وتفويضهم أمورهم إليه، وأبانوا عن إنابتهم إلى ربهم ورجوعهم إليه، وعدم التفاتهم إلى ما سواه؛ إذ   1 الممتحنة: 4 2 الممتحنة: 5 3 الممتحنة: 5 4 تفسير ابن كثير 4/348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 المصير والمرجع إليه وحده، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، وأن يغفر لهم ما سبق لهم من زلة أو تقصير، وختموا دعاءهم بثنائهم على ربهم، وتوسلهم بصفتين جليلين لله عز وجل، فهو عز وجل العزيز الغالب الظاهر الذي لا يذل من التجأ إليه، ولا يخيب من توكل عليه، وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة، بل حكم بالغة، وأسرار عظيمة. ومناسبة هذين الوصفين لهذا الدعاء ظاهر؛ ذلك أن الدعاء فيه طلب النجاة من فتنة أعداء، وأن لا يكون المؤمنون سبباً في فتنتهم، وهو من الحكمة؛ لئلا يكون حال المؤمنين فيما لو سلّط عليهم الأعداء، وظهروا عليهم سبباً في افتتانهم بباطلهم، وفيه التوكل على الله عز وجل، والاعتماد عليه، وذلك يناسبه وصف العزة والحكمة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 توسل عباد الرحمن ... وفي سورة الفرقان يذكر ربنا جل وعلا صفات عباده الصالحين فيقول عز من قائل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً. وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} 1 إن عباد الرحمن قوم يعيشون على التواضع فلا يتكبرون في الأرض بغير الحق، فهم يمشون بسكينة ووقار بغير مرح ولا بطر، وإذا تطاول عليهم سفيه بقول سيئ لم يقابلوه بمثل سفهه ونزقه بل يعفون، ولا يقولون إلا الخير، ويردون جهله بالمعروف من القول، وهم قوم يقضون ليلهم بين سجود وقيام لرب العالمين، يدعون ويتضرعون ويخبتون إليه، ويقولون {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} إن الذي حملهم على ترك النوم، والتقلب في الساجدين إنما هو خوفهم من ربهم، ذلك الخوف الذي يدفعهم إلى أن يتضرعوا إلى ربهم أن يصرف عنهم عذاب جهنم، هكذا كأنهم يحسّون   1 الفرقان: 63-66 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 حرّها، ويجدون سمومها، وذلك لقوة يقينهم، فهم يطلبون صرف عذابها عن وجوههم، فإن عذابها عذاب دائم ملازم لأصحابها، لا ينفك عنهم والعياذ بالله، وإن جهنم بئس المنزل الذي يستقر فيه، وبئس الموطن الذي يقام فيه. إن عباد الرحمن لم يدعوا ربهم إلا بعد أن قدموا الوسائل الصالحة التي ترضي ربهم عنهم، ومن ثم انطلقت ألسنتهم تلهج بالدعاء والتضرع والتذلل، ويمضي السياق الكريم يذكر صفات هؤلاء الصالحين في إنفاقهم، وابتعادهم عما حرم ربهم عليهم، وتوبتهم مما فرط منهم من ذنوب، وابتعادهم عن الكذب والفسق واللغو والباطل، وإذا مروا بمجلس فيه لغو وزور أسرعوا وتركوا ذلك المجلس، ولم يستهوهم ما فيه من الباطل، بل ينزهون أنفسهم عن التدّنس بما فيه، وإذا سمعوا كلام ربهم تأثروا به، وفقهوا ما فيه، وأبصروا ما دل عليه، وهم الذين يدعون ربهم قائلين {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} 1 فلا همّ لهم بعد صلاحهم إلا أن يكون أزواجهم وذرياتهم قرة أعين، أي تقر أعينهم بهم لصلاحهم وإحسانهم، وطاعتهم لربهم، ويسألون ربهم أن يكونوا ممن يقتدى بهم في الخير، ولما كان دعاؤهم دعاء متوسل بما يرضي ربه، متقرب إليه بما يحب كانوا أهلاً لأن يدركوا ما أملوا من خير، قال عز وجل {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} 2 ونعم ما جوزوا به، وهنيئاً لهم بفوزهم العظيم، نسأله جلت قدرته أن يجعلنا منهم بمنه، وكرمه، وفضله، وإحسانه؛ إنه جواد كريم.   1 الفرقان: 74 2 الفرقان: 75-76 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 توسل المؤمنين يوم القيامة ... وما زال المؤمنون يدعون ربهم ويتضرعون إليه، ويتوسلون إليه بمحابه، وبالثناء عليه بأوصافه الجميلة، وأسمائه الحسنى، وإنهم ليفعلون ذلك يوم القيامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 عند ما يرون نور المنافقين قد أطفئ فيتملكهم شعور بالخوف، أن يصيبهم ما أصاب هؤلاء المنافقين، ولنسمع إلى قول ربنا جل وعلا وهو يبين حالهم في ذلك الموقف العظيم {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1 إنه لموقف يدل على عظيم إيمان هؤلاء، وأن تعلّقهم بربهم، وتملقهم له، وانكسارهم لعظمته وجلاله، ومسكنتهم له صفة ملازمة لهم لا تنفك عنهم بحال من الأحوال، كما يدل على معرفتهم بعناية الله بهم، ووثوقهم بربهم، وحسن ظنهم به، ولذا عند ما رأوا ما عوقب به المنافقون من ذهاب النور الذي كانوا يسيرون على ضوئه، عند ما رأوا ذلك انطلقت ألسنتهم، يدعون ربهم متضرعين راجين أن يتمم لهم نورهم، وأن يغفر لهم لئلا تكون ذنوبهم سببا في عقوبتهم، مثنين على الله عز وجل بأنه على كل شيء قدير، فلا يعجزه هذا الأمر ولا غيره، وهو أهل لأن يجيب دعاءهم، ويحقق رجاءهم لكمال قدرته.   1 التحريم: 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مصر، وحقّق له رؤياه التي رأى في صغره {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} 1 بعد أن أتمّ الله عز وجل له هذه النعمة قال تعالى في بيان شأنه ذلك: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2 ثم دعا يوسف عليه السلام قائلاً {ربّ قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السّماوات والأرض أنت وليّي في الدّنيا والآخرة توفّني مسلماً وألحقني بالصّالحين} 3 لقد قدّم الصديق يوسف عليه السلام توسله إلى ربه عز وجل بأن ذكر إحسان ربه عليه بإخراجه من السجن، وإنجائه من كيد امرأة العزيز ومن معها من النسوة، وأردف ذلك بذكر إنعام الله عز وجل عليه بأن جاء بأبويه وإخوته من البدو لتقر عينه وأعينهم باللقاء والاجتماع بعد ذلك الفراق الطويل، وكذا ما أنعم به عليه من ردّ كيد الشيطان الذي نزغ بينه وبين إخوته، فوقع بينهم ما وقع، وكل هذا الإحسان، وهذا اللقاء الذي كان على هذه الصفة العجيبة تم بلطف ربه الذي يفعل ما يشاء بلطفه وعلمه وحكمته، وهذا توسل آخر بأسماء الله عز وجل الحسنى، ومن ثمّ يتوجه إلى ربه ويدعوه متوسلاً له بإقراره بنعمته عليه إذ آتاه ملكاً، وعلمه تأويل الرؤى، وهذا ما كان سبباً في جعله وزيرا للخزائن، وتوسل بكون ربه فاطر السموات والأرض أي ابتدأ خلقهما وأوجدهما على غير مثال سابق، وتوسل بكون الله عز وجل وليه   1 يوسف: 4 2 يوسف: 100 3 يوسف: 101 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 في الدنيا والآخرة، فلا يقدر على إنجائه وإسعاده سواه. وبعد هذه التوسلات العظيمة دعا ربه بما يريد فقال: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} إن غاية مطالبه، وأقصى مآربه أن يتوفاه ربه وهو مسلم، حتى يتوفاه وهو راضٍ عنه، وأن يلحقه بصالحي عباده ليكون من أهل السعادة، وليفوز بجوار ربه في جنات النعيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 التوسل إلى الله تعالى بذكر نعمه تعالى وشكره عليها، والتوسل بولايته لعبده: من أنواع التوسل الصحيح التوسل إلى الله تعالى بتعداد نعمه، وذكر آلائه على عبده، وهذا يعني شكره عليها 1، وكذا التوسل إلى الله تعالى بولايته لعبده في الدنيا والآخرة، ومن أظهر المواقف في هذا موقف الصديق يوسف بن يعقوب عليهما السلام، ولنتأمل هذا الموقف، فعند ما أتم الله عز وجل على عبده ورسوله يوسف عليه السلام النعمة بأن يسر له لقاء والديه والاجتماع بهما في   1 تقدم لنا توسل خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام بشكره لربه. ينظر ص 36 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 التوسل برحمة الله وفضله لنتأمل قول الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وقوله {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ. فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} 1 إنه موقف من آمن من قوم موسى عليه السلام؛ إذ آمنوا وهم على خوف من أن يفتنهم فرعون وملؤه عن الإيمان، وذلك لعلوه في الأرض وكونهم مسرفين، ولذا لما أبدوا لموسى عليه السلام خوفهم من فتنة فرعون وقومه قال لهم {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} أي إن وثقتم بإيمانكم بالله عز وجل فثقوا بربكم واعتمدوا عليه وفوضوا إليه أمركم، فأجابوه بقولهم على الله وحده دونما سواه توكلنا، ودعوا ربهم عز وجل أن لا يجعلهم فتنة للظالمين، أي لا يكونوا موقع ابتلاء لفرعون وقومه، وذلك بأن يسلطهم عليهم، ويرخي الله عز وجل لهم العنان بأن يتركهم يعذبونهم، وينتقمون منهم، فيظنوا أنهم إنما تسلطوا عليهم لأنهم على الحق وقوم موسى على الباطل فيفتتنوا بذلك 2. وقيل معناه: لا تعذبنا بأيدي فرعون، ولا تعذبنا بعذابٍ من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على الحق ما عذّبوا ولا سلّطنا عليهم فيفتتنوا 3.   1 يونس: 84-86 2 ينظر: البحر المحيط 5/185. 3 ينظر: الوسيط في التفسير 2/556، وفيه أيضاً “أي لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغياناً” وينظر: تفسير البغوي 3/166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ثم دعوا ربهم عز وجل أن ينجيهم متوسلين برحمته وفضله وإحسانه من القوم الكافرين، الذين كفروا الحق وجحدوه، بخلاف الداعين فإنهم آمنوا به وتوكلوا على ربهم. هكذا نرى هؤلاء المؤمنين من قوم عليه السلام توسلوا بتوكلهم على ربهم، وتفويضهم أمورهم إليه، واعتمادهم عليه، وثقتهم بنصره وتأييده، وتوسلوا إلى الله عز وجل برحمته وفضله وإحسانه. وهنالك موقف آخر عظيم من مواقف التوسل إلى الله تعالى برحمته وفضله، ذلك هو ما كان من سليمان بن داود ـ عليهما السلام ـ حيث استعرض عليه السلام جنوده من الجن والإنس والطير مما لم يكن لأحد قبله ولن يكون لأحدٍ بعده، فلما رأى ذلك الملك الكبير، وسمع كلام النملة لأخواتها، وفهم مقالتها شعر بعظيم إفضال ربه عليه، ولم يستول عليه الزهو والشعور بالعظمة، بل تواضع لله عز وجل، واستكان لربه تبارك وتعالى، وأظهر شكره وعرفانه لربه بجليل ما أنعم عليه {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} 1 إنه موقف المؤمنين المخبتين؛ حيث رأى ذلك الملك العظيم واستشعر عظمة ما أنعم به ربه عليه، فلم يكن منه ما يكون من أهل الغفلة والطغيان، إذ في مثل هذا الموقف تراهم يتعاظمون ويتيهون كبراً وغطرسة، وذلك كموقف فرعون إذ قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} 2 إن موقف سليمان عليه السلام هو موقف عبد الله الذي عرفه حق معرفته، وخشيه حق خشيته، وعرف   1 النمل: 19 2 الزخرف: 51 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 قدر ربه تعالى، فما كان منه إلا أن انطلق لسانه يلهج بهذا الدعاء الذي ينم عن عظيم تضرعه وخشوعه، وتذلله واستكانته، وإخباته لربه جل وعلا. وإنه ليسأل ربه أن يلهمه شكره على هذه النعم العظيمة وأن يوفقه لصالح الأعمال التي يرضاها جل وعلا ثم يسأل ربه متوسلا إليه برحمته أن يدخله في عباده الصالحين، ألا ما أعظم هذا الموقف، كأن سليمان عليه السلام وهو الرسول ابن الرسول والملك ابن الملك يرى أنه لم يصل بعد إلى مرتبة صالحي عباد الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 التوسل إلى الله عز وجل بدعاء الصالحين من الأحياء من التوسلات الصحيحة النافعة التوسل إلى الله عز وجل بدعاء صالحي عباد الله فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام عند ما دعا أباه إلى الإسلام والتوحيد فأصر على عقيدته الباطلة، وأبى الاستجابة لابنه، فما كان من الخليل عليه السلام إلا أن وعد أباه بأن يدعو الله عز وجل ليعفو عنه ويغفر له هذه الخطيئة الكبرى، ولو لم يعلم إبراهيم عليه السلام أن دعاءه لأبيه مشروع، وأنه وسيلة مقبولة عند الله عز وجل لما وعد أباه بالدعاء له، ولنسمع القرآن الكريم وهو يعرض علينا هذا الموقف العظيم بأسلوبه البديع {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً. إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً. قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً. وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} 1. ومن المواقف التيعرض فيها كتاب الله عز وجل دعاء الصالحين لغيرهم، موقف إخوة يوسف عليه السلام عند ما تبين لأبيهم خطأ ما عملوا، وندموا غاية الندم على فعلتهم تلك، طلبوا من أبيهم نبي الله يعقوب عليه السلام أن يدعو الله لهم، فوعدهم بذلك، وفي هذا ما فيه من الدلالة على جواز التوسل بدعاء عباد الله المؤمنين، يقول الله عز وجل حكاية عنهم: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا   1 مريم: 41-48 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 1. ويلاحظ أنه وعدهم أن يطلب لهم المغفرة من ربه عز وجل، واصفاً إياه بالغفور الرحيم، وهذا يدل على أنّه سيتوسل في استغفاره لهم بهاتين الصفتين العظيمتين من صفات ربنا تبارك وتعالى. ومما يمكن أن يدرج في هذا الباب ما كان من دعاء نبي الله نوح عليه السلام لابنه الضال عند ما دعاه ليركب معهم في السفينة، فأبى ذلك، وامتنع من اعتلاء الفلك لما سبق في علم الله عز وجل من شقاوته، يقول الله جل وعلا في بيان ذلك: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} 2. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: “ {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبّ} إنك وعدتني أن تنجيْنِي من الغرق والهلاك وأهلي، وقد هلك ابني {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} الذي لا خلف فيه {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} بالحق، فاحكم لي، بأن تفي بما وعدتني، من أن تنجي لي أهلي، وترجع ابني” 3. وهذا الذي دل عليه كتاب الله عز وجل دلت عليه السنة أيضاً، فقد روى مسلم عن صفوان بن عبد الله ـ وكانت تحته الدرداء ـ قال: “قدمت الشام، فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء فقالت: أتريد الحج العام؟ فقلت: نعم، قالت: فادع الله لنا بخير؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: “دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل” قال: فخرجت على السوق، فلقيت أبا الدرداء فقال لي مثل ذلك، يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم “ 4.   1 يوسف: 97-98 2 هود: 45 3 تفسير الطبري 12/249 4 صحيح مسلم 8/86 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الخاتمة وبعد: فقد دعا كتاب الله عز وجل المؤمنين إلى التوسل بربهم، والتقرب إليه بما يحبه منهم، وذلك مما شرعه لهم في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فالتوسل إنما يكون بعمل يقدمه المرء، وكسب يحصل عليه بجهده. أمّا العاجزون الكسالى فإنهم يريدون الوصول إلى النتائج بدون المقدمات التي توصلهم إليها، فتراهم يتوسلون بأعمال غيرهم، وبجاه سواهم، وبحقٍّ لا يملكون منه شيئاً، ألا ما أعجب حال هؤلاء! وحقيق بمن هذا حاله أن لا يجاب إلى طلبه، وأن لا يصل إلى مراده؛ إذ أراد أن يدخل البيوت من غير أبوابها. وقد تبين خلال هذا البحث أن التوسل إنما يكون بأمور شرعها الله عز وجل، ودلت عليها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بعمل صالح يقدمه المتوسل، وكذا التوسل إلى الله عز وجل باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته العليا، ومن ذلك التوسل إلى الله عز وجل بفضله ورحمته، وإحسانه إلى خلقه، وكذلك التوسل إلى الله عز وجل بدعاء الأحياء الصالحين من المؤمنين. فهذه أبواب التوسل الشرعي الصحيح، وما سواها مزالق قد ينتهي بالإنسان إلى عبادة غير الله عز وجل، والطمع والرجاء في المخلوق، كما حدث من قوم نوح عليه السلام. نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم أن يهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن يلهمنا الصواب في القول والعمل، وأن يسدّد على طريق الحق خطانا بمنّه وكرمه وإحسانه؛ فإنّه أعظم مسؤول، وهو نعم المجيب. والحمد لله أولاً وآخراً، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليماً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 مصادر ومراجع ... المصادر والمراجع 1- بدائع الفوائد: الطبعة الثانية 1392هـ، مطبعة الفجالة، القاهرة. 2- التحرير والتنوير: طبعة الدار التونسية للنشر 1984م. 3- تفسير أبي السعود: الطبعة المصرية، 1347هـ. 4- تفسير ابن كثير: طبعة عيسى الحلبي. 5- تفسير الطبري: طبعة مصطفى الحلبي 1373هـ، الثانية. 6- سنن أبي داود: الطبعة الأولى، مصطفى الحلبي، 1371هـ. 7- سنن الترمذي: طبعة مصطفى الحلبي، الأولى 1382هـ. 8- سنن النسائي: الطبعة الأولى، 1383، مكتبة مصطفى الحلبي، القاهرة. 9- سيرة ابن هشام: طبعة 1375هـ، مكتبة مصطفى الحلبي، القاهرة. 10- السيرة النبوية: لابن كثير، طبعة عيسى الحلبي، القاهرة. 11- صحيح البخاري: الطبعة الأميرية، 1313هـ. 12- صحيح مسلم: طبعة دار الطباعة، 1329هـ، القاهرة. 13- عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ: للسمين الحلبي، تحقيق: د. محمد التونجي، الطبعة الأولى 1416هـ، عالم الكتب، بيروت. 14- فتح الباري: طبعة 1380، المطبعة السلفية بالقاهرة. 15- الفتوحات الإلهية: لسلمان الجمل، طبعة 1282هـ، بولاق، القاهرة. 16- القاموس المحيط: للفيروزآبادي، طبعة المطبعة الحسينية. 17- لسان العرب: لمحمد بن مكرم بن منظور، طبعة 1388هـ، دار صادر، ودار بيروت. 18- مختار الصحاح: للرازي، ترتيب محمود خاطر، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 1- المستدرك: للحاكم، دار المعرفة، بيروت. 2- مسند الإمام أحمد: المكتب الإسلامي، دار صادر. 3- مسند الإمام أحمد: تحقيق جماعة من طلاب العلم، وطبع على نفقة خادم الحرمين الشريفين. 4- معجم ألفاظ القرآن الكريم: الطبعة الثانية 1390هـ، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 5- معجم البلدان: ياقوت الحموي، طبعة 1376هـ، دار صادر بيروت. 6- المعجم الوسيط: دار الدعوة، تركيا. 7- المفردات في غريب القرآن: للحسن بن محمد الراغب الأصفهاني، طبعة 1970م، المطبعة الفنية الحديثة. 8- الوسيط في تفسير القرآن المجيد: لعلي بن أحمد الواحدي، الطبعة الأولى، 1415هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64