الكتاب: المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) جمعه ورتبه وطبعه على نفقته: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم (المتوفى: 1421هـ) الطبعة: الأولى، 1418 هـ عدد الأجزاء: 5 أجزاء   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- المستدرك على مجموع الفتاوى ابن تيمية الكتاب: المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) جمعه ورتبه وطبعه على نفقته: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم (المتوفى: 1421هـ) الطبعة: الأولى، 1418 هـ عدد الأجزاء: 5 أجزاء   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام]ـ المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (المتوفى: 728هـ) جمعه ورتبه وطبعه على نفقته: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم (المتوفى: 1421هـ) الطبعة: الأولى، 1418 هـ عدد الأجزاء: 5 أجزاء [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. منَّ الله جل وعلا بجمع فتاوى شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله وطبعها في كتاب عدد مجلداته سبعة وثلاثون مجلدًا، ثلاثون منها طبعت في الرياض في عهد الملك سعود بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله على نفقته الخاصة عام 1381هـ، ثم طبعت السبعة الباقية في مطبعة الحكومة بمكة المكرمة عام 1386هـ. ثم صورت السبعة والثلاثون في عهد الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله بأمره في المغرب. ثم صورت بأمر الملك فهد حفظه الله في عام 1397هـ. وهي الآن تصور في مجمع الملك فهد بالمدينة المنورة لطباعة المصحف الشريف. وهكذا تلقاها ملوك آل سعود لاحقا عن سابق بالتقدير والعناية، وبذلوا في سبيل إخراجها الغالي والنفيس، ولا تزال عند العلماء والمفتين والقضاة والمتعلمين من أكبر المراجع وأوثقها، وهي كما قال عنها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: رحمه الله «هذا كتاب عظيم القدر كثير الفائدة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وقد ذكرت في مقدمتي للطبعة الأولى منها قصة جمع هذه الفتاوى، وأصولها المطبوعة سابقا والمخطوطة، وما قمت به مع والدي رحمه الله في جمعها، وترتيبها، وتصحيح أصولها. وبحكم إشرافي أيضًا على طباعتها وضعت لكل مجلد فهرسا خاصا شاملا لكل ما فيه مما يتعلق بفنه أو بابه ومما لا يتعلق بهما. ثم بعد نهاية طبع الخمسة والثلاثين مجلدا وضعت لها فهرسا عاما شاملا مرتبا على حسب الفنون وعلى ترتيب أبوابها وفصولها وعباراتها في مجلدين ضخمين. فلم تبق مسألة أو بحث مقصود أو مستطرد إلا ذكرته فيهما. فما لم يكن في هذين المجلدين فليس موجودا في الخمسة والثلاثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 هذا المستدرك ثم بعد أن جمعت فتاوى ورسائل مفتي الديار السعودية ورئيس قضائها والشئون الإسلامية سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بأمر جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود رحمه الله وطبعت في مطبعة الحكومة بمكة المكرمة عام تسعة وتسعين وثلاثمائة وألف بأمره في ثلاثة عشر مجلدا وانتشرت، وانتفع الناس بها (1) فكرت في البحث عن شيء «ما» لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية (قدس الله روحه) ، فتذكرت أني حين سافرت إلى بغداد للبحث عن فتاوى شيخ الإسلام عثرت على مجلد من «الدرر المضية من الفتاوى المصرية» وعدد مجلداتها ستة فيما ذكره ابن القيم رحمه الله ويقول العليمي سبعة (2) ، وتبين أن الخمسة الباقية مفقودة رأيت بعد ذلك أن أرجع إلى مختصر هذه الفتاوى الذي اختصره بدر الدين محمد بن علي بن محمد البعلي الحنبلي المتوفى سنة 777 أو 778هـ وطبع في مطبعة أنصار السنة بمصر في عام 1368هـ لأجمع منها ما ليس في الجزء الأول الذي أدخلته في مجموع الفتاوى السابق، فوجدت فيه فتاوى كثيرة ليست في المجموع الأول، بلغ عددها سبعا وخمسين ومائتي مسألة قليل منها موجود في المجموع السابق لكن في هذا مع زيادة.   (1) ولها فهرس عام في مجلد مخطوط. (2) ذكرها ابن القيم في النونية بقوله: وكذاك أجوبة له مصرية ... في ست أسفار كتبن سمان ويقول العليمي: إنها سبع مجلدات (الدر المنضد جـ2/478) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 ثم بدا لي أن أنظر في «الاختيارات الفقهية» لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية التي جمعها ورتبها علاء الدين علي بن محمد بن عباس البعلي الدمشقي المتوفى سنة (803) مع زيادات من فوائده على المجموع، والتي قال عنها الناشر: «هذه خلاصة الفتاوى وزبدتها» . وأثنى عليها وعلى كل اختياراته ابن القيم فقال: «إنها لا تقصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب وشيخهما أبي يعلى إن لم ترجح عليها» فتحصل منها مما ليس في مجموع الفتاوى سبع وثلاثون وستمائة، منها ما فيه زيادة أو زيادات كما تقدم. ثم تتبعت مؤلفات تلاميذه رحمهم الله ومن نقل عنه فتذكرت أني قرأت مؤلفات ابن القيم كلها في أول عهدي بطلب العلم وجدت فيها نقولاً كثيرة عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، وابن القيم هو أخص تلاميذه، والذي لازمه ملازمة تامة ما يقرب من ست عشرة سنة ونهل من فيض علمه الواسع. وهذه النقول لم تدخل في المجموع السابق فبدأت بمراجعتها وهي أربعة وعشرون كتابا (1) ، فاجتمع لدي منها ست وعشرون ومائة مسألة. ومن بين كتب تلاميذه «الفروع» لمحمد بن مفلح بن مفرج المقدسي المتوفى (763) وعدد مجلداته ستة راجعتها فخرجت منها بثلاث وتسعين ومائتي مسألة. وهذا الكتاب ومؤلفه موضع التقدير من شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، قال عنه ابن القيم: ما تحت قبة الفلك أعلم بمذهب الإمام أحمد من ابن مفلح حضر عند الشيخ تقي الدين ابن تيمية، ونقل عنه كثيرا، وكان يقول: ما أنت ابن مفلح، بل أنت مفلح (2) ، وقد تحصل منها ثلاث وستون ومائتا مسألة.   (1) يأتي ذكر أسمائها وعدد أجزائها. (2) مختصر طبقات الحنابلة «الناشر دار الكتاب العربي» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ومن بين الكتب التي راجعتها كتاب «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» تأليف علاء الدين علي بن سليمان المرداوي الحنبلي (ت 885) وعدد مجلداته اثنا عشر فظفرت منه بتسع وعشرين وثلاثمائة مسألة. وقد قال مؤلف هذا الكتاب: إن علاء الدين البعلي جامع اختيارات شيخ الإسلام لم يستوفها كلها. فاستدرك ما فاته، كما أنه نقل عن جملة من كتب شيخ الإسلام وفتاويه ومنها حاشيته على المحرر، والفتاوى المصرية (1) وجميع ما وجدته في الإنصاف تسعة وعشرون وثلاثمائة. ومن بين ما رجعت إليه «مُسَوَّدة آل تيمية» وقد اجتمع لي مما يخص شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية من هذه المسودة اثنتان وثمانون ومائتا مسألة. ولم أقتبس من فتاوى والده وجده إلا ما رجحه هو أو تعقبه. ولم أقتبس مما أضافه جامع الفتاوى أي شيء. ومنها «الآداب الشرعية» لابن مفلح وقد اقتبست منه إحدى وثمانين مسألة وعدد مجلداته ثلاثة.. ولم أعثر في شرح الزركشي على مختصر الخرقي إلا على خمس عشرة مسألة في مجلداته التي حققها فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين. وقد ضم هذا المستدرك مجموعة من الرسائل بخط مؤلفها عددها «اثنتا عشرة» تقع في ثلاثين صفحة كنت حصلت عليها حين جمعي للفتاوى التي في المكتبة الظاهرية بدمشق (372) لكن لم أتمكن في ذلك الوقت من قراءتها ونسخها على الوجه الصحيح الذي تبرأ الذمة بنقله، لكني عدت إليها بعد ذلك للقراءة المتأنية وقابلت بعض نصوصها   (1) وقد رأيت فيما نقلته أن تلاميذه وعلماء المذهب يتتبعون كتبه الكبار أيضًا: كرده على الرافضي، «واقتضاء الصراط المستقيم» ، و «شرح العمدة» وغيرها، وقد نبهت على ذلك في أماكنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 على نظيره في بعض المراجع الأخرى، ومع ذلك لم تخلُ من فراغات لكنها لا تخل بالسياق العام. وما عدا ذلك مما لم أسمه هنا فقد ذكرت مرجعه عند نقله في موضعه. وقد بلغ مجموع المسائل الذي ضمها هذا المستدرك أكثر من ألفي مسألة، منها نحو المائتين لها أصل في المجموع الأول لكنها تختلف عن أصولها: بزيادة أو إيضاح، أو تعقب، أو جمع لبعض المسائل المتشابهة أو تعريفات. هذا وقد ضمنت هذا المستدرك مقتطفات تدل على فضل الشيخ وكرم أخلاقه، رحمه الله رحمة واسعة. طريقتي طريقتي التي وصلت بها إلى أن فتاوى المستدرك ليست في المجموع الأول: 1- أني عرضت الفتاوى الجديدة على فهارس الفتاوى السابقة فما لم أجده في الفهارس العامة «المجلدين» عرفت أنه ليس موجوداً في المجموع السابق. 2- ولمزيد من التأكد أرجع إلى مظنة المسألة حتى يثبت لي وجودها أو عدمه، أو أن في الأخير زيادة، أم لا. والله جل وعلا أسأله أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. 21/2/1418هـ محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة ( العلم، وفضله، وأقسامه، وفضائل الأعمال ، ودرجاتها، وأقسام الناس في ذلك) لا ريب أن الذين أوتوا العلم والإيمان أرفع من الذين أوتوا الإيمان فقط، كما دل عليه الكتاب (1) والسنة (2) . والعلم الممدوح هو الذي ورّثه الأنبياء. وهذا العلم: ثلاثة أقسام: علم بأسماء الله وصفاته وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله «سورة الإخلاص» و «آية الكرسي» ونحوهما.   (1) من ذلك قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة الآية: 11] . (2) كما أخرجا في الصحيحين: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» . وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في العلم وفضله وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه، وتوقف كمال العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه، مائة وخمسين وجها (انظر مفتاح دار السعادة ص48-168) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 والقسم الثاني: العلم بما أخبر الله تعالى به مما كان من الأمور الماضية ومما يكون من المستقبلة وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثله أنزل الله القصص والوعد والوعيد وصفة الجنة والنار. والقسم الثالث: العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقلوب والجوارح: من الإيمان بالله، ومن معارف القلوب وأحوالها، وأحوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه العلم بأصول الإيمان، وقواعد الإسلام، والعلم بالأقوال والأفعال الظاهرة مما هو في كتب الفقه. وقد يكون الرجل حافظا لحروف العلم ولا يكون مؤمنا بل منافقا، فالمؤمن الذي لا يحفظ العلم وصوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق قد ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان. فأما الذي أوتي العلم والإيمان فهو مؤمن عليم. «هذا أصل» . و «أصل آخر» وهو: أنه ليس كل عمل أورث كشفا أو تصرفا في الكون يكون أفضل من العمل الذي لا يورث ذلك، فإن الكشف إن لم يكن مما يستعان به على دين الله والإيمان به كان من متاع الحياة الدنيا، وقد يحصل ذلك للكفار وإن لم يحصل لأهل الإيمان. وفضائل الأعمال ودرجاتها لا تتلقى عن مثل من يحصل له هذا، بل من الكتاب والسنة، فأكرم الخلق عند الله أتقاهم لله. وتفضيل العمل على العمل قد يكون مطلقا، وقد يكون مقيدًا في وقت أو زمان أو شخص، وقد يأتي الرجل بالعمل الفاضل ويفوتُ شروطه وغيره يأتي بالمفضول مكملا فيكون هذا أفضل من ذلك (1) .   (1) مختصر الفتاوى المصرية (ط 1368هـ بمطبعة السنة المحمدية) ص146 (غير موجود انظر جـ2/453 من الفهارس العامة لمجموع الفتاوى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وطلب العلم الواجب لكونه معينا (1) على كل أحد: إما لكونه محتاجا إلى جواب مسائل في أصول دينه أو فروعه ولا يجد في بلده من يجيبه، وإما لكونه فرضا على الكفاية ولم يقم به من يُسْقِطُ الفرض، فيجوز السفر لطلب ذلك بدون رضا الوالدين فلا طاعة لهما في ترك فريضة (2) .   (1) كذا في الأصل. وغالبا ما تستعمل كلمة متعينًا في مثل هذا. (2) مختصر الفتاوى المصرية (ص589، 590) فيه زيادات عما في مجموع الفتاوى. انظر الفهارس العامة جـ2/254. وقدمت هذين النقلين هنا كمدخل لما في هذا المستدرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 توحيد الألوهية [الإله] . «الإله» : هو الذي تألهه القلوب: بكمال المحبة، والتعظيم، والإجلال، والرجا والخوف (1) . [توحيد الخليلين وكمال التوحيد] قال شيخنا: «والخليلان» ، هم أكمل خاصة الخاصة توحيدًا، ولا يجوز أن يكون في الأمة مَنْ هو أكمل توحيدًا من نبي من الأنبياء، فضلاً عن الرسل، فضلاً عن أولي العزم، فضلاً عن الخليلين. وكمال هذا التوحيد هو أن لا يبقى في القلب شيء لغير الله أصلا، بل يبقى العبد مواليا لربه في كل شيء: يحب من أحب وما أحب، ويبغض ما أبغض وما أبغض، ويوالي من يوالي، ويعادي من يعادي، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما نهى عنه (2) . [مما يلجئ المؤمنين إلى توحيد الله والتعلق به] . قال الشيخ تقي الدين: من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم من الشدة والضر ما يلجؤهم إلى توحيده، فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدا سواه، فتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم: من التوكل عليه، والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان، وذوق طعمه، والبراءة من الشرك، ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب والضر؛ وما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله   (1) مختصر الفتاوى ص268 (لا توجد في المجموع انظر الفهارس العامة جـ1/3) . (2) مدارج السالكين جـ3/485 غير موجودة انظر الفهارس العامة جـ1/3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الدين فأعظم من أن يعبر عنه مقال؛ ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قيل: يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك. وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي أن ينصرف عني ذلك. لأن النفس لا تريد إلا حظها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًّا» (1) . [التكبر شر من الشرك] . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: التكبر شر من الشرك فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره (2) . [التلفظ بالشهادة لا يكفي لدخول الجنة ولو حج] ومن اعتقد أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الجنة ولا يدخل النار فهو ضال مخالف للكتاب والسنة والإجماع (3) . وتُكَفِّر الشهادة غير الدين. قال شيخنا: وغير مظالم العباد: كقتل، وظلم، وزكاة، وحج أخرهما. وقال شيخنا: ومن اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الصلاة والزكاة فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمي من دم أو مال أو عرض بالحج إجماعا (4) . [الإسلام وما يناقصه أو يقدح فيه] (مسألة) : الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو: عبادة الله وحده لا شريك له. فإذا كان مطلوب العبد من الأمور التي لا يقدر   (1) الآداب الشرعية جـ2/185 موجود بعضه انظر الفهارس العامة جـ1/8 (2) مدارج السالكين ص332 غير موجود في مجموع الفتاوى. ومن الآن فما بعد لا أنبه على ما ليس بموجود لكثرته، يكفي السكوت عنه بأنه غير موجود. وما كان فيه زيادة أو زيادات أو إيضاح أو لكونه أطول أو أشمل أو غير ذلك أنبه عليه إن شاء الله تعالى. (3) مختصر الفتاوى ص93. (4) فروع جـ6/194 (يترتب مع جـ1 من الفهارس العامة ص5) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 عليها إلا الله مثل: شفاء مريضه، أو وفاء دينه من غير جهة معينة، أو عافيته مما به من بلاء الدنيا والآخرة، أو انتصاره على عدوه، أو هداية قلبه، أو غفران ذنبه، أو دخوله الجنة ونجاته من النار، أو أن يتعلم العلم والقرآن، أو أن يصلح قلبه، ويُحسِّن خُلُقه، وأمثال ذلك، فهذا لا يجوز أن يطلب إلا من الله تعالى. ولا يجوز أن يقول لملك ولا نبي ولا شيخ ميت أو حي: اغفر لي ذنبي وانصرني على عدوي. فمن سأل مخلوقا شيئا من ذلك فهو مشرك به قد اتخذ لله ندا، يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. وهذا مثل دين النصارى. وكذلك قوله: يا سيدي فلان أنا في حسبك، أو في جيرتك، فلان يظلمني يا شيخي فلان: انصرني عليه. وأما ما يقدر عليه العبد فيجوز أن يطلب منه في بعض الأحوال دون بعض، فإن «مسألة المخلوق» قد تكون جائزة، وقد تكون منهيا عنها. ومن ذلك قوله: يا فلان ادع الله لي، اسأل الله لي كذا. فطلب الدعاء ممن هو فوقه أو دونه مشروع، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي» ، وذلك لأجل منفعته - صلى الله عليه وسلم - بطلب الوسيلة له ومنفعتنا بالشفاعة. وفرق بين من يطلب من غيره الدعاء لمنفعته منه وبين من يسأل غيره لحاجته إليه فقط. وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه قال: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبيان فأسقنا» . وأما «زيارة القبور المشروعة» فهي أن يسلم على الميت ويدعو له فقط كالصلاة على جنازته. فليس في الزيارة المشروعة حاجة للحي إلى الميت ولا توسل به؛ بل فيها منفعة الميت كالصلاة عليه، والله يرحم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 هذا ويثيبه على عمله، ويرحم هذا ويثيبه على دعائه للميت وتذكره الدار الآخرة، كما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابة الزيارة، وكما كان هو - صلى الله عليه وسلم - يزور. والمقصود: أن من يأتي إلى القبر أو إلى رجل صالح ويستنجده فهذا على ثلاث درجات: إحداها: أن يسأل حاجته، مثل أن يقول: اغفر لي ونحوه، فهذا شرك كما تقدم. الثانية: أن يطلب منه أن يدعو له لأنه أقرب إلى الإجابة، فهذا مشروع في الحي. وأما الميت فلم يشرع لنا أن نقول له: ادع لنا، ولا اسأل لنا ربك؛ ولم يفعل ذلك أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا أمر به أحد من الأئمة، ولا ورد في حديث؛ بل في الصحيح: «أن عمر رضي الله عنه استسقى بالعباس» ولم يأت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل كانوا إذا جاءوا قبره سلموا عليه، فإذا دعوا استقبلوا القبلة ودعوا الله وحده لا شريك له كما يدعونه في سائر البقاع. وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إتيان قبره، واتخاذه عيدا، ومسجدا في أحاديث كثيرة. ولهذا قال العلماء: إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، ولا يجوز أن ينذر للقبر ولا للمجاورين عنده شيء من الأشياء: لا دراهم، ولا زيت، ولا شمع، ولا حيوان، ولا غير ذلك. ولم يقل أحد من أئمة المسلمين: إن الصلاة عند القبور وفي مشاهد الموتى مستحبة أو فيها فضيلة، ولا إن الدعاء والصلاة أفضل عند القبور منها عند غيرها؛ بل اتفقوا كلهم على أن الصلاة في المساجد والبيوت (1) أفضل من الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين. وقد شرع الله الصلاة في المساجد دون المشاهد.   (1) يعني النوافل أو بعضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 ولهذا اتفق المسلمون على أن من زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره من أهل بيته أو غيرهم أن لا يتمسح به، ولا يقبل ما أقيم عليه من الأنصاب ولا يطاف حوله، بل ليس شيء يشرع تقبيله إلا الحجر الأسود، وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه قال فيه: «إنك حجر لا تضر ولا تنفع» . ولكن تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان المنبر موجودا، فكرهه مالك وغيره. وأما التمسح بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلهم نهى عنه أشد النهي، وذلك أنهم علموا ما قصده النبي - صلى الله عليه وسلم - من حسم مادة الشرك وتحقيق التوحيد لله وحده. وهذا مما يظهر به الفرق بين سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته وبعد موته، وسؤال العبد الصالح في حياته وبعد موته؛ وذلك لأن أحدا في حياته لا يُعبد كما قال المسيح عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [117/5] . وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» ، وكذا لما سجد له معاذ رضي الله عنه نهاه، وقال: «إنه لا يصلح السجود إلا لله» وما كان أحد أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا يقومون له إذا قدم عليهم لما يعلمون من كراهته لذلك. فهذا شأن أنبياء الله وأوليائه. وإنما يقر على الغلو فيه وتعظيمه من يريد العلو في الأرض بالفساد: كفرعون، ومشايخ الضلالة الذي غرضهم العلو في الأرض. والفتنة بالأنبياء والصالحين واتخاذهم أربابا والإشراك بهم في غيبتهم أقرب من الفتنة بالملوك ورؤساء الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فظهر الفرق بين سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - والعبد الصالح في حياته بحضوره وبين سؤاله في مماته وغيبته. ومن أعظم الشرك أن يستغيث الإنسان برجل ميت عند المصائب فيقل: يا سيدي فلان كأنه يطلب منه إزالة ضرره أو جلب نفعه، كما هو حال النصارى في المسيح وأمه وأحبارهم ورهبانهم؛ فإذا حصل هذا الشرك نزلت عليهم الشياطين وأغوتهم، وربما خاطبتهم كما كانت تفعل مع أصحاب الأصنام، لا سيما عند سماع المكاء والتصدية؛ فإن الشياطين تنزل عليهم عنده، وقد يصيب أحدهم من الإرغاء والإزباد والصياح المنكر، وتكلمه بما لا يعقله هو ولا الحاضرون، وأمثال ذلك. وأما «القسم الثالث» : وهو أن يقول: اللهم بجاه فلان عندك، أو ببركة فلان، أو بحرمة فلان عندك، افعل لي كذا وكذا فهذا يفعله كثير من الناس لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أنهم كانوا يدعون بمثل هذا الدعاء. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: لم يبلغني عن أحد من العلماء في ذلك ما أحكيه إلا ما رأيته في «فتاوى العز بن عبد السلام» فإنه أفتى أنه لا يجوز لأحد أن يفعل هذا إلا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إن صح الحديث في النبي - صلى الله عليه وسلم - أو معنى ذلك، وذلك أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه علم بعض أصحابه أن يدعو فيقول: «اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها لي اللهم شفعه في» ، فهذا الحديث استدل به طائفة على التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته ومماته. وليس فيه على فرض صحته أنه دعاه واستغاث به؛ بل فيه أنه سأله بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الممشى إلى الصلاة: «اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق مُمْشَاي هذا» فالله قد جعل على نفسه حقا فقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [47/30] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وقالت طائفة: ليس في هذا الحديث جواز التوسل به في مماته ولا مغيبه؛ بل إنما فيه التوسل به في حياته بحضوره، كما استسقى عمر بالعباس لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنا كنا نتوسل إليك بنبينا» . وذلك أن التوسل به في حياته هو أنهم كانوا يتوسلون به: أي يسألونه أن يدعو الله لهم فيدعو لهم، ويدعون، فيتوسلون بشفاعته ودعائه، كما سألوه أن يستسقي لهم يوم الجمعة، وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى قال: «اللهم إنا نتشفع إليك بخيارنا يزيد بن الأسود الجرشي، ارفع يديك يا يزيد إلى الله، فرفع يديه ودعا فَسُقُوا» وكذلك قال العلماء: يستحب أن يستسقى بأهل الصلاح والدين، وإن كانوا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحسن. ولم يذكر أحد من العلماء أنه يشرع التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بالرجل الصالح بعد موته، ولا في مغيبه، ولا استحبوا ذلك في الاستسقاء ولا في الاستنصار، ولا في غير ذلك من الأدعية. و «الدعاء مخ العبادة» والعبادة مبناها على السنة والاتباع؛ لا على الهوى، والابتداع فإنما يعبد الله بما شرع، لا يعبد بالأهواء والبدع (1) . [وجه الدلالة من أحاديث النهي عن اتخاذ قبره عيدا..] . قال شيخ الإسلام (قدس الله روحه) (2) : ووجه الدلالة: أن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا، فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان. ثم إنه قرن ذلك بقوله: «ولا تتخذوا بيوتكم قبورا» أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة   (1) مختصر الفتاوى (ص191-197) هذه المسألة مختصرة اشتملت على تعريف الدين، وبيان أنواع من الشرك تضاده، وبعض البدع المتعلقة بالقبور، وبيان مقاصد الزائرين لها. موجود لفظها في المجموع متفرقا في مسائل فاستحسنت إيرادها هنا تقريبا للفائدة (انظر جـ1 من الفهارس العامة ص 2- 4) . (2) لما ذكر ابن القيم رحمه الله أحاديث في النهي عن اتخاذ القبور عيدا، قال: قال شيخنا -قدس الله روحه-: ووجه الدلالة إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري العبادة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم. ثم إنه عقب النهي عن اتخاذه عيدا بقوله: «وصلوا عليَّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم» يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيدا (1) . [الأمور المبتدعة عند القبور مراتب] . قال شيخنا -قدس الله روحه-: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب: أبعدها عن الشرع أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس. قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام، ولهذا يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام. وهذا يحصل للكافر من المشركين وأهل الكتاب يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانا. وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة. وكذلك السجود للقبر والتمسح به وتقبيله. المرتبة الثانية: أن يسأل الله عز وجل به، وهذا يفعله كثير من المتأخرين وهو بدعة باتفاق المسلمين. الثالثة: أن يسأله نفسه. الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا أيضا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة، وما علمت في ذلك نزاعا بين أئمة المسلمين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك، ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق مجرب.   (1) إغاثة اللهفان جـ1/191، 182 جـ1/4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر (1) . فصل [التفصيل في قول: أنا في بركة فلان] : قوله: أنا في بركة فلان، أو تحت نظره، أو يا فلان مُدَّني بخاطرك. فإن أراد أن نظره أو خاطره أو بركته مستقلة بتحصيل المنافع ودفع المضار فهو كذب وشرك وإن أراد أن فلانا دعا فانتفعت بدعائه، أو أنه علمني، أو أنه أدبني وأنا في بركة ما انتفعت به من تعليمه وتأديبه فهو صحيح. وإن أراد أنه بعد موته يجلب المنافع أو يدفع المضار فهو كذب محرم، وهو الشرك الذي حظره الله على عباده، والذي لا يغفره إلا بالتوبة منه (2) . [حكايات مكذوبة على أحمد] وروي من غير طريق: أن الشافعي رضي الله عنه كتب من مصر كتابا وأعطاه للربيع بن سليمان، وقال: اذهب به إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل وائتني بالجواب فجاء به إليه، فلما قرأه تغرغرت عيناه بالدموع، وكان الشافعي ذكر فيه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام وقال له: اكتب إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل واقرأ عليه مني السلام، وقل له: إنك ستمتحن وتدعى إلى خلق القرآن، لا تجبهم يرفع الله لك علمًا   (1) إغاثة اللهفان (1/217، 218) هذا تفصيل جيد وأسلوب آخر مكانه المناسب في الفهارس العامة جـ1/8. (2) مختصر الفتاوى ص177، 178 فيه زيادة أمثلة على ما في الفتوى المطولة جـ11/113، 114 وللفهارس العامة جـ1/9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 يوم القيامة فقال له الربيع: البشارة، فأعطاه قميصه الذي يلي جلده، وجواب الكتاب. فقال له الشافعي: أي شيء دفع إليك؟ قال: القميص الذي يلي جلده. قال: ليس نفجعك به، ولكن بُلَّهُ وادفع إلينا الماء حتى نشركك فيه. وفي بعض الطرق قال الربيع: فغسلته وحملت ماءه إليه فتركه في قنينة، وكنت أراه في كل يوم يأخذ منه فيمسح على وجهه تبركا بأحمد بن حنبل رضي الله عنهما. وقد قال الشيخ تقي الدين: كذبوا على أحمد بن حنبل حكايات في السنة والورع، وذكر هذه الحكاية، وحكاية امتناعه من الخبز الذي خبز في بيت ابنه صالح لما تولى القضاء (1) . [النذر لقبور النصارى وتعظيم كنائسهم وقسيسيهم] . ومن نذر لقبر من قبور النصارى فإنه يستتاب، بل كل من عظم شيئا من شعائر الكفار مثل الكنائس، أو قبور القسيسين، أو عظم الأحياء منهم يرجو بركتهم فإنه كافر يستتاب (2) . [بناء المساجد والقباب على القبور] مسألة: بناء المساجد على القبور محرم باتفاق الأئمة. ولو بني على القبر مسجد نهي عنه أيضا باتفاق العلماء. وإنما تنازعوا في تطيينه فرخص فيه أحمد والشافعي، وكرهه أبو حنيفة كالتجصيص. وبناء القباب والمساجد على القبور محدث في الإسلام من قريب، وكذلك ترتيب القراءة على القبور محدث (3) . [كسوة القبور، ونذر الزيت والحصر] أما تغشية قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم بالأغشية من الثياب الحريرية وغيرها فليس مشروعا في الدين، ولا قربة لرب العالمين، فلا يجب الوفاء به إذا نذر بلا نزاع بين العلماء والأئمة؛ بل ينهى عن ذلك.   (1) الآداب الشرعية جـ2/13 يتبع جـ1/9 من الفهارس العامة لمجموع الفتاوى. (2) مختصر الفتاوى ص552 يفهرس مع جـ1/9 من الفهارس العامة. (3) مختصر الفتاوى ص190 هذه المسألة فيها تفصيل أكثر. ومكانها المناسب جـ1/9 من الفهارس المذكورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وهل عليه كفارة؟ على قولين. وكذلك الزيت والحصر لمكان لا يصلي فيه المسلمون ولا ينتفعون به ليس بطاعة لله ولا ينعقد نذره. ولكن من العلماء من أوجب فيه كفارة يمين، أو صرف النذر في طاعة الله نظير هذه. ومنهم من لا يوجب شيئًا، فيكون هذا مالا ضائعا لا مستحق له، فيصرف في مصالح المسلمين حيث ينتفعون به في مسجد أو غيره (1) . [السلام على الشيخ بعد الأذان] وأما السلام على الشيخ عقب الأذان أو كسوة قبره بالثياب فقد اتفق الأئمة على أنه ينكر إذا فعل بقبور الأنبياء والصالحين ذلك، فكيف بقبر مجنون وضال من ضلال الصوفية (2) . [السفر للمشاهد وإذا سمي حجا، والطواف بالصخرة أو الحجرة النبوية] مسألة: والذي عليه أئمة المسلمين وجمهور العلماء أن السفر للمشاهد التي على القبور غير مشروع؛ بل معصية من أشنع المعاصي، حتى لا يجوز قصر الصلاة فيه عند من لا يجوز قصرها في سفر المعصية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والأقصى ومسجدي هذا» ولهذا اتفق سلف الأمة وخلفها على أنه لو نذر السفر إلى مشهد علي ونحوه لم يوف بهذا النذر؛ بخلاف ما لو نذر إتيان المسجد الحرام فإنه يجب عليه الوفاء اتفاقا، وكذا لو نذر إتيان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو المسجد الأقصى وجب عليه الوفاء عند مالك وأحمد والشافعي ولا يجب عند أبي حنيفة. لكن إذا سمي: «حَجًّا» مقيدًا بقيد يخرجه عن شبهة المشروع مثل أن يقال: حج النصارى، وحج أهل البدع، وحج الضالين، كما يقال صوم النصارى، وصوم اليهود، وصلاة النصارى، وصلاة اليهود، وصلاة   (1) مختصر الفتاوى المصرية ص249، والاختيارات ص93 للفهارس جـ1/9. (2) مختصر الفتاوى المصرية ص561 يناسب ما في جـ1/9/50 من الفهارس العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الرافضة، وعيد الرافضة، ونحو ذلك فهو جائز ليميز بين الحق المأمور به والباطل المنهي عنه. بل السفر المشروع إلى مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى المسجد الأقصى إنما يكون للصلاة التي ورد الحديث في فضلها؛ وليس لأحد أن يفعل في ذلك ما هو من خصائص البيت العتيق كما يفعله بعض الضلال: من الطواف بالصخرة، أو الحجرة النبوية، أو السفر إلى المقدس وقت التعريف، أو الذبح هناك، وحلق الرأس، ونحو ذلك فكل هذا من دين الجاهلية، وهو من المنكرات في دين الإسلام التي ينبغي ردع فاعلها (1) . [ليس هناك قدم النبي ولا يجوز تقبيله ولا التمسح به] وليس «القدم» الذي بالصخور المشهورة عند العامة قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا قدم أحد من الأنبياء عليهم السلام، ولا يضاف إلى الشريعة تقبيله، ولا التمسح به، فلا شيء من الأرض يقبل ويتمسح به سوى الحجر الأسود والركنين اليمانيين بالبيت العتيق. وتنازعوا في جواز التمسح بمنبره - صلى الله عليه وسلم - حين كان موجودا (2) . [أنصاب بدمشق كسرها الشيخ وحزب الله الموحدين] قال ابن القيم رحمه الله: وكان بدمشق كثير من الأنصاب فيسر الله سبحانه كسرها على يد شيخ الإسلام وحزب الله الموحدين: كالعمود المخلق، والنصب الذي كان بمسجد النارنج عند المصلى يعبده الجهال، والنصب الذي كان تحت الطاحون الذي عند مقابر النصارى ينتابه الناس للتبرك به. وكان صورة صنم في نهر القلوط ينذرون له ويتبركون به وقطع الله سبحانه النصب الذي كان عند الرحبة يسرج عنده ويتبرك به المشركون، وكان عمودا طويلا على رأسه حجر كالكرة، وعند مسجد   (1) مختصر الفتاوى ص515 هذا ملخص لموضوع السفر للمشاهد. وفيه التنبيه على أنه لا يجوز أن يسمى حجا إلا بقيد، وكذلك صومهم وصلاتهم وأعيادهم للتفريق بين الحق والباطل (للفهارس العامة جـ1/10) . (2) مختصر الفتاوى المصرية ص568 تفهرس جـ1/11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 درب الحجر نصب قد بني عليه مسجد صغير يعبده المشركون، يسر الله كسره (1) . [لا يرقون وهم استحباب الرقية] قال ابن القيم رحمه الله: زاد مسلم وحده «ولا يَرْقُون» فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذه الزيادة وهم من الراوي لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولا يرقون» ، لأن الراقي محسن إلى أخيه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن الرقى فقال: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه» ، وقال: «لا بأس بالرقى ما لم يكن شركا» ، والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن نافع (2) . وليس عند البخاري: «لا يرقون» وهو الصواب (3) . وأما «الطيرة» فإن يكون قد بدأ في فعل أمر وعزم عليه (4) فيسمع كلمة مكروهة مثل: «ما يتم» فيتركه فهذا منهي عنه. [الطيرة ينهى عنها. المستحب الاستخارة] والذي ينبغي الاستخارة التي علمها النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته. لم يجعل الفأل والطيرة أمرا باعثا على شيء من الفعل أو الترك، وإنما يأتمر وينتهي بذلك أهل الجاهلية الذي يستقسمون بالأزلام، وقد حرم الله الاستقسام بها: كالضرب بالحصى، والشعير، واللوح، والخشب، والورق المكتوب عليه حروف أبجد، وأبيات شعر، ونحو ذلك، منهي عنه؛ لأنها من أسباب الاستقسام بالأزلام (5) .   (1) إغاثة اللهفان جـ1/212 تفهرس تابعة جـ1/12. (2) مفتاح دار السعادة ص580 تتبع في الفهارس العامة جـ1/13. (3) حادي الأرواح ص100 تتبع في الفهارس العامة جـ1/13. (4) وهذه أصح مما في المجموع قد فعل أمرًا. (5) مختصر الفتاوى ص266. للفهارس العامة جـ1/13 وجـ2/73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» و «من حلف بغير الله فقد أشرك» . [الحلف بغير الله، والحلف بالأمانة] فليس لأحد أن يحلف لا بملك ولا نبي ولا غير ذلك من المخلوقات، ولا يحلف إلا باسم من أسماء الله، أو صفة من صفاته. وقد روي: «من حلف بالأمانة فليس منا» فمن حلف بالأمانة لا يدري ما حلف به أو عنى به مخلوقا فقد أساء. وإن أراد بها صفة من صفات الله نحو: وأمانة الله، أو عظمته؛ جاز ذلك. وهل الحلف بغير الله محرم، أو مكروه؟ على قولين: الأول أصح، وكان السلف يعزرون من يحلف بالطلاق. وكل ما سوى الله يدخل في [ذلك] :مثل الكعبة، والكرسي، والملائكة، والنبيين، والملوك، ونعمة السلطان، أو الشيخ، أو تربة أبيه، ونحو ذلك ولكن في الحلف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة نزاع. [قد يستحب الحلف] وكثرة الحلف مكروه ولكن قد يستحب إذا كان فيه مصلحة شرعية كما أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [53/10] ، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [4/67] ، {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [3/34] (1) . [قول القائل: اللهم أمنا مكرك ... ] وقول القائل: «اللهم أمنا مكرك ولا تؤمنا مكرك» له معنيان: أحدهما صحيح، والآخر فاسد. فإن أراد لا تؤمنا مكرك: أي لا تجعلنا نأمنه؛ بل اجعلنا نخافه فالمؤمن يخاف مكر الله. ومكر الله أن يعاقبه على سيئاته والكافر لا يخشى الله فلا يخاف مكره، ومكره أن يعاقبه على الذنب لكن من حيث لا يشعر. وقوله: «أمنا مكرك» يريد قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [82/6] يجعل له أن يمكر بهم وإن كانوا يخافون المكر، فيكون حقيقة قوله:   (1) مختصر الفتاوى ص548. للفهارس العامة جـ1/13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 «أمنا مكرك» إئجرني على حسناتي، ولا تعاقبني بذنب غيري: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [112/20] . فأما المعنى الفاسد فأن يريد: اللهم أمنا من مكرك، أي: لا نخافك أن تمكر بنا، وقد يريد: لا تؤمنا مكرك: أي لا تجعل لنا أمنا من العذاب (1) . [السؤال بغير الله شرك] ولا تكون الصدقة إلا لوجه الله تعالى، فمن سأل بغير الله من صحابي أو شيخ أو غيره فينهى عن ذلك، فإنه حرام قطعا؛ بل شرك (2) . [تقبيل اليد ومدها للتقبيل والانحناء المعانقة والمصافحة] فأما تقبيل اليد فلم يكونوا يعتادونه إلا قليلا (3) ولما قدموا عليه - صلى الله عليه وسلم - عام مؤتة قبلوا يده، وقالوا: نحن الفرارون، قال: «بل أنتم العكارون» (4) . وقَبَّلَ أبو عبيدة يد عمر، ورخص أكثر الفقهاء أحمد وغيره لمن فعل ذلك على وجه التدين، لا على وجه التعظيم للدنيا، وكره ذلك آخرون كمالك وغيره، وقال سليمان بن حرب: هي السجدة الصغرى. وأما ابتداء مد اليد للناس ليقبلوها وقصده لذلك فينهى عن ذلك بلا نزاع كائنا من كان، بخلاف ما إذا كان المقبل المبتدئ بذلك وفي السنن: «قالوا: يا رسول الله يلقى أحدنا أخاه أفينحني له؟ قال: «لا» قالوا: فيلتزمه ويعانقه؟ قال: «لا» ، قالوا: فيصافحه؟ قال: «نعم» (5) . قال الشيخ تقي الدين: فأبو بكر والقاضي ومن تبعهما فرقوا بين القيام لأهل الدين وغيرهم، فاستحبوه لطائفة وكرهوه لأخرى. والتفريق   (1) مختصر الفتاوى ص84. للفهارس العامة جـ1/14. (2) مختصر الفتاوى ص76. للفهارس العامة جـ1/16. (3) يعني الصحابة كما في أول الفصل قوله: ولم يكن من عادة الصحابة. (4) الذين يعطفون إلى الحرب. (5) مختصر الفتاوى ص564 والآداب الشرعية جـ2/259. للفهارس العامة جـ1/18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 في مثل هذا بالصفات فيه نظر. قال: وأما أحمد فمنع منه مطلقا لغير الوالدين؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الأئمة ولم يكونوا يقومون له، فاستحباب ذلك للإمام العادل مطلقا خطأ، وقصة ابن أبي ذئب مع المنصور تقتضي ذلك. وما أراد أبو عبد الله -والله أعلم- إلا لغير القادم من سفر، فإنه نص على أن القادم من السفر إذا أتاه إخوانه فقام إليهم وعانقهم فلا بأس به، وحديث سعد يخرج على هذا وسائر الأحاديث؛ فإن القادم يتلقى؛ لكن هذا قام فعانقهم، والمعانقة لا تكون إلا بالقيام. [القيام للقادم من السفر، وللحاضر الذي طالت غيبته والذي يتكرر مجيؤه] وأما الحاضر في المصر الذي قد طالت غيبته والذي ليس من عادته المجيء إليه فمحل نظر. فأما الحاضر الذي يتكرر مجيؤه في الأيام كإمام المسجد أو السلطان في مجلسه أو العالم في مقعده فاستحباب القيام له خطأ، بل المنصوص عن أبي عبد الله هو الصواب. وقال أيضًا: لا يجوز أن يكون قاعدا وهم قيام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» وفي الصحيح: أنهم لما قاموا خلفه قال: «لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا» (1) . وقال في «الإرشاد» : المعانقة عند القدوم من السفر حسنة. وقال الشيخ تقي الدين: فقيدها بالقدوم من السفر، وقال: القاضي أطلق، والمنصوص في السفر. انتهى كلامه (2) . وقال الشيخ عبد القادر: ولا ينزع يده حتى ينزع الآخر يده إذا كان   (1) الآداب الشرعية جـ1/459، 460 الفهرس تابع جـ1/18 من الفهارس وجـ2/262. (2) الآداب الشرعية جـ1/259. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 هو المبتدي. [متى ينزع يده إذا سلم] قال الشيخ تقي الدين: الضابط أن من غلب على ظنه أن الآخر ينزع أمسك؛ وإلا فلو استحب الإمساك لكل منهما أفضى إلى دوام المعاقدة؛ لكن تقييد عبد القادر حسن أن النازع هو المبتدي انتهى كلامه (1) .   (1) الآداب الشرعية جـ2/262 تابع الفهارس العامة جـ1/18 وجـ 2/299، 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 توحيد الربوبية [هو الدليل] قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء. وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل (1) [التفاوت في معرفة الله] ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربهم في الدنيا، ويتفاوتون في درجات العرفان (2) . [شرك في الربوبية] ومن قال: إن أحدا من أولياء الله يقول للشيء: كن فيكون، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ فإنه لا يقدر على ذلك أحد إلا الله سبحانه وتعالى. وليس كل ما يريده ابن آدم يحصل له ولو كان من كان؛ لكن في الآخرة يحصل له كل ما يريد، فإذا اشتهى حصل له ذلك بقدرة الله تعالى (3) . [شرك أهل وحدة الوجود] قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس   (1) مدارج السالكين جـ1/60 يناسب جـ1/22 من الفهارس العامة. (2) مختصر الفتاوى المصرية ص177جـ1/22 للفهارس العامة جـ1/22. (3) مختصر الفتاوى ص587 جـ1/31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الله روحه) يحكي عن بعض العارفين أنه قال: العامة يعبدون الله، وهؤلاء يعبدون نفوسهم (1) . فصل الحروف والأصوات المكتوبة والمسموعة سواء جمع الوصفين كالحرف المسموع، أو أحدهما كالحرف المكتوب، والصوت الذي ليس بحرف: إذا كانت متعلقة بالدين فلا تخلو عن ثلاثة أقسام: إما أن تكون سببًا للإيمان. وإما أن تكون سببا للكفر. وإما أن تكون مجملة تصلح لهذا ولهذا. [من الكلام ما يكون سببا للهدى، أو الضلال، والأصوات المثيرة للوجد والطرب. أو مجمل يوجب فسادين] فالأول كلام الله وكلام رسوله وأنبيائه وخلفائهم بلفظه أو معناه؛ فإن السامع إذا سمع القرآن كان سماعه سببا للهدى، فيوجب الهدى إن لم يكن مانع. وإذا نظر فيه وتدبره كان ناظرا في دليل هاد يوصله إلى العلم والمعرفة إذا كان النظر صحيحا. فأهل النظر من أهل العلم والكلام إذا كان نظرهم فيه وكلاهم فيه اهتدوا. وأهل السماع والوجد إذا كان سماعهم له ووجدهم به رشدوا؛ ولهذا حض سبحانه على تدبره وعلى سماعه، فهو أحسن الحديث، وخير الكلام، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «زينوا القرآن بأصواتكم» ، وقال: «لله أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته» . [حروف القرامطة والإسماعيلية وأهل وحدة الوجود] : وأما النوع الثاني: فالكلام المتضمن للكفر، والنافق، لا سيما إذا   (1) مدارج السالكين جـ1/260 للفهارس جـ1/35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 زخرف بالعبادات والشبهات، وحسن باللحون والأصوات من نظم ونثر مثل كلام القرامطة والإسماعيلية وكلام التلمساني نظمه ونثره، وكلام ابن سبعين، والبلياني، وغيرهم من الملاحدة؛ فإن حروفهم سبب لاعتقاد الضلال، وهو اعتقاد أن الله هو المخلوقات، وأنه ليس وراء المخلوق خالق خلقه متميز عنه، كحقيقة قول فرعون والقرامطة من جحود خالق الخلق؛ لكن فرعون نفاه بقوله ظاهرا وباطنا، فهو أكفر من هذا الوجه، من جهة أنه كان معاندا جاحدا. وهؤلاء قد يكون أحدهم ضالا يعتقد أنه على هدى ففرعون أكفر منهم من جهة أنه نفاه مطلقًا وإن كان معاندا في نفيه. وجحوده مستكبرا عليه. وهؤلاء قد يكون أحدهم مقرا بوجوده ومعتقدا أنه هو الذي يثبته ويحسب أنه مهتد في ذلك وأن هذا هو دين الأنبياء؛ لكن هؤلاء أضر على الأمة من فرعون؛ لأنهم يرون أن هذا دين الأنبياء وفرعون كان أعلم منهم لكن علم ضار أنه كان مستيقنا بأن للعالمين رب؛ كما قال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [102/17] ، لكن كان مع علمه معاندا فهو أصح منهم علما وأعظم كفرا وعنادا. وهؤلاء أضر منه على الأمة؛ لكن فيهم نوع من الإيمان، وهؤلاء أقروا باسمه وبالتعبد له، وجعلوه هو المخلوقات، وهو إياهم، وصرحوا بأن من عبد الشمس والقمر والطواغيت فما عبد إلا الله، ولا يتصور أن يعبد إلا الله، وأن العابد هو المعبود ولكن عبد نفسه، وزعموا أنه هو الذي جاءت به الرسل والأنبياء وكبار العارفين، فهم من هذا الوجه أضر على الناس من فرعون. [أيما هؤلاء أو فرعون أكفر وأضل وأضر على الأمة] كما يذكره ابن عربي في «فصوص الحكم» ويذكره «القونوي» في «مفتاح غيب الجمع والوجود» ويذكره «العفيف» في «شرح الأسماء الحسنى» وفي «شرح قصيدة ابن الفارض» وفي أشعاره. وإن كان «ابن عربي» يرى أن المعدوم شيء ثابت في العدم كقول من يقول ذلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المعتزلة والرافضة، ويرى أن وجود الحق فاض عليهم فيرى أن وجود الكائنات عين وجود الحق، وأن الناكح هو المنكوح، والشاتم هو المشتوم وكما قال بعضهم: من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب، فقال له صاحبه: من الذي كذب. وقد يبتلى ببعض ذلك حالا بعض جهال المتصوفة إذا كانوا قد أقروا بما ظنوا أنه هو وحاروا فيه، فإن الحيرة ظاهرة عليهم لما هم فيه من التناقض، والمتعبدة فإنهم لما توجهوا بقلوبهم إلى الله وذكره وأحبوه شهدت قلوبهم الوجود العام بالمخلوقات الصادر عن الحق الذي خلق السموات والأرض فاعتقدوا أن هذا الحق المخلوق هو الحق الخالق، فأشبهوا من بعض الوجوه من رأى شعاع الشمس فظن أنها هي الشمس، أو رأى الظل فظن أنه الشخص. وأما صاحبه «الصدر الرومي» فيرى أنه هو الوجود المطلق الساري في الكائنات؛ لا يفرق بين الوجود والماهية، ولا الفائض والمفيض عنه؛ لكن ليس هو عين كل موجود؛ فإن المطلق ليس هو المعين، وهذا تعطيل محض، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة. وأما الأول ففيه قسط من ذلك. وصاحبه «التلمساني» ونحوه لا يفرق بين مطلق ومعين، ولا بين وجود وماهية، بل عنده أن نفس الأكوان هي الله، وهي أجزاء منه وأبعاض له، بمنزلة أمواج البحر مع البحر، وأجزاء البيت من البيت: فما البحر إلا الموج لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد [أهل الاتحاد الخاص والحلول الخاص] فهؤلاء في الكفر الصريح هو أهل الإلحاد والاتحاد العام، بخلاف من قال بالاتحاد الخاص المقيد في نبي أو غير نبي كالنصارى وغالية الرافضة وغالية جهال المتعبدة من الحلاجية واليونسية وبعض العدوية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 والحاكمية وغيرهم؛ فإن هؤلاء يقولون بالاتحاد المعين المقيد. ثم مع كل فريق من أهل الاتحاد المطلق والمعين فريقا ثانيا يقولون بالحلول: إما الحلول المطلق، وهو قول من يقول: إن الحق حال في الأماكن كلها، فهذا كفر قديم في الأمة من كفر «الجهمية» الذي كان السلف ينكرون قولهم، وهم الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان، فإن هؤلاء الحلولية إخوان هؤلاء الاتحادية. أولئك قالوا: هو في جميع المصنوعات، وهؤلاء قالوا: هو المصنوعات. وهؤلاء الاتحادية المطلقة والحلولية إنما أوقعهم في ذلك عدم إثباتهم لما جاءت به الرسل من رب العالمين الذي فوق الخلق، الذي استوى على العرش، فإنهم تجهموا في أنه ليس فوق العالم ولا داخله ولا خارجه ونحو ذلك من الصفات السلبية التي رأوها منطبقة على الوجود المطلق، وهم عباد لابد لقلوبهم من شيء تعبده، فلم يجدوا ما يطابق هذه السلوب إلا وجود المخلوقات. وأما المتكلمة الجهمية فإنهم في العلم والكلام، والعلم يتناول الموجود والمعدوم فإذا وصفوه بالسلوب وكانت إنما تطابق المعدوم لم يضرهم إذا كان الذي أثبتوه معدوما فإنهم لا يعبدون شيئا كما أخبر السلف بذلك عنهم. فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتعبدتهم يعبدون كل شيء. في مبدأ دولة التتار «ابن الخطيب» متكلم المعطلة الجهمية والزنادقة. و «ابن عربي» متصوفهم وعارفهم فاتفقا على جحد رب العالمين الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل؛ واختلفا بعد ذلك. فالأول: أثبت العالم؛ لكن بالكلام الباطل، والثاني: أثبت العالم، لكن بالعقل الفاسد. فتدبر هذا واجمعه مع ما قدمته من القواعد يتبين لك الأمر. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وكذلك أهل الحلول الخاص إخوان أهل الاتحاد الخاص، كما افترقت النصارى في المسيح، فإن «النسطورية» قالوا بحلول اللاهوت في الناسوت، «واليعقوبية» قالوا باتحاد اللاهوت والناسوت. و «الملكانية» قالوا بالاتحاد من وجه دون وجه. الأولون شبهوه بالماء في الإناء. والآخرون شبهوه بالماء واللبن، والثالثة شبهوه بالنار في الحديد، فقالوا: هما جوهر واحد واقنومان. ثم هؤلاء أهل الاتحاد المخصوص يحتاجون أن يقولوا: أن الرب والعبد اتحدا بعد أن كانا اثنين وأن اللاهوت اتحد أو امتزج أو اختلط أو اتصل بالناسوت بعد أن لم يكن كذلك. وأما «أهل الاتحاد المطلق» فإن لفظة الاتحاد عندهم ليست مطابقة لمذهبهم؛ فإن عندهم ما زال واحدا، ولا يزال، لم يكن شيئان فصار واحدا، ولكن كانت الكثرة والتفرق في قلب الإنسان لما كان محجوبا عن شهود هذه الحقيقة فلما انكشف الحجاب عن قلبه شهد الأمر. فالمراتب في اعتقاده وخياله، وأما الكثرة والتفرق فهو عندهم بمنزلة أجزاء الكل أو جزئيات الكل، كما تقدم. وهؤلاء إذا أُنْشِدَ شعر بعضهم بصوت مُلَحَّن كشعر التلمساني وبعض شعر ابن إسرائيل، مثل قوله: وما أنت غير الكون بل أنت عنيه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق وقوله: وتلتذ إن مرت على خدي يدي ... لأني في الحقيقة لست سواكم كان هذا من سماع الذي هو سبب الكفر. وأما «المجمل من الحروف والأصوات» فمثل كثير من المنطق والكلام، ومثل الأشعار التي فيها ذكر الحب مطلقا بتوابعه من الهجر والوصل والصدود والشوق؛ مثل كثير من شعر ابن الفارض، فإن تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 القصيدة يتقبلها الزنديق التلمساني ونحوه ممن يقول: إن الله هو وجود المخلوقات؛ وقد نقلها قوم صحيحو الاعتقاد من الصوفية، وأخذوا ما فيها من وصف الحب وأهله، وتنازع الفريقان قوله: ولي من أتم النظرتين إشارة ... تنزه عن رأي الحلول عقيدتي فأولئك المنافقون يقولون: إنه متعد الحلول إلى الاتحاد، بل إلى وحدة الوجود؛ فإن الحلول من حال إلى محل، وهذا يثبته، وإنما الوجود شيء واحد، فهذا أراد. والمؤمنون يقولون: بل أراد إثبات عبوديته لله، وأنه لا يحل مخلوقاته؛ بل هو بائن من خلقه، كما هو مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة. لكن من تأمل بقية هذه القصيدة وتأمل هذه الأبيات وما بعدها وجدها صريحة في مذهب الاتحادية المنافقين الفرعونية القرامطة، وعلم أن نَفَسَهُ وَنَفَسَ التلمساني هو نَفَسُ ابن عربي، وأن هؤلاء كلهم قولهم كفر صريح معلوم فساده بالاضطرار العقلي والشرعي، والاضطرار الذوقي أيضا؛ ولكن كثرة ما يصفون جنس الحب يبقى في كلامهم إجمال. وكذلك «الأصوات المثيرة للوجد والطرب» تحرك كل قلب إلى مطلوبه قد اشترك فيها: محب الرحمن، ومحب الإيمان، ومحب الغلمان، ومحب النسوان، ومحب المردان، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ولهذا لم تجئ الشريعة بهذا السماع، ولا فعلها القرون الثلاثة الفاضلة، بل هو محدث في حدود أواخر المائة الثامنة؛ ولهذا امتنع عن حضوره أكابر العارفين وأئمة العلم وأهل الاتباع للشريعة، ونهوا عنه. وقد حضره جماعة من المشايخ الصالحين وأهل الأحوال لما تثير فيهم من وجدهم الكامن، فيثير العزم الساكن، ويهيج الوجد القاطن؛ وكانوا في حضوره على درجات، وشاركهم فيه جماعات من أهل البدع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 والضلالات، وإن كان لهم أحوال فيها كشوفات وتأثيرات؛ فنتج لهم أحوال غير مرضية للرحمن، مثل من يحضر أهل الكفر والفسوق والعصيان، ومثل مغالبة بعضهم بعضا، والسعي في سلب إيمانه، أو غير ذلك من أنواع البغي والعدوان، فدخلوا بذلك على الإعانة على الإثم والعدوان، وفرطوا فيما أمروا به من الإعانة على البر والتقوى. وصار بسبب كونه مشتركا يشترك فيه المؤمن والكافر والبر والفاجر والصديق والزنديق، منزلة من بنى معبدا مطلقا يتعبد فيه أهل كل ملة ونحلة، فيجتمع فيه المسلمون واليهود والنصارى والمجوس والمشركون والصابئون كل يصلي إلى قبلته، ولا ينهى بعضهم بعضا، وجعل لهم فيه مطاعم وملابس، فقد يتفقون لما فيه من القدر المشترك من المطعم والملبس والمسكن، ويتفاوتون لما فيه من اختلاف مقاصدهم ونياتهم ووجههم، فإن وجه القلوب أعظم تفاوتا من وِجَهِ الأجساد. ولهذا اتفقت الأنبياء والمرسلون على أن وجهة قلوبهم إلى الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [29/7] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [125/4] ، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [111، 112/2] . وأما وجهة الأبدان فقد قال: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [148/2] ، وقد عمم حيث قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [115/2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ثم الدخول في الحروف والأصوات المجملة والاشتراك فيها يوجب فسادين: أحدهما: سقوط خاصية الحروف والأصوات المشروعة لنا المختصة بنا التي وجبت علينا أو استحبت لنا وفضلنا بها على غيرنا. الثاني: الخروج من المجمل المشترك إلى المفصل بأهل الكفر والنفاق كما وقع في ذلك خلائق كثيرون، حتى أنه في المجمع الواحد ينشد البيت المجمل والبيت الكفري. والله أعلم وأحكم. ومما يتعلق بهذا أن أصل الصابئة الحروف والأصوات المجملة المشتركة كما فعله ابن سينا متكلم الصابئة في الإسلام في كتبه الصابئية كالإشارات فإنه افتتحها بالكلام في المجمل والمشترك -وهو المنطق- وختمه بالعبادة والسماع للصوت المطلق المشترك، كما يتكلم في علم الموسيقى وهو الصوت المجمل المشترك؛ فإن الحروف المنطقية المجملة والأصوات النغمية المجملة هي دين الصابئة لا توجب الإسلام ولا تحرمه، ولا تأمر به ولا تنهى عنه، وقد ينفع تارة ويضر أخرى. والأصل فيها أنها غير مشروعة ولا مأمور بها، والله أعلم (1) .   (1) مجموع الفتاوى 69ص244 فيها زيادة إيضاح عما في المجموع. وفي النونية لابن القيم مقتطفات منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 توحيد الأسماء والصفات الأسماء الحسنى [إحصاء الأسماء الحسنى في القرآن] {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [110/17] ، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [20/8] ، {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [180/7] ، {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحسُنْىَ} [24/59] . ترتيب أسماء الله سبحانه وتعالى الظاهرة نحو مائة وخمسين موجودة في كتاب الله: مفردة، ومفرقة، ومضافة، ومشبهة بالمضافة (1) . فأما الموصولة المضمرة فأكثر من أن تحصى، وكذلك ما قد يشتق من الأفعال المذكورة في القرآن. أسماء الألوهية والربوبية والملك أكثر من أن تُحصى (2) : «إله» : أكثر ما يقع مضافا، كقوله: {وَإِلَهُكُمْ} [163/2] ، {إِلَهِ النَّاسِ} [3/114] ، {إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [133/2] ، {إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [38/28] ، أو منكورا موصوفا بالوحدانية،   (1) وفي ورقة أخرى مسودة بخطه أيضًا زيادة: وعاملة في ظرف أو غيره 69 ص273. (2) وهذا العنوان ترتيب أسماء الله إلى قوله في القرآن من خطه رحمه الله، وكذلك قوله أسماء الألوهية إلخ، وكذلك قوله أسماء الوحدانية إلخ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 كقوله: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} [163/2] ، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [84/43] . «الإل» كقوله: {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً} [9/10] على قول، وفي قوله (1) : «الرب» : لم يقع إلا مضافا: إما إضافة عامة، كقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} في أكثر من عشرين موضعا (2) ، وقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [24/26] ، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [28/26] ، {رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [26/26] ، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [5/37] ، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [9/73] ، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [86/23] ، {بِرَبِّ الْفَلَقِ} [1/113] ، {رَبُّ الْعَرْشِ} [22/21] ، {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [26/27] ، {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [116/23] . وأما إضافة خاصة كقوله: {بِرَبِّ النَّاسِ} [1/114] ، {رَبَّنَا} [127/2] ، {رَبِّيَ} [258/2] ، {وَرَبُّكَ} [69/28] ، {رَبَّكُمُ} [21/2] ، و {رَبُّهُ} [110/2] ، و {رَّبِهم} [5/2] ، و {رَبّ مُوْسَى وَهَارُون} [122/7] ، وهذا لا يكاد يحصى. ووقع مجامعي المضاف في قوله: {سَلَمٌ قَوْلاًَ مِنْ رَّبِّ رَّحِيم} [58/36] . «الملك» : وقع مقرونا في قوله: {الملكُ القدوسُ} [23/59 و1/62] ، في   (1) كلمة غير مقروءة، ولعلها قول أبي بكر: «لم يخرج من إل» يعني من إلاه أو من الله. (2) ثمانية وعشرين حسب تعداد المعجم المفهرس لألفاظ القرآن وقد اكتفى بذكر سورة وآية إذا كثرت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 موضعين، ومقرونا في قوله: {الْمَلِكُ الْحَقُّ} في موضعين [114/20 و116/23] . المالك: وقع مضافًا: {مَالِك يَوْمِ الدِّيْنِ} [4/1] و {مَالِكَ الْمُلْكِ} [26/3] . «المليك» : وقع مقرونا في قوله: {عِنْدَ مَلِيْكٍ مُقْتَدِر} [55/54] . «أسماء الفعل العامة» : {فَعَّالُ لِمَا يُرِيْد} في موضعين أو ثلاثة [107/11 و 16/85] ، {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} [79/21] . «وخاصة» : وذلك عام ومشبهة بالمضاف كقوله: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [95/6] ، {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [96/6] ، و {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [18/8] ، و {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [1/35] ، و {رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [7/28] ، فإن هذا معناه معنى الأفعال المضارعة؛ لكن لفظه لفظ الأسماء. و {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [50/30] و: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [22/32] ، {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [41/43] وأعم منه: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [95/5] ، {لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} [131/6] معناه معنى الأفعال. وكذلك قوله: {كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا} [15/44] . «ومعنى أسماء الأفعال» : كقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [142/4] ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [23/29] ، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [47، 48/51] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 أسماء الخلق: الخالق وقع مفردا في قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [3/35] وفي قوله: {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [59/56] . ومضاف إضافة عامة في قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} في ثلاثة مواضع [102/6 و 16/13 و 62/39 و 62/40] . ووقع مقرونا في قوله: [الخالق البارئ المصور] [24/59] وقوله: {الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [81/36 و 86/15] . ومفضلا في قوله: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [14/23 و 125/37] . «الفاطر» : لم يقع إلا مضافا في قوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في نحو ستة مواضع [14/6] . «البارئ» : جاء مفردا في قوله: {الْبَارِئُ} [24/59] ومضافا في قوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [54/2] . «المصور» : جاء مفردا في قوله: {الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [24/59] . «البديع» : لم يقع إلا مضافًا في قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في موضعين [117/2 و 101/6] بديع: أي مبدعهما. ومن زعم أنه خفض وجعله من (1) وأن المعنى بديعة سمواته وأرضه فقد أخطأ. «الرزاق» : وقع مفردا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [58/51] و .... (2) .   (1) كلمة مطموسة في التصوير ص274، وفي تفسير البيضاوي: وقرئ بديع مجرورا على البدل من الضمير في قوله: (له) وبديع منصوبا على المدح. (2) بياض ولعله «ومفضلا» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 في قوله: {خَيرُ الرَّازِقِينَ} في خمسة مواضع [114/5] . «الجامع» : جاء مضافا في قوله: {جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} [9/3] وفي قوله: {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [140/4] . الصادق: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [146/6] . المرسل: {وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [45/28] ، {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (1) [5/44] لأن الإرسال والإمداد لا بد فيه من واسطة ولكثرة معانيه. المنذر: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [3/44] . المؤمن: في قوله: {الْمُؤْمِنُ} [23/59] . المبتلي: في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [30/23] . المبرم: في قوله: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [79/43] . الحكم: في قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} [114/6. الحكيم: مقرونا بالعزيز في أكثر من أربعين موضعًا: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) ومقرونا بالخبير: {الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} في نحو أربعة مواضع [18/6] ومقرونا بالعلم: {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في قريب من ثلاثين   (1) كلمات غير مقروءة في المصور ولعلها تشير إلى ضمير الجمع وأنه لم يأت بلفظ المفرد كما تدل عليه العبارة بعدها وأنه نظير (إنا) و (نحن) من بعض الوجوه، -والله أعلم-. (2) في 47 موضعا أولها في [129/2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 موضعا (1) و: {الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} في نحو من سبعة مواضع (2) ، وبالحميد في قوله: {حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [42/41] ، وبالتواب في قوله: {تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [10/24] ، وبالعلي في قوله: {عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [51/42] بعد قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ} الآية، وبالواسع في قوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [130/4] . «الحاكم» : لم يجئ إلا بصيغة التفضيل في قوله: {أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [45/11 و 8/95] في موضعين، و: {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} في ثلاثة مواضع [87/7 و 109/10 و 80/12] . «الفاصل» : كذلك في قوله: {خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [57/6] . «الفتاح» : جاء مقرونا في قوله: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [26/34] ، ومفضلا في قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [89/7] . «الهادي» : جاء مقيدا في قوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [54/22] وقد قيل في قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [7/13] وليس بشيء بل المراد النبي الداعي المبين. «الشكور» : جاء مقرونا بالعليم: {شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [158/2] ، {شَاكِرًا عَلِيمًا} [147/4] وجاء مقرونا بالغفور: {غَفُورٌ شَكُورٌ} في موضعين أو ثلاثة (3) . وهذا من سعة الكرم؛ فإنه قرن العلم بالشكر؛ لأن العلم يحيط بتفاصيل الأعمال، وقرن بالمغفرة الشكور ليبين أن المسيء مع أنه يغفر له يضاعف له الحسنات، وبالحليم في قوله: {شَكُورٌ حَلِيمٌ} [17/64] .   (1) بل أربعة وثلاثون منها في سورة البقرة الآية: 32. (2) سبعة مواضع فقط منها في سورة الذاريات الآية 30. (3) ثلاثة فقط 30/35 و 34/35 و23/43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 «الموفي» : جاء مقيدا في قوله: {لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [109/11] . أسماء الوحدانية ونحو ذلك من الأسماء الجامعة للتنزيه والتحميد «الأحد» : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [1/112] . «الواحد» : وقع مقرونا صفة في قوله: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} في نحو خمسة مواضع (1) ، ومفردا خبرا في معنى المقرون في قوله: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [4/37] ومقرونا بالقهار في قوله: {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [65/38] . وأما «الواحد» : فقط غلط من أدخله في أسماء الله. «الصمد» : في قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [2/112] . «الغني» : وقع مفردا في قوله: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [38/47] ، وهو هنا يجمع معنيي الغنى، وفي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [97/3] ، {غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [39/7] ، ومقرونا في قوله: {الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [6/60] و: {غَنِيٌّ حَمِيدٌ} في نحو تسعة مواضع (2) ، {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} في موضعين [133/6] (3) . «القدوس» : وقع مقرونا في قوله: {الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} [23/59] . «السلام» : وقع مقرونا في: {الْقُدُّوسُ السَّلَامُ} [23/59] ، وهذا القرانُ في معنى الإفراد.   (1) في عشرة مواضع منها في سورة البقرة الآية 163. (2) في عشرة مواضع - لكن بعضها {الغني الحميد} {غنيا حميدا} - منها في سورة البقرة الآية 267. (3) والآية الأخرى: {وربك الغفور ذو الرحمة} [85/18] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 «الوتر» : في قوله: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [3/89] على قول مجاهد وغيره. «الحي» : جاء مفردا في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [58/25] ، وفي قوله: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [65/40] ومقرونا في قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} في ثلاثة مواضع [255/2 و 2/3 و 111/20] . «القائم» : جاء (1) في قوله: {قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [18/3] ، وقوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [33/13] . «الباقي» : جاء مفضلا في قوله: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [73/20] . «الوارث» : جاء مفضلا في قوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [89/21] ، {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} صفة [23/15] . «الحق» : جاء مقرونا في قوله: {الْمَلِكُ الْحَقُّ} [114/20] ، وفي قوله: {الْحَقُّ الْمُبِينُ} [25/24] ، وفي قوله: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [30/10] و: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} [32/10] ومفردا في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} في ثلاثة مواضع [6/22 و 62/22 و 30/31] . «النور» : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [35/4] . «المبين» : جاء مقرونا: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [25/31] . «العليم» : جاء مفردا في قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [76/12] ، وفي قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [70/4] ومنه نوع مقيد جاء   (1) بياض ولعله مقيدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 مقرونا بالحليم: {عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [12/4] ، {حَلِيْمٌ عَلِيْمٌ} [12/4] و: {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [83/12] و: {الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [84/43] . و: {عَلِيمًا حَكِيمًا} في أكثر من ثلاثين موضعا (1) . ومقرونًا: {عَلِيمٌ خَبِيرٌ} في نحو ثلاثة مواضع (2) . ومقرونا بالواسع في قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} في نحو أربع مواضع (3) . ومقرونا بالسميع: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} نحو ثلاثين موضعا (4) . و: {شَاكِرٌ عَلِيمٌ} موضعان [158/2] و: {شَاكِرًا عَلِيمًا} [147/4] . و: {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} نحو ستة مواضع (5) . و: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} نحو ثلاثة مواضع (6) . و: {عَلِيمٌ قَدِيرٌ} نحو أربعة مواضع (7) . وفي قوله: {الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [26/34] ومبالغا عاما في قوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} في بضعة عشر موضعا (8) . وخاصًا: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} في نحو اثني عشر موضعا (9) ، {عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} موضعان [44/9] . {عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} موضعان [47/9] . {بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} موضعان [51/23] . {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا} [127/4] .   (1) في عشرة مواضع حسب المعجم المفهرس منها في سورة النساء الآية 11. (2) في موضعين 34/31 و13/49، وفي موضع {العليم الخبير} ، وفي موضع {عليما خبيرا} . (3) في سبعة مواضع منها (32/24) . (4) بهذه الصيغة خمسة عشر، وخمسة عشر {السميع العليم} وموضع {لسميع عليم} . (5) منها في (78/27) . (6) في خمس عشرة آية منها في (6/12) . (7) 50/42 و 70/4) وموضعان {العليم القدير} . (8) في ثلاثة عشر موضعا منها (35/24) . (9) في اثني عشر منها في (23/31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 و: {بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [50/12] ، و: {مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [92/3] ، و: {بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [79/36] . «العالم» : لم يجئ إلا مضافا في قوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} في نحو ستة مواضع (1) . «العلام» : جاء مضافا في قوله: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} في نحو ثلاثة مواضع (2) . «الأعلم» : لم يجئ إلا مضافا: {بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [10/29] ، وفي قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [30/53] ، وقوله: {أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [56/28] ، {أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [119/6] ، {أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [58/6] ، {أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [25/17] ، {أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [30/53] . «خبير» : جاء مقيدا: {بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [234و 271/2] ، و: {خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} في نحو من عشرين موضعا (3) ، وفي قوله: {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} في نحو ثلاثة مواضع (4) . وفي قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [11/111] ، وفي قوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا} [96/17] ، ومقرونا في قوله: {خَبِيرًا بَصِيرًا} [30/17] ، و: {عَلِيمٌ خَبِيرٌ} في نحو ثلاثة مواضع [13/49 و 3/66 و 35/4] ، ومقرونا مبالغا في قوله: {بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ   (1) في عشرة مواضع منها (13/6) . (2) في أربعة مواضع منها في (109/5) . (3) في عشرين منها في (53/24) (4) في موضعين (58/25 و 17/17) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 بَصِيرٌ} موضعان [27/42] ، و: {الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} أربعة مواضع [18/6] ، ومقرونا باللطيف: {لَطِيفٌ خَبِيرٌ} في نحو ستة مواضع (1) . «السميع» : جاء مقرونا بالعليم في نحو ثلاثين موضعا (2) ، وفي قوله: {سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [50/34] ، وبالبصير في نحو تسعة مواضع (3) ،ومضافا في قوله: {سَمِيعُ الدُّعَاءِ} في قصة زكريا وإبراهيم [38/3 و 39/14] . «البصير» : جاء مقرونا بالسميع سبعة مواضع (4) .... ، في قوله: {بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [18/49] ، و: {بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} في نحو من عشرين (5) ، {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [20/3] في نحو أربعة مواضع (6) ، وفي قوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [35/20] ، وفي قوله: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [15/84] . «الرقيب» : جاء مؤكدا عاما في قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [52/33] ، وخاصا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [1/4] ، وخاصا في قوله: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [117/5] . «الشهيد» : جاء مفردا في معنى المقيد في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} في نحو أربعة مواضع (7) ، و .... (8) ، في قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ   (1) في اثنين وثلاثين منها (127/2) . (2) في عشر منها في (1/17) . (3) في خمسة منها (34/33) . (4) بياض بالأصل ولعله «ومضافا» . (5) {بصير بما يعملون} و {بما يعملون بصير} الجميع إحدى وعشرون منها (39/28) . (6) أربعة مواضع مع قوله: {بعباده بصيرا} . (7) ثلاثة مواضع (79/4) . (8) بياض بالأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 شَيْءٍ شَهِيدٌ} [6/58] ، و: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} [55/33] ، {وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [98/3] ، ..... (1) ، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [96/17] ، و: {بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا} [52/29] ، و: {اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [19/6] . «الشاهد» : جاء .... (2) بصيغة الجمع في قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [78/21] ، {إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [61/10] ، ومفردا في قوله: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [3/85] على قول. وفي قوله: {وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [81/3] . «اللطيف» : جاء مقرونا بالخبير في نحو خمسة مواضع (3) و ... (4) في قوله: {لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [100/12] ، و: {لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [19/42] . «قدير» : معلقًا عامًا كما في قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} في قريب من ثلاثين موضعا (5) ، ومعلقا خاصًا في قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [133/4] ، ومفردا في قوله: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} [54/25] ، ومقرونًا بالعلم في نحو من أربعة مواضع (6) ، ومقرونا في قوله: {عَفُوًّا قَدِيرًا} [149/4] {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ   (1) بياض بالأصل. (2) بياض بالأصل. (3) منها. (103/6) . (4) بياض بالأصل. (5) في 33 منها (20/2) . (6) في ثلاثة مواضع منها (70/16) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 غَفُورٌ رَحِيمٌ} [7/60] ... (1) ، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} [37/6] ، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا} [65/6] ، {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [18/23] ، والقدرة على المعاد في قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [40/75] ، {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [81/36] ، {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [33/46] ، {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [8/86] ، {إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} [40/70] ، وجاء مفردا في قوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [23/77] . «القوي» : جاء مقرونا بالعزيز في قوله: {الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} في نحو ثلاثة مواضع (2) . «ذو القوة» : جاء في قوله: {الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [58/51] . «القاهر» : جاء في قوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} موضعان [18/6 و 61/6] . «القهار» : جاء في قوله: {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} في نحو سبعة مواضع (3) . «العزيز» : جاء مقرونا بالحكيم في أكثر من أربعين موضعا (4) ، وبالعليم في نحو ستة مواضع (5) ، و: {الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} في عدة   (1) بياض بالأصل. (2) في ثلاثة منها (66/11) . (3) في ستة منها (39/12) . (4) في 42 موضعا منها (129/2) بما فيها: {عزيز حكيم} . (5) في ستة منها: {العزيز العليم} (9/43) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 مواضع (1) ، و: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [6/34] ، و: {الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} في نحو ثلاثة مواضع (2) ، و: {الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [2/67] ، و: {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} في نحو اثني عشر موضعا (3) ، و: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [47/14] ثلاثة مواضع، و: {أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [42/54] ، ومقرونا كمفرد: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [23/59] . «المحيط» : جاء معلقا عاما في قوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [54/41] ،وخاصا في قوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [20/85] ،و: {مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [19/2] ، {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ستة مواضع (4) . «رفيع الدرجات» : في قوله: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [15/40] . «ذو المعارج» : في قوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [2، 3/70] . «العلي» : جاء مقرونا في قوله: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [9/13] ، وفي قوله: {الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} خمسة مواضع [62/22] . وفي هذه المواضع «العلي» ، و «المتعالي» ، وجاء في قوله: {عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [51/42] ، و «الأعلى» في قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [1/87] . «العظيم» : جاء مقرونا في قوله: {الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} موضعان [255/2] ،   (1) في ثلاثة منها (66/11) {القوي العزيز} موضعان. (2) ثلاثة مواضع منها (66/33) . (3) في اثني عشر منها (9/26) . (4) أربعة بما فيها {تعملون محيط} (120/3 و 92/11 و 108/4 و 47/8) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ومفردا في قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ثلاثة مواضع [52/69] ، وهو نعت للرب بدليل قوله: «سبحان ربي العظيم» . «المهيمن» : في قوله: {الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [23/59] . «الكفيل» : في قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [91/16] . «الوكيل» : جاء مفردا في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} في نحو تسعة مواضع (1) ، {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [66/12] ، و: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [9/73] ، و: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [12/11] . «الحسيب» : جاء .... (2) في قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} [86/4] ، وفي قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} موضعان [6/4] . «الحاسب» :جاء في قوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [47/21] ، ومفضلا في قوله: {أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [6/6] . «سريع الحساب» : في نحو سبعة مواضع (3) . «الولي» : جاء مفردا في قوله: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [9/42] ، وفي قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [45/4] ، ومضافا في مثل قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} [96/7] ، {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [101/12] . «المولى» : جاء مقرونا في قوله: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [40/8] .   (1) ستة مواضع منها (81/4) . (2) بياض. (3) ثمانية منها (202/2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 ومضافًا في قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ} [40/8] ، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} [4/66] ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [11/47] . «الناصر» : جاء مفضلا في قوله: {خَيْرُ النَّاصِرِينَ} [150/3] ، وتقدم قوله: {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . «الحفيظ» : جاء في قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} موضعان [57/11] . «الحافظ» : جاء مفضلا في قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} [64/12] ن و ... (1) في قوله: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [82/21] ، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [9/15] . « ... » (2) جاء مقرونا في قوله: {قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [61/11] ، وقوله: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [186/2] ، ومفضلا في قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [16/50] ، وقوله: {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [85/56] (3) . «المجيب» :جاء مقرونا في قوله: {قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [61/11] . «الرحيم» : قريب المائة والثلاثة عشر (4) ، جاء مقرونا بالغفور في نحو من ستين موضعا (5) ، بالرحمن في البسملة، وفي النمل أيضا، وفي   (1) بياض. (2) بياض. (3) المراد بالقرب في سورة (ق) قرب ملائكته. ضعف قول من قال: بالعلم والقدرة. قرب الملائكة والشياطين من قلب ابن آدم، أما قربه تعالى من عابديه وسائليه فصحيح، انظر ص91 من جـ1/من الفهارس العامة لمجموع الفتاوى. (4) مائة وواحد. (5) سبعين منها (1/1) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 غير ذلك ثلاثة مواضع (1) ، ومقرونا بالرءوف في نحو (2) . وفي قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [58/36] ، ومقرونا بالعزيز في أكثر من عشرة مواضع (3) ، ومتعلقا تعلقا عاما في قوله: {بِكُمْ رَحِيمًا} [29/4] ، وخاصا في قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [43/33] ، وجاء مفضلا في قوله: {خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [109/23] ، وفي قوله: {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [151/7] . «الرءوف» : جاء مقرونا في قوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} ثلاثة مواضع [117/9] ، ومعلقا في قوله: {رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [207/2] ، ومقرونا متعلقا في قوله: {بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} موضعان [65/22 و 143/2] . «الغفور» : جاء مقرونا بالرحيم في نحو خمسين موضعا (4) ، ومطلقا في قوله: {وَرَبٌّ غَفُورٌ} [15/34] ، ومقرونا بالشكور [30/35] ، ومقرونا بالحليم [235/2] ، والتواب في حديث (5) ، وبالعزيز [2/67] ، وبالودود [14/85] ، وبالعفو في أربعة مواضع [60/24] . «الغفار» : ثلاثة مواضع [66/38] . «الغافر» : جاء مضافا في قوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ} [3/40] . «ذو المغفرة» : جاء في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [32/53] ، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} [6/13] ، وقوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [56/74] .   (1) و {إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} ، {تنزيل من الرحمن الرحيم} . (2) في تسعة مواضع. (3) في أحد عشر موضعا منها في (5/3) . (4) في تسعة وأربعين منها (173/2) . (5) {التواب الرحيم} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 «العفو» : جاء مقرونا بالقدير في قوله: {عَفُوًّا قَدِيرًا} [149/4] ، وبالغفور في أربعة مواضع (1) . «الحليم» : جاء مقرونا بالغفور في ثلاثة مواضع أو أكثر (2) ، وبالعليم في نحو ذلك (3) ، وبالغني في قوله: {غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [263/2] ، وبالشكور في قوله: {شَكُورٌ حَلِيمٌ} [17/64] . «التواب» : جاء مقرونا بالرحيم في نحو ستة مواضع [10/24] ، وبالحكيم في قوله: {تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [10/24] ، وجاء مفردا في قوله: {وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [3/110] . «قابل التوب» : جاء في قوله: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} [3/40] . «سريع العقاب» : {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [167/7] . «أشد بأسا وأشد تنكيلا» : جاء في قوله: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} [84/4] . «شديد العقاب» : في نحو عشرة مواضع (4) . «الوهاب» : جاء مفردا في قوله: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [8/3] . «أسرع مكرا» : في قوله {قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ   (1) خمسة مواضع منها (60/22) . (2) في ستة مواضع منها (225/2) . (3) في ثلاثة مواضع منها (12/4) . (4) في أحد عشر منها (165/2) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 مَا تَمْكُرُونَ} [21/10] ، وقد جاء اسما له على وجه التفضيل في قوله: {خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} في ثلاثة مواضع [54/3] ، ومنه: {مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [18/8] {مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [2/9] . .... (1) {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [22/32] ، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [41/43] ، ومضافا في قوله: {عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} في ثلاثة مواضع [4/3] . «الكريم» : جاء مقرونا في قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [6/82] . «الأكرم» : كذلك جاء مقرونا قرن وصف لا عطف في قوله: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وهو أول ما نزل [3/96] . «البر» : جاء في قوله: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [28/52] . «المجيد» :جاء مقرونا بالحميد في قوله: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [73/11] ، وفي قوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} على إحدى القراءتين [15/85] . «الحميد» : جاء مفردا في قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [1/14] ، ومقرونا بالمجيد في قوله: {حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [73/11] ، وبالغني: {غَنِيٌّ   (1) بياض في الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 حَمِيدٌ} في نحو ثلاثة مواضع (1) ، ومقرونا أيضا في قوله: {حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [42/41] ، وقوله: {الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [28/42] ، وفي قوله: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [8/85] . «خير» : جاء في قوله: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [73/20] . «ذو الجلال والإكرام» : جاء في قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [78/55] . وقد غلط في أن يكون من أسمائه قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [27/55] فإن صفة وجهه ... (2) . «ذو الطول» : جاء في قوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [3/40] . «ذو الفضل العظيم» : جاء مطلقا في نحو ستة مواضع (3) ، ومقيدا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [243/2] ، وفي قوله: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [152/3] ، و: {ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [251/2] . «أهل التقوى» : جاء مقرونا في قوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [56/74] . «الزارع» : جاء مفردا معرفا تعريفا كتعريف الإضافة في قوله:   (1) في ثلاثة مواضع منها (267/2) أما مع (الغني) فهي ستة أيضًا و {غنيا حميدا} السابع. (2) بياض. (3) في ستة مواضع منها (21/57) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [63، 64/56] . المنشئ: جاء كذلك في قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [71، 72/56] . الموسع: جاء في قوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [47/51] . محيي: جاء في قوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [50/30 وتقدم] . المنزل: لم يجئ إلا مقيدا في قوله: {أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [29/23] ، وقوله: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [34/29] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [68، 69/56] . المنجي: في قوله: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} إن جعل اسما [33/29] . جاعل: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} [61/40] ، {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ} [1/35 وتقدم] ، {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [7/28 وتقدم] . « ... » (1) ، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [95/6 وتقدم] (2) . ومما جاء متعديا بنفسه أو بحرف الجر بمعنى آخر: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [26/16] ، {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ}   (1) بياض. (2) قلت تقدم ذكر محيي ... وجاعل ... وفالق ... ومنزل أنها من أسماء الفعل الخاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 [23/25] ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [20/2] ، {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [27/2] (1) . [مستقر الرحمة] وقال له (2) رجل: جمعنا الله وإياك في مستقر رحمته. فقال: لا تقل هذا. وكان أبو العباس يميل إلى أنه لا يكره الدعاء بذلك، ويقول: إن الرحمة ههنا المراد بها الرحمة المخلوقة، ومستقرها الجنة، وهو قول طائفة من السلف (3) . قال ابن القيم رحمه الله: وسألت شيخ الإسلام رحمه الله يوما فقلت له: إذا كان الرب سبحانه يرضى بطاعة العبد، ويفرح بتوبته، ويغضب من مخالفته، فهل يجوز أن يؤثر المحدث في القديم حبا وبغضا وفرحا وغير ذلك؟. [لا يؤثر المخلوق في الخالق رضا ولا غصبا] قال: لي: الرب سبحانه هو الذي خلق أسباب الرضى والغضب والفرح، وإنما كان بمشيئته وخلقه، فلم يكن ذلك التأثير من غيره، بل من نفسه بنفسه. والممتنع أن يؤثر غيره فيه. وأما أن يخلق هو أسبابا ويشاؤها ويقدرها تقتضي رضاه ومحبته وفرحه وغضبه لهذا ليس بمحال، فإن ذلك منه بدأ وإليه يعود. والله سبحانه أعلم (4) . قال ابن القيم رحمه الله: فإن قيل قد نقل القشيري عن ذي النون أنه سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [5/20] فقال: أثبت ذاته، ونفى مكانه، وهو موجود بذاته، والأشياء موجودة بحكمته كما شاء.   (1) مجموع 69 ورقة 274، 275 تفهرس تابعة جـ1 ص72 من الفهارس العامة. (2) للإمام أحمد. (3) اختيارات ص 319 تفهرس ص12 جـ1 من الفهارس العامة. (4) مدارج السالكين جـ2/433، 434 تفهرس مقابل ص82 جـ1 الفهارس العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 [ما نقل عن القشيري في الاستواء باطل] قيل: القشيري لم يذكر لهذه الحكاية إسنادا وما ذكرناه مسند عنه (1) . وفي كتب التصوف من الحكايات المكذوبة ما الله به عليم. قال شيخ الإسلام: وهذا النقل باطل؛ فإن هذا الكلام ليس فيه مناسبة للآية؛ بل هو مناقض لها؛ فإن هذه الآية لم تتضمن إثبات ذاته ونفي مكانه بوجه من الوجوه، فكيف يفسر ذلك؟ قال: وأما قوله موجود بذاته والأشياء موجودة بحكمته فحق، ولكن ليس هذا معنى الآية (2) . فصل أثبت أئمة من أهل السنة «الحد» كما قيل لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته، على عرشه، بائن من خلقه. قيل له: بحد؟ قال: بحد. وكذلك أحمد في أشهر الروايتين عنه، وكثير من أصحابه كالقاضي وابن الزاغوني وغيرهما، وإسحاق بن راهويه، وعثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي وحكاه عن أهل السنة وشيخ الإسلام الهروي، وخلق كثير. [استواؤه تعالى على العرش بحد، هل يقال لصفاته حد، وله مقدار ونهاية؟] وأنكر ذلك آخرون من المتكلمين: كأبي المعالي الجويني وطوائف من المعتزلة، والأشعرية، وبعض الحنبلية. وفصل الخطاب: أن «الحد» له عدة معاني ترجع إلى أصلين: منها ما هو متفق عليه بين المسلمين، ومنها ما هو متفق عليه بين أهل السنة،   (1) المسند عنه ما رواه أبو الشيخ في كتاب العظمة بإسناد عنه أنه قال: «أشرقت لنوره السموات وأنار بوجهه الظلمات، وحجب جلاله عن العيون، وناجاه على عرشه السنة الصدور» (2) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص171 للفهارس جـ1/85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 ومنها ما هو متنازع فيه؛ فإن «الحد» يكون لحقيقة الشيء النوعية، وهو حد الماهية. ويكون لعينه الذاتية، وهو حد لوجوده. فالأول: هو «الحد» الذي يتكلم فيه المتكلمون من المنطقيين وغيرهم. والثاني: كالحد الذي ينعته الشروطيون في حدود العقار وفي حُلَى الأشخاص. فإذا انحصر نوعه في شخصه كالشمس مثلا كان له حد بالاعتبارين. وهو بالاعتبار الأول: كلي لا يمنع نفس تصور معناه من وقوع الشركة فيه. وهو بالاعتبار الثاني: عيني يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. وإن قيل: إن وجود كل شيء عين ماهيته أو قيل ذلك في حق الله تعالى فقط كان الحد الذي هو حقيقته العينية الوجودية هو الحد الذي هو الماهية النوعية إذا عني به حقيقة المحدود. وإن عني بالحد القول الدال على ماهية الشيء لم يكن لذلك وجود إلا في الذهن لا في الخارج، والله أعلم (1) (2) . فأما الأول فقد يعني بالحد حقيقة الشيء، وقد يعني به القول الدال على ماهيته.   (1) من قوله: وهو بالاعتبار الأول كلي إلى قوله والله أعلم في الهامش بخطه أيضًا وليس هو نهاية البحث. (2) وقال رحمه الله في رده على المنطقيين: أشرف الموجودات واجب الوجود، ووجوده معين لا كلي؛ فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. وقال أيضًا: قولهم: إن الماهية لها حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها شبيه بقول من يقول: المعدوم شيء، وهو من أفسد ما يكون إلى أن قال: وحقيقة الفرق الصحيح: أن الماهية هي ما يرتسم في النفس من الشيء، والوجود ما يكون خارجا عنه. وهذا فرق صحيح؛ فإن الفرق بين ما في النفس وما في الخارج ثابت معلوم لا ريب فيه. وأما تقدير حقيقة لا تكون ثابتة في العلم ولا في الوجود فهو باطل. مجموع الفتاوى (9/97-99، 125) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فأما «الحد» بمعنى حقيقة الشيء التي هو بها يتميز بها عن غيره، فلا ريب بين المسلمين أن الله له حقيقة، وذات فذلك حده الذي لا يعلمه غيره، كما جاء في الأثر: يا من لا يعلم ما هو إلا [هو] ولا يبلغ قدرته غيره. وهل يقال له ماهية لا يعلمها غيره، ولا تجري ماهيته في مقال. أو يقال: لا ماهية له؟ على قولين لأصحابنا وغيرهم. الأول قول أكثرهم. وأما الحد بمعنى القول -فله أسماء تميزه عن غيره وله حدود بخواصه التي تميزه عن [غيره] كقولنا: رب العالمين، وخالق السموات والأرض والأول والآخر والظاهر والباطن. وأما «الحد» المركب من الجنس والفصل فلا يجوز في حق الله تعالى. فأما حد عينه الذاتية فيراد به: علي بذاته وحد بصفاته وحد بمقداره. فأما الأول: فهو بمعنى انفصاله عن غيره وتميزه عنه بحيث لا يختلط به وهذا داخل فيما قصده ابن المبارك وغيره؛ خلافا للجهمية الذين يجعلونه مختلطا بالمخلوقات؛ ولهذا قال: بائن من خلقه بحد. فإن «الحد» هو الفصل والتمييز بينه وبين غيره. و «الحد» بهذا المعنى متفق عليه بين أهل السنة القائلين بأن الله فوق العرش بل وعند الذين يقولون لا داخل العالم ولا خارجه أيضا؛ فإن الأعراض المختلفة كالطعم واللون إذا قامت بجسم واحد كانت متميزة بخصائصها وحدودها وليست متميزة بأعيانها وذواتها (1) .   (1) باقي الكلام على الأعراض مخروم في الأصل. والمعنى واضح بدونه. ومعروف الكلام في الأعراض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وأما الثاني: فهو بمعنى صفاته القائمة به المميزة له عن غيره، كما يقال في حُلية الموصوف ونعوته، فله حد بهذا الاعتبار. وأما «الحد» بمعنى المقدار والنهاية فهذا مورد النزاع، فقيل: لا حد له ولا غاية ولا مقدار وقيل: له حد من جانب العرش فقط وقيل: له حد ونهاية لا يعلمها غيره؛ إذ لا يعقل موجود بدون ذلك, وقد يقال: إن ابن المبارك وغيره قصدوه، إذ لو لم يريدوا ذلك لم يكن حاجة إلى قولهم: على عرشه بل يكفي أن يقال: هو منفصل عن خلقه متميز عنهم (1) . [الرد على من يقول بنفي الفوقية معللا بلزوم الجهة وقدمها أو لزوم الانتقال] قول من قال: يلزم من كون الشيء فوق كونه في جهة -سواء كانت الجهة داخل العالم أو خارجه- وثبوت الانقسام لذاته، لأن كل واحد من جوانبه غير الجانب الآخر، وكل ممكن القسمة لذاته ممكن الوجود لذاته ويلزم أيضا من كون الشيء في جهة: إما قدم الجهة وإما ثبوت الانتقال. فالجواب عن ذلك: أما الحجة الأولى فللناس في جوابها طريقان: أحدهما: أنه تعالى فوق العرش، وهو مع ذلك ليس بداخل العالم ولا بمنقسم. وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية وغيرهم. وإذا قيل لهم: هذا ممتنع. قالوا: إثبات وجود م وجود لا داخل العالم ولا خارجه أبعد عن العقول من إثبات موجود خارج العالم وليس بجسم ولا منقسم، فإن كان الأول جائزا في العقل فالثاني أولى بالجواز وإن كان ممتنعا بطل قول النفاة. الطريق الثاني: أن يقال: هل الانقسام فيه بالفعل أو بالإمكان؟ فإن   (1) مجموع 69 ص 145 فيه زيادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 كان بالإمكان بحيث يقبل التفريق والتبعيض لم يسلم اللزوم، ولا دل ذلك عليه؛ وإنما ذكر في الدليل أن كل جانب غير الآخر. ومطلق المغايرة لا يقتضي قبول التفريق والانفصال؛ فإن لفظ «غير» فيه اصطلاحان، أحدهما: اصطلاح الأشعرية ومن وافقهم أن ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود أو ما جاز مفارقة أحدهما مطلقا ولهذا لا يقولون صفات الله مغايرة لذاته؛ بل لا يقولون إن الصفة اللازمة للمخلوق مغايرة له، ولا أن بعض الجملة مغاير لها، ولا الواحد من العشرة مغاير لها. فعلى هذا إذا لم يقبل التفريق لم يكن أحد من الجانبين مغايرا للآخر. والاصطلاح الثاني: أن حد «غير» ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر. وهذا اصطلاح المعتزلة والكرامية، فعلى هذا تكون صفة الموصوف مغايرة له، وتكون صفات الله مغايرة لذاته، ويكون كلام الله غير الله. وعلى القولين الأولين لا يكون كلامه غيره. والذي عليه السلف أنه لا يطلق إثبات المغايرة، ولا نفيها، لكن يفصل (1) : هل أريد «بالغير» أنه ممكن العلم بهذا دون هذا، أو يريدون أنه يمكن مفارقة هذا لهذا، ووجود هذا بدون هذا، وتحقق ماهية هذا دون هذا، ونحو ذلك؟ فعلى هذا التفسير لا تكون الصفة اللازمة للموصوف مغايرة للموصوف، ولا البعض اللازم للكل مغايرا للكل على ذلك. وأما لزوم «الانتقال» فللناس عنه جوابان مبنيان على جواز قيام   (1) يعني: يستفصل المطلق لهذه العبارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 الصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة بذاته. فمن لم يجوز ذلك قال: إنه لما خلق العالم لم ينتقل هو ولم يتغير؛ بل خلقه مباينا له، لم يدخل في العالم ولم يدخل العالم فيه، وحدث بينه وبين العالم إضافة التحتية، وحدوث الإضافات جائزًا اتفاقًا؛ بل لا بد منه. وهذا قول من يقول: الاستواء إضافة محضة، وأنه فعل فعلا في العرش صار به مستويا عليه بكونه خلق العرش تحته فلزم أن يكون هو فوقه من غير حركة من الرب ولا تحول قائم بذاته. والجواب الثاني: جواب من يجوز قيام الأفعال الإرادية بذاته كما هو المفهوم من النصوص، وهؤلاء يلتزمون ما ذكر من معنى الانتقال والحركة؛ لكن منهم من يقر بالمعنى دون اللفظ لكون الشرع لم يرد بهذا اللفظ، وإنما ورد بلفظ الاستواء والمجيء والنزول ونحو ذلك. ومنهم من يقر باللفظ أيضا ويقول إن ذلك لا يستلزم الحدوث، وأن الاستدلال بذلك على الحدوث باطل. ومن قال: إن ذلك حجة إبراهيم عليه السلام فقد أبطل، بل قصته تدل على نقيض المطلوب، كما قد بسط كلام الناس عليها في غير هذا المكان وهذا الذي احتملته هذه الورقة (1) . [قول ابن كلاب هنا جيد] قال ابن كلاب في بعض كتبه: وأُخرج من النظر والأثر من قال: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه. حكاه عنه شيخ الإسلام في عامة كتبه الكلامية (2) . قال شيخنا: وعلى ذلك [إثبات الرؤية] جميع أهل السنة وسلف   (1) مختصر الفتاوى المصرية ص581-584 تفهرس تابعه جـ1/ص89، 94، 113 من الفهارس العامة لمجموع فتاوى ابن تيمية. (2) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية ص179 تفهرس تابعة جـ1/89 من الفهارس العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الأمة وأئمة الإسلام (1) . [الساق من الصفات] مسألة: نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [42/68] أنه قال: عن شدة. وثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي فيه تجلى الله تعالى لعباده يوم القيامة «وأنه يحتجب ثم يتجلى، قال: فيكشف عن ساقه فينظرون إليه» . والذي في القرآن (ساق) ليست مضافة فلهذا وقع النزاع هل هو من الصفات أم لا؟ قال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: ولا أعلم خلافا عن الصحابة في شيء مما يعد من الصفات المذكورة في القرآن إلا هذه الآية، لعدم الإضافة فيها. والذي يجعلها من الصفات يقول فيها كقوله في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [75/38] ، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [207/55] ، ونحو ذلك، فإن الصفات تثبت ويجب تنزيه الرب عن التمثيل؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [11/42] (2) . فصل ولما تمكن الشيطان من المتكلمين في الله بعقولهم زين لهم اتباع الجهم فيما التزمه في ذلك من الحكم على الله سبحانه بنفي صفاته المقدسة العليا التي وصف بها نفسه المقدسة في شريعة الإسلام التي   (1) الصواعق ص 1454- وللفهارس العامة جـ1/97. (2) مختصر الفتاوى ص 201، 202، هذه أطول مما في المجموع. انظر الفهارس العامة جـ1/99، 341. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 بعث بها محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليصححوا بذلك دعواهم الباطلة «معرفة حدوث العالم» وهو ما سوى الله في التفتيش على الله بدلائل العقل من غير جهة السمع. وزين لهم الشيطان أنها صفات نقص يجب تنزيه الله عنها، لأن أسماءها تماثل في اللفظ أسماء صفات المخلوقين الناقصة بنقصهم؛ فلزم من ذلك المماثلة في الحقيقة والكيفية، فوجب تنزيه الله عنها، وإلا كان جسمًا ممكنا محدثا اعتبارا بالمخلوق في زعمهم، وذلك خطأ باين (1) . [حبهم نفى صفات الله تقليدا للفلاسفة الضالين الذين قاسوه على مخلوقاته والمتكلمون قلدوه] وزين لهم الاحتجاج على ذلك بخرافات وترهات باطلة ليس فيها مقدمة صحيحة يصح الاحتجاج بها بين يدي الله على صحة الكلام في الله بدلائل العقل في اعتباره بمخلوقاته؛ لأن حقيقتها ومعناها التسوية بين الله وبين مخلوقاته في حكم الطبيعي والمنطق المختص حكمهما بالمخلوقات دون الخالق؛ لأن واضعهما من الفلاسفة وغيرهم «أرسطوطاليس» وغيره، إنما وضعهما على حكم المشهود من المخلوقات ومن طبائعها إذ لم يكن له وصول إلى حكم الخالق سبحانه من غير جهة السمع، والسمع لا قدر له عنده، لاعتقاده أن النبوة فيض لا وحي. وعلى حكم الإيمان بأنها وحي فهي إنما وردت بتوحيد الله وعدم مماثلة شيء له لا في حقيقة ذاته ولا في حقائق صفاته وأفعاله ولا في شيء من بيناته؛ لكنه سبحانه جعل {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي يتبعون ما جاءت به النبوة على حكم التسليم والإيمان وجعلها أيضا سببا لضلال الضالين بإرادتهم الكشف والاطلاع في مقام التسليم والإيمان على عين اليقين في معرفة الله من غير جهة الأنبياء آدم ومن بعده، وذلك كما قال سبحانه:   (1) كذا بالأصل والمعنى بين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [26/2] وذلك لما فيه من أسماء الله الحسنى وأسماء صفاته وأفعاله التي تشبه أسماء المخلوقين وأسماء صفاتهم وأفعالهم في اللفظ فقط دون الحقائق والكيفيات؛ لأنه يلزم من وحدانية الله عند من يعرف معناها وحدانية صفاته وأفعاله وعدم صحة اعتباره بمخلوقاته فلا يجوز التسوية بينه وبين مخلوقاته لا في طبائعها ولا في أحكامها؛ بل حقيقة ذاته وحقائق صفاته وأفعاله على الوجه اللائق بجلاله، فلا سبيل إلى معرفته وحقيقته. المخلوق وحقائق صفاته وأفعاله على الوجه المناسب له ولما خلقه الله عليه من الفقر والنقص. [اتفاق أسماء مخلوقاته تعالى وصفاتهم مع أسمائه وصفاته في اللفظ لا في الكيفية] وإذا كان سبحانه قد سمى نفسه الإلهية المقدسة الكاملة الغنية بمثل ما سمى به عبده المخلوق الفقير والناقص مثل: الملك، والمؤمن، والعزيز، والجبار، والمتكبر، والعليم، والسميع، والبصير، والحكم، والعدل، وغير ذلك. وكذلك سمى صفاته وأفعاله الإلهية المقدسة الكاملة بمثل ما سمى به صفات المخلوق وأفعاله المخلوقة الناقصة مثل الحياة والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والتعجب، والضحك، والوجه، واليدين، والقدم، والمجيء، والإتيان، والاستواء، والنزول؛ وغير ذلك كانت المماثلة في اللفظ بالأسماء فقط. وحقيقة ذات العبد وكيفيته على الوجه المشهود الذي خلقه الله عليه بقدرته ومشيئته وحقيقة ذات الله وكيفيته على الوجه اللائق بكماله وعز وجلاله الذي استأثر علينا به ولا سبيل لنا إلى معرفته وكذلك حقائق صفاته وأفعاله وكيفياتها على الوجه اللائق بذاته وكماله وعز جلاله فيجب الإيمان بما ورد به الشرع من أسماء الله وأسماء صفاته وأفعاله. وأن مسمياتها على الوجه اللائق بكماله وعز جلاله. ويجب السكوت عما سكت عنه الشرع من بيان حقائقها وكيفياتها. ولا يصح التمسك بدين النبوة والإيمان بأنها وحي لا فيض إلا على هذا الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 [وزعموا أنها تقتضي النقص والحدوث فلا يمكن الاستدلال على حدوث العالم إلا بنفيها فنفوها] فلما استعمل المتكلمون في الله بعقولهم «المنطق» في العلم الإلهي على حكم الطبيعي وجعلوا مقدمات المنطق في ذلك شاملة للخالق والمخلوق في أن الاتصاف بهذه الصفات ملازم للحدوث لزمهم الباطل من نفي صفات الله وأفعاله فالتزموا ذلك تنزيها لله عنها في زعمهم وإلا كان جسما مركبا محدثا قياسا على المخلوق بالمثال والاستقراء وغالطوا فيما هو محقق من كون الحكم على بعض المخلوقات بأحكام بعضها بالمثال والاستقراء ظني وليس بعلم. وأما الحكم على الخالق بذلك بأحكام مخلوقاته فليس بعلمي ولا ظني؛ بل وهمي وجهلي وهذا هو ثمرة طلب الكشف والاطلاع في مقام التسليم والإيمان؛ فإن وحد الله (1) واحتجابه عن خلقه يمنع من التوصل إليه من غير جهة السمع عند من يفهم وينصف. [والتزموا القول بالتعطيل عن الخلق والتدبير في الأزل] ثم سوّل لهم الشيطان الحكم على الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا بالتعطيل عن الخلق والإحداث والتصرف ألبتة في الأزل الماضي الذي لا أول له ولا نهاية وأنه لم يخلق قبل هذا العالم المذكور في الشرع شيئًا، ولم يتصرف بشيء ألبتة، بل لم يزل في الأزل عطلا معطلا: إما لعدم القدرة على قول الجهمية ومن وافقتهم وإما لعدم المشيئة على قول المعتزلة ومن وافقهم ثم لما عرضت له القدرة أو المشيئة تغير بسبب خلق هذا العالم وصار كل يوم هو في شأن؛ ليصححوا بذلك دعوى معرفة نسبة هذا العالم. وقد ذكرت هذا في أول الباب. فقول «جهم» : إن التعطيل في الأزل كان لعدم القدرة هو لما كان معترفا بالله، ومظهرا أن الله هو الذي أحدثه من غير طريق السمع التي تعرف سبحانه إليهم منها وعرفهم منها أنه هو الذي خلق السموات   (1) كذا بالأصل ولعله توحد الله -أي كونه واحدا لا مثيل له في جلاله وكماله كما هو في دعاء ختم القرآن له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 والأرض فأطاعوا الشيطان في ذلك وحكموا على الله بأنه لم يزل في الأزل الذي لا أول له ولا نهاية معطلا عن الخلق والإحداث والتصرف ألبتة، لأنهم وجدوا الطريق إلى معرفة ذلك من غير جهة السمع مسدودة مع الاعتراف لله بجواز أن يكون قد خلق قبل هذا العالم شيئا، لأنه لو وجد أو حصل في الوجود قبل هذا العالم شيء غير الله لجاز في العقل أن يكون حدوث هذا العالم عنه كالحيوان والنبات وكذلك ما قبله وما قبله وما قبله وهلم جرّا إلى غير نهاية، فامتنعت معرفة الله من غير هذا الوجة وقد زين لهم الشيطان عدم صحة الدين إلا بمعرفته منه فالتزموا الحكم عليه بذلك. [والتزم جهم التعطيل عن الخلق في المستقبل ثم اعتقد بطلان الإلهية وترك الصلاة فقتل وصلب] وكان «الجهم» أحذقهم فلذلك فهم أن هذه الدعوى لا تصح مع الاعتراف لله بالقدرة في الأزل لأن الاعتراف بالقدرة يوجب جواز الفعل، ومع جواز الفعل يجوز أن يكون حدوث هذا العالم عنه، وهذا لازم كل اللزوم على حكم الغلط أو الضلال في دعوى أن المقام في هذا الباب مقام كشف واطلاع بدلائل العقل مع دعوى التمسك بالدين «النبوة» والإيمان بأنها وحي لا فيض للتعلق بالشرع. وكان أحذق المتكلمين في الله بعقولهم وأصحهم روية وأضلهم في عدم الإيمان بالغيب، فلذلك فهم بطلان هذا الحكم ومعرفة الله من هذا الطريق مع الاعتراف له بالقدرة في الأزل، فلذلك حكم عليه بعدم القدرة في الأزل، واقتضى ضلاله أن يلزم من ذلك أنه سيعود الأمر إلى عدم القدرة. ومن هنا قال بفناء الجنة والنار. ثم ظهر له بعد ذلك بطلان هذا كله وأضله الله عن الإيمان بالشرع، فاعتقد بطلان الإلهية وأعرض عن الشرع وترك الصلاة، وقال: إذا تبت عند من أعبده صلبت. فضرب الوالي بخراسان عنقه وصلبه سنة ثلاثين ومائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وقد تعلق بعضهم في الحكم على الله بالتعطيل في الأزل بحديث عمران بن حصين (1) (2) . [وصف أهل الكلام وحيرتهم] قال ابن القيم رحمه الله: وقال لي شيخنا مرة في وصف هؤلاء (3) : إنهم طافوا على أرباب المذاهب، ففازوا بأخس المطالب (4) . وقال ابن القيم: وحدثني شيخ الإسلام قال: حكى لي بعض الأذكياء وكان قرأ على أفضل أهل زمانه في الكلام والفلسفة -وهو ابن واصل الحموي- أنه قال له الشيخ: اضطجع على فراشي، وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين أدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء حتى يلطع الفجر، ولم يترجح عندي شيء (5) . وقال ابن القيم رحمه الله بعد نقله عن عاصم بن عدي: ناظرت جهميا فتبين من كلامه أنه اعتقد أن ليس في السماء رب. [حقيقة قول الجهمية] قال شيخ الإسلام: كان الجهمية يدورون على ذلك، ولم يكونوا يصرحون به لوفور السلف والأئمة وكثرة أهل السنة. فلما بعد العهد وانقرض الأئمة صرح أتباعهم بما كان أولئك يشيرون إليه ويدورون حوله. قال وهكذا ظهرت البدع كلما طال الأمر وبعد العهد اشتد أمرهم وتغلظت.   (1) آخر الصحيفة بياض. قلت: وقد أجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا الحديث في مجموع الفتاوى وغيره -انظر جـ 18 ص 210-244، وجـ 2 ص 272-278. (2) مجموع 69 ورقة 2-4 يفهرس تابعا جـ1/117 من الفهارس العامة لمجموع الفتاوى. (3) يعني المتكلمين. (4) الفوائد لابن القيم ص103 وللفهارس العامة جـ1/89. (5) الصواعق جـ3/842. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 قال: وأول بدعة ظهرت في الإسلام بدعة القدر والإرجاء ثم بدعة التشيع إلى أن انتهى الأمر إلى الاتحاد والحلول وأمثالهما (1) . الآيات التي فيها صفات الله سبحانه التي تأولها متأخرو الجهمية وسموها الصفات السمعية، وهي ما سوى الصفات السبعة (2) . {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [9/2] الآية، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [14، 15/2] ، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [53، 54/3] ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [142/4] ، الآية، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية [33/5] {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [30/8] ، {لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [27/8] ، {فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} [71/8] ، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [63/9] ، {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} إلى قوله: {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [79/9] ، {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} [21/10] ، {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [13/13] ، {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [205/2] ، {وَأَقْسِطُوا   (1) اجتماع الجيوش الإسلامية ص136 وللفهارس جـ1/119. (2) وهذا العنوان من خط المؤلف، ويدل على أن الأشاعرة المتأخرين جهمية كما سمى كتابه الذي رد فيه على الرازي: «بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية» وكما صرح بأن هذا مذهب الأشاعرة في الرسالة «التدمرية» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [9/49] ، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [190/2] ، {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [159/3] ، {إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [26/2] ، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [195/2] ، {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [31/3] ، {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [148/4] الآية، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [18/5] الآية، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [54/5] ، {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [93/5] ، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [46/9] ، وهذه كراهة شرعية قدرية ضد المحبة لكونهم يضرون بخروجهم {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ} إلى قوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} [15/3] ، {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [72/9] {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [62/9] ، {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [96/9] ، {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} إلى قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [100/9] ، {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [84/20] . {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [7/39] ، {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} إلى قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} [90/2] ، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} إلى قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [93/4] ، {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [80/5] ، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [9/24] ، {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [114/4] ، {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} إلى قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [6/48] ، {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} [2/5] ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [222/2] ، {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [108/9] . وتفسر محبة التائبين الأحاديث المشهورة في المدح بالتوبة. {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} إلى قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ} [50، 51/27] ، {لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [23/57] ، {لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [58/8] ، {لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [64/6] . {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} [57، 58/33] ، {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [30/36] أدخل في هذا وهو غلط. {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [10/40] ، {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [3/61] ، {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [35/40] ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [28/47] ، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [5/58] ، {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} إلى قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [22/4] . {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [22/58] ، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا} [5/58] ، {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [29/48] ، {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [48/59] ، {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [4/59] ، {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [1/60] ، {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [12/27] ، {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [55/43] ، {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} في موضعين [183/7 و45/68] ، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [15، 16/86] ، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} على قول [29/2] ، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} الآية [201/2] ، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [158/6] ، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [22/89] . وقد ألحق بذلك: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [5/32] جعلا له بمعنى حديث النزول وهو خطأ فاحش. ومنه قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [25/25] كما فسرته الأحاديث وما قبلها دليل على ذلك. يبين عند قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [7/10] . وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} لا يخالف ذلك [158/6] ، وقوله: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ} إلى قوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} [92/17] يشبه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [7/10] ، وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [158/6] ، {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} الآيتين [55، 56/2] ، {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [153/4] ، {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ} الآية [108/2] ، {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ} الآية [118/2] ، {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} الآية [183/3] ، {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} الآية [103/6] ، {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} الآية [143/7] ، {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} الآية إلى قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ} الآية إلى قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} الآية [21-25/25] ، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآية [26/10] ، {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [60/17] مفسرة {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [1/17] وقد أدخل في هذا الباب {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} الآية [110/8] على تأويل أنه المرائي وكما دل عليه المرسل يفسر قوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [5/42] ، {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [58/36] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [44/33] لكن التحية والرؤية معا. وقد جاء: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} [7/10] الآية {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} [23/29] ، {يَوْمَ التَّلَاقِ} [15/40] ، {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [8/30] ، {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [6/84] ، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [17/32] ، {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [35/50] قوتهما الأحاديث والآثار {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [22، 23/75] ، {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [23، 24/83] يحتمل هذا بل هو ظاهر فيه. {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [115/2] ، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [255/2] قول ابن ... (1) وابن عباس: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} [13/3] ... (2) {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [26/3] ، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [73/3] ، {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [29/57] ، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} إلى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [64/5] ، {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [175/7] فسرته الأحاديث.   (1) بياض. (2) بياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 بخلاف قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} [105/21] ، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [104/9] فسر الأخذ حديث أبي هريرة وغيره. {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [75/38] ، {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [52/6] ، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [28/18] ، {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} إلى قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [38، 39/30] ، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [9/76] ، {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [19، 20/92] هما بمعنى واحد: ومنه: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} [195/7] الآية على طريقة ابن خزيمة والدارمي وغيرهما. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [71/36] ، {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [37/11] ، {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [39/20] ، {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [13، 14/54] ، {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [12/25] مع الحديث الذي يفسر ذلك دال على حقيقة الرؤية {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [88/28] ، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [26، 27/55] ، {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [88/23] ، {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [83/36] ، قوله: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 هَدَيْتَنَا} [8/3] ، {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [5/61] يفسر هذا عدة أحاديث. {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [56/39] ربما أدخل في هذا وهو غلط، إلا على وجه آخر. {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [47/51] هو الأيد؛ ليس الأيدي كقوله: {دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [17/38] بخلاف قوله: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [45/38] ، {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [67/39] وقد حققه حديث ابن مسعود وابن عمر وغيرهما وآثار كثيرة. {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [10/48] ، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [29/57] ، {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [42/68] كما فسره حديث أبي سعيد وأبي هريرة وابن مسعود وغيرهم. {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [21/76] ، {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [105/2] (1) . [الأشعري وأئمة أصحابه يثبتون الصفات الخبرية لا يقتصرون على السبع] قال شيخ الإسلام -قدس الله روحه-: ولما رجع الأشعري من مذهب المعتزلة سلك طريق ابن كلاب ومال في أهل السنة والحديث (2) وانتسب إلى الإمام أحمد، كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها: كالإبانة والموجز، والمقالات، وغيرها. وكان القدماء من أصحاب أحمد كأبي بكر بن عبد العزيز وأبي الحسين التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق الموافق للسنة في الجملة، ويذكرون رده على المعتزلة، وأبدى تناقضهم.   (1) قلت: انتهت الآيات الدالة على الصفات التي ينكرها متأخرو الجهمية كما سبق وذكر بعض الآيات التي أدخلت في الصفات وليست منها وهي من مجموع 69 ورقة 272، 273 وللفهارس العامة جـ1/119. (2) لعله ومال إلى أهل السنة والحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ثم ذكر ما بين الأشعري وقدماء أصحابه وبين الحنابلة من التآلف لا سيما بين القاضي أبي بكر بن الباقلاني وبين أبي الفضل التميمي، حتى كان ابن الباقلاني يكتب في أجوبته في المسائل: كتبه محمد بن الطيب الحنبلي، ويكتب أيضا الأشعري. قال: وعلى العقيدة التي صنفها أبو الفضل التميمي اعتمد البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب أحمد لما ذكر عقيدة أحمد. قال: وأما ابن حامد وابن بطة وغيرهما فإنهم مخالفون لأصل ابن كلاب. قال: والأشعري وأئمة أصحابه كأبي الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين وإبطال تأويلها، وليس للأشعري في ذلك قولان أصلا. ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين؛ ولكن لأتباعه قولان في ذلك. ولأبي المعالي الجويني في تأويلها قولان أولهما في الإرشاد ورجع عن التأويل في رسالته النظامية وحرمه ونقل إجماع السلف على تحريمه وأنه ليس بواجب ولا جائز (1) .   (1) اجتماع الجيوش الإسلامية ص181. هذا النقل عن ابن تيمية فيه زيادات عما في المجموع. يفهرس جـ1/122 مع الفهارس العامة لمجموع الفتاوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 مفصل الاعتقاد (1) [موت الملائكة في الأرض] ما ذكر من نزول الملائكة إلى الأرض وأنهم يعبدون الله فيها ويموتون فيها لا أصل لذلك (2) . والصواب الذي عليه المحققون أن الخضر عليه السلام ميت لم يدرك الإسلام (3) . [كفر من لم يؤمن بمحمد ومن ارتاب في كفر من لم يؤمن به] ولا خلاف بين المسلمين أن من لم يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعد بلوغ رسالته إليه أنه كافر مخلد في النار، ومن ارتاب في ذلك فهو كافر يجب قتله، كما استتاب عمر وعلي رضي الله عنهما طائفة جهلت حرمة الخمر فظنت أنها تباح للصالحين دون غيرهم، واتفق الصحابة على أن هؤلاء إن أصروا قتلوا (4) . فصل في الأحاديث التي سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة فقال: «إن يعش هذا الغلام فلن يدركه الهرم حتى تقوم الساعة» المراد بذلك «ساعة   (1) مسائل في الاعتقاد، أو في فروع الاعتقاد. (2) مختصر الفتاوى ص250 يتبع الفهارس العامة جـ1/43. (3) الاختيارات ص93 يتبع الفهارس العامة جـ1/44. (4) مختصر الفتاوى ص201 يتبع الفهارس العامة جـ1/44 هذه الفتوى فيها زيادة عما في جـ2 ص 390 من الفهارس العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 القرن» وهي موتهم؛ فإن في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه متى الساعة؟ فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول: «إن يعش هذا الغلام لم يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم» قال هشام: يعني موتهم فهذا يبين تلك الأحاديث. [الساعة الصغرى، والساعة الكبرى، وأدلتها، وعلاماتها، وأصناف الناس في الإقرار بها] وقد يراد بالقيامة الموت، وأن من مات فقد قامت قيامته كما قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أيها الناس إنكم تقولون: القيامة، القيامة؛ فإن من مات قامت قيامته. وليس واحد من هذين النوعين منافيا لما أخبر الله به من «القيامة الكبرى» التي يقوم فيها الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة بعد أن تعاد الأرواح إلى الأجساد. وإنما ينكر هذا أهل الزندقة من الفلاسفة ونحوهم ويتأولون ما في القرآن من ذلك ومن ذكر القيامة على أن المراد بها الموت؛ نحو تأويلهم قوله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [1/81] أنها العقل إذا غاب بالموت، {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [2/81] ، أنها أعضاء الإنسان وحواسه. {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [3/81] أنها أعضاؤه الكبار التي يحملها الحاملون إلى القبر. {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [4/81] أنها ما في بدنه من الأرواح البخارية وقواها. وأمثال هذه التأويلات التي يذكرها السهرودي المقتول على الزندقة في الأرواح العمادية ويذكرها من يذكرها من المتفلسفة القرامطة الباطنية. فإن «القيامة الكبرى» مما علم بالاضطرار من دين الإسلام. ومن تدبر القرآن وتفسيره والأحاديث المتواترة عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه وسائر الأئمة علم ذلك، كما يعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - جاء بالصلاة وبالصوم وحج البيت العتيق وتحريم الفواحش ونحو ذلك، كما في أول سورة الواقعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وفي آخر السورة: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [83/56] فهذا تفصيل لحال الموت كما أن أول السورة لذكر القيامة. وكذلك قوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [1/75] . ثم قال: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [2، 3/75] فجمع عظامه هو في القيامة الكبرى، إلى قوله: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [26، 27، 28/75] فبين ما يقوله عند الموت، إلى قوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} إلى أن قال: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [40/75] فاستدل سبحانه بقدرته على الخلق الأول على إحياء الموتى وذلك في القرآن كثير، يستدل بالنشأة الأولى على البعث في القيامة الكبرى. وتارة يبين البعث ببيان قدرته على خلق الحيوان، وتارة بخلق النبات كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} الآية، وقوله: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} ، إلى قوله: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [5-7/22] وقوله: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} [9/35] . فهذا كله بيان للقيامة الكبرى. وتارة يستدل عليها بقدرته على خلق العالم كما في قوله في سورة «ق» : {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ} إلى قوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} إلى قوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [6، 9، 11/50] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 ثم ذكر الموت بقوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [19/50] . وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [81/36] . وقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [57/40] . وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [33/46] . وتارة يستدل بالنشأة الأولى نحو قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} الآيات [78/36] . وقوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [50/17] . وذكر إحياء الموتى في غير موضع نحو قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} [56/2] . وقال فيها أيضًا: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [73/2] . وقال فيها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [243/2] ، وقال فيها: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [259/2] وذلك أكثر من أن يحصر. وأما «أشراط الساعة» التي ذكر الله تعالى أنه لا يعلمها إلا هو مثل: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك؛ فهي من أشراط الساعة، وهي «القيامة الكبرى» التي لا يعلمها أحد إلا الله فهذه الساعة لا يعلمها أحد غيره سبحانه؛ بخلاف غيرها من موت الإنسان وانخرام القرن فإنه يعرفه من الخلق من شاء الله منهم، وجمهور الخلق يعلمون ذلك تقريبا وإن لم يعلموه تحديدا كما يعلمون أن غالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الخلق لا يبقون مائة سنة ونحو ذلك مما جرت به العادة. وقد يعلم ذلك بطريق أخرى مما لا يتسع له هذا الموضوع. فلا يقال في تلك الساعة الصغرى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [187/7] أي خفي علمها على أهل السموات والأرض. وقال: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [63/33] ، وقد قال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [34/31] . والناس في المعاد على أربعة أصناف: فالذي عليه الرسل وأتباعهم الذين لا بدعة فيهم هو الإقرار بمعاد الأبدان والأرواح. وأكثر هؤلاء الدهرية كذبوا بالمعاد مطلقا. وبين هذين طائفتان: طائفة من أهل الكلام أقروا بمعاد الأبدان والقيامة الكبرى، وأنكروا أمر الأرواح فلم يقروا بأنه بعد الموت نعيم أو عذاب. ومنهم من أقر بالعذاب على البدن فقط دون الروح، وزعم أن الروح هي الحياة التي للبدن، ومنهم من يقر بمعاد الروح فقط. وطائفة من المتفلسفة أقروا بمعاد الأنفس فقط دون الأبدان وكفروا بما جاءت به الرسل. وقد دخل مع أولئك من متكلمي الإثبات جماعة كالقاضي أبي بكر ابن الطيب وأمثاله ممن يزعم أن الروح ليست جوهرا قائما بنفسه لكنها عرض من أعراض البدن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ومنهم من جعل الروح جزءا من أجزاء البدن وهو الريح الذي يدخل البدن ويخرج منه، والبخار الذي من القلب. وهذه الأقوال فاسدة. والذي عليه السلف أن الروح التي تقبض بالموت ليست هي البدن ولا جزء منه ولا صفة من صفاته؛ بل هي جوهر قائم بنفسه، ودلائل الكتاب والسنة على ذلك كثيرة جدا. لكن هؤلاء مع غلطهم وضلالهم أقرب إلى الإسلام ممن قال: إن هذه الروح ليست داخل العالم ولا خارجه ولا توصف بحركة ولا سكون ولا دخول ولا خروج ولا تحول ولا انتقال، وأن المعاد ليس إلا لها وأن البدن لا يعاد، فإن إنكار معاد الأبدان كفر بين، وقد علم من دين الإسلام فساده، وأن المكذبين بالمعاد مراغمون للرسل مراغمة بينة كما قد بسط في موضعه (1) . فصل [الإيمان بمعاد الأرواح والأبدان، وما يحصل للروح في البرزخ من نعيم أو عذاب] عظيم المنفعة في «أمر المعاد» وذلك أن مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها الإيمان بالقيامة العامة التي يقوم الناس فيها من قبورهم لرب العالمين، ويجزي العباد حينئذ ويحاسبهم، ويدخل فريقا الجنة وفريقا النار، كما هو مبين في الكتاب والسنة. والإيمان مع ذلك بنعيم القبر وبعذابه، وبما يكون في البرزخ من حين الموت إلى حين القيامة من نعيم وعذاب فالإنسان منذ تفارق   (1) مختصر الفتاوى ص86 أو الفهارس العامة جـ1/45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 روحه بدنه هو إما في نعيم وإما في عذاب فلا يتأخر النعيم والعذاب عن النفوس إلى حين القيامة العامة وإن كان كماله حينئذ، ولا تبقى النفوس المفارقة لأبدانها خارجة عن النعيم والعذاب ألوفا من السنين إلى أن تقوم القيامة الكبرى، ولهذا قال المغيرة بن شعبة: أيها الناس إنكم تقولون: القيامة، القيامة. وإنه من مات فقد قامت قيامته. واسم «الساعة» في السنة قد يراد به انقراض القرن وهلاك أهله، كما ذكر ذلك البغوي وغيره، وهو مذكور في أحاديث صحيحة «حتى تقوم عليكم ساعتكم» يريد به انخرام ذلك القرن، فلهذا هو مفسر في الحديث الصحيح. وكذلك مذهب أهل السنة والجماعة الإقرار بمعاد الأرواح والأبدان جميعا، وأن الروح باقية بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة. وأما أهل الأهواء: فكان كثير من الجهمية والمعتزلة ونحوهم يكذب بما في البرزخ من النعيم والعذاب ولا يقر بما يكون في القبر، كما ينكرون أيضا وجود الجنة والنار، ولا يعتقدون نعيما ولا عذابا ولا ثوابا ولا عقابا إلا عند القيامة الكبرى. ثم منهم من يقول ليست الروح شيئا ثابتا بدون البدن، وبعض هؤلاء يقر بعذاب القبر ونعيمه للجسد فقط دون روح باقية دونه، وهذا كثير في مقالات طوائف من أهل الكلام. وهم يتكلمون في إحداث العالم وإفنائه، وقد يزعمون أن العالم يفنى بجملته ثم يعاد ومنهم من يزعم أنه يفنى بعد دخول الجنة والنار، وأنهما يفنيان، كما يذكر ذلك عن الجهم بن صفوان، وزعم أبو الهذيل أن حركاتهم تفنى وأمثال هذه المقالات. [ضلال من ينكر تغيير هذا العالم عند القيامة الكبرى] وفي مقابلة هؤلاء طوائف من الفلاسفة المشائين وغيرهم ومن قد يتبعهم من المليين يكذبون بالقيامة العامة، وإنما يقرون بالقيامة التي هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 انقراض القرون والطوفانات العامة، وبأن من مات فقد قامت قيامته؛ ويقرون بمعاد الأرواح دون الأبدان. ويمتنعون ولا يقرون بتغيير هذا العالم، ولا بشق السموات وانفطارها، وتكوير الشمس والقمر، واستحالة الأجسام العلوية، كما جاءت به النصوص، بل يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولون ذلك على أنه أمثال مضروبة بحال المعاد الجزئي، وهو حال النفس عند مفارقة البدن، ولا يقرون بإحداث ولا إفناء (1) . وسماع الميت لقرع نعالهم والسلام عليه ونحو ذلك مما ثبت أن جنس الأموات يسمعونه، ليس ذلك مخصوصا بقوم معينين. [سماع الميت لقرع نعالهم والسلام عليه عام. معرفة الميت بحال أهله] وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [80/27] المراد السماع المعتاد الذي يتضمن القبول والانتفاع -كما في حق الكفار- السماع النافع في قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [23/8] ، وقوله تعالى: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [10/67] فإذا كان قد نفى عن الكافر السمع مطلقَّا وعلم أنه إنما نفى سمع القلب المتضمن للفهم والقبول لا مجرد سماع الكلام فكذلك المشبه به وهو الميت. والحديث الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: «إن الميت إذا حمل قال قدموني» أو يقول: «يا ويلها» الحديث، ليس هذا هو الكلام المعتاد بتحريك اللسان؛ فإنه لو كان كذلك لسمعه كل أحد ولكن هو أمر باطن آخر وليس هو مجرد الروح، فإن الروح منفصل عن البدن فإن النائم قد يسمع ويتكلم، وذلك بروحه وبدنه الباطن بحيث يظهر أثر ذلك في بدنه، حتى إنه قد يقوم ويصيح ويمشي ويتنعم بدنه ويتعذب ومع ذلك فعيناه مغمضتان، وغالبهم أن لسانه لا يتحرك، لكن إذا قوي أمر   (1) مجموع 69ص 123 فيه زيادات وللفهارس العامة جـ1/45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الباطن فقد ينطلق اللسان الظاهر حتى يصوت به ولو نودي من حيث الظاهر لا يسمع، فكما أن النائم حاله لا تشبه حال اليقظان -ولا أحواله مختصة بالروح فالميت أبلغ من ذلك- فإن معرفته بالأمور أكمل من النائم. [قول الميت قدموني أمر باطن آخر] وإدراك الإنسان بعد موته لأمور الآخرة أكمل من إدراك أهل الدنيا وإن كان قد يعرض للميت حال لا يدرك فيها كما قد يعرض ذلك النائم، وقد روي: «من مات ولم يوص لا يستطيع الكلام» وأرواح المؤمنين وإن كانت في الجنة فلها اتصال بالبدن إذا شاء الله تعالى من غير زمن طويل، كما تنزل الملائكة في طرفة عين. قال مالك رحمه الله: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت ولهذا روي: «أنها على أفنية القبور» ، و «أنها في الجنة» والجميع حق. وفي الصحاح أنها ترد إليه بعد الموت ويسأل وترد فتكون متصلة بالبدن بلا ريب والله أعلم. وقد استفاضت الأخبار بمعرفة الميت بحال أهله وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وأنه يرى ويدري بما يفعل عنده، ويسر بما كان حسنا ويتألم بما كان قبيحا. وروي عن عائشة رضي الله عنها بعد أن دفن عمر رضي الله عنه: «كانت تستتر وتقول: «كان أبي وزوجي، فأما عمر فأجنبي» تعني أنه يراها. وروي أن الموتى يسألون الميت عن حال أهليهم فيعرفهم أحوالهم وأنه ولد لفلان ولد، وتزوجت فلانة ومات فلان فما جاء؟ فيقولون راح إلى أمه الهاوية (1) . قال شيخ الإسلام: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عود   (1) مختصر الفتاوى ص189، 190 وإلى الفهارس العامة جـ1/45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الروح إلى البدن وقت السؤال. وعود البدن بلا روح قول طائفة من الناس، وأنكره الجمهور. [عود الروح إلى البدن وقت السؤال] وقابلهم آخرون فقالوا: السؤال للروح بلا بدن وهذا قاله مُرّة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، ولو كان ذلك للروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص (1) . قال ابن القيم رحمه الله: وليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن؛ فإنها تصعد إلى ما فوق السموات ثم تهبط إلى الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره وهو زمن يسير لا يصعد البدن وينزل في مثله. وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة وقد مثلها بعضهم بالشمس وشعاعها في الأرض. [تمثيل حركة الروح بالشمس] قال شيخنا: وليس هذا مثلا مطابقا فإن نفس الشمس لا تنزل من السماء والشعاع الذي على الأرض ليس هو الشمس ولا صفتها بل هو عرض حصل بسبب الشمس والجرم المقابل لها والروح نفسها تصعد وتنزل (2) . [قد يصف الميت للنائم دواء، أو يجيبه عن مسألة] قال ابن القيم رحمه الله: وأما من حصل له الشفاء باستعمال دواء رأى من وصفه له في منامه فكثير جدا، وقد حدثني غير واحد ممن كان غير مائل إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه رآه بعد موته وسأله عن شيء كان يشكل عليه من مسائل الفرائض وغيرها فأجابه بالصواب (3) . قال ابن القيم رحمه الله (4) : وأما الفلاسفة المشاءون فقالوا: هو   (1) كتاب الروح ص50 وإلى الفهارس العامة جـ1/46. (2) كتاب الروح ص45 وللفهارس العامة جـ1/46. (3) كتاب الروح ص34 وللفهارس العامة جـ1/46. (4) في ذكر تعريف العشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 اتفاق أخلاق وتشاكل محبات وتجانسها وشوق كل نفس إلى ما شاكلها وجانسها في الخلقة القديمة قبل إهباطها إلى الأجساد. [حدوث النفس مع البدن لا قبله] قلت: هذا مبني على قولهم الفاسد بتقدم النفوس على الأبدان، وعليه بنى ابن سينا قصيدته المشهورة: هبطت إليك من المحل الأرفع وسمعت شيخنا يحكي عن بعض فضلاء المغاربة -وهو جمال الدين بن الشريشي شارح المقامات- أنه كان ينكر أن تكون هذه له. قال: وهي مخالفة لما قرره في كتبه من أن حدوث النفس الناطقة مع البدن (1) . فصل [الاختلاف في مسمى الإنسان: هل هو الجسد أو الروح أو هما؟] قد ذكرت في غير هذا الموضع أن الناس اختلفوا في مسمى الإنسان: هل هو الجسد؟ وهو الجملة المشاهدة كما يقوله أكثر أهل الكلام من أصحابنا وغيرهم، أو هو اسم لما وراء هذه الجملة وهو الروح كما قاله كثير من أهل الفلسفة وطائفة من أهل الكلام؟ أو هو اسم للمجموع؟ على ثلاثة أقوال. والثالث هو الصواب الذي دل عليه الكتاب والسنة وجمهور الناس، وإن كان الاسم عند التقييد يتناول الجسد فقط، أو الروح فقط أو أحدهما بشرط الآخر فيكون الآخر شرطا تارة، كما كان شطرا في الأصل. وكذلك اختلفوا في وصفه الظاهر وهو النطق المذكور في قوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [23/51] هل هو   (1) روضة المحبين ص140 وللفهارس العامة جـ1/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 اسم للحروف والأصوات فقط، كما هو قول المعتزلة وطائفة من أهل السنة من أصحابنا وغيرهم، أو هو اسم لمعنى قائم بالنفس وراء الحروف والأصوات كما هو قول الكلابية والأشعرية وبعض أهل السنة. أو هو اسم لمجموع اللفظ والمعنى؟ على ثلاثة أقوال. [وفي كلامه: هل هو الحروف والأصوات أو هو لمعاني والحروف أو المعاني] والثالث هو الصواب الذي عليه الأئمة، وهو منصوص أحمد وغيره حيث نص على أن كل واحد من المعاني والحروف داخلة في مسمى الكلام، وهو قول جمهور الخلق، وهو مدلول الكتاب والسنة، وإن كان الكلام يقع تارة على المعنى ... (1) إما مجردا وإما بشرط الآخر، وهذا في الحروف كثير فإن إضافة الكلام والنطق والقول إلى اللسان ووضع ذلك على الحروف والأصوات كثير. وأما إضافة ذلك إلى النفس والقلب ووضع ذلك على المعاني فمثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» ومثل قول أبي الدرداء: ليحذر أحدكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر، وقوله: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم. فأضاف اللعنة إلى القلوب واللعنة من الدعاء الذي هو أحد نوعي الكلام. ومثل قول الحسن البصري: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر، ويناطقون القلوب حتى نطقت، فإذا لها أسماع وأبصار فأوريت بالعلم ونطقت بالحكمة ومثل قول الجنيد: التوحيد قول القلب، والتوكل عمل القلب (2) . قال ابن القيم رحمه الله: وقد جاء فيما ينجي من عذاب القبر   (1) بياض بالأصل. (2) المجموع 69 ص148 فيه زيادات. ويفهرس تابعا لصحيفة 46 جـ 1- الفهارس العامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 [تعظيم ابن تيمية لحديث نص على ما ينجي من عذاب القبر وغير ذلك] حديث فيه الشفاء رواه أبو موسى المديني، وبين علته في كتابه في الترغيب والترهيب وجعله شرحا له، رواه من حديث الفرج بن فضالة: حدثنا هلال أبو جبلة، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في صفة بالمدينة فقام علينا فقال: «إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاءه بره بوالديه فرد ملك الموت عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاء ذكر الله فطير الشياطين عنه، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم، ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما دنا من حوض منع وطرد فجاءه صيام شهر رمضان فأسقاه وأرواه، ورأيت رجلا من أمتي ورأيت النبيين جلوسا حلقا حلقًا كلما دنا إلى حلقة طرد ومنع فجاءه غسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلا من أمتي من بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة عن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة وهو متحير فيه فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور، ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار وشررها فجاءته صدقته فصارت سترا بينه وبين النار وظلا على رأسه، ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلته لرحمه فقالت: يا معشر المؤمنين إنه كان وصولا لرحمه فكلموه فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم، ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الزبانية فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة، ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل، ورأيت رجلا من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه، ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءه رجاؤه من الله عز وجل فاستنقذه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ذلك ومضى، ورأيت رجلا من أمتي قد هوى في النار فجاءته دمعته التي قد بكى من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلا من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريح عاصف فجاءه حسن ظنه بالله عز وجل فسكن روعه ومضى، ورأيت رجلا من أمتي يزحف على الصراط يحبو أحيانا ويتعلق أحيانا فجاءته صلاته عليَّ فأقامته على قدميه وأنقذته، ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة» قال الحافظ أبو موسى المديني: حديث حسن جدا، رواه عن سعيد بن المسيب وعمرو بن ذر وعلي بن زيد بن جدعان. ونحو هذا الحديث مما قيل فيه: إن رؤيا الأنبياء وحي فهي على ظاهرها لا كنحو ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رأيت كأن سيفي انقطع فأولته كذا وكذا، ورأيت بقرا تنحر، ورأيت كأني في دار عقبة بن رافع» . وقد روي في رؤياه الطويلة من حديث سمرة في الصحيح ومن حديث علي وأبي أمامة، وروايات هؤلاء الثلاثة قريب بعضها من بعض مشتملة على ذكر عقوبة جماعة من المعذبين في البرزخ فأما في هذه الرواية فذكر العقوبة وأتبعها بما ينجي صاحبها من العمل. وراوي هذا الحديث عن ابن المسيب هلال أبو جبلة مدني لا يعرف بغير هذا الحديث ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه هكذا ذكره الحاكم أبو محمد والحاكم أبو عبد الله. أبو جبلة بغير هاء. وحكياه عن مسلم. ورواه عنه الفرج بن فضالة وهو وسط في الرواية ليس بالقوي ولا المتروك. ورواه عنه بشر بن الوليد الفقيه المعروف بأبي الخطيب كان حسن المذهب جميل الطريقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وسمعت شيخ الإسلام يعظم أمر هذا الحديث، وقال: أصول السنة تشهد له وهو من أحسن الأحاديث (1) . [حياة الأنبياء في قبورهم حياة برزخية، وتصوير الأعمال في البرزخ] والأنبياء أحياء في قبورهم، وقد يصلون كما رأى محمد موسى صلوات الله وسلامه عليهما وعلى سائر الأنبياء في قبره ليلة الإسراء. وقد جاء في أحاديث حسان أن العمل الصالح يصور لصاحبه صورة حسنة والسيِّئ صورة قبيحة ينعم بها صاحبها أو يعذب. وجاء مخصوصا ببعض الأعمال مثل: القرآن وغيره؛ وذلك في البرزخ، وفي عرصات القيامة. وأما جزاء الأعمال بالأعمال فإن كان المعنى أن عبورهم على الصراط بحسب أعمالهم فهذا حق. وأما تصوير العمل لصاحبه على الصراط فلم يبلغني فيه شيء (2) . وعيسى ابن مريم عليه السلام لم يمت بحيث فارقت روحه بدنه؛ بل هو حي مع كونه توفي، والتوفي الاستيفاء، وهو يصلح لتوفي النوم ولتوفي الموت الذي هو فراق الروح البدن. ولم يذكر القبض الذي هو قبض الروح والبدن جميعا (3) . [عيسى لم يمت وسينزل] وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق، ويدرك الدجال بباب اللد الشرقي فيقتله، ويأمر الله بعد قتله أن تحشر الناس إلى الطور؛ ويقال له: يا روح الله تقدم فصل بنا. فيقول: إن بعضكم على بعض أمير، فيصلي بالمسلمين بعضهم، ويتم الصلاة ولا يحدث فيها (4) .   (1) كتاب الروح ص83 والوابل الصيب ص178 (وللفهارس العامة جـ1/45) . (2) مختصر الفتاوى ص 170، 271 (وللفهارس العامة جـ1/46) . (3) اختيارات 93 وللفهارس العامة جـ1/46. (4) مختصر الفتاوى ص 170 وللفهارس جـ1/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 [الأحاديث في المهدي، وادعاء الدجالين، وادعاء الرافضة] وأما الأحاديث المأثورة في «المهدي» فمنها ما هو صحيح. ومنها ما هو حسن، وقد صحح الترمذي حديث ابن مسعود وأم سلمة وغيرهما رضي الله عنهم قالوا: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما» . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «المهدي من ولد الحسن» . وما يروى: «لا مهدي إلا عيسى» حديث ضعيف رواه ابن ماجه. وقد ادعيت هذه «المهدية» لكثير من الدجالين، وكل ذلك باطل؛ مثل ادعاء الرافضة ذلك لمحمد بن الحسن الداخل في السرداب فهذا مما يعلم بطلانه عقلا. ومثل ادعاء محمد بن التومرت أنه المهدي الذي بشر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتفق أهل الدين على أنه كاذب. وطوائف ادعوا ذلك: منهم من قتل ومنهم من عزر وحبس، ومنهم من راج أمره على طائفة من الضلال، حتى انكشف ما فعله من المحال. والله المستعان (1) . مسألة: خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [48/14] فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال «على الصراط» . فالأرض تبدل كما ثبت في الصحيحين: «أن الناس يحشرون على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقى ليس فيها علم لأحد» قال ابن مسعود   (1) مختصر الفتاوى ص250 وللفهارس العامة جـ1/46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 رضي الله عنه: هي أرض بيضاء كهيئة الفضة لم يعمل عليها خطيئة ولا سفك فيها دم حرام ويجمع الناس في صعيد واحد ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، حفاة عراة، غرلا، كما خلقوا فيأخذ الناس من كرب ذلك اليوم وشدته حتى يلجمهم العرق. وبعضهم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا عن مجاهد وغيره من السلف. [متى تبدل الأرض وتطوى السموات، وأين الناس حينئذ؟ وتبديل الجلود] فهذا الحديث وسائر الآثار تبين أن الناس يحشرون على الأرض المبدلة، والقرآن يوافق على ذلك، كقوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [48/14] وحشرهم وحسابهم يكون قبل الصراط؛ فإن الصراط عليه ينجون إلى الجنة ويسقط أهل النار فيها كما ثبت في الأحاديث. وحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم يدل على أن التبديل وهم على الصراط لكن البخاري لم يورده فلعله تركه لهذه العلة وغيرها؛ فإن سنده جيد. أو يقال: تبدل الأرض قبل الصراط وعلى الصراط تبدل السموات. وأما قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [104/21] فالطي غير التبديل، وقال تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [67/39] ، وفي الصحيحين: «أنه يطوي السموات، ثم يأخذهن بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أنا الجبار، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟» ، وفي لفظ: «يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده» وهو في أحاديث كثيرة. فطي السموات لا ينافي أن يكون الخلق في موضعهم، وليس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 شيء من الأحاديث أنهم يكونون عند الطي على الجسر كما روي ذلك وقد تبدل الأرض غير الأرض وإن كان في تلك الرواية ما فيها. والذي لا ريب فيه أنه لابد من تبديلها، وطيها. ومذهب السلف إثبات الصفات لله كما جاءت، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل. وفي يوم القيامة تبدل الجلود في النار، كما أخبر سبحانه وبحمده. فقيل: إنه تغير الجلود في الصفات لا في الذات فكلما تغيرت الصفات صار هذا غير هذا وإن كان الأصل واحدا، وهذا كما تمد الأرض وتكون السماء كالمهل، وكما يعاد خلق الإنسان ويبقى طوله ستون ذراعا (1) . [كل يبعث حتى البهائم] فالإنس والجن يبعثون جميعا بالاتفاق ولم يختلفوا فيما علمت إلا فيمن لم ينفخ فيه الروح. واختار القاضي بعثه، وذكره عن أحمد. وأما البهائم فهي مبعوثة بالكتاب والسنة قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [38/6] والحديث في قول الكافر يوم القيامة: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [40/78] لما رأى من جعل البهائم ترابا معروف وما أعلم فيه خلافا (2) . [متى ورود الحوض؟] ورود حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الصراط، فيرده قوم، ويذاد عنه آخرون وقد بدلوا وغيروا (3) .   (1) مختصر الفتاوى ص202، 203 وللفهارس جـ1/47. (2) مختصر الفتاوى ص 254 وللفهارس العامة جـ1/47. (3) مختصر الفتاوى ص206 وللفهارس العامة جـ1/47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فصل [وفي البرزخ والعرصة تكليف] الدنيا دار تكليف بلا خلاف، وكذلك البرزخ وعرصة القيامة، وإنما ينقطع التكليف بدخول دار الجزاء وهي الجنة أو النار، كما صرح بذلك أصحابنا وغيرهم، والامتحان في البرزخ لمن لم يكن مكلفا ففيه القولان لأصحابنا وغيرهم. وعلى هذا لا خلاف في امتحانهم في العرصة، وغير المكلف قد يرحم؛ فإن أطفال المؤمنين مع آبائهم في الجنة (1) . فصل والتكليف بالأمر والنهي ثابت في الشرع والاتفاق. وفي ثبوته بالعقل اختلاف بين العلماء من أصحابنا وغيرهم. [وهل يعلم بالعقل؟] والثواب والعقاب معلوم بالسمع، وهو قول كثير من أصحابنا والأشعرية وغيرهم، وذهب طوائف إلى أنه يعلم بالعقل، والصواب أن معرفته بالسمع واجبة. وأما بالعقل فقد يعرف وقد لا يعرف، وليست معرفته بالعقل بممتنعة، ولا هي واجبة والله أعلم (2) . قال ابن القيم: القول الثاني: إن أطفال المشركين في النار، وهذا مذهب طائفة، وحكاه القاضي أبو يعلى رواية عن أحمد. قال شيخنا: وهو غلط منه على أحمد. وسبب غلطه: أن أحمد سئل عنهم فقال: هم على الحديث. قال القاضي: أراد حديث خديجة إذ سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولادها الذين ماتوا قبل الإسلام؟ فقال: «إن شئت أسمعتك   (1) مختصر الفتاوى ص257 وللفهارس العامة جـ1/47. (2) مختصر الفتاوى ص257 وللفهارس العامة جـ1/47، وجـ2/6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 تضاغيهم في النار» . [حديث موضوع في أطفال المشركين، أصح الأقوال فيهم] قال شيخنا: وهذا حديث موضوع وأحمد أجل من أن يحتج بمثله؛ وإنما أراد حديث عائشة: «الله أعلم بما كانوا عاملين» (1) . وأطفال المسلمين في الجنة إجماعا. [إن في الجنة مائة درجة أرجح] وأما أطفال المشركين فأصح الأجوبة فيهم ما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عنهم فقال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» فلا نحكم على معين منهم لا بجنة ولا نار. ويروى أنهم يمتحنون يوم القيامة؛ فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار. وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن بعضهم في الجنة وبعضهم في النار. والصحيح في أطفال الكفار أنهم يمتحنون في عرصات القيامة (2) . قال ابن القيم رحمه الله: الحديث له لفظان: أحدهما: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض» ، والثاني: «إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض أعدها الله للمجاهدين في سبيله» ، وشيخنا يرجح هذا اللفظ، وهو لا ينفي أن يكون درجة الجنة أكثر من ذلك.. (3) . [والأبكار يزوجن في الجنة، مريم] وأما «الأبكار» فالله يزوجهن في الجنة. وأما مريم فقد روي: «أنها زوجة نبينا - صلى الله عليه وسلم -» وما أعلم صحة ذلك، والله أعلم (4) . مسألة: والله سبحانه إذا أراد أن يجمع بين أحد من أعلى الجنة   (1) تهذيب سنن أبي داود جـ7/85 وللفهارس العامة جـ1/47. (2) اختيارات ص308 وللفهارس العامة جـ1/48 وهذا النقل فيه زيادة فائدة. (3) حادي الأرواح ص67 طبع صبيح وللفهارس العامة جـ1/48. (4) مختصر الفتاوى ص 201 وللفهارس العامة جـ1/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 [وينزل الأعلى إلى الأسفل] أنزله إلى الأسفل، وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني أحبك ما أستطيع أن أصبر عنك، وإنك في أعلا الجنة فلا أراك، فأنزل الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [69/4] (1) . [إبليس يعذب بالنار وقد خلق منها] و «إبليس» لعنه الله يعذب بالنار هو وذريته، وإن كان من نار، فالإنسان مخلوق من صلصال ولو ضرب بالصلصال لقتله، والله أعلم (2) . واتفق سلف الأمة وأئمتها على أن من المخلوقات ما لا يعدم، وهو الجنة، والنار، والعرش، وغير ذلك. ولم يقل بفناء جميع المخلوقات إلا طائفة من أهل الكتاب المبتدعين وهو قول باطل (3) . قال ابن القيم رحمه الله: وأما أبدية النار ودوامها فقال فيها شيخ الإسلام: فيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والنزاع في ذلك معروف عن التابعين (4) . وقال ابن القيم: الرابع قول من يقول: يخرجون منها وتبقى نارا على حالها ليس فيها أحد يعذب. حكاه شيخ الإسلام (5) . [ما لا يفنى من المخلوقات] قال ابن القيم: السابع قول من يقول: بل يفنيها ربها وخالقها تبارك وتعالى؛ فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم تفنى ويزول عذابها قال شيخ الإسلام: وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة.   (1) مختصر الفتاوى ص270 وللفهارس العامة جـ1/48. (2) مختصر الفتاوى ص270 وللفهارس العامة جـ1/48. (3) مختصر الفتاوى ص 177 وللفهارس العامة جـ1/48 وهو مما يعضد الفتوى الموجودة لذلك نقلته هنا. (4) حادي الأرواح ص 226 وللفهارس العامة جـ1/48. (5) حادي الأرواح ص 227 وللفهارس العامة جـ1/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 [بقاء الجنة والنار] : وأبي سعيد وغيرهم؛ وقد روى عبد بن حميد وهو من أجل أئمة الحديث في تفسيره المشهور: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن الحسن، قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كمقدر رمل عالج لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه، وقال: حدثنا حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه. ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [23/78] . قال: ولا ريب أن من قال هذا القول عن عمر ونقله عنه إنما أراد بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها؛ فأما قوم أصيبوا بذنوبهم فقد علم هؤلاء وغيرهم أنهم يخرجون منها وأنهم لا يلبثون قدر رمل عالج ولا قريبا منه. ولفظ: «أهل النار» لا يختص بالموحدين؛ بل يختص بمن عداهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون» (1) . قال ابن القيم: فأما القولان بفنائهما فهو قول قاله جهم بن صفوان إمام المعطلة الجهمية؛ وليس له فيه سلف قط من الصحابة ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الإسلام، ولا قال به أحد من أهل السنة. وهذا القول مما أنكره عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفروهم به وصاحوا بهم من أقطار الأرض، كما ذكره عبد الله بن الإمام أحمد في «كتاب السنة» عن خارجة بن مصعب أنه قال: كفرت الجهمية بثلاث آيات من كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ   (1) حادي الأرواح ص226-228 وللفهارس العامة جـ1/48. قلت: كأن هذا هو آخر كلام ابن تيمية وأن ما تخلله وما بعده من كلام ابن القيم رحمه الله. ومن عادة ابن تيمية أنه يستوفي الأقوال ويناقشها ولم يوجد هنا إلا حكاية بعضها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَظِلُّهَا} [35/13] وهم يقولون: لا يدوم. ويقول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [54/38] وهم يقولون: ينفد. ويقول الله عز وجل: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [96/16] . [هذا ما قاله جهم بناء على أصله] قال شيخ الإسلام: وهذا قاله جهم لأصله الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم، فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنع في المستقبل؛ فدوام الفعل ممتنع عنده على الرب تبارك وتعالى في المستقبل، كما هو ممتنع عليه عنده في الماضي. وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل؛ لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات لكونها متعاقبة شيئا بعد شيء، فقال بفناء حركات أهل الجنة حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة (1) . فصل [الشهادة لمعين بالجنة أو النار، وسبب التوقف] وأما الشهادة لرجل بعينه بأنه من أهل النار أو الجنة فليس لأحد ذلك إلا بنص صحيح يوجب، كالعشرة الذين بشرهم الصادق - صلى الله عليه وسلم - بالجنة. ومنهم من جوز ذلك لمن استفاض في الأمة الثناء عليه كعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأمثاله.   (1) حادي الأرواح ص223 وللفهارس العامة جـ1/48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وقد كان بعض السلف يمنع أن يشهد بالجنة لغير الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى ناظر علي بن المديني أحمد في هذه المسألة، فقال: أقول: إنهم في الجنة ولا أشهد لمعين. قال أحمد: متى قلت: إنهم في الجنة، فقد شهدت أنهم في الجنة. وأما توقف الناس في القطع بالجنة فلخوف الخاتمة. ومع هذا فنرجو للمحسن ونخاف على المسيء. ومن ظهر منه أفعال يحبها الله ورسوله وجب أن يعامل بما يوجبه ذلك من الموالاة والمحبة والإكرام ومن ظهر منه خلاف ذلك عومل بمقتضاه (1) . ولا يشهد بالجنة إلا لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - أو اتفقت الأمة على الثناء عليه، وهو أحد القولين وتواطؤ الرؤيا كتواطؤ الشهادات (2) . [العهد بالخلافة لأبي بكر] ولا ريب أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده» إنما كان أراد أن يكتب لأبي بكر رضي الله عنه العهد بالخلافة بعده، كما فسر ذلك في حديث عائشة رضي الله عنها يوم الخميس، قال لها: «ادعي لي أباك وأخاك أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف الناس بعدي» ثم أعلم أن الله يأبى ذلك والمؤمنون إلا أبا بكر. وذلك لما أنه كان قد نصب لهم من العلامة على خلافته من الصلاة بالناس إماما، وسد خوخة غيره، وإخباره بحبه أكثر من غيره، وغير ذلك من العلامات. ثم قال عمر رضي الله عنه: «نسخ الله كتابه ذلك عن الناس» وإلا فما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يترك حكم الله ولا يبلغه لقول عمر. وقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا   (1) مختصر الفتاوى ص257 وللفهارس العامة جـ1/49. (2) الاختيارات ص86 وللفهارس العامة جـ49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [60/17] المراد به في حق من شك في خلافة أبي بكر. وصدق ابن عباس رضي الله عنهما، فإنها رؤيا حق من شاء الله فتنته. وأما من أراد الله هداه فذلك خير لمزيد اجتهاده وموافقته الحق. والله يبتلي العباد بما يشاء، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (1) . [إنزال السكينة على أبي بكر تبع] {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [40/9] قال (2) : على أبي بكر. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أنزلت عليه السكينة: قلت: وكان شيخنا أبو العباس ابن تيمية -قدس الله روحه- يذهب إلى خلاف هذا ويقول: الضمير عائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصلا وإلى صاحبه تباعا، فهو الذي أنزلت عليه السكينة، وهو الذي أيده الله بالجنود وسرى ذلك إلى صاحبه (3) . فصل [عمر محدث والصديق أكمل] قال ابن القيم رحمه الله: المرتبة الرابعة مرتبة التحديث، وهذه دون مرتبة الوحي الخاص، وتكون دون مرتبة الصديقين، كما كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في هذه الأمة فعمر بن الخطاب» . وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله يقول: جزم بأنهم كائنون في الأمم قبلنا، وعلق وجودهم في هذه الأمة بـ «إن»   (1) مختصر الفتاوى ص206، 207 وللفهارس العامة جـ1/50. (2) الإمام أحمد. (3) بدائع الفوائد جـ3/112 وللفهارس العامة جـ1/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الشرطية مع أنها أفضل الأمم؛ لاحتياج الأمم قبلنا إليهم، واستغناء هذه الأمة عنهم بكمال نبيها ورسالته، فلم يحوج الله الأمة بعده إلى محدث ولا ملهم، ولا صاحب كشف ولا منام، فهذا التعليق لكمال الأمة واستغنائها لا لنقصها. والمحدث هو الذي يحدث في سره وقلبه بالشيء فيكون كما يحدث به. قال شيخنا: والصديق أكمل من المحدث؛ لأنه استغنى بكمال صديقيته ومتابعته عن التحديث والإلهام والكشف، فإنه سلم قلبه وسره وظاهرة وباطنه للرسول فاستغنى به عما منه. قال: وكان هذا المحدث يعرض ما يحدث به على ما جاء به الرسول؛ فإن وافقه قبله وإلا رده. فعلم أن مرتبة الصديقية فوق مرتبة التحديث. [قول أصحاب الخيالات حدثني قلبي عن ربي] قال: وأما ما يقوله كثير من أصحاب الخيالات والجهالات: «حدثني قلبي، عن ربي» فصحيح أن قلبه حدثه، ولكن عن من؟ عن شيطانه أو عن ربه؟ فإذا قال: حدثني قلبي عن ربي. كان مسند الحديث إلى من لم يعلم أنه حدثه به، وذلك كذب. قال: ومحدث الأمة لم يكن يقول ذلك ولا تفوه به يوما من الدهر، وقد أعاذه الله من أن يقول ذلك؛ بل كتب كاتبه يوما: «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب» فقال: «لا امحه، واكتب هذا ما رأى عمر بن الخطاب، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر والله ورسوله منه بريء» وقال في الكلالة: «أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان» (1) .   (1) المدارج جـ1/39، 40 وللفهارس العامة جـ1/50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 [أفضلية أبي بكر وعمر على جميع الصحابة] وأبو بكر وعمر (1) أفضل وأشجع وأدين وأكرم من جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. فينبغي أن تكون القدوة لكل مسلم بهما (2) . [أفضيلة عبد الرحمن بن عوف وأهل الشورى، وأحقيتهم بالخلافة بعدهما] والحديث المذكور عن عبد الرحمن رضي الله عنه (3) ، باطل رواه أبو نعيم من طريق رجل اتفق أهل العلم على رد أخباره؛ بل هو مخالف للنصوص وإجماع السلف والأئمة؛ فإنه من أهل الشورى الذين هم أفضل الأمة بعد أبي بكر وعمر. وأهل الشورى هم: عثمان، وعلي، وعبد الرحمن والزبير وطلحة وسعد رضي الله عنهم أجمعين. فهؤلاء الستة جعل عمر رضي الله عنه الخلافة فيهم. وأخبر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو عنهم راض. ثم إن ثلاثة قدموا ثلاثة؛ قدموا عثمان وعلي، وعبد الرحمن. ثم إنهم جعلوا عبد الرحمن يختار للأمة ورضوا بذلك. فمن هو بهذه المنزلة كيف يتأخر دخوله الجنة أو يدخل حبوا؟ ولو دخلها لغناه حبوا لدخلها سائر الصحابة الأغنياء حبوا: كعثمان وطلحة والزبير، وسعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، بل في الأنبياء من هو غني: كإبراهيم وداود وسليمان، ويوسف صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (4) . وقد أجمع المسلمون على أن موسى أفضل من الخضر. فمن قال: إن الخضر أفضل فقد كفر. وسواء قيل: إن الخضر نبي، أو ولي. والجمهور على أنه ليس بنبي؛ بل أنبياء بني إسرائيل الذين اتبعوا التوراة وذكرهم الله تعالى كداود وسليمان أفضل من الخضر بل على قول الجمهور: أنه ليس بنبي فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما أفضل منه.   (1) في الأصل وغيرهما خطأ ظاهر، أو مدخلة، بدليل قوله (بهما) وكما هو معروف بالأدلة الكثيرة أفضليتها. (2) مختصر الفتاوى ص586 وللفهارس العامة جـ1/50. (3) عبد الرحمن بن عوف «أنه يدخل الجنة حبوا» . (4) مختصر الفتاوى ص574 وللفهارس العامة جـ1/50 و 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 [غاية الخضر] وكونه يعلم مسائل لا يعلمها موسى لا يوجب أن يكون أفضل منه مطلقا كما أن الهدهد لما قال لسليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [22/27] لم يكن أفضل من سليمان، وكما أن الذين كانوا يلقحون النخل لما كانوا أعلم بتلقيحه من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب من ذلك أن يكونوا أفضل منه - صلى الله عليه وسلم - وقد قال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأما ما كان من أمر دينكم فإلي» وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كانوا يتعلمون ممن هو دونهم علم الدين الذي هو عندهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة» ومعلوم (1) رتبتهم في العلم أفضل ممن حصلت له الرؤيا الصالحة. وغاية الخضر أن يكون عنده من الكشف ما هو جزء من أجزاء النبوة. كيف يكون أفضل من نبي؟ فكيف بالرسول؟ فكيف بأولي العزم (2) . [توضيح قول أم سلمة وحذيفة ولن أبرئ بعدك أحدا] قال ابن القيم رحمه الله: وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل، عن مسروق قال: دخل عبد الرحمن على أم سلمة رضي الله عنها، فقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من أصحابي لمن لا يراني بعد أن أموت أبدا» فخرج عبد الرحمن من عندها مذعورا حتى دخل على عمر رضي الله عنه فقال له: اسمع ما تقول أمك، فقام عمر رضي الله عنه حتى أتاها فدخل عليها فسألها ثم قال: أنشدك بالله أمنهم أنا؟ قالت: لا ولن أبرئ بعدك أحدا. فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليها هذا الباب ولم ترد أنك وحدك البريء من ذلك دون سائر الصحابة (3) .   (1) لعله سقطت كلمة «أن» (2) مختصر الفتاوى المصرية ص560، 561 وللفهارس العامة جـ1/52. (3) إغاثة اللفهان جـ1/87 وللفهارس العامة جـ1/52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لحذيفة: أنشدك الله: هل سماني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ يعني في المنافقين. فيقول: لا، ولا أزكي بعدك أحدا. فسمعت شيخنا رضي الله عنه يقول: ليس مراده أني لا أبرئ غيرك من النفاق؛ بل المراد لا أفتح على نفسي هذا الباب فكل من سألني هل سماني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأزكيه (1) . فصل [عترة النبي - صلى الله عليه وسلم - واسم الشرف والأشراف] وأما «عترة النبي» - صلى الله عليه وسلم - الأقربين التي قال الله فيها: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [214/26] فقيل: إنها قريش كلها؛ لأنها لما نزلت هذه الآية عم قريش بالنذارة ثم خص الأقرب فالأقرب. وأما اسم «الشرف» فليس هو من الأسماء التي علق الشارع بها حكما حتى يكون حده متلقى من جهة الشرع. وأما «الشريف في اللغة» فهو خلاف الوضيع والضعيف، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» ومن رأسه الناس وشرفوه كان شريفهم؛ فالشريف من له الرياسة والسلطان لكن لما كان أهل البيت أحق من أهل البيوت الأخرى بالشرف صار من كان من أهل البيت يسمى شريفا؛ فأهل العراق لا يسمون شريفا إلا من كان علويًا. وأما أحكام الشريعة التي علقت فهي مذكورة باسم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وباسم أهل بيته، وذوي القربى، وهذه الأسماء الثلاثة تتناول جميع بني   (1) الجواب الكافي ص45 وللفهارس العامة جـ1/52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 هاشم لا فرق بين ولد العباس وولد أبي طالب وغيرهم، وأعمام النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين بقيت ذريتهم: العباس، والحارث بن عبد المطلب، وأبو لهب. فمن كان من الثلاثة الأول حرمت عليهم الزكاة، واستحقوا من الخمس باتفاق. [أفضل الخلق مطلقا وأفضل الخلق من كل صنف، وأفضل الخلق في الطبقات، وأفضل الخلق في الأشخاص] وأما ذرية أبي لهب ففيه خلاف بين الفقهاء؛ لكن «أبي لهب» خرج عن بني هاشم لما نصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنعوه ممن كان يريد أذاه من قريش، ودخل مع بني هاشم بنو المطلب؛ ولهذا جاء عثمان بن عفان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أعطى من خمس خيبر لبني هاشم وبني المطلب فقالا: يا رسول الله أما إخواننا بنو هاشم فلا ننكر فضلهم لأنك منهم وأما بنو المطلب فإنما هم ونحن منك بمنزلة واحدة فقال: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» . وأفضل الخلق النبيون، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون. وأفضل كل صنف أتقاهم كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى» هذا في الأصناف العامة. وأفضل الخلق في الطبقات: القرن الذي بعث فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. وأما في الأشخاص فأفضلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم إبراهيم عليه السلام. فتبين أن الشرف ليس لبني هاشم خاصة، بل يتنوع بحسب عرف المخاطبين ومقاصدهم. وأما المسمى بهذا اللفظ فيقال: من الأحكام ما تشترك فيه قريش كلها نحو الإمامة الكبرى؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإمامة في قريش ما بقي من الناس اثنان» وقال: «الناس تبع لقريش في هذا الأمر» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وكذلك لقريش مزية كما قال: «إن الله اصطفى بني إسماعيل من ولد إبراهيم، واصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم» . ومن الأحكام ما يختص بني هاشم أو بني هاشم مع بني المطلب دون سائر قريش، كالاستحقاق من خمس الغنائم، وتحريم الصدقة، ودخولهم في الصلاة إذا صلي على آل محمد وثبوت المزية على غيرهم. ومن كانت أمه قرشية دون أبيه لم يستحق الإمامة التي اختصت بها قريش، ومن أمه هاشمية فاطمية أو غير فاطمية وأبوه ليس بهاشمي ولا مطلبي فلا يستحق من الخمس كما يستحق بنو هاشم؛ وإن كان ينتسب إليهم نسبا مطلقا فله نوع امتياز لكون أمه منهم. وأما أولاد العترة فلهم من الاختصاص بقدر ما لهم من النسب لكون أحدهم أفضل من غيرهم. وبكل حال فهذه الخصائص لا توجب أن يكون الرجل بنفسه أفضل من غيره لأجل نسبه المجرد؛ بل التفاضل عند الله بالتقوى، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين» فمن كان في الإيمان والتقوى أفضل كان عند الله أفضل ممن دونه في ذلك وأولاهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان غيره أقرب نسبا منه؛ فإنه لا شك أن الولاية الإيمانية الدينية أعظم وأوثق صلة من القرابة النسبية، والله أعلم (1) . قال ابن القيم رحمه الله: ولما كمل سيد ولد آدم هذه المرتبة (2) .   (1) مختصر الفتاوى المصرية ص565 وللفهارس العامة جـ1/52. (2) مرتبة التعبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 [لما كّمَّلّ النبي مرتبة التعبد كملت له المغفرة واستحق التقديم على الخلائق] : وصفه الله بها في أشرف مقاماته -مقام الإسراء- كقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [1/17] ومقام الدعوة كقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [19/72] ، ومقام التحدي كقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [23/2] وبذلك استحق التقديم على الخلائق في الدنيا والآخرة. وكذلك يقول المسيح عليه السلام لهم إذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام: «اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» . سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية (قدس الله روحه) يقول: فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى وكمال مغفرة الله له (1) . [لواء الحمد بيده صورة ومعنى] : لواء الحمد الذي بيد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة صورة ومعنى، إشارة إلى سيادته لجميع الخلائق فيكون الخلق تحت لوائه، كما يكون الأجناد تحت ألوية الملوك، وحامله المقدم الذي يكون خطيب الأنبياء إذا وفدوا وإمامهم إذا اجتمعوا، وهو الذي يتقدم للشفاعة فيحمد ربه بمحامد لا يحمده بها غيره. وهو محمد، وأحمد، وأمته الحمادون الذين يحمدون على السراء والضراء، وهو أول من يدعى إلى الجنة فلا تفتح لأحد قبل صاحب لواء الحمد - صلى الله عليه وسلم - (2) . [هل هو أفضل من جملة الرسل؟ كما أن صديقه رجح بجميع الأمة] : ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل الرسل باتفاق المسلمين، لكن وقع نزاع هل هو أفضل من جملتهم؟ قطع جماعة بأنه أفضل كما أن صديقه أبا بكر وزن إيمانه بإيمان جميع الأمة فرجح (3) . ومريم ابنة عمران وآسية زوجة فرعون من أفضل النساء   (1) مدارج جـ3/29، 30 وللفهارس العامة جـ1/53. (2) مختصر الفتاوى ص579 وللفهارس العامة جـ1/53، 386، 297. (3) مختصر الفتاوى ص91 وللفهارس العامة جـ 1/53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 [فواضل رجال هذه الأمة ونسائها أفضل من فواضل غيرهم حتى آسية ومريم وهل هي من زوجات نبينا؟] والفواضل من هذه الأمة كخديجة وعائشة وفاطمة رضي الله عنهن أفضل منهما. كما أن المفضلين من رجال هذه الأمة أفضل من فضلاء رجال غيرها. فإن الصواب الذي عليه عامة المسلمين وحكى الإجماع عليه غير واحد أنهما ليستا بنبيتين، وإنما غايتهما الصديقية، كما دل عليه القرآن. وأما أزواجهما في الآخرة فقد روي في مريم أنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو العباس: ولا أعلم ما يقطع به (1) . وصديقو هذه الأمة رجالها ونساؤها أفضل من صديقي غيرها (2) . [صديقو هذه الأمة وشر الناس] قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: كما أن خير الناس الأنبياء فشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم فخير الناس بعدهم: العلماء والشهداء والصديقون، والمخلصون. وشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم (3) . [حكم ساب الأنبياء أو الصحابة خير الأمم وخير هذه الأمة ... ] وأجمع المسلمون على أن من سب نبيا فقد كفر. ومن سب أحدا من الأولياء الذي ليسوا بأنبياء فإنه لا يكفر؛ إلا إذا كان سبه مخالفا لأصل الإيمان مثل أن يتخذ ذلك السب دينا وقد علم أنه ليس بدين. وعلى هذا ينبني النزاع في تكفير الرافضة. وقد اتفق المسلمون على أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الأمم، وأن خير هذه الأمة أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأفضلهم السابقون الأولون، وأفضلهم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عنهم.   (1) اختيارات ص113 وللفهارس العامة والتقريب جـ 1/53. (2) مختصر الفتاوى ص201 وللفهارس العامة جـ1/53. (3) الجواب الكافي ص35 وللفهارس العامة جـ1/53، 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 [هل حب آل محمد نصب؟] ومن كان رسولا فقد اجتمعت فيه ثلاثة أوصاف: الرسالة، والنبوة، والولاية. ومن كان نبيا فقد اجتمع فيه الصفتان. ومن كان وليا فقط لم يكن فيه إلا صفة واحدة. ومن كان لكتاب الله أتبع فهو بولاية الله أحق (1) . وقدس الله روح القائل وهو شيخ الإسلام إذ يقول: إن كان نصبا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني ناصبي (2) وكرامات الأولياء حق باتفاق أئمة الإسلام والسنة والجماعة، وقد دل عليها القرآن في غير موضوع، والأحاديث الصحيحة والآثار المتواترة عن الصحابة والتابعين وغيرهم؛ وإنما أنكرها أهل البدع من المعتزلة والجهمية ومن تابعهم. [كرامات الأولياء وخوارق الكفرة والسحرة والدجال وما توجبه الولاية إذا صحت] لكن كثيرا ممن يدعيها أو تدعى له يكون كذابا أو ملبوسا عليه. وأيضا فإنها لا تدل على عصمة صاحبها، ولا على وجوب اتباعه في كل ما يقوله؛ بل قد تصدر بعض الخوارق من الكشف وغيره عن الكفار والسحرة بمواخاتهم للشياطين، كما ثبت عن الدجال أنه يقول للسماء: أمطري فتمطر، وللأرض أنبتي فتنبت وأنه يقتل واحدا ثم يحييه وأنه يخرج خلفه كنوز الذهب والفضة. ولهذا اتفق أئمة الدين على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يثبت له ولاية بل ولا إسلام حتى ينظر وقوفه عند الأمر والنهي الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - (3) . وقال الشيخ تقي الدين: وهذا القول الجامع للمغفرة لكل ذنب   (1) مختصر الفتاوى ص560 وللفهارس العامة جـ1/56. (2) النونية لابن القيم (مجموعة القصائد المفيدة ص7 وللفهارس العامة جـ1/56) . (3) مختصر الفتاوى ص60 وإلى الفهارس العامة جـ1/59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 للتائب منه كما دل عليه القرآن والحديث هو الصواب عند جماهير أهل العلم. [قبول توبة الداعية إلى البدع] : وإن كان من الناس من استثنى بعض الذنوب كقول بعضهم: إن توبة الداعية إلى البدع لا تقبل باطنا؛ للحديث الإسرائيلي الذي فيه: «وكيف من أضللت» وهذا غلظ؛ فإن الله تعالى قد بين في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع. انتهى كلامه (1) . قال ابن القيم رحمه الله: قال (2) : الدرجة الثانية: أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك، وتعتذر إلى من يجني عليك سماحة لا كظما ومودة لا مصابرة إلى أن قال: ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الناس يجدها هذه بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة. [من أخلاق ابن تيمية] وما رأيت أحدا قط أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه. وما رأيته يدعو على أحد منهم قط، وكان يدعو لهم. وجئت يوما مبشرا له بموت أكبر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال: إني لكم مكانه ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، ونحو هذا الكلام فسروا به، ودعوا له، وعظموا هذه الحال منه. فرحمه الله ورضي عنه (3) .   (1) الآداب الشرعية جـ1/126، 127 وللفهارس العامة جـ1/61. (2) صاحب المنازل. (3) مدارج السالكين جـ2/345 وإلى الفهارس العامة والتقريب جـ1/62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الإيمان فصل [عقيدة أهل السنة في أهل الكبائر. مخالفة أهل البدع. الجمع بين نصوص الوعد والوعيد. أمثلة وتعاريف] الذي عليه أهل السنة: أن الله لا يخلد في النار أحدا من أهل الإيمان. وخالف في ذلك قوم من أهل البدع: الخوارج والحرورية والمعتزلة، فقالوا: إن أهل الكبائر يخلدون فيها، ومن دخلها لم يخرج منها بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا غيره، وكذبوا. وعارض هؤلاء قوم من المرجئة: زعموا أن الإيمان حاصل من الخلق جميعهم وأن إيمان الملائكة والأنبياء والصديقين كإيمان أهل الكبائر وكذبوا. وغلاتهم تزعم أنه لا يدخل في النار أحد، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وكل هؤلاء ضالون. فالطائفة الأولى: نظروا إلى نصوص الوعيد. والثانية: نظروا إلى نصوص الوعد. وأما أهل السنة: فآمنوا بكل ما جاء من عند الله ولم يضربوا بعض ذلك ببعض ونظروا في الكتاب والسنة فوجدوا أن أهل الكبائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 من الموحدين الذين توعدهم الله بالعقاب بين أن عقابهم يزول عنهم بأسباب: أحدها: التوبة، فإن الله يغفر بالتوبة النصوح الذنوب جميعا. السبب الثاني: الحسنات الماحية، كما قال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} الآية [8/7] . السبب الثالث: مصائب الدنيا والبرزخ. السبب الرابع: الدعاء والشفاعة، مثل الصدقة عليه بعد موته، والدعاء له، والاستغفار. السبب الخامس: الأعمال الصالحة التي يهديها له غيره من عتاقة وصدقة. السبب السادس: رحمة ربه. فكل حديث فيه عن مؤمن أنه يدخل النار أو أنه لا يدخل الجنة فقد فسره الكتاب والسنة أنه عند انتفاء هذه الموانع. وكذلك «نصوص الوعد» مشروطة بعدم الأسباب المانعة من دخول الجنة، وأعظمها أن يموت كافرا. ومنها: أن تكثر ذنوبه وظلمه فيؤخذ من حسناته حتى تذهب، ثم توضع عليه سيئات من ظلمهم. ومنها: أن يعقب العمل ما يبطله: كالمن، والأذى، وترك صلاة العصر قيل: تحبط عمل ذلك اليوم. وقيل: العمل كله، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» . فانتفى هذا الدخول المطلق وهو دخول الجنة بلا عذاب فمن أتى بالكبائر لم يستحق هذا الدخول المطلق الذي لا عذاب قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ومثل هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «من غشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» فإن الاسم المطلق للنبي - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه هو الإيمان الكامل المطلق الذي يستحقون به الثواب، ويدفع الله به عنهم العقاب؛ فمن غشهم لم يكن من هؤلاء؛ بل معه أصل الإيمان الذي يفارق به الكفار، ويخرجه من النار. وإذا جاء «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة و، إن زنا وإن شرب الخمر» ونحوه فهذا يعطي أن صاحب الإيمان مستحق للجنة وأن الذنوب لا تمنعه ذلك لكن قد يحصل له قبل الدخول نوع من العذاب؛ إما في الدنيا وإما في البرزخ وإما في العرصة وإما في النار. وكذلك «نصوص الوعيد» كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة قاطع رحم» وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم: ملك كذاب، وشيخ زاني، وعائل مستكبر» ، و «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر» ، و «من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة» و «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» و «المستكبر والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» وثلاثة أخر: «رجل على فضل ماء يمنعه من ابن السبيل فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا، ورجل حلف على سلعة بعد العصر كاذبا لقد أعطي أكثر مما أعطي» و «لا يدخل الجنة بخيل، ولا منان، ولا سيئ الملكة» فإن البخل من الكبائر وهو منع الواجبات: من الزكاة وصلة الرحم، وقرى الضيف، وترك الإعطاء في النوائب، وترك الإنفاق في سبيل الله. وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات والتولي يوم الزحف، والسحر، وأكل الربا كل ذلك من الكبائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بل كل ذنب فيه حد لله في الدنيا أو وعيد في الآخرة مثل غضب الله ولعنته والنار فهو من الكبائر. وهذا باب يطول وصفه؛ لكن ذكرنا الأصل الجامع لذلك. ومن تاب من ذنب فيما بينه وبين الله تعالى نرجو أن الله يتوب عليه. وإن كان من مظالم العباد مثل: ظلم أبويه، فعليه أن يفعل معهم الحسنات بقدر ما فعل معهم من السيئات حتى يقوم هذا بهذا (1) . فصل [لا يحبط جميع الأعمال إلا الكفر] المشهور عند «أهل السنة» القائلين بعدم تخليد الفاسق ورجاء الشفاعة له والرحمة أنه لا يحبط العمل إلا الكفر؛ فإن نصوص القرآن تقتضي حبوط العمل بالكفر في مثل البقرة والمائدة والأنعام والزمر و (ق) وغير ذلك، وهذا لأن ما سوى الكفر من المعاصي يثبت معه أصل الإيمان، ولا بد أن يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من إيمان وأما الكفر فينتفي معه الإيمان الذي لا يقبل العمل إلا به، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [124/4] ، {مَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [19/17] إلى نصوص متعددة يصف فيها بطلان عمل الكافر وتحريم الجنة عليه. وأما «المعتزلة» فإنهم يقولون بتخليد الفاسق الملي، وأنه لا ينعم أبدا، وأن من استحق العقاب لا يستحق ثوابا بحال، ومن استحق الثواب   (1) مختصر الفتاوى المصرية ص251-254 هذا الفصل موجود معناه مفرقا في مجموع الفتاوى ويفهرس تابعا جـ1/130 من الفهارس العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 لا يستحق العقاب؛ فالتزموا لذلك أن تحبط جميع الأعمال الصالحة بالفسق، كما تحبط الأعمال بالكفر. ثم أكثرهم يفسقون بالكبيرة ومنهم من لا يفسق إلا برجحان السيئات وهي التي تحبط الأعمال. وهذا أقرب. [حبوط بعضها بالفسق أو الرياء] قلت: الذي ينفي من الإحباط على أصول أهل السنة هو حبوط جميع الأعمال فإنه لا يحبط جميعها إلا بالكفر، وأما الفسق فلا يحبط جميعها؛ سواء فسر بالكبيرة، أو برجحان السيئات؛ لأنه لا بد أن يثاب على إيمانه فلم يحبط. وأما حبوط بعضها وبطلانه إما بما يفسده بعد فراغه وإما لسيئات يقوم عقابها بثوابه، فهذا حق دل عليه الكتاب والسنة كقوله: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [264/2] فأخبر أن المن والأذى يبطل الصدقة، كما أن الرياء المقترن بها يبطلها وإن كان كل منهما لا يبطل الإيمان؛ بل يبطله ورود الكفر عليه أو اقتران النفاق به. وقوله في الحديث الصحيح: «إن الذي تفوته صلاة العصر فقط حبط عمله» وقول.. (1) : «الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت عنده لأخيه مظلمة في عرض أو مال فليأته فليستحل منه قبل أن يأتي يوم ليس فيه درهم ولا دينار، وإنما فيه الحسنات والسيئات» وقوله: «ما تعدون المفلس فيكم» ؟ قالوا: المفلس من ليس له درهم ولا دينار، قال: «ليس ذلك بالمفلس وإنما المفلس الذي يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيأتي وقد ضرب هذا وشتم هذا وأخذ مال هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا لم يبق له حسنة أخذ من سيئاتهم   (1) بياض مقدار كلمة والمعنى متصل، ولعله النبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 فطرحت عليه ثم طرح في النار» (1) . [قد تعظم الحسنة ويكثر ثوابها] وذكر الشيخ تقي الدين رضي الله عنه: أن الحسنة تعظم ويكثر ثوابها بزيادة الإيمان والإخلاص حتى تقابل جميع الذنوب، وذكر حديث: «فثقلت البطاقة وطاشت السجلات» وحديث: «البغي التي سقت الكلب فشكر الله لها ذلك فغفر لها» وحديث: «الذي نحى غصن شوك عن الطريق فشكر الله له ذلك فغفر له» رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة (2) . فصل [كل مؤمن مسلم ولا عكس] الذي عليه جمهور سلف المسلمين: أن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. فالمؤمن أفضل من المسلم قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [14/49] . ومن كان عالما بما أمر الله تعالى به وما نهى عنه فهو عالم بالشريعة ومن لم يكن عالما بذلك فهو جاهل من أجهل الناس (3) . قاعدة الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة أن النار لا يخلد فيها أحد من   (1) مجموع 69/ وللفهارس العامة جـ1/137. (2) الآداب الشرعية جـ1/147، 148. (3) مختصر الفتاوى 586 وإلى الفهارس العامة جـ1/135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أهل الإيمان والتوحيد كما ثبت ذلك في الأحاديث: «أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» ونحوه. ولكن لابد أن يدخل النار عصاة أهل التوحيد بذنوبهم (1) ويعاقبون على مقدار ذنوبهم ثم يخرجون بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره. [الإيمان المطلق والإيمان المقيد والدخول المطلق والدخول المقيد] وأما أهل البدع فلهم أقوال مضطربة باطلة. فجمهور «المعتزلة» و «الخوارج» يقولون: من دخل النار خلد فيها وآخرون من المرجئة يقولون: إنا لا نقطع لمعين. فأولئك اعتقدوا أن الإيمان متى ذهب بعضه ذهب جميعه قالوا والفاسق قد نقص إيمانه. والحق ما عليه السلف. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الحديث. إنما سلبه كمال الإيمان الواجب وحقيقته التي يستحق الجنة والنجاة من النار وكذلك قوله: «من غشنا فليس منا» وشبهه. وما ورد من «نصوص الوعيد المطلقة» كقوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} [30/4] فهو مبين ومفسر بما في الكتاب والسنة من النصوص المبينة لذلك المقيدة له. وكذلك ما ورد من «نصوص الوعد المطلقة» . وكذلك بين أن الحسنات تمحو السيئات، والخطايا تكفر بالمصائب وغيرها من العمل الصالح وغيره: كالدعاء له، والصدقة عنه، والصيام والحج عنه. فقوله: «لا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان» نفى به   (1) قلت: يعني من انتفت عنه تلك الأسباب كما تقدم وكما يأتي، لا أن كل واحد منهم لا بد أن يدخل النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الدخول المطلق الذي توعد به في القرآن توعدا مطلقا، وهو دخول الخلود فيها؛ وأنه لا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها، مثل قوله: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [15/92] ، وقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [60/40] . فيقال: إن من في قلبه مثقال ذرة من إيمان يمنع من هذا الدخول المعروف، لا أنه لا يصيبه شيء من عذاب النار؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «وأما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا حمما أذن في الشفاعة فخرجوا ضبائر ضبائر فينبتون على نهر الجنة» . وكذلك قوله: «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر» نفى الدخول المطلق المعروف وهو دخول المؤمنين الذين أعدت لهم الجنة كقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [73/39] الآية. وقوله: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [26، 27/36] وأمثال ذلك مما يطلق فيه الدخول والمراد الدخول ابتداء من غير سبق عذاب في النار بحيث لا يفهم من ذلك أنهم يعذبون فهذا الدخول لا يناله من في قلبه مثقال ذرة من كبر. وأيضا فهذه الأحاديث مبين فيها سبب دخول الجنة من العمل الصالح، وسبب دخول النار كالكبر. فإن وجد في العبد أحد السببين فقط فهو من أهله، وإن وجدا فيه معا استحق الجنة والنار، فالذي معه كبر وإيمان يستحق النار فيعذب فيها حتى يزول الكبر من قلبه وحينئذ يدخل الجنة ولم يبق في قلبه كبر ولا مثقال ذرة منه، كما أنه [إذا] تاب منه لم يكن من أهله وكذا إذا عذب في الدنيا أو في الآخرة لم يكن حينئذ من أهله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة» حق إذا أريد به الدخول المطلق الكامل أريد بـ «المؤمن» الكامل المطلق وإذا أريد بالدخول مطلق الدخول فقد يتناول الدخول بعد العذاب، فإنه يراد به مطلق المؤمن، حتى يتناول الفاسق الذي في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فإن هذا يدخل في مطلق المؤمن كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [92/4] ولا يدخل في المؤمن المطلق كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} الآية [2/8] . ومثل هذا كثير في الكتاب والسنة ينتفي الاسم عن المسمى تارة لنفي حقيقته وكماله، ويثبت له تارة لوجود أصله وبعضه؛ حتى يقال للعالم القاصر، والصانع القاصر: هذا عالم وهذا صانع بالنسبة إلى من لا يعلم وإلى من لا يصنع. ويقال: هذا ليس بعالم ولا صانع لوجود نقصه وتقصيره. ويقال للكامل: هو العالم والصانع، وهذا هو الشجاع، وأمثاله كثيرة من الأسماء والصفات: كالمؤمن، والكافر، والفاسق، والمنافق. والله أعلم (1) . قال ابن القيم رحمه الله: وأيضا فإنه يعفى للمحب ولصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، ويسامح بما لا يسامح به غيره. [يعفى لصاحب المقامات العظيمة ويسامح ... ] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: انظر إلى «موسى» صلوات الله وسلامه عليه رمى الألواح التي فيها كلام الله الذي كتبه بيده فكسرها، وجر بلحية نبي مثله وهو هارون، ولطم عين ملك الموت ففقأها وعاتب ربه ليلة الإسراء في محمد - صلى الله عليه وسلم - ورَفْعِهِ عليه، وربه   (1) مختصر الفتاوى 204-206. هذا الفصل لم أجده بهذا الإيجاز والوضوح والتفصيل في المجموع وانظر جـ1/137- الفهارس العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 تعالى يحتمل له ذلك كله، ويحبه، ويكرمه، ويُدَلِّلُه، لأنه قام لله تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له، وصدع بأمره، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، فكانت هذه الأمور كالشعرة في البحر (1) . وانظر إلى «يونس بن متى» حيث لم يكن له هذه المقامات التي لموسى غاضب ربه مرة فأخذه وسجنه في بطن الحوت، ولم يحتمل له ما احتمل لموسى (2) . وقال ابن القيم أيضا: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: وكذلك لطم موسى عين مالك الموت ففقأها ولم يعتب عليه ربه؛ وفي ليلة الإسراء عاتب ربه في النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ رفعه فوقه، ورفع صوته بذلك، ولم يعتبه الله على ذلك. قال: لأن موسى عليه السلام قام تلك المقامات العظيمة التي أوجبت له هذا الدلال؛ فإنه قاوم فرعون أكبر أعداء الله تعالى، وتصدى له ولقومه، وعالج بني إسرائيل أشد المعالجة، وجاهد في الله أعداء الله أشد الجهاد، وكان شديد الغضب لربه فاحتمل له ما لم يحتمله لغيره. وذو النون لما لم يكن في هذا المقام سجنه في بطن الحوت من غضبه. وقد جعل الله لكل شيء قدرا (3) . [الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات ولكن قد ... ] قال الشيخ تقي الدين: الكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات؛ ولكن قد تحبط ما يقابلها عند أكثر أهل السنة (4) . واختاره أيضًا في   (1) المناسب هنا كالقطرة. (2) مدارج جـ1/328 وللفهارس العامة جـ1/139. (3) المدارج جـ2/456 وللفهارس العامة جـ1/138. (4) وفي الاختيارات ص296 عند أهل السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 مكان آخر، قال: كما دلت عليه النصوص، واحتج بإبطال الصدقة بالمن والأذى (1) . [كفارة الشرك] وقال: كفارة الشرك التوحيد، والحسنات يذهبن السيئات (2) . قال الشيخ تقي الدين: ولعن تارك الصلاة على وجه العموم جائز. وأما لعنة المعين فالأولى تركها؛ لأنه يمكن أن يتوب. وقال في موضع آخر: قيل لأحمد بن حنبل: أيؤخذ الحديث عن يزيد؟ فقال: لا ولا كرامة أو ليس هو فعل بأهل المدينة ما فعل؟ وقيل له: إن أقواما يقولون: إنا نحب يزيد فقال: وهل يحب يزيد من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقيل له: أفلا تلعنه؟ فقال: متى رأيت أباك يلعن أحدا؟ [الخلاف في لعن المعين من الكفار والفساق. أما على سبيل العموم فجائز] وقال الشيخ تقي الدين في موضع آخر في لعن المعين من الكفار من أهل القبلة وغيرهم من الفساق بالاعتقاد أو بالعمل: لأصحابنا فيها أقوال: أحدها: لا يجوز بحال، وهو قول أبي بكر عبد العزيز. والثاني: يجوز في الكافر دون الفاسق. والثالث: يجوز مطلقا. وقال عبد الله بن ًأحمد الحنبلي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: على الجهمية لعنة الله. وكان الحسن يلعن الحجاج، وأحمد يقول: الحجاج رجل سوء.   (1) الآداب جـ1/140. (2) الآداب جـ1/142 كلاهما إلى الفهارس العامة جـ1/139. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 قال الشيخ تقي الدين: ليس في هذا عن أحمد لعنة معين. لكن قول الحسن نعم. قال الشيخ تقي الدين: لم أره (1) نقل لعنة معينة إلا لعنة نوع أو دعاء على معين بالعذاب أو سبا له. لكن قال (2) : القاضي لم يفرق بين المطلق والمعين، وكذلك جدنا أبو البركات (3) . قال الشيخ تقي الدين: المنصوص عن أحمد الذي قرره الخلال اللعن المطلق، لا المعين. كما قلنا في نصوص الوعيد والوعد، وكما نقول في الشهادة بالجنة والنار؛ فإنا نشهد بأن المؤمنين في الجنة وأن الكافرين في النار، ونشهد بالجنة والنار لمن شهد له الكتاب والسنة، ولا نشهد بذلك لمعين إلا من شهد له النص أو شهد له الاستفاضة على قول. فالشهادة في الخبر كاللعن في الطلب، والخبر والطلب نوعا الكلام؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الطعانين واللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة» فالشفاعة ضد اللعن، كما أن الشهادة ضد اللعن. وكلام الخلال يقتضي أنه لا يلعن المعينين من الكفار فإنه ذكر قاتل عمر وكان كافرا ويقتضي أنه لا يلعن المعين من أهل الأهواء، فإنه ذكر قاتل علي وكان خارجيا، ثم استدل القاضي للمنع بما جاء من ذم اللعن، وأن هؤلاء ترجى لهم المغفرة، لا تجوز لعنتهم؛ لأن اللعن يقتضي الطرد والإبعاد بخلاف من حكم بكفره من المتأولين فإنهم مبعدون من الرحمة كغيرهم من الكفار. واستدل على جواز ذلك وإطلاقه بالنصوص التي جاءت باللعن، وجميعها مطلقة كالراشي والمرتشي وآكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبيه.   (1) يعني: الإمام أحمد. (2) ابن تيمية. (3) الآداب جـ306 وللفهارس العامة جـ1/138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 قال الشيخ تقي الدين: فصار للأصحاب في الفساق ثلاثة أقوال: أحدهما: المنع عموما وتعيينا إلا براوية النص. والثاني: إجازتها. والثالث: التفريق، وهو المنصوص؛ لكن المنع من المعين: هل هو منع كراهة، أو تحريم؟ ثم قال في الرد على الرافضي: لا يجوز، واحتج بنهيه عليه السلام عن لعنة الرجل الذي يدعي حمارا، وقال هنا: ظاهر كلامه الكراهية، وبذلك فسره القاضي فيما بعد لما ذكر قول أحمد: لا تعجبني لعنة الحجاج ونحوه، لو عم فقال: لعنة الله على الظالمين (1) . وقال في مكان آخر: وقد نقل عن أحمد لعنة أقوام معينين من دعاة أهل البدع؛ ولهذا فرق من فرق من الأصحاب بين لعنة الفاسق بالفعل وبين دعاة أهل الضلال؛ إما بناء على تكفيرهم، وإما بناء على أن ضررهم أشد. ومن جوز لعنة المبتدع المكفر عينا فإنه يجوز لعنة الكافر المعين بطريق الأولى. ومن لم يجوز أن يلعن إلا من ثبت لعنه بالنص فإنه لا يجوز لعنة الكافر المعين. فمن لم يجوز إلا لعن المنصوص يرى أن لا يجوز ذلك لا على وجه الانتصار ولا على وجه الجهاد وإقامة الحدود كالهجرة والتعزير والتحذير. وهذا مقتضى حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو لأحد أو على أحد قنت بعد الركوع وقال فيه: «اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من العرب حتى نزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية [128/3] » . قال: وكذلك من لم يلعن المعين من أهل السنة أو من أهل القبلة أو مطلقا. وأما من جوز لعنة الفاسق المعين على وجه البغض في الله عز وجل والبراءة منه والتعزير فقد يجوز ذلك على وجه الانتصار أيضًا.   (1) الآداب جـ1/307-309 وإلى الفهارس العامة جـ1/138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ومن يرجح المنع من لعن المعين فقد يجيب عما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحد أجوبة ثلاثة: إما بأن ذلك منسوخ كلعن من لعن في القنوت على ما قاله أبو هريرة. وإما أن ذلك مما دخل في قوله: «اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو لعنته وليس كذلك فاجعل ذلك له صلاة وزكاة ورحمة تقربه بها إليك يوم القيامة» . لكن قد يقال: هذا الحديث لا يدل على تحريم اللعنة وإنما يدل على أنه يفعلها باجتهاده بالتعزير، فجعل هذا الدعاء دافعا عمن ليس لها بأهل. وإما أن يقال: اللعن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت بالنص فقد يكون اطلع على عاقبة الملعون. وقد يقال: الأصل مشاركته في الفعل، ولو كان لا يلعن إلا من علم أنه من أهل النار لما قال: «إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو شتمته أو لعنته فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة» . فهذا يقتضي أنه كان يخالف أن يكون لعنه بما يحتاج أن يستدرك بما يقابله من الحسنات فإنه معصوم، والاستدراك بهذا الدعاء يدفع ما يخاف من إصابة دعائه لمن لا يستحقه وإن كان باجتهاد؛ إذ هو باجتهاده الشرعي معصوم لأجل التأسي به. وقد يقال: نصوص الفعل تدل على الجواز للظالم، كما يقتضي ذلك القياس؛ فإن اللعنة هي البعد عن رحمة الله، ومعلوم أنه يجوز أن يدعى عليه من العذاب بما يكون مبعدا عن رحمة الله عز وجل في بعض المواضع كما تقدم، فاللعنة أولى أن تجوز والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن لعن من علم أنه يحب الله ورسوله، فمن علم أنه مؤمن في الباطن يحب الله ورسوله لا يلعن لأن هذا مرحوم، بخلاف من لا يكون كذلك انتهى كلامه (1) .   (1) الآداب الشرعية جـ1/310، 311 وللفهارس العامة جـ1/138. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 القدر [سبق الماء] قال ابن القيم رحمه الله: وله (1) أيضا من حديث أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، قال: «كنت قائما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء حبر من أحبار اليهود، فقال: السلام عليك» الحديث بطوله، إلى أن قال: جئت أسألك عن الولد؟ فقال: «ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل منى المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله» وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: في صحة هذا اللفظ نظر (2) . [الدعاء بطول العمر] ويكره الدعاء بالبقاء لكل أحد؛ لأنه شيء قد فرغ منه. ونص عليه (3) . وليس لأحد اطلاع على اللوح سوى الله. وما يوجد في كلام بعض الشيوخ والمتكلمين من الاطلاع عليه فمبني على ما اعتقدوه من أن اللوح هو العقل الفعال، وأن نفوس البشر تتصل به، كما يذكر ذلك أصحاب رسائل إخوان الصفا.   (1) أي لمسلم. (2) الطرق الحكمية ص220 وللفهارس العامة جـ1/143. (3) الاختيارات ص318، 319 وإلى الفهارس العامة جـ1/143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 [لا يطلع على اللوح المحفوظ إلا الله، ما يعني الغزالي ورسائل إخوان الصفا باللوح والقلم والملائكة والشياطين وكلام الله] وقد يوجد في كلام أبي حامد الغزالي في مثل جواهر القرآن والإحياء، ويظن من لا يعرف حقيقة هؤلاء ولا حقيقة دين الإسلام أن هذا من كلام أولياء الله المكاشفين، ولا يعلم هذا الجاهل أن الفلاسفة الصوفيين تقوله في العقل الفعال، وأن العالم السفلي يفيض عنه، وأنه في الحقيقة ربه ومدبره. وكذلك ما يقولونه في «العقول العشرة» من كون كل عقل يفيض عنه ما تحته، وهو كفر باتفاق المسلمين واليهود والنصارى. وهؤلاء يأخذون لب الصابئة ويكسونه لحى الإسلام. وهم من جنس الملاحدة المنافقين يلبسون على المسلمين، وإن كان منهم من قد تاب أو تلبس عليه، مع أن أصل الإيمان معه، وأخطأ في ذلك أخطاء قد يغفرها الله له. ويزعمون أنه لم يسجد لآدم شيء من الملائكة، وأن الشياطين امتنعوا عن السجود له لأنهم يفسرون الملائكة والشياطين بقوى النفس: قوى الخير، والشر. ويجعلون كلام الله للأنبياء ما يفيض عليهم من نفوس الأنبياء وغيرهم وملائكته ما يكون في نفوسهم من الأشكال النورانية. [هل مكتوب على كل فرج ناكحه؟] والمقصود أنه يوجد في عبارات هؤلاء إطلاق اللوح والقلم والملائكة ونحو ذلك من عبارات المسلمين ولكن المراد بها عندهم ما هو من دين الصابئة، وليس من دين المسلمين (1) . وأما ما روي: «أنه مكتوب على كل فرج ناكحه» فليس صحيحًا أيضا (2) . وليس هو من جنس كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن لا ريب أن الله   (1) مختصر الفتاوى ص262، 263 وللفهارس العامة جـ1/143. (2) الحديث الذي قبله باطل وهو «اتخذوا مع الفقراء أيادي ... » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 تعالى كتب كل ما يفعله العباد قبل أن يفعلوه، فلذلك عنده. وقد ثبت أن الله يأمر الملك فيكتب على العبد كل ما يفعله قبل أن ينفخ فيه الروح (1) . فصل [قول القدرية من المعتزلة ونحوهم كفر وضلال. وتكفير المعين من هؤلاء ومن منكري بعض الصفات يتوقف على تحقق شروط وانتفاء موانع] «القدرية» : من المعتزلة وغيرهم من الذين لا يقرون بأن الله خالق كل شيء، ولا أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن؛ فإذا أطلق عليهم أنهم خارجون عن التوحيد بمعنى أنهم كذبوا بالقدر، فهذا فيه نزاع حتى في مذهب مالك والشافعي وأحمد. و «مسألة التكفير» بإنكار بعض الصفات وإثباته (2) قد كثر فيها الاضطراب. وتحقيق الأمر فيها: أن الشخص المعين الذي ثبت إيمانه لا يحكم بكفره إن لم تقم عليه حجة يكفر بمخالفتها، وإن كان القول كفرا في نفس الأمر بحيث يكفر بجحوده إذا علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاله. فقد أنكر طائفة من السلف بعض حروف القرآن؛ لعدم علمهم أنها منه فلم يكفروا. وعلى هذا حمل المحققون حديث الذي قال لأهله: «إذا أنا مت فأحرقوني» فإنه كان جاهلا بقدرة الله إذا فعل ذلك. وليس كل جهل بعض ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكفر؛ ولهذا قال السلف من قال: القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة فهو كافر. ولا يكفرون المعين الذي يقول ذلك؛ لأن ثبوت حكم التكفير في حقه متوقف على تحقق شروط وانتفاء موانع؛   (1) مختصر الفتاوى ص600، 601 وللفهارس العامة جـ1/143. (2) يعني إنكار بعض وإثبات بعض: كإثبات السبع وإنكار ما عداها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فلا يحكم بكفر شخص بعينه إلا أن يعلم أنه منافق بأن قامت عليه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها ولم يقبلها. لكن قول هؤلاء المعتزلة وأشباههم هو بلا شك من الكفر والضلال (1) . [الأسباب لا تنكر، لكن هنا ثلاثة أمور ... ] ومع علم المؤمن أن الله رب كل شيء ومليكه فلا ينكر ما خلقه الله من الأسباب فينبغي أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور: أحدها: أن السبب المعين لا يستقل بالمطلوب؛ بل لا بد معه من أسباب أخر، ومع هذا فلها موانع. الثاني: لا يجوز أن يعتقد أن الشيء سبب لا يعلم، فمن أثبت سببا بلا علم أو بخلاف الشرع كان مبطلا كمن يظن أن النذر سبب في رفع البلاء. الثالث: أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يتخذ شيء منها سببا للدنيا، إلا أن تكون مشروعة؛ فإن العبادة مبناها على الإذن من الشارع، فلا يجوز أن يشرك بالله فيدعو غيره وإن ظن أن ذلك سبب في حصول بعض أغراضه. وكذلك لا يعبد الله بالبدع وإن ظن في ذلك ثوابا؛ فإن الشيطان قد يعين الإنسان على بعض مقاصده إذا أشرك وقد يحصل له بالكفر والفسق والعصيان بعض أغراضه فلا يجوز له ذلك (2) . وقد تنازع الناس في الدعاء مطلقا.   (1) مختصر الفتاوى ص572، 573 ويقابل ص147 من جـ1- الفهارس العامة. (2) مختصر الفتاوى المصرية ص268، 269 وإلى الفهارس العامة جـ1/148 بعضه غير موجود فنقلت البحث كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 [الدعاء من أعظم الأسباب. غلط من قال: لا فائدة فيه، أو عبادة محضة، أو علامة على حصول المطلوب] فقالت طائفة: لا فائدة فيه، وهم المتفلسفة والمتصوفة وتبعهم طائفة من المؤمنين بالشرائع قالوا: إنه عبادة محضة. وقال آخرون: بل هو أمارة وعلامة على حصول المطلوب وكل هذا باطل. بل الحق أنه من أعظم الأسباب التي جعلها الله سببا. والصواب أن الله جعل في الأجسام القوى التي هي الطبائع فإن من أهل الإثبات من أنكرها، وقال: إن الله جعل الآثار عندها لا بها، فيخلق الشبع عند الأكل؛ لا به. وهذا خلاف الكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى قال: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [57/7] وفي القرآن من هذا كثير. فهو سبحانه وإن جعل في الأجسام قوى مهيئة فكذلك الدعاء من جملة الأسباب التي خلقها، والسبب لا يستقل بالحكم ولا يوجبه، بل قد يتخلف عنه الحكم لمانع. فإذا كان متوقفا على وجود أسباب أخر وانتفاء موانع فليس في الوجود ما يستقل بالتأثير إلا الله الذي هو خالق كل شيء وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال الله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [49/51] فتعلمون أن خالق الأزواج واحد. [لا يستقل بالتأثير إلا الله] وقد بسطنا الكلام في بطلان ما قاله المتفلسفون في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، وما ذكروه من الترتيب الذي وضعوه لخيالاتهم الفاسدة في غير هذا الموضع (1) .   (1) مختصر الفتاوى المصرية ص263، 264 يفهرس تابعا جـ1/148 من الفهارس العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 المنطق قال ابن القيم رحمه الله: وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني كما أن العروض ميزان الشعر. وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان، وعوجه، وتعويجه للعقول، وتخبيطه للأذهان، وصنفوا في رده وتهافته كثيرا. وآخر من صنف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ألف في رده وإبطاله كتابين -كبيرا وصغيرا- بين فيه تناقضه، وتهافته، وفساد كثير من أوضاعه (1) .   (1) إغاثة اللهفان جـ2/260 وللفهارس العامة جـ1/157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 السلوك، أو التصوف كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لابد للسالك إلى الله من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه (1) . وقال العارف: يسير إلى الله عز وجل بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس (2) . [ما لابد للسالك والعارف منه] قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: العارف لا يرى له على أحد حقا، ولا يشهد له على غيره فضلا؛ ولذلك لا يعاتب، ولا يطالب، ولا يضارب. ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيرا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا في شيء. وكان كثيرا ما يتمثل بهذا البيت. أنا المكدي وابن المكدي ... وهكذا كان أبي وجدي وكان إذا أثني عليه في وجهه يقول: والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاما جيدا.   (1) الشهادة الزكية في ثناء الأئمة على ابن تيمية ص35 لمرعي بن يوسف الكرمي ت1033هـ. (2) الشهادة الزكية ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 [المؤلف يستقل علمه وعمله، ظهور ذله وانكساره وافتقاره واعتماده على ربه] وبعث إليَّ في آخر عمره «قاعدة» في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه. أنا الفقير إلى رب البريات ... أنا المسكين في مجموع حالاتي أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن يأتنا من عنده يأتي لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ... ولا عن النفس لي دفع المضراتي وليس لي دونه مولى يدبرني ... ولا شفيع إذا حاطت خطيئاتي إلا بإذن من الرحمن خالقنا ... إلى الشفيع كما قد جاء في الآياتي ولست أملك شيئا دونه أبدا ... ولا شريك أنا في بعض ذراتي ولا ظهير له كي يستعين به ... كما يكون لأرباب الولاياتي والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبد له آتي فمن بغى مطلبا من غير خالقه ... فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي والحمد لله ملأ الكون أجمعه ... ما كان منه وما من بعد قد ياتي (1) [الصبر. صبر يوسف عن مطاوعتها أعظم من صبره على ما فعله به إخوته] وسمعت شيخ الإسلام -قدس الله روحه- يقول: كان صبر يوسف عليه السلام عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضى ومحاربة للنفس، ولاسيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة فإنه كان شابا وداعية الشباب إليها قوية. وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته. وغريبا والغريب لا يستحيي في بلد غربته مما يستحيي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله. ومملوكا، والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع   (1) المدارج جـ2 ص524 وللفهارس العامة جـ1/181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الحر. والمرأة جميلة وذات منصب وهي سيدته وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار ومع هذه الدواعي كلها صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله. وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟! [الصبر على أداء الطاعة ... الصبر واليقين..] وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل؛ فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية (1) . وكان يقول بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين (2) . [كيف تواجه العوارض والمحن؟] قال لي شيخ الإسلام رحمه الله مرة: العوارض والمحن هي كالحر والبرد؛ فإذا علم العبد أنه لا بد منهما لم يغب لورودهما، ولم يغتم لذلك، ولم يحزن (3) . [التوبة العامة، والتوبة المجملة] قال الشيخ تقي الدين: فمن تاب توبة عامة كانت هذه التوبة مقتضية لغفران الذنوب كلها؛ إلا أن يعارض هذا العام معارض يوجب التخصيص؛ مثل أن يكون بعض الذنوب لو استحضره لم يتب منه لقوة إرادته إياه، أو لاعتقاده أنه حسن. وتصح من بعض ذنوبه في الأصح (4) . وذكر الشيخ تقي الدين أن التوبة المجملة لا توجب دخول كل فرد   (1) مدارج ص156، 157 وللفهارس العامة جـ1/184. (2) انظر الشهادة الزكية ص35. (3) مدارج ص389 وللفهارس العامة جـ1/184. (4) الآداب الشرعية جـ1/55 وللفهارس العامة جـ1/178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 من أفراد الذنوب فيها، ولا تمنع دخوله، كاللفظ المطلق بخلاف العام (1) . قال ابن عقيل: وعن أحمد أن التوبة لا تصح إلا من جميع الذنوب، قال في رجل قال: لو ضربت ما زنيت، ولكن لا أترك النظر. فقال أحمد رضي الله عنه: ما ينفعه ذلك، وذكر ابن عقيل هذه الرواية ولفظها: أي توبة هذه؟! وقد قال أحمد في تعاليق إبراهيم الحربي: لو كان في الرجل مائة خصلة من خصال الخير وكان يشرب النبيذ لمحتها كلها ... وقال الشيخ تقي الدين: إنما أراد -يعني أحمد- أن هذه ليست توبة عامة، لم يرد أن ذنب هذا كذنب المصر على الكبائر؛ فإن نصوصه المتواترة تنافي ذلك، وحمل كلامه على ما يصدق بعضه بعضا أولى. لا سيما إذا كان القول الآخر مبتدعا لم يعرف عن أحد من السلف. انتهى كلامه (2) . [الجمع بين الرضا والرحمة أكمل] قال ابن القيم رحمه الله: وقد ذكر في مناقب «الفضيل بن عياض» أنه ضحك يوم موت ابنه علي، فسئل عن ذلك فقال: إن الله تعالى قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه. وهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكمل وأفضل، فإنه جمع بين الرضا بقضاء الله تعالى وبين رحمة الطفل؛ فإنه لما قال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «هذه رحمة، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . والفضيل ضاق عن الجمع بين الأمرين فلم يتسع للرضا بقضاء الرب وبقاء الرحمة للولد. هذا جواب شيخنا سمعته منه (3) .   (1) الآداب الشرعية جـ1/64 وللفهارس العامة جـ1/178. (2) الآداب الشرعية ص65 وللفهارس العامة جـ1/178. (3) تحفة الودود ص84، 85 وللفهارس العامة جـ1/185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ويستحب البكاء على الميت رحمة له، وهو أكمل من الفرح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده» متفق عليه (1) . [الخوف والرجا لا يغلب أحدهما، والرجا بالنظر إلى سبق الرحمة يجب.. والخوف بالنظر إلى تفريطه] وينبغي للمؤمن أن يكون خوفه ورجاؤه واحدا، فأيهما غلب هلك صاحبه، ونص عليه الإمام أحمد؛ لأن من غلب خوفه وقع في نوع من اليأس. ومن غلب رجاؤه وقع في نوع من الأمن من مكر الله (2) . وفي «النصحية» : يغلب الخوف لحمله على العمل وفاقا للشافعية. وقال الفضيل بن عياض وغيره ونصه: ينبغي للمؤمن أن يكون رجاؤه وخوفه واحدا. وفي رواية: فأيهما غلب صاحبه هلك. قال شيخنا: وهذا هو العدل؛ ولهذا من غلب عليه حال الخوف أوقعه في نوع من اليأس والقنوط: إما في نفسه، وإما في أمور الناس. ومن غلب عليه حال الرجا بلا خوف أوقعه في نوع من الأمن لمكر الله: إما في نفسه وإما في أمور الناس. والرجا بحسب رحمة الله التي سبقت غضبه يجب ترجيحه، كما قال تعالى: «أنا عند حسن ظن عبدي بي فليظن بي خيرا» . وأما الخوف فيكون بالنظر إلى تفريط العبد وتعديه؛ فإن الله عدل لا يأخذ إلا بالذنب (3) . [الخوف المحمود] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله (4) . [توبة مملوك هارب] ولقد سئل شيخنا أبو العباس ابن تيمية -قدس الله روحه- سأله شخص فقال: هربت من أستاذي وأنا صغير، إلى الآن لم أطلع له   (1) الاختيارات ص90 وللفهارس العامة جـ1/185. (2) الاختيارات ص85 وللفهارس العامة جـ1/187. (3) فروع جـ2/179، 180 وللفهارس العامة جـ1/187 فيه زيادة تفصيل عما في الاختيارات. (4) مدارج جـ1/514 وللفهارس العامة جـ1/187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 على خبر، وأنا مملوك، وقد خفت من الله عز وجل، وأريد براءة ذمتي من حق أستاذي من رقبتي. وقد سألت جماعة من المفتين، فقالوا لي: اذهب فاقعد في المستودع؛ فضحك شيخنا، وقال: تصدق بقيمتك أعلى ما كانت عن سيدك، ولا حاجة لك بالمستودع تقعد فيه عبثا في غير مصلحة، وإضرارا بك، وتعطيلا لمصالحك؛ ولا مصلحة لأستاذك في هذا ولا لك، ولا للمسلمين. أو نحو هذا من الكلام. والله أعلم (1) . [توبة من عاوض معاوضة محرمة وقبض ... ] المسألة الثانية: إذا عاوض غيره معاوضة محرمة وقبض العوض كالزانية والمغني وبائع الخمر وشاهد الزور ونحوهم، ثم تاب والعوض بيده. فقالت طائفة: يرده إلى مالكه؛ إذ هو عين ماله ولم يقبضه بإذن الشارع، ولا حصل لربه في مقابلته نفع مباح. وقالت طائفة: بل توبته بالتصدق به، ولا يدفعه إلى من أخذه منه. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (2) . فصل وأما التوبة النصوح فقد قال عمر بن الخطاب وغيره من السلف: هو أن يتوب ثم لا يعود. ومن تاب ثم عاد فعليه أن يتوب مرة ثانية، ثم إن عاد فعليه أن يتوب، وكذلك كلما أذنب ولا ييأس من روح الله. وإن لم تكن التوبة نصوحا فلعله إذا عاد إلى التوبة مرة بعد مرة مَنَّ الله عليه في آخر الأمر بتوبة نصوح.   (1) مدارج جـ1/390 وللفهارس العامة جـ1/187.. (2) مدارج جـ1/390 وللفهارس العامة جـ1/187. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 [التوبة النصوح. إذا تاب ثم عاد. ومن ختم له بسوء] والتائب إذا كانت نيته خالصة محضة لم يشبها قصد آخر فإنه لا يعود إلى الذنب؛ فإنه إنما يعود لبقايا غش كانت في نفسه، وقد قيل: إنه قد يعود من تاب توبة نصوحا. وقد يقال: إن الأول أرجح؛ فإن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لم يسخطه أبدا والقلب إذا باشر حقيقة الإيمان لم يتركه. وهذا أصل تنازع فيه الناس، وهو: أنه من ختم له بسوء: هل يقال إنه كان في أصل عمله غش فعاد إليه، أو كان عمله الأول خالصا لا غش فيه ثم انقلب وانتكس؟ على قولين والتوبة من هذا. والاستقراء يدل على أنه إذا خلص الإيمان إلى القلب لم يرجع عنه؛ ولكن قد يحصل له اضطراب، ويلقى الشيطان في قلبه وساوس وخطرات ويوجِدُ فيه هما، وأمثال ذلك كما شكى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه فقالوا: إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أو يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به. فقال: «أوقد وجدتموه» ؟ فقالوا: نعم. فقال: «ذلك صريح الإيمان» . وقال: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» والحديث في مسلم. فكراهة هذه الوساوس هي صريح الإيمان. والتائب في نفسه مع الهم والوساوس والميل مع كراهته لذلك، ويقول في قلبه ما لا يخرجه ذلك عن كونه توبة نصوحا. قال الإمام أحمد: الهم همان: هم خطرات، وهم إصرار؛ وكان هم يوسف هم خطرات، فترك ما هم به لله، فكتبه الله له حسنة ولم يكتب عليه سيئة، وكان هم امرأة العزيز هم إصرار فكذبت، وأرادت، وظلمت لأجل مرادها. وقد تنازع الناس في العزم الجازم هل يؤخذ به بدون العمل؟ على قولين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 والصواب: أن العزم الجازم متى اقترن به القدرة والإرادة فلا بد من وجود العمل. فإذا كان العازم قادرا ولم يفعل ما عزم عليه فليس عزمه جازما، فيكون من باب الهم الذي لا يأخذ الله به، ولهذا من عزم على معصية فعل مقدماتها ولو أنه يخطو خطوة برجله أو ينظر نظرة بعينه فإذا عجز عن إتمام مقصوده بها يعاقب؛ لأنه فعل ما يقدر عليه وترك ما عجز عنه (1) . [تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر] وتصح التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر، إذا كان المقتضي للتوبة منه أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر، أو كان المانع من أحدهما أشد. هذا هو المعروف عن السلف والخلف (2) . [معنى حجز التوبة من المبتدع] قال المروذي: سئل أحمد رضي الله عنه عما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن الله عز وجل احتجز التوبة عن صاحب بدعة» وحجز التوبة أي شيء معناه؟ قال أحمد: لا يوفق ولا ييسر صاحب بدعة لتوبة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [159/6] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هم أهل البدع والأهواء ليست لهم توبة» . قال الشيخ تقي الدين: لأن اعتقاده لذلك يدعوه إلى ألاَّ ينظر نظرًا تاما إلى دليل خلافه فلا يعرف الحق، ولهذا قال السلف: إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية. وقال أيوب السختياني وغيره: إن المبتدع لا يرجع. وأيضا التوبة من الاعتقاد الذي كثر ملازمة صاحبه له ومعرفته   (1) مختصر الفتاوى ص562، 563 وللفهارس العامة جـ 1/188، 340 وفيها زيادات كثيرة وتفصيل. (2) الآداب الشرعية جـ1 ص69 وللفهارس العامة جـ1/60 و 188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بحججه يحتاج إلى ما يقارب ذلك من المعرفة والعلم والأدلة ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اقتلوا شيوخ المشركين واستبقوا شبابهم» قال أحمد وغيره: لأن الشيخ قد عسى في الكفر فإسلامه بعيد (1) . [هل يعود بعد التوبة إلى درجته، أو أرفع؟] قال ابن القيم رحمه الله: واختلف الناس: هل يعود بعد التوبة إلى درجته التي كان فيها بناء على أن التوبة تمحو أثر الذنب وتجعل وجوده كعدمه فكأنه لم يكن؟ أو لا يعود بناء على أن التوبة تأثيرها في إسقاط العقوبة، وأما الدرجة التي فاتته فإنه لا يصل إليها؟ إلى أن قال: وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما مقبولا فقال: مثل درجته ومنهم من لا يصل إلى درجته (2) . قال الشيخ تقي الدين: التائب عمله أعظم من عمل غيره ومن لم تكن له مثل تلك السيئات، فإن كان قد عمل مكان سيئات ذلك حسنات فهذا درجاته بحسب حسناته فقد يكون أرفع من التائب إن كانت حسناته أرفع. وإن كان قد عمل سيئات ولم يتب منها فهذا ناقص. وإن كان مشغولا بما لا ثواب فيه ولا عقاب فهذا التائب الذي اجتهد في التوبة والتبديل له من العمل والمجاهدة ما ليس لذلك البطال (3) . هل تغفر للكافر الذنوب التي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام؟ فيه قولان معروفان. قال الشيخ تقي الدين: أحدهما: يغفر له الجميع؛ لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [38/8]   (1) الآداب الشرعية جـ1 ص69 وللفهارس العامة جـ1/60 و 188. (2) الجواب الكافي ص100، 101 وللفهارس العامة جـ1/188 وهي تشير إلى أن في المجموع ما يفيد أنه قد يصل إلى أعلى من درجته. (3) الآداب الشرعية جـ1/139 وللفهارس العامة جـ1/188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أي ينتهوا عن كفرهم، ولأنه اندرج في ضمن المحرم الأكبر فسقط بسقوطه. وفيه نظر. والثاني: لا نقله البغوي عن أحمد رواه الخلال، وهو ظاهر ما اختاره ابن عقيل. [غفران الذنوب التي فعلها الكافر حال كفر فيه تفصيل] قال الشيخ تقي الدين: وهذا القول الذي تدل عليه النقول والنصوص. وقال في موضع آخر: إنه إن تاب من جميع معاصيه غفر له، وإن أصر عليها لم يغفر له، وإن كان ذاهلا عن الإصرار والإقلاع إما ناسيا أو ذاكرا غير مريد للفعل ولا للترك غفر له أيضا. والحديثان يأتلفان على هذا -يعني حديث عمرو بن العاص- قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له: «يا عمرو أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله؟» رواه مسلم وغيره، وحديث ابن مسعود وهو في الصحيحين: أن ناسا قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنؤخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: «أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام» . قال الشيخ تقي الدين: فالإسلام لتضمنه التوبة المطلقة يوجب المغفرة المطلقة، إلا أن يقترن به ما ينافي هذا الاقتضاء وهو الإصرار، كما أنه يوجب الإيمان المطلق ما لم يناقضه كفر متصل. فالإصرار في الذنوب كالاعتقاد في التصديق. انتهى كلامه (1) . [الاستقامة] قال ابن القيم رحمه الله، بعد ذكره آيات الاستقامة، وتفسير السلف لها: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: استقاموا على محبته وعبوديته فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة (2) .   (1) الآداب جـ1/110، 111 وللفهارس جـ1/188. (2) مدارج جـ25 وللفهارس جـ1/191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ويقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة (1) . [إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتهمه فإن الرب تعالى شكور (2) (3) . [إذا بادرت النفس إلى الطاعة طواعية ... ] وإذا ارتاضت نفس العبد على الطاعة وانشرحت بها وتنعمت بها وبادرت إليها طواعية ومحبة كان أفضل ممن يجاهد نفسه على الطاعات ويكرهها عليها، وهو قول الجنيد وجماعة من أهل البصرة (4) . [الفرح بالله، ودخول جنته في الدنيا. جنة ابن تيمية وطيب حياته ... ] قال ابن القيم رحمه الله: ورأيت شيخ الإسلام -قدس الله روحه- في المنام وكأني ذكرت له شيئا من أعمال القلوب. وأخذت في تعظيمه ومنفعته -لا أذكره الآن- فقال: أما أنا فطريقتي: الفرح بالله والسرور به أو نحو هذا من العبارة. وهكذا كانت حاله في الحياة يبدو ذلك على ظاهره، وينادي به عليه حاله (5) . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة. وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.   (1) مدارج جـ2/176 في جـ11/191. (2) مدارج جـ2/68 وللفهارس جـ1/191. (3) قال ابن القيم: يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة وانشراحا وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول. (4) اختيارات 58 وللفهارس جـ1/191. (5) مدارج جـ2/104 وللفهارس جـ1/191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت لهم ملء هذه القلعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا. وكان يقول في سجوده وهو محبوس: «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» ما شاء الله. وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه. ولما أدخل إلى القلعة وصار داخل السور نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [13/57] . وعلم الله ما رأيت أحدا، أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيس وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه: فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحا، وقوة ويقينا وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها (1) . قال ابن القيم رحمه الله: وحدثني بعض أقارب شيخ الإسلام رحمه الله قال: كان في بداية أمره يخرج أحيانا إلى الصحراء يخلو عن   (1) الوابل الصيب ص105، 106 والمدارج جـ1/431، 454 وللفهارس جـ1/192. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 الناس لقوة ما يرد عليه، فتبعته يوما فلما أصحر تنفس الصعداء، ثم جعل يتمثل بقول الشاعر، وهو لمجنون ليلى في قصيدته الطويلة: وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس بالسر خاليا (1) وزاد مرعي بن يوسف الكرمي: وكان يتمثل كثيرا: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير (2) [الفخر والبغي. والفخر بالإسلام والشريعة] ولمسلم وأبي داود وغيرهما عن عياض بن حمار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد» . قال الشيخ تقي الدين في «اقتضاء الصراط المستقيم» : فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين نوعي الاستطالة؛ لأن المستطيل إن استطال بحق فهو المفتخر، وإن استطال بغير حق فهو الباغي؛ فلا يحل لا هذا، ولا هذا (3) . [الغضب] قال القاضي: ويستحب لمن غضب إن كان قائما جلس، وإذا كان جالسا اضطجع. وقال ابن عقيل: ويستحب لمن غضب أن يغير حاله فإن كان جالسا قام أو اضطجع، وإن كان قائما مشى. وقول القاضي هو الصواب. قاله الشيخ تقي الدين (4) . قال في «الفنون» : اعتبرت الأخلاق فإذا أشدها وبالاً «الحسد» . قال ابن الجوزي: الإنسان مجبول على حب الترفع على جنسه؛ وإنما يتوجه الذم إلى من عمل بمقتضى التسخط على القدر، أو ينتصب لذم المحسود قال: وينبغي أن يكره ذلك من نفسه.   (1) مدارج جـ3/59، 60 وللفهارس العامة جـ1/192. (2) الشهادة الزكية ص35. (3) الآداب جـ2/208 وللفهارس جـ1/193. (4) الآداب جـ2/271 وللفهارس العامة جـ1/193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 [الحسد ومد اليد واللسان، وإذا سمع من يذم أو يمدح] وذكر شيخنا: أن عليه أن يستعمل معه التقوى والصبر، فيكره ذلك من نفسه، ويستعمل معه التقوى والصبر، وذكر قول الحسن: لا يضرك ما لم تمد به يدا أو لسانا. قال: وكثير ممن عنده دين لا يعين من ظلمه ولا يقوم بما يجب من حقه؛ بل إذا ذمه أحد لم يوافقه ولا يذكر محامده وكذا لو مدحه أحد لسكت، وهذا مذنب في ترك المأمور لا معتد. وأما من اعتدى بقول أو فعل فذاك يعاقب. ومن اتقى وصبر نفعه الله بتقواه، كما جرى لزينب بنت جحش رضي الله عنها. وفي الحديث: «ثلاثة لا ينجو منهن أحد: الحسد، والظن، والطيرة. وسأحدثكم بالمخرج من ذلك: إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض» (1) . [الصمت] والتحقيق في الصمت: أنه إذا طال حتى يتضمن ترك الكلام الواجب صار حراما، كما قال الصديق: وكذا إن بعد بالصمت عن الكلام المستحب (2) . [اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك والفقهاء شعارا] واللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعارا فارقا، كما أمر أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم، فيه مسألتان: المسألة الأولى: هل يشرع ذلك استحبابا لتمييز الفقير والفقيه من غيره؟ فإن طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك، وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك؛ بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التميز عن الأمة وبثوب الشهرة. المسألة الثانية: أن لبس المرقعات والمصبغات والصوف من العباءة وغير ذلك فالناس فيه على ثلاثة طرق:   (1) الفروع جـ 6/584 وللفهارس العامة جـ1/192. (2) الاختيارات ص114 وللفهارس العامة جـ1/195 وجـ2/115 فيه زيادة إيضاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 منهم: من يكره ذلك مطلقا: إما لكونه بدعة، وإما لما فيه من إظهار الدين. ومنهم: من استحبه بحيث يلتزمه ويمتنع من تركه، وهو حال كثير ممن ينتسب إلى الخرقة واللبسة، وكلا القولين والفعلين خطأ. [ولبس المرقع والمصبغ والصوف. وتقطيع الثوب وترقيعه، والمغالاة في الصوف ... ] والصواب: أنه جائز كلبس غير ذلك، وأنه يستحب أن يرقع الرجل ثوبه للحاجة، كما رقع عمر ثوبه وعائشة وغيرهما من السلف، وكما لبس قوم الصوف للحاجة، ويلبس أيضا للتواضع والمسكنة مع القدرة على غيره، كما جاء في الحديث: «من ترك جيد اللباس وهو يقدر عليه تواضعا لله كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة» . فأما تقطيع الثوب الصحيح وترقيعه فهذا فساد وشهرة، وكذلك تعمد صبغ الثوب لغير فائدة، أو حك الثوب ليظهر التحتاني، أو المغالاة في الصوف الرفيع ونحو ذلك مما فيه إفساد المال ونقص قيمته، أو فيه إظهار التشبه بلباس أهل التواضع والمسكنة مع ارتفاع قيمته وسعره، فإن هذا من النفاق والتلبيس. فهذان النوعان فيهما إرادة العلو في الأرض بالفساد. والدار الآخرة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، مع ما في ذلك من النفاق. وأيضا فالتقيد بهذه اللبسة بحيث يَكرَهُ اللابس غيرها أو يُكْرِهُ أصحابه ألا يلبسوا غيرها هو أيضا منهي عنه (1) . [المحافظة على هذا الذكر سبب للقوة] حديث علي، ووصية النبي - صلى الله عليه وسلم - له ولفاطمة رضي الله تعالى عنهما أن يسبحا إذا أخذا مضاجعهما للنوم ثلاثا وثلاثين ويحمدا ثلاثا وثلاثين ويكبرا أربعا وثلاثين، وقال: «هو خير لكما من خادم» .   (1) الاختيارات ص77-79 هذا فيه زيادة عما في جـ11/555 وللفهارس العامة جـ1/195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: بلغنا أنه من حافظ على هذه الكلمات لم يأخذه إعياء فيما يعانيه من شغل غيره (1) . [قراءة هذه الآية على الدابة إذا استعصت] قال يونس بن عبيد: ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقول في أذنها: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [83/3] إلا وقفت بإذن الله. قال شيخنا -قدس الله روحه-: وقد فعلنا ذلك فكان كذلك (2) . قال ابن القيم: رحمه الله: الحادية والستون (3) أن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لا يطيق فعله بدونه. وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في مشيته وكلامه وإقدامه وكتابته أمرًا عجيبا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة أو أكثر. وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما إلى أن قال: [ما أعطي ابن تيمية من القوة بسبب الذكر] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر أثرا في هذا الباب ويقول: إن الملائكة لما أمروا بحمل العرش قالوا: يا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قالوها حملوه (4) . [غذاؤه ومتى يتركه] وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليَّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء لسقطت قوتي. أو كلاما قريبا من هذا.   (1) الوابل الصيب 208 وللفهارس العامة جـ1/197. (2) الوابل الصيب ص 260 وللفهارس العامة جـ1/197. (3) من فضائل الذكر التي عددها ابن القيم. (4) الوابل الصيب ص164، 165 وللفارس العامة جـ1/197. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر. أو كلاما هذا معناه (1) . [التعميم في الدعاء] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء على الأرض، وذكر في ذلك حديثا مرفوعا عن علي، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو يدعو، فقال: «يا علي عم، فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض» (2) .   (1) الوابل الصيب ص93 وللفهارس العامة جـ1/197. (2) بدائع الفوائد جـ2/174 وللفهارس العامة جـ1/199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الزهد والورع والزهد ضد الرغبة، وهو كالبغض المخالف للمحبة، والكراهة المخالفة للإرادة. [الزهد المشروع، وغير المشروع] وحقيقة المشروع منه: أن يكون بغضه وحبه وزهده فيه أو عنه تابعا لحب الله وكراهته، فيحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله، ويرضى ما يرضاه، ويسخط ما يسخطه، بحيث لا يكون تابعا لهواه؛ بل لأمر مولاه؛ فإن كثيرا من الزهاد في الدنيا أعرضوا عن فضولها ولم يقبلوا على ما يحبه الله ورسوله، وليس هذا الزهد هو الذي أمر الله به؛ ولهذا كان في المشركين زهاد، وفي أهل الكتاب زهاد وفي أهل البدع زهاد. ومن الناس من يزهد طلبا للراحة من تعب الدنيا، أو من مسألة أهلها والسلامة من أذاهم، أو لطلب الرياسة، إلى أمثال هذه الأنواع التي لم يأمر الله بها ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأما ما أمر الله به ورسوله: فهو أن يزهد فيما لا يحبه الله ورسوله، ويرغب فيما يحبه الله ورسوله؛ فيكون زهده عما لم يأمر الله به أمر إيجاب أو استحباب، سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا، ويكون مع ذلك مقبلا على ما أمر الله به، ولا يترك المكروه بدون فعل المحبوب؛ فإن (1) المقصود بالقصد الأول فهو فعل المحبوب، وترك   (1) لعله: فأما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 المكروه معين على ذلك، فتزكو النفس بذلك، كما يزكو الزرع إذا نقي من الدغل. وطريق الوصول إلى ذلك: هو الاجتهاد في فعل المأمور وترك المحظور، والاستعانة بالله على ذلك: فمن فعل ذلك وصل إلى حقيقة الإيمان؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله» بعد قوله: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» (1) . [ترك بعض المباحات من الزهد] وقال لي يوما شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة. أو نحو هذا من الكلام (2) . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: لمت بعض الإباحية فقال ذلك (3) ، ثم قال: والكون كله مراده، فأي شيء أبغض منه؟. [احتجاج بعض الصوفية الإباحية بالإرادة الكونية] قال الشيخ: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض أفعالا وأقوالا وأقواما وعاداهم فطردهم ولعنهم فأحببتهم تكون مواليا للمحبوب أو معاديا له؟ قال: فكأنما ألقم حجرا، وافتضح بين أصحابه، وكان مقدما فيهم مشارا إليه (4) .   (1) مختصر الفتاوى ص144، 145 موجود بعض معناه في المجموع انظر الفهارس جـ1/202. (2) مدارج جـ2/26 وللفهارس العامة جـ1/202. (3) قال: المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مراد المحبوب. (4) مدارج جـ3/14 وللفهارس العامة جـ1/202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 [المال. قد يكون تاجر أزهد من فقير] قال الشيخ تقي الدين: إذا سلم فيه القلب من الهلع واليد من العدوان كان صاحبه محمودا وإن كان معه مال عظيم، بل قد يكون مع هذا زاهدا أزهد من فقير هلوع، كما قيل للإمام أحمد. وذكر ما سبق في أول الفصل (1) وذكر الخبرين السابقين وما رواه الترمذي وحسنه وإسناده جيد عن الحسن، عن أبي سعيد مرفوعًا: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء» وعن سفيان أنه قيل له: يكون الرجل زاهدا وله مال؟ قال: نعم، إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر (2) . [لا بد في الدنيا من كدر] بينا يُرى الإنسان فيها مخبرا ... حتى يُرى خبرا من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذار والأكدار وكان الشيخ تقي الدين يتمثل كثيرا بهذين البيتين (3) . [الامتناع من أكل الطيبات ... ] ومن امتنع من الطيبات بلا سبب شرعي فمبتدع مذموم. وما نقل عن الإمام أحمد أنه امتنع من أكل البطيخ لعدم علمه بكيفية أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذب (4) . فصل أولياء الله: هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [62، 63/10] وهم على درجتين:   (1) لما سئل أحمد عن الزاهد يكون زاهدا ومعه مائة دينار قال نعم على شريطة إذا زادت لم يفرح وإذا نقصت لم يحزن. (2) الآداب الشرعية جـ2/241، 242 وللفهارس العامة جـ1/202. (3) الآداب جـ2/247 وللفهارس العامة جـ1/202. (4) اختيارات 323 وللفهارس العامة جـ1/204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 إحداهما: درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وهم الذين يؤدون الواجبات ويتركون المحرمات. والثانية: درجة السابقين المقربين، وهم الذين يؤدون الفرائض والنوافل ويتركون المحارم والمكاره. وإن كان لابد لكل عبد من توبة واستغفار يكمل بذلك مقامه. [أولياء الله. وهم على درجتين من لم يكن منهم أو كان منهم من وجه دون وجه] فمن كان عالما بما أمر الله به وما نهاه عنه، عاملا بموجب ذلك كان من أولياء الله سواء كانت لبسته في الظاهر لبسة العلماء أو الفقراء أو الجند أو التجار أو الصناع أو الفلاحين؛ لكن إن كان مع ذلك متقربا إلى الله بالنوافل كان من المقربين، وإن كان مع ذلك داعيا غيره إلى الله هاديا للخلق كان أفضل من غيره من أولياء الله، كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [11/58] . قال ابن عباس: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «العلماء ورثة الأنبياء، لأن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» «وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» رواهما أهل السنن. إذا تبين ذلك، فمن كان جاهلا بما أمر الله به وما نهاه عنه لم يكن من أولياء الله وإن كان فيه زهادة وعبادة لم يأمر الله بهما ورسوله كالزهد والعبادة التي كانت في الخوارج والرهبان ونحوهم. كما أن من كان عالما بأمر الله ونهيه ولم يكن عاملا بذلك لم يكن من أولياء الله؛ بل قد يكون فاسقا فاجرا كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظة طعمها مر ولا ريح لها» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 ويقال: ما اتخذ الله وليًا جاهلاً. أي جاهلاً بما أمره الله به ونهاه عنه. فأما من عرف ما أمر الله به وما نهى عنه وعمل بذلك فهو الولي لله وإن لم يقرأ القرآن كله، وإن لم يحسن أن يفتي الناس ويقضي بينهم. فأما الذي يرائي بعمله الذي ليس بمشروع، فهذا بمنزلة الفاسق الذي ينتسب إلى العلم ويكون علمه من الكلام المخالف لكتاب الله وسنة رسوله. فكل من هذين الصنفين بعيد عن ولاية الله تعالى؛ بخلاف العالم الفاجر الذي يقول ما يوافق الكتاب والسنة، والعابد الجاهل الذي يقصد بعبادته الخير؛ فإن كلا من هذين مخالف لأولياء الله من وجه دون وجه. فقد يكون في الرجل بعض خصال أولياء الله دون بعض، وقد يكون فيما ذكر معذورا بخطأ أو نسيان، وقد لا يكون معذورا. ومن قال: إن الأولياء أفضل من جميع الخلق، فقوله أظهر عند جميع أهل الملل من أن يشك في كذبه؛ بل هو معلوم بالضرورة أنه باطل؛ فإن الرسل أفضل، الأنبياء، وأولو العزم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أفضل من سائر المسلمين، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم؛ وليس يحتاج هذا أن يثبت بحديث ولا أثر، فقد رتب الله سبحانه خلقه فقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [69/4] فرتبهم على أربع طبقات. وأجمع المسلمون على أن من سب نبينا فقد كفر، ومن سب أحدا من الأولياء الذين ليسوا بأنبياء فإنه لا يكفر؛ إلا إذا كان سبه مخالفا لأصل من أصول الإيمان، مثل أن يتخذ ذلك السب دينا وقد علم أنه ليس بدين. وعلى هذا ينبني النزاع في تكفير الرافضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وقد اتفق المسلمون على أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير الأمم، وأن خير هذه الأمة أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأفضلهم السابقون الأولون، وأفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، رضي الله عنهم. ومن كان رسولا فقد اجتمعت فيه ثلاثة أصناف (1) : الرسالة، والنبوة، والولاية. ومن كان نبيا فقد اجتمع فيه الصفتان. ومن كان وليا فقط لم يكن فيه إلا صفة واحدة. ومن كان لكتاب الله أتبع فهو بولاية الله أحق. وقد أجمع المسلمون على أن موسى أفضل من الخضر، فمن قال: إن الخضر أفضل فقد كفر. وسواء قيل: إن الخضر نبي أو ولي. والجمهور على أنه ليس بنبي، بل أنبياء بني إسرائيل الذين اتبعوا التوراة، وذكرهم الله تعالى كداود وسليمان أفضل من الخضر؛ بل على قول الجمهور، أنه ليس بنبي فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما أفضل منه. وكونه يعلم مسائل لا يعلمها موسى لا يوجب أن يكون أفضل منه مطلقا كما أن الهدهد لما قال لسليمان {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [27/25] لم يكن أفضل من سليمان، وكما أن الذين كانوا يلقحون النخل لما كانوا أعلم بتلقيحه من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجب من ذلك أن يكونوا أفضل منه - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال لهم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم، أما ما كان من أمر دينكم فإلي» . وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كانوا يتعلمون ممن هو دونهم علم الدين الذي هو عندهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لم يبق بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة» ومعلوم أن ذريتهم (2) في العلم أفضل ممن حصلت له الرؤيا الصالحة.   (1) كذا بالأصل ولعله: أوصاف لما يأتي بعده. (2) كذا في الأصل ولعله: رتبتهم في العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وغاية الخضر أن يكون عنده من الكشف ما هو جزء من أجزاء النبوة فكيف يكون أفضل من نبي، فكيف بالرسول؟ فكيف بأولي العزم؟ (1) (2) .   (1) هذا الفصل فيه زيادات كثيرة عما كان مفرقا في المجموع، وموجز. وقد تقدم نقل حكم من سب نبيا إلخ. وحكم تفضيل الخضر. وإنما أعدت آخر الفتوى هنا لمناسبة ذكر الأولياء ومراتبهم، وتكميل أفضلية الرسل والأنبياء على الأولياء الذين ليسوا بأنبياء. (2) مختصر الفتاوى 558-561 وإلى الفهارس العامة جـ1/210. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أصول التفسير [أقوال التابعين في التفسير] وقال شيخنا: قول أحمد في الرجوع إلى قول التابعين عام في التفسير وغيره (1) . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: الصحيح منها (2) ما يدل عليه اللفظ بإشارته من باب قياس الأولى. قال: والصحيح في الآية: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [79/56] أن المراد به الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة: منها: أنه وصفه بأنه (مكنون) والمكنون هو المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة. [إشارة الآية، ومثالان] ومنها: أنه قال: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وهم الملائكة، ولو أراد المتوضئين لقال: (المتطهرين) فالملائكة مطهرون، والمؤمنون متطهرون. ومنها: أن هذا إخبار. ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم. والأصل في الخبر أن يكون خبرا صورة ومعنى. ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن،   (1) الفروع جـ1/ 558 وللفهارس جـ1/ 245. (2) من الإشارات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 فأخبر تعالى أنه: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [78/56] لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه، كما قال تعالى في آية الشعراء {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [210، 211/26] وإنما تناله الأرواح المطهرة، وهم الملائكة. ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [12-16/80] قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير قوله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس. ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار، وهذا المعنى أليق بالمقصود من فرع عملي، وهو حكم مس المحدث المصحف. ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة؛ إذ من المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا؛ بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله، لا يصل إليه الشيطان، ولا ينال منه، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية. فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك. فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: لكن تدل الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر؛ لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله؛ فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر. وسمعته يقول في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب» إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 عن دخول البيت فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلئ بكلاب الشهوات وصورها؟ فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة (1) . [من حفظه غير معرب] مسألة: ومن حفظ القرآن غير معرب فلم يمكنه أن يقرأه إلا بلسان العجم أو عجز عن حفظ إعرابه ونحوه فليقرأ كما يمكنه فهو أولى من تركه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) . [قراءته في الطرقات وكتابته بحيث يهان] قراءة القرآن في الطرقات وفي الأسواق منهي عنها؛ لأنها للتأكل بالقرآن، وفيه ابتذال القرآن، ولا يصغي إليه أحد (3) . ولا يجوز كتابة القرآن بحيث يهان، كما لو كتب على نصيبة قبر تبول عليه الكلاب ويدوسه الناس، كما لا يجوز أن يسافر به إلى أرض العدو. فتجب إزالته وإزالة ما كتب فيه من موضع الإهانة بالاتفاق (4) . [المزاح حال القراءة] وما كان مباحا في غير حال القراءة مثل المزاح الذي جاءت به الآثار -وهو أن يمزح ولا يقول إلا صدقا لا يكون في مزاحه كذب ولا عدوان- فهذا لا يفعل في حال قراءة القرآن؛ بل ينزه عنه مجلس القرآن. فليس كل ما يباح في حال غير القراءة يباح فيها، كما أنه ليس كل ما يباح خارج الصلاة يباح فيها، لاسيما ما يشغل القارئ والمستمع عن التدبر والفهم، مثل كونه يخايل ويضحك. فكيف واللغو والضحك حال القراءة من أعمال المشركين، كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [26/41] ،   (1) مدارج جـ1/416-418 أكثر هذه الوجوه ليس موجودًا في مجموع الفتاوى. وللفهارس العامة جـ1/243. (2) مختصر الفتاوى ص93 وللفهارس العامة جـ1/247. (3) مختصر الفتاوى ص211 وللفهارس العامة جـ1/248. (4) مختصر الفتاوى ص270 وللفهارس العامة جـ1/248. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وقال تعالى: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا} [9/45] ، وقال: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} [59، 60/53] . ووصف المؤمنين بأنهم يبكون ويخشعون حال القراءة. فمن كان يضحك حال القراءة فقد تشبه بالمشركين لا بالمؤمنين؛ وليس لمن أنكر عليه ذلك أن يقول للذي أنكر: أنت مراء؛ بل عليه أن يطيع الله ورسوله، ولا يكون ممن إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم (1) . [استعماله لغير ما أنزل له] وليس لأحد استعمال القرآن لغير ما أنزله الله له؛ وبذلك فسر العلماء الحديث المأثور: «لا يناظر بكتاب الله» أي لا يجعل له نظير يذكر معه، كقول القائل لمن قدم لحاجة: لقد {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [40/20] وقوله عند الخصومة: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [71/27] ، أو: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [107/9] . ثم إن خرجه مخرج الاستخفاف بالقرآن والاستهزاء به كفر صاحبه. وأما إن تلا الآية عند الحكم الذي أنزلت له أو كان ما يناسبه من الأحكام فحسن (2) . كقوله لمن دعاه إلى ذنب تاب منه: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [16/24] ، وقوله عند ما أهمه: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [86/12] . (3) [86/12] . [مسائل تتعلق بالمصحف] وأما جعل المصحف عند القبر فهو منهي عنه.. (4) . وأما كتابة القرآن على الدراهم والدنانير فمكروه.. (5) .   (1) مختصر الفتاوى ص605، 606 وللفهارس العامة جـ1/248. (2) مختصر الفتاوى ص578 والفروع جـ3/194 وللفهارس العامة جـ1/148. (3) كقوله لمن دعاه إلى آخر الفروع فقط. (4) ويأتي. (5) ويأتي في الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وأما القيام للمصحف وتقبيله فلا نعلم فيه شيئا عن السلف (1) . فتح الفأل فيه لم ينقل عن السلف؛ وليس من الفأل الذي يحبه الرسول (2) .   (1) جـ23 من المجموع ص65. (2) جـ3 من المجموع ص66. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 التفسير سورة الفاتحة قال ابن القيم رحمه الله: وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه-: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) [5/1] . وكثيرا ما سمعت شيخ الإسلام -قدس الله روحه- يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تدفع الرياء، و {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تدفع الكبرياء (2) . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: في بعض الآثار الإلهية يقول الله تعالى: «إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته» (3) . {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [6/1] قال بعض الناس في جوابه: إن كل عضو من أعضاء العبد وكل حاسة ظاهرة وباطنة مفتقرة إلى هداية خاصة به، فأتى بصيغة الجمع تنزيلا لكل عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه.   (1) مدارج جـ1/73 وللفهارس العامة جـ1/252. (2) مدارج جـ1/54 وللفهارس العامة جـ1/252. (3) مدارج جـ3/3 وللفهارس العامة جـ1/252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وعرضت هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية فاستدركه واستضعفه جدا وهو كما قال (1) . سورة البقرة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [5/2] قال شيخنا: الناس في الهدى الذي بعث الله تعالى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - أربعة أقسام. قد اشتملت عليهم هذه الآيات من أول السورة إلى ههنا (2) ، (3) . {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [34/2] . وأما عرض السجود على إبليس عند قبر آدم فقد ذكره بعض الناس، وأما عرضه عليه في الآخرة فما علمت أن أحدا ذكره, وكلاهما باطل (4) . وقوله (5) : في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [150/2] منقطع قد قاله أكثر الناس، ووجهه أن الظالم لا حجة له، فاستثناؤه مما ذكر قبله منقطع. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ليس الاستثناء بمنقطع؛ بل هو متصل على بابه، وإنما أوجب لهم أن حكموا بانقطاعه حيث ظنوا أن الحجة ههنا المراد بها الحجة الصحيحة الحق. والحجة في كلام الله نوعان: أحدهما الحجة الحق الصحيحة، كقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا   (1) بدائع جـ 2/39 فهارس جـ 1/253. (2) اجتماع الجيوش الإسلامية ص26 للفهارس جـ1/255. (3) قال ابن القيم رحمه الله في شرح هذه الأقسام: قسم قبلوه ظاهرًا وباطنًا وهم نوعان: أحدهما: أهل الفقه فيه والفهم والتعليم إلخ، والثاني: حفظوه وضبطوه وبلغوا ألفاظه إلى الأمة القسم، الثالث: من رده ظاهرًا وباطنًا وكفر به إلخ. انظر ص 26-32 من اجتماع الجيوش. (4) مختصر الفتاوى المصرية ص177 وللفهارس العامة جـ 1/256. (5) أبو القاسم السهيلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [83/6] ، وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [149/6] ويراد بها مطلق الاحتجاج بحق أو بباطل، كقوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} [20/3] ، وقوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [25/45] ، وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [258/2] ، وقوله: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [16/42] . وإذا كانت الحجة اسما لما يحتج به من حق وباطل (تبين) صحة استثناء حجة الظالمين من قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [150/2] ، وهذا في غاية التحقيق. والمعنى أن الظالمين يحتجون عليك بالحجة الباطلة الداحضة {فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} (1) [150/2] . {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال ابن القيم وقال لي شيخنا يوما لهذين الاسمين وهما الحي القيوم تأثير عظيم في حياة القلب وكان يشير إلى أنهما الاسم الأعظم (2) . سورة آل عمران وقوله: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [143/3] لأن الإنسان يشاهد بنفسه هذه الأمور. وقد قيل: إن الموت نفسه يشاهد ويرى ظاهرا. وقيل: المرئي أسبابه (3) .   (1) البدائع جـ 4/173 وللفهارس العامة جـ 1/260. (2) مختصر الفتاوى ص 176 وللفهارس العامة جـ 1/271. (3) المدارج جـ 1/482. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 سورة النساء فصل قال الله تعالى في سورة النساء بعد الآية التي أمر فيها بقواعد الشريعة: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [36/4] ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [36، 37/4] ، وقال في سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} إلى قوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [22، 23، 24/57] . ففي كلا الموضعين وصف المختال الفخور بأنه يبخل ويأمر الناس بالبخل وهذا-والله أعلم- موافق ما رواه أبو داود وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من الخيلاء ما يحبها الله، ومن الخيلاء ما يبغضها الله؛ فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل نفسه في الحرب، واختياله نفسه عند الصدقة» أو كما قال. «وأما الخيلاء التي يبغضها الله فالخيلاء في البغي والفخر» فإنه أخبر أن من الخيلاء ما يحبها الله، وهي الخيلاء في السماحة والشجاعة، ولذلك قال لأبي دجانة يوم أحد لما اختال بين الصفين فقال: «إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن» ، ولهذا جوزنا في أحد القولين ما رويناه عن عمر من لبس الحرير في الحرب؛ لأن الخيلاء التي فيه محبوبة في الحرب كما دل عليه الحديثان؛ وذلك -والله أعلم- لأن الاختيال من التخيل والتخيل من باب التصور الذي قد يكون تصورا للموجود، وقد يكون تصورا للمفقود. فإن كان مطابقا للموجود ومحمودا في القصد فهو تخيل حق نافع. وإن كان مخالفا للموجود مذموما في القصد فهو الباطل الضار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 والشجاعة والسماحة لابد فيها من قوة للنفس لا تتم إلا بتصور محبوب يحضه على الشجاعة والسماحة، وإلا ففي هذا بذل النفس وفي هذا بذل المال الذي هو مادة النفس، فإن لم تتصور النفس أمرا محبوبا تعتاض به عما تبذله من النفس والمال لم تأت الشجاعة والسماحة؛ فيحب الله تخيل المقاصد الرفيعة والمطالب العالية التي تحض على الشجاعة والسماحة؛ فإن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها، ويحب معالي الأمور. فهذا إذا كان تخيلاً مقصودًا. وأما إذا كان تخيلاً موجودًا فلأن الشجاعة التي مضمونها النصرة ودفع الباطل والضرر والسماحة التي مضمونها الرزق وإقامة الحق، والنفع، هما عظيمان في أنفسهما وإليهما ترجع صفات الكمال من جلب المنفعة ودفع المضرة، فإذا تخيل الفاعل نفسه عظيما عند صدور ذلك منه كان مطابقا فكان اعتقادا صحيحا نافعا؛ ولهذا لم يذكر أن الله يحبه إلا عند الحرب والصدقة؛ لأنه في هذا الموطن هو صحيح نافع؛ لأنه يحض على المحبوب، وما أعان على المحبوب فمحبوب. فأما بعد صدور ذلك منه فإنه فخر أو منّ والله لا يحب الفخور ولا المنان. وصار في هذه المنزلة بمنزلة شهوة الطعام عند الأكل وشهوة النكاح عند مضاجعة الرجل أهله، فإن كان ذلك نافعًا به تحصل المصلحة (1) . سورة المائدة قال ابن القيم رحمه الله: وقد اختلفت أقوال الناس في التوراة التي بين أيديهم هل هي مبدلة أم التبديل والتحريف وقع في التأويل لا في التنزيل؟ على ثلاثة أقوال: طرفين، ووسط. فأفرطت طائفة وزعمت أنها كلها مبدلة مغيرة. إلخ.   (1) الكلام هنا ناقص مجموع 69 ص134 وللفهارس العامة جـ1/273 و 336 هذه أطول مما في المجموع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وغلا بعضهم فجوز الاستجمار بها من البول. وقابلهم طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام فقالوا: التبديل وقع في التأويل لا في التنزيل إلى أن قال: وسمعت شيخنا يقول: وقع النزاع في هذه المسألة بين بعض الفضلاء فاختار هذا المذهب ووهن غيره، فأنكر عليه فأحضر لهم خمسة عشر نقلا به؛ إلى أن قال ابن القيم: وتوسطت طائفة ثالثة، وقالوا: قد زيد فيها وغير ألفاظا يسيرة؛ ولكن أكثرها باق على ما أنزل عليه، وممن اختار هذا القول شيخنا في كتابه «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» قال: وهذا كما في التوراة عندهم أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام: «اذبح ولدك بكرك ووحيدك إسحاق» فإسحاق زيادة منهم في لفظ التوراة (1) . سورة الأنعام {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [53/6] سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: هم الذين يعرفون قدر نعمة الإيمان ويشكرون الله عليها (2) . سورة الأعراف {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [28-33/7] .   (1) إغاثة اللهفان جـ4/353-355 وللفهارس العامة جـ1/274 وجـ2/500. (2) مدارج جـ2/481 وللفهارس العامة جـ1/281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 قال شيخنا: وفي هذا الوصف نصيب كبير لكثير من المنتسبين إلى القبلة: من الصوفية، والعباد، والأمراء، والأجناد، والمتفلسفة، والمتكلمين، والعامة وغيرهم، يستحلون من الفواحش ما حرم الله ورسوله ظانين أن الله أباحه أو تقليدا لأسلافهم (1) (2) . سورة الأنفال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [45/8] وفي أثر إلهي يقول الله تعالى: «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه» سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يستشهد به. وسمعته يقول: المحبون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال، كما قال عنترة: ولقد ذكرتك والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم وقال الآخر: ذكرتك والخطي يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر وقال آخر: ولقد ذكرتك والرماح شواجر ... نحوي وبيض الهند تقطر من دمي وهذا كثير في أشعارهم، وهو مما يدل على قوة المحبة، فإن ذكر   (1) إغاثة اللهفان جـ2/156 وبعد هذه العبارة: وأصله العشق الذي يبغضه الله ورسوله إلى آخره ص156، وص157، 158- الكلام متصل. ويحتمل أنه من كلام شيخ الإسلام أو شرح له من كلام ابن القيم فليراجعه من أراده هناك. (2) الفهارس العامة جـ1/283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 المحب محبوبه في تلك الحال التي لا يهم المرء فيها غير نفسه، يدل على أنه عنده بمنزلة نفسه أو أعز منها. وهذا دليل على صدق المحبة، والله أعلم (1) (2) . سورة التوبة {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [5/9] وليست هذه الحرم هي الحرم المذكورة في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [36/9] . قال شيخنا [من قال] : هذه هي تلك فقوله خطأ وذلك أن هذه قد بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح بأنها «ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» وهذه ليست متوالية فلا يقال فيها «فإذا انسلخت» فإن الثلاثة إذا انسلخت بقي رجب، فإذا انسلخ رجب بقي ثلاثة أشهر ثم يأتي الحرم، فليس جعل هذا انسلاخا بأولى من ذلك. ولا يقال لمثل هذا [انسلخ] إنما يستعمل هذا في الزمن المتصل. ثم إن جمهور الفقهاء على أن القتال في تلك الحرم مباح، فكيف يقول: فإذا انسلخ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب فاقتلوا المشركين وهو قد أباح فيها قتال المشركين (3) . قال ابن القيم رحمه الله: وقد ذكر الله سبحانه «السكينة» في كتابه في ستة مواضع:   (1) المدارج ص 427، 428 ويحتمل أن كلام ابن تيمية انتهى عند قوله في هذه الحال، وأن البقية شرح من ابن القيم. (2) للفهارس العامة جـ1/286. (3) أحكام أهل الذمة جـ2/480 وللفهارس العامة جـ1/287. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الأول: قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [248/2] . الثاني: قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [26/9] . الثالث: قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [40/9] . الرابع: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [4/48] . الخامس: قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [18/48] . السادس: قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} الآية [26/48] . وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا اشتدت عليه الأمور قرأ آيات السكينة وسمعته يقول في وقعة عظيمة جرت له في مرضه تعجز العقول عن حملها -من محاربة أرواح شيطانية ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة- قال: فلما اشتد عليَّ الأمر قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قلبة (1) .   (1) مدارج جـ2/502، 503 وللفهارس العامة جـ1/288. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 سورة يوسف قال ابن القيم رحمه الله: فصل وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق. قال شيخنا رضي الله عنه: وهذه الحجة ضعيفة فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال: إنه اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك. نعم تخلفه عنده كان يؤذيهم من أجل تأذي أبيهم والميثاق الذي أخذه عليهم، وقد استثنى في الميثاق بقوله: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [66/12] وقد أحيط بهم، ولم يكن قصد يوسف باحتباس أخيه الانتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا وكان في ذلك من الإيذاء لأبيه أعظم مما فيه من إيذاء إخوته، وإنما هو أمر أمره الله به ليبلغ الكتاب أجله، ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف كمال الجزاء، وتبلغ حكمة الله التي قضاها لهم نهايتها. ولو كان [يوسف] قصد القصاص منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف: هل يجوز له أن يسرق أو يخون من سرقه أو خانه مثل ما سرق منه أو خانه إياه؟ وقصة يوسف لم تكن من هذا الضرب نعم لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضا؛ فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، وهو أن يحبس رجل بريء ويعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جرم، ولو قدر أن ذلك وقع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 يوسف فلا بد أن يكون بوحي من الله ابتلاء منه لذلك المعتقل، كما ابتلي إبراهيم بذبح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيا خاصا كالوحي الذي جاء إبراهيم بذبح ابنه، وتكون حكمته في حق المبتلى امتحانه وابتلاؤه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه، وتكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس يوسف عنه، وهذا معلوم من فقه القصة وسياقها ومن حال يوسف، ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [76/12] فنسب الله تعالى هذا الكيد إلى نفسه، كما نسبه إلى نفسه في قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [15، 16/86] ، وفي قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [50/27] ، وفي قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [30/8] (1) (2) . قال ابن القيم رحمه الله: ثم في إعراب هذا الكلام وجهان: أحدهما: أن قوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [75/12] جملة مستقلة قائمة من مبتدأ وخبر. وقوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} جملة ثانية مؤكدة للأولى مقررة لها. وذكر ابن القيم الفرق بين الجملتين ثم قال: والقول الثاني أن {جَزَاؤُهُ} الأول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية ومعنى ذلك والفرق بين الجملتين: أن الأولى إخبار عن استحقاق المسروق لرقبة السارق.   (1) إعلام الموقعين جـ3/228، 229 وللفهارس العامة جـ1/293 وجـ 2/234. (2) لم يقل ابن القيم انتهى كلام شيخه ويحتمل أنه انتهى عند قوله: التي قضاها لهم نهايتها وقد استمر في الكلام على الكيد والمكر والاستهزاء والخداع المذكور في الآيات إلى ص 230. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 والثانية: إخبار أن هذه جزاؤه في شرعنا وحكمنا، فالأولى إخبار عن المحكوم عليه. والثانية إخبار عن الحكم، وإن كانا متلازمين، وإن أفادت الثانية معنى الحصر فإنه لا جزاء له غيره. والقول الثاني: أن {جَزَاؤُهُ} الأول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية، والمعنى جزاء السارق أن من وجد المسروق في رحله كان هو الجزاء كما تقول جزاء السرقة مَنْ سرق قطعت يده، وجزاء الأعمال من عمل حسنة فبعشر أو سيئة فبواحدة ونظائره. قال شيخنا رضي الله عنه: وإنما احتمل الوجهين لأن الجزاء قد يراد به نفس الحكم باستحقاق العقوبة، وقد يراد به نفس فعل العقوبة. وقد يراد به نفس الألم الواصل إلى المعاقب (1) . سورة الحجر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [75/15] . قال ابن القيم رحمه الله: وقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام رحمه الله أمورا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم، ووقائع فراسته تستدعي سفرا ضخما. أخبر أصحابه بدخول التتار الشام سنة تسع وتسعين وستمائة، وأن جيوش المسلمين تكسر، وأن دمشق لا يكون بها قتل عام، ولا سبي عام، وأن كلب الجيش وحدته تكون في الأموال. وهذا قبل أن يهم التتار بالحركة.   (1) إعلام الموقعين جـ3/231، 232 بعد هذا قوله: والمقصود أن إلهام الله لهم هذا الكلام يستمر إلى ص 233 ويظهر لي أن هذا شرح لكلام شيخه كعادته وانظر الفهارس العامة جـ1/93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 ثم أخبر الناس والأمراء سنة اثنتين وسبعمائة لما تحرك التتار وقصدوا الشام أن الدائرة والهزيمة عليهم، وأن الظفر والنصر للمسلمين، وأقسم على ذلك أكثر من سبعين يمينا. فيقال له: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا. وسمعته يقول ذلك. قال: فلما أكثروا علي قلت: لا تكثروا كتب الله في اللوح المحفوظ أنهم مهزومون في هذه الكرة، وأن النصر لجيوش الإسلام. قال: وأطعمت بعض الأمراء والعسكر حلاوة النصر قبل خروجهم إلى لقاء العدو. وكانت فراسته الجريئة (1) في خلال هاتين الواقعتين مثل المطر. ولما طلب إلى الديار المصرية، وأريد قتله -بعدما أنضجت له القدور، وقلبت له الأمور- اجتمع أصحابه لوداعه، وقالوا: قد تواترت الكتب بأن القوم عاملون على قتلك. فقال: والله لا يصلون إلى ذلك أبدا. قالوا: أفتحبس؟ قال: نعم ويطول حبسي، ثم أخرج وأتكلم بالسنة على رءوس الناس. سمعته يقول ذلك. ولما تولى عدوه الملقب بالجاشنكير الملك أخبروه بذلك، وقالوا: الآن بلغ مراده منك؛ فسجد لله شكرا، وأطال فقيل له: ما سبب هذه السجدة؟ فقال: هذه بداية ذله ومفارقة عزه من الآن وقرب زوال أمره. فقيل: متى هذا؟ فقال: لا تربط خيول الجند على القرط حتى تغلب دولته، فوقع الأمر مثل ما أخبر به سمعت ذلك منه. وقال مرة: يدخل عليّ أصحابي وغيرهم فأرى في وجوههم وأعينهم أمورا لا أذكرها لهم. فقلت له -أو غيري-: لو أخبرتهم؟ فقال: أتريدون أن أكون معرفا كمعرف الولاة؟. وقلت له يوما: لو عاملتنا بذلك لكان أدعى إلى الاستقامة والصلاح فقال: لا تصبرون معي على ذلك جمعة، أو قال: شهرا.   (1) في الأصل (الجزئية) وهو غلط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وأخبرني غير مرة بأمور باطنة تختص بي مما عزمت عليه ولم ينطق به لساني وأخبرني ببعض حوادث كبار تجري في المستقبل، ولم يعين أوقاتها. وقد رأيت بعضها وأنا أنتظر بقيتها. وما شاهده كبار أصحابه من ذلك أضعاف أضعاف ما شاهدته والله أعلم (1) . سورة الإسراء {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} . قال شيخنا رضي الله عنه: والصحيح أن المعنى: لابتغوا إليه سبيلا بالتقرب إليه وطاعته. فكيف تعبدونهم من دونه؟ وهم لو كانوا آلهة كما يقولون لكانوا عبيدا له. قال: ويدل على هذا وجوه: منها: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [57/17] أي هؤلاء الذين تعبدونهم من دوني هم عبادي كما أنتم عبادي يرجون رحمتي ويخافون عذابي فلماذا تعبدونهم من دوني؟! الثاني: أنه سبحانه لم يقل: {لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} بل قال {لابتغوا إليه سبيلا} ، وهذا اللفظ إنما يستعمل في التقريب، كقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} ، وأما في المغالبة فإنما يستعمل بعلى كقوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [34/4] . الثالث: أنهم لم يقولوا: إن آلهتهم تغالبه وتطلب العلو عليه، وهو سبحانه قد قال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} ، وهم إنما كانوا يقولون:   (1) مدارج جـ2/489، 490 وللفهارس العامة جـ1/295، وجـ2/242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 إن آلهتهم تبتغي التقرب إليه وتقربهم زلفى إليه، فقال: لو كان الأمر كما تقولون لكانت تلك الآلهة عبيدا له، فلماذا تعبدون عبيده من دونه؟ (1) . سورة الكهف وقوله سبحانه: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} [86/18] العين في الأرض ومعنى {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ} أي في رأي الناظر باتفاق المفسرين؛ وليس المراد أنها تسقط من الفلك فتغرب في تلك العين؛ فإنها لا تنزل من السماء إلى الأرض، ولا تفارق فلكها. والفلك فوق الأرض من جميع أقطارها لا يكون تحت الأرض؛ لكن إذا تخيل المتخيل أن الفلك محيط بالأرض توهم أن ما يلي رأسه هو أعلاه وما يلي رجليه هو أسفله، وليس الأمر كذلك؛ بل جانب الفلك من هذا الجانب كجانبه من المشرق والمغرب، والسماء فوق الأرض بالليل والنهار، وإنما السفل هو أضيق مكان في الأرض وهو المركز الذي إليه تنتهي الأثقال. وكل ما تحرك من المركز إلى السماء من أي جانب كان فإنه يصعد من الأسفل إلى الأعلى. والله أعلم (2) . سورة طه {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [84/20] ظاهر الآية أن الحامل لموسى على العجلة هو طلب رضى ربه، وأن رضاه هو المبادرة إلى أوامره والعجلة إليها؛ ولهذا احتج السلف بهذه الآية على أن الصلاة في أول الوقت أفضل. سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر ذلك قال: إن رضى الرب في العجلة إلى أوامره (3) .   (1) الجواب الكافي ص242. هذه الوجوه غير موجودة في المجموع وللفهارس العامة جـ1/298. (2) مختصر الفتاوى ص579 وللفهارس العامة جـ1/299. (3) مدارج جـ3/59 وللفهارس العامة جـ1/301 وجـ2/51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [124/20] الآية تشمل الكافر فله منها حق الوعيد. وتشمل المؤمن المرتكب الكبيرة فله نصيب من ضنك العيش بقدر إعراضه عن الذكر. ومذهب أهل السنة أن الشخص الواحد تجتمع فيه الحسنات والسيئات فيستحق الثواب والعقاب جميعًا (1) . سورة الأنبياء {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [104/21] وكذلك طي السماء قبل الأرض بأربعين سنة باطل (2) . عن ابن عباس قال: السجل كاتب كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال ابن القيم رحمه الله: سمعت شيخنا أبا العباس ابن تيمية يقول: هذا الحديث موضوع، ولا يعرف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كاتب اسمه السجل قط (3) . سورة النور فصل ما يعلمه الإنسان من حق وباطل فإنه يقوم بقلبه ويحل بروحه المنفوخة فيه المتصلة بالقلب الذي هو المضغة الصنوبرية الشكل. وقد قيل: إنه يقوم بجميع الجسد، وليس لبعض ذلك مكان من الجسد يتميز به عن مكان آخر باتفاق الناس؛ وإنما الروح هي التي يعبر عن محلها الأول بالقلب تارة، وتسميها الفلاسفة النفس الناطقة، وهي   (1) مختصر الفتاوى ص 189 وللفهارس العامة جـ1/301. (2) مختصر الفتاوى ص 250 وللفهارس العامة جـ1/303. (3) تهذيب السنن جـ4/299 وللفهارس العامة جـ1/303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 الحاملة لجميع الاعتقادات فتنور قلوب المؤمنين وأرواحهم بالمعارف الإلهية، وتظلم قلوب الكافرين بالعقائد الفاسدة، كما ضرب الله مثل المؤمن والكافر في سورة النور. وما يحصل عند الذكر المشروع من البكاء ووجل القلب واقشعرار الجسوم فمن أفضل الأحوال التي نطق بها الكتاب. أما الاضطراب الشديد والغشي والصيحان فإن كان صاحبه لم يعلم ما هو عليه لم يلم، وسببه قوة الوارد مع ضعف القلب، والقوة والتمكن أفضل كما هو حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وأما السكون قسوة وجفاء فهو مذموم (1) . سورة العنكبوت قال شيخ الإسلام بحر العلوم مفتى الفرق أبو العباس أحمد ابن تيمية رحمه الله: فصل قال الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ   (1) مختصر الفتاوى ص 100 وللفهارس العامة جـ1/309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [1-11/29] . وقال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [214/2] . وقال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} [106/16] ، قال بعد ذلك: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [110/16] . فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما ألا يقول: آمنا؛ بل يستمر على عمل السيئات فمن قال (آمنا) امتحنه الرب عز وجل وابتلاه وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب. ومن لم يقل: (آمنا) فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته، فإن أحدا لن يعجز الله تعالى. هذه سنته تعالى يرسل الرسل إلى الخلق فيكذبهم الناس ويؤذونهم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [112/6] ، وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [52/51] ، وقال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [43/41] . ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه فابتلي بما يؤلمه؛ وإن لم يؤمن بهم عوقب فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم، فلابد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أو كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة, والكافر تحصيل له النعمة ابتداء، ثم يصير في الألم. سأل رجل الشافعي فقال: يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى؛ فإن الله ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم. فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم ألبتة، وهذا أصل عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد؛ فإن الإنسان مدني بالطبع لابد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه. وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب: تارة منهم، وتارة من غيرهم. ومن اختبر حاله وأحوال الناس وجد من هذا شيئا كثيرا، كقوم يريدون الفواحش والظلم، أو لهم أقوال باطلة في الدين أو شرك، فهم مرتكبون بعض ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [33/7] ، وهم في مكان مشترك كدار جامعة أو خان أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أن مدينة فيها غيرهم، وهم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت فإن وافقوهم أو سكتوا سلموا من شرهم في الابتلاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافونه ابتداء؛ كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل؛ إما في الخبر وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم، فإن لم يجبهم آذوه وعادوه. وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه، وإلا عذب بغيرهم. فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية ويروى موقوفا ومرفوعا: «من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس» ، وفي لفظ: «رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا» وفي لفظ: «وعاد حامده من الناس ذاما» . وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم. فمن هداه الله وأرشده امتنع عن فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها وولاتها. وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطان المخالفة، كالمكره على الكفر كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. إذ المقصود هنا أنه لابد من الابتلاء بما يؤذي الناس؛ لا خلاص لأحد مما يؤذيه ألبته؛ ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع أنه لابد أن يبتلي الناس، والابتلاء يكون بالسراء والضراء، ولا بد أن يبتلي الإنسان بما يسره وما يسوؤه فهو محتاج إلى أن يكون صابرا شكورا، قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [7/18] ، وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [168/7] ، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [123، 124/20] ، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [142/3] هذا في آل عمران، وقد قال قبل ذلك في البقرة؛ فإن البقرة نزل أكثرها قبل آل عمران: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [214/2] . وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء، كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتتن في كير الامتحان، إذ كانت النفس جاهلة ظالمة وهي منشأ كل شر يحصل للعبد، فلا يحصل له شر إلا منها، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [79/4] ، وقال تعالى: {أو لما أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [165/3] ، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [30/42] ، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [53/8] ، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [11/13] . وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت. وفي كل ذلك يقول: (إنهم ظلموا أنفسهم) فهم الظالمون لا المظلومون. وأول من اعترف بذلك أبواهم: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [23/7] ، وقال لإبليس: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [85/38] ، وإبليس إنما اتبعه الغواة منهم، كما قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [39، 40/15] ، وقال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [42/15] والغي اتباع هوى النفس. وما زال السلف معترفين بذلك، كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود: فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله رسوله بريئان منه. وفي الحديث الإلهي حديث أبي ذر الذي يرويه الرسول عن ربه عز وجل: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ،وفي الحديث الصحيح حديث سيد الاستغفار أن يقول العبد: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها إذا أمسى موقنا بها فمات من ليلته دخل الجنة» وفي حديث أبي بكر الصديق من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه: «اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء وملكيه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك» وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: «الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا» وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون تهافت الفراش» شبههم بالفراش لخفة حركته، وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 صغيرة النفس فإنها سريعة الحركة وفي الحديث: «مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة» وفي حديث آخر: «للقلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا» ومعلوم سرعة حركة الريشة والقدر مع الجهل؛ ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه: إنه استخفه قال عن فرعون إنه استخف قومه فأطاعوه، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [60/30] فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش، وصاحب اليقين ثابت. يقال: أيقن. إذا كان مستقرا واليقين: استقرار الإيمان في القلب علما وعملا فقد يكون علم العبد جيدا، لكن نفسه لا تصبر على المصائب بل تطيش. قال الحسن البصري: إذا شئت أن ترى بصيرا لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته فإذا رأيت بصيرا صابرا فذاك قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [24/32] ؛ ولهذا تشبه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادها وغضبها وشهوتها من النار، والشيطان من النار، وفي السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» . وفي الحديث الآخر: «الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟» ، وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام وفي الحديث المتفق على صحته: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» ، وفي الصحيحين أن رجلين استبا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اشتد غضب أحدهما فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» وقد قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [34-36/41] ، وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [96-98/23] (1) . سورة الأحزاب {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [6/33] . وفي كتاب «الزهد» للإمام أحمد: أن المسيح عليه السلام قال للحواريين: «إنكم لن تلجوا ملكوت السموات حتى تولدوا مرتين» . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: «هي ولادة الأرواح والقلوب من الأبدان وخروجها من عالم الطبيعة، كما ولدت الأبدان من البدن وخرجت منه» . والولادة الأخرى هي الولادة المعروفة والله أعلم (2) . وقال ابن القيم رحمه الله بعد النقل عن شيخ الإسلام ما ذكره عن المسيح في المجلد الثالث من المدارج: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر ذلك، ويفسره بأن الولادة نوعان: أحدهما: هذه المعروفة. والثاني: ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفس وظلمة الطبع.   (1) الفوائد لابن القيم ص 206-212 وإلى الفهارس العامة والتقريب جـ1/313. (2) المدارج جـ3/140 وللفهارس العامة جـ1/316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 قال: وهذه الولادة لما كانت بسبب الرسول كان كالأب للمؤمنين، وقد قرأ أبي بن كعب رضي الله عنه: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم) ، قال: وهذا معنى القراءة والآية في قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} إذ ثبوت أمومة أزواجه لهم فرع عن ثبوت أبوته. قال: فالشيخ، والمعلم، والمؤدب أبو الروح، والوالد أبو الجسم (1) . وليس للأب إلا ما يدعو به الولد له، فظهر معنى قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فهو الأب الروحاني والوالد الأب الجثماني وهو - صلى الله عليه وسلم - سبب السعادة الأبدية للمؤمن في الدنيا والآخرة، والأب سبب لوجوده في الدنيا. ومعلوم أن الإنسان يجب عليه أن يطيع معلمه الذي يدعوه إلى الخير ويأمره الله، ولا يجوز له أن يطيع أباه في مخالفة هذا الداعي لأنه يدله على ما ينفعه ويقربه إلى ربه ويحصل له باتباعه السعادة الأبدية. فظهر فضل الأب الروحاني على الأب الجثماني؛ فهذا أبوه في الدين، وذاك أبوه في الطين، وأين هذا من هذا؟! وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين في الحرمة، لا في المحرمية، ولهن من الاحترام ما ليس للأم الوالدة (2) . سورة فاطر {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [11/35] . أما الدعاء بطول العمر فقد كرهه الأئمة، وكان أحمد إذا دعا له   (1) المدارج جـ1/69، 70 وللفهارس العامة جـ1/316. (2) مختصر الفتاوى ص 176 وللفهارس العامة جـ1/316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أحد بطول العمر يكره ذلك ويقول: هذا أمر قد فرغ منه. وحديث أم حبيبة رضي الله عنها لما طلبت إمتاعها بزوجها وأبيها وأخيها فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سألت الله لآجال مضروبة وآثار مبلوغة، وأرزاق مقسومة» ففيه أن العمر لا يطول بهذا السبب الذي هو الدعاء فقط (1) . سورة الشورى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [52/42] . قال ابن القيم رحمه الله: وقد اختلفوا في مفسر المضمر من قوله تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} فقيل: هو الإيمان لكونه أقرب المذكورين. وقيل: هو الكتاب فإنه النور الذي هدى الله به عباده. قال شيخنا: والصواب أنه عائد على الروح المذكور في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} الآية، فسمي وحيه روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح التي هي الحياة في الحقيقة، ومن عدمها فهو ميت لا حي (2) . سورة النجم وجرت عادة القوم أن يذكروا في هذا المقام (3) قوله تعالى عن نبيه   (1) مختصر الفتاوى ص 263، 264 وللفهارس العامة جـ1/319. (2) اجتماع الجيوش الإسلامية ص38، 39 وللفهارس العامة جـ1/327. (3) مقام الأدب مع الله. انظر ص376 من المدارج جـ2/ فصل: والآداب ثلاثة أنواع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 - صلى الله عليه وسلم - حين أراه ما أراه {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [17/53] وأبو القاسم القشيري صدر «باب الآداب» بهذه الآية، وكذلك غيره. وكأنهم نظروا إلى قول من قال من أهل التفسير: إن هذا وصف لأدبه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا ولا تجاوز ما رآه، وهذا كمال الأدب والإخلال به أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله أو يتطلع أمام المنظور. فالالتفات زيغ، والتطلع إلى ما أمام المنظور طغيان ومجاوزة، فكمال إقبال الناظر على المنظور ألا ينصرف بصره عنه يمنة ولا يسرة ولا يتجاوزه هذا معنى ما حصلته عن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه (1) . سورة التغابن وقوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [14/64] (من) للتبعيض بالاتفاق (2) .   (1) مدارج جـ2/382 وللفهارس العامة جـ1/333. (2) مختصر الفتاوى المصرية ص147 وللفهارس العامة جـ1/339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الحديث (1) (2) «ابتاعيها واشترطي لهم الولاء؛ فإنما الولاء لمن أعتق» . قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر أقوال الطوائف في هذا الحديث وهي خمسة: قال شيخنا: بل الحديث على ظاهره، ولم يأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - باشتراط الولاء تصحيحا لهذا الشرط ولا إباحة له، ولكن عقوبة لمشترطه؛ إذ أبى أن يبيع جارية للمعتق إلا باشتراط ما يخالف حكم الله تعالى وشرعه، فأمرها أن تدخل تحت شرطهم الباطل ليظهر به حكم الله ورسوله؛ لأن الشروط الباطلة لا تغير شرعه، وأن من شرط ما يخالف دينه لم يجز أن يوفى له بشرطه، ولا يبطل البيع به، وأن من عرف فساد الشرط وشرطه ألغي اشتراطه ولم يعتبر (3) . قوله في حديث أبي بكر رضي الله عنه: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» .   (1) أما مصطلح الحديث الذي موضعه في الفهارس العامة قبل الحديث فالموجود منه ضمن مسودة آل تيمية وسيأتي ضمن أصول الفقه في الجزء الثاني إن شاء الله. (2) مرتب على حروف الهجاء. (3) إعلام الموقعين جـ4/338، 339 وللفهارس العامة جـ1/380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 قال الحكيم الترمذي: هذا عبد اعترف بالظلم ثم التجأ إليه مضطرا لا يجد لذنبه ساترا غيره. ثم سأله مغفرة من عنده والأشياء كلها من عنده ولكن أراد شيئا مخصوصا ليس مما يذكر للعامة فلله رحمة قد عمت الخلق برهم وفاجرهم، سعيدهم وشقيهم، ثم له رحمة خص بها المؤمنين خاصة وهي رحمة الإيمان، ثم له رحمة خص بها المتقين وهي رحمة الطاعة لله تعالى، ولله رحمة خص بها الأولياء نالوا بها الولاية، وله رحمة خص بها الأنبياء نالوا بها النبوة، وقال الراسخون في العلم: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [8/3] فسألوه رحمة من عنده، فهذا صورة ما شرحه ولم يذكر صفة الظلم وأنواعه كما ذكر صفة الرحمة. وليعلم أن الدعاء الذي فيه اعتراف العبد بظلمه لنفسه ليس من خصائص الصديقين ومن دونهم بل هو من الأدعية التي يدعوا بها الأنبياء وهم أفضل الخلق، قال الله تعالى عن آدم وحواء: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [23/7] وقال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} [16/28] والخليل عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [41/14] {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [82/26] ، وقال هو وإسماعيل عليه السلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إلى قوله: {وَتُبْ عَلَيْنَا} [127، 128/2] ، وقال يونس عليه السلام: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [87/21] . وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: «ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي» ، وثبت عنه: «اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وعلانيته وسره وأوله وآخره. اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت» وفي الركوع والسجود كان يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي -يتأول القرآن» . وقال له ربه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [55/40] وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [19/47] وسورة النصر آخر ما نزل بعد قوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [2/48] فقال له الناس: «هذا لك فما لنا» ؟ قال: فأنزل الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [4/48] . وفي هذا رد على الطائفة الذين يقولون: معنى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [2/48] هو ذنب آدم {وَمَا تَأَخَّرَ} هو ذنب أمته؛ فإن هذا القول وإن لم يقله أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين فقد قاله طائفة من المتأخرين. ويظن بعض الجهال أنه قول شريف، وهو كذب على الله وتخريف، فإنه قد ثبت أن الناس يوم القيامة يأتون آدم فيعتذر إليهم ويذكر خطيئته. فلو كان ما تقدم هو ذنب آدم لم يكن يعتذر وقد قالت الصحابة رضي الله عنهم: «هذا لك فما لنا» فلو كان ما تأخر مغفرة ذنوبهم لكان قال: هذا لكم. وأيضا فقد قال الله له: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} فكيف تضاف ذنوب الفساق إليه ويجعل الزنا والسرقة وشرب الخمر ذنبا له؟ : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [18/35] وأي فرق بين ذنب آدم ونوح وإبراهيم وكلهم آباؤه؟ وقد قال في غير موضع: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [54/24] فكيف يكون ذنب أمته ذنبا له؟ هذا لا يخفى فساده على من له أدنى تدبر وإن كان قاله طائفة من المصنفين في العصمة، حتى ترى ذلك في كلام بعض من له قدم صدق من أهل السنة، لكن الغلو أوجب اتباع الجهال الضلال؛ فإن أصل ذلك من المبتدعين الضالين، وأولهم «الرافضة» فإنهم لما ادعوا العصمة في علي وغيره حتى من الخطأ احتاجوا أن يثبتوا ذلك للأنبياء بطريق الأولى. ولما نزهوا عليا رضي الله عنه ومن دونه أن يكون له ذنب يستغفر منه كان تنزيههم للرسول أولى. وكذلك «القرامطة» لما ادعوا عصمة أئمتهم الإسماعيلية القرامطة الباطنية الفلاسفة الدهرية وعبدوهم وادعوا فيهم الإلهية كما كانت الغالية تعتقد في علي وغيره الإلهية أو النبوة وكما ألزموا الدعوة للمنتظر وأنه معصوم وقالوا: دخل في سرداب سامرا سنة ستين ومائتين وهو طفل غير مميز، وصار مثل هذا يدّعي حتى ادعى ابن التومرت المغربي صاحب «المرشدة» أنه المهدي صار طائفة من الغلاة في مشايخهم يعتقدون لهم العصمة بقلوبهم أو يقولون: إنه محفوظ والمعنى واحد. ولو أقر له بلسانه عامله بالعصمة بقلبه. فهؤلاء إذا اعتقدوا العصمة في بعض العوام كيف لا يعتقدون ذلك في الأنبياء؟ فإن كان من المسلمين من اعتقد أن الأنبياء أفضل من شيخه وإمامه وهو يعتقد عصمة شيخه فهو يعتقد عصمتهم بطريق الأولى. وإن كان من الزنادقة الذي يعتقدون أن الشيخ أفضل من النبي -كما يقوله المتفلسفة والشيعة وغلاة الصوفية الاتحادية وغيرهم- فلا بد لهؤلاء أن يقروا الغلو في الأنبياء وحتى يوافقهم الناس على الغلو في أئمتهم. وهذا كله من شعب النصرانية الذين قال الله فيهم: {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [77/5] إلى قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ} إلى قوله: {سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} إلى قوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [171، 172/4] وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، بل قولوا عبد الله فإنما أنا عبد الله» و «إنما أضل من كان قبلكم الغلو في الدين» وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لتركبن سنن من كان قبلكم» ومن قبلنا قصدوا تعظيم الأنبياء والصالحين فوقعوا في تكذيبهم؛ فإن المسيح قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} [30/19] فكذبوه، وقالوا: ما هو عبد الله، بل هو الله، وأشركوا به. وكذلك الغالية في علي وغيره فإنه حرق الغالية فيه، ونقل عنه من نحو ثمانين وجها: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر» . ويذكر ذلك عن ابن الحنفية كما رواه البخاري، والشيعة تكذبه فهم معه كالنصارى مع المسيح واليهود مع موسى. وكذلك اتباع المشايخ يغلون فيهم، ويتركون الطريقة التي يحبها الله ورسوله. وهذا باب دخل منه الشيطان على خلق كثير فأضلهم حتى جعل أحدهم قول الحق تنقيصا له، كما إذا قيل للنصارى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [75/5] قالوا: هذا تنقص بالمسيح وسوء أدب معه. وهكذا المنتسبون إلى هذه الأمة تجد أحدهم يغلو في قدوته حتى يكره أن يوصف بما هو فيه، ومع هذا فهو يكذبه ويقول عليه العظائم. وهذا باب يطول والمقصود التنبيه. إذا عرف ذلك فقد اتفق سلف الأمة وجميع الطوائف الذين لهم قول معتبر أن من سوى الأنبياء ليس بمعصوم لا من الخطأ ولا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الذنوب سواء كان صديقا أولم يكن ولا فرق بين أن يقول: هو معصوم أو محفوظ أو ممنوع. وقد قال الأئمة: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا اتفق الأئمة على أنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم فيما يبلغه عن دربه، وقد اتفقوا على أنه لا يقر على الخطأ في ذلك، وكذلك لا يقر على الذنوب لا صغائرها ولا كبائرها. ولكن تنازعوا: هل يقع من الأنبياء بعض الصغائر مع التوبة منها، أو لا يقع بحال؟ فقال بعض متكلمي الحديث وكثير من المتكلمين من الشيعة والمعتزلة: لا تقع منهم الصغيرة بحال، وزاد الشيعة حتى قالوا: لا يقع منهم لا خطأ ولا غير خطأ. وأما السلف وجمهور أهل الفقه والحديث والتفسير وجمهور متكلمي أهل الحديث من الأشعرية وغيرهم فلم يمنعوا وقوع الصغيرة إذا كان مع التوبة كما دلت عليه النصوص من الكتاب والسنة؛ فإن الله يحب التوابين. وإذا ابتلي بعض الأكابر بما يتوب منه فذاك لكمال النهاية لا لنقص البداية، كما قال بعضهم: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه، لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه. وأيضا فالحسنات تتنوع بحسب المقامات، كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين. فمن فهم ما تمحوه التوبة وما ترفع صاحبها إليه من الدرجات وما يتفاوت الناس فيه من الحسنات والسيئات زالت عنه الشبه في هذا الباب وأقر الكتاب والسنة على ما فيهما من الهدى والصواب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فإن «الغلاة» يتوهمون أن الذنب إذا صدر من العبد كان نقصا في حقه لا ينجبر حتى يجعلوا من لم يسجد لصنم أفضل منه. وهذا جهل، فإن المهاجرين والأنصار الذين هم أفضل هذه الأمة هم أفضل من أولادهم وغير أولادهم ممن ولد على الإسلام، وإن كانوا في أول الأمر كفار يعبدون الأصنام، بل المنتقل من الضلال إلى الهدى يضاعف له الثواب كما قال تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [70/25] فالله سبحانه أفرح بتوبة عبده من الذي طلب راحلته في الأرض المهلكة ثم وجدها فإذا كانت التوبة بهذه المثابة كيف لا يكون صاحبها معظما؟ وقد وصف الإنسان بالظلم والجهل، وجعل الفرق بين المؤمن والكافر والمنافق أن المؤمن يتوب فيتوب الله عليه إذ لم يكن له بد من الجهل فقال تعالى: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [73/33] و «خير الخطائين التوابون» و «كل بني آدم خطاؤون» . وقد ذكر الله الذين وعدهم الحسنى فلم ينف عنهم الذنوب فقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} إلى قوله: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [33-35/39] فذكر المغفرة والتكفير، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [16/46] ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» . واعلم أن كثيرا من الناس يسبق إلى ذهنه من ذكر الذنوب الزنا والسرقة ونحو ذلك فيستعظم أن كريما يفعل ذلك، ولا يعلم هذا المسكين أن أكثر عقلاء بني آدم لا يسرقون؛ بل ولا يزنون حتى في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 جاهليتهم وكفرهم؛ فإن أبا بكر وغيره قبل الإسلام ما كانوا يرضون أن يفعلوا مثل هذه الأعمال، ولما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية بيعة النساء على أن لا يسرقن ولا يزنين قالت: «أو تزني الحرة» ؟ فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنا إلا للإماء، وكذلك اللواط، فأكثر الأمم لم تعرفه ولم يكن يعرف في العرب قط. ولكن الذنوب تتنوع وهي كثيرة الشعب: كالتي هي من باب الضلال في الإيمان والبدع التي هي من جنس العلو في الأرض بالفساد، والفخر والخيلاء والحسد والكبر والرياء هي في الناس الذين هم متفقون على الفواحش. وكذلك الذنوب التي هي ترك الواجبات كالإخلاص، والتوكل على الله، ورجاء رحمته، وخوف عذابه، والصبر على بلائه، والصبر على حكمه، والتسليم لأمره، والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوه وتحقيق ما يجب من المعارف والأعمال يطول. وإذا علم ذلك فظلم العبد نفسه يكون بترك ما ينفعها وهي محتاجة إليه، وبفعل ما يضرها كما أن ظلم الغير كذلك: إما بمنع حقه أو التعدي. والنفس إنما تحتاج من العبد إلى فعل ما أمر الله به. وإنما يضرها فعل ما نهى الله عنه، فظلمه لا ينفك عن ترك حسنة أو فعل سيئة، وما يضطر العبد إليه حتى أكل الميتة داخل في هذا فأكلها عند الضرورة واجب في المشهور من مذهب الأئمة الأربعة. وكذلك ما يضرها من جنس العبادات مثل الصوم الذي يزيد في مرضها والاغتسال بالماء البارد الذي يقتلها هو من ظلمها فإن الله أمر العباد بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم وجاء القرآن بالأمر بالصلاح والنهي عن الفساد والصلاح كله طاعة، والفساد كله معصية وقد لا يعلم بعض الناس ذلك على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 حقيقته فالمؤمن من يعلم أن الله يأمر بكل مصلحة وينهى عن كل مفسدة. ومما يجب أن يعرف: أن العبد قد يجب عليه بأسباب أمور لا تجب عليه بدون هذه الأسباب؛ فإن قام بها كان محسنا إلى نفسه، وإلا كان ظالما لنفسه، وإن لم يكن تركها ظلما في حق من لم تجتمع عنده هذه الأسباب: كمن ولي ولاية ففي المسند: «أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغضهم إليه إماما جائر» وكذلك من لغيره عليه حقوق: كالزوجة والأولاد والجيران، فقد ذكر الله الحقوق العشرة في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [36/4] . فكلما ازدادت معرفة الإنسان بالنفوس ولوازمها وتقلب القلوب وبما عليها من الحقوق لله ولعباده، وبما حد لهم من الحدود علم أنه لا يخلو أحد من ترك بعض الحقوق وتعدى بعض الحدود ولهذا أمر الله عباده أن يسألوه أن يهديهم الصراط المستقيم في اليوم والليلة في المكتوبة وحدها سبع عشرة مرة، وهو صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن يطع الله ورسوله فهو مع هؤلاء. «فالصراط المستقيم» هو طاعة الله ورسوله وهو دين الإسلام التام وهو اتباع القرآن وهو لزوم السنة والجماعة، وهو طريق العبودية وهو طريق الخوف والرجاء. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: «الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره» لعلمه أنه لا يفعل خيرا ولا يجتنب شرا إلا بإعانة الله له وأنه لا بد أن يفعل ما يوجب الاستغفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وفي الصحيح: «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» فقوله: «أبوء لك بنعمتك علي» يتناول نعمته عليه في إعانته على الطاعات. وقوله: «أبوء بذنبي» يبين إقراره بالذنوب التي يحتاج إلى الاستغفار منها، والله غفور رحيم شكور يغفر الكبير ويشكر اليسير. وجاء عن غير واحد: إني أصبح بين نعمة وذنب أريد أن أحدث للنعمة شكرا، وللذنب استغفارًا، وكان المشايخ يقرنون بين هذه الثلاثة: الشكر لما مضى من إحسان ربه، والاستغفار لما تقدم من إساءة العبد إلى نفسه، والاستعانة لما يستقبله العبد من أموره فلا بد لكل عبد من الثلاثة. فقوله: «الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره» يتناول ذلك فمن قصر في واحد منها فقد ظلم نفسه بحسب تقصيره والعبد إذا عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [66/4] وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} . وإذا ترك العبد العمل بعلمه عاقبه الله بأن يضله عن الهدى وأن لا يعرفه الصراط المستقيم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [5/61] وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [110/6] . وقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [10/2] وفي الحديث: «إن العبد إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء فإذا تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإذا زاد زيد فيها حتى تغلو كل قلبه فذلك الران الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 الذي قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} » [14/83] رواه الترمذي وصححه. فهذه الأمور يبين الله بها أجناس ظلم العبد نفسه، لكن لكل إنسان بحسبه وبحسب درجته فلنفسه عليه أن يعفها وحدود عليها أن يحفظها ومحارم عليه أن يجتنبها. فإن أجناس الأعمال ثلاثة: مأمور به. فالواجب هو الفرائض ومنهي عنه وهو المحرم، ومباح له حد فتعديه تعد لحدود الله بل قد تكون الزيادة على بعض الواجبات والمستحبات تعديا لحدود الله. وذلك هو الإسراف كما قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [147/3] . إذا عرف ذلك فقول القائل: ما مفهوم قول الصديق رضي الله عنه: «ظلمت نفسي ظلما كثيرا» والدعاء بين يدي الله لا يحتمل المجاز، والصديق رضي الله عنه من أئمة التابعين، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك: هل كان له نازلة شبهة؟ إن قال: كان الصديق رضي الله عنه أجل قدرا من أن يكون له ذنوب تكون ظلما كثيرا فإن ذلك ينافي الصديقية. وهذه الشبهة تزول بوجهين: أحدهما: أن الصديق رضي الله عنه بل والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كملت مرتبته وانتهت درجته وتم علو منزلته في نهايته لا في بدايته، وإنما نال ذلك بفعل ما أمر الله به من الأعمال الصالحة وأفضلها التوبة وما وجد قبل التوبة فإنه لم ينقص صاحبه، ولا يتصور أن بشرا يستغني عن التوبة كما في الحديث: «يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من سبعين مرة» ، «وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم مائة» ، وكذلك قوله: «اللهم اغفر لي خطئي وجهلي وعمدي وكل ذلك عندي» فيه من الاعتراف أعظم ما في دعاء الصديق رضي الله عنه والصديقون رضي الله عنهم تجوز عليهم جميع الذنوب باتفاق الأئمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 فصل فما يلفى لأهل المكاشفات والمخاطبات من المؤمنين هو من جنس ما يكون لأهل القياس والرأي فلا بد من عرضه على الكتاب والسنة والإجماع فليس أحد من هؤلاء المشايخ ولا الصديقين معصوما، فكل من ادعى غناءه عن الرسالة بمكاشفة أو مخاطبة أو عصمة سواء ادعى ذلك لنفسه أو لشيخه فهو من أضل الناس. ومن استدل على ذلك بقصة الخضر فهو من أجهل الناس، فإن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه، بل قال لموسى: «إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه» ولما سلم عليه قال: «وأَنَّى بأرضك السلام» ؟ قال: أنا موسى. قال موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم» فالخضر عليه السلام لم يعرف موسى عليه السلام حتى عرفه موسى نفسه. وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو الرسول إلى جميع الخلق. فمن لم يتبعه من جميع من بلغته دعوته كان كافرا ضالا ومن قال له مثل ما قال للخضر فهو كافر. وأيضا ما فعله الخضر فلم يكن خارجا عن شريعة موسى؛ إذ لما بين له الأسباب أقره على ذلك، فكان قد علم الخضر الأسباب التي أباحت له ذلك الفعل ولم يكن يعلمها موسى كما يدخل الرجل على غيره فيأكل طعامه ويأخذ ماله لعلمه بأنه مأذون له. وأيضا فإن الخضر إن كان نبيا فليس لغيره أن يتشبه به، وإن لم يكن نبيا وهو قول الجمهور فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما أفضل منه، فإن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما خيارها، وكان حالهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما علم من الطاعة لأمره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 ونحن مأمورون أن نقتدي بهما؛ بل من اعتقد أنه يجوز له أن يخرج عن طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه في شيء من أموره الباطنة والظاهرة فإنه يجب استتابته فإن تاب وإلا قتل كائنا من كان. وأما ما ذكره الحكيم الترمذي في أصناف الرحمة. فلا ريب أن الرحمة أصناف متنوعة كما ذكره. وليس في الحديث: «رحمة من عندك» وإنما فيه: «فاغفر لي مغفرة من عندك» ولكن مقصوده أن يشبه هذه بقوله: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [8/3] وقد جعل هذه المغفرة من عنده سبحانه مغفرة مخصوصة ليست مما يبذل للعامة، كما أن الرحمة المخصوصة ليست مما يبذل للعامة. وهذا الكلام في بعضه نظر. وهو كغيره من المصنفين في كلامه مردود ومقبول. فليس في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مغفرة من عندك» (1) ، ولكن في قول الراسخين في العلم: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} [8/3] ونحو ذلك لا يقتضي اختصاص هذا الشخص دون غيره وإلا لما ساغ لغيره أن يدعو بهذا الدعاء وهو خلاف الإجماع أو تفسير اللفظ بما لا يدل عليه. وقد قال زكريا: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} ولم تكن الذرية مختصة به ولا بالأنبياء؛ بل الله يخرج الأنبياء من الكفار إذا شاء ولكن بمشيئته والله أعلم أنه إذا قال: (من عندك) أو (من لدنك) كان مطلوبا بغير فعل العبد. فإن ما يعطيه الله العبد على وجهين: منه ما يكون بسبب فعله كالرزق الذي يرزقه الله بكسبه والسيئات التي يغفرها الله بالحسنات   (1) كذا بالأصول وصوابه رحمة من عندك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الماحية، والولد الذي يعطيه الله بالنكاح المعتاد، والعلم الذي يناله بالتعلم. ومنه ما يعطيه للعبد ولا يحوجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمور كما أعطى زكريا الولد مع أن امرأته كانت عاقرا وقد بلغ هو من الكبر عتيا، فهذا وهبه له الله من لدنه ليس بالأسباب المعتادة وكذلك الذي علمه الخضر من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة ولهذا قال: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} . وقوله: «مغفرة من عندك» لم يقل فيه «من لدنك» بل من عندك. ومن الناس من يفرق بين «لدنك» و «عندك» كما يفرق بين التقديم والتأخير فإن لم يكن بينهما فرق فقد يكون المراد اغفر لي مغفرة من عندك لا أطلبها بأسباب؛ لا أنها من عزائم المغفرة التي يغفر لصاحبها كالحج والجهاد ونحوه؛ بل اغفر لي مغفرة توجبها لي وتجود بها علي بلا عمل يقتضي تلك المغفرة. ومن المعلوم أن الله قد يغفر الذنوب بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات أو بالمصائب وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد وسؤاله أن يغفر له فهذه مغفرة من عنده. فيقال: الأشياء وجهان: منها ما جعل بسبب من العبد يوفيه عمله. ومنه ما يفعله بدون ذلك السبب فلا حاجة لسؤاله إحسانا إليه. واستعمال لفظ: «من عندك» في هذا المعنى مناسب دون تخصيص لبعض الناس دون بعض فإن قوله: «من عندك» دلالته على الأول أبين؛ ولهذا يقول الرجل لمن يطلب منه: أعطني من عندك لما يطلبه منه بغير سبب؛ بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدين والنفقة الواجبة فلا يقال فيه: «من عندك» والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وإن كان الخلق لا يوجبون عليه شيئا فهو قد كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه وأوجب بوعده ما يجب لمن وعده إياه؛ فهذا قد يصير واجبا بحكم إيجاب وعده؛ بخلاف ما لم يكن كذلك. استعمال «من عندك» يراد به أن تكون مغفرة تجود بها أنت لا تحوجني فيها إلى خلقك ولا أحتاج إلى أحد يشفع في أو يستغفر لي. فاستعمال لفظ: «من عندك» في مثل هذا معروف كما في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه لما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك» فقال: من عندك أم من عند الله تعالى؟ قال: «بل من عند الله» وأخبر أنه تاب عليه من عنده. وكلا الوجهين في قول مريم عن رزقها: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} فلما كان الرزق لا يأتي به بشر ولم تسع هي السعي المعتاد قالت: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . فهذه المعاني وما يشبهها هي التي يشهد لها استعمال هذا اللفظ. وإن قال قائل: وكذلك كلام الحكيم الترمذي أراد به مثل هذا. كان محتملا، وقد قال عمر رضي الله عنه: «احمل كلام أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه» . والله أعلم. والتوبة والاستغفار قد يكونان من ترك الأفضل والذم والوعيد لا يكونا إلا على ذنب (1) . وقول الشخص: «اللهم صل على محمد في الأولين» ليس هو مأثورا. والمراد بالأولين من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وبالآخرين أمته، قاله الجمهور. وقيل: الأولين والآخرين أمته. والأول أصح.   (1) مختصر الفتاوى ص103-116 ف2/63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وقيل ذلك في قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [13، 14/56] . ولفظ: «الأول» إضافي فلا شخص إلا وقبله أول، وبعده آخر. وقوله: «اللهم صل على سيدنا محمد في الأولين» إن أراد بهم من قبل محمد أو من قبل المصلي فمحتمل، لكن المراد به: صل عليه في الأولين، وإن كانوا ماتوا فالمراد أزواجهم؛ فإنهن موجودات. أو صل عليه في الموجودين فهذا محمل حسن، وفي الآخرين أي فيمن يوجد من المتأخرين. وقد يكون المراد صل عليه فيمن يصلى عليهم من الأولين والآخرين والملأ الأعلى: أي صل عليه في كل طائفة صليت عليها فهو معنى صحيح (1) . وسألت شيخ الإسلام عن معنى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج والبرد» كيف يطهر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟ وقوله في لفظ آخر: «والماء البارد» والحار أبلغ في الإنقاء. فقال: الخطايا توجب للقلب حرارة ونجاسة وضعفا فيرتخي القلب وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه؛ فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها، ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نار القلب وضعفه، والماء يغسل الخبث، ويطفي النار؛ فإن كان باردا أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد وصلابة الجسم وشدته، فكان أذهب لأثر الخطايا هذا معنى كلامه (2) .   (1) مختصر الفتاوى ص178 وللفهارس العامة جـ1/391. (2) إغاثة اللهفان جـ1/57 وللفهارس العامة جـ1/391. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 «إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» الحديث. قال ابن القيم رحمه الله: قال شيخ الإسلام: لما كانت كلمة الشهادة لا يتحملها أحد عن أحد، ولا تقبل النيابة بحال أفرد الشهادة بها. ولما كانت الاستعانة والاستعاذة والاستغفار يقبل ذلك فيستغفر الرجل لغيره ويستعين الله له ويستعيذ بالله له أتى فيها بلفظ الجمع، ولهذا يقول: اللهم أعنا، وأعذنا، واغفر لنا. قال ذلك في حديث ابن مسعود (1) . «إنما الأعمال بالنيات» قال الشيخ تقي الدين: «قاعدة عامة في الأعمال» ، وذلك أنها قد تشتبه دائما في الظاهر مع افتراقها في الحقيقة والباطن، حتى تكون صورة الخير والشر واحدة؛ وإنما المفرق بينهما الباطن، فيفضي ذلك إلى فعل ما هو شر باعتبار الباطن مع ظن الفاعل أو غيره أنه خير، وإلى ترك ما هو خير مع ظن التارك أو غيره أنه ترك شرا، إلا من عصمه الله تعالى بالهداية وحسن النية. وأكثر ما يبتلى الناس بذلك عند الشهوات والشبهات. وهذا الأصل هو مذهب أهل السنة وجماهير المسلمين أن الفعل الواحد بالنوع ينقسم إلى طاعة ومعصية، وإن اختلفوا في الواحد بالشخص هل تجتمع فيه الجهتان؟ وخالف أبو هاشم في الواحد بالنوع أيضا واتفق الناس على أن النوع الواحد من الحيوان كالآدمي ينقسم إلى مطيع وعاص. واختلفوا في الشخص الواحد هل يجتمع فيه استحقاق   (1) تهذيب السنن جـ3/54 وللفهارس العامة والتقريب ص397. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الثواب والعقاب والمدح والذم، فذهب أهل السنة المانعون من تخليد أهل الكبائر لجواز ذلك، وأباه المخلدة. وأنا أذكر لك أمثالا يتفطن لها اللبيب حتى تتحقق النية في العمل، فإنها هي الفارقة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» فإن هذه كلمة جامعة عظيمة القدر؛ فمن الأمثلة الظاهرة في الأعمال: أن الصلاة والصدقة والجهاد والحكم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك الصادر من المرائي الذي يريد العلو في الأرض ورياء الناس، ومن المخلص الذي يريد وجه الله والدار الآخرة. ومن الأمثلة في الترك: أن التقوى والورع الذي هو ترك المحرمات والشبهات من الكذب والظلم وفروع ذلك في الدماء والأموال والأعراض تشتبه بالجبن والبخل والكبر فقد يترك الرجل شهادة الحق الواجب إظهارها ما يظن أنه يتركه خوفا من الكذب، وإنما تركه جنبا عن الحق؛ ويترك الجهاد وإقامة الحدود ظنا أنه تركه ورعا من الظلم إذا كان المحسن إليه يخاف منه الظلم، وإنما تركه بخلا إذا لم يكن في نفس ذلك إعانة على الظلم. وقد يترك قضاء الحقوق الشرعية من الابتداء بالسلام وعيادة المريض وشهود الجنائز والتواضع في الأخلاق وتحمل الشهادة وأدائها وغير ذلك ظنا منه أنه تركه لئلا يفضي إلى مخالطة الظلمة والخونة والكذبة وإنما تركه كبرا وترأسا عليهم، كما أنه يفعل ذلك ظنا أنه فعله لأجل الحقوق الشرعية ومكارم الأخلاق وإنما فعله رغبة إليهم حرصا أو طمعا أو رهبة منهم، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» ثم قسم الهجرة الواحدة بالنوع إلى قسمين- من أجل حديث على وجه الأرض (1) .   (1) الآداب جـ1/299 وللفهارس العامة جـ1/403 وكلامه على هذا الحديث أشمل من كل ما هو موجود في مجموع الفتاوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» . وسئل شيخنا عن هذا الخبر مرفوعا؟ قال: لا يصح؛ وإنما يذكره بعض من صنف في الرقاق، وذكره البغوي مرفوعا في قوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} ولابن ماجه من رواية إبراهيم بن [أبي] يحيى وهو ضعيف عن موسى بن وردان عن أبي هريرة مرفوعًا: «من مات مريضا مات شهيدا» (1) . «صارع ركانة على شاة فصرعه» . قال شيخنا: إسناده جيد (2) . فصل في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي قال في آخره عن الله تعالى: «قد غفرت لعبدي فليعمل ما يشاء» هذا الحديث لم يجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - عاما في كل ذنب من كل من أذنب وتاب وعاد؛ وإنما ذكره حكاية حال عن عبد كان منه ذلك؛ فأفاد أن العبد قد يعمل من الحسنات العظيمة ما يوجب غفران ما تأخر من ذنوبه، وإن غفر له بأسباب أخر. وهذا مثل حديث حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه الذي قال فيه لعمر: «وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وما جاء أن غلام حاطب شكاه فقال: والله يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال: «كذبت، إنه شهد بدرا والحديبية» . ففي هذه الأحاديث بيان أن المؤمن قد يعمل من الحسنات ما يغفر   (1) الفروع جـ4/461 وللفهارس العامة جـ1/422. (2) مختصر الفتاوى المصرية ص 208-262 وللفهارس العامة جـ1/428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 له بها ما تأخر من ذنبه، وإن غفر بأسباب غيرها. ويدل على أنه يموت مؤمنا، ويكون من أهل الجنة وإذا وقع منه ذنب يتوب الله عليه كما تاب على بعض البدريين كقدامة بن عبد الله رضي الله عنه لما شرب الخمر متأولا واستتابه عمر رضي الله عنه وأصحابه رضي الله عنهم وجلدوه، وطهر بالحد والتوبة، وإن كان ممن قيل لهم: «اعملوا ما شئتم» . ومغفرة الله لعبده لا تنافي أن تكون المغفرة بأسبابها، ولا تمنع أن تصدر منه توبة إذ مغفرة الله لعبده مقتضاها ألا يعذبه بعد الموت، وهو سبحانه يعلم الأشياء على ما هي عليه فإذا علم من العبد أنه سيتوب أو يعمل حسنات ماحية غفر له في نفس الأمر، إذ لا فرق بين من يحكم له بالمغفرة أو بدخوله الجنة. ومعلوم أن بشارته - صلى الله عليه وسلم - بالجنة إنما هي لعلمه بما يموت عليه المبشر ولا يمنع أن يعمل سببها. وعلم الله بالأشياء وآثارها لا ينافي ما علقها عليه من الأسباب، كما أخبر أن: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة أو النار» ، ومع ذلك قال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ولأن من أخبره أنه ينتصر على عدوه لا يمنع أن يأخذ أسبابه ولا من أخبره أنه يكون له ولد لا يمنع أن يتزوج أو يتسرى. وكذا من أخبره بالمغفرة أو الجنة لا يمنع أن يأخذ بسبب ذلك مريدا للآخرة وساعيا لها سعيها. ومن ذلك الدعاء المذكور في آخر سورة البقرة فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قد فعلت» ومع ذلك فمن المشروع لنا أن ندعوه. ومنه قوله تعالى لنبيه سنة ست من الهجرة: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [2/48] ومع هذا فما زال - صلى الله عليه وسلم - يستغفر ربه بقية عمره؛ وأنزل عليه في آخر عمره سورة النصر: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [3/110] وكان يتأول ذلك في ركوعه وسجوده: أي يمتثل ما أمره به ربه. فإذا كان سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - يستغفر ربه كيف لا يستغفر غيره ويتوب؟ وإن قيل له ذلك أبى وأخذته العزة. ولهذا ما زال سبحانه يخاطب أهل بدر وبيعة الرضوان بالأمر والنهي والوعد والوعيد ويذكر أنه يتوب عليهم كما قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [117/9] وقد نزلت بعد عام الحديبية بثلاث سنين. وقد كان من شأن «مسطح» الذي كان يصله أبو بكر لرحمه ما كان وهو من أهل بدر رضي الله عنهم وعده الله في قوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [11/24] ، قوله: {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [15/24] ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [23/24] ، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلدهم. فقد وقع هذا البدري رضي الله عنه المغفور له في هذا الإفك العظيم؛ لكن تاب منه بلا ريب. فتبين أن قوله: «قد غفرت لكم» ، لا يمنع أن يعملوا بعد ذلك ذنوبا ويتوبون منها؛ بل لا بد أن يكون لئلا يتكلوا على الأخبار فقط بل لا بد من فعل السبب من التوبة والحسنات الماحية المتقدمة، أو غير ذلك من الأسباب كالمصائب في الدنيا أو في البرزخ أو عرصات القيامة أو يرحمهم. وهذه الأسباب يشترك فيها من علم أنه قد غفر له ومن لم يعلم لكن قد علم أن الله يغفر للتائب ويدخله الجنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وأما الجاهل بحاله فلا يدري حاله عند الله فعلمه بأن الله يغفر الذنب ويأخذ به وإيمانه العظيم الذي في قلبه بذلك أفاده أنه صار عند الله ممن يغفر له لا محالة، فلا بد له من الأسباب فإنه لابد أن يدوم على الإيمان، ودوامه على الإيمان من أعظم الحسنات الماحية وأن يصلي ويتوب ويستغفر، ونحو ذلك من موجبات المغفرة. ومن كرر التوبة مرات واسترسل في الذنوب وتعلق بهذا الحديث كان مخدوعا مغرورا من وجهين: أحدها: ظنه أن الحديث عام في حق كل تائب وإنما هو حكاية حال فيدل على أن من عباد الله من هو كذلك. والثاني: أن هذا لا يقتضي أن يغفر له بدون أسباب المغفرة كما قدمنا. ومن كرر التوبة المذكورة والعود للذنب لا يجزم له أنه قد دخل في معنى هذا الحديث، وأنه قد يعمل بعد ذلك ما شاء لا يرجى له أن يكون من أهل الوعد، ولا يجزم لمعين بهذا الحكم، كما لا يجزم في حق معين بالوعيد كسائر نصوص الوعد والوعيد فإن هذا كقوله: من فعل كذا دخل الجنة ومن فعل كذا دخل النار، لا يجزم لمعين لكن يرجى للمحسن، ويخاف المسيء. ومن هذا الباب حديث البطاقة التي قدر الكف فيها التوحيد وضعت في الميزان فرجحت على تلك السجلات من السيئات. وليس كل من تكلم بالشهادتين كان بهذه المنزلة لأن هذا العبد صاحب البطاقة كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أوجب أن عظم قدره حتى صار راجحا على هذه السيئات. ومن أجل ذلك صار المد من الصحابة رضي الله عنهم أفضل من مثل جبل أحد ذهبا من غيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ومن ذلك حديث البغيّ التي سقت كلبا فغفر لها؛ فلا يقال في كل بغي سقت كلبا غفر لها؛ لأن هذه البغي قد حصل لها من الصدق والإخلاص والرحمة بخلق الله ما عادل إثم البغي وزاد عليه ما أوجب المغفرة والمغفرة تحصل بما يحصل في القلب من الإيمان الذي يعلم الله وحده مقداره وصفته. وهذا يفتح باب العمل، ويجتهد به العبد أن يأتي بهذه الأعمال وأمثالها من موجبات الرحمة وعزائم المغفرة ويكون مع ذلك بين الخوف والرجاء كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [60/23] . ولهذا استثنى ابن مسعود وغيره في الإيمان فكان يقول أحدهم: أنا مؤمن إن شاء الله فإن الإيمان المطلق الكامل يقتضي أداء الواجب، وأحدهم لا يعلم بيقين أنه أدى كل الواجب كما أمر. ولئن أدوا فهو فضل من الله ورحمة، فلهذا استثنوا فيه. واستثنوا في الصلاة وغيرها؛ لأنه لا يجزم بأنه أتى بها على وجهها، فيأتي بما أتى به من الخير وقلبه وجل. وإن كان للاستثناء وجه آخر وهو خوف الخاتمة، وأن المؤمن المطلق هو أنه من علم الله أنه يموت على الإيمان الكامل. ووجه ثالث وهو التبرك بمشيئة الله. ومثل هذا الحديث يفيد فائدتين عظيمتين. إحداهما: أن يعمل الإنسان مثل هذا العمل مجتهدا في تقوى الله تعالى حين يثيبه بمثل هذا الجزاء. الثانية: أنه إذا رأى غيره من المؤمنين له من الذنوب ما يمكن أن يكون له معها مثل هذه الحسنة التي يكون صاحبها مغفورا له لم يشهد له بالنار ولم يعامله بما يعامل به أهل الكبائر؛ بل يرجو أن يرحمه الله؛ بل قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 يكون من أولياء الله فإن من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا فلا يحكم على أحد معين من أهل القبلة أنه من أهل النار ولو قتل نفسه، إلا أن يكون له علم يقين كالذي شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل النار لقتله نفسه بالمشقص، وعبد الله بن أبي بن سلول، وإبليس والله أعلم (1) . «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فلا دية له ولا قصاص» . قال ابن القيم رحمه الله بعد كلام سبق: وكذلك من اطلع في بيت قوم من ثقب أو شق في الباب بغير إذنهم فنظر حريمه أو عورة فلهم حذفه وطعنه في عينه، فإن انقلعت عينه فلا ضمان عليهم، وساق الأحاديث ثم قال: وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: هذا ليس من باب دفع الصائل بل من باب عقوبة المعتدي المؤذي (2) . «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب» (3) . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة: «لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط، وأما الجنة فينشئ الله خلقا آخر» فانقلب على بعض الرواة فقال: «وأما النار فينشئ الله لها خلقا آخرين» (4) . تم بعون الله تعالى المجلد الأول ويليه المجلد الثاني أصول الفقه   (1) مختصر الفتاوى المصرية ص258-262. (2) زاد المعاد جـ4/112 وللفهارس العامة جـ1/438. (3) تقدم في أصول التفسير. (4) زاد المعاد جـ1/120 وللفهارس العامة جـ1/460. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّسَ الله رُوحَه المجلد الثاني أصول الفقه جمعه ورتبه محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 بسم الله الرحمن الرحيم أصول الفقه [شيخنا] : فصل معرفة «أصول الفقه» فرض كفاية. وقيل: فرض عين على من أراد الاجتهاد والحكم والفتوى. وتقديم معرفته أولى عند ابن عقيل وغيره لبناء الفروع عليها. وعند القاضي تقديم الفروع أولى؛ لأنها الثمرة المرادة من الأصول. فالفقيه حقيقة من له أهلية تامة يعرف بها الحكم إذا شاء بدليله مع معرفة جملة كثيرة من الأحكام الفرعية وحضورها عنده بأدلتها الخاصة والعامة (1) . [شيخنا] : فصل في أقسام أصول الفقه وأدلة الشرع على طريقة القاضي وهي ثلاثة أضرب: أصل، ومفهوم أصل، واستصحاب. وقيل: ضربان: أقوال، وهي النص والإجماع والاستخراج. والأول أصح؛ لأنه أعم. ولم يذكر قول الصاحب لأنه مختلف فيه.   (1) المسودة ص 571 ف 2/3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 فأما الأصل: فالكتاب، والسنة، والإجماع. والكتاب مجمل ومفصل. والسنة ضربان: مأخوذة عنه، ومخبر بها، والمخبر به متكلم في سنده، والسند له إما متواتر وإما آحاد. والمبين ضربان: قول، أو فعل (1) . وأما مفهوم الأصل فثلاثة أضرب: مفهوم الخطاب، ودليله، ومعناه. والاستصحاب نوعان. ومن أصول الأحكام الهاتف الذي يعلم أنه حق مثل الذي سمعوه يأمرهم بغسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قميصه؛ لكن هذا في التعيين والأفضل وكذلك استخارة الله، كقول العباس رضي الله عنه في اللاحد والضارح: اللهم خر لنبيك، وهو بمنزلة القرعة، وفعلهم بمنزلة فعله تكريما له. وفعل الله تعالى كرمي قوم لوط بالحجارة (2) . وكان شيخ الإسلام يقول: من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - (3) . الأحكام الخمسة وقد ذكر الشيخ تقي الدين: أن السلف لم يطلقوا الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا. قال: وذكر القاضي: أنه هل يطلق الحرام على ما ثبت بدليل ظني روايتين (4) . المباح: قال شيخنا: قال القاضي: هو كل فعل مأذون فيه بلا   (1) في أ «والمبين على طريقين قول وفعل وإقرار على قول أو فعل» . (2) المسودة ص 572 ف 2/3. (3) مفتاح دار السعادة ص 90 ف 2/3. (4) الآداب الشرعية جـ1/125 ف 2/4. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 ثواب ولا عقاب. وفيه احتراز من فعل الصبيان والمجانين والبهائم (1) . [شيخنا] : فصل الجائز: ما وافق الشريعة، وقد يريد به الفقهاء ما ليس بلازم (2) . [الأعيان المنتفع بها قبل الشرع هل هي على الحظر أو الإباحة] مسألة: الأعيان المنتفع بها قبل الشرع (3) على الحظر في قول ابن حامد والقاضي والحلواني، وبه قال ابن أبي هريرة؛ حكاه عنه القاضي أبو يعلى وأبو الطيب. وذكر أصحاب الحظر من أصحابنا وغيرهم -منهم الحلواني- أن ما تدعو إليه الحاجة من التنفس والتنقل وأكل ما يضطر إليه من الأطعمة جائز؛ وإنما المنع مما لا تدعو إليه الحاجة [فإن العقل لا يمنع هذا كما أن الشرع لا يمنعه، وأعاد ذلك مرة ثانية وقال: لا يقبح تناول هذه الأشياء عند الحاجة وخوف الضرر، والمعتزلة البغداديون والإمامية] . وقالت الحنفية فيما ذكره أبو سفيان وأهل الظاهر وابن سريج وأبو حامد المروذي الشافعيان والمعتزلة البصريون وأبو هاشم الجبائي ووالده: هي على الإباحة، وحكى ابن برهان أن هذا قول ابن أبي هريرة، من أصحابهم، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب وقد سأله عن قطع النخل فقال: لا بأس به، لم نسمع في قطع النخل شيئًا، فحكم بالإباحة حيث لم يرد سمع بحظره. قال القاضي: هو ظاهر كلام أبي الحسن التميمي لأنه نص على جواز الانتفاع قبل الإذن (4) من الله وهذا اختيار القاضي في مقدمة المجرد، وهذا اختيار أبي الخطاب، وقال أبو الحسن (5) الخزري من أصحابنا والأشعرية: هي على الوقف، قال أبو الخطاب: وأراه أقوى على أصل من يقول: إن العقل لا مدخل له في الحظر والإباحة وهو قول أكثر أصحابنا، وهو قول الصيرفي وأبي علي   (1) المسودة ص 577 ف 2/4. (2) المسودة ص 577 ف2/4. (3) في أ: «قبل المسمع» وهو محرف عن «قبل السمع» . (4) في ب: «قبل الأمر» . (5) في أ: «وهذا اختيار أبي الخطاب الخزري» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 الطبري الشافعيين، قال أبو الحسن صاحبنا من قال: كانت على الإباحة فقد أخطأ وذكر القاضي أن القائل بالوقف موافق للقائل بالإباحة في التحقيق؛ لأن من قال بالوقف يقول: لا يثاب على الامتناع منه ولا يأثم بفعله، وإنما هو خلاف في عبارة. وقال ابن عقيل: بل القول بالوقف أقرب إلى الحظر منه إلى الإباحة. قال شيخنا: قلت: كلام أبي الحسن الخزري يوافق قول ابن عقيل لأنه يحتج على الفتوى بالإقدام عليها كما يحتج الحاظر والمبيح. يعني بالتناول (1) . قال شيخنا: قلت: هذا على قول من فسر الوقف بالشك دون النفي، مع أن كلام ابن عقيل أنه (2) ثابت على التفسيرين. قال والد شيخنا: وقال ابن عقيل: الأليق بمذهبه أن يقال: لا ندري ما الحكم. وقال ابن عقيل: لا حكم لها قبل السمع، وهذا هو الصحيح الذي لا يجوز على المذهب غيره، وهذا اختيار أبي محمد أيضا؛ لكن أبو محمد يفسره بنفي الحكم مطلقا (3) وبعدم الحرج كاختيار الجد، وكذلك فسر ابن برهان مذهب الوقف فقال: هي على الوقف عندما لا يوصف بحظر ولا إباحة ولا وجوب، بل هي كأفعال البهائم (4) ، وكذلك قال أبو الطيب: تفسير الوقف: أنه لا يقال: إنها مباحة ولا محظورة إلا بورود الشرع، فما ورد بالإذن فيه فهو مباح وما ورد بالمنع منه فهو محظور. وذكر في أثناء كلامه أنه كفعل البهيمة، وأن الواقفة يجزمون بأن لا إثم قبل الشرع، وقال أبو زيد في جماعة من   (1) في نسخة: «يفتي» بدل يعني. (2) كلمة «أنه» ساقطة من أ. (3) كلمة «مطلقا» ساقطة من أ. (4) في أ: «كفعل البهائم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 متأخري المعتزلة: لا حكم لها قبل السمع وبعدما ورد السمع تبينا أنها كانت مباحة، حكاه ابن برهان. وذكر أبو الطيب في آخر المسألة أكثر مما ذكره القاضي من الإشكال وجوابه، وذكر داود استدلال بعض أصحابه به. والقائلون بالحظر اختلفوا في القدر الذي لا تقوم النفس إلا به كالتنفس في الهواء وشرب الماء وأكل الطعام الذي يسد الرمق: هل هو محظور أو مباح؟ على قولين، والذي ذكره القاضي أن التنفس والانتقال في الجهات إذا كان لحاجة جاز، لأن الإذن قد دخل فيه من جهة العقل. قال: فنظيره أن يضطر إلى أكل طعام غيره فيباح، لأن العقل لا يمنع من هذا كما لا يمنع الشرع من ذلك عند الحاجة، وإن لم تكن به حاجة منعناه، وادعى ذلك مرة ثانية وذكر أيضا في «اللامع» أنه إذا كان السمع هو الحاظ والمبيح فالسمع ورد مفصلا لم يرد حاظر. ثم ورد سمع آخر مبيحا أو ورد مبيحا ثم ورد سمع آخر حاظرًا. وأجاب عن قوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [29/2] قال: معناه للاعتبار، لا للإتلاف، وأول قوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [5/5] بأن معناه ما هو داع إلى فعل الواجب، ويجوز أن يقال: الطيبات هي الحلال؛ ثم هو معارض بقوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [40/79] . قال شيخنا: قلت: هذا أحد الاحتمالين في الروضة وأحد قولي أصحابنا وغيرهم بأن ما قبل السمع هل يستصحب إذا قامت الأدلة السمعية على عدم الإباحة إلا ما استثناه الدليل؟ قال القاضي: واحتج الواقف بأن كونه على الحظر أو على الإباحة أنها تعلم على قولكم قبل الشرع بالعقل وما علم حكمه بدليل لا يجوز أن يرد الشرع بخلافه مثل شكر المنعم وقبح الظلم. قال: والجواب أنه كذلك فيما عرف ببدائه العقل وضرورات العقول كالتوحيد وشكر المنعم وقبح الظلم؛ فأما ما يعرف بثواني العقول استنباطا واستدلالا فلا يمنع أن يرد الشرع بخلافه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 لأنا قلنا على الحظر وجوزنا أن يكون على الإباحة أو على الوقف، ولكن كان هذا عندنا أظهر فصرنا إليه فإذا ورد الشرع كان أولى مما عرفناه استدلالا مع تجويز غيره. ثم أجاب بأن ورود الشرع إذن في التصرف، وورود الإذن في الثاني لا يمنع حظرا متقدما، وذكر أنه محظور لمعنى لا لعينه [فلا يمتنع ورود الشرع بخلافه] (1) . [شيخنا] : فصل اختلف جواب القاضي وغيره من أصحابنا في «مسألة الأعيان» مع قولهم بأن العقل لا يحظر ولا يبيح فقال القاضي: وأبو الخطاب والحلواني: إنما علمنا أن العقل لا يحظر ولا يبيح إلا بالشرع وخلافنا في هذه المسألة قبل ورود الشرع: إن العقل يحظر ويبيح إلى أن ورد الشرع فمنع ذلك، إذ ليس قبل ورود الشرع ما يمنع ذلك. قال الحلواني: وأجاب بعض الناس عن ذلك بأنا علمنا ذلك من طريق شرعي، وهو الإلهام من قبل الله لعباده بحظر ذلك وهذا غير ممتنع كما ألهم أبو بكر وعمر. قال شيخنا: كلا الجوابين ضعيف على هذا الأصل. وكذلك ذكر القاضي الجواب الثاني فقال: وقد قيل: إنا قد علمنا ذلك من طريق شرعي، وهو إلهام من الله لعباده بحظر ذلك وإباحته، كما ألهم أبا بكر أن قال: الذي في بطن أم عبد جارية (2) وكما ألهم عمر أشياء ورد الشرع بموافقتها. قال القاضي: الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع اختلف الناس فيها، فذكر شيخنا رضي الله عنه أنها على الحظر إلى أن يرد الشرع   (1) المسودة ص 474-477 ف 2/5. (2) في د: «أم عبد الله» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 بإباحتها، قال: وقد أومأ أحمد إلى معنى هذا في رواية صالح ويوسف ابن موسى: لا يخمس السلب ما سمعنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس السلب. وهذا يدل على أنه لم يبح تخميس السلب؛ لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرع فيه فيبقى على أصل الحظر. قال شيخنا: قلت: لأن السلب قد استحقه القائل بالشرع فلا يخرج بعضه عن ملكه إلا بدليل، وهذا ليس من موارد النزاع. قال: وكذلك نقل الأثرم وابن بدينا في الحلي يوجد لقطة، فقال: إنما جاء الحديث في الدراهم والدنانير. قال: فاستدام أحمد التحريم ومنع الملك على الأصل، لأنه لم يرد شرع في غير الدراهم. وأما قول أهل الإباحة فقال: أومأ إليه أحمد في رواية أبي طالب وقد سأله عن قطع النخل؟ فقال: لا بأس به، لم نسمع في قطع النخل شيئا. قيل له: فالنبق؟ قال: ليس فيه حديث صحيح وما يعجبني قطعه. قلت له: إذا لم يكن فيه حديث صحيح فلم لا يعجبك؟ قال: لأنه على كل حال قد جاء فيه كراهة والنخل لم يجئ فيه شيء. قال القاضي: فقد استدام أحمد للإباحة في قطع النخل لأنه لم يرد شرع يحظره. قال شيخنا: قلت: لا شك أنه أفتى بعدم البأس؛ لكن يجوز أن يكون للعمومات الشرعية ويجوز أن يكون سكوت الشرع عفوا، ويجوز أن يكون استصحابا لعدم التحريم، ويجوز أن يكون سكوت الشرع لأن الأصل إباحة عقلية مع أن هذا من الأفعال لا من الأعيان. [والأفعال قبل مجيء السمع تنقسم] : قال شيخنا: قال القاضي: ذكر أبو الحسن التميمي في جزء وقع إليّ بخطه فيما أخرجه من أصول الفقه، فقال: «الأفعال قبل مجيء السمع» تنقسم قسمين: منها حسن، ومنها قبيح. فما كان [منها] في العقل قبيحا فهو محظور لا يجوز الإقدام عليه كالكذب والظلم وكفر نعمة المنعم وما جرى مجرى ذلك؛ لأنه يكتسب بفعله الذم واللوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وأما الحسن من العقل فينقسم قسمين أيضا منها ما يجب فعله، ومنها ما لا يجب فعله. أما الذي يجب فعله فهو مثل شكر نعمة المنعم والعدل والإنصاف وما جرى مجرى ذلك مما في معناه من الحسن فإنه واجب لا يجوز الانصراف عنه. ومن الحسن ما لا يجب فعله وإن كان حسنا مثل التفضل وبر الناس وقري الضيف وإطعام الطعام ونحوه (1) . فصل [لا يرد الشرع بحظر ما كان في العقل واجبا ولا ... وقد يرد ... ] قال شيخنا: ولا يجوز أن يرد السمع بحظر ما كان في العقل واجبا نحو شكر المنعم والعدل والإنصاف ونحوه. وكذلك لا يجوز أن يرد بإباحة ما كان في العقل محظورا نحو الكذب والظلم وكفر نعمة المنعم ونحوه؛ وإنما يرد بإباحة ما كان في العقل محظورا على شرط المنفعة نحو إيلام بعض الحيوان -يعني بالذبح- لما فيه من المنفعة كما جاز إدخال الآلام علينا بالفصد والحجامة وشرب الأدوية الكريهة للمنفعة وإن لم يجز ذلك لغير منفعة، وما أعطيناه من أموالنا بغير استحقاق للفقراء أو غيرهم ممن يطلب بدفعه إليهم الثواب من الله أو الحمد من الناس والثناء الجميل؛ فإن هذا وما أشبهه يجري مجرى الآلام التي تطلب بها المنافع من الفصد والحجامة وشرب الأدوية. وقد يرد الشرع بحظر ما لم يكن له في العقل منزلة في القبح نحو الأكل والشرب والتصرف الذي لا ضرر على فاعله في فعله في ظاهر أمره. فالواجب أن تجري أحكام الأفعال على منازلها في العقل؛ فإما أن تكون قبيحا في العقل فيمتنع منه، أو يكون واجبا في العقل فيلزم أمره ويجب فعله. أو يكون حسنا ليس بواجب فيكون الإنسان مخيرا بين أن يفعله وبين أن لا يفعله من نحو اكتساب المنافع بالتجارات وما في معناها. فإذا ورد السمع فيما الإنسان فيه مخير كشف السمع عن حاله وبين   (1) المسودة ص 477-480 ف 2/5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 أمره؛ فإما أن يدخله في جملة الحسن الذي يجب فعله أو في جملة القبيح الذي لا يجوز فعله. قال القاضي: وهذا من كلام أبي الحسن يقتضي أن العقل يوجب ويقبح قال: وقد ذكرنا في الجزء الأول من «المعتمد» خلاف هذا، وحكينا خلاف المعتزلة في هذه المسألة، وبينا قول أحمد في رواية عبدوس: ليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، إنما هو الاتباع، واستدل بدليلين. قال القاضي: وقال أبو الحسن: والحظر والإباحة والحلال والحرام والحسن والقبح والطاعة والمعصية وما يجب وما لا يجب كل ذلك راجع إلى أفعال الفاعلين دون المفعول فيه. فالأعيان والأجسام لا تكون محظورة ولا مباحة ولا تكون طاعة ولا معصية. قال القاضي: وهذا كما قال أبو الحسن. وقد يطلق ذلك في المفعول توسعا واستعارة فيقال: العصير حلال مباح ما لم يفسد، فإذا فسد وصار خمرا كان حراما ومحظورا. والمذكي حلال ومباح والميتة محظورة، وهي حرام، يريدون أن شرب العصير حلال ومباح ما لم يفسد، وأكل المذكي حلال ومباح، ويطلقون ذلك والمراد به أفعالهم. قال شيخنا: تقدمت هذه المسألة في العموم (1) والصحيح أنه حقيقة في الأعيان أيضا (2) . فصل في حقيقة قول ابن عقيل الذي صوره على المذاهب في «الأعيان قبل السمع» .   (1) المسودة ص 480-482 ف 2/5. (2) انظر ص 94 من المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 [لا بد من الفرق بين نفي الأدلة ونفي المدلولات وبين الجواز الذهني والجواز العقلي في مسألة الأعيان وغيرها] قد كتبت قوله: «إن مقتضى أصلنا أنها لا توصف بحظر ولا إباحة؛ لأن ذلك لا يثبت عندنا إلا بالشرع، فإذا لم يكن شرع فلا حظر ولا إباحة» ثم قال: والأليق بمذهبه أن يقال: لا نعلم ما الحكم، فهذا يقيني، وهذا شك. ثم قال: فإذا كان مذهب صاحبنا أن العقل لا يوجب ولا يحظر، وأن عباد الأوثان لا يعاقبون على شيء مما اعتقدوه ولا على شيء من الأفعال، وأن لا عقوبة ولا عذاب قبل السمع فلا وجه للقول بإباحته قبل السمع أو حظره. فهذا أصل لا ينبغي أن يغفل لأنه من أصول الدين، فلا يسقط حكمه بمذهب في أصول الفقه. قال: وإذا ساغ لشيخنا رضي الله عنه أن يأخذ له أصلا هو حظر أو إباحة من نهيه تارة فيما لم يرد فيه سمع كقطع السدر، وتارة في إباحة كتجويزه قطع النخل فلم لا يأخذ من كلامه الذي لا يحصى: لا أدري ما هذا، ما سمعت فيه شيئا، أنا أجبن أن أقول بكذا. فيؤخذ منه أحد مذهبين: إما الوقف، أو الإمساك عن الفتوى رأسا، وأن يقال فيما لم يرد فيه سمع: لا مذهب له إلا الإمساك. فافهم هذا الأصل؛ فإنه يستمر على قوله في المتشابه من الآيات وظواهر الأخبار، وأنها لا تفسر ولا تؤول، ولا وجه للقطع بالإباحة أو الحظر مع عدم السمع وعدم قضية العقل. قال شيخنا: قلت: هذا الكلام من ابن عقيل -مع ما تقدم من أن صاحب الوقف أقرب إلى الحظر لأنه يحتج على الفتوى بالإقدام كالحاظر- يقتضي أن المذهب أنه لا يقطع فيها بحظر ولا إباحة لانتقاء دليل ذلك وهو الشرع، ثم هو مع ذلك إما أن يسكت كما يسكت الرجل عن الكلام فيما لم يعلم شكا أو أن يقف فيبقى الحظر والإباحة عند نفسه أو في الخارج؛ ففرق بين أن يقال: ليست عندنا محظورة ولا مباحة، أو ليست في الخارج كذلك. وإذا نفاهما فعنده أنه لا يأذن في الإقدام لأن الإذن إباحة، وهذا تجويز منه ذهنا أن يكون في الباطن فيها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 مفسدة راجحة، وهذا يتوجه إذا نفي حكم العقل ولم ينف صفة العقل. فيقال: ما نعلم أنه لا حكم للعقل، بل نُجَوِّز أذهاننا أن للعقل صفة وإن لم تكن للعقل صفة، إذا فرق بين نفي الدليل ونفي المدلول، وبين التجويز الذهني الذي يرجع إلى عدم العلم وبين التجويز الخارجي الذي يرجع إلى وصف الذوات. فكلام ابن عقيل مستمر إذا فسر نفي العقل بنفي دلالته، لا بنفي صفة العقل وجوز جوازا ذهنيا أن يكون للعقل صفة وإن لم يثبت جوازها في الخارج. فحينئذ يقال: لا حظر ولا إباحة لانتفاء دليله، والنقل لا يثبت ذلك، ولم يعلم أيضا انتفاء أن يكون في الفعل ضرر أو ذم من الله لم نقف عليه بعقولنا، ولم يكشف لنا سمع، فهذا شك في ثبوت صفة الأفعال، لا في علم العقل بها. وقد يقال أيضا: ما علمنا أن العقل يدرك ذلك، فنحن لم نعلم أن للعقل صفة، ولم نعلم عدم ذلك، ولو كان ثم صفة فلم نعلم أن العقل يدركها أو علمنا أنه لا يدركها فيلزم من ذلك انتفاء الحظر والإباحة والتوقف في نفي الحكم مطلقا. ومن لم يحكم الفرق بين نفي الأدلة ونفي المدلولات وبين الجواز العيني والجواز العقلي وإلا اختبط كثيرا في أمثال هذه الأشياء. ولهذا قال ابن عقيل في أثناء هذه المسألة: لا جواب لهذه المسألة على التحقيق إلا قول المسئول: لا أعلم ما كان الحكم قبل الشرع، إذ لا طريق لنا إلى العلم بالحكم. وكلامه كله يدل على أنه غير حاكم بثبوت حكم ولا نفيه ولا دليل عليه أصلا كما لا دليل على المتردد؛ بخلاف النافي فعليه الدليل فهو لا يعلم ثبوت الحكم ولا انتفاؤه. فصل [يمكن أن يرد الشرع بما لا يحيله العقل] قال شيخنا: من قال من أصحابنا: «إن للأفعال والأعيان حكما قبل الشرع» اختلفت أقوالهم فيما يجوز تغييره بالشرع وما لا يجوز، فقال أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الخطاب: ما ثبت بالعقل ينقسم قسمين؛ فما كان منه واجبا بعينه كشكر المنعم والإنصاف وقبح الظلم فلا يصح أن يرد الشرع بخلاف ذلك. وما وجب لعلة أو دليل مثل الأعيان التي فيها الخلاف فيصح أن يرتفع الدليل والعلة فيرتفع ذلك الحكم العقلي كفروع الدين المنسوخة. وقال التميمي: لا يجوز أن يرد الشرع في الأعيان بما يخالف حكم العقل إلا بشرط منفعة تزيد في العقل أيضا على ذلك الحكم كذبح الحيوان، والبط، والفصد، فعلى هذا يمنع أصل الدليل. وقال عنه في موضع آخر: لا يجوز أن يرد الشرع بحظر موجبات العقل أو إباحة محظوراته. وقيل: إن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل إذا كان العقل لا يحيله ذكر هذه الثلاثة أبو الخطاب. وقال الحلواني: ما يعرف ببداءة العقول وضروراتها فلا يجوز أن يرد الشرع بخلاف مقتضاه. فأما ما يعرف بتولد العقل استنباطا واستدلالا فلا يمنع أن يرد الشرع بخلافه (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [ما لا يدخل تحت الخلاف المذكور] قال القاضي في «مسألة الأعيان قبل الشرع» : وإنما يتصور هذا الاختلاف في الأحكام الشرعيات من تحريم لحم الحمر وإباحة لحم الأنعام وما يشبه ذلك مما قد كان يجوز حظره وتجوز إباحته، فأما ما لا يجوز له الحظر بحال كمعرفة الله ومعرفة وحدانيته وما لا يجوز عليه الإباحة كالكفر بالله وجحد التوحيد وغيره فلا يقع فيه خلاف؛ بل هو على صفة واحدة لا تتغير ولا تنقلب، وإنما الاختلاف فيما ذكرنا. وأما ابن عقيل فطرد خلاف الوقف في الجميع، حتى في التثنية   (1) المسودة ص 482-484 ف 2/5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 والتثليث والسجود للصنم وصرف العبادة والشكر إلى غير الواحد القديم الذي قد عرف وحدته وقدمه. قال -يعني القاضي: ويجب القول باستصحاب الحال العقلي مثل أن يدل الدليل العقلي على أن الأشياء على الحظر أو على الإباحة قبل ورود الشرع بذلك فيستصحب هذا الأصل حتى يدل دليل الشرع على خلافه. وأما استصحاب الشرع مثل أن يثبت الحكم في الشرع بإجماع ثم وقع الخلاف في استدامته كالمتيمم إذا رأى الماء في الصلاة فالقول فيه محتمل أنه غير مستصحب، ويحتمل أن يستصحب لحكم الإجماع حتى يدل الدليل على ارتفاعه. [شيخنا] : ... ... ... فصل [لا يقال أن الأشياء كلها على الإباحة] ذكر قوم أن الكلام فيها عبث، لأن بني آدم لم يخلوا من الشرع، وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية عبد الله فيما خرجه في محبسه إذ يقول: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم. فأخبر أن كل زمان لم يخل من رسول أو عالم يقتدى به. قال أبو الخطاب: وتتصور هذه المسألة في قوم لم تبلغهم الدعوة وعندهم ثمار وفي موضع آخر، وهو أن يقول: إن هذه الأشياء لو قدرنا خلو الشرع عن حكمها ما ينبغي أن يكون حكمها يعتد (1) أن كل من حرم شيئا أو أباحه قال: قد طلبت في الشرع دليلا على ذلك فلم أجد فبقيت على حكم الأصل. وكذلك قال ابن عقيل: من شروط المفتي أن يعرف ما الأصل الذي ينبني عليه استصحاب الحال: هل هو الحظر أو الإباحة أو الوقف ليكون عند عدم الأدلة متمسكا بالأصل إلى أن تقوم دلالة تخرجه عن أصله.   (1) نسخة: «ويفيد في الفقه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وقال القاضي: واعلم أنه لا يجوز إطلاق هذه العبارة لأن من الأشياء ما لا يجوز أن يقال: إنها على الإباحة كالكفر بالله والجحد له والقول بنفي التوحيد، وإنما يتكلم في الأشياء التي يجوز في العقول حظرها وإباحتها كتحريم لحم الخنزير وإباحة لحم الأنعام، وتتصور هذه المسألة في شخص خلقه الله في برية لا يعرف شيئا من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة: هل تكون تلك الأشياء في حقه على الإباحة أو على الحظر حتى يرد شرع؟ قال شيخنا: قلت: وهذا يقتضي أن المسألة تعم الأعيان والأفعال (1) . [استصحاب براءة الذمة من الواجبات فيه نظر] مسألة: استصحاب أصل براءة الذمة من الواجبات حتى يوجد الموجب الشرعي دليل صحيح ذكره أصحابنا القاضي وأبو الخطاب وابن عقيل، وله مأخذان. أحدهما: أن عدم الدليل دليل على أن الله ما أوجبه علينا، لأن الإيجاب من غير دليل محال. والثاني: البقاء على حكم العقل المقتضي لبراءة الذمة أو دليل الشرع لمن قبلنا. ومن هذا الوجه يلزم بالمناظرة. قال القاضي: استصحاب براءة الذمة من الواجب حتى يدل دليل شرعي عليه هو صحيح بإجماع أهل العلم كما في الوتر. قال شيخنا: قوله: «استصحاب في نفي الواجب» (2) احتراز من   (1) المسودة ص 484، 485 ف 2/5. (2) نسخة في نفي الإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 استصحاب في نفي التحريم أو الإباحة، فإن فيه خلافا مبنيا على مسألة الأعيان قبل الشرع. وأما دعوى الإجماع على نفي الواجبات بالاستصحاب ففيه نظر؛ فإن من يقول بالإيجاب العقلي من أصحابنا وغيرهم لا يقف الوجوب على دليل شرعي، اللهم إلا أن يراد به في الأحكام التي لا مجال للعقل فيها بالاتفاق كوجوب الصلاة والأضحية ونحو ذلك. قال القاضي (1) : هو صحيح إجماع أهل العلم. وقال أبو الخطاب: هو صحيح بإجماع الأمة. قال: وقد ذكره أصحاب أبي حنيفة والقاضي أبو الطيب، وذكره أبو سفيان، وقال: عدم الدليل دليل، ثم قال: وحكى أبو سفيان عن بعض الفقهاء أنه يأبى هذه الطريقة في الاستدلال، وقد ذكر ابن برهان ما يقارب ذلك، وحكاه أبو الخطاب عن قوم من المتكلمين، مع حكاية أبي سفيان عن بعض الفقهاء، وكذلك ذكر أبو الخطاب في أثناء مسألة القياس، قال: لو كانت النصوص وافية بحكم الحوادث لما افتقر أهل الظاهر في كثير من الحوادث إلى استصحاب الحال وأدلة العقل. فإن قيل: فيرجع إلى استصحاب الحال وحكم العقل. قيل: لا نسلم أن ذلك دليل في الشرع. جواب آخر: أن الحوادث في عصر الصحابة لم يرجعوا فيها إلى استصحاب الحال ولا أدلة العقل، وإنما رجعوا إلى القياس على ما بينا فدل على أن ذلك لا يجوز. هذا كلامه. قال شيخنا: جعل القاضي استصحاب الحال الذي طريقه العقل مثل أن يقال: أجمعنا على براءة الذمة فمن زعم اشتغالها بزكاة الحلي فعليه الدليل، فقال: نص أحمد على هذا في رواية صالح ويوسف ابن موسى: لا يخمس السلب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخمسه قال: فجعل   (1) المسودة ص 485 ف 2/5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 الأصل دلالة على إسقاط الخمس متى لم يعلم الدليل عليه، وكذلك نقل حنبل فيمن أكل أو شرب: عليه القضاء ولا كفارة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمره بالكفارة (1) . [الأخذ بأقل ما قيل فيه خلاف] مسألة: يجوز الأخذ بأقل ما قيل ونفي ما زاد؛ لأنه يرجع حاصله إلى استصحاب دليل العقل على براءة الذمة فيما لم يثبت شغلها به. وأما إن يكون الأخذ بأقل ما قيل أخذا وتمسكا بالإجماع فلا، لأن النزاع في الاقتصار عليه ولا إجماع فيه. قال بعضهم: هذا نوع من أنواع الإجماع صحيح لا شك فيه. وقال قوم: بل يؤخذ بأكثر ما قيل، ذكرهما ابن حزم. وقال بعضهم: ليس بدليل صحيح. قال شيخنا: قلت: إذا اختلفت البينتان في قيمة المتلف فهل يوجب الأقل، أو بقسطهما؟ فيه روايتان، وكذلك لو اختلف شاهدان. فهذا يبين أن في إيجاب الأقل بهذا المسلك اختلافا، وهو متوجه؛ فإن إيجاب الثلث أو الربع ونحو ذلك لا بد أن يكون له مستند، ولا مستند على هذا التقدير، وإنما وقع الاتفاق على وجوبه اتفاقا، فهو شبيه بالإجماع المركب إذا أجمعوا على مسألتين مختلفتي المأخذ، ويعود الأمر إلى جواز انعقاد الإجماع بالبحث والاتفاقات وإن كان كل من المجمعين ليس له مأخذ صحيح وأشار إليه ابن حزم (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [وإذا كان العموم أو الإطلاق أو الاستحباب منزلا على نوع دون نوع فهل] فأما إن ثبت أن العموم أو الإطلاق أو الاستصحاب نزل على نوع دون نوع، فهل يجوز الاستمساك به فيما عدا النوع المتفق على خروجه؟ هذا أقوى من الأول، وهو الاستصحاب أقوى منه في الخطاب،   (1) المسودة ص 489 ف 2/5. (2) المسودة ص 590 ف 2/5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وذلك لأن صاحب التحديد بالثلاثة مثلا لا بد له من دليل يختص به على التحديد بها، كما أن صاحب العشرة لا بد له من دليل على التحديد بالعشرة، فتكافئا في ذلك، فلم يجز لأحدهما الاستدلال بالظاهر لعدم دلالة الظاهر وحده على مذهبه. وأما النوع فالدليل المخرج له من العموم يتفاوتان فيه، فمن أراد إخراج نوع آخر فعليه دليل ثان. وحاصله: أن خروج نوع يتفقان في الدلالة عليه كما اتفقا في حكمه، وخروج ما بينهما من المقدار لا يتفقان في دليله كما لا يتفقان في حكمه وإنما هو إجماع مركب، فهو نظير القياس على أصل مركب وأضعف منه، ومثل ذلك في الفروع الاحتجاج بعموم آية السرقة في سارق ما أصله الإباحة وما يسرع فساده، ولولا ذلك لما جاز الاستمساك بعام مخصوص، وإنما يقبح ذلك إذا كثرت الأنواع المخصوصة بحيث يكون النوع المتروك أقل من الأنواع المخرجة، فهذا فيه تفصيل ونظر، وهذا قد يتعارض فيه الإضمار والتخصيص [فقيل: هما سواء. وقيل التخصيص أولى، ويتعارض فيه المجاز والتخصيص] (1) . وهذا البحث قد يقدح في الاستمساك بأقل ما قيل، لأن القائل بوجوب ثلث دية المسلم لا بد من دليل غير الإجماع وغير براءة الذمة، إذ ليس الثلث بأولى من الربع ومن الخمس. والمناظرة إنما هي مع ذلك القائل الأول لا مع الثاني والثالث. وإجماعهم على وجوب الثلث نوع من الإجماعات المركبة؛ فإن وجوبه من لوازم القول بوجوب النصف والجميع فالقائل بوجوب النصف يقول: إنما أوجبت النصف لدليل، فإن كان صحيحا وجب القول به، وإن كان ضعيفا فلست موافقا على وجوب الثلث، كما يقال مثل ذلك في حلي الصغيرة وعشر الخضروات الخراجية وإجبار بنت خمس عشرة؛ لكن القولان المركبان قد يكون كل واحد منهما أعم من   (1) ما بين المعقوفتين ساقط من أ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 الآخر، كما في هذه النظائر، وقد يكون أحدهما هو العام كما في نصاب السرقة وكما في التقابض، فإن بعضهم يستعمل مثل هذا وفيه نظر، مثل أن يقال للأم مع الأخوين: اتفقوا على وجوب السدس واختلفوا فيما زاد عليه والأصل عدمه، فإن القائل بالثلث كذلك. فهذا يشبه القول بأقل ما قيل، بل هو هو. ولو قال أيضا: قد اتفقوا على توريث الجد واختلفوا في توريث الإخوة لكان ضعيفا؛ لأن القدر الذي اتفقوا عليه إنما هو ما لم يقل إنه حق الأخ، إلا أن يحتج على ميراث الجد بنص وبنفي ميراث الأخ بالأصل، فهذا نوع آخر. وقد يقال: المقتضى لتوريث الجد الجميع ثابت بالإجماع وإما المانع منه المزاحمة وهي منتفية بالأصل، فهذا قريب من التمسك بأقل ما قيل بل هو أقوى منه لأن الإجماع على استحقاق الجميع عند عدم المزاحم إجماع مفرد لا مركب. وهنا مسائل كثيرة من الظواهر السمعية والعقلية التي قد علم بالنص أو الإجماع أو العقل أن دلالتها ليست مطلقة. وغالب كلام المتنازعين في هذا النوع من الأدلة، وهو محتاج إلى تحقيق وتفصيل إذ الكلام في أنواع الأدلة، ثم في أنواع التقييدات من جهة التقدير والتنويع والقلة والكثرة وغير ذلك. والله أعلم (1) . فصل في حد القبيح والحسن والمباح قال شيخنا: قال القاضي: قد قيل: الحسن ما له فعله، والقبيح ما ليس له فعله. قال: وقيل: المباح من الحسن. وقيل: الحسن ما مدح فاعله والقبيح عكسه، وقال هذا القائل: لا يوصف المباح بأنه حسن (2) .   (1) المسودة في أصول الفقه من ص 492-494 ف 2/5، 11. وقد اكتفيت في الإشارة إلى النسخ بما أشار إليه كما تقدم ولما يأتي. (2) المسودة ص 577 ف 2/5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 [شيخنا] : ... ... ... فصل [الحكم الشرعي] الحكم الشرعي: إما أن يقع على نفس قول الشارع وخطابه، أو على تكليفه بالأفعال، أو على صفة للأفعال تثبت بالشرع، أو على هيئة يكون الفعل عليها بإذن الشرع. قال: بعض أصحابنا: قد نص أحمد رحمه الله أن الحكم الشرعي خطاب الشرع وقوله. وقد قال كل واحد من هذه الأقوال قوم من الناس. وللاختلاف مقامان: أحدهما: «مسألة التحسين والتقبيح» . والثاني: «كسب العباد» . والله سبحانه وتعالى أعلى، وأعلم، وأعز، وأكرم (1) . [لا تلزم الشرائع إلا بعد العلم] ولا تلزم الشرائع إلا بعد العلم، وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد. فعلى هذا لا تلزم الصلاة حربيا أسلم في دار الحرب ولا يعلم وجوبها. والوجهان في كل من ترك واجبا قبل بلوغ الشرع، كمن لم يتيمم لعدم الماء لظنه عدم الصحة، أو لم يزك، أو أكل حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لظنه ذلك، أو لم تصل مستحاضة. والأصح أن لا قضاء ولا إثم إذا لم تقصد، اتفاقا، للعفو عن الخطأ والنسيان. ومن عقد عقدا فاسدا مختلفا فيه باجتهاد أو تقليد واتصل به القبض لم يؤمر برده وإن كان مخالفا للنص. وكذلك النكاح إذا بان له خطأ الاجتهاد أو التقليد وقد انقضى المفسد لم يفارق وإن كان المفسد قائما فارقها (2) .   (1) المسودة في أصول الفقه ص 577، 578 ف 2/5. (2) اختيارات ص 31 ف 2/6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الأحكام لا تثبت في حق العبد إلا بعد بلوغها إليه، وهو اختيار شيخنا رضي الله عنه (1) . فصل [المغمى عليه] النائم والناسي غير مكلفين، وذكر الآية: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [43/4] وأجاب عنها. وكذلك ذكره ابن عقيل وهو قول أكثر المتكلمين. قال شيخنا: وكذلك المغمى عليه (2) . واختلف الفقهاء والأصوليون في المكره: هل يسمى مختارا أم لا؟ [والمكره] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: التحقيق أنه محمول على الاختيار، فله اختيار في الفعل، وبه صح وقوع؛ فإنه لولا إرادته واختياره لما وقع الفعل؛ ولكنه محمول على أن هذه الإرادة والاختيار، ليست من قبله، فهو مختار باعتبار أن غيره حله على الاختيار ولم يكن مختارا من نفسه. هذا معنى كلامه. [الجن ومناكحتهم] وقال شيخنا: ليس الجن كالإنس في الحد والحقيقة؛ لكنهم مشاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع أعلمه بين العلماء فقد يدل ذلك على مناكحتهم وغيرها، وقد يقتضيه إطلاق أصحابنا (3) . قال أبو العباس في رده على الرافضي: جاءت السنة بثوابه على ما فعله وعقابه على ما تركه ولو كان باطلا كعدمه لم يجبر بالنوافل.   (1) بدائع الفوائد جـ4/168 ف 2/6. (2) المسودة ص 37 ف 2/6. (3) فروع جـ1/604 ف 2/6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 [الباطل في عرف الفقهاء وفي الآية] والباطل في عرف الفقهاء ضد الصحيح في عرفهم، وهو ما أبرأ الذمة. فقولهم: بطلت صلاته وصومه لمن ترك ركنا بمعنى وجب القضاء؛ لا بمعنى أنه لا يثاب عليه بشيء في الآخرة وقال تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [33/47] الإبطال هو إبطال الثواب ولا يُسَلَّم بطلانه جميعه؛ بل قد يثاب على ما فعله فلا يكون مبطلا لعمله (1) . [إذا استدل مبطل بآية أو حديث صحيح ففي ذلك ما يدل على نقيض قوله] قال لي شيخنا: أنا ألتزم أن لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [103/6] هي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها (2) .   (1) اختيارات ص 111 ف 2/7. (2) حادي 288، 299 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 مسائل النسخ [تعريفه] مسألة: في حد النسخ، قال القاضي: هو عبارة عن إخراج ما لم يرد باللفظ العام في الأزمان مع تراخيه عنه. وقال قوم من المتكلمين: هو إخراج ما أريد باللفظ، قال: وهذا غلط، لأنه يفضي إلى البداء. وقال شيخنا: قلت: هذا من القاضي مخالف لما قاله في النسخ قبل الوقت، فإنه ضعف قول من جعله أمرا بمقدمات الفعل أو أمرا مقيدا، وهنا أجاب بما ضعفه هناك (1) . [ما يجوز نسخه وما لا يجوز] مسألة: يجوز نسخ العبادة وإن قيد الأمر بها أولا بلفظ التأبيد، هذا قول أكثر أهل العلم، خلافا لمن قال: لا يجوز. قال القاضي: يجوز تأبيد العبادة بأن ينقطع الوحي أو يضطر إلى قصد الرسول فيه، كما اضطررنا إلى قصده في تأبيد شريعته وأنه لا نبي بعده. قال شيخنا: قلت: فلم يجعل له دليلا لفظيا (2) . قال شيخنا: قال القاضي في «العدة» في الخبر هل يصح نسخه أم لا؟ فإن كان خبرا لا يصح أن يقع إلا على الوجه المخبر به فلا يصح نسخه، كالخبر عن الله تعالى بأنه واحد ذو صفات، والخبر بموسى   (1) المسودة ص 195 ف2/8. (2) المسودة ص 195 ف2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وعيسى وغيرهما من الأنبياء أنهم كانوا أنبياء موجودين والخبر بخروج الدجال في آخر الزمان، ونحو ذلك فهذا لا يصح نسخه، لأنه يفضي إلى الكذب. قال شيخنا: قلت: إلا أن النسخ اللغوي كما في قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [52/22] على قول من قال: إنه ألقي في التلاوة «تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى» . وإن كان مما يصح أن يتغير ويقع على غير الوجه المخبر عنه فإنه يصح نسخه، كالخبر عن زيد بأنه مؤمن أو كافر أو عدل أو فاسق فهذا يجوز نسخه، فإذا أخبر عن زيد بأنه مؤمن جاز أن يقول بعد ذلك هو كافر، وكذلك يجوز أن يقول: الصلاة على المكلف في المستقبل، ثم يقول بعده: ليس على المكلف فعل صلاة؛ لأنه يجوز أن تتغير صفته من حال إلى حال. قال رضي الله عنه: وعلى هذا يخرج نسخ قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [284/2] كما قد جاء عن الصحابة والتابعين خلافا لمن أنكره من أصحابنا وغيرهم كابن الجوزي. فضابط القاضي: أن الخبر إن قبل التغيير جاز النسخ وإلا فلا. وعلى هذا فيجوز نسخ الوعد والوعيد قبل الفعل كقوله: «من بنى هذا الحائط فله درهم» ثم يرفع ذلك. والفقهاء يفرقون بين التعليق وبين التخيير (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [فضيلة الناسخ على المنسوخ] لما قال المخالف القرآن كله متساو في الخبر فقوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [106/2] يدل على أنه لا ينسخ بالأثقل، فقال: ومعلوم أنه لم يرد بقوله: (بخير منها) فضيلة الناسخ على المنسوخ، لأن القرآن كله متساو   (1) المسودة ص 197 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 في الفضيلة فعلم أنه أراد الأخف، فلم يمنع القاضي ذلك، بل قال: الخير ما كان أنفع: إما بزيادة الثواب مع المشقة، وإما بكثرة انتفاع المغير به، فإنه سبب لزيادة الثواب، فالأنفع هو ما كان أكثر ثوابا وكثرة الثواب بأحد السببين. ثم في مسألة نسخ القرآن بالسنة لما قال المخالف: «التلاوة لا يكون بعضها خيرا من بعض، وإنما يكون ذلك في النفع» قال القاضي: ولا يصح هذا القول؛ لأنه قد يكون بعضها خيرا من بعض على معنى أنها أكثر ثوابا مثل سورة (طه) و (يس) وما أشبه ذلك. وقد يكون في بعضها من الإعجاز في اللفظ والنظم أكثر مما في البعض، وكانت العرب تعجب من بعض القرآن ولا تعجب من بعض. قال شيخنا: قلت: بقي القول الثالث -وهو الحق- التفاضل الحقيقي كما نطقت به النصوص الصحيحة الصريحة (1) . [شيخنا] : فصل [نسخ التلاوة ونسخ الحكم] ذكر القاضي في ضمن مسألة نسخ القرآن بالسنة أن الخلاف في نسخ تلاوته بأن يقول النبي: لا تقرءوا هذه الآية فتصير تلاوتها منسوخة بالسنة، وفي نسخ حكمه مع بقاء تلاوته، وأن المجيز يجيزهما جميعا، وجعل نسخ التلاوة أعظم من نسخ الحكم؛ فإنه منعهما جميعا. قال شيخنا: قلت: إذا قال الرسول: «هذه الآية قد رفعها الله» فهو تبليغ منه لارتفاعها كإخباره بنزولها، فلا ينبغي أن يمنع من هذا وإن منع من نسخ الحكم، فيكون الأمر على ضد ما يتوهم فيما ذكره القاضي. وقال القاضي وأبو الخطاب في مسألة قراءة الفاتحة [من الانتصار] : والثابت باليقين كان يحتمل الرفع بخبر الواحد في زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الموجب للخير لا يوجب البقاء وإنما البقاء لعدم دلالة الرفع، والثابت   (1) المسودة ص 201 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 لعدم الأدلة يرتفع بأدنى دليل، ألا ترى أن القبلة كانت ثابتة إلى بيت المقدس ثم إن واحدا أخبر أهل قباء بالنقل إلى الكعبة فاستداروا وأقرهم الرسول. وذكر القاضي في ضمن مسألة النسخ أن نسخ القرآن بخبر الواحد والقياس يجوز عقلا، وإنما منعناه شرعا، وعد نسخ تقدم الصدقة بين يدي النجوى نسخ وجوبه إلى إباحة الفعل والترك، وجعل المنسوخ إلى الندب قسما آخر، كالمصابرة فإنه يجب مصابرة الاثنين، ويستحب مصابرة أكثر من ذلك، وجعل من المحظور إلى مباح زيادة القبور ونسخها بالإباحة بعد الحظر، ولم يذكر إلا نسخ الوجوب إلى وجوب أو ندب أو إباحة، ونسخ الحظر إلى إباحة، فلم يذكر نسخ إباحة (1) . [هل السنة تنسخ القرآن؟] قال شيخنا: قال ابن أبي موسى: والسنة لا تنسخ القرآن عندنا، ولكنها تخص وتبين. وقد وري عنه رواية [أخرى] : أن القرآن ينسخ بالمتواتر من السنة (2) . قال شيخنا: حكى محمد بن بركات النحوي في كتاب الناسخ والمنسوخ أن بعضهم جوز نسخ القرآن بالإجماع، وبعضهم جوزه بالقياس قال: وهذا يجوز أن يكون مناقضا (3) . قال: واختلف في نسخ الإجماع بالإجماع والقياس بالقياس، والمشهور عن مالك وأصحابه نسخ القرآن بالإجماع ومنع نسخ الإجماع بالإجماع والقياس بالقياس، فقال: وهذا ذكره البغداديون في أصولهم. [شيخنا] : ... ... ... فصل [وهل يوجد ذلك؟] اختلف من قال بجواز نسخ القرآن بالسنة: هل وجد ذلك [أم لا] ؟ فقال بعضهم: وجد ذلك. وقال بعضهم: لم يوجد، قال أبو الخطاب:   (1) المسودة ص 204، 205 ف 2/8. (2) المسودة ص 202 ف 2/8. (3) نسخة «منافقًا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 وهو الأقوى عندي. وحكى ابن عقيل في الفنون عمن قال: «إن خبر الواحد والقياس يجوز أن ينسخ حكم القرآن» . وقرر حنبلي ذلك، أظنه نفسه. وقال: خرج من هذا أن ورود حكم القرآن لا يقطع بثبوته مع ورود خبر الواحد والقياس بما يخالف ذلك الحكم ويصير كأن صاحب الشرع يقول: اقطعوا بحكم كلامي ما لم يرد خبر واحد أو شهادة اثنين أو قياس يضاد حكم كلامي، ومع وروده فلا تقطعوا بحكم كلامي، هذا هو التحقيق، وبناه على أن الحكم بهما قطعي لا ظني. وذكر الباقلاني فيما ذكر أبو حاتم في اللامع أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة [قال: ولا يجوز نسخه بأخبار الآحاد، وأما أخبار الآحاد التي قامت الحجة على ثبوتها وأخبار التواتر التي توجب العلم فقد اختلف الناس فيها] . فقال جمهور المتكلمين وأصحاب مالك وأبي حنيفة: إنه يجوز، وحكي عن أبي يوسف أنه قال: لا يجوز إلا بأخبار متواترة. واختلف هؤلاء فقال بعضهم: وجد في الشرع. وقال آخرون: يجوز وما وجد، ومنع منه الشافعي وجمهور أصحابه. ثم منهم من منع منه عقلا، قال: منع القدرية في الأصلح. ومنهم من اقتصر على منع السمع. قال شيخنا: قلت: وهذا يقتضي أن من أصله أن بعض أخبار الآحاد تجري مجرى التواتر، وأظن الأشعري قد حكي في مقالاته أن مذهب أهل السنة والحديث أنه لا ينسخ بالسنة، وقال: وإليه أذهب (1) . [شيخنا] ... ... ... فصل [نسخ القرآن بالسنة المتواترة] فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة فيجوز عقلا قاله القاضي وبعض الشافعية (2) خلافا لبعضهم (3) .   (1) المسودة ص 204 ف 2/8. (2) نسخة: «وبعض المالكية» بدل الشافعية. (3) المسودة ص 204 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 [نسخ السنة بقرآن] مسألة: يجوز نسخ السنة بالقرآن وبه قالت الحنفية، وللشافعي فيه قولان ذكرهما القاضي وابن عقيل وأبو الطيب. ويتخرج لنا المنع إذا منعنا من تخصيصها به. والأول قول عامة الفقهاء من المالكية والشافعية والمتكلمين والمعتزلة، قال ابن برهان: وشذت طائفة من أصحابنا فمنعوا من ذلك وعزوه إلى الشافعي، قال القاضي في مقدمة المجرد: ولا يجوز نسخ الكتاب بالسنة نص عليه، وأما نسخ السنة بالكتاب فكلامه محتمل، ففي موضع ما يقتضي أن لا تنسخ سنة إلا بسنة مثلها، وفي موضع يجوز ذلك. وقال في العدة: أومأ إليه أحمد، فقال عبد الله: سألت أبي عن رجل أسير أخذ منه الكفار عهد الله وميثاقه أن يرجع إليهم، فقال: فيه اختلاف قلت لأبي: حديث أبي جندل. قال: ذاك صالح على أن يردوا من جاءهم مسلما فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجال ومنع النساء، ونزلت فيهم: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} وقال القاضي: وظاهر هذا أنه أثبت نسخ القصة بقرآن (1) . قال شيخنا: قلت: الذي منع نسخ السنة بقرآن يقول: إذا نزل القرآن فلا بد أن يسن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تنسخ السنة الأولى، وهذا حاصل وأما بدون ذلك فلم يقع (2) . [الزيادة على النص هل تكون نسخا؟] مسألة: الزيادة على النص ليست نسخا عند أصحابنا والمالكية والشافعية (3) والجبائي وابنه أبي هاشم. وقالت الحنفية منهم الكرخي وأبو عبد الله البصري وغيرهما: هي نسخ. وقالت الأشعرية وابن نصر المالكي والباجي متابعة منهم لابن الباقلاني: إن غيرت حكم المزيد عليه كجعل الصلاة ذات الركعتين أربعا فهو نسخ وإن لم تغيره كزيادة عدد   (1) قلت: لعله «السنة» . (2) المسودة ص 206 ف2/8. (3) نسخة: «والشافعي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 الجلد وإضافة الرجم إلى الجلد فليس بنسخ، ولم يحك أبو الطيب هذا القول إلا عن أبي بكر الأشعري يعني الباقلاني. وحكى ابن برهان هذا عن عبد الجبار بن أحمد، وحكى مذهبا آخر. قال شيخنا: قلت: التحقيق في مسألة الزيادة على النص زيادة إيجاب أو تحريم أو إباحة أن الزيادة ليست نسخا إذا رفعت موجب الاستصحاب أو المفهوم الذي لم يثبت حكمه، إلا بمعنى النسخ العام الذي يدخل فيه التخصيص ومخالفة الاستصحاب ونحوهما، وذلك يجوز بخبر الواحد والقياس. وأما إن رفعت موجب الخطاب فهو نسخ [بمعنى] النسخ المشهور في عرف المتأخرين إن كان ذلك الموجب قد ثبت أنه مراد [بالخطاب. وأما إذا لم يثبت أنه مراد إما مع] تأخر المفسر عند من يجوز تأخره. أو مع جواز تأخره عند من يوجب الاقتران فإنه كتخصيص العموم، مثال الأول: ضم النفي إلى الجلد ونحو ذلك، فإنه إنما رفع الاستصحاب والمفهوم ولم يرفع موجب الخطاب المنطوق. فالزيادة على النص بمنزلة تخصيص العموم وتقييد المطلق. ومثال الثاني: لو أوجب النفي في حد القاذف، وكذا التفسيق ورد الشهادة متعلقا بهما فقد قال الغزالي وأبو محمد: إنه لا يكون نسخا؛ لأن ذلك تابع لجلد، لا مقصود، فأشبه نسخ عدة الحول إلى أربعة أشهر وعشر، فإن ذلك نسخ لوجوب العدة، لا تحريم نكاح الأزواج، وهكذا قال. والصواب أن نسخ العدة لكلا الحكمين نسخ لإيجاب الزيادة (1) ولتحريم نكاح الأزواج، فهو نسخ لبعض موجب الخطاب الذي أريد وإبقاء لبعضه وهو كتخصيص العموم الذي استقر وأبد كآية اللعان ونحوها، وكذلك على هذا إذا كانت الزيادة شرطا في صحة المزيد بحيث يكون وجود المزيد كعدمه بدون الزيادة، كزيادة ركعتين في صلاة   (1) نسخة: «نسخ الإيجاب والزيادة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 الحضر وزيادة الأركان والشروط في العبادات؛ فإن من قال: «هذا نسخ» قال: لأن الخطاب الأول اقتضى الصحة والإجزاء مع الوجوب وقد ارتفع بالزيادة الصحة والإجزاء. وقد أجاب أبو محمد عن هذا بأن النسخ رفع جميع موجب الخطاب لا رفع بعضه، إذ رفع بعضه كتخصيص العموم وترك المفهوم، وبأنه لو كان نسخا فإنما يكون إذا استقر وثبت، ومن المحتمل أن دليل الزيادة كان مقارنا. والتحقيق: أن الكلام في مقامين، أحدهما: أن الصحة والأجزاء من مدلول الخطاب فقط، أم من مدلول العقل، والثاني: أنه إذا كان من مدلول الخطاب فرفع بعضه هو كتخصيص العموم (1) يفرق فيه بين ما ثبت أنه مراد؛ فإن مسألة الزيادة على النص إذا رفعت بعض موجب الخطاب هي بمنزلة تخصيص العموم، فالزيادة على الخطاب بالتقييد كالنقص منه بالتخصيص. وهذه المسألة هي بعينها مسألة تقييد المطلق؛ فإن ذلك زيادة في اللفظ ونقص في المعنى، كالزيادة في الحد فإنها نقص في المحدود. والتخصيص زيادة خطاب تنقص الخطاب الأول. فنقول: أما «المقام الأول» : فإن الصحة حصول المقصود، والإجزاء حصول الامتثال، وهذا يستفاد من معرفة المقصود والأمر، وهو إنما يعلم بالعقل مع الاستصحاب؛ فإنه لا بد أن يقال: لم يؤمر إلا بهذا، وقد امتثل، وليس المقصود إلا هذا، وقد حصل، فالعلم بالمثبت من جهة الخطاب، وبالمنفي من جهة الاستصحاب والمفهوم، فإذا أوجب زيادة رفعت موجب الاستصحاب والمفهوم، وإذا جعلها شرطا رفعت الحكم المركب من السمع والعقل، فلم ترفع حكما سمعيا؛ بل إنما رفعت ما ثبت بالاستصحاب والمفهوم، فإنه بهما تثبت الصحة   (1) نسخة: «فرفع بعضه تخصيص يفرق» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 والإجزاء لا بنفس الخطاب فلا يكون رفعه نسخا. هذا هو الجواب المحقق، دون ما ذكره أبو محمد. المقام الثاني: أنه لو رفع بعض موجب الخطاب فإن ثبت أنه مراد - كما لو ثبت أن الأمر للوجوب ثم نسخ إلى الندب، أو العموم ثم خص، أو لمطلق المعنى ثم قيد- فهذا نسخ، وإن لم يثبت أنه مراد لم يكن نسخا، وتراخي المخصص والمقيد لا يوجب أن يكون مرادا في ظاهر المذهب، وفي الرواية الأخرى: يوجب أن يكون مرادا. فإذا قيل: استقرار العموم والمفهوم إن عني به انفصال الصارف ففيه الروايتان. وإن عني به استقرار حكمه فهذا لا ينبغي أن يكون فيه خلاف مع أن كلام أبي محمد يقتضي خلاف ذلك. فقد تحرر أن الزيادة تارة ترفع موجب الاستصحاب. وتارة ترفع موجب المفهوم. وتارة ترفع موجب الإطلاق والعموم. وفي هذين الموضعين: تارة يكون قد ثبت أن المتكلم أراد مقتضى المفهوم أو الإطلاق والعموم. وتارة لم يثبت أنه أراده. فمتى لم يثبت أنه أراده فهو كتخصيص العموم. وأما إن ثبت أنه أراده فهو بمنزلة الاستصحاب الذي قرره السمع، رفعه يكون نسخا، لكن ذلك لا لأنه مجرد زيادة على النص لكن بمعنى آخر. فالصواب ما أطلقه الأصحاب من أن الزيادة على النص ليست نسخا بحال، والقول فيها كالقول في تخصيص العموم وتقييد المطلق سواء. وأيضا فالزيادة تارة تكون في الحكم فقط، وتارة في الفعل فالأول: مثل أنه أباح الجهاد أولا ثم أوجبه، أو يندب إلى الشيء ثم يوجبه فهنا زاد الحكم من غير أن يرفع الحكم الأول، وإنما رفع موجب الاستصحاب والمفهوم، إلا أن يكون الخطاب الأول قد نفى الوجوب. ثم الخطاب إذا دل على عدم الإيجاب وعدم التحريم فهو مثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 النصوص الواردة في الخمر قبل التحريم: هل هو نسخ؟ فيه خلاف، قال أبو محمد: هو نسخ. والأشبه أنه ليس بنسخ؛ لأنه لم ينف الحرج ولم يؤذن في الفعل، وإذا سكت عن التحريم أقروا على الفعل إلى حين النسخ، والإقرار المستقر حجة. وأما غير المستقر فبمنزلة الاستصحاب المرفوع. فلو فعل المسلمون شيئا مدة فلم ينهوا عنه ثم نهوا عنه لم يكن هذا نسخا، وإن كان الإقرار [على الشيء] حجة شرعية لأن الإقرار إنما يكون حجة إذا لم ينهوا عنه بحال، فمتى نهوا عنه [فيما بعد زال] شرط كونه حجة، وقد يقال: هو نسخ (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل قال القاضي: واحتج بأنكم قد جعلتم الزيادة على النص نسخا لدليل الخطاب يجب أن يكون نسخا للمزيد عليه. وبيانه أنه إذا أمر الله أن يجلد الزاني مائة واستقر ذلك ثم زاد بعد ذلك عليها زيادة كان ذلك نسخا لدليل الخطاب؛ لأن قوله: «اجلدوا مائة» دليله لا تجلدوا أكثر منها، وهذا كما قالت الصحابة والتابعون: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الماء من الماء» منسوخ، وإنما المنسوخ حكم دليل الخطاب منه دون حكم النطق. فقال القاضي: والجواب أن الفرق بينهما ظاهر، وذلك أن المزيد عليه لم يتغير حكمه، وهو بعد الزيادة كهو قبلها، وليس كذلك دليل الخطاب، فإنه قد زال، لأن تقديره: لا تزيدوا على المائة، وقد أوجب الزيادة عليها، فصار المنع من الزيادة منسوخا. قال: وربما قال قائل: إن ذلك ليس بنسخ وإنما هو جار مجرى التخصيص للعموم. قال: لأن دليل الخطاب من القرآن والسنة المتواترة يجوز تركه بالقياس وبخبر الواحد. قال القاضي: والصحيح أنه نسخ؛ لأن العموم إذا استقر بتأخر بيان التخصيص كان ما يرد بعده مما يوجب تركه نسخا، وكذلك دليل   (1) المسودة في أصول الفقه ص 207-211 فيه زيادة ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 الخطاب إذا استقر كان ما يرد بعده مما يوجب تركه نسخا، وكذلك ذكر أبو محمد أنه لو ثبت حكم المفهوم واستقر بتراخي البيان يكون نسخا. قال شيخنا: قلت: هذا ينبني على جواز تأخير البيان: إن لم نجوزه فالتراخي يقتضي الاستقرار وإن جوزناه فالتراخي لا يقتضي الاستقرار (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا نسخ الأصل فهل تتبعه فروعه] إذا نسخ الأصل تبعت فروعه، مثله القاضي بمسألتين إحداهما نسخ التوضؤ بالنبيذ النيء يتبعه المطبوخ وقد أجزأ بنية من النهار فكذلك كل صوم معين مستحق ثم نسخ وجوبه وبقي حكمه في غيره. والأولى صحيحة، وفيها نظر أيضا. فإن المنسوخ عندهم تجويز شربه فتتبعه الطهورية فإنها نفس المسألة. وأما المسألة الثانية: ففيها نظر، والصحيح فيها أن ذلك لا يوجب نسخ ذلك الحكم. وأصحابنا كثيرا ما يسلكون هذه الطريقة إلى استدلالهم (2) ، وذلك بأن المنسوخ هو وجوب صوم يوم عاشوراء فسقط أجزاؤه بنية من النهار لعدم المحل. فأما كون الواجب يجزئ بنية من النهار فلم يتعرض لنسخه. وهذا مثل احتجاجهم في القرعة بقصة يونس، وهي في الذم. ومما يشبه نسخ بعض الأصل قرعة يونس على إلقاء نفسه في اليم، فإن الاقتراع على مثل هذا لا يجوز في شرعنا، لأن المذنب نفسه لو عرفناه لم نلقه، فهل يكون نسخ القرعة في هذا الأصل نسخا لجنس القرعة؟   (1) المسودة في أصول الفقه ص 111، 212 ف 2/8. (2) نسخة: «في استدلالهم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على القرعة. وأقرب منه قرعة زكريا، فإنهم اقترعوا على الحضانة، وهو جائز، لكن المقترعون كانوا رجالا أجانب فاقترعوا لأنهم قد كان في شرعهم له ولاية حضانة المحررة، فارتفاع الحكم في عين الأصل لا يكون رفعا له في مثل ذلك الأصل إذا وجد. ومثل ذلك نهيه لمعاذ عن الجمع بين الائتمام وإمامة قومه إذا كان للتطويل عليهم هل يكون نسخا لما دل الجمع عليه من ائتمام المفترض بالمتنفل؟ قال القاضي في مسألة «نسخ الأصل نسخ لفرعه» : احتج المخالف بأنه لو نسخ ذلك لكان نسخا بالقياس على موضع النص، وهذا لا يجوز بالإجماع. فقال: والجواب: أنه ليس بنسخ بالقياس، وإنما زال الموجب فزال ما تعلق به، كما إذا زالت العلة زال الحكم المتعلق بها. قال: وإنما النسخ بالقياس أن ينسخ حكم الفرع بعد استقراره بالقياس على أصل شرع بعد استقراره، وهذا لا يجوز بالإجماع. فأما إزالته بنسخ أصله فليس بنسخ بالقياس. قال شيخنا: قلت: بل هو في المعنى نسخ بالقياس كما هو إثبات بالقياس؛ لأن الحكم الثابت في الأصل أثبت في الفرع قياسا، ثم إذا ثبت التحريم في الأصل ثبت في الفرع قياسا، إلا أن يقول القاضي: أنا أزيل حكم الأصل عن الفرع ولا أثبت ضده فلا يمشي هذا، لأن الفرع كان قد ثبت فيه حكم الأصل فلا بد من مزيل إما خطاب وإما حكم، والخطاب لم يتناوله فثبت أنه نسخ لحكم الأصل، وهذا جائز ولهذا قال لما ذكر المسألة مفردة: وأما القياس فلا ينسخ لأنه مستنبط من أصل فلا يصح نسخه مع بقاء الأصل المستنبط منه، والأصل باق فكان القياس باقيا ببقائه، وإذا لم يصح نسخه لم ينسخ به أيضا، لأنه إنما يصح ما لم يعارضه أصل، فإن عارضه أصل سقط في نفسه فبطل أن ينسخ الأصل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 قال شيخنا: قلت: ولم يتعرض لنسخه مع أصله بفرع الأصل الناسخ لأصله، وهي المسألة المتقدمة (1) . [هل يجوز نسخ القياس في عصر النبوة؟] وقال ابن عقيل في أواخر كتابه: يجوز نسخ القياس في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن طريق النسخ حاصل، وهو الوحي، فإذا قال: حرمت المفاضلة في البرِّ لأنه مطعوم كان ذلك نصا منه على الحكم وعلى علته. وقد اختلف الناس: هل نصه على العلة إذن منه في القياس أم لا؟ على مذهبين. فإن كان هذا إذنا أو أذن في القياس نصا فقاسوا الأرز على البر، فعاد وقال بعد ذلك بيعوا الأرز بالأرز متفاضلا، فقال قوم: يكون تخصيصا للعلة بالطعم في البر خاصة. قال شيخنا: قلت: هو أشبه بكلام أحمد، وكلامه في مسألة الاستحسان يدل عليه. وقال قوم: يكون نسخا للقياس. والذي لا خلاف فيه أن يصرح فيقول: لا تقيسوا الأرز على البر في تحريم التفاضل فهذا غير ممتنع؛ بل الممتنع نسخ قياس استنباطه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا وحي ينزل بعد عصره، فإن عثر على نص يخالف حكم القياس كان القياس باطلا (2) (3) . [نسخ القياس والنسخ به وصور ذلك] مسألة: نسخ القياس والنسخ به مسألة عظيمة. والحنفية وغيرهم يقعون فيها كثيرا فإنهم يعارضون بين قياس أحد النصين والنص الآخر، ويجعلونه ناسخا أو منسوخا، وأحمد يخالفهم في ذلك. والنكتة أنه: هل يجوز أن يكون بين الفرع والأصل فرق يصح معه الفرق في الحكم؟ فإن لم يصح فرق وإلا ثبت النسخ إلا أن يقال بالتعبد.   (1) المسودة ص213-215 ف 2/8. (2) نسخة: «كان القياس رفعا، لكنه لا يكون نسخا، لكن نتبين أن القياس كان باطلا» . (3) المسودة ص 215، 216 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 قال شيخنا: قلت: متى كان أصل القياس متقدما في الثبوت على النص المخالف له أمكن أن يكون نسخا (1) (2) . مسألة: قال أبو الخطاب في نسخ [ما ثبت] بالقياس إن كان ثبوته بعلة منصوص عليها أو منبه عليها: مثل أن ينص على تحريم البر لعلة الكيل ويتعبد بالقياس عليه، ثم ينص بعده على إباحته في الأرز ويمنع من قياس البر عليه كان نسخا. فأما ما ثبت بقياس مستنبط فلا يصح نسخه، ومتى وجدنا نصا بخلافه، وجب المصير إليه وتبينا به فساد القياس. هذا معنى كلامه. وعندي في تقييده أولا نظر. وقال المقدسي: ما يثبت بالقياس إن كان منصوصا على علته فهو كالنص ينسخ وينسخ به، وإن لم يكن منصوصا على علته لم ينسخ ولم ينسخ به. وشذت طائفة فأجازته. والذي ذكره القاضي أن القياس لا ينسخ ولا ينسخ به. وقال الجويني: إذا ورد نص واستنبط منه قياس ثم نسخ النص تبعه القياس المستنبط. وقال أبو حنيفة: لا يبطل القياس. ثم قال الجويني: وعندي أن المعنى المستنبط من الأصل إذا نسخ بقي معنى الأصل له، فإن صح الاستدلال نظرنا فيه، وإن لم يصح أبطلناه. قال شيخنا: مسألة النسخ بالقياس لها صور: إحداها: أن ينسخ حكم الأصل فيتبعه الفرع أولا، أو يفصل بين العلة المنصوصة وغيرها. الثانية: أن يكون حكم الأصل ثابتا ويجيء نص في الفرع يخالف موجب القياس: فهل يكون ذلك نسخًا لذلك الحكم الثابت بالقياس؟   (1) نسخة: «أمكن أن يكون ناسخًا» . (2) المسودة ص 216 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 طريقة القاضي أن هذا لا يقع؛ لأنه يقول: ما دام حكم الأصل باقيا وجب بقاء حكم الفرع ولا يزول الفرع إلا بزوال أصله. وقال غيره: بل وجود النص يبين أن القياس فاسد؛ لأن جواز استعماله موقوف على فقد النص، فتكون العلة مخصوصة. وقال أبو الخطاب وغيره: إن كانت علة الأصل منصوصة كان نسخا. الثالثة: أن يرد نص، ثم يجيء بعده نص حكم فرعه يخالف الأول: فهل ينسخ الأول بهذا القياس؟ قال القاضي وابن عقيل وغيرهما: لا ينسخ به؛ بل يكون فاسدا، وفي ضمن تعليله النص على العلة المنصوصة. وقيل: ينسخ بالقياس المنصوص على علته. فالخلاف في العلة المنصوصة: عند القاضي وابن عقيل لا ينسخ ولا ينسخ به. وعند أبي الخطاب: ينسخ ولا ينسخ به. وهل يشترط في النسخ به أن يمنع من القياس على الناسخ؟ عند أبي الخطاب يشترط وعند صاحب المغني ينسخ وينسخ به. قال شيخنا: هذا الذي فهمته من النقل فليراجع. وتعليل القاضي وغيره في مسألة نسخ المفهوم وغيرها يقتضي إجراءه مجرى المنصوص على علته، كما قال صاحب المغني. وتحقيق الأمر في نسخ القياس: إنه إن استقر حكم ثم جاء بعده نص يعارضه كان نسخا للقياس فقط، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة. وإن لم يستقر حكمها كان مجيء النص دليلا على فساد القياس. وهكذا القول في نسخ العموم والمفهوم وكل دليل ظني بقطعي أو بظني أرجح منه؛ فإنه عند التعارض إما أن يرفع الحكم أو دلالة الدليل عليه. فالأول هو النسخ الخاص. والثاني من باب فوات الشرط أو وجود المانع. ونسخ القياس المنصوص على علته يبني على تخصيص العلة: إن جوزنا تخصيصها فهي كنسخ اللفظ العام، فيكون نسخ الفرع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 تخصيصا، وإن لم نجوز تخصيصها فهو نسخ. والذي ذكره أصحابنا والشافعية والمالكية عن الحنفية أنهم احتجوا بحديث الوضوء بالنبيذ، فقيل لهم: ذلك كان نيئا وعندكم لا يجوز الوضوء بالنَّيِّئ. فقالوا: إذا ثبت الوضوء بالنَّيِّئ في ذلك الوقت ثبت الوضوء بالمطبوخ، لأن أحدا لا يفرق بينهما في ذلك الوقت، ثم نسخ النيئ وبقي المطبوخ. فقال أصحابنا وموافقوهم: إذا كان ثبوته بثبوته كان زواله بزواله. قال شيخنا: قلت: الذي ذكره الحنفية جيد، لو فرض أنه لم يحرم من الأنبذة إلا النيئ، وذلك أنه على هذا التقرير جاز التوضؤ بهما إذ ذاك ثم صار الأصل حراما دون الفرع، فالمعنى الناسخ اختص به الأصل دون الفرع، وكذلك قولهم في مسألة التبييت في صوم عاشوراء، فإنه إذا ثبت أن صوما واجبا يجزئ بغير تبييت كان حكم سائر الصوم الواجب كذلك ثم نسخ الحكم في الأصل وإنما هو لزوال وجوبه. والتحقيق أن هذا ليس من باب نسخ الحكم في الأصل وإنما هو من باب نسخ الأصل نفسه؛ فإن الشارع تارة ينسخ الحكم مع بقاء الأصل فهنا لا يقع ريب أن الفرع يتبعه. وتارة يرفع الأصل فلا يلزم رفع الحكم بتقدير وجود الأصل. والمسألة محتملة، إذ لقائل أن يقول: لو بقي الأصل فقد كان يبقى حكمه وقد لا يبقى. ومن هذا الباب حديث معاذا إذا قيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن الإمامة بهم (1) . [شيخنا] : فصل بيان الغاية المجهولة مثل التي في قوله: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [15/4] نسخ عند القاضي وغيره، وقال: الناسخ قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [2/24] ، قال: لأن هذه الغاية مشروطة في   (1) المسودة ص 216-218 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 [بيان الغاية المجهولة نسخ] حكم مطلق؛ لأن غاية كل حكم إلى موت المكلف أو إلى النسخ، وكذلك ذكر في نسخ الأخف بالأثقل: إن حد الزنا في أول الإسلام كان الحبس، ثم نسخ وجعل حد البكر الجلد والتغريب، والثيب الجلد والرجم. وكذلك قال القاضي: لما احتج اليهود بما حكوه عن موسى أنه قال: شريعتي مؤبدة ما دامت السموات والأرض. فأجاب بالتكذيب. وبجواب آخر وهو أنه لو ثبت لكان معناه إلا أن يدعو صادق إلى تركها، وهو من ظهرت المعجزة على يده وثبتت نبوته بمثل ما ثبتت به نبوة موسى؛ والخبر يجوز تخصيصه كما يجوز تخصيص الأمر والنهي. [وشريعتنا ناسخة للشرائع قبلها] قال شيخنا رضي الله عنه: قلت: وعلى هذا يستقيم أن شريعتنا ناسخة، وهذا قول أبي الحسن وغيره. ثم ذكر القاضي [في مسألة نسخ القرآن بالسنة] أن الحبس من الآية لم ينسخ؛ لأن النسخ أن يرد لفظ عام يتوهم دوامه ثم يرد ما يرفع بعضه. والآية لم ترد بالحبس على التأبيد، وإنما ورد به إلى غاية هو أن يجعل الله لهن سبيلا، فأثبت الغاية، فوجب الحد بعد الآية بالخبر. ذكر ذلك في جواب من زعم أن بعض القرآن نسخ بالسنة كآية الوصية بقوله: «لا وصية لوارث» وآية حد الزنا من الحبس والأذى بقوله: «خذوا عني» ، وقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [191/2] بقتل ابن خطل. فقال القاضي: الوصية منسوخة بآية المواريث. وأجاب عن حد الزنا بما تقدم ذكره. قال: وقد قيل: إنه في البكر منسوخ بقول: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [2/24] وفي الثيب بآية الرجم التي نسخ رسمها وبقي حكمها، وقوله: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [191/2] منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [5/9] (1) .   (1) المسودة ص 219، 220 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا نسخ النطق فهل ينسخ المفهوم والعلة؟] إذا نسخ النطق فقال أبو محمد: ينسخ أيضا ما ثبت بعلة النص أو بمفهومه أو بدليله خلافا لبعض الحنفية. قال شيخنا: قلت: قد خالفه ابن عقيل وغيره في انتساخ المفهوم الذي هو الفحوى، وكذلك خالفه الجد في العلة المنصوصة. وأما دليل الخطاب فهو كمفهوم الموافقة وأولى. ففي هذه المسائل وجهان. وجماع هذا: أن معقول الأصل الذي هو القياس والتنبيه والدليل إما أن تنسخ مفردة، أو تنسخ مع أصلها. وعلى التقديرين فالناسخ لها إما نص أو هي، فيجيء اثنا عشر قسما أو أربعة وعشرون (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [والحكم المبتدأ أيضا] كلام القاضي يقتضي أن هذا لا يختص بمسألة النسخ؛ بل يشمل الحكم المبتدأ؛ فإنه قال: إذا كان الناسخ مع جبريل ولم يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ليس بنسخ، وإن وصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل يكون نسخا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه ليس بنسخ إلا عمن بلغه ذلك وعلم، لأنه أخذ بقصة أهل قباء، واحتج بها على إثبات خبر الواحد في رواية أبي الحارث والفضل بن زياد. ثم قال في الدليل: ولأن الخطاب لا يتوجه إلى من لا علم له به. كما لا يخاطب النائم والمجنون لعدم علمهما وتمييزهما، ولأنه لا خلاف أنه مأمور بالأمر الأول، ومتى تركه مع جهله بالناسخ كان عاصيا، فدل على أن الخطاب باق عليه. قال: واحتج المخالف بأنه لا يمتنع أن يسقط حكم الخطاب بما لم يعلم كالموكل إذا عزل وكيله وانعزل قبل العلم فلا يصح بيعه. فأجاب بأن في تلك المسألة روايتين إحداهما: لا ينعزل ويحكم بصحة بيعه، وكذلك لو مات الموكل فباع   (1) المسودة ص 222 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 صح بيعه وعلى هذا قال أصحابنا: إذا حلف على زوجته فقال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فأذن لها وهي لا تعلم وخرجت وقع الطلاق ولم يكن لذلك الإذن حكم. وفيه رواية أخرى: ينعزل الوكيل وإن لم يعلم. فعلى هذا الفرق بينهما أن أوامر الله ونواهيه مقرونة بالثواب والعقاب فاعتبر فيها العلم بالمأمور به والمنهي عنه وليس كذلك الإذن في التصرف والرجوع فيه؛ فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب. وقد ذكرت هذه المسألة في موضع آخر، وبينت أن فيها ثلاثة أقوال لنا (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل يتعلق بمسألة النسخ بالقياس [قاعدة أحمد فيما إذا تعارض حديثان في قضيتين..] قاعدة أحمد التي ذكرها في كلامه [ودلت عليها تصرفاته] : أنه إذا تعارض حديثان في قضيتين متشابهتين داخلتين تحت جنس واحد لم يدفع أحد النصين بقياس النص الآخر؛ بل يستعمل كل واحد من النصين في موضعه، ويجعل النوعين حكمين مختلفين، والمسكوت عنه يلحقه بأحدهما، مثل ما عمل في السجود قبل السلام وبعده، ومثل ما عمل في صلاة الفذ خلف رجلا كان أو امرأة، ومثل ما عمل فيمن باع عبدا وله مال مع حديث القلادة الخيبرية، وفي مسألة مد عجوة، ومثل ما عمل في حديث هند: «خذي ما يكفيك وولدك» مع قوله: «أد الأمانة إلى من ائتمنك» وهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يظهر بين النوعين المنصوصين فرق، فهذا ظاهر. والثاني: أن يعلم انتفاء الفرق، فهذا ظاهر أيضا. وأحمد وغيره يقولون بالتعارض، مثل أن يكون أحد النصين في حق زيد والآخر في حق عمرو، ونحو ذلك.   (1) المسودة ص 223، 224 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 والثالث: أن تكون التسوية ممكنة، والفرق ممكنا، فهنا هو مضطرب الفقهاء، فمن غلب على رأيه التسوية قال بالتعارض والنسخ، مثلا، ومن جوز أن يكون هناك فرق لم يقدم على رفع أحد النصين بقياس النص الآخر، وقد يعم كلام أحمد هذا القسم فينظر ويقول: هذا من جنس خبر الواحد المخالف لقياس الأصول. وأهل الرأي كثيرا ما يعارضون النصوص الخاصة بقياس نصوص أخرى، أو بعمومها، وفي كلام أحمد إنكار على من يفعل ذلك (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في النسخ بالعموم والقياس [النسخ بالعموم والقياس] الحنفية يقولون بهذا كثيرا، وأصحابنا والشافعية وغيرهم يدفعونه كثيرا. والحاجة إلى معرفته ماسة، فإنه كثيرا ما وقعت أحكام الأفعال في وقت لم يكن نظائر تلك الأفعال محرمة ثم حرمت تلك الأفعال بلفظ يخصها أو بلفظ يعمها والفعل الآخر. فالواجب فيه أن ينظر، فإن كان ذلك العموم مما قد عرف دخول تلك الصورة فيه كان نسخا (2) ، وكذلك إذا لم يكن بين الصورتين فرق، وهذا مثل ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه كان يعامل المشركين والمنافقين من العفو والصفح قبل نزول براءة» وكانت المساجد ينتابها المشركون قبل نزول براءة وكان المسلمون يلون أقاربهم المشركين في الغسل وغيره، كولاية علي أباه، قبل أن يقطع الله الموالاة بينهم. وبالجملة: متى كان الحكم الأول قد عرفت علته وزالت بمجيء النص الناسخ أو كان معنى النص الناسخ متناولا لتلك الصورة فلا ريب   (1) المسودة ص 225 ف 2/8. (2) نسخة: «كان ناسخًا» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 في ناسخ. وتختلف بعض آراء المجتهدين في بعض هذه التفاصيل وهذه القاعدة يحتاج إليها في الفقه كثيرا (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [النسخ بالتعليل نسخ للشريعة وما له إلى الانحلال ... ] ما حكم به الشارع مطلقا أو في أعيان: فهل يجوز تعليله بعلة مختصة بذلك الوقت بحيث يزول ذلك الحكم زوالا مطلقا قد ذهب الحنفية والمالكية إلى جواز ذلك، ذكروه في مسألة التحليل، وذكره المالكية في حكمه بتضعيف الغرم على سارق الثمر المعلق والضالة المكتومة ومانع الزكاة وتحريق متاع الغال، وهو يشبه قول من يقول: إن حكم المؤلفة قد انقطع. قال شيخنا: وهذا عندي اصطلام للدين ونسخ للشريعة بالرأي، ومآله إلى انحلال من بعد الرسول عن شرعه بالرأي؛ فإنه لا معنى للنسخ إلا اختصاص كل زمان بشريعة، فإذا جوز هذا بالرأي نسخ بالرأي. وأما أصحابنا وأصحاب الشافعي فيمنعون ذلك، ولا يرفعون الحكم المشروع بخطاب إلا بخطاب. ثم منهم من يقول: قد تزول العلة ويبقى الحكم كالرمل والاضطباع. ومنهم من يقول: النطق حكم مطلق وإن كان سببه خاصا، فقد ثبتت العلة بها مطلقا. وهذان جوابان لا يحتاج إليهما، واستمساك الصحابة بنهيه عن الادخار في العام القابل يبطل هذه الطريقة. وهذا أصل عظيم. وهذا أقسام؛ أحدها: أن يكون الحكم ثبت بخطاب مطلق. الثاني: أن يثبت في أعيان. الثالث: أن لا يكون خطابا وإنما يكون فعلا أو إقرارا وينبغي أن يذكر هذا في مسألة النسخ بالقياس، ويسمى النسخ بالتعليل؛ فإنه تعليل للحكم بعلة توجب رفعه وتسقط حكم الخطاب (2) .   (1) المسودة ص 226، 227 ف 2/8. (2) المسودة ص 277، 228 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 [شيخنا] : ... ... ... فصل [وإذا عادت العلة، والعكس] فإن كان الحكم مطلقا فهل يجوز تعليله بعلة قد زالت لكن إذا عادت يعود؟ فهذا أحق من الأول، وفيه نظر. وعكسه أن ينسخ الحكم بخطاب فيعلل الناسخ بعلة مختصة بذلك الزمان بحيث إذا زالت العلة زالت النسخ. والفقهاء يقعون في هذا كثيرا، وهو أيضا خطاب مطلق أو معين أو فعل أو إقرار. فأما الفعل والإقرار فيقع هذا فيه كثيرا؛ إذ لا عموم له وكذلك يقع في القضية التي في عين كثيرا، لكن وقوعه في الخطاب العام فيه نظر (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل قال ابن عقيل: قال حنبلي: والنسخ لا يحصل تأريخه بالدليل العقلي، ولا مجال للعقل في علم التقديم والتأخير، ولا يحصل إلا من طريق الخبر (2) . [إذا قال الصحابي: هذه الآية منسوخة] مسألة: إذا قال الصحابي: هذه الآية منسوخة فإنا لا نصير إلى قوله حتى يخبر بماذا نسخت. قال القاضي: أومأ إليه أحمد. وبه قالت الحنفية والشافعية. وفيه رواية أخرى: يقبل قوله ذكرها ابن عقيل وغيره. وهكذا كان القاضي قد قال أولا. وعندي أنه إن كان هناك نص آخر يخالفها فإنه يقبل قوله في ذلك؛ لأن الظاهر أن ذلك النص هو النسخ، ويكون حاصل قول الصحابي الإعلام بالتقدم والتأخر، وقوله يقبل في ذلك. والد شيخنا: وذكر أبو الخطاب أنه يقبل في الخبر، ولم يفصل كالرواية التي حكاها ابن عقيل، ولم يذكر لنا خلافا.   (1) المسودة ص 228 ف 2/8. (2) المسودة ص 230 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 شيخنا: وذكر الباجي في هذه المسألة ثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه لا يقبل بحال حتى يبين الناسخ ليعلم أنه ناسخ، لأن هذا كفتياه، وهو قول ابن الباقلاني والسمناني، واختاره الباجي. والثاني: أنه إن ذكر الناسخ لم يقع به نسخ، وإن لم يذكره وقع. والثالث: يقع به نسخ بكل حال (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا قال الصحابي هذا الخبر منسوخ] قال القاضي: فأما خبر الواحد إذا أخبر به صحابي وزعم أنه منسوخ فإنه على قول من يجوز للراوي نقل معنى الأخبار يجب أن يثبت به النسخ؛ لأن ظاهر كلامه أنه معنى كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النسخ؛ لامتناع أن يحمل قوله على غير حقيقته. وأما على قول من يعتبر اللفظ فلا ينسخ به؛ لجواز أن يكون ما سمعه ظن أنه ناسخ، ولو أظهره لم يكن ناسخا عندنا (2) . [وإذا قال الراوي كان كذا ونسخ] مسألة: إذا قال الراوي: كان كذا ونسخ، فقال ابن برهان: قبل قوله في الإثبات دون النسخ عندنا. وقال أصحاب أبي حنيفة: قبل قوله في النسخ. قال شيخنا: ويجب الفرق بين أن يقول: «كان كذا، ونسخ» وبين أن يقول لخبر معلوم بنقل غيره «هذا منسوخ» فإن هذا بمنزلة قوله عن الآية «هي منسوخة» (3) .   (1) المسودة ص 230، 231 ف 2/8. (2) المسودة ص 231 ف 2/8. (3) المسودة ص 231، 232 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 الأصل الثاني السنة مسألة: التأسي بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقتضيه العقل، لم يذكر ابن برهان فيه خلافا. [التأسي بأفعال النبي هل يقتضيه العقل ويوجبه] [والد شيخنا] : وذكره القاضي في الكفاية والعدة، وذكره الحلواني، وقال: خلافا لبعض الناس في قولهم: وجوبها بالعقل. شيخنا: وكذلك حكى ابن عقيل عن بعض الأصوليين ورد عليه (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [وأفعاله هل لها دليل وهل يفعل المكروه ... ] قال القاضي: أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها دليل، وأخذه من قول أحمد: لا يصلي على القبر بعد شهر، لحديث أم سعد، ووافقه ابن عقيل في الأخذ وخالفه في الحكم. والصحيح ضعف الأخذ والحكم. وقال ابن عقيل: ذكر أصحابنا عن أحمد أنه جعل للفعل دليلا، وأخذه من مسألة الصلاة على القبر، وأحال هو ذلك، وجوز أن يكون المستند استصحاب الحال، وبسط القول، وسلم الدلالة إذ أكثر الفعل، وأكثر الكلام (2) .   (1) المسودة ص 186 ف 2/8. (2) المسودة ص 189 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 [شيخنا] : ... ... ... فصل وإذا ثبت أن أفعاله على الوجوب فإن وجوبها من جهة السمع، خلافا لمن قال: تجب بالعقل. هذا كلام القاضي، وهذا أخص من التأسي (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل قال القاضي: النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل المكروه ليبين الجواز، لأنه يحصل فيه التأسي، لأن الفعل يدل على الجواز، فإذا فعله استدل به على جوازه، وانتفت الكراهية، وذكر عن الحنفية أنهم يحملون توضؤه بسؤر الهر على بيان الجواز مع الكراهية (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [السهو في البلاغ ولا يقر عليه] يجوز النسيان على رسوله الله - صلى الله عليه وسلم - في أحكام الشرع عند جمهور العلماء، كما في حديث ذي اليدين وغيره، وكما دل عليه القرآن واتفقوا على أنه لا يقر عليه، بل يعلمه الله به. ثم قال الأكثرون: شرطه تنبيهه - صلى الله عليه وسلم - (3) على الفور متصلا بالحادثة، ولا يقع فيه تأخير. وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته، واختاره أبو المعالي. ومنعت طائفة السهو عليه في الأفعال البلاغية والعبادات، كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه في الأقوال البلاغية، وإليه مال أبو إسحاق الإسفرائيني. قال القاضي عياض: واختلفوا في جواز السهو عليه - صلى الله عليه وسلم - فيما لا يتعلق بالبلاغ وبيان الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه، فجوزه الجمهور. وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه، كما أجمعوا على امتناع تعمده. وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق   (1) المسودة ص 353 ف 2/8. (2) المسودة ص 189، 190 ف 2/8. (3) نسخة تبيينه - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي فجوزه قوم، قال عياض: والحق ترجيح قول من منع ذلك على الأنبياء في كل خبر من الأخبار، كما لا يجوز عليه خلف في خبر، لا تعمدا ولا سهوا، لا في صحة ولا في مرض، ولا رضا ولا غضب. وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع. قال شيخنا: سيأتي ما يتعلق بهذه في مسألة اجتهاده - صلى الله عليه وسلم -. ودعوى الإجماع في الأقوال البلاغية لا يصح، وإنما المجمع عليه عدم الإقرار فقط. وقوله: «لم أنس ولم تقصر» ، وقوله في حديث اليهودية: «إنما تفتن يهود» ثم بعد أيام أوحي إليه أنه يفتنون (1) يدل على عدم ما رجحه عياض (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [دلالة أفعاله في صفات العبادات ... على الأفضلية وفي العادات.. على الاستحباب] في دلالة أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الأفضلية. وهي مسألة كثيرة المنفعة، وذلك في صفات العبادات، وفي مقاديرها، وفي العادات، وكذلك دلالة تقريره، وهي حال أصحابه على عهده، وترك فعله وفعلهم، وكذلك في الأخلاق والأحوال (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في دلالة أفعاله العادية على الاستحباب أصلا وصفة: كالطعام، والشراب، واللباس، والركوب، والمراكب، والملابس، والنكاح، والسكنى، والمسكن، والنوم، والفراش، والمشي، والكلام. واعلم أن مسألة الأفعال لها ثلاثة أصول:   (1) لعله: «إنكم تفتنون» . (2) المسودة ص 190 ف 2/8. (3) المسودة ص 191 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 [الأفعال لها ثلاثة أحوال] أحدها: أن حكم أمته كحكمه في الوجوب والتحريم وتوابعهما إلا أن يدل دليل يخالف ذلك، وهذا لا يختص بالأفعال، بل يدخل فيه ما عرف حكمه في حقه بخطاب من الله أو من جهته؛ ولهذا ذكرت هذه في الأوامر أعني «مسألة الخطاب» وقد ذكر عن التميمي وأبي الخطاب التوقف في ذلك، وأخذا من كلام أحمد ما يشبه رواية، والصواب عنه العكس. وعلى هذا فالفعل إذا كان تفسيرا لمجمل شملنا وإياه، أو امتثالا لأمر شملنا وإياه لم يحتج إلى هذا الأصل، وقد يكون هذا من طريق الأولى: بأن يعلم سبب التحريم في حقه وهو في حقنا أشد، وسبب الإباحة أو الوجوب. الأصل الثاني: أن نفس فعله يدل على حكمه - صلى الله عليه وسلم -: إما حكم معين، أو حكم مطلق، وأدنى الدرجات الإباحة. وعلى تعليل التميمي لتجويز الصغائر يتوقف في دلالته في حقه على حكمه. وقد اختلف أصحابنا في مذهب أحمد: هل يؤخذ من فعله؟ على وجهين. ومثل هذا تعليله بتجويز النسيان والسهو؛ لكن هذا مأخذ رديء، فإنه لا يقر على ذلك. والكلام في فعل لم يظهر عليه عتاب. فمتى ثبت أن الفعل يدل على حكم كذا وثبت أنا مساوون له في الحكم ثبت الحكم في حقنا. الأصل الثالث: أن الفعل هل يقتضي حكما في حقنا من الوجوب مثلا وإن لم يكن واجبا عليه، كما يجب على المأموم متابعة الإمام فيما لا يجب على المأموم، وعلى الجيش متابعة الإمام فيما لا يجب على الإمام، وعلى الحجيج موافقة الإمام في المقام بالمعرف إلى إفاضة الإمام؟ هذا ممكن أيضا؛ بل من الممكن أن يكون سبب الوجوب في حقه معدوما في حقنا ويجب علينا لأجل المتابعة ونحوها، كما يجب علينا الرمل والاضطباع مع عدم السبب الموجب له في حق الأولين، أو سبب الاستحباب منتفيا في حقنا وقد نبه القرآن على هذا بقوله: {مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [120/9] فصار واجبا عليهم لموافقته ولو لم يكن قد تعين الغزو في ذلك الوقت إلى ذلك الوجه. وهذا الذي ذكرناه في المتابعة قد يقال في كل فعل صدر منه اتفاقا لا قصدا، كما كان ابن عمر يفعل في المشي في طريق مكة، وكما في تفضيل إخراج التمر. وهذا في الاقتداء نظير الامتثال في الأمر. فالفائدة قد تكون في نفس تهدينا بهديه وبأمره وفي نفس الفعل المفعول المأمور به والمقتدى به فيه، فهذا أحرى في الاقتداء ينبغي أن يتفطن له فإنه لطيف، وطريق أحمد تقتضيه. وهذا في الطرف الآخر من المنافاة لقول من قال: إن المأمور به قد يرتفع لارتفاع علته من غير نسخ؛ فإن أحمد تسرى لأجل المتابعة، واختفى ثلاثا لأجل المتابعة، وقال: وما بلغني حديث إلا عملت به، حتى أعطى الحجام دينارا، وكان يتحرى الموافقة لجميع الأفعال النبوية (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل احتج القائل بأن فعله لا يدل على وجوبه علينا بأن المتبوع أوكد حالا من المتبع فإذا كان ظاهر فعله لا ينبئ عن جوبه عليه فلأن لا يدل على وجوبه علينا أولى. فقال القاضي: هذا يبطل على أصل المخالف بالأمر، فإنهم يجعلونه دالا على الوجوب في حق غيره ولا يدل على وجوبه عليه لأن الآمر لا يدخل تحت الأمر عندهم. قال: وعلى أنا نقول: إن ظاهر أفعاله تدل على الوجوب في حقه كما يدل على ذلك في حق غيره، كما قلنا في أوامره: هي لازمة له وهو داخل تحتها كالمأمور سواء ولا فرق بينهما، وهذا قياس المذهب (2) .   (1) المسودة ص 191، 192 ف 2/8. (2) المسودة ص 193 ف2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 [شيخنا] : ... ... ... فصل وليس تركه موجبا علينا ترك ما تركه، استدل به المخالف، وسلمه القاضي له من غير خلاف ذكره ونقضه بالأمر فإن ترك الأمر لا يوجب ترك ما ترك الأمر به وأمره يوجب امتثال ما أمر به (1) . قال شيخنا: قال ابن بطة فيما كتب به إلى ابن شاقلا في جوابات مسائل، وقال: والدليل على أن سنته وأوامره قد كان فيها بغير وحي وأنها كانت بآرائه واختياره أنه قد عوتب على بعضها ولو أمر بها لما عوتب عليها، من ذلك حكمه في أسارى بدر، وأخذه الفدية، وإذنه في غزوة تبوك للمتخلفين بالعذر حتى تخلف من لا عذر له، ومنه قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [159/3] فلو كان وحيا لم يشاور فيه. قال القاضي: وقد أومأ أحمد إلى صحة ما قاله أبو عبد الله بن بطة في رواية الميموني لما قيل له: ههنا قوم يقولون: ما كان في القرآن أخذنا به. قال: ففي القرآن تحريم لحوم الحمر الأهلية؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» ، وما علمهم بما أوتي. وأما أبو حفص العكبري فإنه ذكر في باب التسعير قوله: «لا يسألني الله عن سنة أحدثتها فيكم لم يأمرني الله بها» قال: هذا يدل على أن كل سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته فبأمر الله وبهذا نطق القرآن (2) . فصل واختلف القائلون بجواز الحكم له بالاجتهاد في تطرق الخطأ عليه فيه، فقال أصحابنا وذكره أبو الخطاب في مسألة تصويب المجتهدين وأكثر الشافعية، وأهل الحديث: يجوز ذلك، لكن لا يقر عليه، وسلم ابن عقيل   (1) المسودة ص 193 ف 2/8. (2) المسودة ص 507، 508 ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وغيره امتناع الخطأ فيما أخبر به عن الله وفيما أجمعت الأمة عليه. قال شيخنا: قلت: هذا في الأمة مبني على مسألة انقراض العصر. وأما في التبليغ ففي جواز ما لا يقر عليه من ذلك خلاف معروف سببه حديث السهو (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [تصفيق قول القاضي] قال المخالف: اتفاق الصدق في المستقبل لا يقع منا، كذلك اتفاق الصواب. فقال القاضي: غير ممتنع أن يقع في الأمرين معا كما تتفق أمور كثيرة على طريقة واحدة كما يقع في العلوم، وقال: يجوز أن يبعث الله رسولا ويجعل له أن يشرع الشريعة كلها فيما يمكن الوصول إليه من طريق الفكر والرأي إذا علم الله أن المصلحة فيه، كما يجوز أن يبيح له أكل ما شاء إذا علم أنه لا يختار أكل الحرام، وجوز بالنوعين ما يحكم فيه باجتهاد واستدلال وما يقوله إذا خطر بباله من غير اجتهاد إذا علم الله أنه يصيب ما هو المراد عند الله؛ لأن التعبد قد ورد بمثله في العامي أنه يخير في تقليد من شاء من العلماء ويكون ذلك حكم الله عليه من غير أن يرجع إلى أصل يستدل به، واحتج بما حرم إسرائيل على نفسه، واحتج بالمخير والمطلق، وهو ضعيف (2) . مما يوجب اتباع القرآن والرسول في سنته وأمره وفعله (3) : {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [38/2] .   (1) المسودة ص 509 ف 2/8. (2) المسودة ص 510، 511 ف 2/8. (3) هذا العنوان من المؤلف أحمد بن تيمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} الآية [123، 124/20] . {وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا * مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ} الآية [99، 100/20] . {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} الآية [121/2] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [170/2] . {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ} الآية [213/2] . {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [129/2] . {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [151/2] . {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [231/2] . {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [34/33] . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [23/3] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [101/2] . {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآيتين [159، 160/2] . {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} الآية [174/2] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [104/2] . {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [31/3] . {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [32/3] . {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [132/3] . {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} إلى قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [101-103/3] . {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [164/3] . {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ} [125/3] . {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [172/3] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إلى قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} [13، 14/4] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [59/4] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [61/4] . {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوْعَظُونَ بِهِ} [64-66/4] . {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [69/4] . {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [115/4] . {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} الآيات [41-44/5] . {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} [12/5] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 {قُلْ يَا أَهْل الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [68/5] . {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الآية [49/5] . {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} الآية [92/5] . {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} إلى قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [103، 104/5] . {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [106/6] . {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} إلى قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [50/6] . {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [3/7] . {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [170/7] . {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} الآية [156، 157/7] . {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} إلى قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [1/7] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} إلى قوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} إلى قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [24-46/8] . {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ} [13/8] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [20/8] . {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [24/9] . {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ} [42/9] . {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [117/9] . {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [17/9] . {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ} [71/9] . {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [59/9] . {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [17/11] . {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [62، 63/9] . {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الآية [9/17] . {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} [27/18] . {إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [45/21] . {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [47/24] . {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} إلى قوله: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} إلى قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [62، 63/24] . {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} إلى قوله: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} إلى قوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [27-29/25] . {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} في قصة: نوح، وعاد، وثمود، ولوط، وشعيب [108، 126، 150، 163، 179/26] . {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [45/29] . {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} إلى قوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [91، 92/27] . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [21/31] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [15/10] . {يَا قَوْم اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} الآية [20، 21/36] . {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ} [109/10] . {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [43/19] . {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [134/20] . {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [2/33] . {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} [45، 46/33] . {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [21/23] . {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} إلى قوله: {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [31-34/33] . {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [36/33] . {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} إلى قوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [36، 37/33] . {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [29/35] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [11/36] . {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [45/50] . {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [10/42] . {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [21/43] . {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [43/43] . {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} الآيتين [18، 19/45] . {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [4/46] . {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [9، 33/47] . {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [9/48] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [1/49] . {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [2/49] . {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [7/49] . {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} [9/58] . {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [13/58] . {لَا تَجِدُ قَوْمًا} إلى قوله: {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [22/58] . {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [2/62] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [5/62] . {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [12/64] . {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} [8/65] . {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [2، 3/71] . {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [15، 16/73] . {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} في موضعين [43/16و 7/21] هو الذكر المذكور في قوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [164/20] ، وقوله: {آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} ، وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا} [99/20] ، إلى قوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [48-50/21] ، وقوله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [2/21] ، {مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [5/26] ، {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا} [10، 11/65] ، {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [34/33] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [6/15] ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [9/15] (1) .   (1) مجموع 69 ص 271 هذه الآيات شبيهة بالآيات التي ساقها في أول العقيدة الواسطية و (مائة آية) ف 2/8. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 كتاب الأخبار قال القاضي: للخبر صيغة تدل بمجردها على كونه خبرا كالأمر ولا يفتقر إلى قرينة يكون بها خبرا. وقالت المعتزلة: لا صيغة له، وإنما يدل اللفظ عليه بقرينة وهو قصد المخبر إلى الإخبار به، كقولهم في الأمر وقالت الأشعرية: الخبر نوع من الكلام، وهو معنى قائم في النفس يعبر عنه بعبارة تدل تلك العبارة على الخبر لا بنفسها كما قالوا في الأمر والنهي. قال شيخنا: وفي قوله: «للخبر صيغة» مناقشة لابن عقيل حيث يقول: للأمر والنهي والعموم صيغة (1) . وقول القاضي أجود؛ لأن الأمر والخبر والعموم هو اللفظ والمعنى جميعا، ليس هذا اللفظ فقط؛ فتقدير: لهذا المركب خبر يدل بنفسه على المركب، بخلاف ما إذا قيل: الأمر هو الصيغة فقط فإن الدليل يبقى هو المدلول عليه. ومن قال: هو المدلول أيضا لم يصب. ومن الناس من لا يحكي إلا القولين المتطرفين دون الوسط (2) . مسألة: اختلف الناس في الكذب: هل قبحه لنفسه أو بحسب المكان؟ فقال الأكثرون منهم ابن عقيل: قبحه بحسب مكانه، ولهذا   (1) قلت: يفهم من كلام الشيخ أن ابن عقيل قال: «الأمر هو الصيغة» . (2) المسودة ص 232 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 حسن عند العلماء حيث أجازه الشرع [وذهبت شرذمة إلى أن قبحه لنفسه، وعند هؤلاء هو قبيح حيث أجازه الشرع أيضا] قالوا: لكنه دفع به ما هو أقبح منه. وبعد ابن عقيل هذا، وعلى المذهبين مهما أمكن جعل المعاريض مكانه حرم. قال شيخنا: وهذا المسألة تبنى على القول بالقبح العقلي، فمن نفاه وقال: «لا حكم إلا لله» جعله بحسب موضعه ومن أثبته وجعل الأحكام لذوات المحل قبحه لذاته (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [هل خبر الأربعة يوجب العلم والعمل] قال القاضي أبو يعلى متابعة لأبي الطيب وقاله قبلهما ابن الباقلاني متابعة للجبائي: يجب أن يكون أكثر من أربعة؛ لأن خبر الأربعة لو جاز أن يكون موجبا للعلم لوجب أن يكون خبر كل أربعة موجبا لذلك، ولو كان هكذا الوجب إذا شهد أربعة على رجل بالزنا أن يعلم الحاكم صدقهم ضرورة، ويكون ما ورد به الشرع من السؤال عن عدالتهم باطلاً. قال شيخنا رضي الله عنه: قلت: وقد ألحق القاضي «لا يتأتى منهم التواطؤ على الكذب إما لكثرتهم، أو لدينهم وصلاحهم» وقال في مسألة خبر الواحد: لا يفيد العلم، لو كان موجبا للعلم لأوجبه على أي صفة وجد: من المسلم والكافر والعدل والفاسق والحر والعبد والصغير والكبير، كما أن الخبر المتواتر لما أوجب العلم لم يختلف باختلاف صفات المخبرين بل استوى في ذلك الكفار والمسلمون والصغار والكبار والعدول والفساق. قال شيخنا: قلت: هذا الكلام -مع أنه ي غاية السقوط- مناقض   (1) المسودة ص 233 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 لقوله: إما لكثرتهم وإما لدينهم وصلاحهم. وهذا الثاني أصح. ثم إنه كما تقدم فرق في وجوب العمل أو في غلبة الظن بين مخبر ومخبر فكذلك في العلم، والعلم بتأثير الصفات ضروري، وجحوده عناد، وهذا الحق (1) يمنع أن يستوي الأربعة (2) . ثم هذا باطل من وجوه. أحدها: أن العشرة وأكثر منها لو شهدوا بالزنا لوجب عليه أن يسأل فلا اختصاص بالأربعة. الثاني: أنه لو علم أنه زنا اضطرارا بالمشاهدة لم يرجمه إلا بالثقات، فكذلك إذا أخبره من يعلم بصدقه اضطرار؛ لأن القاضي إنما يقضي بأمر مضبوط؛ نعم لو شهد بالأمر عدد يفيد خبرهم العلم لكل أحد فهذا فيه نظر، لكنه لا يكاد يقع، لإمكان التواطؤ. وأما الشاهد نفسه يجوز أن يستند إلى التواتر، وكذلك الحاكم فيما يحكم فيه بعلمه كعدالة الشهود وفسقهم، فمناط الشهادة علم الشاهد بأي طريق حصل. ومناط الحكم طريق ظاهرة مضبوطة -وإن لم تفد العلم- لأجل العدل بين الناس (3) . [شيخنا] ... ... ... فصل [لا ترد الأخبار بالاستدلال] قال ابن عقيل: المحققون من العلماء يمنعون رد الأخبار بالاستدلال ومثله برد خبر القهقهة استدلالاً بفضل الصحابة المانع من الضحك، وكذلك لو شهدت بينة عادلة على معروف بالخير بإتلاف أو غصب لم ترد شهادتهم بالاستبعاد ومثله برد عائشة قول ابن عباس في حديث الرؤية بقولها: لقد قف شعري. قال: فردت خبره بالاستدلال فلم يعول أهل التحقيق على ردها، ومثله أيضا بقوله: «لأزيدن على السبعين» حيث قيل له: هذا يفيد الصحة، فقال: هذا رد للأخبار   (1) نسخة: «الأحق» . (2) نسخة: «الأربعات» . (3) المسودة ص 237 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 بالاستدلال ولا يجوز ذلك، لأن السند يأتي بالعجائب، وهي من أكثر الدلائل لإثبات الأحكام (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [بعمل بخبر الواحد بدون سؤاله] قال أبو الخطاب: الحكم بخبر الواحد عن الرسول لمن يمكنه سؤاله (2) مثل الحكم باجتهاده واختياره أنه لا يجوز. والذي ذكره بقية أصحابنا القاضي وابن عقيل جواز العمل بخبر الواحد لمن أمكنه سؤاله، أو أمكنه الرجوع إلى التواتر محتجين به في المسألة بمقتضى أنه إجماع. وهذا مثل قول بعض أصحابنا: إنه لا يعمل بقول المؤذن مع إمكان العلم بالوقت. وهذا القول خلاف مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين، وخلاف ما شهدت به النصوص، وذكر في مسألة منع التقليد أن المتمكن من العلم لا يجوز له العدول إلى الظن، وجعله محل وفاق، واحتج به في المسألة (3) . مسألة: خبر الواحد يوجب العمل وغلبة الظن دون القطع في قول الجمهور؛ وارتضى الجويني من العبارة أن يقال: لا يفيد العلم ولكن يجب العمل عنده؛ لا به؛ بل بالأدلة القطعية على وجوب العمل بمقتضاه؛ ثم قال: هذه مناقشة في اللفظ، ونقل عن أحمد ما يدل على أنه قد يفيد القطع إذا صح واختاره جماعة من أصحابنا. قال والد شيخنا: ونصره القاضي في الكفاية. قال شيخنا: وهو الذي ذكره ابن أبي موسى في الإرشاد، وتأول القاضي كلامه على أن القطع قد يحصل استدلالا بأمور انضمت إليه: من تلقي الأمة له بالقبول، أو دعوى المخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه منه في   (1) المسودة ص 238 ف 2/9. (2) نسخة: «ولم يمكنه سؤاله» . (3) المسودة ص 239 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 حضرته فيسكت ولا ينكر عليه، أو دعواه على جماعة حاضرين السماع معه فلا ينكرونه ونحو ذلك، وحصر ذلك بأقسام أربعة هو وأبو الطيب جميعا. ومن أطلق القول بأنه يفيد العلم فسره بعضهم بأنه العلم الظاهر دون المقطوع به؛ وسلم القاضي العلم الظاهر. وقال النظام إبراهيم: خبر الواحد يجوز أن يفيد العلم الضروري إذا قارنه أمارة، وكذلك قال بعض أهل الحديث: منه ما يوجب العلم كرواية مالك عن نافع عن ابن عمر وما أشبهه وأثبت أبو إسحاق الإسفرائيني فيما ذكره الجويني قسما بين المتواتر والآحاد سماه «المستفيض» وزعم أنه يفيد العلم نظرا. والمتواتر يفيد العلم ضرورة، وأنكر عليه الجويني ذلك، وحكي عن الأستاذ أبي بكر: أن الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول محكوم بصدقه، وأنه في بعض مصنفاته. وقال: إن اتفقوا على العمل به لم يحكم بصدقه لجواز العمل بالظاهر، وإن قبلوه قولا وقطعا حكم به. وقال ابن الباقلاني: لا يحكم بصدقه وإن تلقوه بالقبول قولا وقطعا؛ لأن تصحيح الأئمة للخبر يجري على حكم الظاهر، فقيل له: لو رفعوا هذا الظن وباحوا بالصدق ماذا تقول؟ فقال مجيبا: لا يتصور ذلك. والد شيخنا: والقطع بصحة الخبر الذين تلقته الأمة بالقبول أو عملت بموجبه لأجله قول عامة الفقهاء من المالكية ذكره عبد الوهاب والحنفية فيما أظن والشافعية والحنبلة. واختلف هؤلاء في إجماعهم على العمل به: هل يدل على علمهم بصحته قبل العمل به؟ على قولين، أحدهما: يشترط. والثاني: لا يشترط. وعلى الأول لا يجوز انعقاد الإجماع عن خبر الواحد وإن عمل به الجمهور. وقال عيسى بن أبان: ذلك يدل على قيام الحجة به وصحته، وخالفه الأكثرون بناء على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 الاعتداد بخلاف الواحد والاثنين، [وذكره أبو الحسن البستي من الحنفية في كتاب اللباب، فقال: وتقدم رواية الفقيه على القياس ولا يجوز ذلك لغير الفقيه؛ بل يقدم القياس على روايته] وفي كتاب اللامع لابن حاتم صاحب ابن الباقلاني، قال: قال عيسى بن أبان: إن كان راوي الخبر متيقظا ترك القياس لأجله؛ وإن لم يكن كذلك وجب الاجتهاد في الترجيح. ومن الناس من قال: القياس أولى بالمصير إليه، وإليه صار جماعة من أصحاب مالك. وأما الشافعي وأكثر أصحابه فيترك عندهم الخبر للقياس الجلي، ويترك الخفي للخبر، قال: وكل هذه الأقوال عندنا باطلة. قال الأثرم في كتاب معاني الحديث: الذي يذهب إليه أحمد بن حنبل أنه إذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد برئ منها وبرئت منه، وقال: إذا جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض عملت بالحكم والفرض ودنت الله تعالى به، ولا أشهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك. قال شيخنا: نقلته من خط القاضي على ظهر المجلد الثاني من العدة، وذكر أنه نقله من كتاب بخط أبي حفص العكبري رواية أبي حفص عمر بن زيد (1) . وقال أيضا: قال أحمد بن حنبل: إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة ولم يصب منه فليأكل، وإن كان قد تناول وأقيمت الصلاة فليقوموا فليصلوا، وفيه أيضا في حديث ابن عباس: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة» . فقال أبو عبد الله: أدفع هذا الحديث بأنه قد روي عن ابن عباس خلافه من عشرة وجوه أنه كان يرى طلاق الثلاث ثلاثا. قال شيخنا: قلت: أبو عبد الله يشهد للعشرة بالجنة والخبر فيه   (1) في نسخة: «عمر بن بدر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 [الشهادة والخبر واحد] خبر واحد، وبنى ذلك على أن الشهادة والخبر واحد. ولفظ القاضي في العدة: خبر الواحد لا يوجب العلم الضروري، وقد رأيت في كتاب معاني الحديث للأثرم بخط أبي حفص العكبري، وساق الرواية كما تقدم، قال: فقد صرح القول بأنه لا يقطع به، ورأيت في كتاب الرسالة لأبي العباس أحمد بن جعفر الفارسي فقال: ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون ذلك في حديث كما جاء نصدقه ونعلم أنه كما جاء ولا ننص الشهادة، ولا نشهد على أحد أنه في الجنة لصالح عمله ولا لخير أتاه إلا أن يكون ذلك في حديث كما جاء نصدقه على ما روي ولا ننص، قال القاضي: وقوله: «ولا ننص الشهادة» معناه عندي -والله أعلم- لا نقطع على ذلك. قال شيخنا: قلت: لفظ «ننص» هو المشهور، ومعناه لا نشهد على المعين، وإلا فقد قال: نعلم أنه كما جاء، وهذا يقتضي أنه يفيد العلم. وأيضا فإن من أصله أن يشهد للعشرة بالجنة للخبر الوارد، وهو خبر واحد، وقال: أشهد وأعلم واحد. وهذا دليل على أنه يشهد بموجب خبر الواحد، وقد خالفه ابن المديني وغيره. قال القاضي: وقد نقل أبو بكر المروذي قال: قلت لأبي عبد الله: ههنا إنسان يقول: إن الخبر يوجب عملا ولا يوجب علما، فعابه، وقال: ما أدري ما هذا. وظاهر أنه سوى فيه بين العمل والعلم. قال شيخنا: قلت: قد يكون من هذا قوله: ذو اليدين أخبر بخلاف نفسه ونحن ليس عندنا علم برده، وإنما هو علم يأتينا به. قال القاضي: وقال في رواية حنبل في أحاديث الرؤية: نؤمن بها ونعلم أنها حق نقطع على العلم بها. قال: وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من أصحابنا، وقالوا: خبر الواحد إن كان شرعيا أوجب العلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 قال: وهذا عندي محمول على وجه صحيح من كلام أحمد، وأنه يوجب العلم من طريق الاستدلال، لا من جهة الضرورة، والاستدلال يوجب العلم من أربعة أوجه: أحدها: أن تتلقاه الأمة بالقبول، فيدل ذلك على أنه حق، لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ ولأن قبول الأمة له يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته، لأن العادة أن خبر الواحد الذي لم تقم الحجة به لا تجتمع الأمة على قبوله، وإنما يقبله قوم ويرده قوم. والثاني: خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واحد فنقطع بصدقه؛ لأن الدليل قد دل على عصمته وصدق لهجته. الثالث: أن يخبر الواحد ويدعي على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه منه فلا ينكره فيدل على أنه حق، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على الكذب. الرابع: أن يخبر الواحد ويدعي على عدد كثير أنهم سمعوه معه فلا ينكر منهم أحد، فيدل على أنه صدق، لأنه لو كان كذبا لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه، والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب؛ لأنه واقع عن نظر واستدلال، وقال إبراهيم النظام: خبر الواحد يجوز أن يوجب العلم الضروري إذا قارنته أمارة. [لا تنحصر أخبار الآحاد الموجبة للعلم في أربعة أقسام] قال شيخنا: قلت: حصره لأخبار الآحاد الموجبة للعلم في أربعة أقسام ليس بجامع؛ لأن مما يوجب العلم أيضا ما تلقاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقبول كإخباره عن تميم الداري بما أخبر به، ومنه إخبار شخصين عن قضية يعلم أنهما لم يتواطآ عليها ويتعذر في العادة الاتفاق على الكذب فيها أو الخطأ، ومنه غير ذلك. ثم أفرد ابن برهان فصلين في آخر كتاب الأخبار، أحدهما: فيما إذا أجمع الناس على العمل بخبر الواحد: هل يصير كالمتواتر؟ واختار أنه لا يصير. والثاني: إذا ادعى الواحد على جماعة بحضرتهم صدقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 فسكتوا، فقال قوم: يصير كالمتواتر، واختار هو أن ذلك لا يتصور، لأن الدواعي في مثل ذلك لا تنفك عن تصديق أو تكذيب ولو من البعض (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل يتعلق بمسألة خبر الواحد المقبول في الشرع [ليس خبر كل واحد يفيد العلم] هل يفيد العلم؟ فإن أحدا من العقلاء لم يقل أن خبر كل واحد يفيد العلم، وبحث كثير من الناس إنما هو في رد هذا القول. قال ابن عبد البر: اختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل: هل يوجب العلم والعمل جميعا، أم يوجب العمل دون العلم؟ قال: والذي عليه أكثر أهل الحذق منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الأثر وبعض أهل النظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به الله وقطع العذر لمجيئه مجيئا لا اختلاف فيه، قال: وقال قوم كثير من أهل الأثر وبعض أهل النظر أنه يوجب العلم والعمل جميعا، منهم الحسين الكرابيسي وغيره؛ وذكر ابن خويز منداد أن هذا القول يخرج على مذهب مالك (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [أخبار الآحاد تصلح لإثبات الديانات] مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات. قال القاضي في مقدمة المجرد: وخبر الواحد يوجب العلم إذا صح ولم تختلف الرواة فيه وتلقته الأمة بالقبول وأصحابنا يطلقون القول   (1) المسودة ص 240-244 ف 2/9. (2) المسودة ص 244 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 به، وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول، والمذهب على ما حكيت لا غير (1) (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [نقد قول ابن عقيل بأن أخبار الفات وتوهم التنبيه فيجب تأويل بعضها] قال ابن عقيل: أخبار الآحاد إذا جاءت بما ظاهره التشبيه وللتأويل فيها مجال. لكن يبعد عن اللغة حتى يكون كأنه لغز: هل يجب ردها رأسا، أم يجب قبولها ويكلف العلماء تأويلها؟ اختلف الأصوليون في ذلك على ثلاثة مذاهب؛ فقوم قالوا بظاهرها. وضعفه بأن ظاهرها يعطي الأعضاء والانتقالات وحمل الأعراض. والمذهب الثاني: رد الأخبار صفحا، واتهموا رواتها إما بالوضع أو بعدم الضبط. والمذهب الثالث قال: يجب قبولها حيث تلقاها أصحاب الحديث بالقبول، ويجب تأويلنا لبعضها على ما يدفعها عن ظاهرها، وإن كان من بعيد اللغة ونادرها، قال: وهذا هو اعتقادنا، قال: ولا يختلف العلماء أنه إذا كان طريق ذلك قطعيا كآي القرآن وأخبار التواتر أنه لا يرد؛ بل يبقى على مذهبين: إما التأويل، أو الحمل على الظاهر. قال شيخنا: قلت: هذا خلاف ما قرره في انتصاره لأصحاب الحديث، وإن كان كلامه في هذا الباب الاختلاف، وخلاف ما عليه عامة أهل السنة المتقدمين من السلف. وناقشه ابن غنيمة فقال: قد فرض الكلام في الأخبار التي ظاهرها التشبيه، وحملها على ظاهرها يوجب التشبيه، فلم يبق إلا التأويل، أو حملها على ما جاءت لا على الظاهر. ومن متأخري أصحابنا وغيرهم كابن الجوزي من يجوز التأويل ولا يوجبه فهذا قول آخر. والمقالات فيها تبلغ سبعة أو أزيد (3) .   (1) المسودة ص 248 ف 2/9. (2) قلت: ويأتي في أخبار الآحاد وزيادة ذكرها في مسائل الإجماع. (3) المسودة ص 249 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 [المرسل ومتى يكون حجة] وقال شيخنا: ذكر القاضي عن الشافعي أنه قال: إن كان الظاهر من حال المرسل الثقة من التابعين أن ما يرسله مسند عند غيره قبل منه. وقال أيضا: المرسل مقبول ممن وجد لأكثر مراسيله أصول في المسانيد. وقال: المرسل يقبل إذا عمل به بعض الصحابة. وقال مرة: المرسل يعمل به إذا أفتى به عوام العلماء. وقال: مراسيل ابن المسيب مقبولة لأنه وجد مراسيله مسانيد، فقيل: إن الشافعي أراد به قوته من الترجيح لا إثبات حكم به. وقيل: إن الترجيح لا يجوز بما لا يثبت به حكم ذكره القاضي. قال شيخنا: وليس بجيد. وذكر الباجي أن المرسل عندهم إنما يكون حجة إذا كان عادته أنه لا يرسل إلا عن ثقة؛ لأنه قال: وربما كان المنقطع أقوى إسنادا من المتصل ولم يفرق (1) . فصل [وإذا أريد بالمرسل ما بعد عصر التابعين] قال شيخنا: قلت: ما ذكره القاضي وابن عقيل أن مرسل أهل عصرنا مقبول كغيره ليس مذهب أحمد، فإنا نجزم أنه لم يكن يحتج بمراسيل محدثي وقته وعلمائهم، بل يطالبهم بالإسناد. نعم المجتهدون في الحديث الذين يعرفون صحيحه وضعيفه إذا قال أحدهم: ثبت هذا أو صح هذا، أو قال أحدهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا واحتج بذلك فهذا نعم، كتعليق البخاري المجزوم به. وبحث القاضي يدل على أنه أراد بالمرسل من أهل عصرنا ما أرسله عن واحد، فهذا قريب، بخلاف ما أرسله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن سقوط واحد أو اثنين ليس كسقوط عشرة، وحجته لا تتناول إلا ما سقط منه واحد؛ فإنه قال: المرسل إذا كان ثقة. فظاهره أن الذي أرسل عنه   (1) المسودة ص 251 فيه زيادة ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 عدل، وهذا المعنى موجود في أهل الأعصار (1) . [إذا كان في الإسناد رجل مجهول وإذا روى عنه العدل أو كان يأخذ عن الثقات] مسألة: وإذا كان في الإسناد رجل مجهول الحال، فهو على الخلاف المذكور في المرسل، كذا ذكر القاضي وابن عقيل في ضمن مسألة الإرسال، وذكرا في موضع آخر المسألة مستقلة أنه لا يقبل خبر مستور الحال، وذكر القاضي أنه ظاهر كلام أحمد، وذكر الخلال في الفتن من العلل. منها: قلت لأحمد: حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا أبو عقيل يحيى بن المتوكل عن عمر بن هارون الأنصاري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أشراط الساعة سوء الجوار وقطيعة الأرحام وأن يعطل السير عن الجهاد وأن تختل الدنيا بالدين» . فقال: ليس بصحيح. قلت: لم قال: من عمر بن هارون. قلت: لا يعرف. قال القاضي: هذه الرواية تدل على أن رواية العدل عن غيره ليس بتعديل، وتدل على أن الجهالة بعين الراوي تمنع من صحة الحديث. منها: سألت أحمد عن حاتم بن زيد (2) الهمداني ثقة هو؟ قال: كان يزيد بن هارون يحدث عنه. قلت: ثقة هو؟ قال: لا أدري وكرهه. قال: وهذه الرواية تمنع أيضا أن تكون رواية العدل تعديلا. وقال أبو حنيفة: يقبل خبره إذا عرف إسلامه. وعدم القبول مذهب الشافعي. وذكر المقدسي في قبول رواية مجهول العدالة روايتين (3) ؛ إحداهما: لا تقبل. والثانية: يقبل مجهول العدالة خاصة دون بقية الشروط، وكذلك ذكرها أبو الخطاب كشيخه. واختار الجويني الوقف فيه بتفسير ذكره (4) . والد شيخنا: وذكر القاضي في الكفاية: أنه تقبل رواية من عرف   (1) المسودة ص 251، 252 ف 2/9. (2) نسخة: «حاتم بن يزيد الهمداني» . (3) نسخة: «مجهول الحال» . (4) «تقبل في زمن تكثر فيه الجنايات دون غيره» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 إسلامه وجهلت عدالته في الزمن الذي لم تكثر فيه الجنايات، فأما مع كثرة الجنايات فلا بد من معرفة العدالة. شيخنا: وقال القاضي في ضمن مسألة ما لا نفس له سائلة لما احتج بحديث سلمان، فطعن فيه المخالف بأن «بقية» ضعيف فقال القاضي: قولك ضعيف لا يوجب رد الخبر، لأنك لم تبين وجه ضعفه. فقال المخالف: فيجب أن تتوقفوا عنه حتى يتبين سبب ضعفه، كالبينة إذا طعن فيها المشهود عليه وجب على الحاكم أن يتوقف عن الحكم حتى يبين وجه الطعن. فقال القاضي: حكم الخبر أوسع من الشهادة ألا ترى أنه يسمع ممن ظاهره العدالة ولا تسمع الشهادة ممن ظاهرة العدالة. والد شيخنا: الفرق بين رواية المستور (1) وقبول الحديث إذا كان في إسناده مستور على طريقة القاضي وغيره ثابت، وليس تناقضا، لأنه يقول: إذا روى العدل عمن لا نعرفه نحن كان تعديلا له، فتكون عدالته ثابتة برواية المحدث عنه، بخلاف المستور إذا كان هو الذي شافهنا بالرواية، فإنه ليس هنا ما يوجب عدالته، كالشاهد المستور عند القاضي [هذا معنى كلام القاضي وغيره] وهو مبني على أن الرواية تعديل [وقد صرح بذلك في ضمن مسألة المرسل] والصحيح في هذه المسألة الذي يوجبه كلام الإمام أن من عرف من حاله الأخذ من الثقات، كمالك وعبد الرحمن بن مهدي كان تعديلا دون غيره، ويمكن تثبيت رواية المستور في وسط الإسناد على هذا القول بأنه إذا سمي المحدث فقد أزال العذر، بخلاف ما إذا قال: «رجل من بني فلان» فإنه لولا اعتقاده عدالته كانت روايته ضياعا.   (1) نسخة: «مستور الحال» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 شيخنا: ثم رأيت القاضي قد صرح بهذا الفرق في مسألة المستور. وأما في مقدمة المجرد فقال: الخبر المرسل أن يروي عن رجل ولا يذكر اسمه، أو عمن لم يلقه، ثم قال: ولا يقبل خبر من لم تعرف عدالته وإن عرف مجرد إسلامه على نصوص أحمد فلأن يعرف فيجعل ذلك حجة في رد حديثه، فالأول فيمن لم يعرف اسمه، وهنا قد عرف (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [فالمرسل طبقات] قد ذكر القاضي أن من صور المرسل أن يروي عن مجهول لم يعرف عينه كقوله: «رجل من بني فلان» فاحتج مخالفه بأن الجهل بعين الراوي أكبر من الجهل بصفته، لأن من جهلت عينه جهلت عينه وصفته، ثم ثبت أنه لو كان معروف العين مجهول الصفة مثل أن يقول: «أخبرني به فلان ولا أعرف أثقة هو أم غير ثقة» لم يقبل خبره، فبأن لا يقبل خبره إذا لم يذكره أصلا أولى. فقال القاضي: والجواب أنا لا نسلم أن صفته مجهولة؛ لأن رواية العدل عن رجل تعديل له، لا يجوز في حقه أن يروي عن فاسق. وقد قيل: إذا كان فلان معروفا بالإسلام فإنه يقبل خبره، لأن ظاهر أمره العدالة وترك مواقعة المحظور، وجواز أن يكون فعل ما يوجب جرحا في شهادته غير معلوم فلم يكن في معرفة عدالته أكثر من عدم العلم بجرحه. فإن قيل: فيجب أن تقبل شهادته وإن لم يبحث عن عدالته للمعنى الذي ذكرته. قيل: تقبل شهادته في إحدى الروايتين. فعلى هذا لا فرق. ولا نقبلها في الأخرى احتياطا للشهادة كما احتطنا لها من الوجوه التي ذكرناها. قال شيخنا: قلت: فقد ذكر أنه تقبل رواية المستور وإن لم تقبل   (1) المسودة ص 252-255 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 شهادته، وجعل المجهول العين أجود، إذ الرواية عنه تعديل، بخلاف المعين الذي صرح بعدم العلم بعدالته، فيكون المرسل طبقات: أحدها: أن يجزم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله. الثاني: أن يقول: حدثني رجل، أو فلان. ألا ترى أن شهود الفرع لو شهدوا بما سمعوه من شهود الأصل جاز وكانت شهادة استفاضة. ومتى قالوا: أشهدنا فلان أو شاهد فلان فلا بد من البحث عن الأصول. الثالث: أن يقول: ولا أعلم حاله. وأما إذا قال: حدثني الثقة ففي كونه مرسلا وجهان: أصحهما أنه ليس بمرسل. ولو قال: حدثني فلان وهو ثقة لم يكن مرسلا بالاتفاق. ثم ذكر القاضي مسألة مستقلة: أنه لا يقبل خبر من لم تعرف عدالته وإن عرف إسلامه، وقد قال أحمد في رواية الفضل بن زياد وقد سأله عن ابن حميد يروي عن مشايخ لا نعرفهم وأهل البلد يثنون عليهم، فقال: إذا أثنوا عليهم قبل ذلك منهم، هم أعرف بهم. قال: وظاهر هذا أنه لا يقبل خبره إذا لم تعرف عدالته لأنه اعتبر تعديل أهل البلد لهم. قال شيخنا: قلت: هذا في كلام أحمد كثير جدا. قال: وحكي عن أبي حنيفة أنه يقبل خبر من لم تعرف عدالته إذا عرف إسلامه. واحتج القاضي بأن كل خبر لم يقبل من فاسق كان من شروطه معرفة عدالة المخبر كالشهادة. قال: ولا يلزم عليه الخبر المرسل؛ لأن رواية العدل عنه تعديل. قال: وخبر الأعرابي الشاهد بالهلال يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عرف من حال الشاهد أنه عدل ثقة فلذلك حكم بشهادته. قال: وليس من شرطه معرفة العدالة الباطنة؛ لأن اعتبارها يشق، ويفارق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الشهادة لأن اعتبارها لا يشق لأن لها معتبرا وهو الحاكم، والاعتبار إليه، وليس كل من سمع الحديث حاكما. قال شيخنا: فقد رتبهم أربع مراتب: مسلم، وعدل الظاهر، وباطن، وفاسق. وكأنه يعني بالعدالة الباطنة ما يثبت عند الحاكم، وبالظاهرة ما ثبت عند الناس بلا حاكم (1) واعتبار هذا في شهادة النكاح قول حسن. [والد شيخنا] : ... ... فصل [إذا تحمل صغيرا وروى كبيرا] فإن تحمل صغيرا وروى كبيرا أو تحمل كافرا أو فاسقا وروى مسلما عدلا قبلت روايته. قال والد شيخنا: ويغلب على ظني أن فيه خلافا في مذهبنا (2) . قال شيخنا: وكذلك هو، ذكره ابن الباقلاني. وذكر القاضي أنه إذا تحمل وهو مميز ورواه بعد البلوغ جاز؛ لإجماع السلف على عملهم بخبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة، وقياسا على الشهادة. قال أحمد في رواية أبي الحارث والمروذي وحنبل: يصح سماع الصغير إذا عقل وضبط وذكر القاضي حديث محمود بن الربيع في المحبة. قال: وهذا يدل على أن ابن خمس يعقل فيصح سماعه (3) . مسألة: ولا تختلف الرواية في قبول مرسل الصحابة ورواية المجهول منهم وهو قول الجمهور، وذكره أبو الطيب، ولم يحك خلافا لهم.   (1) نسخة: «تزكية الناس بلا حاكم» . (2) نسخة: «خلافا لغيرنا» . (3) المسودة ص 258 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 [مرسل الصحابي مقبول، وما يراد به وبمرسل التابعي] وقال بعض الشافعية: لا يقبل وإن قبلنا مرسل سعيد بن المسيب؛ لأن ذلك قد علم كونه مسندا بالتتبع، كما قال الشافعي. وكل معنى منع من قبول مرسل التابعين فهو موجود في الصحابة، وقد ثبت أن الصحابي أو التابعي لو قال: أخبرني بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال كذا كان بمنزلة المسند، كذلك إذا قال التابعي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون مثله. وقد قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إذا قال رجل من التابعين حدثني رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فالحديث صحيح؟ قال: نعم. وقال أيضا: لو قال نفسان من التابعين: أشهدنا نفسان من الصحابة على شهادتهما لم تجز حتى يعيناهما وفي الخبر يجوز عند الجميع. قال شيخنا: قلت: كأن مرسل الصاحب عنده ما أرسله الصاحب أو روى عن صاحب مجهول، كما أن مرسل التابعين عنده يشمل ما أرسل التابع وروى عن تابعي مجهول. قال: فإن قيل: الصحابي معلوم العدالة بأن الله عدله وزكاه وأخبر عن إيمانه ورضي عنه وأرضاه وجعل الجنة مأواه. قيل: قد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - للتابعين كما شهد للصحابة فقال: «خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» وليس من شرط قبول الخبر أن يكون ممن يقطع على عدالته، وإنما نعتبر عدالته في الظاهر، وهذا المعنى موجود في التابعين ومن بعدهم، فيجب أن يتساووا في النقل (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل زعم القاضي الصيمري الحنفي أن الصحابي إذا قال: هذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مرسل حتى يقول: حدثني بما فيه؛ لأن قوله: «هذا   (1) المسودة ص 259 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 [إذا قال الصحابي: هذا كتاب رسول الله فهو متصل] كتاب رسول الله» يحتمل هذا كتابه دفعه إلي وقال: اعمل بما فيه أو أده عني، وهذا مرسل، لا يختلف أهل الأصول في ذلك، فهو مثل المحدث إذا دفع الكتاب إلى غيره وقال: اروه، فإنه يكون مناولة أو يكون إجازة لا سماعا، ذكره في كتاب الصدقة لأبي بكر رضي الله عنه. قال شيخنا: قلت: هذا خطأ من وجوه: أحدها: أنه جعل المناولة من قسم المرسل، وليس كذلك، فإنه متصل. الثاني: أنه جعل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحده ليس بخطاب [لمن دفعه إليه] وهذا يبطل كتبه كلها، والإجماع بخلاف هذا. الثالث: أن مرسل الصحابة حجة (1) . [المعنعن فيه تفصيل] مسألة: المسند بلفظ [العنعنة] إذا لم يتحقق فيه إرسال صحيح محتج به، نص عليه، وبه قالت الشافعية وعامة المحدثين. وقال بعضهم: ليس بصحيح، لا مكان الإرسال فيه من بعض أهل الحديث. لفظ القاضي: فإن روى حديثا عن معين فقال: حدثني فلان عن فلان حمل على أنه سمع ذلك منه من غير واسطة ويكون خبرا متصلا، وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث وعبد الله: ما رواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو ثابت، وما رواه الزهري عن سالم عن أبيه وداود عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت. قال شيخنا: قلت: نص أحمد إنما هو في أسانيد مخصوصة، ولم يفرق القاضي بين من عرف بالإرسال أو لم يعرف، وبين أن يعلم إمكان   (1) المسودة ص 260 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 اللقاء أو لا يعلم، وفي المسألة خلاف (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [رواية المبتدع] ذكر القاضي أنه لا تقبل رواية المبتدع الداعي إلى بدعته، قال: لأنه إذا دعا لا يؤمن أن يضع لما يدعو إليه حديثا يوافقه، وكذلك أبو الخطاب لم يذكر في الداعي خلافا، وذكر في غيره ثلاث روايات (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [من فعل محرما بتأويل] فأما من فعل محرما بتأويل فلا ترد روايته في ظاهر المذهب، قال أبو حاتم: حادثت أحمد بن حنبل فيمن شرب النبيذ من محدثي أهل الكوفة وسميت له عددا منهم. فقال: هذه زلات [لهم] لا تسقط بزلاتهم عدالتهم (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [ومن يبيع بالعينة وأخذ الأجرة على الرواية] قال الشيخ الإمام أبو الوفاء ابن عقيل: ومنع -يعني الإمام أحمد- من رواية الحديث عمن يعامل ويبيع بالعينة، وهو محمول على النسيئة التي هي ربا، وكل بيع فيه ربا، قال في رواية سندي الخواتيمي: لا يعجبني أن يكتب الحديث عن معين. قال في الواضح: يعني بيع هذه العينة. وقال في رواية حبيش وسلمة بن شبيب: لا نكتب عن هؤلاء الذين يأخذون الدراهم على الحديث ويحدثون ولا كرامة. قال القاضي: هذا على طريق الورع؛ لأن بيع العينة وأخذ الأجرة على رواية الحديث مما يسوغ فيه الاجتهاد، وما ساغ فيه الاجتهاد لم يفسق فاعله (4) .   (1) المسودة ص 260، 261 ف 2/9. (2) المسودة ص 264 ف 2/9. (3) المسودة ص265 ف 2/9. (4) المسودة ص 266 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 [شيخنا] : ... ... ... فصل [الأسباب الموهمة لا يرد لأجلها خبر الواحد] قال القاضي: فأما الأسباب الموهمة التي لا يرد لأجلها خبر الواحد، فمنها أن تلحقه غفلة في وقت، فإن خبره لا يرد، لأن أحدا لا ينفك عن أن تلحقه غفلة في وقت؛ بل إن روى خبرا في حال غفلته لم يثبت خبره. قال عبد الله: قلت لأبي: إن بشر بن عمر زعم أنه سأل مالكا عن صالح مولى التوأمة، فقال: ليس بثقة. قال أبي: مالك أدرك صالحا وقد اختلط وهو كبير، ما أعلم به بأسا، من سمع منه قديما، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة. ومنها: أن يضطرب بعض حديثه فلا يرد حديثه؛ لأن كل أحد لا يقدر على ضبط ما سمعه كله. ومنها: أن ينفرد بنقل حديث واحد لا يروى غيره، فلا يرد حديثه لجواز أن ينفرد به من كل أحد، حديث له حادث (1) فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه عنها. ومنها: أن لا تعرف له مجالسة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قد يجالسه فلا يعرف ذلك منه، وقد يأخذ الحديث عنه من غير مجالسة. ومنها: أن يروي حديثًا يخالفه فيه أكثر الصحابة. ومنها: أن يكون معروفا باللقب، وقد اختلف في اسمه. ومنها: أن ينسى بعض حديثه فذكر فعاد إليه، فلا يرد حديثه لذلك؛ بل إن روى حديثا لا أصل له وقال: نقلته على بصيرة مني بذلك فهو مردود الحديث، فإن قال: سهوت أو أخطأت قبل خبره، وقد نص   (1) نسخة: «له حادثة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 أحمد على هذا في رواية حرب في الرجل إذا سها في الإسناد فأخطأ فيه ولا يتعمد ذلك أرجو أن لا يكون به بأس (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الأمور التي يرد الخبر من أجلها] ذكر القاضي أن الخبر يرد من جهة المخبر بخمسة أشياء. إما أن يخالف موجبات العقول. وإما أن يخالف الكتاب والسنة المتواترة. وإما أن يخالف الإجماع، فقد يكون دليلا على نسخه قال: الرابع: أن يروي ما يجب على الكافة علمه، مثل أن يروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى أبي بكر أو إلى عمر أو إلى عثمان أو علي، فإذا انفرد الواحد بنقل مثل هذا كان مردودا. قال: فإن قيل: أليس ما تعم به البلوى يفتقر إليه كل واحد ويثبت بخبر الواحد؟ قيل: كل واحد مفتقر إلى العمل، لا إلى علمه؛ فهذا يثبت بخبر الواحد، وليس كذلك ثبوت الخلافة والعهد إلى واحد؛ لأن على كل واحد أن يعرفه ويعلمه قطعا، فلهذا لم يثبت بخبر الواحد. قال: الخامس: أن ينفرد بما جرت العادة بنقله بالتواتر (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في الجندي [الرواية عن الجندي. ولبس السواد] قال في رواية المروذي: وقد سأله: يكتب عن الرجل إذا كان جنديا؟ فقال: أما نحن فلا نكتب عنهم، وكذلك قال في رواية إبراهيم بن الحارث: إذا كان الرجل في الجند لم أكتب عنه. قال القاضي: وهذا محمول على طريق الورع، لأن الجندي لا يتجنب المحرمات في الغالب.   (1) المسودة ص 267، 268 ف 2/9. (2) المسودة ص 268 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 قال شيخنا: قلت: خص نفسه بالامتناع، لأنه مظنة الظلم والاعتداء، ولهذا كره لبس السواد لما فيه من التشبه بهم، ويدل عليه قوله: «خذ العطاء ما كان عطاء فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا يأخذه» والملوك المتأخرون إنما يرزقون على طاعتهم وإن كانت معصية، لا على طاعة الله ورسوله (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا عمل العدل بخبر غيره] فإن عمل العدل بخبر غيره كان تعديلا له، كما لو عدله بقوله. ذكره القاضي في ضمن مسألة من غير خلاف، أي في مسألة العدل عن غيره. وكذلك ذكره الباجي (2) . مسألة: لا يقبل الجرح إلا مفسرا مبين السبب، وبه قال الشافعي. وعنه أنه يقبل كالتعديل، وذهب إليه جماعة. وقال ابن الباقلاني: يقبل الجرح المطلق ولا يقبل التعديل المطلق، فصارت المذاهب في المسألتين أربعة (3) . وقال الجويني: هذا يختلف بالمعدل والجارح، فإن كان إماما في ذلك من أهل صناعته قبل منه إطلاقه وإلا فلا. وكذلك قال المقدسي في الجرح. [الجرح والتعديل والتفصيل فيه] قال القاضي: ولا يقبل الجرح إلا مفسرا، وليس قول أصحاب الحديث «فلان ضعيف، وفلان ليس بشيء» مما يوجب جرحه ورد خبره. قال: وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية المروذي؛ لأنه قال له: إن يحيى بن معين سألته عن الصائم يحتجم؟ فقال: لا شيء عليه، ليس يثبت فيها خبر، فقال أبو عبد الله: هذا كلام مجازفة. قال: فلم يقبل مجرد الجرح من يحيى.   (1) المسودة ص 269 ف 2/9. (2) المسودة ص 269 ف 2/9. (3) نسخة: «في المسألة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 قال شيخنا: قلت: لأن أحمد قد علم عدة أخبار فيها، فكيف يقبل نفي ما أثبته؟ ولهذا لما أطلق يحيى الكلام نسبه إلى المجازفة. قال: وكذلك نقل مهنا عنه قلت لأحمد: حديث خديجة كان أبوها يرغب أن يزوجه، فقال أحمد: الحديث معروف، سمعته من غير واحد. قلت: إن الناس ينكرون هذا، قال: ليس هو بمنكر، قال: فلم يقبل مجرد إنكارهم. قال شيخنا: قلت: لأنه قد علم خلاف ذلك، والطعن في حديث قد علم ثبوته لا يقبل. قال: ونقل عنه المروذي ما يدل على أنه يقبل، فقال: قرئ على أبي عبد الله حديث عائشة كانت تلبي: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك» فقال أبو عبد الله: كان فيه «والملك لا شريك لك» فتركته لأن الناس خالفوه. وقوله: «تركته» معناه: ترك روايته لأجل ترك الناس له وإن لم تظهر العلة. قال شيخنا: قلت: قد ذكر الخلال تضعيف المشايخ لعاصم بن عبيد الله، وهو ظاهر في أن الجرح المطلق يقبل، وهو مكتوب في المسودات، وهذا إنما يقتضي أن الزيادة التي تركها الجمهور لا تقبل. قال شيخنا: هذا الباب يفرق فيه بين جرح الرجل وتزكيته، وبين جرح الحديث وتثبيته. ويفرق فيه بين الأئمة الذي هم في الحديث بمنزلة القضاة في الشهود وبين من هو شاهد محض. فإن جرح المحدث يكون بزيادة علم. وأما جرح الحديث فتارة يكون لطلاع له على علة، وتارة لعدم علمه بالطريق الأخرى، أو بحال المحدث به (1) . مسألة: يقبل جرح الواحد وتعديله عندنا، وبه قال المحققون،   (1) المسودة ص 269-271 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 [هل يقبل جرح الواحد وتعديله] ذكره الجويني، وقد نص عليه في التعديل؛ لأن العدد ليس بشرط في قبول الخبر ههنا، بخلاف الشهادة. وهذا أحد الوجهين للشافعية. والآخر لا يقبل الجرح إلا من اثنين كما في الشهادة حكاها (1) أبو الطيب وحكى الثاني الجويني عن بعض المحدثين. قال القاضي: فإن صرح عدلان بما يوجب الجرح ثبت الجرح، وإن صرح أحدهما بما يوجب الجرح ثبت أيضا. وهذا قياس قوله في التعديل أنه يثبت بقول الواحد؛ فإن العدد ليس بشرط في قبول الخبر، فلم يكن شرطا في جرح الراوي؛ بخلاف الشهادة. فأما تعديل الواحد فيقبل كما يقبل جرحه، قال في رواية الأثرم: إذا روى الحديث عبد الرحمن بن مهدي عن رجل فهو حجة. قال: وهذا يدل على أن رواية العدل عن غيره تعديل له، ويدل أيضا على أن تعديل الواحد مقبول. وكذلك نقل أبو زرعة، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: مالك بن أنس إذا روى عن رجل لا يعرف فهو حجة. قال: وقد نقل مهنا عنه ما يدل على أن رواية العدل لا تكون تعديلا، ويجب السؤال عنه، فقال: سألت أحمد عن رباح بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب، فقال: هكذا روى عنه عبد الرزاق، قلت: كيف هو؟ قال: ضعيف: قال: وظاهر هذا أنه لم يجعل رواية العدل عن غيره تعديلا له. قال شيخنا: قلت: مذهبه التفصيل بين بعض الأشخاص وبعض. وقوله في صالح مولى التوأمة يقتضي أن الكثرة معتبرة، ونقل إسماعيل بن سعيد قلت لأحمد: تعديل الرجل الواحد إذا كان مشهورا بالصلاح؟ قال: يقبل ذلك. قال القاضي: وظاهر هذا أن تعديل الواحد للشاهد مقبول (2) .   (1) نسخة: «حكاهما» . (2) المسودة ص 271، 272 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 [شيخنا] : ... ... ... فصل [خبر الواحد إذا طعن فيه السلف] خبر الواحد إذا طعن فيه السلف لم يجز الاحتجاج به عند الحنفية، وقد روي ما يشبه قولهم عن علقمة في إنكاره على الشعبي حديث فاطمة لما طعن فيه عمر وغيره (1) . فصل [الأخذ بالحديث الضعيف والمرسل إذا لم يخالفه ما هو أثبت منه أو للاعتبار به الضعيف في اصطلاحهم] ذكر القاضي كلام أحمد في الحديث الضعيف والأخذ به، ونقل الأثرم قال: رأيت أبا عبد الله إن كان الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إسناده شيء يأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالمرسل إذا لم يجئ خلافه، وتكلم عليه ابن عقيل. وقال النوفلي: سمعت أحمد يقول: إذا روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام والسنن والأحكام شددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضائل الأعمال وما لا يرفع حكما فلا نصعب. قال القاضي: قد أطلق أحمد القول بالأخذ بالحديث الضعيف، فقال مهنا: قال أحمد: الناس كلهم أكفاء إلا الحائك والحجام والكساح. فقيل له: تأخذ بحديث: «كل الناس أكفاء إلا حائكا أو حجاما» وأنت تضعفه؟! فقال: إنما نضعف إسناده، ولكن العمل عليه وكذلك قال في رواية ابن مشيش وقد سأله عمن تحل له الصدقة، وإلى أي شيء تذهب في هذا؟ فقال: إلى حديث حكيم بن جبير. فقلت: وحكيم بن جبير ثابت عندك [في الحديث] قال: ليس هو عندي ثبتا في الحديث. وكذلك قال مهنا: سألت أحمد عن حديث معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة. قال: ليس بصحيح والعمل عليه، كان عبد الرزاق يقول: معمر عن الزهري مرسلا. قال القاضي: معنى قول أحمد   (1) المسودة ص 272، 273 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 «ضعيف» على طريقة أصحاب الحديث؛ لأنهم يضعفون بما لا يوجب التضعيف عند الفقهاء كالإرسال والتدليس والتفرد بزيادة في حديث لم يروها الجماعة، وهذا موجود في كتبهم: تفرد به فلان وحده. فقوله: «هو ضعيف» على هذا الوجه. وقوله: «والعمل عليه» معناه على طريقة الفقهاء. قال: وقد ذكر أحمد جماعة ممن يروي عنه مع ضعفه، فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: قد يحتاج أن يحدث الرجل عن الضعيف مثل عمرو بن مرزوق وعمرو بن حكام ومحمد بن معاوية وعلي بن الجعد وإسحاق بن أبي إسرائيل ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم. وقال في رواية ابن القاسم في ابن لهيعة: ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، أنا قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشده، لا أنه حجة إذا انفرد. وقال في رواية المروذي: كنت لا أكتب حديثه -يعني جابرا الجعفي- ثم كتبته اعتبر به. وقال له مهنا: لم تكتب عن أبي بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف؟ قال: أعرفه. قال القاضي: والوجه في الرواية عن الضعيف أن فيه فائدة، وهو أن يكون الحديث قد روي من طريق صحيح فتكون رواية الضعيف ترجيحا (1) ، أو ينفرد الضعيف بالرواية فيعلم ضعفه، لأنه لم يرو إلا من طريقه، فلا يقبل. قال شيخنا: قوله: «كأني أستدل به مع حديث غيره؛ لا أنه حجة إذا انفرد» يفيد شيئين؛ أحدهما: أنه جزء حجة، لا حجة، فإذا انضم إليه الحديث الآخر صار حجة؛ وإن لم يكن واحد منهما حجة فضعيفان قد يقومان مقام قوي (2) . الثاني: أنه لا يحتج بمثل هذا منفردا، وهذا يقتضي أنه لا يحتج بالضعيف المنفرد، فإما أن يريد به نفي الاحتجاج   (1) نسخة: «مرجحًا» . (2) نسخة: «قد يقويان» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 مطلقا، أو إذا لو يوجد أثبت منه. قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن خراش؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد؟ قلت: نعم. قال: لا، الأحاديث بخلافه، وقد رواه الحفاظ عن ربعي عن رجل لم يسموه. قال: قلت: فقد ذكرته في المسند؟ قال: قصدت في المسند المشهور وتركت الناس تحت ستر الله ولو أردت أن أفصل ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء بعد الشيء ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لست أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه. [ذكره القاضي في مسألة الوضوء بالنبيذ] . قال شيخنا: قلت: مراده بالحديث الذي رواه ربعي عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قدم أعرابيان فشهدا» أو حديث: «لا تقدموا الشهر» أو غيرهما. قال شيخنا: قلت: وعلى هذه الطريقة التي ذكرها أحمد بنى عليه أبو داود «كتاب السنن» لمن تأمله، ولعله أخذ ذلك عن أحمد، فقد بين أن مثل عبد العزيز بن أبي رواد ومثل الذي فيه رجل لم يسم يعمل به إذا لم يخالفه ما هو أثبت منه. وقال أحمد في رواية أبي طالب: ليس في السدر حديث صحيح، وما يعجبني قطعه، لأنه على حال قد جاء فيه كراهة. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا كان في المسألة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث لم نأخذ فيها بقول أحد من الصحابة ولا من بعدهم خلافه، وإذا كان في المسألة عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول مختلف نختار من أقاويلهم ولم نخرج عن أقاويلهم إلى قول من بعدهم، وإذا لم يكن فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة قول نختار من أقوال التابعين، وربما كان الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إسناده شيء فنأخذ به إذا لم يجئ خلافه أثبت منه، وربما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 أخذنا بالحديث المرسل إذا لم يجئ خلافه أثبت منه (1) . فصل [التدليس يكره ولا يوجب رد الخبر] شيخنا: قال القاضي: فأما التدليس فإنه يكره، ولكن لا يمنع من قبول الخبر. وصورته أن ينقل عمن لم يسمع منه لكنه سمع عن رجل عنه فأتى بلفظ يوهم أنه قد سمع منه [مثل: أن يكون قد عاصر الزهري ولم يسمع منه، لكن سمع عن رجل عنه، فأتى بلفظ يوهم أنه قد سمعه من الزهري بلا واسطة] فيقول: روى الزهري، أو قال الزهري، أو عن الزهري، فكل من سمع هذا يذهب إلى أنه سمع من الزهري بلا واسطة، وكذلك إذا سمع الخبر من رجل معروف بعلامة مشهورة فعدل عنها إلى غيرها من أسمائه مثل: إن كان مشهورا بكنيته فروى عنه باسمه، أو كان مشهورا باسمه فروى عنه بكنيته، حتى لا يعرف من الرجل، فكل هذا مكروه، نص عليه في رواية حرب، فقال: أكره التدليس، وأقل شيء فيه أنه يتزين للناس، أو يتزيد -شك حرب- وكذلك نقل عنه المروذي: لا يعجبني التدليس، هو من الزينة، وكذلك نقل مهنا عنه: التدليس عيب. قال شيخنا: قلت: هذه الكراهة تنزيه أو تحريم؟ يخرج على القولين في معاريض من ليس بظالم ولا مظلوم، والأشبه أنه محرم، فإن تدليس الرواية والحديث أعظم من تدليس المبيع، لكن من فعله متأول فيه، فلم يفسق. قال القاضي: إذا ثبت أنه مكروه فإنه لا يمنع من قبول الخبر، نص عليه في رواية مهنا، وقيل له: كان شعبة يقول: التدليس كذب فقال أحمد: لا، قد دلس قوم ونحن نروي عنهم.   (1) المسودة ص 273-276 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وذهب قوم من أهل الحديث إلى أنه لا يقبل خبره، لأنه روى عمن لم يسمع منه. قال القاضي: وهذا غلط لأنه ما كذب فيما نقل، بل كان ما قاله صدقا في الباطن، إلا أنه أوهم في خبره، ومن أوهم في خبره لم يرد خبره بذلك، كمن قيل له: حججت؟ فقال: لا مرة ولا مرتين، يوهم أنه حج أكثر، وحقيقته أنه ما حج أصلا. قال شيخنا: قلت: لكن ما هو صادق في الحقيقة العرفية، ولا مبين لما ينبغي بيانه (1) . [إذا روى العدل عن العدل خبرًا ثم أنكره المروي عنه أو نسيه] مسألة: إذا روى العدل عن العدل خبرا، ثم نسيه المروي عنه فأنكره لم يقدح ذلك فيه، في إحدى الروايتين، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: يضعف الحديث عندك أن يحدث الرجل النفر بالحديث عن الرجل فيسأل عنه فينكره، أو لا يعرفه؟ فقال: لا، ما يضعف عندي بهذا، ولفظه في العدة: فينكره ولا يعرفه فقال: لا، ما يضعف عندي بهذا. فقلت: مثل حديث الولي، ومثل حديث اليمين مع الشاهد، فقال: قد كان معمر يروي عن أبيه عن ثقة عن عبيد الله بن عمر- لفظ القاضي: إذا روى العدل عن العدل خبرا ثم نسي المروي عنه الخبر فأنكره لم يجب اطراح الخبر، ووجب العمل به في إحدى الروايتين، وفيه رواية أخرى يرد الخبر، ولا يجوز العمل به، وقد نص على الروايتين في إنكار الزهري روايته حديث عائشة في الولي، فقال في رواية الأثرم وذكره، وكذلك نقل الميموني عنه لما ذكر له حديث الزهري وما قاله، فقال: كان ابن عيينة يحدث بأشياء، ثم قال: ليس من حديثي ولا أعرفه، قد يحدث الرجل ثم ينسى، وكذلك نقل عنه أبو طالب: يجوز أن يكون الزهري حدث به ثم نسيه، فقد نص على قبوله.   (1) المسودة ص 276، 277 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ونقل عنه خلاف هذا، فقال أبو الحارث: قلت لأبي عبد الله: حديث عائشة أيما امرأة تزوجت [بغير ولي] فقال: لا أحسبه صحيحا؛ لأن إسماعيل قال: قال ابن جريج: لقيت الزهري فسألته عنه، فقال: لا أعرفه وكذلك نقل حرب عنه أنه سئل عن حديث الولي، فقال: لا يصح؛ لأن الزهري سئل عنه فأنكره. فال شيخنا: قلت: وضع المسألة يقتضي أنه لا يشمل إذا جحد المروي عنه، وعموم كلامه يقتضي العموم لهذه الصورة؛ لأن الإنكار يشمل القسمين، وقول ابن عيينة: ليس من حديثي نفي، وعلله القاضي بأن المروي عنه غير عالم ببطلان روايته، والراوي عنه ثقة، فالمروي عنه كسائر الناس. قال شيخنا: قلت: وهذا القيد قد اعتبره أصحابنا فيما إذا سبح به إنسان. ويعتبر أيضا في الحاكم، وبهذه الرواية قال الشافعي وأصحابه (1) . [الرواية على الخط والكتاب] استدل القاضي في «مسألة الرواية على خطه» بأن الأخبار مبناها على حسن الظن والمسامحة ومراعاة الظاهر من غير تحرج، ألا ترى أنه لا يشترط فيها العدالة في الباطن، ويقبل فيها قول العبيد والنساء وحديث العنعنة، والظاهر من حال السماع الموجود الصحة فجاز العمل عليه، واحتج برجوع الصحابة رضي الله عنهم إلى كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل عليها فإنه من أدل الدليل على الرجوع إلى الخط والكتاب. قال شيخنا: قلت: هذا رجوع إلى خط غيره، والعمدة فيه خبر الحامل، واحتج برواية الضرير، والسماع من وراء حجاب فإنه سلمها في الرواية من منعها في الشهادة (2) .   (1) المسودة ص 278، 279 ف 2/9. (2) المسودة ص 281 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا أبدل كلمة الرسول بالنبي أو بالعكس] إذا سمع من الراوي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» أو «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» أو «عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» أو «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» جاز أن يبدل مكان الرسول النبي [نص عليه فيما رواه عمر المغازلي. وكذا مكان النبي رسول الله] وقال صالح: قلت لأبي [عبد الله] يكون في الحديث: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» فيجعله الإنسان «قال النبي - صلى الله عليه وسلم -» قال: أرجو أن لا يكون به بأس (1) . [إذا قرئ على المحدث وسكت هل هو إقرار ومتى يجوز أن يقول حدثني أو أخبرني] مسألة: وإذا قرئ على المحدث وهو يسمع فسكت، فالظاهر أنه إقرار، قاله القاضي أبو يعلى وأبو الطيب، قالا: والأحوط أن يستنطقه الإقرار به، وقيد هذه المسألة القاضي في كتاب القولين بما إذا لم يقر به الشيخ لفظا، فقال: مسألة: إذا قرئ عليه وهو ساكت يسمع، ولم يقل له: هو كما قرأت عليك، فيقول: نعم، أو يقول له ابتداء: أقرأ عليك؟ فيقول: أقرأ، فإذا لم يقل له شيئا من هذا فهل يجوز أن يقول حدثني فلان، أو أخبرني؟ على روايتين، إحداهما: لا يجوز؛ لأنه ما حدثه ولا أخبره؛ بل يسوغ له إذا كان ثقة أن يعمل بما قرأ عليه ويرويه، فيقول: قرأت على فلان فلم ينكره؛ لأن سكوته على ذلك رضا به، وقد نص على هذا في رواية حنبل وقيل له: سأل ابن عون الحسن، فقال: أقرأ عليك فأقول: حدثنا الحسن؟ قال: نعم، قال حنبل: سألت أحمد عن ذلك فقال: لا، ولكن يقول: قرأت, والرواية الثانية يجوز أن يقول: حدثني وأخبرني، لأن سكوته مع سماع القراءة عليه رضا بما قرأه وإمضاء له، فجاز أن يقول: حدثني وأخبرني، كما لو قال له: اروه عني، ولأنه لما حصل سكوته دلالة على جواز الرواية جاز أن يجعله في جواز ذلك في مسألتنا، وقد نص على هذا في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد سأله وهو يقرأ عليه شيئا من الأحاديث، أقول: حدثني أحمد؟   (1) المسودة ص 382، 383 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 فقال: إن قال فما أرى به بأسا، ولكن يقول: «قرأت عليه» أحب إلي لمن يريد الصدق. قال: فقد نص على جوازه، واختار أن يقول: «قرأت عليه» ليحكي الحال، فإذا قال له: هو كما قرأت عليك؟ فقال: نعم، فهل يقول: «أخبرنا» و «حدثنا» أم يجوز أن يقول أخبرنا فقط؟ على روايتين، إحداهما: يجوز أن يقول: أخبرنا، وحدثنا، لا فرق بينهما، نص عليه فيما حدثنا به الخلال أن عبد الجبار بن أحمد قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أخبرنا وحدثنا واحد، ونقل حنبل إذا قال الشيخ حدثنا قلت: حدثنا، يتقفى لفظ الشيخ، إنما هو دين، ولا يقول لأخبرنا حدثنا، ولا لحدثنا أخبرنا، على لفظ الشيخ. قال أبو بكر الخلال: قد سهل أبو عبد الله في هذا المعنى على جواز رواية الحديث على المعنى، قال: والأول أشبه. فإن كان في سماعه «عن فلان» فهل يجوز أن يقال: «قال فلان» أم لا؟ نقل الحسن بن محمد بن الحارث السجستاني عن أحمد: إذا كان «عن فلان» في الكتاب، قال: فلا يغيره. قال الخلال: هذا وهم من الحسن بن محمد؛ لأن هذا عند أحمد شديد، وقد ذكره في كتاب العلل وإنكاره على أهل المدينة. قال شيخنا: قلت: فعلى هذه الطريقة فما أقر به يقول: «أخبرني» قولا واحدا، وفي «حدثني» روايتان، وفيما لم يقر به لفظا بل حالا هل يقول أخبرني وحدثني؟ على روايتين. وعلى الأولى في جوازهما جميعا روايتان في المسألتين، صرح بهما في العدة، فقال: ولا فرق بين أن يقول: هو كما قرأته عليك فيقر به وبين أن يقول: أرويه عنك فيقول له: اروه عني، وأنه على الخلاف الذي حكينا. ولفظ أحمد الذي في العدة هو الذي في كتاب الروايتين، وهو رواية إسحاق ورواية حنبل، وإنما هما في لفظ [حدثني وأما لفظ] أخبرني فقد يؤخذ من قوله: «ولكن يقول قرأت» ولم يقل تقول أخبرني، وكذلك قوله في رواية سلمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 ابن شبيب: «حدثنا وأخبرنا واحد» قاله غير مرة، فيقتضي استواؤهما في المنع والإذن. ثم قال في العدة: إذا قرئ عليه وهو ساكت لم يقر به فالظاهر أنه إقرار. قال شيخنا: وهنا طريقة ثالثة أن يكون في المسألة ثلاث روايات، الثالثة: الفرق بين أخبرنا وحدثنا، فإنه في رواية أبي داود قد جعل التحديث أسهل من الإخبار، وكذلك قوله: «حدثنا وأخبرنا واحد فيما كان سماعا من الشيخ» يقتضي الفرق بينهما فيما لم يكن سماعا. ويتلخص في المسألتين مع اللفظين عدة أقوال: جوازهما فيهما، ومنعهما فيهما، الثالث جواز الإخبار دون التحديث فيهما، والرابع جوازهما فيما أقر به لفظا دون ما أقر به حالا، الخامس جواز الإخبار فيما أقر به دون التحديث فيما لم يقر به (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [العرض على مراتب] الكلام في العرض على مراتب: إحداها: هل تجوز الرواية والعمل به، أم لا؟ فيه خلاف قديم عن بعض العراقيين، ومذهب أهل الحجاز وأهل الحديث كأحمد وغيره جوازه كعرض الحاكم والشاهد على المقر. الثانية: أنه قد يكون بصيغة الاستفهام، وقد يكون بصيغة الخبر وهو الغالب، وكلاهما جائز في الشهادة والرواية. الثالثة: أنه قد يتكلم بالجواب بالموافقة كقولهم: نعم، وهو ظاهر، وقد يقول: أرويه عنك؟ فيقول: نعم، فهذا إذن، والأول خبر، قال القاضي: إذا ثبت في أحد الموضعين، أنه خبر وليس بأمر ثبت في الآخر، لأن أحمد ما فرق بينهما (2) .   (1) المسودة ص 283-286 ف 2/9. (2) نسخة: «لأن أحدا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 الرابعة: السكوت، قال القاضي: فإن قرئ عليه وهو ساكت لم يقر به فالظاهر أنه إقرار، لأن سكوته مع سماع القراءة عليه رضاء منه بما قرأه وإمضاء له، فجاز أن يقول: أخبرني، وحدثني، كما لو أقر به، والأحوط أن يقول له: هو كما قرأته أو قرئ عليك، فإذا قال: «نعم» حدث به عنه. قال شيخنا: قلت: الجواب بنعم عندنا صريح، ولهذا ينعقد به النكاح، فصح أن يقول: حدثني، وأما على وجه لنا أنه كناية كقول الشافعي فقد يتوجه المنع من قول حدثني وأخبرني (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا روى بالإجازة ... ] إذا روى بالإجازة أن يقول: أجاز لي، أو حدثني أو أخبرني إجازة، ولا يجوز أن يقول: حدثني أو أخبرني، مطلقًا. ذكره ابن عقيل (2) . فصل ويقول في الإجازة: حدثني أو أخبرني إجازة، فإن لم يقل: «إجازة» لم يجز، وجوزه قوم. قال شيخنا: قلت: كان يفعله أبو نعيم الأصبهاني (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في رواية صالح: قلت: الشيخ يدغم الحرف يعرف أنه كذا أو كذا ولا يفهم عنه، ترى أن يروي ذلك عنه؟ قال: أرجو أن لا يضيق هذا، قلت: الكتاب قد طال على الإنسان عهده لا يعرف بعض حروفه فيخبره   (1) المسودة ص 286، 287 ف 2/9. (2) المسودة ص 285 ف 2/9. (3) المسودة ص 288 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 به بعض أصحابه، ما ترى في ذلك؟ قال: إن كان يعلم أنه كما في الكتاب فليس به بأس. [إذا كان يدغم الحرف أو لا يعرف بعض حروف كتابه] أبو داود: سأل رجل أحمد بن حنبل [فقال] : أجد في كتابي «جريج» وأنا أعلم أنه «عن ابن جريج» فقال: أصلحه ورووه على الصحة. عبد الله بن أحمد: كان أبي إذا تم الحديث (1) وكان بجانبه من يبصر النحو يقول له كذا فيصلحه أو نحو هذا الكلام (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا لم يحفظ ما قرأه المحدث أو قرئ عليه ... ] إذا لم يحفظ ما قرأه المحدث أو قرئ عليه فينبغي أن يكون ناظرا في كتاب فيه ما يقرأه المحدث من حفظه أو من كتاب ليضبط ما قرأه المحدث، نص عليه في مواضع، وإن كان المحدث يقرأ في كتاب فيجوز أن يرفع بصره، وإذا حدث من حفظه فهو أبعد من ضبطهم إذا لم يحفظوه ولم يكتبوه (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [معارضة الكتاب] يجوز أن يعارض الكتاب الذي سمعه بنسخة أخرى مع غيره، نص عليه، وبه قال الجمهور، وقالت طائفة: لا يعارضه إلا مع نفسه، ينظر في الأصل مرة وفي النسخة مرة أخرى (4) .   (1) نسخة: «قرأ الحديث» . (2) المسودة ص 289 ف 2/9. (3) المسودة ص 289 ف 2/9. (4) المسودة ص 289 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 [شيخنا] : ... ... ... فصل في سماع الصبي [سماع الصبي والضرير] قال عبد الله: سألت أبي: متى يجوز سماع الصبي في الحديث؟ قال: إذا عقل وضبط، قلت: فإنه بلغني عن رجل فسميته أنه قال: لا يجوز سماعه حتى يكون له خمس عشرة سنة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد البراء وابن عمر واستصغرهما يوم بدر، فأنكر قوله، وقال: بئس القول هذا، يجوز سماعه إذا عقل فكيف يصنع بسفيان بن عيينة ووكيع؟ وذكر أيضا قوما، وسألت أبي مرة: ما يقول في سماع الضرير؟ قال: إذا كان يحفظ الحديث فلا بأس، وإذا لم يكن يحفظ فلا، وقال: قد كان أبو معاوية الضرير إذا حدثنا بشيء يرى أنه لم يحفظه يقول: في كتابنا أو في كتابي عن أبي إسحاق الشيباني ولا يقول حدثنا ولا سمعت. قلت لأبي: والأصم؟ قال: هو كذلك بهذه المنزلة إلا ما حفظ من المحدث يعني -والله أعلم- أنه لا بد من سماعه ولا يكتفى بوجوده في كتابه. وزعم قوم أنه يجب أن يكون وقت التحميل بالغا (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [من المحدثين من لا يكون حجة إذا انفرد وكذلك الحديث] من المحدثين من لا يكون حجة إذا انفرد، فإذا وافقه مثله صار حجة، وكذلك الحديث يروى من وجهين فيصير بذلك حجة. وهذا باب واسع يجب اعتباره، قال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن لهيعة، فقال: ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، قال: أنا قد أكتب حديث الرجل على هذا المعنى كأني أستدل به مع حديث غيره بشده، لا أنه حجة إذا انفرد، قلت: فإذا كان الرجل على هذا ليس حديثه بحجة في شيء، قال: إذا انفرد بالحديث فنعم، ولكن إذا كان حديث عنه وعن غيره كان في هذا تقوية.   (1) المسودة ص 290، 291 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: ما حديث ابن لهيعة بحجة، إلا أني كنت كثيرا ما أكتب حديث الرجل لا أعرفه ويقوي بعضه بعضا. وسأله المروذي عن جابر الجعفي، فقال: قد كنت لا أكتب حديثه ثم كتبته أعتبر به. وقال له مهنا: لم تكتب حديث ابن أبي مريم وهو ضعيف؟ قال: أعرفه. وقال سمعته يقول لرجل عنده في حديث رجل متروك، قال له الرجل: قد رميت بحديثه ما أدري أين هو، قال له أبو عبد الله: ولم؟ كيف لم تدعها حتى تنظر فيها وتعتبر بها (1) . [إذا قال الصحابي أو التابعي من السنة كذا أو أمرنا بكذا ونهينا عن كذا] مسألة: إذا قال الصحابي: «من السنة كذا وكذا» اقتضى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أصحابنا وعامة الشافعية وجماعة من الحنفية منهم أبو عبد الله البصري. وقال أبو بكر الرازي والكرخي والصيرفي: لا يقتضي ذلك، واختاره الجويني. قال القاضي: إذا قال الصحابي: «من السنة كذا» كقول علي: «من السنة ألا يقتل حر بعبد» اقتضى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك إذا قال التابعي: «من السنة كذا» كان بمنزلة المرسل، فيكون حجة على الصحيح من الروايتين، كما قال سعيد بن المسيب: «من السنة إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته أن يفرق بينهما الحاكم» وكذا إذا قال الصحابي: «أمرنا بكذا ونهينا عن كذا» فإنه يرجع إلى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهيه، وكذلك إذا قال: «رخص لنا في كذا» وقد نقل أبو النظر العجلي عن أحمد في جراحات النساء مثل جراحات الرجال حتى تبلغ الثلث، فإذا زاد فهو على النصف من جراحات الرجال، قال: وهو قول زيد بن ثابت، وقول علي كله على النصف. قيل له: كيف لم تذهب إلى قول علي؟ قال: لأن هذا يعني قول زيد ليس بقياس، قال: قال سعيد بن المسيب: «هو السنة» .   (1) المسودة ص 294، 295 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 قال القاضي: وهذا يقتضي أن قول التابعي: «من السنة» أنها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قدم قول زيد على قول علي، لأنه وافق قول سعيد: «إنما هي السنة» وبين أنه ليس بقياس. قال: وقد رأيت هذا لبعض أصحابنا ويغلب على ظني أنه أبو حفص البرمكي ذكره في مسائل البرزاطي لما روى الحديث عن ابن عمر أنه قال: «مضت السنة أن ما أدركت الصفقة حبا مجموعا فهو من مال المبتاع» فقال بعد هذا: صار هذا الحديث مرفوعا بقوله: «مضت السنة» ويدخل في المسند. حرر ابنه عبد الله أن هذا القائل هو ابن بطة. قال شيخنا رضي الله عنه: قلت: ويغلب على ظني أن هذا الضرب لم يذكره أحمد في الحديث المسند، فلا يكون عنده مرفوعا (1) . مسألة: فإن قال التابعي ذلك فكذلك، إلا أنه يكون بمنزلة المرسل، وقد أومأ أحمد إلى ذلك. والد شيخنا: قال المقدسي: وقول التابعي والصحابي في ذلك سواء، إلا أن الاحتمال في قول الصحابي أظهر وذكر قول التابعي في هذه وفي التي بعدها. قال أبو الخطاب: في ذلك وجهان، بناء على المرسل. قال شيخنا رضي الله عنه: الخلاف في «أمرنا» و «نهينا» إنما يتوجه عند الإطلاق، وأما عند الاقتران -بأن الأمر كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو زمنه- فلا يتوجه، كقول أنس في الأذان: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» في السياق المعروف، وكقول عائشة: «كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة» وقول زيد بن أرقم: «كان الرجل منا يحدث أخاه وهو في الصلاة حتى نزل قوله {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [238/2] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام» وقول سهل بن سعيد: «كان الناس يؤمرون أن يضعوا أيمانهم على شمائلهم» .   (1) المسودة ص 295، 296 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 وقول أنس في الصف بين السواري: «كنا نطرد عن هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» كذا ذكر الغزالي وأبو محمد قوله: «وقت لنا» (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [كنا نفعل كذا على عهد الرسول حجة من وجهين] قول الصحابي: «كنا نفعل كذا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -» يحتج به من وجهين. من جهة: أن فعلهم حجة كقولهم، ومن جهة: إقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فالأول كقول أبي سعيد (2) : «كنا نعزل والقرآن ينزل فلو كان شيء ينهى عنه لنهانا عنه القرآن» فهذا لا يحتاج إلى أن يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن هذا المأخذ قد ذكره أبو سعيد (3) ولم أر الأصوليين تعرضوا له. وأما الثاني: فيحتاج إلى بلوغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه الأقوال الثلاثة: أحدها: قول أبي الخطاب وأبي محمد أنه حجة مطلقا؛ لأن ذكره ذلك في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسكت عنه ليكون دليلا. والثاني: ليس بحجة كالوجه الذي ذكره القاضي، وهو قول الحنفية. وأما إذا كانت العادة تقتضي أنه بلغه فذاك دليل على البلوغ. وأصل هذا أن الأصل قول الله تعالى وفعله وتركه القول وتركه الفعل، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتركه القول وتركه العمل. وإن كانت قد جرت عادة عامة الأصوليين أنهم لا يذكرون من جهة الله إلا قوله الذي هو كتابه، ومن جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد يقولون بما يقول أصحابنا قوله، وفعله، وإقراره. وقد يقولون: «وإمساكه» وهذا أجود؛ فإن إقراره ترك النهي فإنه يدل على العفو عن تحريم. وأما الإمساك فإنه يعم ترك الأمر أيضا الذي يفيد العفو عن الإيجاب كترك الأمر بصدقة   (1) نسخة: «كقول جابر» . (2) نسخة: «كقول جابر» . (3) نسخة: «كقول جابر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 خضروات المدينة فإن ترك الأمر مع الحاجة إلى البيان يدل على عدم الإيجاب، كترك النهي، وأما ترك الفعل فإنه يدل على عدم الاستحباب وعدم الإيجاب كثيرا؛ فإن ترك الفعل مع قيام المقتضي له يدل على عدم كونه مشروعا كترك النهي مع الحاجة إلى البيان. وأما «فعل الله» كعذابه للمنذرين فإنه دليل على تحريم ما فعلوه ووجوب ما أمروا به، وكما استدل أصحابنا وغيرهم من السلف بفعل الله تعالى ورجم قوم لوط على رجمهم. وأما ترك القول فكما يستدل بعدم أمره على عدم الإيجاب وبعدم نهيه على عدم التحريم، كقوله: «وما سكت عنه فهو مما عفا عنه» وهو الدليل الثاني للاستدلال على عدم الحكم بعدم الدليل، وكما استدل أبو سعيد بعدم النهي عن الفعل على عدم تحريمه. وأما ترك الفعل فكإنجائه للمؤمنين دون المنذرين (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [قول الصحابي نزلت في كذا] قول الصاحب: «نزلت هذه الآية في كذا» هل هو من باب الرواية أو الاجتهاد؟ طريقة البخاري في صحيحه تقتضي أنه من باب المرفوع وأحمد في المسند لم يذكر مثل هذا (2) . [إذا تفرد العدل بزيادة لا تنافي المزيد عليه] مسألة: إذا انفرد العدل عن سائر الثقات بزيادة لا تنافي المزيد عليه قبلت، نص عليه، وهو قول جماعة الفقهاء والمتكلمين وقول الشافعي. وقال جماعة من أهل الحديث: لا تقبل. وعن المالكية وجهان. وعن أحمد قول كقولهم فيما إذا خالف ظاهر المزيد عليه، وعنه ترد مطلقا إذا تركها الجمهور، وكذلك حكى ابن برهان هذا المذهب الثاني عن أبي حنيفة [وحكاه الجويني عن أبي حنيفة] [ولفظ ترجمته: إذا روى طائفة من الأثبات قصة وانفرد واحد منهم بزيادة فيها] .   (1) المسودة ص 297-299 ف 2/9. (2) المسودة ص 299 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 قال شيخنا: قلت: لعل مأخذه أن الزيادة تخالف المزيد عليه، لأنها تقيده، والتقييد نسخ عنده، وذكر أبو الخطاب قبولها إذا تعدد المجلس، وإن اتحدوا كأن كان الذي ترك الزيادة جماعة لا يجوز عليهم الوهم سقطت، وإن كان ناقل الزيادة جماعة كثيرة قبلت. قال شيخنا: قال القاضي: إذا روى جماعة من الثقات حديثا وانفرد أحدهم بزيادة لا تخالف المزيد عليه، مثل أن ينقلوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت وانفرد أحدهم بقوله دخل وصلى تثبت تلك الزيادة بقوله، كالمنفرد بحديث عنهم، وهكذا لو أرسلوه كلهم ورفعه واحد منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه مسندا بروايته، وهكذا لو وقفوه كلهم على صحابي ورفعه واحد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت هذا المرفوع، ولم يرد قال وقد نص أحمد على الأخذ بالزائد في مواضع فقال أحمد بن القاسم: سألت أبا عبد الله عن مسألة في فوات الحج، فقال: فيها روايتان، إحداهما فيها زيادة دم، قال أبو عبد الله: والزائد أولى أن يؤخذ به، قال: وهذا مذهبنا في الأحاديث: إذا كانت الزيادة في أحدهما أخذنا بالزيادة [وهذا النص يدخل في الأخبار، وفي المطلق والمقيد] قال: ونقل الميموني عنه أنه قال: نقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة ولم يصل، ونقل أنه صلى فهذا يشهد أنه صلى. وابن عمر يقول: لم يقنت في الفجر، وغيره يقول: قنت، فهذه شهادة عليه بأنه قد قنت، وحديث أنس: بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخضب، وقوم يقولون قد خضب، فالذي شهد على الشيء [فهو] أوكد. وذهب جماعة إلى أن ما انفرد به الواحد كان مردودا، وقد روي عن أحمد نحو هذا في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث والمروذي إذا تبايعا فخير أحدهما صاحبه بعد البيع هل يجب البيع؟ فقال: هكذا في حديث ابن عمر. قيل له: تذهب إليه؟ قال: لا أنا أذهب إلى الأحاديث النافية، الخيار لهما ما لم يتفرقا، ليس فيها شيء من هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 قال القاضي: قد صرح في رواية ابن عمر بزيادتها، لأن الجماعة ما نقلوها، وإنما تفرد بها ابن عمر، وقد قال في رواية أبي طالب: كان الحجاج بن أرطاة من الحفاظ، قيل له: هو عند الناس ليس بذاك، قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس [لا يكاد يوجد له حديث إلا وفيه زيادة] . قال شيخنا: قلت: أخرج منه تركه للزيادة في حديث عائشة: «والملك لا شريك له» قال: لأن الناس خالفوه، قال المروذي: قرئ على أبي عبد الله حديث عائشة: «كانت تلبي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك» فقال أبو عبد الله: كان فيه: «والملك لا شريك لك» فتركه لأن الناس خالفوه (1) . [شيخنا] : ... ... فصل [مسألة الزيادة ذات شعب واشتباه. إيضاح ذلك] هذه المسألة ذات شعب واشتباه بغيرها، وذلك أن الكلام في ثبوتها أوردها غير اتباعها عملا؛ فإنه قد يروى حديثان منفصلان في قصة، وفي أحدهما زيادة، فهنا لا ريب في قبولها إذا رواها ثقة، كما لو روى حديثا مفردا متضمنا حكما آخر، لكن قد يوجب ذلك تقييد الرواية الأخرى أو تخصيصها فتبقى من باب الخطابين المطلق والمقيد، وهنا قد خالفت إطلاق الرواية الأخرى، كما في حديث ابن عمر في البيعين، فكلام أحمد في رواية ابن القاسم إشارة إلى هذا القسم، وكذلك في حديث ابن عمر؛ لكن إذا كان راوي المطلق عدد أو راوي المقيد واحدا وهو تقييد يرفع موجب ذلك الخبر صار كالنسخ، عنده، وتعارضا، فلا يرفع الأقوى الأضعف؛ ولهذا يتوقف في النسخ بمثل هذه الرواية عنه في التفريق، وكنسخ القيام للجنازة ونحو ذلك، فإن نسخ خبر العدل بالواحد يتوقف فيه. وأما الخبر الواحد فإما أن ترد إحدى الروايتين عن المنشئ   (1) المسودة ص 299-301 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 للكلام، أو عن المخبر به. فأما الأول فهي المسألة المذكورة هنا، وهي زيادة أحد الصاحبين ما لم يروه الآخر، وهي ترجع إلى القسم الأول إن تعدد المجلس، وأما إن اتحد ولم يعلم واحد منهما فهي هي. وأما إن كانت الزيادة عن المخبر عنه فهنا الزيادة في حديث واحد قطعا؛ لأن تعدد مجالس الأخبار لا يوجب تعدد المخبر عنه؛ لكن قد يرويه المحدث بكماله وقد يختصره. فسبب عدم قبول الزيادة إما تعدد المتكلم وإما حفظ الزائد دون غيره. وإما أن يكون تركهم لروايتها لا لعدم علمهم بها بل للاختصار وترك روايتها يبتني على جواز نقل بعض الحديث دون بعض إن كان الترك موهما ولهذا قرنوا إحدى المسألتين بالأخرى. وأيضا فزيادة بعض الرواة بعض الحديث يستمد من قاعدة، وهي: أن التفرد بالرواية قد يقدح تارة ولا يقدح أخرى، فإذا كان المقتضي للاشتراك قائما ولم يقدح قدح وإلا فلا، ومنه رواية ما تعم به البلوى وغير ذلك، وذلك لأنها إذا كانت ثابتة فالمحدث إما أن يكون قد ذكرها للبقية أو لم يذكرها. وإذا ذكرها فإما أنهم لم يسمعوها، أو سمعوها وما حفظوها، أو حفظوها وما حدثوا بها، ليس هنا سبب رابع. فإن كان المقتضي لذكرها وسمعها وحفظها والتحديث بها موجودا صارت مثل المثبت والنافي سواء. وأما الاختلاف في الإسناد والإرسال والرفع والوقف ففيه تفصيل أيضا. وكلام أحمد وغيره في هذه الأبواب مبني على التفصيل، وأهل الحديث أعلم من غيرهم (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [وإذا كانت تخالف المزيد] ذكر القاضي في ضمن المسألة أن المنفرد بزيادة لا تخالف المزيد   (1) المسودة ص 302، 303 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 كالمنفرد بحديث، فأورد عليه ترك أحمد لزيادة ابن أبي عروبة الاستسعاء، قال في رواية الميموني: حديث أبي هريرة في الاستسعاء يرويه ابن أبي عروبة، وأما شعبة وهمام وهشام الدستوائي فلم يذكروه ولا أذهب إلى الاستسعاء. فقال القاضي: هذا باب آخر، وهو أن هذه الزيادة تخالف المزيد عليه فيكون كأنه تفرد بضد ما نقلته الجماعة، فيقدم ما كثرت روايته على ما قلت، وكذلك فيما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «في زكاة الفطر نصف صاع من بر» وروي «صاع من بر» فهذه الزيادة تخالف المزيد عليه، فيقدم أحدهما بكثرة الرواة (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [التعارض الحقيقي لا يوجد في الأخبار] لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به. ذكره أبو بكر الخلال، وهذا قول القاضي (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [المضطرب] يقدم حديث من لم يضطرب لفظه على ما اضطرب لفظه قاله القاضي (3) . [الترجيح] [شيخنا] مسألة: يجوز ترجيح أحد الدليلين الظنيين على الآخر عند عامة العلماء، واختلف النقل فيه عن البصري (4) . [شيخنا] مسألة: لا ترجيح في المذاهب الخالية عن دليل، وحكى عبد الجبار بن أحمد عن أصحابه جواز ذلك (5) .   (1) المسودة ص 304 ف 2/9. (2) المسودة ص 306 ف 2/9. (3) المسودة ص 308 ف 2/9. (4) المسودة ص 309 ف 2/9. (5) المسودة ص 309ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 مسألة: فأما ترجيح أحد الدليلين على الآخر بقلة احتماله للخطأ أو كثرة احتمال الآخر فنفاه القاضي، وفرق بين ما يوجب صحة الشيء وبيانه فإنه يقوى بكثرة وجوه الإثبات لكثرة الرواة في الخبر وكثرة الاشتباه في القياس، وبين ما يوجب فساد الشيء فإنه لا يعتبر فيه بالقلة والكثرة، كما لو كان الراوي مغفلا فإن ذلك يمنع قبول خبره، ولا يختلف بوجود الفسق معها وعدمه. قال شيخنا رضي الله عنه: قلت: هذا ضعيف ولو صح لكان الفرق بين ما يوجب الفساد وبين ما يحتمل الفساد ظاهرا، ومسألته من القسم الثاني (1) . [إذا تعارض المرسل وحديث عن الصحابة] مسألة: [شيخنا] إذا تعارض خبر مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث عن الصحابة أو التابعين فالذي عن الصحابة أولى من المرسل نص عليه، ولفظه: قال إسحاق بن إبراهيم: قلت لأبي عبد الله: حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل برجال ثبت أحب إليك أو حديث عن الصحابة أو التابعين متصل برجال ثبت؟ قال أبو عبد الله: عن الصحابة أعجب إلي (2) . [تقديم رواية المثبت على النافي] مسألة: [شيخنا] في تقديم رواية المثبت على النافي، نص عليه أحمد، قال إسماعيل: إذا كان النفي مستندا إلى علم بالعدم -بأن كانت جهات الإثبات معلومة- لا إلى عدم علم بأن النفي والإثبات في جهة هذه الصورة يتقابلان من غير ترجيح (3) . مسألة: رواية من تقدم إسلامه ومن تأخر سواء، قاله القاضي وغيره. وقال بعض الشافعية: تقدم رواية المتأخر إسلامه. قال شيخنا: ذكر ابن عقيل ما يشبه هذا فلينظر في أوائل الثاني   (1) المسودة ص 309 ف 2/9. (2) المسودة ص 310 ف 2/9. (3) المسودة ص 310، 311 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 بالأصل له. [هل تقدم رواية من تقدم إسلامه وهجرته ... ] وقال أبو الخطاب: تقدم رواية من قد تقدمت هجرته وكثرت صحبته، وكذا قال ابن عقيل: تقدم رواية من كثرت صحبته وقد تقدم [وقال إسماعيل: لا تقدم رواية من تقدم إسلامه على من تأخر إسلامه] (1) . فصل [سبب ذهاب ما ذهب من الدين وظهور ما ظهر من البدع] قاعدة: بعث الله محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا إلى جميع الخلق: أهل العلم والعبادة، وأهل الولاية والإمارة من الخاصة، وأكمل له ولأمته الدين، وأتم عليهم النعمة ورضي لهم الإسلام دينا. فالهدى يدخل فيه العلم النافع ودين الحق يدخل فيه العمل الصالح فعاش الناس في ذلك الهدى ودين الحق. ثم ظهرت البدع والفجور، فصار من الأمة من استمسك بالهدى ودين الحق. ومنهم من عدل عن بعض ذلك فاستمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم وخاضوا كالذي خاضوا. فالمنحرف: إما المبتدع في دينه، وإما الفاجر في دنياه، كما قال الحسن البصري، وسفيان الثوري وجماعات من السلف: إن من سلم من فتنة البدعة وفتنة الدنيا فقد سلم. وإن كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ففتنة البدعة في أهل العلم والدين. وفتنة الدنيا في ذوي السلطان والمال؛ ولهذا قال بعض الناس: صنفان إذا صلحوا صلح الناس: العلماء والأمراء. وقد قال أبو محمد الرملي عن أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: بالماضين ما كان أشبهه، وعن الدنيا ما كان أصبره، أتته البدعة فنفاها، والدنيا فأباها. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ   (1) المسودة ص 311 ف 2/9. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [34/9] وقال ابن المبارك: وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأخبار سوء ورهبانها فالأمراء من الملوك وأتباعهم يقولون لما أحدثوه: «سياسة» ويقولون: «شرع وسياسة» والعلماء المتكلمون يقولون: عقليات وكلام، ويقولون: العقل والشرع. والعباد والفقراء والصوفية يقولون: «حقيقة وشريعة» . وسياسة هؤلاء وعقليات هؤلاء وحقيقة هؤلاء أعظم قدرا في صدورهم من كتاب الله وسنة رسوله حالا، أو اعتقادا. وبإزائهم قوم من الفقهاء والمحدثين والعباد والعامة ينتسبون إلى الكتاب والسنة والشرع وهم لا يعلمون من ذلك ما يحتاج إليه؛ بل فيهم من الجهل بحقائق ذلك أو التقليد لبعض رؤسائهم ما أوجب نقص الكتاب والسنة والشريعة في قلوب أولئك فتقصير هؤلاء وعدوان أولئك كان سببا لذهاب ما ذهب من الدين وظهور ما ظهر من البدع. والله أعلم (1) .   (1) مجموع 69 ورقة 80 ف 2/10، 11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 الأصل الثالث الإجماع [الإجماع حجة] مسألة: ولا يجوز أن تجمع الأمة على الخطأ، نص عليه، وهو قول جماعة الفقهاء والمتكلمين، وحكي عن إبراهيم النظام وطائفة من المرجئة وبعض المتكلمين أنه ليس بحجة وأنه يجوز اجتماع الكل على الخطأ، وقالت الرافضة: ليس الإجماع حجة، وإنما قول الإمام وحده حجة. والمشهور عن النظام إنكار تصوره. والأول حكاه القاضيان أبو يعلى وأبو الطيب. وأول من استدل بالآية الشافعي رضي الله عنه. [وإذا اختلف الصحابة لم يخرج عن أقاويلهم وينظر إلى أقرب القولين إلى الكتاب والسنة (1) ] قال القاضي: الإجماع حجة مقطوع عليها (2) يجب المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجمع الأمة على الخطأ، وقد نص أحمد على هذا في رواية عبد الله وأبي الحارث في الصحابة إذا اختلفوا لم يخرج عن أقاويلهم أرأيت إن أجمعوا له أن يخرج من أقاويلهم؟ هذا قول خبيث، قول أهل البدع، لا ينبغي لأحد أن يخرج من أقاويل الصحابة إذا اختلفوا. قال شيخنا رضي الله عنه: قلت: قال في رواية عبد الله: الحجة على من زعم أنه إذا كان أمرا مجمعا عليه ثم افترقوا إنا نقف على ما أجمعوا عليه، إلى آخره وهي مكتوبة في مسألة انقراض العصر قال:   (1) نسخة: «حجة قطعية» . (2) كما يأتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وقد أطلق القول في رواية عبد الله فقال: من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس قد اختلفوا وهذه دعوى بشر المريسي والأصم؛ ولكن يقول: «لا نعلم الناس اختلفوا» إذا لم يبلغه. وكذلك نقل المروذي عنه أنه قال: كيف يجوز للرجل أن يقول: «أجمعوا» ؟ إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم، لو قال: «إني لم أعلم مخالفا» كان ذلك، ونقل أبو طالب عنه أنه قال: هذا كذب ما أعلمه أن الناس مجمعون، ولكن يقول: «لا أعلم فيه اختلافا» فهو أحسن من قوله: «إجماع الناس» وكذلك نقل أبو الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع، لعل الناس اختلفوا. قال القاضي: فظاهر هذا الكلام أنه قد منع صحة الإجماع، وليس هذا على ظاهره، وإنما قال هذا عن طريق الورع؛ لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو قال هذا في حق من ليس له معرفة بخلاف السلف؛ لأنه قد أطلق القول بصحة الإجماع في رواية عبد الله وأبي الحارث، وادعى الإجماع في رواية الحسن بن ثواب فقال: أذهب في التكبير من غداة يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق. فقيل له: إلى أي شيء تذهب؟ فقال: بالإجماع عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس. [دعوى الإجماع التي أنكرها أحمد والإجماع الذي يعتبره] قال شيخنا: قلت: الذي أنكره أحمد دعوى إجماع المخالفين بعد الصحابة أو بعدهم وبعد التابعين، أو بعد القرون الثلاثة المحمودة، ولا يكاد يوجد في كلامه احتجاج بإجماع بعد عصر التابعين أو بعد القرون الثلاثة، مع أن صغار التابعين أدركوا القرن الثالث، وكلامه في إجماع كل عصر إنما هو في التابعين. ثم هذا منه نهي عن دعوى الإجماع العام النطقي، وهو كالإجماع السكوتي، أو إجماع الجمهور من غير علم بالمخالف؛ فإنه قال في القراءة خلف الإمام: ادعي الإجماع في نزول الآية وفي عدم الوجوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 في صلاة الجهر، وإنما فقهاء المتكلمين كالمريسي والأصم يدعون الإجماع ولا يعرفون إلا قول أبي حنيفة ومالك ونحوهما، ولا يعلمون أقوال الصحابة والتابعين، وقد ادعى الإجماع في مسائل الفقه غير واحد من مالك ومحمد بن الحسن والشافعي وأبي عبيد في مسائل وفيها خلاف لم يطلعوه وقد جاء الاعتماد على الكتاب والسنة والإجماع في كلام عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وغيرهما حيث يقول كل منهما: اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما أجمع عليه الصالحون. وفي لفظ: بما أجمع عليه الناس؛ لكن يقتضي تأخير هذا عن الأصلين، وما ذاك إلا لأن هؤلاء لا يخالفون الأصلين (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [دلالة كونه حجة] دلالة كون الإجماع حجة هو الشرع. وقيل: العقل أيضا [نثبته حجة: إما بالسمع، وإما بالعقل. والسمع إما بالكتاب، وإما بالسنة، ونثبت السنة بالتواتر المعنوي، وبأن العادة والدين يمنع من تصديق ما لم يثبت ومن معارضة القواطع ما ليس بقاطع. والعقل إما العادة الطبيعية، وإما دين السلف الشرعي المانع من القطع بما ليس بحق] (2) (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [أخبار الآحاد يدل على صحتها طرق] قال المخالف: هذه أخبار آحاد فلا يجوز الاحتجاج بها في مثل هذه المسألة، فقال القاضي: هذه مسألة شرعية طريقها مثل مسائل الفروع ليس للمخالف فيها طريق يمكنه أن يقول: إنه يوجب القطع. وجواب آخر، وهو أنه تواتر في المعنى من وجهين:   (1) المسودة ص 315-317 ف 2/10. (2) ما بين المعقوفتين ساقط من بعض النسخ كما نبه عليه الطابع. (3) المسودة ص 317 ف 2/10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 أحدهما: أن الألفاظ الكثيرة إذا وردت من طرق مختلفة ورواة شتى لم يجز أن يكون جميعها كذبا، ولم يكن بد أن يكون بعضها صحيحا، كما لو أخبرنا الجمع الكثير بإسلامهم وجب أن يكون فيهم صادق، ولهذا أثبتنا كثيرا من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثبتنا وجوب العمل بخبر الواحد بما روي عن الصحابة من العمل به في قضايا مختلفة. والثاني: أن هذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، ولم ينقل عن أحد أنه رده؛ ولهذا نقول: إن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» لما اتفقوا على العمل به دلَّ على أنه صحيح عندهم. [قال شيخنا رضي الله عنه] : قلت: وثم طريق ثالث، وهو ثبوت القدر المشترك من المعنى، وهذا غير القطع بصحة واحد من الألفاظ. قال في أدلة المسألة: وأيضا فلا خلاف أن نصب الزكاة والمقادير الواجبة فيها وأركان الصلاة مقطوع بها، ومعلوم أنه ما ثبت بها خبر متواتر، وإنما نقل فيها أخبار آحاد: ابن عمر وأنس وغيرهما، عدد معروف، فلما اتفقوا عليها وقطعوا على ثبوتها علمنا أن قبولها قطعي من حيث الإجماع، لا من حيث أخبار الآحاد؛ من ناحية أن الأمة تلقتها بالقبول فصارت الأخبار فيها كالمتواتر. واستدل ابن عقيل بأن تأخر نص عن نص يثبت بخبر الواحد، فيترتب عليه النسخ، وإن كان النسخ لا يثبت بخبر الواحد (1) . مسألة: يعتبر انقراض العصر عند القاضي والمقدسي والحلواني وابن عقيل. وذكر القاضي أنه ظاهر كلام أحمد، وذكر ابن برهان أنه مذهبهم.   (1) المسودة ص 319، 320 ف 2/10. فيه زيادة إيضاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 [اعتبار انقراض العصر في صحة الإجماع] [قال شيخنا] : قلت: سر المسألة أن المدرك لا يعتبر وفاته؛ بل يعتبر عدم خلافه إذا قلنا به. وذهب المتكلمون من المعتزلة والأشعرية وأصحاب أبي حنيفة فيما ذكره أبو سفيان إلى أنه لا يعتبر. وعن الشافعية كالمذهبين، ولهم وجه ثالث: إن كان الإجماع مطلق لم يعتبر -وإن كان بشرط- وهو إن قالوا: هذا قولنا، ويجوز أن يكون الحق في غيره، فإذا وضح صرنا إليه اعتبر انقراض العصر. واختار الجويني إن أسندوه إلى الظن لم يكن إجماعا حتى يمضي زمان طويل حتى لو ماتوا عقبيه لم يستقر ولو مضت مدة طويلة قبل موتهم استقر، فلم يعتبر انقراض العصر في ذلك بل مضى زمن طويل، وتكلم في ضبطه بكلام كثير. والمذهب الثاني اختيار أبي الخطاب، وقال: هو قول عامة العلماء، وذكر أن أحمد أومأ إليه (1) أيضا. وحكى ابن عقيل قولا آخر بأنه إن كان قولا من الجميع لم يعتبر فيه انقراض العصر، وإن كان قولا من البعض وسكوتا من الباقين اشترط انقراض العصر، والذين اعتبروا انقراض العصر منهم من اعتبر موت جميع الصحابة، ومنهم من اعتبر موت الأكثر، ومنهم من اعتبر موت علمائهم. قال شيخنا: قال القاضي في مقدمة المجرد: انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع واستقراره، فإذا أجمعت الصحابة على حكم من الأحكام ثم رجع بعضهم أو جميعهم انحل الإجماع وإن أدرك بعض التابعين عصرهم وهو من أهل الإجماع اعتد بخلافه، وقد قدم أحمد قول سعيد بن المسيب على قول ابن عباس في أن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته، وقول سعيد أيضا في أن خراج العبد مقدر من قيمة كالحر خلافا لابن عباس، ثم قال بعد هذا فيها: وإذا أدرك التابعي زمان الصحابة وهو من أهل الاجتهاد لم يعتبر قوله في إجماعهم، ولم يعتد   (1) نسخة: «وذكر عن أحمد أنه أومأ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 بخلافه لهم، وقد قال أحمد فيمن حكم بقول التابعين وترك قول الصحابة: نقض حكمه (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل احتج من قال: «لا يشترط انقراض العصر» بأن التابعين احتجوا بإجماع الصحابة في عصر الصحابة، فروي عن الحسن البصري أنه احتج بإجماع الصحابة وأنس بن مالك حي، فلو كان انقراض العصر شرطا لما احتج بذلك قبل انقراضه. فقال القاضي: والجواب أنا لا نعرف هذا عن التابعين، وما حكوه عن الحسن فيحتاج إلى أن ينقل لفظه حتى ينظر كيف وقع ذلك منه. [يحتج بإجماعهم في حياتهم] قال: وعلى أنه لو كان منقولا لم يكن فيه حجة؛ لأن من الناس من قال: قول الصحابي وحده حجة، وهو الصحيح من الروايتين لنا، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون الحسن احتج بقول الواحد منهم لا يإجماعهم. قال شيخنا: قلت: هذا جواب ضعيف، فإنا إذا اشترطنا انقراض العصر في المجمعين فلأن نشترطه في الواحد أولى؛ فإن قوله بعد رجوعه عنه لا يكون حجة وفاقا وإذا كان الاحتجاج بهذا الواحد في حياته مع أن رجوعه يبطل اتباعه فلأن يحتج بقول الجماعة في حياتهم أولى، وإنما المتوجه أن يحتج بقولهم في حياتهم وإن كان انقراض العصر شرطا؛ لأن الآية التي احتجوا بها في قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [115/4] ذم الله تعالى بها من خالفهم في حياتهم قبل انقراضهم وكذلك شهادتهم على الناس قبلها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياة الشهيد.   (1) المسودة ص 320، 321 ف 2/10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وأيضا فلأنهم إذا اتفقوا وجب عليهم جميعا اتباع اتفاقهم إلى حين يحدث خلاف بينهم، وهذا كما يجب علينا طاعة الرسول فيما يأمر به وإن جاز تبدله بنسخ أو تغيير من الله تعالى، وذلك لأن الأصل عدم رجوعهم وبقاء أقوالهم ثم إذا رجعوا فأكثر ما في الباب أنهم اتفقوا على خطأ لم يقروا عليه، وهذا جائز عند هذا القائل وإنما هم معصومون عن دوام الخطأ، وهذا قريب إذا لم يطل الزمان بحيث يتبعهم الناس على ذلك الخطأ على وجه لا يمكن إزالته، فأما مع ذلك فلا يجوز كما لا يجوز في الرسالة. وكذا قال القاضي: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعلناه حجة لنا وبينا أنه يعتبر في ذلك انقراضه لأنه قد يرجع عنه ويتركه على أن قوله لا يقف العمل به على انقراضه، لأنه بالنسخ لا يتبين الخطأ بل يرجع عما كان عليه مع كونه كان صوابا في ذلك الوقت، وليس كذلك رجوع المجمعين؛ لأنه عن خطأ تبين لهم (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [واللاحقون إذا صاروا مجتهدين قبل انقضاء العصر] فإن كان الذين صاروا مجتهدين موجودين في حال إجماع الأولين فلا أثر لذلك، إذ وجودهم غير مجتهدين بمنزلة عدمهم أو وجودهم كفارا أو صبيانا، وإن صاروا مجتهدين قبل انقراض عصر الأولين لكن لم يخالفوهم حتى انقرض عصرهم فهذا الخلاف مسبوق بالإجماع المتقدم لأن المجتهد اللاحق لا يعتبر انقراض عصره في صحة الإجماع الأول بلا تردد إذا وافق أو سكت. أما إذا وافق فلا ريب، إذ لو اعتبر ذلك لما استمر إجماع. وأما إذا سكت فكذلك أيضا إذا منعناه أن يخالف. وإن سوغ له أن يخالف ولم يخالف فالإجماع قد تم بشروطه فإن المجمعين انقرض عصرهم من غير خلاف.   (1) المسودة ص 323-331 ف 2/10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 والضابط أن اللاحق إما أن يتأهل قبل الانقراض أو بعده. وعلى الأول فإما أن يوافق أو يخالف، أو يسكت. [قال شيخنا] : قلت: سر المسألة (1) أن المدرك لا يعتبر وفاته، بل يعتبر عدم خلافه إذا قلنا به، قال القاضي: انقراض العصر معتبر في صحة الإجماع واستقراره، فإذا أجمعت الصحابة على حكم من الأحكام ثم رجع بعضهم أو جميعهم انحل الإجماع. وإن أدرك بعض التابعين عصرهم وهو من أهل الاجتهاد اعتد بخلافه إذا قلنا إنه يعتد بخلافه معهم، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله، قال: الحجة على من زعم أنه إذا كان أمرا مجمعا عليه ثم افترقوا أنا نقف على ما أجمعوا عليه حتى يكون إجماعا، إن أم الولد كان حكمها حكم الأمة بإجماع، ثم أعتقهن عمر وخالفه علي بعد موته فرأى أن تسترق فكان الإجماع في الأصل أنها أمة. وحد الخمر ضرب أبو بكر أربعين ثم ضرب عمر ثمانين وضرب علي في خلافة عثمان أربعين، وقال: ضرب أبو بكر أربعين وكملها عمر ثمانين، وكل سنة. فالحجة عليه في الإجماع في الضرب أربعين ثم عمر خالفه فزاد أربعين ثم ضرب علي أربعين، قال: وظاهر هذا اعتبار انقراض العصر؛ لأنه اعتد بخلاف علي بعد عمر في أم الولد، وكذا اعتد بخلاف عمر بعد أبي بكر في حد الخمر (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا مات أحد الفريقين ثم أجمع من بعدهم هل يرفع الخلاف؟] وإن مات أحد الفريقين بحيث يكون الباقي كل الفريق الآخر أو بعضهم فقد اختلف فيه من قال: «إجماع التابعين على أحد القولين يرفع الخلاف» على قولين، أحدهما -وهو الذي ذكره القاضي محل وفاق، واستدل به عليهم- أنه لا يرفع الخلاف المتقدم، وإن كان هؤلاء لو   (1) نسخة: «كما تقدم» المسودة ص 323، 324 ف 2/10. (2) المسودة ص 324، 325 ف 2/10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 أجمعوا قطعوا الخلاف الحادث (1) . قال القاضي: إذا اختلف الصحابة على قولين ثم أجمع التابعون على أحدهما لم يرتفع الخلاف، وجاز الرجوع إلى القول الآخر والأخذ به، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية يوسف بن موسى، قال: ما اختلف فيه علي وزيد ينظر أشبهه بالكتاب والسنة. شيخنا: وكذلك نقل المروذي عنه: إذا اختلف الصحابة ينظر إلى أقرب القولين إلى الكتاب والسنة، وكذلك نقل أبو الحارث: ينظر إلى أقرب الأمور وأشبهها بالكتاب والسنة. قال: وظاهر هذا أنه رجع في ذلك إلى موافقة الدليل ولم يرجع إلى إجماع التابعين على أحد القولين (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [مما استدل به على أن إجماع التابعين لا يرفع الخلاف] قال القاضي في مسألة إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة: لا يرفع الخلاف؛ بل يجوز الرجوع إلى القول الآخر والأخذ به، لما رواه الآجري في كتابه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم» ، فقيل له: كيف تحتجون بهذا الحديث وقد قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عمن احتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أصحابي بمنزلة النجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم» فقال: لا يصح هذا الحديث؟ قيل له: قد احتج أحمد به واعتمد عليه في فضائل الصحابة، فقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة: أنبأنا عبيد الله (3) بن حنبل بن إسحاق بن حنبل، حدثني أبي، سمعت أبا عبد الله يقول: الغلو في ذكر أصحاب محمد لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الله الله   (1) المسودة ص 324، 325 ف 2/10. (2) المسودة ص 325، 326 ف 2/10. (3) نسخة عبد الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 في أصحابي لا تتخذوهم غرضا» وقال: «إنما هم بمنزلة النجوم بمن اقتديتم منهم اهتديتم» قال: فقد احتج بهذا اللفظ فدل عل صحته عنده (1) . [إذا اختلف الصحابة في مسألتين على قولين فهل يجوز لمن بعدهم القول بالتفرقة؟] مسألة: فإن اختلف الصحابة في مسألتين على قولين؛ أحدهما بالإثبات فيهما والآخر بالنفي فيهما جاز لمن بعدهم القول بالتفرقة، وأن يقول في كل مسألة بقول طائفة منهم، في قول أكثر العلماء. وحكى ابن برهان لأصحابه في ذلك وجهين: أحدهما: كما قدمنا اختاره القاضي. وحكى أبو الخطاب عن أحمد ما يدل عليه في التي قبلها. والثاني: لا يجوز اختاره أبو الخطاب وزعم أنه ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم وأبي الحارث، وأشار إلى عموم كلامه (2) في التي قبلها، وذكر أنه متى صرحوا بالتسوية لم تجز التفرقة ولم يذكر خلافا. ولنا وجه ثالث بالتفرقة، اختاره المقدسي، وقال قوم منهم الحلواني والمقدسي: إن صرحوا بينها بالتسوية لم تجز التفرقة، وإلا جازت، قال أبو الطيب: وهو قول أكثرهم، وقد ذكر أصحابنا في بسط كلامهم في التي قبلها ما يقتضي أن هذا من جملتها حيث ذكروا في حجة المخالف تفرقة مسروق بين زوج وأبوين وبين امرأة وأبوين (3) وقد أجاب ابن برهان بما يوافق ما قلنا وأنه ليس النزاع في ذلك. [والد شيخنا] : وذكر القاضي أبو يعلى في الكفاية أنهم إن صرحوا بالتسوية لم يجز إحداث قول ثالث بالتفرقة وإن لم يصرحوا فوجهان.   (1) المسودة ص 326 ف 2/10. (2) نسخة: «إلى عموم نصه» . (3) هما المسألتان الغراوان في الميراث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 قال شيخنا: أبو العباس: والظاهر أن هذا فيما إذا كان بين المسألتين نوع من الشبه، مثل قولهم في زوج وأبوين وزوجة وأبوين. وأما إذا لم يكن بينهما نوع من الشبه مثل أن يوجب أحدهم النية في الوضوء ولا يجيز بيع الأعيان الغائبة من غير صفة ولا يوجب الآخر النية في الوضوء ويجوز بيع الأعيان الغائبة من غير صفة فينبغي أن يكون القول بجواز التفرقة إجماعا ههنا فيوجب الثالث النية في الوضوء ولا يجوز بيع الغائب، أو بالعكس، ومثل القاضي هذه المسألة بأن يوجب بعض الأمة النية في الوضوء ولا يجعل الصوم من شرط الاعتكاف ولا يوجب الباقون النية في الوضوء ويجعلون الصوم من شرط الاعتكاف. قال والد شيخنا: وهذا ينافي ما ذكرناه وهو بعيد جدا، ويمكن أن يقال: بينهما نوع من الشبه. قال: ثم إني رأيت أبا الخطاب قد أشار إلى نحو ما ذكرناه فذكر أن الصحابة إذا اختلفوا في مسألتين على قولين فإن صرحوا بالتسوية لم يجز إحداث قول ثالث، وإن لم يصرحوا بالتسوية نظرت فإن كان طريق الحكم فيهما مختلفا، ثم مثل بالنية في الوضوء والصوم في الاعتكاف، وذكر أن القول بالتفرقة في مثل هذه الصورة يجوز ولم يذكر خلافا. قال: ولأنه لو لزم ذلك للزم من وافق أحمد في مسألة أن يوافقه في جميع مذهبه، والأمة مجمعة على خلاف ذلك. ثم ذكر فيما إذا كان طريق الحكم فيهما واحدا، ومثل بزوج وأبوين وزوجة وأبوين، كما ذكرنا وهذا يخالف قول شيخه ويوافق قولنا. [قال شيخنا] : وهذا التفصيل قول عبد الوهاب المالكي، وقد ذكر القاضي في خلافه في ضمن مسألة قراءة الجنب بعض آية: إن الصحابة لما اختلفت في هذه المسألة على قولين المنع مطلقا والجواز مطلقا منعنا في آية موافقة لمن منع [منهم] وجوزنا في بعض آية موافقة لمن جوز، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 ولم نخرج عن أقاويلهم (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في الإجماع المركب مثل حلي الصبي وعدم العشر في خضروات الأرض الخراجية ونحو ذلك (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا قيل إن قول الصحابي حجة فهل يجوز أن يجمع التابعون على خلافه؟] إذا قلنا: «هو حجة» فهل يجوز أن يجمع التابعون على خلافه؟ قال عبد الوهاب المالكي: يجوز، ويتبين بذلك أنه كان هناك قول صحابي آخر بخلافه (3) كما يجوز الإجماع على مخالفة خبر، ويدل الإجماع على أنه منسوخ بخبر، أو بآية، أو أن المراد خلاف ظاهره، وحينئذ فيجب العمل بالإجماع. وظاهر كلام أحمد أن ذلك لا يجوز أو أنه لو وقع لم يمنع كون قول الصحابي حجة، وهذا مبني على أن إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة لا يوجب أن يكون هو الصواب، لأنهم بعض من تكلم في تلك المسألة من الأمة (4) . مسألة: إذا قال بعض الصحابة، وانتشر في الباقي، وسكتوا ولم يظهر خلافه فهو إجماع، يجب العمل به عندنا. [إذا قال بعض الصحابة وانتشر وسكتوا عن مخالفته حتى انقضى العصر] قال شيخنا: إذا سكتوا عن مخالفته حتى انقرض العصر، هكذا قيده القاضي، قال في المجرد: هو حجة ودليل مقطوع عليه يجب اتباعه وتحرم مخالفته، وهو إجماع.   (1) المسودة ص 327، 328 ف 2/10. (2) المسودة ص 331 ف 2/10. (3) نسخة: «لا يخالفه» . (4) المسودة ص 334 ف 2/10. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 قال القاضي حسين في تعليقه: إذا قال الصحابي قولا ولم ينتشر فيما بينهم فإن كان معه قياس خفي فيقدم ذلك على القياس الجلي قولا واحدا، وكذلك إذا كان معه خبر مرسل مجرد. فإن كان متجردا عن القياس فهل يقدم القياس الجلي على ذلك؟ فيه قولان، الجديد يقدم القياس. وإن انتشر بين الصحابة من طريق الفتيا كان حجة مقطوعا بها. وهل يسمى إجماعا؟ فيه وجهان: أحدهما يكون إجماعا، ويشترط انقراض العصر على ذلك وجها واحدا، وإن كان على طريق القضاء قيل هو حجة قولا واحدا. وقيل: فيه قولان [قال المصنف] وهو قول المالكية وأكثر الحنفية فيما ذكره أبو سفيان والجرجاني وأكثر الشافعية، وكذلك الكرخي الحنفي وأبو الطيب الطبري. وقال بعض الحنفية: يكون حجة ولا يكون إجماعا وكذلك قال بعض الشافعية [يكون حجة ولا يكون إجماعا] لأن الشافعي قال: لا ينسب إلى ساكت قول، هذا قول أبي بكر الصيرفي، وقال: هذا هو الأشبه بمذهب الشافعي، بل هو مذهبه. وقال داود وبعض المتكلمين منهم ابن الباقلاني والجويني: ليس بحجة ولا إجماع، وحكي عن قوم من المعتزلة والأشعرية وسماهم أبو الخطاب فقال: واختلف فيه من قال: «كل مجتهد مصيب» فقال الجبائي كقولنا، وقال ابن برهان: يكون حجة ولا يكون إجماعا، وقال أبو عبد الله البصري كقول داود وابن الباقلاني (1) . مسألة: إذا قال الصحابي قولا ولم ينقل عن صحابي خلافه وهو مما يجري بمثله القياس والاجتهاد فهو حجة، نص عليه أحمد في مواضع [وقدمه على القياس] (2) . واختاره أبو بكر في التنبيه.   (1) المسودة ص 335 ف 2/11. (2) ساقطة من نسخة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 [إذا قال صحابي قولا ولم ينقل عن صحابي خلافه وهو مما يجري بمثله القياس والاجتهاد فهو حجة. طريقة أحمد في جواباته وأعماله] قال شيخنا: قال أبو داود: قال أحمد بن حنبل: ما أجبت في مسألة إلا بحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجدت في ذلك السبيل إليه، أو عن الصحابة أو عن التابعين فإذا وجدت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أعدل إلى غيره، فإذا لم أجد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين فإذا لم أجد عن الخلفاء فعن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأكابر فالأكابر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا لم أجد فعن التابعين وعن تابعي التابعين، وما بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث يعمل له ثواب إلا عملت به رجاء ذلك الثواب ولو مرة واحدة. وقال الشافعي في «الرسالة العتيقة» بعد أن ذكر فصلا في اتباع الصحابة للسنة: ومن أدركنا ممن يرضى أو حكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه سنة إلى قولهم إن أجمعوا، وقول بعضهم إن تفرقوا، بهذا نقول، ولم نخرج من أقاويلهم، وإن قال واحد منهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله؛ فإنهم فوقنا في كل عام واجتهاد وورع وعدل وأمر استدرك (1) به علم أو استنبط به قياس وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من اتباعنا لأنفسنا. وروى الربيع عنه: قال المحدثات من الأمور ضربان؛ أحدهما: ما حدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا: فهذه البدعة الضلالة. وروى الربيع عنه قال: لا يكون لك أن تقيس إلا عن أصل أو قياس على أصل. والأصل: كتاب أو سنة، أو قول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو إجماع الناس. وقال في رواية يونس: لا يقال للأصل: لم ولا كيف (2) ؟ [إذا قال الصحابي قولا لا يهتدي إليه قياس فهل يعمل به وإن خالفه صحابي آخر؟] مسألة: فإذا قال الصحابي قولا لا يهتدي إليه قياس فإنه يجب   (1) نسخة: «استدل به» . (2) نسخة: «استدل به» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 العمل به، ويجعل في حكم التوقيف المرفوع، بحيث يعمل به وإن خالفه قول صحابي آخر، نص عليه في مواضع، وبه قالت الحنفية. وقالت الشافعية: لا يحمل على التوقيف، بل حكمه حكم مجتهد فيه (1) ، واختاره أبو الخطاب مع حكايته فيه وجهين، وابن عقيل، وحكى الأول عن شيخه فقط، ومثله بقول عمر في عيب الدابة وفي حمل العاقلة دية قاتل نفسه، وقول ابن عباس فيمن نذر ذبح ولده. وادعى ابن عقيل أن الظاهر عدم التوقيف معه (2) . قال شيخنا: وقد يقال: الأمر محتمل قال شيخنا: ولم يذكر القاضي في هذه المسألة نصا عن أحمد، ولا ذكر إلا مثلها (3) ولفظه قد تقدم (4) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [وإذا اختلف التابعون] قال القاضي: وإذا اختلف التابعون في الحادثة جاز لغيرهم الدخول معهم في الاجتهاد، إذا كانوا من أهل الاجتهاد. وذكر شيخنا رواية أخرى: أنهم لا يدخلون معهم [في الاجتهاد] ويسقط قولهم معهم (5) . [إذا عقد بعض الخلفاء الأربعة عقدا] مسألة: إذ عقد بعض الخلفاء الأربعة عقدا لم يجز لمن بعده من الخلفاء فسخه ولا نقضه، نحو ما عقد عمر من صلح بني تغلب، ومن خراج السواد والجزية وما جرى مجراه.   (1) المسودة ص 337 ف 2/11. (2) نسخة: «حكم مجتهداته» . (3) نسخة: «ولا ذكر إلا أمثلة» . (4) المسودة ص 338، 339 ف 2/11. (5) المسودة ص 339 ف 2/11. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وقال ابن عقيل: يجوز [القول بأن لمن بعده من الخلفاء أن يغيره ويعمل فيه باجتهاده، لأن المصالح تختلف باختلاف الأزمنة. هذا معنى كلامه بعد أن حكى الأول عن أصحابنا وقرره] . قال شيخنا: قلت: هذا مثل تغيير ما ضربه من الجزية والخراج، وفيه خلاف مشهور في المذهب (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا اختلف الصحابة على قولين وأحدهما فتيا والآخر حكما] قال القاضي: إذا اختلف الصحابة على قولين وكان أحدهما فتيا والآخر حكما فقد قيل: الحكم أولى؛ لأن الحكم لازم فهو أولى، وقيل: الفتيا أولى؛ لأن وقت الفتيا أوسع من وقت الحكم، ولأنه يمكن منازعته (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا اختلف الصحابة بعد موت النبي وكان أحدهما أقرب من رسول الله ... ] إذا اختلف الصحابة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان أحدهما أقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أميرا له على سرية أو قاضيا أو رسولا له لم يوجب ذلك رجحان قوله، ذكره ابن عقيل محل وفاق استدل به (3) . [هل يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد] مسألة: يجوز إثبات الإجماع بخبر الواحد، قال ابن عقيل: وهو قول أكثر الفقهاء، ذكرها في أواخر كتابه، قال أبو سفيان: وهو مذهب شيوخنا: قال: وقال بعض شيوخنا: لا يجوز. قال شيخنا: تكلم على ذلك ابن عقيل بكلام ذكره، فقال: هذا [على] ما يقع لي خلاف في عبارة وتحتها (4) اتفاق، فإن خبر الواحد لا   (1) المسودة ص 341 ف 2/11. (2) المسودة ص 342 ف 2/11. (3) المسودة ص 342 ف 2/11. (4) نسخة: «وبحثها اتفاق» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 يعطي علما، ولكن يفيد ظنا، ونحن إذا قلنا إنه يثبت به الإجماع فلسنا قاطعين بالإجماع ولا بحصوله بخبر الواحد، بل هو بمنزلة ثبوت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - والمنازع قال: «الإجماع دليل قطعي» وخبر الواحد دليل ظني، فلا يثبت قطعيا (1) . [نبينا لم يكن على دين قومه؛ لكن هل كان متعبدا بشيء من الشرائع قبله؟] مسألة: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على دين قومه نص عليه، بل كان متعبدًا بما صح عنده من شريعة إبراهيم ذكره ابن عقيل، قال: وبه قال أصحاب الشافعي. وقال قوم بالوقف، وأنه يجوز ذلك ويجوز أنه لم يكن متعبدا بشيء أصلا. ورأينا اختاره الجويني وابن الباقلاني وأبو الخطاب وبه قال الحنفية فيما حكاه السرخسي أنه لم يكن متعبدا بشيء من الشرائع وإنما صار بعد البعثة شرع من قبله شرع له. قال شيخنا: قلت: وهذا مأخذ جيد. قال الجويني: وذهب قوم إلى أنه كان على شريعة نوح، وفرقة إلى أنه كان على شريعة عيسى لأنها آخر الشرائع وقال ابن الباقلاني لم يكن على شرع أصلا وقطع بذلك وقالت المعتزلة كان متعبدا بشريعة العقل بفعل محاسنه واجتناب قبائحه. قال شيخنا: وقال القاضي وغيره: كان متعبدا بشرع من قبله مطلقا، وحكاه عن أصحاب الشافعي. قال القاضي والحلواني: «مسألة» ونبينا كان قبل أن يبعث متعبدا باتباع شريعة من قبله على كلتا الروايتين. [وذكر ابن عقيل في الجزء التاسع والعاشر أحكاما كثيرة من أحكام النسخ وشروطه وما ظن منها وليس كذلك، ولعله ذكر أحكام النسخ كلها وفروعا كثيرة] (2) ، وكان القاضي أولا قد فرع ذلك على الروايتين، فإن   (1) المسودة ص 344، 345 ف 2/11. (2) هذه العبارة ساقطة في بعض النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قلنا لم يكن متعبدا به بعد البعث فكذلك قبله، وإن قلنا كان متعبدا به بعده فقبله أولى، ثم ضرب على ذلك، وذكر أنه كان متعبدا به على الروايتين جميعا (1) . قال شيخنا: أما على قولنا باستصحاب الشرع الأول فيستقيم على إحدى الروايتين؛ لكن يقال: لم يثبت عنده. وقد أفرد القاضي فصلا في أنه يجوز أن يكون النبي الثاني متعبدا بما تعبد به النبي الأول والعقل لا يمنع من ذلك فقيل له: فما الفائدة في بعثه وإظهار الأعلام على يده إذا لم يأت بشريعة مبتدأة؟ فأجاب: بأنه إنما حسن إظهار الأعلام على يديه؛ لأنه لابد أن يأتي بما لا يعرف إلا من جهته، إما أن يكون ما يأتي به شريعة مبتدأة، أو يكون ذلك مما كان الأول متعبدا به إلا أنه قد درس وصار بحيث لا يعرف إلا من جهة النبي الثاني. قال شيخنا: قلت: وهذا فيه نظر، فإنه يجوز عندنا إظهار الكرامات للأولياء فكيف للنبي المتبع؟ وتكون فائدته التقوية كأنبياء بني إسرائيل. ثم قال: «مسألة» : إذا ثبت جواز ذلك فهل كان نبينا متعبدا بشريعة من كان قبله أم لا؟ فيه روايتان، إحداهما أن كل ما لم يثبت نسخه من شرائع من كان قبل نبينا فقد صار شريعة لنبينا ويلزمه أحكامه من حيث أنه قد صار شريعة له، لا من حيث كان شريعة لمن كان قبله، وإنما يثبت كونه شرعا لهم مقطوعا عليه، إما بكتاب أو بخبر من جهة الصادق أو بنقل متواتر، فأما الرجوع إليهم وإلى كتبهم فلا، وقد أومأ أحمد إلى هذا فقال في رواية صالح فيمن حلف ينحر ولده: عليه كبش يذبحه ويتصدق بلحمه، قال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [107/37] ، قال:   (1) في الأصل تكرار وليس من كلام الشيخ فتركته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 فقد أوجب أحمد الكبش في ذلك واحتج بالآية عليه، وهي شريعة إبراهيم. وقال أيضا في رواية أبي الحارث والأثرم وحنبل والفضل بن زياد وعبد الصمد، وقد سئل عن القرعة، فقال: في كتاب الله في موضعين قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [141/37] ، وقال: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [44/3] فقد احتج بالآيتين في إثبات القرعة، وهي في شريعة يونس ومريم. وقال أيضا في رواية أبي طالب وصالح قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [45/5] فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقتل مؤمن بكافر» دل على أن الآية ليست في النفس على ظاهرها، وكأنها أنزلت في بني إسرائيل بقوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} . قال: فقد بين أن الآية على ظاهرها شرع لنا حتى ورد البيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلم أنها خاصة فيهم. وكذلك نقل أبو الحارث عنه: «لا يقتل مؤمن بكافر» قيل له: أليس قد قال الله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} قال: ليس هذا موضعه، علي بن أبي طالب يحكي ما في الصحيفة: «لا يقتل مؤمن بكافر» وعن عثمان ومعاوية: «لم يقتلوا المؤمن بالكافر» (1) . قال: وهذا يدل على أن الآية على ظاهرها في المسلمين ومن قبلهم ولكن عارضها بحديث الصحيفة ولو لم يكن كذلك لما عارضها ولقال: ذلك خاص لمن قبلنا وبهذه الرواية قال أبو الحسن التميمي في جملة مسائل خرجها في الأصول. وفيه رواية أخرى: أنه لم يكن متعبدا بشيء من الشرائع إلا ما دل الدليل على ثبوته في شرعه؛ فيكون شرعا له مبتدأ أومأ إليه في رواية أبي طالب في موضع آخر، فقال: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} كتبت على   (1) نسخة: «مؤمنا بكافر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 اليهود، قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} أي في التوراة ولنا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [178/2] . قال شيخنا: قلت: فقد ذكر القاضي أنه إنما تلزمنا أحكامه في حيث صارت شريعة لنبينا لا من حيث كانت شريعة لمن كان قبله، فيكون اتباعه لأمر الله لنا على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وهو الذي حكاه عن الحنفية، ولهذا قالوا: لم يكن قبل البعث متعبدا به، وعلى ما ذكره أبو محمد البغدادي في جدله وذكره القاضي في أثناء المسألة كما ذكره أبو محمد وهو أن الحكم إذا ثبت في الشرع لم يجز تركه حتى يرد دليل نسخه، وليس في نفس بعثة النبي ما يوجب نسخ الأحكام التي قبله، فإن النسخ إنما يكون عند [التنافي] ولأنه شرع مطلق فوجب أن يدخل فيه كل مكلف إذا لم ينسخ كشرع نبينا، ولأن نبينا كان قبل بعثته متعبدا فدل على أنه كان مأمورا به بشرع من قبله. قال شيخنا: قلتِ: هذه الطريقة فيها نظر، وقد تأول القاضي قوله: وكل نبي مبعوث إلى قومه المتبوع وغيره تبع له. والذي ذكره أبو محمد أنه ثابت في حقنا استصحاب الحال، لأنه شرع شرعه الله، ولم ينسخه، وعلى هذا يكون ثبوته في حقنا إما لشمول الحكم لنا لفظا، وإما بالعقل بناء على أن الأصل تساوي الأحكام وهو الاعتبار الذي ذكره الله في قصصهم. فصار لها ثلاثة مآخذ: إما الكتاب والسنة، والإجماع، وإما الكتاب الأول وإما العقل والاعتبار فيكون من باب الخاص لفظا العام حكما. والمسألة مبنية على أنه لو لم يبعث إلينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: هل كان يجوز أو يجب التعبد بتلك الشرائع؟ وهي تشبه حاله قبل البعثة. قال شيخنا: قول القاضي: «من دليل مقطوع عليه» قد أعاده في المسألة وقال: إنه متى لم يقطع على ذلك ونعلمه من جهة يقع العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 بها لم يجب اتباعه. والصحيح أنه يثبت (1) بأخبار الآحاد عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وأما الرجوع إلى ملة أهل الكتاب ففيه الكلام (2) .   (1) نسخة: «ثبت» . (2) المسودة ص 184-186 ف 2/12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الاستحسان [الاستحسان وتخصيص العلة، وموضع الاستحسان هل يقاس عليه، وما يقال إنه مخالف للقياس وليس كذلك] مسألة: «الاستحسان» كان أبو حنيفة وأصحابه يقولون به، وأنكره الشافعي عليهم، وبسط أبو الخطاب القول فيه عقيب تخصيص العلة، قال القاضي عبد الوهاب المالكي: ليس بمنصوص عن مالك، إلا أن كتب أصحابنا مملوءة من ذكره والقول به، ونص عليه أبو القاسم وأشهب وغيرهما، وفسره الحلواني بأوجه. ويحتمل عندي أن يكون الاستحسان ترك القياس الجلي وغيره الدليل نص من خبر واحد أو غيره، أو ترك القياس لقول الصحابي فيما لا يجري فيه القياس كما تقدم. وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب في كتاب «الهداية» في مسألة العينة حيث قال: لا يجوز استحسانا فلينظر إن كان ذكر ذلك أحد. ثم إني رأيت الفخر إسماعيل في كتابه «الجدل» قد ذكر هذا الذي ذكرته بعينه في تفسير الاستحسان أعني ترك القياس للحديث المخالف للقياس، اللائق بتفسير الاستحسان ما ذكرته ثانيا من ترك القياس لمخالفة الصحابي له، أعني فيما لا يجري فيه القياس؛ فإن الحنفية وافقونا في أن الصحابي إذا قال قولا لا يهتدي إلى القياس حمل على أنه قاله توقيفا والشافعية خالفونا في ذلك، وكذا الحنفية وافقونا في الاستحسان، والشافعية خالفونا وهذا وجه حسن إن شاء الله. [قال شيخنا] : وقد أطلق أحمد القول بالاستحسان في مواضع، قال في رواية الميموني: استحسن أن يتيمم لكل صلاة، والقياس أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 بمنزلة الماء يصلي به حتى يحدث أو يجد الماء. وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضا فزرعها: الزرع لرب الأرض، وعليه النفقة، وهذا شيء لا يوافق القياس، لكن أستحسن أن يدفع إليه النفقة. وقال في رواية المروذي: يجوز شراء أرض السواد ولا يجوز بيعها فقيل له: كيف يشتري ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما تقول، ولكن هو استحسان. وقال في رواية صالح في المضارب إذا خالف فاشترى غير ما أمره به صاحب المال: فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب، وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت. وبه قال أصحاب أبي حنيفة، وذكر عن إياس بن معاوية، وكتب مالك مشحونة بالاستحسان، وكذلك قال الشافعي: أستحسن في المتعة قدر ثلاثين درهما. وقد أنكر الشافعي وأصحابه القول بالاستحسان، وقال أحمد في رواية أبي طالب: أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون ما يزعمون أنه الحق بالاستحسان، وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه. قال القاضي: هذا يدل على إبطال القول بالاستحسان. قال أبو الخطاب: وعندي أنه أنكر عليهم القول بالاستحسان من غير دليل ولهذا قال: «يتركون القياس الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان» فلو كان الاستحسان عن دليل ذهبوا إليه لم ينكره؛ لأنه حق، وقال: «أنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه» معناه: أني أترك القياس بالخبر، وهذا هو الاستحسان بالدليل. وفصله فصولا؛ أحدها: أن هذه التسمية صحيحة. الثاني في حده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 قال: والذي يقتضيه كلام أصحابنا أن يكون «حد الاستحسان» العدول عن موجب القياس إلى دليل هو أقوى منه؛ لأنه لم يرد لفظه إلا أنه ترك القياس للاستحسان، فأما في ترك دليل آخر فلم يرد. قال: وحده شيخنا بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه. قال: وليس بشيء؛ لأن الأحكام لا يقال بعضها أولى من بعض ولا بعضها أقوى من بعض وإنما القوة للأدلة. وحده بعضهم بأنه ترك القياس إلى قياس أقوى منه، قال: وهذا باطل فإنهم إذا تركوا القياس لنص أو تنبيه كان استحسانا. وحده بعضهم بأنه ترك طريقة الحكم على طريقة أخرى أولى منها لولاها لوجب البنيان على الأولى. وحده الكرخي بأنه العدول عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم في نظائرها لوجه هو أقوى من الأول. قال: وهذا معنى الذي قبله، ويلزم عليه أن يكون العدول عن العموم إلى التخصيص استحسانا، والعدول عن العموم إلى الخصوص استحسانا (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل قال أبو الخطاب: ومعنى الاستحسان أن بعض الأمارات تكون أقوى من القياس فيعدل إليها عن غير أن يفسد القياس، وهذا راجع إلى تخصيص العلة. قال: وشيخنا يمنع من تخصيص العلة وينصر القول بالاستحسان، ولا أعرف لقوله وجها. وقد أورد القاضي على نفسه هذا في مسألة تخصيص العلة، وفرق بين تخصيصها وبين ترك قياس الأصول للخبر، قال: ولأنهم قد يعدلون في الاستحسان عن قياس وعن غير قياس، فامتنع أن يكون معناه تخصيصا بدليل (2) .   (1) المسودة ص 451-453 ف 2/12. (2) المسودة ص 453 ف 2/12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما. فصل في الاستحسان، وتخصيص العلة، وموضع الاستحسان هل يقاس عليه أم لا؟ وما يرد من الأحكام الثابتة بالنص والإجماع ويقال: إنها مخالفة للقياس. فإن هذه قواعد كثر اضطراب الناس فيها، والحاجة ماسة إلى تحقيقها في كثير من مسائل الشريعة أصولها وفروعها. أما الاستحسان فالمشهور من معانيه أنه مخالفة القياس لدليل قد يراد به غير ذلك. والعلماء في لفظه ومعناه المذكور على ثلاثة أقوال: منهم من ينكر هذا اللفظ مطلقا، وهم نفاة القياس كداود وأصحابه وكثير من أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، فليس عندهم في أدلة الشرع لا قياس ولا استحسان. ومنهم: من يقر به بهذا المعنى ويجوز مخالفة القياس للاستحسان ويعمل بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان، وهذا هو الصواب عن أبي حنفية وأصحابه. ومنهم: من ذم الاستحسان تارة وقال به تارة كالشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم. وفي كتب مالك وأصحابه ذكر لفظ الاستحسان في مواضع. والشافعي قال: من استحسن فقد شرع، وتكلم في إبطال الاستحسان وبسط القول في ذلك، وكان من أعظم الأئمة إنكارا له، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وهو الذي عليه أصحابه في أصول الفقه، ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان، كما قال: أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين درهما، ولهذا يحكي للشافعي من الاستحسان قولهم: قديم، وجديد. وكذلك أحمد بن حنبل نقل عنه أبو طالب أنه قال: أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذين يزعمون أنه الحق بالاستحسان، قال: وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه. قال القاضي أبو يعلى: ظاهر هذا يقتضي إبطال القول بالاستحسان، وكيف لا يصح قياس المنصوص عليه على المنصوص عليه. قلت: مراد أحمد أني أستعمل النصوص كلها ولا أقيس على أحد النصين قياسا يعارض النص الآخر كما يفعل من ذكره حيث قاسوا على أحد النصين ثم يثبتون الاستحسان إما بالنص أو غيره، والقياس عندهم من جنس العلة الصحيحة، فينقضون العلة التي يدعون صحتها بمجمل أو قياس معارض. وهذا من أحمد يبين أنه يوجب طرد العلة الصحيحة، وأن انتقاضها بمساويها من مخالف يوجب فسادها؛ ولهذا قال: لا أقيس على أحد النصين قياسا ينقضه النص الآخر، فإن ذلك يدل على فساد القياس. وهو يستعمل مثل هذا في مواضع مثل حديث أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إذا أراد أحدكم أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته شيئا» مع حديث عائشة: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يبعث به وهو مقيم لا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم» . والناس في هذا على ثلاثة أقوال: منهم: من سوى بين الهدي والأضحية في المنع ويقول: إذا أرسل المحرم هديا لم يحل حتى ينحر كما يروى عن ابن عباس وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 ومنهم: من سوى بينهما في الإذن ويقول: بل المضحي لا يمنع عن شيء كما لا يمنع المهدي، فيقيسون على أحد النصين ما يعارض الآخر. وفقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم عملوا بالنصين ولم يقيسوا أحدهما على الآخر، كما أن الله لما أحل البيع وحرم الربا لم يقس المسلمون أحدهما على الآخر، وإنما هذا قياس المشركين، وكذلك لما أحل الله الذكي وحرم الميتة لم يقيسوا أحدهما على الآخر، بل هذا قياس المشركين، وكذلك لما جاء الكتاب والسنة بالقرعة وجاء بتحريم القمار لم يقيسوا أحدهما على الآخر، أجازوا القرعة وحرموا الميسر والاستقسام بالأزلام ولم يقل بها. وكان أحمد أكثر الفقهاء عملا بالقرعة، لما كان عنده فيها من النصوص والآثار. وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاء الحديث لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس إذا صلى الإمام قاعدا أن يصلوا قعودا أجمعين، ثم لما افتتحوا الصلاة قياما أتمها بهم قياما عملا بالحديثين ولم يقس على أحدهما قياسا يناقض الآخر بجعله منسوخا كما فعل طائفة من الفقهاء كالشافعي والحميدي وغيره. واستدل هو وغيره بأن الصحابة بعده لما صلوا جلوسا أمروا من خلفهم بالجلوس وقال: شهدوا صلاته في آخر عمره مثل أسيد بن الحضير وهو من أفضل السابقين الأولين من الأنصار، وقد فعل ذلك في عهد أبي بكر فإنه قتل في قتال المرتدين من بني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب. وقد قال أحمد بالاستحسان في مواضع، كقوله في رواية صالح في المضارب إذا خالف فاشترى غير ما أمر به صاحب المال فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة مثله، إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 قال: وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال ثم استحسنت. وقال في رواية الميموني: أستحسن أن يتيمم لكل صلاة ولكن القياس أنه بمنزلة الماء يصلي به حتى يحدث أو يجد الماء. وقال في رواية المروذي: يجوز شراء أرض السواد ولا يجوز بيعها. فقيل له: كيف يشتري ممن لا يملك؟ فقال: القياس كما تقول ولكن هو استحسان واضح؛ فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخصوا في شراء المصاحف وكرهوا بيعها، وهذا شبه ذاك. وقال في رواية بكر بن محمد فيمن غصب أرضا وزرعها: الزرع لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا شيئا يوافق القياس. أستحسن أن يدفع إليه نفقته. اهـ. وقد جعل القاضي أبو يعلى المسألة على روايتين، ونصر هو وأتباعه كأبي الخطاب وابن عقيل القول بالاستحسان كقول أصحاب أبي حنيفة. ونصر هؤلاء الاستحسان الذي يقولون به بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أقل منه. وقيل: هو أولى القياسين. قالوا -وهذا لفظ القاضي- وأما الحجة التي يرجع إليها في الاستحسان فهي الكتاب تارة، والسنة أخرى، والإجماع ثالثة. وبالاستدلال يترجح شبه بعض الأصول على بعض، كما قلنا بالاستحسان لأجل الكتاب في شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السفر إذا لم نجد مسلما. قال: ومما قلنا فيه بالاستحسان للسنة فيمن غصب أرضا وزرعها فالزرع لذي الأرض وعلى صاحب الأرض النفقة لصاحب الزرع، لحديث رافع بن خديج عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من زرع في أرض قوم فالزرع لرب الأرض وله نفقته» وقال: كان القياس أن يكون الزرع لزارعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 قال: ومما قلنا فيه بذلك للإجماع: جواز سلم الدراهم والدنانير في الموزونات، وكان القياس ألا يجوز ذلك لوجود العلة وهي الوزن إلا أنهم استحسنوا فيه للإجماع. قلت: من ذلك أن نفقة الصغير وأجرة مرضعته على أبيه أو أبي أمه بالنص والإجماع، والقياس عند من يجعل النفقة على كل وارث بفرض أو تعصيب، أو على كل ذي رحم محرم أو على عمودي النسب مطلقا -أي تكون على من لا يرث- وكذلك يقولون: جواز إجارة الظئر ثابتة بالنص والإجماع على خلاف القياس؛ بل قد يقولون بجواز الإجارة بل وجواز القرض والقراض وغير ذلك على خلاف القياس للإجماع؛ لكن إذا أبدوا معنى يقتضي التخصيص مثل الحاجة فمثل هذا يقول به جميع الأئمة؛ بل جميع علماء الملة، مثل إباحة الميتة للمضطر للنص وصلاة المريض قاعدا للحاجة ونحو ذلك، وإنما يتنازعون إذا لم يظهروا في إحدى الصورتين معنى يوجب الفرق. ولهذا فسر غير واحد الاستحسان بتخصيص العلة، كما ذكر ذلك أبو الحسن البصري والرازي وغيرهما، وكذلك هو؛ فإن عامة الاستحسان الذي يقال فيه إنه يخالف القياس حقيقته تخصيص العلة. والمشهور عن أصحاب الشافعي منع تخصيص العلة، وعن أصحاب أبي حنيفة القول بتخصيصها كالمشهور عنهما في منع الاستحسان وإجازته. ولكن في مذهب الشافعي خلاف في جواز تخصيص العلة، كما في مذهب مالك وأحمد. ومن الناس من يحكي ذلك روايتين عن أحمد. والقاضي أبو يعلى وأكثر أتباعه كابن عقيل ينفون تخصيص العلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 مع قولهم بالاستحسان وكذلك أصحاب (1) . وأما أبو الخطاب فيختار تخصيص العلة موافقة لأصحاب أبي حنيفة؛ فإن هذا هو الاستحسان كما تقدم. وهو لا يجوز أن يخصصها بمجرد دليل يدل على التخصيص وإن لم يبين اختصاص صورة النقض بفوات شرط أو وجود مانع. وهذا حقيقة ما ذكره القاضي، وهو لا ينفي الاستحسان كما ذكره من الأمثلة؛ لكن القاضي وغيره ممن يقول بالاستحسان ومنع تخصيص العلة فرقوا بينهما فقالوا: واللفظ للقاضي لا يجوز تخصيص العلة الشرعية، وتخصيصها نقضها. قال: ولذلك قال أحمد في رواية الحسن بن حيان: القياس كأن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فهذا خطأ. قال: وهذا الكلام يمنع من تخصيصها قال: وقد ذكر أبو إسحاق -يعني ابن شاقلا- في شرح الخرقي فقال: أصحابنا على وجهين؛ منهم: من يرى تخصيص العلة، ومنهم من لا يرى ذاك. وقال: وقد ذكرها أبو الحسن الجزري في جزء فيه مسائل الأصول: لا يجوز تخصيصها. قال: وقول أحمد: القياس كان يقتضي ألا يجوز شراء أرض السواد؛ لأنه لا يجوز بيعها. ليس موجبا لتخصيص العلة بأنها من حكم خاص. وما ذكره أحمد إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول من الحكم العام. وقد يترك قياس الأصول للخبر، ولذلك أجاب من احتج على جواز تخصيصها بالاستحسان، وقد قال: كيف يشتري ممن لا يملك؟ فقال أحمد: القياس كما تقول وإنما هو استحسان، واحتج بقول الصحابة في المصاحف وقال في الجواب بمثل تخصيص العلة كالمنع من جريها في حكم خاص. وما ذكره أحمد إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول، ولأنهم يعدلون في الاستحسان   (1) بياض في الأصل محل كلمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 عن قياس وعن غير قياس، فامتنع أن يكون معناه تخصيص بدليل. وقد تابعه أبو الخطاب. وهذا الذي ذكره القاضي فيه قد ذكره كثير من العلماء فيما إذا عارض النص قياس الأصول فقالوا: يقدم النص. واختلفوا فيما إذا عارض خبر الواحد قياس الأصول كحديث المصراة ونحوه، وإنما الأول مثل حمل العاقلة؛ فإنهم يقولون: هو خلاف قياس الأصول، وهو ثابت بالنص والإجماع. وهذا يذكره بعض الناس قولا ثالثا في تخصيص العلة، ويذكرون قولا رابعا وهو أنه يجوز المنصوصة دون المستنبطة. وأكثر المانعين من التخصيص من أصحاب الشافعي وأحمد كابن حامد وأبي الطيب والقاضي أبي يعلى وغيرهم يقولون: إن اختصت المنصوصة يقينا أنها بعض العلة وإلا فلا يجوز تخصيصها بحال. وهذا النزاع إنما هو في علة قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة. وأما إذا اكتفى فيها بمجرد الطرد والسلامة من المفسدات فهذه تبطل بالتخصيص باتفاقهم. وأما الطرد المحض الذي يعلم خلوه عن المعاني المعتبرة فذاك لا يحتج به عند أحد من العلماء المعتبرين؛ وإنما النزاع في الطرد الشبهي كالمجوزات الشبهية التي يحتج بها كثير من الطوائف الأربعة، لا سيما قدماء أصحاب الشافعي فإنها كثيرة في حججهم أكثر من غيرهم. والتحقيق في هذا الباب: أن العلة تقال على «العلة التامة» وهي المستلزمة لمعلولها. فهذه متى انتقضت بطلت بالاتفاق وتقال على «العلة البعضية» وتسمى الديرة، وتسمى السبب، ودليل العلة، ونحو ذلك فهذه إذا انتقضت لفرق مؤثر يفرق فيه بين صورة النقض وغيرها من الصور لم تفسد. ثم إذا كانت صورة الفرع التي هي صورة النزاع في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 معنى صورة النقض ألحقت بها، وإن كانت في معنى صورة الأصل ألحقت بها. فمن قال: إن العلة لا يجوز تخصيصها مطلقا لفوات شرط أو وجود مانع فهذا مخطئ قطعا، وقوله مخالف لإجماع السلف كلهم الأئمة الأربعة وغيرهم؛ فإنهم كلهم يقولون بتخصيص العلة لمعنى يوجب الفرق، وكلامهم في ذلك أكثر من أن يحصر. وهذا معنى قول من قال: تخصيصها مذهب الأئمة الأربعة. والقول بالاستحسان المخالف للقياس لا يكون إلا مع القول بتخصيص العلة. وما ذكروه من اعتراض النص على قياس الأصول فهو أحد أنواع تخصيص العلة، وهذا تسليم منهم لكون العلة تقتضي التخصيص في الجملة. وأما من جوز تخصيص العلة بمجرد دليل لا يبين الفرق بين صورة التخصيص وغيرها فهذا مورد النزاع في الاستحسان المخالف للقياس وغيره. ثم هذه العلة إن كانت مستنبطة وخصت بنص ولم يتبين الفرق المعنوي بين صورة التخصيص وغيرها فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان ينكره كثيرا الشافعي وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم. وكلام أحمد فيما تقدم أراد به هذا؛ فإن العلة السببية لم تعلم صحتها إلا بالرأي، فإذا عارضها النص كان مبطلا لها. والنص إذا عارض العلة دل على فسادها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دل على فساده بالإجماع. وأما إذا كانت العلة منصوصة وقد جاء نص بتخصيص بعض صور العلة فهذا مما لا ينكره أحمد بل ولا الشافعي ولا غيرهما، كما إذا جاء نص في صورة وجاء نص يخالفه في صورة أخرى لكن بينهما شبه لم يقم دليل على أنه مناط الحكم فهؤلاء يقرون النصوص ولا يقيسون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 منصوصًا على منصوص خالف حكمه، بل هذا من جنس الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [275/2] وهذا هو الذي قال أحمد فيه: أنا أذهب إلى كل حديث كما جاء ولا أقيس عليه. أي لا أقيس عليه صورة الحديث الآخر فأجعل الأحاديث متناقضة وأدفع بعضها ببعض بل أستعملها كلها. والذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواء لا فرق بينهما فيكون أحد النصين ناسخا للآخر. ومثل هذا كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومن ينازعهم ممن يقيس منصوصًا على منصوص ويجعل أحد النصين منسوخا لمخالفته قياس النص الآخر فيمضي هذا القياس ويبقى الأمر دائرا: هل دل الشرع على التسوية بين الصورتين حتى يجعل حكمهما سواء ويجعل الحكم الوارد في إحداهما منسوخا بالحكم المضاد له الوارد في الأخرى كما يقوله من يجعل القرعة منسوخة بآية الميسر، وأمر المأمومين بأن يتبعوا الإمام فإذا كبر كبروا وإذا ركع ركعوا وإذا صلى جالسا صلوا جلوسا أجمعين (1) قياسهم على الصلاة التي صلوا بعضها خلف إمام قائم وباقيها خلف إمام قاعد، ويجعل حديث الأضحية والهدي أحدهما منسوخا بالآخر ويجعلون قطع جاحد العارية منسوخًا بقوله: «ليس على المختلس ولا المنتهب ولا الخائن قطع» ويجعلون العقوبة المالية منسوخة بالنهي عن إضاعة المال، ويجعلون تضعيف الغرم على من درئ عنه القطع منسوخا بقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [40/42] ويجعل بعضهم ما شرطه النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين المشركين من الهدنة منسوخا بقوله: «من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل»   (1) كلمة في الأصل غير واضحة ولعلها: فيطردون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وكثيرا مما يدعونه من الناسخ لا يعلمون أنه بعد المنسوخ. فهذا ونحوه من دفع النصوص الصحيحة الصريحة بلفظ مجمل أو قياس هو مما ينكره أحمد وغيره. وكان أحمد يقول: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس. وقال: ينبغي للمتكلم في الفقه أن يجتنب هذين الأصلين: المجمل والقياس، ومراده أنه لا يعارض بهما ما يثبت بنص خاص، ولا يعمل بمجردهما قبل النظر في النصوص والأدلة الخاصة المفسرة. وكلامه وكلام غيره من الأئمة كالشافعي وغيره من المجمل لا يريدون بالمجمل ما لا يفهم معناه كما يظنه بعض الناس، ولا ما لا يستقل بالدلالة؛ فإن هذا لا يجوز الاحتجاج به. قال: وأما إذا جاء نصان بحكمين مختلفين في صورتين وثم صور مسكوت عنها فهل يقال القياس هو مقتضى أحد النصين فما سكت عنه يلحق به وإن لم يعلم المعنى الفارق بينه وبين الآخر؟ فهذا هو الاستحسان الذي تنوزع فيه. فكثير من الفقهاء يقول به كأصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب أحمد وغيره، وهذا هو الذي ذكره القاضي بقوله: اعتراض النص على قياس الأصول، وهو في الحقيقة قول بتخصيص العلة، كما تقدم. ومن لم يجوز تخصيصها في صورة التخصيص وغيره إلا بفارق يقول: لا بد أن يعلم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المشكوك بأحد النصين بأولى من إلحاقه بالآخر، وإذا علم المعنى من أحد النصين ولم يعلم من الآخر وجاز أن يكون المشكك فيه من معنى هذا ومعنى هذا لم يلحق بواحد منهما إلا بدليل. وإذا علم المعنى من أحد النصين ووجوده مشكوك فيه ولم يعلم المعنى من الآخر فهذا أقوى من الذي قبله؛ فإنه هنا قد علم بعض القياس الصحيح وشموله لصورة المسكوت. وأما وجود الفارق فيه فمشكوك فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وهذا نظير أخذ أحمد بالنصوص الواردة في سجود السهو، فما كان منها قبل السلام أخذ به، وما كان بعد السلام أخذ به، وما لم يجيء فيه نص ألحقه بما قبل السلام لأنه القياس عنده. وتحقيق هذا كما مر: أنه إما أن يعلم استواء الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع. وإما أن يعلم افتراقهما وإما أن لا يعلم واحد منهما. فالأول متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض علم أن العلة باطلة. وهذا مثل دعوى من يدعي أن الواجب النفقة بين الإيلاد أو بين الرحم المحرمة، أو مطلق الإرث بفرض أو تعصيب؛ ويقول: إذا اجتمع الجد والجدة كانت النفقة عليهما؛ فإنه لما ثبت بالنص والإجماع أنه إذا اجتمع الأبوان كانت النفقة على الأب علم أن العصبة في ذلك يقدم على غيره إذا كان وارثا بفرض وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، وعلم أن قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [233/2] هو الوارث المطلق، وهو العاصب إن كان موجودا؛ لأن عمر جبر بني عم منغوس على نفقته. وهذه الآية صريحة في إلحاق نفقة الصغير على الوارث العاصب، وقال بها جمهور السلف، وليس فيما خالفها حجة أصلا؛ ولكن ادعى بعضهم أنها منسوخة، ونقل ذلك عن مالك. وبعضهم قال: عليه أن لا يضار فتركها بدون نسخ أو تأويل هو من نوع تحريف الكلم عن مواضعه لغير معارض لها أصلا مما يعلم بطلانه كل من تدبر ذلك. وإذا كانت الأم أقرب الناس إليه لا نفقة عليها مع الأب وهي تحوز الثلث معه فأن لا يجب على الجدة مع الجد وهي تحوز السدس أولى وأحرى. والقائلون بذلك يقولون: القياس يقتضي وجوب ثلثها على الأم؛ لكن ترك ذلك للنص. فيقال: أي قياس معكم إنما يكون قياسا لو كان معهم نص يتناول هذه الصورة بلفظه أو معناه، وليس معهم ذلك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ولو كان ذلك لكان مجيء هذا النص بهذا يوجب إلحاق نظائره به فيقاس على الأب مع الأم. وكذلك إسلام النقدين في الموزونات يقدح في كون العلة الوزن، ولم يثبت ذلك بنص بين؛ بل بعلة مستنبطة قد عارضها ما هو أقوى منها؛ فانتقاض العلة يوجب بطلانها إذا لم تختص صورة النقض بفرق معنوي قطعا؛ فإن الشارع حكيم عادل لا يفرق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان متماثلتين ثم يخالف بين حكميهما؛ بل اختلاف الحكمين دليل على اختلاف الصورتين في نفس الأمر، فإن علم أنه فرق بينهما كان ذلك دليلا على عدم استوائهما في نفس الأمر، وإن لم يعلم مجيء الفرق لم يجز أن يجمع ويسوى إلا بدليل يقتضي ذلك. وهذا معنى قول إياس بن معاوية من القضاة: قيسوا للقضاة ما صلح الناس فإذا فسدوا فاستحسنوا. فأقر مخالفة القياس إذا تغير الأمر بحصول معاند يمنع القياس. وأحمد قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيص العلة للفارق المؤثر، وهذا حق، وأنكر الاستحسان إذا خصت العلة من غير فارق مؤثر؛ ولهذا قال: يدعون القياس الذي هو حق عندهم للاستحسان. وهذا أيضا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وغيره، وهو منكر كما أنكروه؛ فإن هذا الاستحسان وما عدل عنه من القياس المخالف له يقتضي فرقا وجمعا بين الصورتين بلا دليل شرعي؛ بل بالرأي الذي لا يستند إلى بيان الله ورسوله وأمر الله ورسوله، فهو عندهم وضع شرع ابتداء وقد قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [21/42] وذلك أنه إذا كان القياس لم ينص الشارع على علته ولا دل لفظ الشارع على عموم المعنى فيه ولكن رأي الرائي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 ذلك لمناسبة أو لمشابهة ظنها مناط الحكم ثم خص من ذلك المعنى صورا بنص يعارضه كان معذورا في عمله بالنص؛ لكن مجيء النص بخلاف تلك العلة في بعض الصور دليل على أنها ليست علة تامة قطعا؛ فإن العلة التامة لا تقبل الانتقاض، فإن لم يعلم أن مورد النص مختص بمعنى يوجب الفرق لم يطمئن عليه إلى أن ذلك المعنى هو العلة؛ بل يجوز أن تكون العلة معنى آخر، أو أن يكون ذلك المعنى بعض العلة، وحينئذ فلا يسوى الحكم في جميع موارد ما ظنه علة. وإن كان مورد الاستحسان هو أيضا معنى ظنه مناسبا أو مشابها فإنه محتاج حينئذ إلى أن يثبت ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف، فلا يكون قد ترك القياس إلا لقياس أقوى منه لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق بينها وبين غيرها، فلا يكون لنا حينئذ استحسانا يخرج عن نص أو قياس. وهذا هو الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما من الاستحسان. وما قال به فإنما [هو] : عدول عن قياس لاختصاص تلك الصورة بما يوجب الفرق. وحينئذ فلا يكون الاستحسان الصحيح عدولا عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال. وهذا هو الصواب كما بسطناه في مصنف مفرد وبينا فيه أنه ليس من الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلا. [وهل يقاس على صور الاستحسان وتقاس على غيرها] وعلى هذا فصور الاستحسان العدول بها عن سنن القياس يقاس عليها عند أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إذا عرف المعنى الذي لأجله ثبت الحكم فيها، وذكروا عن أصحاب أبي حنيفة أنه لا يقاس عليها، وهو من جنس تخصيص العلة؛ فإن من جوز التخصيص والاستحسان من غير فارق معنوي قال: العدول به عن سنن القياس لا يجب أن يكون لفارق معنوي فلا يقاس عليه؛ لأن من شرط القياس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وجود العلة ومعرفتها. ومن قاس قال: بل لا يكون إلا لفارق فإذا عرفنا قسنا. قال القاضي وغيره: مسألة المخصوص من جملة القياس يقاس عليه. أما القياس عليه فإن أحمد قال في رواية ابن منصور: إذا نذر أن يذبح نفسه يفدي نفسه بذبح كبش. فقاس من نذر ذبح نفسه على من نذر ذبح ولده وإن كان ذلك مخصوصًا من جملة القياس، وإنما ثبت بقول ابن عباس. وأما قياسه على غيره فإن أحمد قال في رواية المروذي: يجوز شراء أرض السواد ولا يجوز بيعها. فقيل له: كيف يشتري ممن لا يملك؟ قال: القياس كما تقول، ولكن هذا استحسان، واحتج بأن الصحابة رخصوا في شراء المصاحف دون بيعها (1) . فقد قاس مخصوصا من جملة القياس على مخصوص من جملة القياس وبهذا قال الشافعي (2) . وقال أصحاب أبي حنيفة (3) : لا يقاس على غيره، ولا يقاس غيره عليه إلا أن تكون علته منصوصة (4) أو مجمعًا على جواز القياس عليه؛ فالمنصوص كقوله: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (5) والمجمع عليه كالتحالف في الإجارة قياسا على التحالف في البيع أن قضيتهما سواء. ومثل قياس الجنازة على الصلاة في   (1) في العدة زيادة: «وهذا يشبه بيعها» . (2) في العدة: «أصحاب الشافعي» . (3) في العدة: المخصوص من جملة القياس لا يقاس على غيره. (4) لفظ العدة: إلا أن يكون معللا أو مجمعا على جواز القياس عليه. (5) لفظ العدة: أما المعلل كقوله في الهر إلخ. في العدة: فقاسوا عليه كل ما وجدت فيه هذه العلة من ساكني البيوت مثل الفأر والحية ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 الانتقاض بالقهقهة وإسقاط الكفارة في الاستقاء. الأكل والوضوء بنبيذ التمر لا يقاس عليه غيره من الأنبذة وجواز البناء على صلاته إذا أحدث لا يقاس عليه من أمنى بالاحتلام ونحوه (1) . واحتج أصحاب الشافعي بحجج وهذا لفظ القاضي أبي يعلى، قال: وأيضا فإنا إذا قسنا على المخصوص أو قسنا المخصوص على غيره. وحملنا النبيذ على غيره من المائعات والقهقهة على الكلام ويدعى أنه استحسن تركه لما هو أولى منه. قال: وهذا غير صحيح لوجهين؛ أحدهما: أنه يلزمه أن يبين الأولى وإلا حكم القياس متوجه عليه. وهذا كما لو قال: القرآن يدل على كذا ولكن تركته للسنة فتكون حجة القرآن لازمة له ما لم يبين السنة التي هي أقوى من القرآن ولا يكفي في ذلك مجرد الدعوى. والثاني: أن يدعي أن الاستحسان أقوى من القياس فلهذا تركه، والقياس إذا عارضه دليل أقوى منه كان القياس باطلاً ولم يكن له حكم، كما لو عارضه نص كتاب أو سنة أو إجماع ولما حكم بصحة القياس ههنا امتنع أن يكون ما عارضه أقوى منه ومانعًا. قلت: مضمون هذا إبطال أن يكون هذا مخصوصًا من جملة القياس وقياسه على سائر الصور، وهذا إبطال للاستحسان وهذا يقتضي   (1) عبارة العدة: مثل التحالف في الإجارة عند الاختلاف على إثباته في التبايعات، لاتفاق الناس الذين أوجبوا التحالف في البيع أن حكم الإجارة حكم البيع، وما عدا ذلك لا يجوز القياس عليه ولا قياسه على غيره مثل إيجاب الوضوء من القهقهة في الصلاة فلا تقاس عليه القهقهة في صلاة الجنازة وفي سجود التلاوة؛ لأن الأثر ورد بإيجاب الوضوء من القهقهة في صلاة لها ركوع وسجود ومثل إسقاط الكفارة في استدعاء القيء فلا يقاس عليه الأكل ومثل جواز الوضوء بنبيذ التمر فلا يقاس عليه غيره من الأنبذة للأثر الوارد ومثل جواز البناء على الصلاة إذا سبقه الحدث فيها لا يقاس عليه من احتلم في صلاته وفكر وأمنى ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 أن الاستحسان إذا خالف القياس لزم بطلان الاستحسان إن كان القياس صحيحا أو بطلان القياس إذا كان المعارض له صحيحا. وهذا يتوجه فيمن يقول بالاستحسان وجعل معارضة الاستحسان للعلة كمعارضته لحكمها، وهذا قول نفاة الاستحسان مطلقًا. والتحقيق في ذلك: أنه إذا تعارض القياس والاستحسان فإن لم يكن بينهما فرق وإلا لزم بطلان أحدهما وهو مسألة تخصيص العلة بعينها؛ فإن لم يكن بين المخصوصة وغيرها فرق لزم التسوية؛ وحينئذ فإما أن تكون العلة باطلة، وإما أن يكون تخصيص تلك الصورة باطلاً. وهذا هو الصواب في هذا كله، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه؛ فإنهم لا يأتون بفرق مؤثر بينهما، كما لم يأتوا بفرق مؤثر بين نبيذ التمر وغيره من المائعات، ولا بين القهقهة في الصلاة التي فيها ركوع وسجود وبين صلاة الجنازة وغيرها مما يشترطون فيه الطهارة. وذكروا أدلة أخرى جيدة كقولهم -واللفظ للقاضي-: وأيضا فإن ما ورد به الأثر قد صار أصلا فوجب القياس عليه كسائر الأصول، وليس رد هذا الأصل لمخالفة تلك الأصول له بأولى من رد تلك الأصول لمخالفة هذا الأصل، فوجب إعمال كل واحد منهما في مقتضاه وأجراؤه على عمومه. وأيضًا: فإن القياس يجري مجرى خبر الواحد بدليل أن كل واحد منهما يثبت بغالب الظن، ثم ثبت أنه يصح أن يرد مخالفا لقياس الأصول، كذلك القياس مثله. اهـ. قلت: ومن هذا الباب جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة لو لم يرد به نص في أسفار أخر وأن قصره الصلاة بعرفة بأهل مكة وغيرهم فليس مخالفا لعادته فإنه ما زال يقصر في السفر؛ بل هو بيان استواء السفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 القصير والطويل والقصر في ذلك. فأما منع قصر الكثير فهو مخالف للسنة العامة بلا ريب، وإنما خالف ذلك من عمل على هذه السنة (1) . وأما قصر غير الكثير فلأن القصر ليس من خصائص الحج ولا متعلقا به، وإنما هو معلق بالسفر طردًا وعكسًا. وكلامهم في هذه المسألة يقتضي أن ما قيل فيه: إنه خالف القياس من صور الاستحسان فلابد أن يكون قياسه فاسدًا، أو أن يكون تخصيصه بالاستحسان فاسدًا، إذا لم يكن هناك فرق مؤثر. وهذا هو الصواب في هذا الباب. قالوا: واحتج المخالف بأن قياس الشيء لا يصح مع وجود ما ينافيه، فلما كان القياس مانعا مما ورد به الأثر لم يجز لنا استعمال القياس فيه، لأنه لو جاز ذلك لم يكن فرق بينه وبين سائر الأصول التي يمنع قياسها منه فكان يخرج حينئذ من كونه مخصوصًا من جملة القياس. قالوا: والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنا لا نسلم أن ههنا ما ينافيه؛ لأن المنافاة تكون بدليل خاص، وما يذكرونه في هذه المسائل ليس بدليل خاص لما نذكر من التأويل. والثاني: أن المنافاة إنما تحصل بقياسه على غيره في إسقاط حكم النص. فأما قياس غيره عليه فلا ينافيه لأنه لا يسقط حكم النص عندهم فيصح القياس عليه.   (1) قلت: لعله: «من لم يكن عنده علم بهذه السنة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 قلت: هذا الثاني جواز قياس غيره عليه. والأول جواز قياسه على غيره ومنع لكونه مخصوصا من جملة القياس. والتحقيق: أنه وإن كان مخصوصا من جملة القياس فهو مخصوص من قياس معين لا من كل القياس. وإنما يخص لمعنى فيه يوجب الفرق بينه وبين غيره. فإذا قيس عليه غيره بذلك المعنى لم يناف ذلك كونه مخصوصًا من ذلك القياس الأول. وحقيقة هذا كله: أنه هل يثبت الحكم على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر؟ فمن يقول بالاستحسان من غير فارق مؤثر وتخصيص العلة من غير فارق مؤثر ويمنع القياس على المخصوص يثبت أحكاما على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر، وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما. وهم تارة ينكرون صحة القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان. وتارة ينكرون مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدعونه من الاستحسان الذي ليس بدليل شرعي. وتارة ينكرون صحة الاثنين فلا يكون القياس صحيحا، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحا؛ بل كلا الحجتين ضعيفة. فصل وقد تدبرت عامة هذه المواضع التي يدعي من يدعي فيها من الناس أنها تثبت على خلاف القياس الصحيح، أو أن العلة الشرعية الصحيحة خصت بلا فرق شرعي من فوات شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرق شرعي فوجدت الأمر بخلاف ذلك كما قاله أكثر الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما. وإن كان الواحد من هؤلاء قد يتناقض أيضا فيخص ما يجعله علة بلا فارق مؤثر كما أنه قد يقيس بلا علة مؤثرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 فالمقصود ضبط أصول الفقه الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة ليس فيها ما نص أصلا، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلا مانعا؛ فإن القياس الصحيح هو التسوية بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين، والجمع بين الأشياء التي جمع الله ورسوله بينها فيه والتفريق بينها فيما فرق الله ورسوله بينها فيه. والقياس: هو اعتبار المعنى الجامع المشترك الذي اعتبره الشارع وجعله مناطا للحكم، وذلك المعنى يكون لفظًا شرعيًّا عامًا أيضًا، فيكون الحكم ثابتا بعموم لفظ الشارع ومعناه. وقد بينا في غير هذه الموضع أن الأحكام كلها ثابتة بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلها معللة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضا متناولة لجميع الأحكام؛ لكن قد يفهم المعنى من لم يعرف اللفظ العام، وقد يعرف اللفظ العام ودلالته من يفهم العلة العامة. وكثيرًا ما يغلط من يظنه قال لفظا ولم يقله، أو يجعله عاما أو خاصا ويكون مراد الشارع خلاف ذلك، كما يغلط من يظنه اعتبر معنى لم يعتبره أو ألغى معنى وقد اعتبره، ونحو ذلك. وإنا نبين ما يذكره العلماء أنه استحسان على خلاف القياس. فمن ذلك ما يذكره أحمد في إحدى الروايتين عنه إذا اعتبر الاستحسان؛ فإنه ذكر عنه روايتين كما تقدم. والقول الثالث- وهو الذي يدل عليه أكثر نصوصه-: أن الاستحسان المخالف للقياس صحيح إذا كان بينهما فرق مؤثر قد اعتبره الشارع، وليس بصحيح إذا جمع بغير دليل شرعي دعوى بغير دليل شرعي وأنه لا يجوز ترك القياس الصحيح. أما قوله: «أستحسن أن يتيمم لكل، صلاة؛ لكن القياس أنه بمنزلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 الماء حتى يجد الماء أو يحدث» فهذا القياس هو الرواية الأخرى عنه، وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وغيرهم، وهو الصواب كما دل عليه الكتاب والسنة. [استحسان أن يتيمم لكل صلاة مخالف للقياس] وقوله: «القياس» هو قياس الشرع لفظا ومعنى؛ فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين» ، وقوله: «جعلت لي الأرض مسجدا أو طهورا» ونحو ذلك ألفاظ دالة على أن التراب طهور كما جعل الماء طهورا. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: «أصليت بأصحابك وأنت جنب؟» استفهام، سأله أكان ذلك أو لم يكن، وليس خبرا أنه صلى وهو جنب، فلما أخبره أنه تيمم تبين أنه لم يكن جنبا يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا فلو كان المراد الخبر وهو قد صلى مع الجنابة صلاة جائز لم يسأله وإن كانت الجنابة مانعة من الصلاة مطلقا لم يقبل عذره وهو لم يقل «أصليت» .. والقرآن يدل على أنه طهور بقوله لما ذكر التيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ} [6/5] . والذين أمروه بالتيمم لكل صلاة فيذكر إما روايات عن بعض الصحابة ضعيفة وعنهم ما يخالفها. وقالوا: إنه لا يرفع الحدث وإنما هو مبيح فيبيح بقدر الضرورة. قالوا: والرافع لحدث الماء لما كان إذا قدر على استعمال الماء يستعمله بحكم الحدث السابق من غير تجدد حدث. واحتجوا بقوله لعمرو بن العاص: «أصليت بأصحابك وأنت جنب؟» . وجواب هذا أن قولهم: لا يرفع، يبيح. كلام لا حقيقة له، ولو صح لم يكن لهم فيه حجة؛ فإن الحدث ليس هو أمرا محسوسًا كطهارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 الخبث؛ بل هو أمر معنوي يمنع الصلاة، فمتى كانت الصلاة جائزة بل واجبة فقد امتنع أن يكون هنا مانع من الصلاة؛ بل قد ارتفع المانع قطعا. وإن قالوا: هو مانع لكنه لا يمنع مع التيمم، فالمانع الذي لا يمنع ليس مانعًا. فإن قيل: هو منع إذا قدر على استعمال الماء. قيل: هو حينئذ وجد المانع. فإن قالوا: كيف يعود المانع من غير حدث؟ قيل: كما عاد الحاظر من غير حدث. فالحاظر للصلاة هو المانع، والمبيح لها هو الرافع لهذا المانع. فإن قيل: إباحتها إلى حين القدرة على استعمال الماء. قيل: وأزال المانع إلى حين القدرة. فكما يقال: أباح إباحة مؤقتة. يقال: إنه رفع رفعا مؤقتا. وإن قالوا: نحن لا نقبل إلا ما يرفع مطلقا كالماء. قيل: ولا نقبل إلا ما يبيح مطلقا كالماء. وأيضا فالله ورسوله قد سماه «طهورًا» وجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - «طهور المسلم ما لم يجد الماء» وجعل «تربة الأرض طهورًا» . الطهور: ما يتطهر به، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [6/5] والتيمم قد يطهر، ومع الطهارة لا يبقى حدث؛ فإن الطهارة مانعة للحدث: إذ غايتة أن يكون نجاسة معنوية، والطهارة تناقض النجاسة. فقد تبين هنا: أن القياس هو الصحيح دون الاستحسان الذي يناقضه. وتخصيص العلة وهو كون هذا بدلا طهورا مبيحا يقوم مقام الماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 عند تعذره في جميع أحكامه، ثم يخص بعض الأحكام من حكم البدلية والطهورية والإباحة، والبدل يقوم مقام المبدل في حكمه لا في صورته والحكم جواز الطهارة به ما لم يجد الماء أو يحدث، فذلك القول مخالف للقياس وتخصيص العلة بلا ريب. والعلة صحيحة بلا ريب. ونحن إذا قلنا: لا يجوز تخصيص بدون فارق مؤثر أفاد شيئين: أحدهما: أنه إذا ثبت أنها علة صحيحة لم يجز تخصيصها مثل هذا الموضع. والثاني: أنه إذا ثبت تخصيصها علم بطلانها، وهذا معنى قولنا: لا يجتمع قياس صحيح واستحسان صحيح إلا مع الفارق المؤثر من الشرع. [إذا اشترى المضارب غير ما أمر به صاحب المال استحسن..] وأما قوله في المضارب: إذا خالف فاشترى غير ما أمر به صاحب المال فالربح لصاحب المال ولهذا أجرة مثله إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب، قال: وكنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال، ثم استحسنت. فهذا استحسان منه رآه بفرق مؤثر، أو القياس مستنبط والاستحسان مستنبط، وهو تخصيص لعلة مستنبطة بفرق مستنبط. وأحمد لا يرد مثل هذا الاستحسان؛ لكن قد تكون العلتان أو إحداهما فاسدة، كما لا يرد تخصيص العلة المنصوصة بفرق منصوص كالمتيمم لما جاءت صلاته وليس هنا إلا الحدث مانعًا، فلو تبين مانع لم تجز الصلاة، فلم زوال المانع؟ فإن قيل: الصلاة بالتيمم، رخصة كأكل الميتة في المخمصة، والرخصة استباحة المحظور مع قيام الحاظر. ولا يجوز هنا أن يقال: إنه استباح الصلاة مع قيام الحاظر لها؛ فإن كون الحاظر حاظرا (1) لمعارض راجح وذلك أن المعنى المقتضي للحظر القائم بالميتة موجود حال   (1) خرم هنا مقدار ثلاث كلمات. وهو أول التعريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 المخمصة كما هو موجود حال القدرة على الميتة في نفسها لم يتغير. وأما تغير حال الإنسان كان غنيا عنها ثم صار محتاجا إليها حاجة تدفع الفساد الحاصل بأكلها فكذلك التيمم. قيل: هذا قياس فاسد، وذلك أنه جاء ميتة وأكل والميتة لم تتغير لكن تغير حال الآكل أما ليس إلا الحدث الذي كانت الصلاة محرمة عليه ثم صارت واجبة عليه أو جائزة فالمتيمم به لم يتغير حاله (1) . والفرق أن المضارب مأمور بجعل، بل هو شريك في الربح وعمله له ولصاحب المال جميعا؛ ولهذا كان للعلماء فيما يستحقه في المضاربة الفاسدة ونحو ذلك قولان: هل يستحق ربح مثله -قسط مثله من الربح- أو أجرة تكون أجرة مثله؟ والقول الأول هو الصواب قطعا. وهذا ينافي مذهب أحمد؛ فإن من أصله أن هذه المعاملات مشاركة لا مؤاجرة بأجرة معلومة. والقياس عنده صحتها. وإنما يقول أجرة المثل من يجعلها من باب الإجارة ويقول القياس يقتضي فسادها وإنما جوز منها ما جوز للحاجة. وبكل حال فهو يعمل لنفسه لاستحقاق القسط أو الأجرة ويعمل لذي المال؛ فليس هو بمنزلة العامل الذي جعل عمله لصاحب المال كالمتبرع؛ فإن هذا إنما قبض المال ليعمل فيه بالعوض، فالمخالفة لا تخرج عن كون المال بيده قبضه ليعمل فيه بالعوض، ولكن عمل غير ما أمر به فيكون ضامنا لتعديه؛ ولكن ليس إذا كان ضامنا يكون وجوده كعدمه مع أنه مأذون له في التجارة به في الجملة، ليس هو كمن لم يؤذن له في ذلك. وهو أيضًا   (1) خرم بالأصل بمقدار سطر سببه قص المجلد. وهو بداية المسألة الثانية المتقدمة في المضارب إذا اشترى غير ما أمر به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 من أصل آخر، وهو أنه إذا تصرف بغير أمره كان فضوليا فتكون العقود موقوفة وهذا إحدى الروايتين عن أحمد وقول أكثر العلماء، وهي التي ذكرها الخرقي في مختصره: أن بيع الفضول وشراه ليس باطلا، بل موقوفًا، فإن باع أو اشترى بعين المال فهو موقوف، وإن اشترى في الذمة فهو موقوف. فأي إجارة والمشترى له وإلا لزم المشتري. وأما القاضي وأتباعه فاختاروا أن تصرفه مردود إلا أن اشترى في الذمة. والذي ذكره الخرقي أصح؛ لكن قرن هذه المسألة في مواضع في مختصره بالعامل إذا خالف كان متصرفا له بغير إذنه، فإذا أجازه وطلب حقه من الربح صار مجيزا له وصار العامل مأذونا له. والعامل إنما عمل لأجل قصده من الربح فيستحق نصيبه من الربح. وقول أحمد: كنت أذهب إلى أن الربح لصاحب المال ثم استحسنت رجوع منه إلى هذا. وجعله الربح في جميع الصور للمالك يقتضي أنه يصحح تصرف الفضول إذا أخبر وإلا كان البيع باطلا. وكذلك الذي يعين المال كما يقوله الشافعي ومن نصر الرواية الأخرى ويكون البيع عليه ضمان ما فوته من مال فقط، ليس للمالك غير هذا، ولا يكون للعامل أيضا ربح لأنه لم يملك شيئا. والآثار المأثورة عن الصحابة والتابعين في باب البيع والنكاح والطلاق وغير ذلك تدل على أنهم كانوا يقولون بوقف العقود، لا سيما حين يتعذر استئذان المالك؛ ولهذا أحمد يقول بوقفها هنا كما في مسألة المفقود اتباعا للصحابة في ذلك، وإنما ادعى أنها خلاف القياس من لم يتفطن لما فيها من وقف العقود، كما في اللقطة. وتكلم السلف فيمن يتجر بمال غيره في الربح دليل على صحة التصرف عندهم إذا أجازه المالك؛ ولهذا ظهر ما استحسنه أحمد ورجع إليه أخيرا؛ لأنه إذا جاز بالإجارة فالمأذون له وهو لم يعمل إلا بجعل برضا المالك فلا يجوز منعه حقه؛ وهو إما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 على أنه إذا تصرف ابتداء فالربح كله للمالك، وهو إحدى الروايتين في المسألة. وقيل: يتصدقان به، وهو رواية عن أحمد. وقيل: هو للعامل كله كقول الشافعي. وقيل: هما شريكان فيه، وهو أصح الأقوال، وهو المأثور عن عمر؛ لأن المالك لما أذن فيه صار كالمضارب، وهو لم يعمل ليكون الربح للمالك كالمصبغ؛ فإنه لو فعل ذلك كان الربح للمالك. وأما المتجر ليكون الربح له أو بينهما والمالك قد أجاز بيعه ولم يجزه ليكون الربح كله له، فيكون النماء حاصلا بمال هذا وبيع هذا، والتصرف صحيحا مأذونا فيه فيكون الربح بينهما. ومن قال: يتصدقان به. جعله كغير المأذون فيه، فيكون خبيثا، وهو متعد؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما، فإذا أجاز المالك التصرف جاز، وكذلك في جميع تصرفات الغاصب، لا سيما من لم يعلم أنه غاصب إذا تصرف في المغصوب فأزال اسمه كطحن الحب ونسج الثوب ونحو ذلك ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: كل ذلك للمالك دون الغاصب وعليه ضمان النقص كقول الشافعي. وقيل: ملكه الغاصب وعليه بدله كقول أبي حنيفة. وقيل: يخير المالك بينهما كقول مالك وهو أصح، بناء على ذلك النص. فإن شاء المالك أجاز تصرفه وطالبه بالنقص كما في العامل المخالف. وإن شاء طالبه بالبدل لإفساده عليه، وبأجرة ذلك لا ذاته عوضه فيجبر على المعاوضة لحق المالك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وإذا رضي المالك به فهل يكون الغاصب شريكا لما في عمله؟ فيه وجهان. والأظهر في الجميع أن أثر عمله له، وكونه كان يظهر في تضمينه له؛ لا أن يؤخذ عمله فيعطى لغيره بغير عوض، فإن هذا كله له. والواجب إزالة الظلم بالعدل لا بظلم آخر {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [40/42] لا زيادة عليها. وأما قوله: فمن غصب أرضا فزرعها، الزرع لذي الأرض وعليه النفقة، وليس هذا شيئا يوافق القياس، واستحسن أن يدفع إليه نفقته. [إذا غصب أرضا فزرعها استحسن ... ] فهذا قاله بالنص كما تقدم، لحديث رافع بن خديج، فيجب أن يكون القياس المخالف لهذا النص فاسدا إن لم يدل نص على صحته ويظهر الفارق المؤثر، وإلا فالقياس إذا خالف النص كان فاسدا. أما فساد الحكم المخالف للنص فبالاتفاق. وفساد العلة على قول الجمهور والذي لا يرى تخصيص العلة إلا بفارق مؤثر، وهذا نص قد خالف القياس. وقولهم: القياس أن الزرع لزارعه. ليس معهم بذلك نص، ولا نظير؛ بل القياس أن الزرع إما أن يكون بينهما كالمزارعة، أو يكون لرب الأرض؛ لأن الحمل لمالك الأنثى دون مالك الذكر؛ لكن المني لا يقوم؛ بخلاف الزرع؛ فلهذا جعل له نفقته؛ فإن الزرع من ترابها ومائها وهوائها وشمسها، كما أن الحمل في البطن غالبه من الأم، وماء الأب قليل، كما أن الحب قليل. وكذلك الشجر إذا لقح أنثاه بذكر فإن الثمر لصاحب الأنثى لا لصاحب اللقاح، والحب كاللقاح. وقول أحمد: عليه نفقته. يقتضي مثل البذر. ويقتضي أجرة عمله وعمل بدابته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 فقوله: «ليس هذا شيئا يوافق القياس» كقوله في العامل المخالف. «ثم استحسنت أن يعطيه الأجرة» فكان يناسبه على ما يراه في الغاصب أن لا يكون له أجرة عمله وعمل بدابته. فهو مخالف للقياس من هذه الجهة؛ لأنه إنما عمل ليأخذ العوض لم يعمل مجانا كالعامل في المضاربة، ولأن البذر له فليس غاصبا محضا. وقد اختلفت الرواية عن أحمد: هل يعطى بالبذر؛ أو أجرة مثله. والنص ورد بالأول بقوله: «ليس له من الزرع شيء وله نفقته» والقياس يقتضي الثاني. فقد يكون قوله على خلاف القياس من هذا الوجه. وما ورد به النص قد يكون باثنين. وأجرة مثله فيه سواء. [بيع المصاحف وشراؤها] أما شري المصاحف فإنما فرق فيهما بين الشرى والبيع؛ لأن العلة موجودة في البيع دون الشرى؛ لكن المشتري راغب في المصحف معظم له باذل فيه ماله، والبائع معتاض عنه بالمال، والشرع يفرق بين هذا وهذا، كما يفرق بين إعطاء المؤلفة قلوبهم بين المعطي والآخذ وكذلك بين اقتداء الأسير وغير ذلك. ومعلوم أنه لو أعطاه المصحف والأرض الخراجية بلا عوض جاز وقام فيه مقامه، بخلاف ما لا يجوز ملكه كالخمر وغيرها، فإذا بذل له هذا فيه العوض لم تكن مضرته إلا على البائع. فإن قيل: فإذا لم يحصل للإنسان كلب معلم إلا بثمن فينبغي أن يجوز بذله وإن لم يجز أخذه. قيل: إن لم يكن بينهما فرق مؤثر في الشرع فما الذي جوز أن قيل هناك يجب عليه إعطاء الكلب بلا عوض بخلاف الأرض والمصحف فهذا ندب، مع أن الثابت عن الصحابة كراهة بيع المصحف، وابن عباس كان يكرهه، وكان أيضا يجوزه ويقول: إنما هو مصور فأخذ أجرة تصويره. فدل على أنها كراهة تنزيه. وروي عن عروة: وددت أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 الأيدي تقطع في بيع المصاحف. وهذا تغليظ تحريم؛ ولهذا اختلفت الرواية عن أحمد: هل هو تنزيه أو تحريم. وأما شراءه ومبادلته: فهل هو مباح أو مكروه؟ على روايتين. وعن ابن عباس: يجوز أن يبيعه ويشتري بثمنه مصحفا آخر. وليس هذا في المبادلة والشري استبدال به عوضا من الدنيا. فالأظهر جواز ذلك بلا كراهة، وأن البيع أيضا لا يحرم، بل يكره تعظيما لكتاب الله، وليس على التحريم دليل شرعي. [استحسان شرى الأرض الخراجية دون بيعها] وكذلك الأرض الخراجية ليس في منع بيعها دليل شرعي أصلا؛ فإن الذي منعوها من الفقهاء قالوا: إنها وقف، وبيع الوقف لا يجوز. وهذا إنما هو في الوقف الذي يبطل بيعه وهو الذي لا يورث ولا يوهب. والأرض الخراجية تورث وتوهب. والوقف الذي لا يباع لا يورث ولا يوهب. وذلك أن المتولي يقوم مقام البائع لا يبطل جنس أصل الوقف. وأحمد في ظاهر مذهبه يجوز بيع المكاتب لهذا المعنى؛ لأن ذلك لا يبطل حقه من الكتابة؛ بل يكون عند المشتري كما هو عند البائع، وهو يورث بالاتفاق، ولكن العبد فيه سبب الحرية فليس منع بيعه أنه يباع حر كما تخيل أولئك أنه يباع وقف، وليس الأمر كما تخيلوا، بل بيع الحر هو أن يستعبد فيصر بخلاف ما كان حرا. وبيع الوقف: هو أن يجعل طلقا أو يصرف مغله إلى غير جهته، والأرض الخراجية مغلها هو مغلها لم يتغير، وهو الخراج المضروب عليها سواء كان ضريبة كخراج عمر، أو صار مقاسمة، كما فعل متأخرو الخلفاء بأرض السواد وغيرها كما فعله المنصور. فعلى التقديرين حق، كما يبقى مع الإرث والهبة. والصحابة الذين كرهوا شراها إنما كرهوه لدخول المسلم في خراج أهل الذمة أو إبطال حق المسلمين منه؛ فإن المشتري إذا أدى الخراج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وهو جزية فقد التزم الصغار، وإن لم يؤد أبطل حق المسلمين؛ فلهذا كره عمر ذلك وغيره من الصحابة، وهم نهوا عن الشرى. وأما البيع فإنما كان يبيعها أهل الذمة؛ لأن الأرض الخراجية إنما كانت بأيدي أهل الذمة، وكان ذلك أيضا لئلا يشتغل المسلمون بالفلاحة عن الجهاد، فلما كثر المسلمون وصار أكثرهم غير مجاهدين وصار أداءهم الخراج أنفع لعموم المسلمين من كونها بأيدي أهل الذمة لم يصر في ذلك من الصغار ما يكون في أول الإسلام إلا لمن يشتغل بعمارة الأرض عن الجهاد، وهذا لا يختص بالخراجية، بل هو رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «ما دخلت هذه دار قوم إلا دخلها الذل» رواه البخاري، مع أن الأنصار كانوا هم الفلاحين لأرضهم نهوا عن الاشتغال بعمارة الدنيا عن الجهاد وهذا لا يختص بالأرض الخراجية. وأما ما ذكره القاضي من قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر. فلا ريب أن الفرق هنا ظاهر. وهذا من الاستحسان وتخصيص العلة التي ظهر فيها الفرق. والمنع من شهادتهم على المسلمين ثبت بالنص، والإذن فيها هنا ثبت بالنص أيضا للحاجة. [شهادة أهل الذمة على المسلمين في غير السفر] وهل يعدى هذا إلى جميع مواضع الحاجة؟ فيه عن أحمد روايتان، بناء على أن العلة معلومة وهي موجودة في غير هذا الموضع. هذا وجه القول بالجواز. وأما وجه المنع: فإما أن نقول: لم تعلم العلة وأنها مشتركة، أو علمنا اختصاصها بهذه الصورة للضرورة العامة فيها. هذا إذا ثبت عموم المنع في غير هذه الصورة إما لفظا وإما معنى. وألفاظ القرآن لا عموم فيها بالمنع. وكذلك السنة ليس فيها لفظ عام بالمنع. لم يبق إلا القياس. وتلك المواضع أمر فيها بإشهاد المسلمين، ومعلوم أن ذاك إنما هو عند القدرة على إشهادهما وهذا واجب في الوصية في السفر. وأما إذا تعذر إشهادهما على الدين في السفر أو على الرجعة فليس في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 القرآن ما يدل على المنع من ذلك. وإذا لم يكن في الكتاب والسنة منع من إشهاد أهل الذمة عند تعذر إشهاد المسلمين لم يكن هنا قياس يخالف هذه الآية وقد عمل بها الصحابة وجمهور التابعين. والذين لم يعملوا بها ليس معهم في خلافها لا نص ولا إجماع ولا قياس. وقد تأولوها بأنها حدس من غير أصل يسلم. وبعضهم قال: نقيس. وقال بعضهم: الشهادة باليمين. والأقوال الثلاثة باطلة من وجوه كثيرة. وقول من قال: لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين بحال. ليس معهم بذلك نص ولا قياس؛ ولكن كثير من الناس يغلطون لأنهم يجعلون الخاص من الشارع عاما. والله أمر بإشهاد المسلمين على المسلمين إذا أمكن فظن من ظن أن هذا يقتضي أن لا يشهد غيرهم ولو لم يوجد مسلم. وباب الشهادات مبناها على الفرق بين حال القدرة وحال العجز؛ ولهذا قبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وقد نص أحمد على شهادتين في الجراح وغيرها إذا اجتمعن ولم يكن عندهن رجال، مثل اجتماعهن في الحمامات والأعراس ونحو ذلك. وهذا هو الصواب؛ فإنه لا نص ولا إجماع ولا قياس يمنع شهادة النساء في مثل ذلك وليس في الكتاب والسنة ما منع شهادة النساء في العقوبات مطلقا. وأما إذا نذر ذبح ولده أو نفسه فأحمد اتبع ما ثبت عن ابن عباس وهو مقتضى القياس والنص. فإن كان قادرا كان عليه كبش، وإن تلف المال فعليه كفارة يمين. وهو أصح الروايات عن أحمد، وهو الذي صرح به في مواضع. وقيل: عليه كفارة يمين في الجميع. وقيل: لا شيء عليه وذلك أن من نذر نذرا فعليه النذر أو بدله في الشرع، وهناك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 تعذر النذر وانتقل إلى البدل الشرعي وهو الكبش كما في نظائره. فليس هنا ما يخالف القياس الصحيح. وهذا الباب باب تدبر العموم والخصوص من ألفاظ الشرع ومعانيه التي هي علل الأحكام هي الأصل الذي تقرر فيه شرائع الإسلام -والله أعلم-، والحمد لله، وصلى الله على محمد وآله (1) . قال شيخنا رضي الله عنه: والذي قيست عليه الحيل الربوية وليست مثله نوعان: [المعاريض] أحدهما: المعاريض، وهي أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحا ويوهم غيره أنه يقصد به معنى آخر، فيكون سبب ذلك الوهم كون اللفظ مشتركا بين حقيقتين لغويتين أو عرفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع إحداهما فيعني أحد معنييه ويوهم السامع له أنه إنما عنى الآخر: إما لكونه لم يعرف إلا ذلك. وإما لكون دلالة الحال تقتضيه، وإما لقرينة حالية أو مقالية يضمها إلى اللفظ أو يكون سبب التوهم كون اللفظ ظاهرا في معنى فيعني به معنى يحتمله باطنا بأن ينوي مجاز اللفظ دون حقيقته، أو ينوي بالعام الخاص أو بالمطلق المقيد، أو يكون سبب التوهم كون المخاطب إنما يفهم من اللفظ غير حقيقته لعرف خاص به، أو غفلة منه، أو جهل، أو غير ذلك من الأسباب مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته فهذا كله إذا كان المقصود به رفع ضرر غير مستحق فهو جائز كقول الخليل: «هذه أختي» ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نحن من ماء» وقول الصديق رضي الله عنه: هاد يهديني السبيل، ومنه قول عبد الله بن رواحة: شهدت بأن وعد الله حق ... الأبيات   (1) هذه الفتوى من مجموع (91) ورقة 325-334 وهي كاملة بخط شيخ الإسلام رحمه الله وفيها زيادات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 أوهم امرأته القرآن. وقد يكون واجبا إذا تضمن دفع ضرر يجب دفعه ولا يندفع إلا بذلك. قال شيخنا: والضابط: أن كل ما وجب بيانه فالتعريض فيه حرام، لأنه كتمان وتدليس (1) . [المجاز] مسألة: في القرآن مجاز نص عليه بما خرجه في متشابه القرآن في قوله: «إنا» و «نعلم» و «منتقمون» هذا من مجاز اللغة، يقول الرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك خيرا. [قال شيخنا: قد يكون مقصوده يجوز في اللغة] (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل استدل القاضي على أن اللفظ الواحد يجوز أن يكون متناولا لموضع الحقيقة والمجاز بقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [92/4] متناول للرقبة الحقيقية ولغيرها من الأعضاء على طريق المجاز وكذلك قوله: اشتريت كذا وكذا رأسا من الغنم، متناول للرأس الذي هو العضو المحسوس ولسائر الأعضاء. قال شيخنا: قلت: هذا نقل اللفظ من الخصوص إلى العموم، وهو من باب الحقيقة العرفية؛ لأن الرأس أدخل في اللفظ من سائر الأعضاء بهذا الوضع؛ لكن اجتمع فيه الوصفان فهو مدلول عليه بهما جميعًا فليس هذا من موارد النزاع: لكن تقرير كلامه: أنه إذا صار يعم   (1) إعلام الموقعين 3/246، 247 ف 2/13، 14. (2) المسودة ص 164، 165 قلت: وقد بسط شيخ الإسلام في نفي المجاز في القرآن وفي اللغة في كتاب الإيمان وغيره وذكر هذه الأمثلة وغيرها وأجاب عنها وكذلك تلميذه ابن القيم وكتابه على هذا المنوال لا تقرير له. والفهارس جـ 2/13 و 1/239. فهو في نظري حكاية لتقسيمهم الكلام إلى حقيقة ومجاز وبيان وجوه المجاز عندهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 موضع الحقيقة وغيره حقيقة فلأن يكون ذلك مجازا أولى؛ لكن يقال: لفظه في صدر المسألة «يجوز أن يكون اللفظ الواحد متناولا لموضع الحقيقة والمجاز فيكون حقيقة من وجه مجازا من وجه آخر» ، وعلى هذا التقرير يكون مجازا فيقال: هذا في تعميم الخاص نظير البحث في تخصيص العام، إلا أنه هناك نقصت الدلالة وهنا زيدت، فكما أنه هناك يقال هو حقيقة في دلالته على الباقي مجاز أو لا حقيقة ولا مجاز في عدم دلالته على الخارج، يقال هنا: هو حقيقة في دلالته على مسماه الأول مجاز في الزيادة على ذلك. واستدل أيضا بقولهم: «عدل العمرين» عند من يقول هما: أبو بكر وعمر، والمنصوص عن أحمد خلافه، قال: هو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، وكذلك قولهم: «ما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء» قاله القاضي (1) . فصل في وجوه المجاز منها: أن يستعمل اللفظ في غير ما هو موضوع له، «الحمار» أطلقوه على البليد واسم الأسد أطلق على الرجل الشجاع. ومنها: المستعمل في موضعه وغير موضعه كقوله: «فتحرير رقبة» يتناول الرقبة وجميع الأعضاء، وكذلك إطلاق الشيء على ضده كإطلاقهم «السليم» على اللديغ، و «المفازة» على المهلكة. ومنها: الحذف كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [82/12] ، {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [93/2] . ومنها: الصلة كقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [30/42] يعني بما كسبتم.   (1) المسودة ص 168، 169 ف 2/13 وجـ 1/239. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 ومنها: أن يطلق اسم المصدر على المفعول: كضرب فلان، وخلق الله، وعلى الفاعل: كرجل عدل. ومنها: إطلاق اسم الفاعل على المفعول: كقوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [21/69] أي مرضية، وعلى المصدر كقولك: «تخشى اللائمة» يعني اللوم. ومنها: إطلاق اسم المدلول على الدليل، يقال: سمعت علم فلان، أي عبارته عن علمه الدال عليه. ومنها: أن يطلق اسم المسبب على السبب، كإطلاقهم اسم الرحمة على المطر. قال: فهذه جملة وجوه للمجاز. قال شيخنا رضي الله عنه: قلت: جماعها إما زيادة وإما نقص، وإما نقل، والنقل إما إلى النظير، وإما إلى الضد، وإما إلى الأصل، وإما إلى الفرع، وقد دخل في الأصل السبب والفاعل، وفي الفرع الدليل والمفعول والمصدر بالنسبة إلى الفاعل (1) . فصل لما قال المخالف: «المجاز كذب لأنه يتناول الشيء على خلاف الوضع» . قال القاضي: هذا خرق للإجماع، لأنهم استحسنوا التكلم بالمجاز مع استقباحهم الكذب، قال: وعلى أن الكذب يتناول الشيء على غير طريق المطابقة والمجاز قد يطابق الخبر من طريق العرف، وإن كان لا يطابقه من طريق اللغة. قال شيخنا: قلت: هذا المجاز هو الحقيقة العرفية فليس هو المجاز المطلق (2) .   (1) المسودة ص 169، 170 ف 2/13. (2) المسودة ص 170 ف 2/13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وقال القاضي أيضا: فصل يصح الاحتجاج بالمجاز والدلالة عليه أن المجاز يفيد معنى من طريق الوضع [كما أن الحقيقة تفيد معنى من طريق الوضع] ألا ترى إلى قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [43/4] ، يفيد المعنى وإن كان مجازا؟ لأن الغائط هو الموضع المطمئن من الأرض استعمال في الخارج. قال: وكذلك قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [22، 23/75] ومعلوم أنه أراد غير الوجوه ناظرة؛ لأن الوجوه لا تنظر وإنما الأعين، وقد احتج الإمام أحمد بهذه الآية في وجود النظر يوم القيامة في رواية المروذي والفضل بن زياد وأبي الحارث. وأيضا: فإن المجاز قد يكون أسبق إلى القلب، كقول الرجل لصاحبه: «تعال» أبلغ من قوله: يمنة ويسرة، وكذلك قوله: «لزيد علي درهم» مجاز وهو أسبق إلى النفس من قوله: «يلزمني لزيد كذا درهم» وإذا كان يقع بالمجاز أكثر مما يقع بالحقيقة صح الاحتجاج به. قال شيخنا: قلت: كلامه كأنه يشتمل على أن المجاز يصير حقيقة عرفية أو أنه يكون هو الظاهر لما اقترن به، فيكون هو الظاهر: إما لاستعمال غالب، وإما لاقتران مرجح، فإما مجردا، وإما مقرونا، وقد يكون أدل على المقصود من لفظ الحقيقة. وقوله: «أسبق إلى القلب» يراد به أن معنى لفظ المجاز أسبق من معنى حقيقة لفظ المجاز، وأن ذلك المعنى أسبق من حقيقة ذلك المعنى؛ فإن معنا حقيقتين: حقيقة بإزاء لفظ المجاز، وحقيقة بإزاء معناه، تلك عدل عن معناها، وهذه عدل عن لفظها، فالمتكلم بالمجاز لابد أن يعدل عن معنى حقيقة وعن لفظ حقيقة أخرى إلى لفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 المجاز ومعناه (1) . قال القاضي: يصح ادعاء العموم في المضمرات والمعاني. أما المضمرات نحو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [3/5] و: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} [96/5] ومعلوم أنه لم يرد نفس العين؛ لأنها فعل الله، وإنما أراد أفعالنا فيها، فيعم تحريمها بالأكل والبيع. وكذلك قوله: «لا أحل المسجد لجنب» ليس المراد عين المسجد، وإنما المراد به أفعالنا (2) . واحتج المخالف أن اللفظ اقتضى تحريم العين نفسها فإذا حمل على الفعل يجب أن يصير مجازا كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [82/12] قال: والجواب أن هذا وإن لم يتناول ذلك نطقا فهو المراد من غير دليل ويفارق هذا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} نحوه، لأنا لم نعلم أن المراد به أهلها باللفظ لكن بدليل لأنه لا يستحيل جواب حيطانها في قدرة الله، فاحتاج إلى دليل يعرف به أنه أراد أهلها. قال شيخنا: قلت: مضمون هذا أن القرينة العقلية إذا عرف المراد بها لم يكن اللفظ مجازا؛ بل حقيقة، فكل ما حمل اللفظ عليه بنفس اللفظ مع العقل فهو حقيقة [أو أنه يحتمل أن يكون هذا حقيقة عرفية، لكن كلامه اقتضى أن ما فهم من اللفظ من غير دليل منفصل فهو حقيقة] وإن لم يكن مدلولا عليه بالوضع، وستأتي حكايته عن أبي الحسن التميمي: أن وصف الأعيان بالحل والحظر [توسع واستعارة كما قال البصري] . والصحيح في هذا الباب خلاف القولين: أن الأعيان توصف بالحل   (1) المسودة ص 170، 171 ف 2/13 وف 1/239. (2) المسودة ص 91-93 ف 2/15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 والحظر حقيقة لغوية كما توصف بالطهارة والنجاسة والطيب والخبث، ولا حاجة إلى تكلف لا يقبله عقل ولا لغة ولا شرع، وحينئذ فيكون العموم في لفظ التحريم. وفرق بين عموم الكل لأجزائه وعموم الجميع لأفراده، ويختلف عموم لفظ التحريم وخصوصه بالاستعمال (1) . مسألة: لا يقاس على المجاز قاله ابن عقيل وابن الزاغوني ولم يذكروا فيه مخالفا، وكذلك ذكره ابن الزاغوني وحكى الخلاف فيه عن بعض الأصحاب بناء على أن اللغة تثبت قياسا. قال القاضي: في مسألة ثبوت الأسماء بالقياس: وأيضا فإن أهل اللغة قد استعملوا القياس في الأسماء عند وجود معنى المسمى في غيره، وأجروا على الشيء اسم الشيء إذا وجد بعض معناه فيه، الرجل البليد حمارا لوجود البلادة فيه، وسموا الرجل الشجاع سبعا لوجود الشدة فيه، ونظائر ذلك كثيرة، وعلى ذلك قول عمر: الخمر ما خامر العقل، وقول ابن عباس: كل مسكر مخمر خمر. قيل له: هذه التسمية منهم مجاز، فقال: قد ثبت عنهم أنهم فعلوا ذلك، فلا يضر أن يكون أحد الاسمين مجازا، والآخر حقيقة، على أنهم سموا «الأبله» حمارًا مجازا لوجود بعض معانيه، فلما لم يوجد كل معانيه كان مجازا. وأما النبيذ فيوجد فيه معاني الخمر كلها، وكذلك اللوط والنباش. قال شيخنا: هذا تصريح بأن الأسماء تثبت بالقياس حقائقها ومجازاتها؛ لكن فيه قياس المجاز بالحقيقة. فأما قياس المجاز بالمجاز فمقتضى كلامه أنه إن وجد فيه معاني المجاز المقاس عليها كلها جاز، كما أن الحقيقة إذا وجد فيه معنى الحقيقة كلها جاز (2) .   (1) قلت: إلى أن قال القاضي. (2) المسودة ص 174، 175 ف 2/15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 [شيخنا] : ... ... ... فصل [العموم والفحوى] إذا قال: «لا تعط زيدا حبة» فهذا عند ابن عقيل وغيره في اقتضائه النهي عن إعطاء قيراط من باب فحوى الكلام، وذكر عمن قال هذا من باب اللفظ وخالفه بأن للدينار والقيراط اسما يخصه ويخرجه عن دخوله في لفظ الحبة، فيقول القائل: لم آخذ حبة لكن دينارا، وما سلمت على زيد لكن على أهل القرية، وإن كان فيهم زيد، فللتخصيص حكم غير التعميم والشمول. قال شيخنا: حاصله: أنه يقصد نفي الواحد من الجنس، لا نفي الجنس، بخلاف ما صار يفهم منه كما قيل مثل هذا في قوله: ما رأيت رجلا، بل رجالا، وهذا قريب؛ لأن دلالة الفحوى قطعية بالعرف؛ ثم التزم أنه إذا ادعى عليه دينارا فقال: «لا يستحق علي حبة» لم يكن جوابا قائما مقام قوله: «لا يستحق علي ما ادعاه ولا شيئا منه» واعتذر بأن هذا لم يكن، لأنه ليس بمستفاد من طريق فحوى اللفظ لا المعنى، لكن لأنه ليس بنص؛ ولا يكتفي في دفع الدعوى إلا بالنص دون الظاهر، ولهذا لا يقبل في يمين المدعي: والله إني لصادق فيما ادعيته عليه. ولا يكتفي في يمين المنكر: والله إنه لكاذب فيما ادعاه علي. كل ذلك طلبا للنص الصريح دون الظاهر. قال شيخنا: والصواب: أن هذا نكرة فيعم جميع الحبات كسائر النكرات، ولكن اقتضاؤه لما لم يندرج في لفظ «حبة» من باب الفحوى؛ إلا أن يقال: مثل هذه الكلمة قد صارت بحكم العرف حقيقة في العموم، فيكون هذا أيضا من باب الحقيقة العرفية، لا من باب الفحوى. فهذا الباب يجب أن يميز فيه ما عم بطريق الوضع اللغوي، وما عم بطريق الوضع العرفي، وما عم بطريق الفحوى الخطابي، وما عم بطريق المعنى القياسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 وذكر ابن عقيل من هذا إذا قال: لا تقل غير بعير زيد ولا تمكن القرناء من غنمك من نطح الجماء من غنمه. قال: إذا قال هذا علم ببادرة اللفظ أنه قد حسم موارد الأذى. قال شيخنا: هذا نوع خامس، قد يكون المنطوق غير مقصود، وإنما المقصود المسكوت من غير أن يكون قد صار دلالة عرفية وإنما هو من باب اللحن. ويظهر الفرق بين العموم العرفي والفحوى أنا في الفحوى نقول: فهم المنطوق ثم المسكوت إذ اللازم تابع. وفي العموم نقول: فهم الجميع من اللفظ كأفراد العام. فعلى هذا يكون من باب نقل الخاص إلى العام. وعلى الأول يكون من باب استعمال الخاص وإرادة العام. ولنا في قوله: «يدك طالق» وجهان؛ بخلاف الرقبة فإنه لا تردد فيها للنقل (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [المطلق والمقيد] من أمثلة «المطلق» و «المقيد» : الأمر بالغسل بالماء في حديث أسماء وأبي ثعلبة في الثياب والأواني، والأمر بالتسبيع في خبر الولوغ، فإنه نظير العتق سواء. وهنا احتمالات: أحدها: أنه ترك التقييد فدل بالمفهوم على نفيه. الثاني: أنه يدل بالاستصحاب. الثالث: أنه يدل بالإمساك، فإن ترك الإيجاب والتحريم مع الحاجة إلى بيانه أو مع المقتضي له يدل على انتفائه؛ فإذا استفتي فلم يوجب ولم يحظر دل على العدم، فإذا قيد آخر وحمل هذا على هذا بالقياس   (1) المسودة ص 172، 173 ف 2/16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 كان ابتداء إيجاب أو تحريم بقياس. وفي التخصيص يكون بيان عدم الإرادة؛ فالتقييد في الحقيقة زيادة حكم، والتخصيص نقص. وليس بين المطلق والمقيد تعارض كما بين الخاص والعام. ومن قال: التقييد تخصيص فإنه نظر إلى الظاهر، فإن كان المقيد بعد المطلق كان ابتداء حكم رفع ما سكت عنه أولا، ولم يكن هناك تعارض بين خطابين، وإنما هو تعارض بين خطاب وإمساك عن خطاب. وهذا وإن سمي نسخا فيجوز بخبر الواحد فإنه من النسخ العام لا الخاص. وإن كان المتقدم يبقى إمساكه عن الوجوب ثانيا: هل يرفع الوجوب المتقدم في المنصوص وقياسه كما قيل في خبر ماعز، أو يرفعه في القياس فقط، أو لا يرفعه في واحد منهما؟ وإن جهل التأريخ فحمل المقيد على المتأخر يقتضي زيادة حكم بلا تعارض، وحمله على المتقدم يقتضي النسخ أو التعارض (1) فيكون أولى كما قررته لبعض الحاضرين في مسألة العدد في غسل الجنابة. وأما زيادة الجلد على الرجم فإذا قدر أن ترك ذكرها يقتضي عدم الوجوب بقي الجواز على أحد القولين؛ كما قلنا في صلاة الصحيح خلف القاعد، فيجوز أن يقال: إن هذا إلى الإمام: إن رأى زاده وإن رأى تركه. وفي الجملة فسكوت النصوص في الدلالة على عدم الإيجاب واسع، وكذلك الاستحباب (2) . فصل [شيخنا] : ذكر القاضي وغيره أن الحنفية احتجوا بقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [4/74] ولم يفرقوا بين الماء وغيره، وهو على عمومه وأجاب بأجوبة: منها: أن الآية عامة، وخبرنا خاص، والخاص يقضي على العام.   (1) نسخة: يقتضي النسخ والتعارض. (2) المسودة ص 147، 148 ف 2/16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وكذلك احتجوا بقوله: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا» ولم يفرق بين الماء وغيره، فهو على العموم فأجاب: بأنه قد روي في بعض الأخبار «فليغسله سبعا بالماء» والمقيد يقتضي على المطلق. واحتجوا في مسألة النبيذ بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [6/5] وهو عام فيما يغسل به، فوجب حمله على الماء والنبيذ. وأجاب بأجوبة؛ منها: أن المراد الماء، لقوله في آخر الآية: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ولأن الماء مراد بالإجماع، وإذا دخل فيه الماء لم يجز أن يدخل فيه النبيذ؛ لأنه لا يساوي الماء بالإجماع. قال شيخنا: وهذا كله إدخال للمطلق في العام، وهو جائز باعتبار، ولكن ليعلم أن اللفظ لم يشمل ما هو خارج عن الحقيقة من القيود. وإنما القيود مسكوت عنها، نعم هذا يشتمل من الزيادة على النص: هل هي نسخ أم لا؟ ومنه قولنا: الأمر بالماهية الكلية لا يقتضي الأمر بشيء من قيودها، واحتجاجات الحنفية وأصولهم تقتضي أن المطلق نوع من العام في غير موضع (1) . [المجمل] مسألة: الأمر بالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك مجمل. هذا ظاهر كلام أحمد، بل نصه. ذكره ابن عقيل والقاضي أيضا في العدة. [والد شيخنا] : وآخر العمدة، والحلواني في الرابع. [شيخنا] : وذكر القاضي في مسألة الأمر بعد الحظر، ومسألة تأخير البيان إنما يحمل على عرف الشرع [كأبي الخطاب] (2) .   (1) المسودة ص 149 لكن في نسختين منها: «قلت» بدل: قال شيخنا ف 2/16. (2) ساقط ما بين المعقوفتين من بعض النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وبه قالت الحنفية [ذكره البستي منهم] (1) ، وبه قال بعض الشافعية وقال بعض الشافعية: يتناول ما يفهم منه في اللغة إلى أن يوجد البيان الشرعي. وقال ابن عقيل: [وكذا ينبغي أن يكون أصل من قال: إن الأسماء غير منقولة بل مشتركة بينهما] (2) ، واختاره ابن برهان. والأول مذهب الشافعي ذكره أبو الطيب في: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [56/24] وحكى لهم الوجهين في الكل. وقال أبو الخطاب: ويقوى عندي أن تقدم الحقيقة الشرعية؛ لأن الآية غير مجملة؛ بل تحمل على الصلاة الشرعية؛ بناء على أن هذه الأسماء منقولة من اللغة إلى الشرع، وأنها في الشرع حقيقة لهذه الأفعال المخصوصة، فينصرف أمر الشرع إليها. قال والد شيخنا: والمقدسي اختار مثل أبي الخطاب. شيخنا: قلت: وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قبل أن يعرف الحقيقة الشرعية أو الزيادات الشرعية كيف يصرف الكلام إليها وبعدما عرف ذلك صار ذلك بيانًا، فما أخرجه عن كونه مجملا في نفسه أو غير مفهوم منه المراد الشرعي. والصحيح أنه إذا كان ذلك بعدما تقررت الزيادة الشرعية [أو المغيرة أنه ينصرف إليها لكونه هو أصل الوضع مع الزيادة] (3) فصرفه إلى زيادة أخرى يخالف الأصل (4) . فصل في حد البيان قال [شيخنا] : قال القاضي: هو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب مفصلا مما يلتبس به ويشتبه به.   (1) ما بين المعقوفتين ساقط من بعض النسخ. (2) ما بين المعقوفتين ساقط من بعض النسخ. (3) ما بين المعقوفتين ساقط من بعض النسخ. (4) المسودة ص 177، 178 ف 2/16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وقال الصيرفي وأبو بكر عبد العزيز: هو إخراج الشيء من الإشكال إلى التجلي. وقال أبو الحسن التميمي: البيان عن الشيء يجري مجرى الدلالة، وبه قال قوم من المتكلمين. وقال الدقاق: البيان العلم (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [المبين] ذكر القاضي في بيان الجملة قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [7/4] ، قال: ثم بينه بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [11/4] وبحديث الجدة، وبالإجماع على أن للجدتين السدس، وللجد من الأب السدس (2) . [تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة] مسألة: تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فيه روايتان، إحداهما: الجواز، وهذا ظاهر كلامه في رواية صالح وعبد الله وأكثر أصحابه. ولا فرق بين بيان المجمل [أو العموم] وغيره مما أريد به خلاف ظاهره، واختاره بعض المالكية والحلواني وأبو الخطاب وابن حامد. قال شيخنا: ذكر القاضي في كتاب القولين أن قول ابن حامد في تأخير البيان ظاهر كلام أحمد في رواية أبي عبد الرحيم الجوزجاني: ومن تأول القرآن على ظاهره من غير دلالة من الرسول ولا أحد من الصحابة فهو تأويل أهل البدع؛ لأن الآية تكون عامة قصدت لشيء بعينه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعبر عنها. قال: فظاهر هذا منه وقف الحكم بها على   (1) المسودة ص 572 ف 2/17. (2) المسودة ص 171، 172 ف 2/16 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . والقاضي وهو قول الأشعرية (2) وأكثر الشافعية منه: ابن سريج، والقفال، والإصطخري، وابن أبي هريرة، والطبري، وأبو الطيب، وأبو علي بن خيزان؛ وإن لم يفصلوا وهو قول الأشعري أبي الحسن نفسه غير أن العام عنده من قبيل المجمل، لكونه لا صيغة له، وأبو سليمان الذي سماه أبو الطيب لا أدري أهو الصيرفي أو غيره. والرواية الأخرى: لا يجوز، حكى ذلك أبو الحسن التميمي عن أحمد، وهو للمقدسي في كتاب المجمل، واختاره أبو الحسن التميمي والمقدسي في كتاب المجمل واختاره أبو الحسن التميمي والمقدسي وأبو بكر عبد العزيز وأكثر المعتزلة وداود وابنه في أهل الظاهر وبعض المالكية، وبعض الشافعية منه: أبو إسحاق المروزي، وأبو بكر الصيرفي، وكثير من الحنفية. وقال بعض الحنفية وعبد الجبار بن أحمد وبعض الشافعية: يجوز تأخير بيان المجمل. فأما العموم وما يراد به خلاف ظاهره فلا. وهذا التفصيل -وهو جواز تأخير بيان المجمل دون العموم- ذكره أبو الطيب عن أبي الحسن الكرخي وعن القاضي ابن حامد (3) المروزي، قال: وهو قول أبي بكر من أصحابنا. وقال بعض الشافعية بالعكس، وهذا العكس قول أبي الحسن البصري. وقال قوم من المتكلمين: يجوز ذلك في الأخبار دون الأمر والنهي. وقال قوم عكس ذلك (4) . قال شيخنا: اختلف قول القاضي كسائر العلماء في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [44/16] فلما احتج بها الشافعي على أن الله جعل السنة بيانًا للقرآن فلا يجوز أن يكون القرآن   (1) ورواية الجوزجاني نقلها الشيخ في كتاب الإيمان ص 334ط. دمشق. (2) في نسخة الأشعري. (3) نسخة أبي حامد. (4) المسودة ص 178، 179 ف 2/16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 بيانًا للسنة. قال القاضي: المراد به التبليغ ويبين صحة ذلك أنه يجوز تخصيص السنة بالقرآن وكذلك يجوز تفسير مجمل السنة به. واحتج على تأخير البيان بقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [19/75] فقيل له: معناه: ثم إن علينا إظهاره وإعلانه؛ لأنه اشترط ذلك في جميع القرآن، وقال: حقيقة البيان هو إظهار الشيء من الخفاء إلى حالة التجلي والإظهار، وهذا إنما يكون فيما يفتقر إلى بيان فأما ما هو مبين فلا يوجد فيه. وقوله: «إنه اشترط ذلك في جميع القرآن» فلا يمتنع أن يكون المراد بعضه كما قال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} والمراد بعضه. قال شيخنا: قلت: هذا ضعيف؛ بخلاف تفسير ابن عباس، ولا دلالة في الآية على محل النزاع (1) . فصل [تابع] [شيخنا] : قولهم: «تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز» ونقل الإجماع على ذلك ينبغي أن يفهم على وجهه، فإن الحاجة قد تدعو إلى بيان الواجبات والمحرمات من العقائد والأعمال لكن قد يحصل التأخير للحاجة أيضا: إما من جهة المبلِّغ أو المبلغ. أما المبلِّغ فإنه لا يمكنه أن يخاطب الناس جميعا ابتداء، ولا يخاطبهم بجميع الواجبات جملة؛ بل يبلغ بحسب الطاقة والإمكان. وأما المبلغ فلا يمكنه سمع الخطاب وفهمه جميعا، بل على سبيل التدريج، وقد يقوم السبب الموجب لأمرين من اعتقادين أو عملين أو غير ذلك لكن يضيق الوقت عن بيانهما أو القيام بهما فيؤخر أحدهما للحاجة أيضا، ولا يمنع ذلك أن تكون الحاجة داعية إلى بيان الآخر. نعم هذه الحاجة لا يجب أن تستلزم حصول العقاب على الترك. ففي الحقيقة يقال: ما جاز تأخيره لم يجب فعله.   (1) المسودة ص 180، 181 ف 2/16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 على الفور (1) ، لكن هذا لا يمنع قيام الحاجة التي هي سبب الوجوب، لكن يمنع حصول الوجوب لوجود المزاحم الموجب للعجز، ويصير كالدين على المعسر أو [كالجمعة] على المعذور. وأيضا: فإنما يجب البيان على الوجه الذي يحصل المقصود فإذا كان في الإمهال والاستثناء من مصلحة البيان ما ليس في المبادرة كان ذلك هو البيان مأمور به، وكان هو الواجب أو هو المستحب مثل تأخير البيان للأعرابي المسيء في صلاته إلى ثالث مرة. وأيضا: فإنما يجب التعجيل إذا خيف الفوت بأن يترك الواجب المؤقت حتى يخرج وقته، ونحو ذلك (2) . قال شيخنا: قال القاضي: [المحكم والمتشابه] مسألة: في «المحكم والمتشابه» : ظاهر كلام أحمد أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. والمتشابه: ما احتاج إلى بيان؛ لأنه قد قال في كتاب «السنة» : بيان ما ضلت فيه الزنادقة من المتشابه من القرآن، ثم ذكر آيات تحتاج إلى بيان. وقال في رواية ابن إبراهيم: المحكم الذي ليس فيه اختلاف [وهو المستقل بنفسه] والمتشابه: الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا. ومعناه ما ذكرنا؛ لأن قوله: المحكم الذي ليس فيه اختلاف. هو المستقل بنفسه. وقوله: المتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا. معناه: الذي يحتاج إلى بيان؛ فتارة يبين بكذا، وتارة يبين بكذا، لحصول الاختلاف في تأويله، قال: وذلك نحو قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [228/2] لأن القرء من الأسماء المشتركة، تارة يعبر به عن الحيض، وتارة عن الطهر،   (1) نسخة تعلمه على الفور. (2) المسودة ص 181، 182 ف 2/16. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 ونحو قوله: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [141/6] وهذا قول عامة الفقهاء. وكان قد كتب في العتق: ولهم عن هذا عبارات: منهم من يقول: المحكم ما خلص لفظه عن الإشكال وعري معناه عن الاشتباه. والمتشابه ما لم يخلص لفظه عن الإشكال ولا عري معناه عن الاشتباه. ومنهم من قال المحكم ما تأويله تنزيله، ولفظه دليله. والمعني متقارب. وقال قوم: المحكم هو الأمر والنهي والحلال والحرام والوعد والوعيد، والمتشابه: ما كان من ذكر القصص والأمثال؛ لأن المحكم ما استفيد الحكم منه. والمتشابه ما لا يفيد حكمًا. ومنهم من قال: المحكم ما وصلت حروفه. والمتشابه ما فصلت حروفه. وتفصيلها: أن ينطق بكل حرف كالكلمة، كما في أوائل السور؛ لأن المحكم ما عرف معناه، والمتشابه ما لا يعقل معناه. ومنهم من قال: المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ فإن المنسوخ لا يستفاد منه حكم. قال شيخنا: قلت: لفظ «النسخ» فيه إجمال، كأنهم أرادوا قوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ} [52/22] ولكن القرآن كله محكم بهذا المعنى، لقوله: {أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ} [1/11] . وقال أبو الحسين عن أصحابه: إن المحكم يستعمل على وجهين؛ أحدهما: أنه محكم الصيغة والفصاحة. والآخر: أنه لا يحتمل تأويلين متشابهين. والمتشابه أيضا يستعمل على وجهين؛ أحدهما: أنه متشابه في الحكم، والآخر: يحتمل تأويلين مختلفين متشابهين احتمالا شديدا. قال شيخنا أبو العباس: قلت: التشابه الذي هو الاختلاف يعود إلى اللفظ تارة كالمشترك مثلا، وإلى المعنى أخرى بأن يكون قد أثبت تارة ونفي أخرى، كما في قوله: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [35/77] مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 قوله: {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [42/4] ونحو ذلك من المتشابه الذي تكلم عليه ابن عباس في مسائل نافع بن الأزرق وتكلم عليه أحمد وغيره؛ فالأول: كالوقف لعدم الدليل بمنزلة من ليس له ذكر ولا قيل. والثاني: كالوقف لتعارض الدليلين بمنزلة الخنثى الذي له فرجان. وما كان لعدم الدليل فتارة لأن اللفظ يراد به هذا تارة وهذا تارة كالمشترك. وتارة لأن اللفظ لا دلالة له على القدر المميز بحال، كالمتواطئ في مثل قوله: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [141/6] ، وقوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [196/2] ونحو ذلك من المجملات؛ ففي الأول: دل اللفظ على أحدهما لا بعينه وفي الثاني: دل على المشترك بينهما من غير دلالة على أحدهما بحال. [التأويل في الكتاب والسنة غير التأويل عند المتأخرين] وفي كلام أحمد ومن قبله على المتشابه ببيان معناه أو إزالة التعارض والاختلاف عنه ما يدل على أن التأويل الذي اختص الله به غير بيان المعنى الذي أفهمه خلقه. فما كان مشتبهًا لتنافي الخاطبين أو الدليلين في الظاهر فلا بد من التوفيق بينهما كما فعل أحمد وغيره. وما كان مشتبها لعدم الدلالة (1) على التعيين فقد نعلم التعيين أيضا لأنه مراد بالخطاب، وما أريد بالخطاب يجوز فهمه، وما كان مشتبها لعدم الدلالة على القدر المميز كما في صفات الله تعالى فهنا دال القدر المميز ما دل الخطاب عليه، وهو تأويل الخطاب؛ لأن تأويل الخطاب لا يجب أن يكون مدلولا عليه به ولا مفهوما منه، إذ هو الحقيقة الخارجة، ومتى دل عليها ببعض أحوالها لا يجب أن يكون قد بين جميع أحوالها، فذاك هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله؛ ومنه أيضا مواقيت الوعيد؛ فإن الخطاب لم يبينها ولم يفهم منه، وهي من التأويل الذي انفرد الله بعلمه. فتدبر هذا فإنه نافع جدا في هذه المجازات. فكل ما دل عليه الخطاب يفهم   (1) نسخة لعدم الدليل على التعيين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 في الجملة، ولا يجب أن يكون المفهوم من الخطاب هو تأويله. وما لم يدل عليه قد لا يفهم في الجملة، ولا يجب أن يكون المفهوم من الخطاب هو تأويله. وما لم يدل عليه قد لا يفهم ولا يعلم وإن كان تأويلا له. وفرق بين أن يدل على معين ثم يبينه وبين ألا يدل على خصوصه بحال. مع أن المشترك والمتواطئ متقاربان في هذا الموضع. وعلى هذا سبب نزول الآية في تأويل النصارى صيغ الجمع على أن الآلهة ثلاثة، فهو تأويل في أسماء الله المضمرات، وهو نظير مذهب المشبهة، كما أن رد المشركين لاسم الرحمن إلحاد في أسمائه الظاهرة نظير مذهب الجهمية المعطلة، وتأويل اليهود في حروف المعجم أنها دالة على مقادير أزمنة الحوادث من حيث إن اللفظ فيه اشتراك ولم يبين أحد معانيه. والتأويل المذموم لا يعدو ما فعله هؤلاء في الإيمان بالله واليوم الآخر، بخلاف التأويل العملي، وبخلاف البيان الذي يفسر المراد بالخطاب من غير تعيين تأويله. وتحرير هذا ببيان أن لفظ التأويل في الكتاب والسنة غير التأويل في ألفاظ المتأخرين، وأن بينهما عموما وخصوصا، إذ ذاك التأويل هو ما لا يدل عليه اللفظ. وهذا التأويل هو ما يدل اللفظ على خلافه. والتأويل عند الأولين غير مدلول اللفظ والعين لا تعلم بنفس الخطاب. وقد كتبت هذا في غير هذا الموضع (1) . فصل [الأمر المطلق وأمر الندب] التحقيق في مسألة أمر الندب - مع قولنا: «إن الأمر المطلق يفيد الإيجاب» - أن يقال: الأمر المطلق لا يكون إلا إيجابا وأما المندوب إليه فهو مأمور به أمرا مقيدا لا مطلقا، فيدخل في مطلق الأمر، لا في   (1) المسودة ص 161-164، 573 ف 2/17 فيها زيادات وإيضاحات وجـ1/236. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 الأمر المطلق. يبقى أن يقال: فهل يكون حقيقة أو مجازا؟ فهذا بحث [اصطلاحي] . وقد أجاب عنه أبو محمد البغدادي بأنه مشكك كالوجود والبياض. وأجاب القاضي بأن الندب يقتضي الوجوب فهو كدلالة العلم على بعضه، وهو عنده ليس مجازا، وإنما المجاز دلالته على غيره. قال شيخنا رضي الله عنه: قلت: الندب الذي هو [الطلب] غير الجازم [جزء من] الطلب [الجازم] فتكون [فيه الأقوال الثلاثة التي هي في العام] يفرق في الثالثة بين القرينة اللفظية المتصلة، كقولك: من فعل فقد أحسن وبين غيرها (1) . فصل قال القاضي: كون الفعل حسنا ومرادا يدل على الوجوب ما لم يدل دليل على التخيير، وفي النوافل والمباحات قد ذكر الدليل؛ فلهذا لم يقتض الوجوب. قال: وجواب آخر: أنا لا نسلم أن الأمر يدل على حسن المأمور به وإنما يدل على طلب الفعل واستدعائه من الوجه الذي بينا، وذلك يقتضي الوجوب، وهذا هو الجواب المعول عليه. قال شيخنا: قلت: فيه فائدتان، إحداهما: نفي الأول. والثانية: قوله: «يدل على الطلب والاستدعاء» فجعله مدلول الأمر لا غير الأمر (2) . [الأمر دال على اللفظ والمعنى وله صيغة] مسألة: في أن للأمر صيغة [حقق الجويني] صحة هذه العبارة على   (1) المسودة ص 7 ف 2/17. (2) المسودة ص 8 ف 2/17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 كلا المذهبين: مذهب مثبتي كلام [النفس] ومذهب نفاته. فقولنا: صيغة الأمر. عند من أثبته، فمعناه أن لهذا المعنى صيغة عبارة تشعر به. وأما من نفاه فقولهم: «صيغة الأمر» كقولك ذات الشيء ونفسه، وآيات القرآن، وأن الأشعرية القائلين بالوقف اختلفوا في تنزيل مذهبه؛ فمنهم من قال: الصيغة مشتركة وضعا. ومنهم من قال: المعنى بالوقف أنا لا ندري على أي وضع جرى قول القائل: «افعل» في اللسان فهو إذا مشكوك فيه. ومنه ابن عقيل أن يقال للأمر والنهي صيغة، أو أن يقال: هي دالة عليه، بل الصيغة نفسها هي الأمر والنهي، والشيء لا يدل على نفسه. قال: وإنما يصح هذا على قول المعتزلة الذي يقولون: الأمر والنهي والإرادة والكراهة، والأشاعرة الذين يقولون: هما معنى قائم بالنفس، والصيغة دالة على المعنى وحكاه عنه (1) . وأما أصحابنا فإني تأملت المذهب فإذا به يحكم بأن الصيغتين أمر ونهي، قال: فقول شيخنا: الصيغة دالة بنفسها على الأمر والنهي اتباع لقول المتكلمين، وإلا فليس لنا أمر ونهي غير الصيغة؛ بل ذلك قول وصيغة، والشيء لا يدل على نفسه. قال شيخنا أبو العباس حفيد المصنف: قلت: قول القاضي وموافقيه صحيح من وجهين؛ أحدهما: أن الأمر مجموع اللفظ والمعنى، فاللفظ دال على التركيب وليس هو عين المدلول. الثاني: أن اللفظ دال على صيغته التي هي الأمر به، كما يقال: يدل على كونه أمرا، ولم يقل: على الأمر (2) .   (1) قلت: لعله: وحكاية عنه. (2) المسودة ص 8، 9 ف 2/17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 [الفعل في حال حدوثه مأمور به] مسألة: الفعل في حال حدوثه مأمور به. قال ابن برهان: هذا مذهبنا، خلافا للمعتزلة ليس مأمورا به. قال: والخلاف لفظي، وبسط الكلام في ذلك، وكذلك بسط الجويني قوله في ذلك وفيه الإنكار على الفريقين خصوصا أصحابه بكلام محقق. قال شيخنا -بعد «خلافا للمعتزلة ليس مأمورا به» -: وهذا مقتضى قول ابن عقيل في مسألة الأمر بالموجوده فإنه التزم أن المؤمن ليس مأمورا بالإيمان عند وجوده، وأنه لا يصح منه فعل ما هو موجود، كالقيام لا يصح أن يفعله [القائم] لاستغنائه بوجوده عن موجود، والمؤمن لا يفعل الإيمان إلا في مستقبل الحال، وهنا خلاف المذهب (1) . [الأسماء التي ليس بين معانيها قدر مشترك ... ] قال ابن القيم رحمه الله: وحكى المتأخرون عن الشافعي رحمه الله والقاضي أبي بكر أنه إذا تجرد عن القرائن وجب حمله على معنييه كالاسم العام، لأنه أحوط إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر، ولا سبيل إلى معنى ثالث، وتعطيله غير ممكن، ويمتنع تأخير البيان عن وقت الحاجة فإذا جاء وقت العمل ولم يتبين أن أحدهما هو المقصود بعينه علم أن الحقيقة غير مرادة، إذ لو أريدت لبينت فتعين المجاز، وهو مجموع المعنيين. ومن يقول: إن الحمل عليهما بالحقيقة يقول: لما لم يتبين أن المراد أحدهما على أنه أراد كليهما. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في هذه الحكاية عن الشافعي والقاضي نظر. وأما القاضي فمن أصله الوقوف في صيغ العموم، وأنه لا يجوز حملها على الاستغراق إلا بدليل. فمن يقف في ألفاظ العموم كيف يجزم في الألفاظ المشتركة بالاستغراق بغير دليل؛ وإنما الذي ذكره في   (1) المسودة ص 70 ف 2/17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 كتبه إحالة الاشتراك رأسا، وما يدعي فيه الاشتراك فهو عنده من قبيل التواطؤ. وأما الشافعي رحمه الله فمنصبه في العلم أجل من أن يقول مثل هذا؛ وإنما استنبط هذا من قوله: إذا أوصى لمواليه تناول المولى من فوق ومن أسفل. وهذا قد يكون قاله لاعتقاده أن المولى من الأسماء المتواطئة، وأن موضعه القدر المشترك بينهما؛ فإنه من الأسماء المتضايقة، كقوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» ولا يلزم من هذا أن يحكى عنه قاعدة عامة في الأسماء التي ليس من معانيها قدر مشترك أن تحمل عند الإطلاق على جميع معانيها (1) . فصل [هل التخصيص أولى من المجاز] [شيخنا] : قال المخالف: لفظ الجمع موضوع للثلاثة فصاعدا، فإخراج اللفظ عن الثلاثة إخراج عن موضوع وترك لحقيقته، وهذا لا يجوز إلا بما يجوز به النسخ. فقال القاضي: والجواب أنه يجوز عندنا ترك حقيقة اللفظ وصرفه إلى المجاز والاتساع بما يجوز التخصيص به ولا يكون بمنزلة النسخ وإنما يكون بمنزلة التخصيص، ولهذا نقول في قوله: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [43/4] ، أن المراد به موضع الصلاة، ونحمله عليه بضرب من الاستدلال. قال شيخنا: قلت: هو وأبو الخطاب وغيرهما يجعلون التخصيص أولى من المجاز، وهذا لأن التخصيص ترك بعض اللفظ؛ بخلاف التجوز فإنه عدول عن جميع مسماه؛ ولهذا نصر القاضي أن التخصيص   (1) زاد المعاد جـ 4/184 ف 2/18، 329. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 لا يجعله مجازًا. وأيضا فظاهر اللفظ قد يكون حقيقة وقد يكون مجازا وأما على قول من يجعل ظهوره بالقرائن المتصلة فذاك أوسع. والله أعلم (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الاستثناء] الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله لغة، قاله أصحابنا والأكثرون. وقال قوم: يخرج ما لولاه لجاز دخوله (2) . فصل [شيخنا] : قال القاضي: الاستثناء كلام ذو صيغ محصورة يدل على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول، ولا يلزم عليه القول المتصل بلفظ العموم، نحو قوله: رأيت المؤمنين وما رأيت زيدا ولم أر عمرا أو خالدا، لقولنا: كلامه ذو صيغ محصورة، وحروف الاستثناء محصورة، وليس الواو منها (3) . فصل [شيخنا] : يجوز تقديم الاستثناء على المستثنى منه (4) . فصل [شيخنا] : يجوز الاستثناء من الاستثناء (5) .   (1) المسودة ص 151 ف 2/19. (2) المسودة ص 160 ف 2/19. (3) المسودة ص 154 ف 2/19. (4) المسودة ص 154 ف 2/19. (5) المسودة ص 154 ف 2/19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 [شيخنا] : ... ... ... فصل [ما هو الاستثناء في الآيتين؟] قوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [42/15] ، وقوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [40/15] أجاب القاضي عنه بجوابين: أحدهما: أنه استثناء من جميع الجنس، فيجوز أن يقال فيه: إنه يجوز إخراج الأكثر من الأقل. وأما استثناء الأكثر من الأعداد المحصورة فلا. والفرق ورود اللغة في أحدهما دون الآخر، ولأن حمل جميع الجنس على العموم إنما هو من طريق الظاهر، لا من جهة القطع على جميع الجنس، بخلاف الأعداد فإن جميعها منطوق به فصار صريحا. الجواب الثاني: أنه استثناء منقطع، أي لكن من اتبعك، كقوله: (إلا خطأ) وكقوله: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الاستثناء من النفي إثبات] قوله: «لا صلاة إلا بطهور» و «لا نكاح إلا بولي» ونحو ذلك لا تفيد ثبوت الصلاة والنكاح عند وجوب الطهور والولي. هذا هو المعروف عند الجماعة. واحتج القاضي في مسألة أن النكاح لا يفسد بفساد المهر بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» قال القاضي: فاقتضى الظاهر أنه إذا حضره الولي والشهود أنه صحيح، ولم يفرق بين أن يكون فيه مهر فاسد أو صحيح. وهذا دلالة ضعيفة؛ لكن قد يظن أنه يعكر على قولنا: إن الاستثناء من النفي إثبات (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الشرط المتعقب جملا] فأما الشرط المتعقب جملا فقد سلم الحنفية أنه يعود إلى جميعها، وكذلك ذكر أبو محمد في الروضة: أن الشرط والصفة سلم أكثر   (1) المسودة ص 155 ف 2/19. (2) المسودة ص 160 ف 2/19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 المخالفين أنهما يعودان إلى الجميع، ونقض عليهم بذلك، وكذلك القاضي، وذكر أن الشرط كقوله: «نساؤه طوالق، وعبيده أحرار، وماله صدقة إن شاء زيد» أو: «إن دخلت الدار» يعود إلى الجميع، وكذلك الاستثناء بمشيئة الله عند الحنفية. فأما الصفات وعطف البيان والتوكيد والبدل ونحو ذلك من الأسماء المخصصة فينبغي أن تكون بمنزلة الاستثناء. وأما الجار والمجرور مثل أن يقول: «على أنه» أو «بشرط أنه» ونحو ذلك فينبغي أن يتعلق بالجميع قولا واحدا؛ لأن هذه الأشياء متعلقة بالكلام لا بالاسم، فهي بمنزلة الشرط اللفظي؛ فإذا قال: «أكرم بين تميم وبين أسد وغطفان المجاهدين» أمكن أن يكون «المجاهدين» تماما لغطفان قط. فإذا قال: «بشرط أن يكونوا مؤمنين» أو: «على أن يكونوا مؤمنين» فإن هذا متعلق بالإكرام وهو متناول للجميع تناولا واحدا، بمنزلة قوله: «إن كانوا مؤمنين» فيجب أن يفرق بين ما يكون متعلقا بالاسم وما يكون متعلقا بالكلام، وهذا فرق بين محقق يجب اعتباره (1) . [شيخنا] : ... ... ... ... فصل [والاستثناء المتعقب اسما] كثير من الناس يدخل في هذه المسألة «الاستثناء المتعقب اسما» فيريدون بقولهم: «يعقب جملة» الجملة التي تقبل الاستثناء لا يريدون بها الجملة من الكلام، وهذا موضع يحتاج إلى الفرق؛ فإنه فرق بين أن يقال: «أكرم هؤلاء وهؤلاء إلا الفساق» ، أو يقال: «أكرم هؤلاء وأكرم هؤلاء إلا الفساق» (2) .   (1) المسودة ص 157 اختصار وزيادة إيضاح ف 2/19. (2) المسودة ص 157، 158 ف 2/19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 [شيخنا] : ... ... ... فصل [الاستثناء إذا تعقب جملا] موجب ما ذكره أصحابنا وغيرهم: أنه لا فرق بين العطف بالواو أو بالفاء أو بثم على عموم كلامهم، وقد ذكروا في قوله: «أنت طالق ثم طالق إن دخلت الدار» وجهين. وذكر أبو المعالي الجويني فرقا بين الحرف المرتب وغيره في الاستثناء والصفة في شروط الوقف وهو يفيد جدا. قال القاضي في مقدمة المجرد: والاستثناء إذا تعقب جملا وصلح أن يعود إلى كل واحدة منها لو انفرد فإنه يعود إلى جميعها فيرفعه وكذلك الشرط والمشيئة مثل آية القذف، نص عليه أحمد في طاعة الرسول. قال شيخنا أبو العباس: الوجه المذكور في الإقرار والطلاق فيما إذا قال: «أنت طالق اثنتين وواحدة إلا واحدة» هل نعيده إلى الجملة الأخيرة فيبطل أو إلى الجميع فيصح؟ فيه وجهان، فيخرج مثلهما هنا؛ إلا أن يقال هناك: لا يصح عوده إلى الأخيرة، لأن الاستثناء يرفع جميع الأخيرة ومثل هذا لا يكون عربيا فقد أتى باستثناء لا يصح عوده إلى الأخيرة. والقاضي قيد المسألة بأن يكون الاستثناء يصح عوده إلى كل واحدة منها لو انفرد، وذكر في حجتها: أن الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة؛ لأنه لا فرق بين أن يقول: «رأيت رجلا ورجلا» وبين أن يقول: «رأيت رجلين» قال: وهذا صحيح على مذهب أحمد، لقوله في غير المدخول بها: أنه إذا قال: «أنت طالق وطالق وطالق» وقع ثلاثا كالجملة الواحدة. قال: وعلى هذا الأصل إذا قال: «أنت طالق وطالق وطالق إلا طلقة» يقع عليه طلقتان؛ لأنه يكون قد استثنى واحدة من ثلاث. [هنا ثلاثة أقسام] قال شيخنا: في هذه المواضع لا يصح عود الاستثناء على كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 جملة؛ بل هنا لم يتعقب الاستثناء جملا بحال، فليست هذه المسألة محل النزاع، وإنما تقرير كلامه: أن الآحاد المتعاقبة بمنزلة الشيء الواحد، فكذلك الجمل. فهنا ثلاثة أقسام: عطف الأسماء الواحدة بعضها على بعض، وعطف الأسماء الشاملة بعضها على بعض، وعطف الكلام المركب بعضه على بعض. ومنع القاضي أن العموم يحصل إلا بوقوع الثلاث (1) على الكلام من غير استثناء وهذا جيد وكذلك جميع المتصل المخصص فإنه مانع لا رافع لكن غايته مذهب الواقفة (2) . فصل [ومن الإثبات فيه تفريق] الاستثناء من النفي ومن الإثبات نفي، عندنا وعند الجمهور وقالت الحنفية: ليس كذلك. وقيل: هو من الإثبات نفي، وأما من النفي فليس بإثبات. قال شيخنا: ينبغي أن يفرق بين قولنا: «ما رأيت أحدا إلا زيدا» وبين قولنا: «ما جاء القوم إلا زيد» ، وقولنا: «ما له عندي عشرة إلا واحد» فإنه قد قيل: إنه في مثل هذا يكون مقرًّا بواحد. وهذا عندي ليس بجيد وإنما مقصوده أنه ليس له عندي تسعة، وذلك أنه لو قصد الإثبات لكان قوله: «ما له عندي إلا واحد» هو كلام العرب؛ بخلاف استثناء من الصيغ العامة فيفرق بين العدد والعموم (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [بين الأخفش وابن عقيل] حكى الأخفش أن قول القائل: «ما جاءني غير زيد» لا يدل على مجيء زيد؛ بل يدل على نفي مجيء غيره. ذكره ابن عقيل في حجة التاركين للمفهوم، وقال: قول الأخفش لا يقابل قول أبي عبيد، لأن   (1) نسخة: إلا بوقوع السلب على الكلام. (2) المسودة ص 158، 159 ف 2/19. (3) المسودة ص 160 ف 2/19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 الأخفش نحوي ولم يكن من المبرزين في اللغة (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل ثم للترتيب مع المهملة والتراخي، ذكره ابن عقيل وكثيرون. وذكر ابن عقيل: أن الاستدلال أصحابنا على أن الإمساك لا يكون عودا في آية الظهار (2) . [شيخنا] ... ... ... فصل [معنى ثم] قال القاضي: «ثم» للفصل مع الترتيب، فإذا قال: «رأيت غلاما ثم فلانا» اقتضى أن يكون الثاني متأخرا عن الأول في الرؤية؛ ولهذا يحتج أصحابنا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أن ذلك للمهلة فيقتضي أن يكون العود العزم على الوطء (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [اختلاف كلام القاضي في الاستثناء] لا يصح الاستثناء من النكرات كما يصح من المعارف ذكره ابن عقيل محل وفاق، محتجًّا به على أن الاستثناء يخرج ما دخل لا ما صح دخوله. والقاضي ذكر في مسألة الاستثناء من غير الجنس: أن الاستثناء إخراج بعض ما يجب دخوله في اللفظ، وفي مسألة العموم أيضًا قرر ذلك، ورد على من قال: هو إخراج ما يصلح دخوله في اللفظ. ثم في مسألة الجمع المنكر احتج المخالف: بأنه لما لم يصح دخول الاستثناء عليه فيخرج بعضه ثبت أنه من ألفاظ العموم كالجمع المعرف. فأجاب القاضي: بأن الاستثناء يخرج البعض من البعض ويخرج البعض من كل فخرج البعض من الذي هو أقل الجمع.   (1) المسودة 160 ف 2/19. (2) المسودة 356 ف 2/19. (3) المسودة 564 ف/219، 476. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 قال شيخنا: وهذا نقص ما قدمه (1) . [شيخنا] : فصل كثير المنفعة، متعلق بالنسخ والعموم وغيرهما. [الحكم العام أو المطلق إذا ادعي اختصاصه] وهو أن الحكم العام أو المطلق، هل يجوز تعليله بما يوجب تخصيصه أو تقييده، سواء كان ثابتا بخطاب أو بفعل؟ هذا فيه أقسام: القسم الأول: ما كان عاما [للمكلفين] فيدعى تخصيصه بنفي التعليل، فمنه ما علم بالاضطرار عمومه فمخصصه [كافر] كمدعي تخصيص تحريم الخمر بمن قد سبقه، أو بغير الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وسقوط الصلاة عمن دام حضور قلبه، إلى غير ذلك من دعوى اختصاص بعض المنتسبين إلى العلم أو إلى العبادة بسقوط واجب أو فعل محرم، كما قد وقع لطوائف من المتكلمين والمتعبدين، وهذا كفر ومنه ما ليس كذلك لكن هو مثله. القسم الثاني: ما كان عاما في الأزمنة لفظًا أو حكمًا فيدعى اختصاصه بزمانه فقط. قال شيخنا: وقد كتبته في غير هذا الموضع. القسم الثالث: أن يدعى اختصاصه بحال من الأحوال الموجودة في زمان الشرع مما قد يجوز عودها. القسم الرابع: أن يدعى اختصاصه بمكان الشارع كدعوى اختصاص فرضه للأصناف الخمسة في صدقة الفطر بالمدينة لكونها قوتهم الغالب، وكذلك في الدية والمصراة وغير ذلك. وهذا من جنس الذي قبله، فإنه لا يوجب انقطاع الحكم، بل اختصاصه بحال دون حال (2) .   (1) المسودة ص 354، 355 ف 2/19. (2) المسودة ص 356 ف 2/19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 القسم الخامس: الأفعال التي فعلها في العبادات والعادات إذا ادعي اختصاصها بزمان أو مكان أو حال. فهذه أصول عظيمة مبناها على أصلين: أحدهما: صحة ذلك التعليل وأن الشارع إنما شرع لأجله فقط. الأصل الثاني: ثبوت الحكم مع عدم تلك العلة لعلة أخرى؛ إذ أكثر ما في هذا دعوى ارتفاع الحكم بما يعتقد أن لا علة غيره. وقد أجاب أصحابنا بمثل هذا في مسألة التحليل قائسين على الرمل والاضطباع. وزعم من خالفهم أن الأصل المقرر زوال الحكم لزوال علته، وإنما خولف في الرمل والاضطباع لدليل، وحديث ابن عمر في الرمل والاضطباع يخالف هذا، وإنما يزول الحكم بزوال علته في محاله وموارده. وأما زوال نفس الحكم الذي هو النسخ فلا يزول إلا بالشرع. وفرق بين ارتفاع المحل المحكوم فيه [مع بقاء الحكم وبين زوال نفس الحكم. ومن سلك هذا المسلك أزال ما شرعه الله برأيه وأثبت ما لم يشرعه الله برأيه] وهذا هو تبديل الشرائع (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في حد الخاص: [الخاص] وهو اللفظ الدال على واحد بعينه، بخلاف العام والمطلق ذكره الفخر إسماعيل في جُنَّته (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا علق الحكم على صفة في جنس دل على نفيه فيما عداها] إذا علق الحكم على صفة في جنس كقوله: «في سائمة الغنم   (1) المسودة ص 159 ف 2/19. (2) المسودة ص 571 ف 2/19. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 الزكاة» دل على نفيه عما عداها في ذلك الجنس دون بقية الحيوان، في قول بعض أصحابنا وبه قال بعض الشافعية. قال القاضي في مقدمة المجرد: وقوله: «في سائمة الغنم الزكاة» يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الغنم فحسب ولا يقتضي سقوط الزكاة عن معلوفة الحيوان كله. وفيه وجه آخر، قال القاضي: وهو ظاهر كلام أحمد أنه يدل على نفيه عما عدا السائمة في سائر الحيوان، وهو قول بعض الشافعية. هذا نقل الحلواني وحكى القاضي عن القائلين بمفهوم الاسم العلم هذين القولين، وقولا ثالثا نفيها -أعني الزكاة- عن سائر الأشياء غير المذكورة قال ابن عقيل: كذلك نقول: لو لم يرد نطق يخص الإبل والبقر، فبعد النص صار يعم سقوط الزكاة في غير السائمة من كل نوع. ومعنى القول الثاني أنها تجب في سائمة الأزواج الثمانية، دون معلوفاتها. وكذلك القاضي ذكرها في العدة على قولين، وردد الكلام في القول الثالث (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا علق بها خبر فرق بين] فإن علق بها خبرا مثل أن يقول: «زياد الطويل في الدار» فسلم القاضي في الكفاية أنه لا يدل على القصر بنفي ولا إثبات، وقد قال قبل هذا: إن تعليق الوجوب والأخبار بالألقاب يقتضي النفي. والتحقيق أن يفرق بين أسماء الأعلام والأجناس (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الصفة قسمان] الصفة قسمان: عارضة كالغنى والثيوبة والامتلاء، وهو الذي جعله أبو محمد مفهوم الصفة، ولازمه كالطعام، وفيها خلاف (3) .   (1) المسودة ص 358 ف 2/20. (2) المسودة ص 361 ف 2/20. (3) المسودة ص 353 ف 2/20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 [المفهوم] المفهوم لا عموم له عند المصنف ... والشيخ تقي الدين وغيرهم من الأصوليين، وأنه يكفي فيه صورة واحدة، كما هو مذكور في أصول الفقه (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في فحوى الخطاب [فحوى الخطاب] منه: ما يكون المتكلم قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى، كآية البر، فهذا معلوم أنه قصد المتكلم بهذا الخطاب، وليس قياسا وجعله قياسا غلط فإنه هو المراد بهذا الخطاب. ومنه: ما لم يكن قصد المتكلم إلا القسم الأدنى؛ لكن يعلم أنه يثبت مثل ذلك الحكم في الأعلى. وهذا ينقسم إلى مقطوع، ومظنون. ومثالهما ما احتج به أحمد رضي الله عنه وقد سئل عن رهن المصحف عند أهل الذمة، فقال: لا «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو» . فهذا قاطع؛ لأنه إذا نهى عما قد يكون وسيلة إلى نيلهم إياه فهو عن إنالتهم إياه أنهى وأنهى. واحتج أن لا شفقة لذمي بقوله: «إذا لقيتموهم في طريق فألجئوهم إلى أضيقه» فإذا كان ليس لهم في الطريق حق فالشفعة أحرى ألا يكون لهم فيها حق، وهذا مظنون (2) .   (1) الإنصاف 1/73 ف 2/20، 22. (2) المسودة ص 347 ف 2/20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 القياس [شيخنا] : ... ... فصل الكلام في «القياس» : في صحته، ودلالته، ثم في وجوب اتباعه، واعتقاد مدلوله: فإن الكلام في كون الشيء يفيد الاعتقاد علما أو ظنا غير الكلام في الاستدلال به واعتقاد موجبه. ثم أن يقال: كلاها ثبت بالشرع فقط، أو بالعقل أيضا، أو أحدهما بأحدهما. فالأول قول ابن عقيل: إن صحته ووجوب العمل به إنما ثبت بالشرع فقط. وهذا قول المعممة في التصويب، إذ ليس للأدلة عندهم صفة تدل بها في الظنيات. والثاني -وهو أ، يقال: كلاهما ثبت بالعقل- فهذا قد يقوله من يقول بالإيجاب العقلي. وأما الثالث -وهو أن صحته ودلالته قد تعلم بالعقل ثم تعلم بالسمع أو ما ظهر به وجب اتباعه- فهذا أشبه بقول أكثر أصحابنا الذين يجعلون المصيب واحدا، ولا إيجاب إلا بالشرع، فإنا نعلم بعقولنا أن النظر في علة الأصل وما دل عليها يغلب على الظن أن الفرع عند الشارع بمنزلتها، بل بعض الأحيان يكون الظني اضطراريا، كما يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 العلم اضطراريا. ثم نعلم بالسمع أن مثل هذا يعتقد به الحكم، كما أن ظهور صدق العدل المخبر والشاهدين يعلم بالعقل. ثم كون هذا التصديق موجبًا للعمل يعلم بالسمع؛ فإن العقل قد يعرف الأدلة، ويعلم بالنظر فيها حصول اعتقاده، كما قيل في معرفة الله تعالى؛ ثم وجوب النظر والاعتقاد سمعي. ثم قد يقال هنا: قد دلت الأدلة الشرعية العامة أن ما ظهر من أحكام الله ورسوله وجب اتباعه عموما؛ فإنه إذا استفدنا بالنظر فيها اعتقادا قويا أن هذا حكم الله من غير معارض مقاوم فقد علم بالأدلة السمعية وجوب اتباع مثل ذلك. وعلى هذا فالقول في القياس الشرعي كالقول في القياس العقلي، وحصول الاعتقاد به لا يتوقف على ما يدل من جهة الشرع على صحة القياس. وأما وجوب النظر فيه أو الاعتقاد به فبالشرع. وعلى قول ابن عقيل فالعلل الشرعية أمارات مجعولة لمن يقيس الحكم لصفة هو عليها، وقد صرح بذلك في غير موضوع. وأما على القول الأول فإنها لصفات هي عليها. قال القاضي في كتاب القولين: القياس الشرعي قد نص أحمد في مواضع على أنه حجة تعلق الأحكام عليه، فقال في رواية محمد بن الحكم: لا يستغني أحد عن القياس، وعلى الإمام والحاكم يرد عليه الأمر أن يجمع له الناس ويقيس. وكذلك نقل الحسين بن حسان: القياس: هو أن يقيس على أصل إذا كان مثله في كل أحواله. وكذلك نقل أحمد بن القاسم: لا يجوز بيع الحديد والرصاص متفاضلاً قياسًا على الذهب والفضة. قال: وحكى شيخنا أبو عبد الله أن من أصحابنا من قال: ليس بحجة قال: لأن أحمد قال في رواية الميموني: يجتنب المتكلم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 الفقه هاتين الخصلتين المجمل والقياس، وكذلك نقل أبو الحارث عنه وقد ذكر أهل الرأي وردهم للحديث، فقال: ما تصنع بالرأي والقياس وفي الأثر ما يغنيك عنه؟ وهذا لا يدل على أنه ليس بحجة وإنما يدل على أنه لا يجوز استعماله مع النص ولا يعارض الأخبار إذا كانت خاصة أو منصوصة وليس هذا بمذهب فيشتغل بتوجيهه (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [تابع] اتباع القياس وجب بالشرع عند القائلين به. وهل يجب بالعقل؟ قال أبو الخطاب: ثبت بالعقل أيضا، وبالنقل. قال ابن عقيل: واختلف المحيلون لورود التعبد به من جهة العقل، في وجه إحالة ذلك وعلته. فقال بعضهم: إنما استحال ذلك لأنه لا يمكن معرفة الأحكام من جهته لأنها مبنية على المصالح التي لا تدرك به ولا بأمارة مؤدية إلى غلبة الظن. وقال بعضهم: لأن في القول به ما يقتضي وجوب الحكم بالمضاد الممتنع. وقال بعضهم: لأنه اقتصار على أدنى البيانين مع القدرة على أعلاهما وهو النص، وذلك محال في صفته وحكمته (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الأصل في القياس] قال أبو الخطاب: هل الأصل في القياس الشرعي النص أو حكم النص؟ وأيهما يقع الإسناد إليه؟ اختلف أهل الأصول في ذلك، فقال قوم: الأصل النص والنطق. وقال قوم: الحكم قال ابن عقيل: والذي أختاره أن الأقرب هو المستند، والأصل: هو حكم النص وعلته (3) .   (1) المسودة ص 371-373 ف 2/20. (2) المسودة ص 369 ف 2/20 قلت: وهذا الفصل والفصلان بعده مقدمان على الفصل الأول. (3) المسودة ص 370 ف 2/20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 [شيخنا] : ... ... ... فصل [من نزلت به حادثة وضاق عليه الوقت ... ] قال أبو الخطاب: من نزلت به حادثة، وكان فيها قاضيا أو مفتيا أو مجتهدا لنفسه، وضاق عليه الوقت، وجب عليه أن يقيس وينظر. وإذا لم يضق عليه الوقت استحب له ذلك، والواجب والمستحب من الدين (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [المتردد بين أصلين] قال القاضي: المتردد بين الأصلين يجب إلحاقه بأحد الأصلين وهو أشبههما به وأقربهما إليه، وإلحاق الوارث بالإقرار أشبه، لأنه لا يشترط فيه العدالة ولا يشترط له لفظ الشهادة، ولا مجلس الحكم، قاله جوابا للحنفية لما قالوا: إنه يشبه الشهادة من حيث حمل النسب على الأب، ويشبه الإقرار من حيث ثبتت المشاركة فيما في يده، فأعطيناه حكم الأصلين، فاشترطنا فيه العدد كالشهادة، ولم نشترط فيه الحرية كالإقرار (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [قياس علة الشبه] قلت: من قال: «قياس علة الشبه كما فسره القاضي حجة» فلا كلام؛ لكن يرد عليه التسوية بين الشيئين في الحكم مع العلم بافتراقهما في بعض الصفات المؤثرة، وإنما فعلوه لضرورة إلحاق الفرع بأحد الأصلين، فألحقوه بالأشبه به كما تفعل القافة بالولد. ومن قال: «ليس بحجة» فقد يحكم فيه بحكم ثالث مأخوذ من الأصلين وهو طريقة الشبهيين، فيعطيه بعض حكم هذا وبعض حكم هذا، كما فعله أحمد في ملك العبد، وكذلك مالك، وهذا كثير في مذهب مالك وأحمد،   (1) المسودة ص 370، 371 ف 2/20. (2) المسودة ص 375 ف 2/21. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 مثل تعلق الزكاة بالعين أو بالذمة، والوقف هل هو ملك لله تعالى أو للموقوف عليه، ونحو ذلك. وطريقة الشبهيين ينكرها كثير من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو مقتضى من يقول بغلبة الاشتباه ويعتبر للحادثة أصلا معينا، ومن لم يقل به فقد يقول بها. والأشبه أنه إن أمكن استعمال الشبهين وإلا ألحق بأشبههما به؛ فإن القائلين بالأشبه كالقاضي سلموا أن العلة لم توجد في الفرع وأنه حكم بغير قياس، بل بأنه أشبه بهذا الأصل من سائر الأصول كما أن في طريقة الشبهيين ليس أحدهما هو الأصل (1) . [شيخنا] : [العلة المناسبة والمطردة] مسألة: العلة المناسبة مقدمة على غير المناسبة، والمطردة مقدمة على المخصوصة إذا قبلت، وكذلك تقدم المنعكسة على غير المنعكسة هذا كلام إسماعيل ابن المني (2) . [شيخنا] [إذا قبلت القاصرة] مسألة: إذا قبلت القاصرة فهي أولى من المتعدية، أو بالعكس أو هما سواء؟ على ثلاثة أقوال. والتسوية اختيار إسماعيل. ومن قال بالثاني -وهو قول القاضي وأبي الخطاب- قال: إن الأكثر فروعا أولى، وعلى ذلك ينبني ترجيح ما قل أوصافها مع أن ذات الوصف قد تكون أكثر فروعا. وقد ذكر الفخر إسماعيل الرجحان في الأقيسة من وجوه كثيرة فلتنظر وكذلك ذكرها ابن عقيل في موضعين (3) .   (1) المسودة ص 375، 376 ف 2/21. (2) المسودة ص 378 ف 2/22. (3) المسودة ص 378 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 [شيخنا] : [إذا كانت أكثر أوصافا] مسألة: إذا كانت إحدى العلتين أكثر أوصافا فالقليلة الأوصاف أولى. وقال بعض الشافعية وإسماعيل: هما سواء. هذا نقل الحلواني وأبي الخطاب (1) . [شيخنا] [وإذا كانت إحداهما حسية أو إحداهما موجودة في الحال] مسألة: إذا كانت إحداهما حسية والأخرى حكمية، أو إحداهما إثباتا والأخرى نفيا فلا ترجيح بذلك. وقال بعض الجدليين: ترجح المثبتة الحسية. وقال القاضي وغيره: الثابتة أولى. قال أبو الخطاب وغيره: الحكمية أولى وقال (2) : المثبتة أولى، ولم يذكر فيه خلافا (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل ومنها: أن تكون إحداهما موجودة في الحال، وصفة أخرى مما يجوز وجوده في الثاني، كقولنا في ر هن المشاع: «عين يصح بيعها» هو راجح على قولهم: «قارن العقد معنى يوجب استحقاق رفع يده في الثاني» (4) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [وإذا كان أصلها أقوى] وترجح إحدى العلتين: بكون أصلها أقوى، مثل أن يكون أصلها مجمعا عليه والأخرى أصلها مختلف فيه (5) .   (1) المسودة ص 378 ف 2/22. (2) المسودة ص 379 ف 2/22. (3) لم يذكر القائل هنا. (4) المسودة ص 382 ف 2/22. (5) المسودة ص 382 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 [شيخنا] : ... ... ... فصل [وإذا كانت إحداهما ناقلة عن الأصل أو كان وصف إحداهما اسما] ومنها: أن تكون إحداهما ناقلة عن الأصل أو فيها احتياط والأخرى مبقية، فالأولى أولى، قاله أبو الخطاب، وقاسه على الخبرين، وبأن فيه زيادة حكم واحتياط وإفادة حكم شرعي. وقال بعضهم: هما سواء، وهذا كقياسين تعارضا في إيجاب الوضوء من الملامسة (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل ومن الترجيحات: أن يكون وصف إحداهما اسما ووصف الأخرى صفة. فالصفة أولى؛ لأنها مجمع عليها، هذا قول أبي الخطاب (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [العلة المنصوصة تكون تارة] العلة المنصوصة تارة تكون علة لمورد النص وغيره، وتارة تكون خاصة. وقد ذكر ابن عقيل أمثلة العامة التي توجب الحكم في غير المحل المنصوص قبل الأمر بالقياس أن يقول: حرمت السكر لحلاوته؛ فإنه مثل أن يقول حرمته لأنه حلو. وهذا فيه نظر؛ فإن هذا مثل قوله: حرمته للحلاوة التي فيه، وهذا اللفظ يظهر فيه التعليل بالحلاوة المخصوصة، لا بمطلق الحلاوة؛ بخلاف قوله: لأنه حلو، أو لأنه من الحلو (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [العلة المستنبطة لا بد لها من دليل ... ] والعلة المستنبطة لابد من دليل يدل على صحتها وذلك الدليل هو كونها مؤثرة في الحكم، وسلامتها على الأصول من نقض أو معارضة، ويحوز أن يجعل وصف العلة الدال على الحكم وصفا نافيا.   (1) المسودة ص 384 ف 2/22. (2) المسودة ص 285 ف 2/22. (3) المسودة ص 386 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 ويحوز أن يجعل وصفا مثبتا، سواء في ذلك الأوصاف الذاتية والحكمية كما في قوله: «إنها ليست بنجس» تعليلا لطهارة الماء (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [هل الأصول كلها معللة] الأصول التي ثبت حكمها بنص أو إجماع ذكر أبو الخطاب أنها كلها معللة وإنما تخفى علينا العلة في النادر منها. ولفظ القاضي: الأصل هو تعليل الأصول، وإنما ترك تعليلها نادرا، فصار الأصل هو العام الظاهر دون غيره ومن الناس من قال الأصول منقسمة إلى معلل وغير معلل (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [قول القاضي في الدال على صحة العلة المستنبطة يخرج على وجهين] ثم قال بعد هذا (3) : مسألة في العلة المستنبطة كعلة الربا ونحوها، الشيء الدال على صحتها يخرج على وجهين: أحدهما: أن يوجد الحكم بوجودها ويزول بزوالها، وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية أحمد بن الحسين بن حسان، فقال: القياس: أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، وأقبل له وأدبر، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فهذا خطأ. قال أبو بكر: يعني في كل أحواله في نفس الحكم، لا في عينه؛ لأنه لابد من المخالفة بينهما. والوجه الثاني: يفتقر إلى شيئين: دلالة عليها ودلالة على صحتها،   (1) المسودة ص 386 ف 2/22. (2) المسودة ص 398 ف 2/22. (3) كأنه يشير إلى قوله القاضي: والعلة المستنبطة لابد من دليل يدل على صحتها إلخ وتقدمت انظر ص 401 من المسودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وهو أن يكون الوصف مؤثرا في الحكم المعلل، فإذا عرف افتقر إلى سلامته على الأصول، وهو أن يسلم من نقض أو معارضة. فإن عارضها قياس مثلها أو أقوى منها وقفت ولم تكن علة. وجه الأول أن العلل يستمر هذا الأصل فيها بدلالة المعنى، الموجب لكون المحل اسود وجود السواد، فالشرعية أولى أن يجوز هذا فيها، وقد اتفقت الأمة على أن زنى المحصن هو المعنى الموجب للرجم، لما كان الرجم يجب بوجوده ويعدم بعدمه. قال: ووجه الثاني في أن وجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها لا يدل على صحتها أننا قد جعلنا علة تحريم الخمر وجود الشدة فيه، لوجود الحكم بوجودها وعدمه بعدمها، فصارت هذه العلة هي العلة الموجبة لتكفير المستحل للخمر، وإن كانت الشدة توجد في النبيذ ولا يوجد تكفير مستحلة. والدلالة على أن صحتها تأثير الوصف وسلامتها هو أننا وجدنا أن التي لها أوصاف مكيل ومطعوم ومقتات ومزروع وموزون، وله مثل وأجمعنا أن العلة هو الوصف المؤثر في الحكم دون غيره (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الخلاف في العلة المستنبطة هل يقاس عليها؟] ذكر القاضي في كتاب الروايتين والوجهين اختلافا في المذهب في صحة العلة المستنبطة فقال: إذا ثبت معنى الحكم مقطوعا عليه بنص كتاب أو سنة أو إجماع رد غيره إليه إذا كان معناه فيه، وهذا لا إشكال فيه. فأما إن كان معنى الأصل عرف بالاستنباط مثل علة الربا [في الزائد] بكيل أو مطعوم فهل يجب رد غيره إليه، أم لا؟ فقال شيخنا أبو عبد الله: لا يجب رد غيره إليه، فعلى قوله يكون القول ببعض القياس دون بعض، وقد أومأ أحمد إليه في رواية مهنا، وقد سأله: هل نقيس بالرأي؟ فقال: لا، وهو أن يسمع الرجل الحديث فيقيس عليه، قال:   (1) المسودة ص 403 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 معنى قوله: «لا يقيس بالرأي» يعني ما ثبت أصله بالرأي لا نقيس عليه (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الفرع إذا قيس على أصل الوصف المؤثر المناسب والمؤثر غير المناسب، والمناسب غير المؤثر] تلخيص هذا الباب: أن الفرع إذا قيس على أصل فإما أن يعلم تأثير ذلك الوصف في الحكم الذي في الأصل بنص كتاب أو سنة أو إجماع أو غير ذلك. أما الأول: فلا خلاف فيه عند القياسيين، وإنما الخلاف هل هو دليل لغوي مفهوم من اللفظ أو موقوف على دليل خاص؟ وإن علم تأثير الوصف في حكم الأصل بالاستنباط، وكان الوصف مناسبا؛ فإما أن يعلم تأثيره في غير الأصل بنص أو إجماع، أو لا يعلم له تأثير في غير الأصل. فالأول: هو المناسب المؤثر والملائم. والثاني: هو الغريب ولأصحابنا في هذا الباب ثلاثة أقوال؛ أحدها: القول بالجميع كما قرره أبو محمد المقدسي وأبو محمد البغدادي. والثاني: نفي القول بالغريب، كما ذكره أبو الخطاب في موضع. الثالث: عدم بالجميع كما قاله ابن حامد. وعلى هذا يتبين لك أن أبا محمد والغزالي قبله يدخلان في قسم المستنبط المناسب المؤثر والمنصوص المناسب المؤثر، وهو غلط، فإن الأول فيه قياسان، وهذا فيه قياس واحد. وحقيقة الأمر: أن المثبت بالقياس إن كان هو الحكم فقط فهو المنصوص، وإن كان الحكم وعلة الأصل فهو المؤثر. وأما الغريب فإثبات بمجرد المناسبة غير المؤثر. وحقيقة الأمر في المؤثر: أنه قياس لهذا الوصف على ذلك   (1) المسودة ص 404 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الوصف في علته، فهو إثبات للعلة بالقياس. وعلى هذا فلا يشترط في المؤثر أن يكون مناسبا، وأبو محمد جعله من قسم المناسب. ونظير هذا تعليق الحكم بالوصف المشتق: هل يشترط فيه المناسبة؟ على وجهين، وكلام القاضي والعراقيين يقتضي أنهم لا يحتجون بالمناسب الغريب، ويحتجون بالمؤثر مناسبا كان أو غير مناسب، ولهم في الدوران خلاف، وجميع أدلتهم تقتضي هذا فصار المؤثر المناسب لم يخالف فيه إلا ابن حامد. وأما المؤثر غير المناسب أو المناسب غير المؤثر ففيهما ثلاثة أوجه. وقال ابن عقيل: الذي لا شبه له هو الذي يقول الفقهاء لا تأثير له. ويقول الخراسانيون: الإخالة له، فجعل المؤثر هو المحل (1) . فصل [عكس العلل وعدم التأثير] الحكم إذا ثبت بعلة يزول بزوالها فإن بقي مع زوالها من غير أن يخلفها علة أخرى كانت عديمة التأثير، فلا تكون علة، وأما إذا خلفها علة أخرى فإنها لا يبطل كونها علة. وهذا هو التحقيق في «مسألة عكس العلل، وعدم التأثير فيها» فإنه قد يظن أنا إذا جوزنا تعليل الحكم الواجب بالشرع بالنوع بعلتين لم تبطل العلة بعدم التأثير فيها، وهو انتفاء الحكم لانتفاء الوصف لجواز أن يخلفها علة أخرى؛ بل إذا كان الحكم ثابتا انتفى الوصف لثبوته مع ثبوته دل على أنه ليس بعلة. فالنقض وجود الوصف بلا حكم. فإن لم يكن التخلف لفوات شرط أو انتفاء مانع كان دليلا على أنه ليس بعلة، وعدم التأثير هو وجود الحكم بلا وصف. فإن لم يكن له علة أخرى كان دليلا على أن الوصف ليس بعلة.   (1) المسودة ص 407، 408 فيه زيادة ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 فإذا عللنا الملك بالبيع أو الإرث أو الاغتنام ونحو ذلك وقلنا في صورة قد عللنا الملك فيها بالبيع: هذا باطل فلا يحصل الملك كان كاملا صحيحا وإن علمنا أن الملك يثبت بإرث وغيره، لكن التقدير أنه لا يثبت له هنا غير البيع. وإذا قلنا: هذا يملك هذه السلعة لأنه اشتراها شراء شرعيا أو لأنه ورثها كان كاملا صحيحا ولا يلزم من ذلك أن يكون الملك منتفيا في كل موضع انتفى فيه البيع أو الإرث؛ لأن الملك له أسباب متعددة. وكذلك الطهارة إذا كان لها سببان فعلل الشارع طهارة بعض الأعيان بسبب كان ذلك كاملا صحيحا، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل موضع انتفى عنه هذا السبب أن يكون الملك منتفيا في كل موضع انتفى فيه البيع، ولا كان منه أن ما انتفى عنه هذا السبب يكون نجسا. فقوله في الهر: «إنها من الطوافين» دليل على أن الطواف سبب الطهارة فإذا انتفى ما هو سبب فيه زالت طهارته، وقد تثبت الطهارة لغيره وهو الحل كطهارة الصيد والأنعام فإنها طيبة من الطيبات التي أباحها الله تعالى فلا يحتاج إلى تعليل طهارتها بالطواف؛ فإن الطواف يدل على أن ذلك لدفع الحرج في نجاستها. وقوله: «الماء طهور لا ينجسه شيء» قد يقال فيه: أولا: قد يكون المقصود وصف الماء بكونه طهورا وبكونه لا ينجسه شيء، فيكون صفة بعد صفة، ليس المقصود جعل إحداهما علة للأخرى ووصفه بهاتين الصفتين يبين مفارقته للبدن والثوب ونحوهما من هذين الوجهين: من جهة أنه طهور، ومن جهة أنه لا ينجسه شيء. وإذا لم يعلل نفي النجاسة بكونه طهورا لم يوجب ذلك حصول النجاسة فيما ليس بطهور بمجرد الملاقاة فإذا أمكن أن تكون هذه علتان لجواز استقائه من البئر لم يجب أن يقال: إن إحداهما علة للأخرى؛ بل كان قوله: «لا ينجس» كقوله: «الماء لا ينجسه شيء» وهناك لم يعلل انتفاء النجاسة عنه بكونه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 طهورا فكذلك هنا لم يعلل انتفاء النجاسة عنه بكونه طهورا؛ بل هناك علل جواز استعمال سؤر عائشة بأن الماء لا يجنب وهنا علل وضوءه من بئر بضاعة بأن الماء لا ينجس، وزاد مع ذلك «أن الماء طهور» وهذا بين لمن تأمله؛ بل هو ظاهر الحديث. وبيان ذلك: أنه قد سمى التراب طهورا في نجاسة الحدث والخبث، فقال: «جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا» وقال في النعلين: «فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور» ومع هذا فإن التراب وغيره من أجزاء الأرض في النجاسة سواء لا فرق بين التراب وغيره، إذا ظهرت فيه النجاسة كان نجسا، وإذا زالت بالشمس ونحوها؛ فإما أن يقال: تزول مطلقا، أو لا تزول مطلقا، لم يفرق بين التراب والرمل وغيرهما من أجزاء الأرض كما فرق بينهما من فرق في طهارة الحدث؛ احتج من يقول بزوالها بحديث البخاري: «وكانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يرشون من ذلك شيئا» ، والمسجد كان فيه التراب وغيره. فإذا كان قوله: «فإن التراب لهما طهور» صريحا في التعليل ولم يخص التراب بذلك، فقوله في الماء: «إنه طهور لا ينجسه شيء» أولى أن يخص بذلك. لكن هل يقال: إن غير الماء يشاركه في وإزالة النجاسة كما يشارك التراب ما ليس بتراب؟ هذا فيه نزاع مشهور. وللعلماء في إزالة النجاسة بغير الماء ثلاثة أقوال: قيل: يجوز مطلقا، وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد. وقيل: لا يجوز مطلقا، كقول الشافعي، والظاهر عن أحمد. وقيل: يجوز عند الحاجة، وهو قول ثالث في مذهب أحمد، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 قيل ذلك على أحد الوجوه في طهارة فم الهر باللعاب، وكذلك أفواه الصبيان ونحوهم من القيء. فإن قيل: إن طهارة الماء من النجاسة يشاركه فيها غيره صار كالتراب. وإن قيل: لا يشاركه كان قوله: «الماء طهور لا ينجسه شيء» تعليلا لاستبقائه كما سبق. وبالجملة: فلم أعلم إلى ساعتي هذه لمن ينجس المائعات الكثيرة بوقوع النجاسة فيها إذا لم تتغير حجة يعتمد عليها المفتي فيما بينه وبين الله. فتحريم الحلال كتحليل الحرام. فمن كان عنده علم يرجع إليه أو يعتمد عليه فليتبع العلم، وإن لم يكن عنده إلا مجرد التقليد فالنزاع فيه مشهور، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [116/16] (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا أفسد أحد المتناظرين علة خصمه لم يكن .... ] فأما إذا أفسد أحد المتناظرين علة خصمه لم يكن دليلا على صحة علته إذا كان من الفقهاء من يعلل بغير علتيهما كمسألة الربا؛ إلا أن ذلك يكون طريقا في إبطال مذهب خصمه، وإلزامه تصحيح علته (2) . [تخصيص العلة المستنبطة وتخصيص المانع والمنصوصة] مسألة: لا يجوز تخصيص العلة المستنبطة، وتخصيصها نقض لها، نص عليه. واختلف فيه أصحابنا على وجهين، ذكرهما أبو إسحاق ابن شاقلا في شرح الخرقي، وذكرهما الخرزي وأبو حفص البرمكي، أحدهما: كالمنصوص اختاره القاضي وأبو الحسن بن الخرزي (3) وبه قال المالكية وأكثر الشافعية وجماعة من المتكلمين وبعض الحنفية وذكر   (1) مختصر الفتاوى المصرية ص 22-24 فيه زيادة حكم وإيضاح ف 2/21، 22. (2) المسودة ص 409 ف 2/22. (3) نسخة: وأبو الحسين الجزري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 القاضي كلام أحمد الدال على منع تخصيص العلة من قوله: القياس أن قياس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله - إلى آخره. قال شيخنا: وفيه نظر، فإنه ذكر هذا أنه إحدى الروايتين في مسألة قيسا الشبه، مع أن التخصيص لا يمنع أن يكون الفرع مثل الأصل في كل أحواله إذا جبر النقص بالفرق. ثم ذكر أن أبا إسحاق حكى فيها وجهين، قال: وقول أحمد: «القياس يقتضي ألا يجوز شراء أرض السواد لأنه لا يجوز بيعها» ليس بموجب لتخصيص العلة؛ لأن تخصيص العلة لا يمنع جريانها في حكم خاص. وما ذكره أحمد إنما هو اعتراض النص على قياس الأصول في الحكم العام، وقد يترك قياس الأصول للخبر .... [قال شيخنا] : تلخيص قول أبي الخطاب في تخصيص العلة: أنه لا يجوز تخصيصها إلا بدليل شرعي يدل على موضع التخصيص، وسواء كان المخصص نصا أو غير نص. وهذا يقتضي جواز تخصيصها وإن لم يبن في صورة التخصيص مانع يقتضي استثناء تلك الصورة من مواضع العلة، فهو يخصها بعموم الأدلة لا بخصوص العلل. وقال: إن مدعي العلة يحتاج إلى تبيين ما يدل عليها في الأصل ويبين أن الموضع الذي يخص دلت عليه دلالة صحيحة منعت من تعليقه على العلة. فأما إذا لم يبين ذلك ووجدت علته مع عدم حكمها فهي منتقضة فاسدة. وكلامه في المسألة يقتضي أنها تخص، لا أن العلة مانعة؛ لكن يكفي في صحتها وجود الحكم معها في الأغلب، كما يكفي في صحة الدليل وجود مدلوله في الأغلب وجعل عمدة قوله أن العلة أمارة والأمارة لا يجب وجود حكمها معها على كل حال، وإن كان ترك الدليل والعلة لا يجوز إلا لموجب. وهذا القول عندي خطأ، وهو قول من أبى تخصيص العلة، فأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 جواز تخصيص المانع فلا ينبغي أن يشك فيه، والخلاف فيه لفظي اصطلاحي، واختار أبو محمد أنه يجوز تخصيص المنصوصة بالدليل مطلقا كاللفظ. وأما المستنبطة فلا يجوز تخصيصها إلا لفوات شرط أو وجود مانع أو ما علم أنه مستثنى تعبدا، وهل على المستدل أن يحترز في الاصطلاح؟ أختار استحسان ذلك في الشرط دون المانع؛ لأن الشرط أمر وجودي. فيصير في هذا ثلاثة أقوال. واختيار أبي محمد البغدادي اشتراط الاطراد إلا في المنصوصة أو فيما استثني عن القواعد كالمصراة والعاقلة. [قال شيخنا] : الذي يظهر في تخصيص العلة أن تخصيصها يدل على فسادها، إلا أن يكون لعلة مانعة، فإنه إذا كان لعلة مانعة فهذا في الحقيقة ليس تخصيصا وإنما عدم المانع شرط في حكمها، فإن كان التخصيص بدليل ولم يظهر بين صورة التخصيص وبين غيره فرق مؤثر: فإن كانت العلة مستنبطة بطلت وكان قيام الدليل على انتفاء الحكم عنها دليلا على فسادها وإن كانت العلة منصوصة وجب العمل بمقتضى عمومها إلا في كل موضع يعلم أنه مستثنى بمعنى النص الآخر. وحاصله: أن التخصيص بغير علة مانع مبطل لكونها علة. وإذا تعارض نص الأصل المعلل ونص النقض وهو معلل فلا كلام. وإن لم يكن معللا بقي التردد في الفرع: هل هو في معنى الأصل أو هو في معنى النقض؟ وقد علم تبعه للأصل دون النقض. وتلخيصه: أن العلة لا تخص إلا لعلة (1) كما أن الدليل لا يخص إلا بدليل، فإن كانت مستنبطة فلابد من بيان العلة المخصصة، وإن كانت العلة منصوصة كفى بيان دليل مخصص، فهذا لمن تأمل حقيقة الأمر.   (1) نسخة: إلا بعلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وأخصر منه: أن العلة المستنبطة لا يجوز تخصيصها إلا لعلة مانعة، وأما المنصوصة فيجوز تخصيصها لعلة مانعة أو دليل مخصص، وهذا في الحقيقة قول المتقدمين الذي منعوا تخصيص العلة. وقال القاضي في كتاب القولين: هل يجوز تخصيص العلة الشرعية؟ وهو أن توجد العلة ولا حكم قال شيخنا أبو عبد الله: لا يجوز ومتى دخلها التخصيص لم تكن علة، وقد أومأ إليه أحمد في رواية الحسين بن حسان، فقال: القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فهذا خطأ. قال: ومن أصحابنا من قال: يجوز تخصيصها فيكون دلالة على الحكم في عين دون عين، قال: وهو المذهب الصحيح (1) ، ومسائل أصحابنا تدل عليه، قال في رواية بكر بن محمد في المذي: يغسل ... ذكره، كما جاء في الأثر، ولو كان القياس لكان يغسل موضع المذي وإنما هو الاتباع. قال: فقد بين أن القياس كان يقتضي غسل نفس الموضع ولكن ترك القياس في ذلك لدليل أولى منه، وهو حديث علي وإذا كان من مذهبه جواز ترك القياس لدليل أقوى منه جاز تخصيصه في موضع لدليل، وذكر نصه في رواية أبي طالب والمروذي: في أموال الكفار، وفي أرض السواد، لثقته في قول الصحابي. قال: ومن أصحابنا من منع تخصيص العلة، فقوله يفضي إلى ترك قول أحمد في المسائل التي ترك القياس فيها (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [متى تنتقض العلة] القائلون بتخصيص العلة بالنقض عندهم، إذا كان التخصيص   (1) نسخة: وهذا المذهب صحيح. (2) المسودة ص 412-415 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 بدليل. فأما المانعون من تخصيصها فالنقض مفسد للعلة عندهم. ثم تارة يكون التعليل لجنس الحكم فيكون كالحد. وتارة لعين الحكم: فإن كانت لإلحاق الحكم انتقضت بأعيان المسائل. وإن كانت التعليل لإثبات حكم مجمل لم ينتقض إلا بالنفي المجمل. وإن كان التعليل لنفي مجمل انتقض بإثبات مجمل، أو مفصل. وإن كان التعليل لإثبات مفصل انتقض بالنفي المجمل. وإن كان لنفي لم ينتقض بنفي مجمل (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا كان التعليل لكل نوع أو لمطلق النوع] إذا كان التعليل لجواز الحكم لم ينتقض بأعيان المسائل، كقولنا في مال الصبي: حر مسلم فجاز أن تجب الزكاة في ماله كالبالغ، فلا ينتقض بغير الزكوي. وإذا كان التعليل للنوع لم ينتقض بعين مسألة، كقولنا في لحم الإبل: نوع عبادة تفسد بالحدث فتفسد بالأكل كالصلاة، فلا ينتقض بالطواف فإنه يفسد بالحدث ولا يفسد بالأكل؛ لأن الطواف بعض النوع. وعندي في هذا نظر؛ لأن التعليل إن كان لكل نوع انتقض، وإن كان لمطلق النوع لم يلزم دخول الفرع فيه، بل يكفي الأصل وحده؛ إلا أن يقال: إن مقصوده إثبات الحكم في نوع آخر (2) . [جواز تعليل الحكم بعلتين] [شيخنا] : مسألة في جواز تعليل الحكم بعلل، ذكر ابن عقيل في مسألة تعليل الحكم بعلتين لما أورد عليه أنه لا يجتمع مؤثران على أثر واحد كقادرين وفاعلين فقال: وأما ما ذكرت من استقلالها بالحكم وأن ذلك يحيل مساعدة علة أخرى مستقلة بالحكم كالمقدور بين قادرين فما تنكر أن تكون عند انفرادها تستقل. ثم إذا انضم إليها غيرها صارتا   (1) المسودة ص 415، 416 ف 2/22. (2) المسودة ص 216 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 جميعًا في جلب الحكم كوصفين لعلة واحدة في التساعد، وهذا صحيح، فإنها مجعولة تكون علة في زمان دون زمان، وإذا كانت مجعولة لم يستبعد أن يقول: حرمت الاستمتاع بهذه المرأة الحائض لأجل الحيض والإحرام. والمقدور بين قادرين ليس هو بالجعل والوضع، بل من أحاله جعله ممتنعا لمعنى يعود إلى نفسه وذاته (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [تعليل الحكم العدمي أو الثبوتي بالعدم] أما تعليل الحكم العدمي بالعدم فذكر بعضهم أنه لا خلاف فيه، وكذلك ينبغي أن يكون، فإن الحكم ينتفي لانتفاء مقتضيه أكثر مما ينتفي لوجود منافيه. وأما تعليل الحكم الثبوتي به فالعلل ثلاثة أقسام: أحدها: المعرف وهو: ما يعتبر فيه أن يكون دليلا على الحكم فقط فهذا لا ريب أنه يكون عدما؛ فإن العدم يدل على الوجود كثيرا وعلى هذا فيجوز في قياس الدلالة والشبه أن يكون العدم علة. والثاني: الموجد فهذا لا يقول أحد إن العدم يوجد وجودا لكن قد اختلف: هل يكون شرطا للعلة أو جزءا منها؟ وهو مبني على العلة الكاملة والمقتضية. وحيث أضيف الأثر (2) إلى عدم أمر فلا يستلزمه وجود شيء؛ فإن الشيء إذا احتاج إلى أمر ولم يحصل فعدم حصول المحتاج إليه سبب لضرر المحتاج فيه. والثالث: الداعي، فهذا محل الاختلاف، وهي العلل الشرعية ونحوها. والصواب أن العدم المخصوص يجوز أن يكون داعيا إلى أمر وجودي، كما أن عدم فعل الواجبات داع إلى العقوبة؛ فإن عدم الإيمان   (1) المسودة ص 416 ف 2/22. (2) نسخة الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 سبب لعذاب عظيم. أما العدم المطلق فلا. ولا يقال مثل هذا في الوجود، فإن الوجود المطلق قد يكون داعيا وحينئذ فقد صح قول أصحابنا: إن العلة يصح في الجملة أن تكون وصفا عدميًّا؛ لأن هذا يصح في بعض المواضع. والمخالف إن لم يدع السلب العام فلا نزاع بيننا وإن ادعاه انتقض قوله ولو بصورة والمسألة متعلقة بشعب كثيرة وتحقيقها حسن. وقال ابن عقيل: وكل علة حادثة فهي تغير المعلول عما كان عليه، ولذلك قيل للدلالة التي في الفقه علة؛ لأنها تغير معنى الحكم عما كان عليه؛ لأنها أظهرته بعد أن لم يكن ظاهرا، ولذلك لم يجز أن يكون المعدوم الذي لم يوجد علة؛ لأنه لم يكن شيئا قبل وجوده فيطلق عليه التغيير بوجوده؛ بل وجوده هو هو على مذهب أهل السنة (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [عدم التأثير في قياس الدلالة] عدم التأثير في قياس الدلالة يجب أن لا يؤثر؛ لأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. ذكره أبو الخطاب في مسألة «عدالة الشهود» من الانتصار و «مسألة النكاح» بلفظ الهبة، وهو معنى قول طائفة من العلماء في الجواب عن عدم التأثير: إن هذا لتقريب الفرع من الأصل وتقوية شبهه به، فإن الوصف تارة يكون لتصحيح العلة. وتارة لتقريب الشبه، إلا أن هذا قد يكون في قياس العلة: بأن يكون للحكم علتان، فهنا مسألتان، والقاضي يعتبره كثيرا في مسائل التعليق: منها في مسألة إزالة النجاسة، لما قالت الحنفية: مائع طاهر مزيل للعين فجاز إزالة النجاسة به كالماء. فقال: قولكم: «مائع» لا تأثير له؛ لأن المائع والجامد سواء عندكم. وفي هذا أيضا اعتبار عدم التأثير على أصل   (1) المسودة ص 418، 419 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 المخالف. وقالوا أيضا في «مسألة النية» : طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية كالإزالة. فقال قوله: «بالماء» لا تأثير له في الأصل؛ إذ لا فرق بين أن تكون بالماء أو بالمائع أو الجامد. وقالوا في «مسألة التسمية» : سبب يتوصل به إلى الصلاة فأشبه ستر العورة فقال: لا تأثير لهذا عنده فإنا لا نتوصل إلى الصلاة بما لا ذكر فيه كالصوم والحج والزكاة (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [عدم التأثير في الحكم] عدم التأثير في الحكم مثل قولنا في مسألة تخليل الخمر: مائع لا يطهر بالكثرة فلا يطهر بالصنعة كالدهن واللبن. فيقول المخالف: قولك: «لا يطهر بالصنعة» لا أثر له في الأصل، فإنه لا يطهر بالصنعة ولا بغيرها. قال القاضي: التأثير يعتبر في العلة دون الحكم. وقولنا: فلم يطهر بالصنعة حكم العلة (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [سؤال عدم التأثير] سؤال عدم التأثير إذا كان في قياس العلة فهو مبني على تعليل الحكم بعلتين. فإن بين القائس أنه قد خلف العلة علة أخرى فالقياس صحيح بلا تردد. وإن كان الوصف الثاني عند عدمها موجودا في صورتي وجودها وعدمها أو مفارقا لها. فمن يجوز تعليل الحكم بعلتين مستنبطتين -وقد ذكروا في ذلك خلافا إذا كان للحكم علة عامة- فهل يعلل بعضه بعلة خاصة؟ ينبغي ألا يرى هذا مفسدا للعلة. وأصحابنا يقبلونه ويحوزون هذا وذاك، الله أعلم. لأن غالب الأقيسة المستعملة في خلافهم لا يلتزمون فيها تصحيح العلة، فلذلك يقبل عدم التأثير. ولا   (1) المسودة ص 420 ف 2/20. (2) المسودة ص 420، 421 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 ريب أنه إذا لم يقم دليل على صحة العلة فعدم التأثير دليل على فسادها، بخلاف ما لو انعكست وقد اطردت فإن ذلك دليل صحتها، فيكون هذا السؤال قادحا في علة لم تثبت إلا بالدوران، وأبو محمد البغدادي لا يقبل سؤال عدم التأثير بناء على تعليل الحكم بعلتين (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [ينبغي ألا يرد على القياس النافي] عدم التأثير ينبغي ألا يرد على القياس النافي، لأن انتفاء الحكم قد يكون لانتفاء علته أو جزئها، أو لوجود مانع أو لفوات شرط فأسباب الانتفاء متعددة؛ بخلاف سبب الثبوت. وفي الحقيقة فأقيسة النفي ترجع إلى قياس الدلالة ولا تأثير له على الصحيح فيه. والقاضي كثيرا ما يفسد الجمع والفرق بعدم التأثير في النفي، وهو ضعيف مثل أن يقال في مسألة لبن الآدميات: الفرق بين الحية والميتة أن لبن الميتة نجس فيقول: لا تأثير لهذا، فإن لبن الرجل والصيد طاهر ولا يجوز بيعه، أو يقال: إنما لم يجز بيع الدمع والعرق لأنه لا منفعة فيه، فيقول: الوقف وأم الولد فيه منفعة ولا يجوز بيعه. فهذا كلام ضعيف فإن عدم الجواز له أسباب، وعدم التأثير إنما يصح إذا لم تخلف العلة علة أخرى (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الأقوال في تأثير العلة] العلة إذا كانت مؤثرة في محلها ولا تأثير لها في بقية المواضع، فقد قيل: إنها عديمة التأثير، فلا بد أن تكون مؤثرة مطلقا. وقيل -وهو قول عبد الوهاب وغيره- إنه يكفي تأثيرها في محلها كقولهم في الكلب: حيوان فكان طاهرا كالشاة، تأثيره في الحيوان إذا مات ولا تأثير   (1) المسودة ص 421 ف 2/22. (2) المسودة ص 421، 422 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 له في الجماد فإن الحياة تؤثر في محل دون محل. وقد قيل: إنه يكفي أن تؤثر في بعض المواضع فهذه ثلاثة أقوال (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [التأثير من جهة التنبيه] التأثير من جهة التنبيه معتبر كالتأثير من جهة المخالفة مثل قول بعضهم: شهادة على الولادة فوجب ألا تثبت بشهادة امرأة واحدة كالمطلقة البائن ادعت الولادة، وعند القائس لا فرق بين الولادة وغيرها فيكتفي بإثبات العدد في غير الولادة أوكد منه في الولادة، فإذا ثبت اعتبار العدد في الولادة ففي غيرها أولى، لأن العرب تارة تثبته باللفظ العام، وتارة باللفظ الخاص (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في تعليق الحكم على مظنة الحكمة دون حقيقتها [تعليق الحكم على مظنة ... أو إقامة السبب مقام العلة وهو أقسام] ويسميه بعضهم: إقامة السبب مقام العلة، وهذا منتشر في كلام الفقهاء غير منضبط؛ فإنهم يذكرون هذا في مسألة الإيلاج بلا إنزال، ومسألة النوم، ومسألة السفر، ومسِألة البلوغ. ومنهم من يذكره في مسألة مس النساء. وهو أقسام: الأول: أن تكون الحكمة التي هي العلة خفية. فهنا لا سبيل إلى تعليق الحكم بها، فإنما يعلق بسببها وهو نوعان: أحدهما: أن يكون دليلا عليها كالعدالة مع الصدق والأبوة في التملك، والولاية، ودرء القود، فهنا يعمل بدليل العلة ما لم يعارضه أقوى منه.   (1) المسودة ص 422 ف 2/22. (2) المسودة ص 422، 423 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 الثاني: أن يكون حصولها معه ممكنا، كالحدث مع النوم والكذب أو الخطأ مع تهمة القرابة أو العداوة أو الصداقة، وإقرار المريض. القسم الثاني: أن تكون ظاهرة في الجملة لكن الحكم لا يتعلق بنوعها وإنما يتعلق بمقدار مخصوص منه، وهو غير منضبط فقدرها غير ظاهر، ويمثلون في هذا بالمشقة مع السفر، والعقل مع البلوغ فإن العقل الذي يحصل به التكليف غير منضبط لنا، وكذلك المشقة التي يحصل معها الضرر. القسم الثالث: أن تكون ظاهرة منضبطة لكن قد تخفى مثل الإيلاج مع الإنزال واللمس مع اللذة وهذا فيه نظر وقد اختلف فيه قبولا وردا، ذكره طائفة من أصحابنا وغيرهم ورده أبو زيد واعتبرته المالكية في مس الذكر ومس النساء، ولفظه السبب يقام مقام العلة إذا كان الغالب منه ذلك وكان التعلق بالعلة يؤدي إلى حرج فأما إمساك الخمر إلى ثلاث وتحريم الخليطين والانتباذ في الأوعية فقد يقال: هو من هذا القسم وقد يقال هو من القسم الأول لخفاء مبادئ الإسكار (1) . [قياس العكس] مسألة: قال القاضي: الاستدلال من طريق العكس صحيح، كاستدلالنا على طهارة دم السمك بأنه يؤكل بدمه لأنه لو كان نجسا ما أكل بدمه كسائر الحيوانات النجسة دماؤها، وكقولنا في قراء السورة في الأخريين: لو كانت سنة فيهما لسن الجهر بالقراءة فيهما؛ ألا ترى أن الأوليين لما سن ذلك فيهما سن الجهر بقراءتهما ونحو ذلك وحكي عن الشافعية أن ذلك لا يصح، وكذلك ذكر أبو الخطاب في أول كتاب.   (1) المسودة ص 423، 424 ف 2/20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 القياس أن ذلك لا يسمى قياسا، وقد سماه بعض الحنفية قياسا مجازا، المشهور عنهم وعن الحنفية جوازه ويسمى قياس العكس. قال شيخنا: والاستدلال به قول المالكية فيما ذكره عبد الوهاب وحكي عن قوم من أهل العلم منعه، ومنعه قول ابن الباقلاني. وكل موضع يقاس فيه قياس العكس فإنه يمكن أن يصاغ القياس صوغ قياس الطرد؛ لكن لا يصرح بالحكم؛ بل يذكر ما يدل عليه، وهو التسوية بين المحلين: محل الحكم المطلوب إثباته، ومحل آخر كسائر الأصول، مثل أن يقال في مسألة النية: طهارة فاستوى جامدها ومائعها في النية كطهارة الخبث (1) ، لكن التسوية في الأصل هي في عدم النية وفي الفرع في ثبوتها وقد ذكر أبو الخطاب هذا وذكر أن بعضهم يقول: هذا قياس فاسد، لأن حكم الأصل ضد حكم الفرع، والمستدل يقول: قصدت التسوية بين الجامد والمائع إلى آخره (2) . [شيخنا] ... ... ... فصل [إذا كان في العلة زيادة وصف لا تنتقض بإسقاطه] فإن كان في العلة زيادة وصف لا تنتقض العلة بإسقاطه فلا تأثير له مثل أن يقال في الجمعة: صلاة مفروضة فلم تفتقر إلى إذن الإمام كسائر الصلوات؛ فإن كونها مفروضة لا أثر له. فمن الناس من قال: لا يحتاج إلى هذا الوصف، ودخوله يضر، ومن الناس من قال: هذه الزيادة لا تضر؛ فإن فيها تنبيها على أن غير الفرض أولى ألا يحتاج، ولأنه يزيد تقريب الوصف من الأصل، فالأولى ذكره وذكره بعد هذا زيادة وصف للتوكيد، وكلام أبي الخطاب يقتضي منعه (3) .   (1) نسخة: كطهارة الجنب. (2) المسودة ص 425، 426 ف 2/21. (3) المسودة ص 428 ف 2/20. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 [شيخنا] : ... ... ... فصل [سؤال الكسر هل هو صحيح] اختلفوا في الكسر: هل هو سؤال صحيح؟ وهو نقض لمعنى العلة فيه قولان، اختار أبو الخطاب أنه ليس بسؤال صحيح، قال: وقد ذكر شيخنا فساد الكسر، ولم يسمه كسرا فقال: في الأسئلة الفاسدة اعتراض خاص، وهو أن يبدل لفظ العلة بغيره ثم يفسد، نحو قولنا في الصائم إذا أكره على الأكل والشرب: إن ما لا يفسد الصوم بسهوه لا يفسده إذا كان مغلوبا عليه كالقيء فيقول المعترض: ليس في كونه مغلوبا أكثر من كونه معذورا، والمعذور يفطر كالمريض، قال: وهذا فاسد لأن العذر غير الغلبة، لأن العذر بالمرض لا يسلب الاختيار بدليل من استقاء لمرض والغلبة تسلب الاختيار كمن غلبه القيء، ولأنه نقل لفظ العلة إلى لفظ آخر ثم أفسده وهذا ليس بفساد للعلة، قال أبو الخطاب: وهذا هو نفس الكسر. وذكر القاضي في ضمن جواب التسوية أن سؤال الكسر صحيح، وأن جوابه بالتسوية يصح وفاقا (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [من قال إنه صحيح لزمه ... ] من قال: «الكسر سؤال صحيح» فإنه يلزمه أن يجيب عنه بفرق تضمنته علته نطقا أو معنى، قاله أبو الخطاب وغيره. وقال بعضهم يكفيه الفرق سواء تضمنته علته أو لم تضمنه، وهذا أقوى فيما يظهر لي، وذكر فصولا تشبه الكسر (2) . مسألة: قال القاضي وأبو الطيب: لا يجوز لأحد أن يلزم خصمه ما لا يقول به، إلا النقض. فأما غيره كدليل الخطاب أو القياس أو المرسل ونحو ذلك فلا، ولم يذكر خلافا وكذلك قال أبو الخطاب: ليس للمعترض أن يلزم المعلل ما لا يقول به إلا النقض والكسر على   (1) المسودة ص 429 ف 2/22. (2) المسودة ص 429 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 قوله من التزمهما، فأما بقية الأدلة مثل المرسل ودليل الخطاب [والقياس] وقول الصحابي فلا يجوز أن يلزمه ذلك وهو يعتقد فساده. [الاستدلال على فساد قول المنازع لا يستلزم صحة قول المستدل] قال شيخنا: وتحقيق الأمر: إذا نقض المعترض على المستدل بمذهب المستدل وحده فقد اتفقا على انتقاض العلة أو الدليل، هذا ينقضها بمحل النزاع، وهذا بصورة النقض؛ لكن اتفاقهما على انتقاضها اتفاق على فسادها فهو بمنزلة اتفاقهما على حكم الأصل، وهذا دليل جدلي لا علمي؛ لأن موافقة أحدهما للآخر على صحة المقدمة أو فسادها لا يوجب له أن يكون عالما بها، فعلى كل منهما في نفس الأمر أن يكون له مستند في صحة المقدمة أو فسادها وإلا فالعلة إذا قام دليل صحتها من نص أو إجماع أو إيماء أو تأثير ونحو ذلك فهو دليل شرعي يجب على كل منهما طردها فهي حجة على هذا في صورة الاستدلال وعلى هذا في صورة النقض، فترك أحدهما لإثباته ليس مبيحًا للآخر الترك إذا قام موجبه كما أن موافقة أحدهما للآخر على ما لا يعلم صحته ليس مبيحا له العمل إلا إذا موجبه وكذلك أيضا لو نقض العلة بصورة مسلمة منهم، لكن هذا دفع جدلي بمنزلة حجة جدلية يقول له: أنت لا يصلح لك أن تأمرني باستشهاد من نعتقد كذبه أنا وأنت. وأما أنا فيما بيني وبين الله فذاك شيء آخر حكمي فيه كحكمك نعم لو أمرتني ونفسك باتباع موجب هذا لاستقام كما أن أحد الخصمين لا يصلح له أن يكون حاكمًا ولا شاهدًا على خصمه وإن كان على الخصم في الباطن أن يتبع الحق. فما دام الخصم معتقدا صحة الانتقاض لا يصلح له أن يأمر باتباع قول منتقض فإذا توقف عن هذا الاعتقاد أو قال: «أريد أن نتناظر حتى نعلم صحة الانتقاض أو فساده» توجه منه ذلك، فيقبل منه هذا السؤال في مناظرة المشاورة لا في مناظرة المجادلة سواء كان المقصود المشاورة في صحة الدليل أو في صحة الحكم، وفرق بين المشاورة والمعاونة التي مقصودها استخراج ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 لم يعلم وبين المجادلة التي مقصودها الدعاء إلى ما قد علم. والأول يدعو إلى حق مطلق، والثاني يدعو إلى حق معين. وعلى هذا فإذا عارضه المعترض بما هو دليل عند المستدل وحده فهو في المعنى مثل النقض بمذهب المستدل، فإن النقض معارضة في الدليل، كما أن المعارضة المطلقة معارضة في الحكم، وكأنه يقول: هذا الدليل الذي ذكرته موقوف باتفاق مني ومنك. أما عندك فلأنه معارض بهذا الدليل، وأما عندي فلتخلف مدلوله في صورة النزاع، ويقول له: هذا ليس بدليل سالم عندك، فأنت لا تعتقد صحته، فكيف تلزمني بمدلوله؟ والذي يقوله المستدل في دفع هذه المعارضة يقوله المعترض في دفع الاستدلال، ألا ترى أن المعترض لو عارض بدليل عنده أو نقض بصورة يعقدها فهما سواء؟ وفي ذلك قولان يختار أصحابنا منعه. وأما المستدل إذا استدل بما هو دليل عند مناظره فقط فهو في الحقيقة سائل معارض لمناظره بمذهبه، وهو سؤال وارد على مذهبه وهو استدلال على فساد أحد الأمرين إما دليله أو مذهبه، فينبغي أن يعرف وجوه الأدلة والأسئلة، وهذا في الحقيقة استدلال على فساد قول المنازع بما لا يستلزم صحة قول المستدل، بمنزلة إظهار تناقضه، وهو أحد مقاصد الجدل. قال -يعني القاضي-: لأن إلزامه يكون محتجا بما لا يقول به. ومن وجه آخر حررته أن بهذا النقض يتحقق اتفاقهما على العلة، أما على أصل المعلل فبصورة الإلزام أما على أصل خصمه فبمحل النزاع، وأما في غير ذلك فقد اتفقا على اطراح الأصل الملزم، أما أحدهما فلا يراه دليلا بحال، وأما الآخر فلأنه لما خالفه دل على أنه قد ترك لدليل عنده أقوى منه، وإذا حصل الاتفاق على تركه ههنا بطل إلزامه وكذلك ذكر القاضي وأبو الخطاب أن للمستدل أن ينقض علة السائل لأنه تبين له أنها فاسدة عنده، فلا يجوز أن يحتج بما هو فاسد عنده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 قال شيخنا: قلت: وهذا التعليل يدخل فيه عدم التأثير على أصل المعلل أيضا. ولفظ القاضي وأبي الخطاب: إن استدل بعلة فعارضه السائل بعلة فنقضها المستدل بأصل نفسه لم يجز ذلك خلافا للجرجاني وبعض الشافعية وكذلك بحث المسألة على أن السائل عارض المستدل بعلة منتقضة على أصل المستدل، وكذلك كانت في خط الجد، وهذا قريب كذلك قال إلكيا الهراسي: لو نقض كلام السائل في معارضته بمسألة فمنعها السائل، وأراد المسئول أن يدل على النقض، أجمع الجمهور أنه لا يجوز من حيث أنه منتقل بخلاف ما إذا منع حكم الأصل الذي قاس عليه فإنه يقبل منه الدلالة عليه. وحاصله: الفرق بين الأصل الممنوع والنقض الممنوع، فأما أنا لسائل ينقض علة المستدل بأصل نفسه فهذا لا يقوله محصل، فإن هذا يمنع الاستدلال، ألا ترى أنهم جوزوا للمستدل أن يستدل بما هو دليل عنده إذا تبين صحته وأن السائل ليس له أن يعارضه بما هو دليل عنده لا عند المستدل؟ وقد ذكر الجد هذه المسِألة، فإن النقض من المعترض بأصل نفسه بمنزلة القياس على أصل نفسه. وحاصله: أن مقدمة الدليل المعارض ممنوعة وهذا ليس ببعيد، كما يجوز ذلك للمستدل؛ فإنه بتقدير صحة مذهب المعترض لا يكون دليل المستدل سالما عن المعارضة، وهو يشبه أن يستدل المستدل بقياس أو مرسل من غير أن يدل عليه، وذلك يفيد إظهار المدارك لا تقرير المسائل، وذلك يفيد جودة بيانه وسلامة أصوله، لا انقطاع خصمه، وذلك يفيد أن ليس واحد منهما مغلوبا وليس هذا مثل وقف المعترض دليل المستدل (1) .   (1) المسودة ص 432-335 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 [شيخنا] : ... ... ... فصل [لابد أن يتم دليل المستدل أولا] لا يجوز للسائل أن يعارض المستدل بما ليس دليلا عند السائل، مثل علة منتقضة على أصل السائل؛ بخلاف نقض علة المعلل بما لا يراه المعترض فإنه يجوز. وقال بعض الشافعية: تجوز معارضته بما لا يعتقده السائل، كما تجوز مناقضته بما لا يعتقده. وفرض أبو الخطاب الكلام في معارضة السائل للمستدل بعلة منتقضة على أصل السائل وقياس على معارضته لسائر الأدلة التي لا يقول بها كدليل الخطاب والقياس. قال شيخنا: قلت: إن كان المعارض قصده إثبات مذهبه لم يجز ذلك وإن كان قصده إبطال دليل المستدل جاز ذلك؛ لأن المستدل إنما يتم دليله إذا سلم عن المعارضة كما لا يتم حتى يسلم من المناقضة فإذا كان المستدل لم يتم الدليل له كيف يلزم به غيره (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا قال: لا أعرف الرواية فيها كفى] إذا نقض على المستدل بمسألة فقال: لا أعرف الرواية فيها كفى ذلك في دفع النقض، ذكره أبو الخطاب وغيره، قال أبو الخطاب: فإن قال المستدل: أنا أحمل هذه المسألة على مقتضى القياس، وأقول فها كالقول في مسألة الخلاف، فإن كان صاحب المذهب يرى تخصيص العلة لم يجز ذلك لأنه لا يجب الطرد عنده، وإن كان ممن لا يرى التخصيص احتمل أن يجوز ذلك لأنه طرد علته، واحتمل ألا يجوز؛ لأنه يجوز أن يكون صاحب الفرد يعتبر علته فلا يثبت له مذهب بالشك قال: وهذا هو الأظهر عندي (2) .   (1) المسودة ص 435 ف 2/22. (2) المسودة ص 435، 436 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا لم يسلم النقض] إذا لم يسلم النقض فقال الناقض إنما أدل على صحته لم يجز ذلك إلا أن يبين مذهب المانع، ذكره القاضيان (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [القلب] القلب نوع من المعارضة، قاله أبو الخطاب وغيره. وقال بعض الشافعية: هو إفساد وليس بمعارضة، فيفيد ذلك أنه لا يتكلم عليه بما يتكلم على العلة المبتدأة (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا كانت علة المعترض داخلة في علة المعلل] وإن عارضه بعلة معلولها داخل في معلول علته لم يصح؛ مثل أن يعارض علة الطعم بعلة القوت، أو يعارض من علل بعموم القتل في منع الإرث بالتهمة في القتل ونحو ذلك، هذا قول طائفة من أصحابنا وأصحاب الشافعي منهم: أبو الخطاب وأبو الطيب، لأن علة المعترض داخلة في علة المعلل (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا لم يمكنه الطعن فيها فعليه أن يبين أن علته متضمنة لها] وإن كانت العلة المعارض بها متعدية وهي صحيحة عند المستدل أيضا لم يمكنه الطعن فيها، لكن عليه أن يبين أن علته مضمنة لها إن أمكن: بأن يكون جنسهما واحد، أو إحداهما مستلزمة للأخرى، كما إذا قال في الطلاق قبل النكاح: من لا يملك الطلاق المباشر لا ينعقد له صفة الطلاق كالمجنون. فإذا عورض بأنه غير مكلف قال: وهذا غير مالك وهما في الشرع سواء وإن لم تكن صحيحة عنده فلا بد من   (1) المسودة ص 437 ف 2/22. (2) المسودة ص 441 ف 2/22. (3) المسودة ص 242 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 إفسادها أو ترجيح علته عليها (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [ما ليس من شرط المعارضة] قال أبو الخطاب: ليس من شرط صحة المعارضة أن يعكسها في الفرع ويجوز أن يذكر في الأصل علة وفي الفرع علة أخرى؛ لأن العلة قد تكون شرعية أو حكما هو معكوس على أصله لا على أصل المستدل. والوصف في الفرع قد يكون ثابتا في الأصل على أصله. وقال بعضهم: إن لم يعكسها في الفرع لم يحصل. [شيخنا] : ... ... ... فصل [الانتقال من السائل هل هو انقطاع؟] الانتقال من السائل انقطاع عند الجمهور. وكلام القاضي في العدة يقتضي أنه ليس له أن ينتقل عن السؤال قبل تمامه، فإن فعل انقطع وهذا بعيد. وقال الباجي: ليس بانقطاع، بل هو سائغ له قصة إبراهيم. وللأولين عنها جوابان، فإن قال السائل: ظننت أنه لازم فبان خلافه فمكنوني من سؤال آخر، ففيه خلاف قال: والأصح أنه يمكن منه إذا كان انحدارا من الأعلى إلى الأدنى فإن كان ترقيا من الأدنى إلى الأعلى- كما لو أراد الترقي من المعارضة إلى المنع- فقيل: لا يمكن منه؛ لأنه مكذب لنفسه. وقيل: يمكن لأن مقصوده الاسترشاد قال: والمسئول يمكن من الفرض، ولو أراد العدول عن دليل لا يؤيد الأول كان منقطعا وترك الدليل الأول لعجز السائل عن فهمه لا يعد انقطاعا، وعلى ذلك حملت قصة إبراهيم وقيل: يكون انقطاعًا، لأنه التزم نقيضه. وقال ابن عقيل: إذا دخل السائل دخولا يلتزم بعد تحقق الخلاف بينه وبين المسئول فلا يجوز له أن يخرج عن سنن الإلزام إلى أن ينتهي إلى تحقيق أنه لازم فكلما حاول الخصم أن يهرب منه رده إليه.   (1) المسودة ص 442، 443 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 قال: والانتقال عن السؤال هو الخروج عما يوجبه أوله من ملازمة السنن فيه، مثل أن يقول: ما دليل حدوث الأجسام؟ فيقول المجيب: الأعراض فيقول وما حد الأعراض؟ أو يقول: ما مذهبك في الخمر هل هو مال لأهل الذمة؟ فيقول: هو مال لهم، فيقول السائل: وما حد المال؟ فهذا انتقال. قال: فإن أجابه عن ذلك فقد خرج معه أيضا، وهذا كثير ما يتم بين المخلين بآداب الجدل. قال: وإذا خرج المسئول من دليل إلى دليل آخر قبل إتمام الأول كان انتقالا منه. وإن خرج بعد التمام فليس بانتقال في حكم الجدل. وهذا القول أقرب؛ فإن السائل نوعان: مبطل ومستعلم، فالمبطل هو مقرر للفساد كما أن المستدل مقرر للصحة، وتعديده للأسئلة كتعديد المستدل للأدلة؛ لكن الممانعة المحضة ليس فيها إبطال وإنما الإبطال في المعارضة والمناقضة. قال: والانتقالات التي ينقطع بها أربعة أقسام: انتقال من مذهب إلى مذهب ومن علة إلى علة ومن إلزام إلى إلزام، ومن تسليم إلى ممانعة. وذكر ابن عقيل: أن بعضهم رأى أن الانتقال من دليل إلى غيره ليس بانقطاع ولا خروج عن مقتضى الجدال والحجاج، احتجاجا بقصة إبراهيم وأجاب عنه: بأن الخليل لم يكن انتقاله للعجز، لأنه كان قادرا أن يحقق مع نمرود حقيقة الإحياء والإماتة وهو المستدل بالنجوم وغيرها، لكن لما رآه غبيا أو متغابيا انتقل إلى الدليل الأوضح في باب يعجزه عن دعواه المشاركة لباريه فلم يوجد في حقه العجز (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [لا تتكافأ الأدلة القطعية وفي الظنية خلاف] اتفقوا على أنه لا يجوز تعادل الأدلة القطعية لوجوب وجود   (1) المسودة ص 443-445 ف 2/22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 مدلولاتها وهو محال، وكذلك الأدلة الظنية عندنا، ذكره القاضي وأبو الخطاب، وبه قال الكرخي وأبو سفيان السرخسي وأكثر الشافعية. وقال الرازي والجرجاني والجبائي وابنه: يجوز ذلك وذهب قوم إلى جوازه في القطعيات، ذكره يوسف بن الجوزي. وقد ذكر القاضي فيما اختصره من أصول الدين والفقه رأيته بخطه: لا يجوز تكافؤ الأدلة في أدلة التوحيد وصفات الله وأسمائه والقضاء والقدر. وأما دلائل الفروع مثل الصلاة والصيام والحج الزكاة وغير ذلك فيجوز أن تتكافأ وقال بعد هذا: والمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أمرين متناقضين فحكمه حكم العامي يجب عليه أن يقلد غيره ولا يجوز القول بالتخيير (1) ، (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [انقسام المسائل إلى قطعية واجتهادية، وإلى عقلية وشرعية] ذكر أبو المعالي أن «المسائل» قسمان: قطعية، ومجتهد فيها. والقطعية عقلية وسمعية. فالعقلي: ما أدرك بالعقل، سواء كان لا يدرك إلا به كوجود الصانع وتوحيده وكونه متكلما (3) . قال: أو ما يدرك بالعقل والسمع جميعا: كمسألة الرؤية وخلف الأفعال. وأما الشرعية: فما عرف من أحكام التكليف ينص كتاب أو سنة متواترة أو بإجماع كوجوب الصلوات وكتقديم خبر الواحد على القياس إذا كان نصًّا.   (1) المسودة ص 448، 449 ف 2/22. (2) المفهوم لا عموم له تقدم قبل فحوى الخطاب ص 10. (3) قلت: وقد بين ابن تيمية رحمه الله أدلة وجود الصانع وعدم اقتصارها على العقل كما بين الطريق العقلي الذي سلكه أهل الكلام انظر جـ 1: من الفهارس العامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 والمجتهدات ما ليس فيه دليل مقطوع به. قال: وقد تكلموا في الفرق بين الأصول والفروع، فقيل: الأصل ما فيه دليل قطعي، والفرع بخلافه. فعند هؤلاء الأصل ما عددناه قطعيا، وعبر عنه القاضي بأن كل مسألة يحرم الخلاف فيها مع استقرار الشرع ويكون معتقد خلافها جاهلا فهي من الأصول عقلية كانت أو شرعية. والفرع: ما لا يحرم الخلاف فيه، أو ما لا يأثم المخطئ فيه. قال: وقيل الأصل ما لا يجوز التعبد به إلا بأمر واحد، أو ما يعلم من غير تقديم ورود (1) . [ الاجتهاد والتقليد وهل المصيب واحد] قال القاضي في كتاب الروايتين: الحق عند الله واحد وقد نصب عليه دليلا، وكلف المجتهد طلبه، فإن أصابه فقد أصاب الحق عند الله وفي الحكم وإن أخطأه فقد أخطأ عند الله. وهل أخطأ في الحكم أيضا؟ على روايتين إحداهما: أنه مخطئ في الحكم إلا أن الخطأ موضوع عنه. والثانية: هو مصيب في الحكم. قال القاضي: وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية بكر بن محمد، عن أبيه عنه، فقال: الحق عند الله في واحد، وعلى الرجل أن يجتهد، ولا يقول لمخالفه: إنه مخطئ، وقال بعده كلاما: وإذا اختلف أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في شيء، فأخذ رجل بقول بعضهم وأخذ رجل آخر عن رجل آخر منهم فالحق واحد، وعلى الرجل أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم أخطأ. قال: فظاهر كلامه في أول المسألة أنه مصيب في الحكم؛ لأنه منع من إطلاق الخطأ عليه في الحكم وآخر كلامه يقتضي إطلاق ذلك   (1) المسودة ص 496، 497 ف 2/23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 عليه؛ لأنه قال: عليه أن يجتهد ولا يدري أصاب الحق أم لا، فأطلق الخطأ عليه. ووجه قول من قال: «كل واحد منهما مصيب في الحكم» إقرار الصحابة بعضهم بعضا، وتسويغ استفتاء كل واحد للعامي، ولأنه لو كان الحق في واحد من القولين لنصب عليه دليلا يوجب العلم كما قلنا في مسائل الأصول، فلما لم ينصب ليلا يوجب العلم ثبت أن الحق فيما يعتقده في حقه دون غيره. [تفريق أحمد] قال شيخنا: قلت: أحمد فرق لأن الأولين كل منهما استدل بنص والآخرين لا نص مع واحد منهما فعلى هذا من استمسك بنص لا يطلق عليه الخطأ في الحكم كالمصلي إلى القبلة المنسوخة قبل عمله بالناسخ. ومن لا نص معه يقال: هو مخطئ في الحكم بمنزلة الذي ليس هو على شريعة [ولم تبلغه شريعة] فصارت الأقوال ثلاثة، والفرق هو المنصوص. قال: وقد اختلف أصحابنا فيما جرى بين علي ومعاوية وطلحة والزبير وعائشة: هل كل واحد منهم مصيب في ذلك، أن أحدهم مصيب؟ فحكى شيخنا أبو عبد الله عن أصحابنا في ذلك وجهين؛ أحدهما: أن كلا منهما مصيب في الحكم. والثاني: أن أحدهما مصيب والآخر مخطئ لا بعينه. والثالث: أن أحدهما مصيب وهو علي، والآخر مخطئ وهو من قاتله. قال القاضي: ويجب أن يكون القول في ذلك مبنيا على الأصل الذي تقدم، وأن الحق عند الله في ذلك في واحد مهما فإن أصابه فقد أصاب عند الله وفي الحكم، وإن أخطأ عند الله فهل هو مخطئ في الحكم؟ على روايتين؛ إحداهما: أنه مصيب. والثانية: أنه مخطئ. وقد نص أحمد على الإمساك فيما شجر بينهم، وترك القول فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 [الإمساك عما شجر بين الصحابة والحكمة فيه، وعدم تعيين المصيب إلا .... ] بخطأ أو إصابة. فقال المروذي: جاء يعقوب رسول الخليفة يسأله فيما كان بين علي ومعاوية، فقال: ما أقول فيهم إلا بالحسنى. وكذلك نقل أحمد بن الحسن الترمذي (1) -وقد سأله: ما يقول فيما كان من أمر طلحة والزبير وعلي وعائشة- فقال: من أنا حتى أقول في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ كان بينهم شيء، الله أعلم به. وكذلك قال في رواية حنبل قال الله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فقد صرح بالوقف. واستدل القاضي على الوقف ومقتضاه إما تصويبهما أو عدم تعيين المصيب. قال شيخنا: قلت: أحمد لم يرد الوقف الحكمي، وإنما أراد الإمساك عن النظر في هذا والكلام فيه، كما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التفضيل بين الأنبياء؛ وعن تفضيله على يونس، ونحو ذلك من الكلام الذي وإن كان حقا في نفس الأمر فقد يفضي إلى فتنة في القلب. وإذا كان الأموات على الإطلاق لا ينبغي لنا ألا نخير بينهم إلا لحاجة فالصحابة الذين أمرنا بالاستغفار لهم وبمسألة ألا تجعل في قلوبنا غلا لهم أولى. والكلام فيما شجر بينهم يفضي إلى الغل المذموم، ولهذا علل بأنها: {أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [134/2] . ونحن وإن علمنا بالنوع أن أحد المختلفين مخطئ فليس علينا أن نعلمه بالشخص، إلا في مسألة تتعلق بنا. فأما اثنان اختلفا في مسألة تختص بأعيانهما فلا حاجة بنا إلى الكلام في عين المخطئ، وهذا أصل مستمر، ويدل على هذا أن أحمد بنى مسائله في قتال أهل البغي على سيرة علي، ولما أنكر ابن معين على الشافعي ذلك قال له أحمد: ويحك! فماذا عسى أن يقول في هذا المقام إلا هذا؟ يريد أنا لما أردنا   (1) نسخة: نقل الحسن الترمذي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 أن نتكلم في نوع ذلك العمل لأجلنا عينا المصيب والمخطئ. وأما الكلام في عين عملهما لا لأجل عملنا فلا حاجة لنا فيه، فإن أكثر ما فيه نوع علم يقترن به غالبا من غل القلب ما يضر فيكون إثمه أكبر من نفعه كالغيبة مثلا (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [المسائل تنقسم إلى ما يقطع فيه بالإصابة وإلى ما لا ندري] إذا ثبت أن المصيب من المختلفين واحد، فهل نقطع بصحة قولنا وخطأ المخالف أم يجوز أن يكون الحق في غير ما قلنا؟ قد نقل عن أبي الطيب الطبري أنه يقطع بخطأ مخالفه، وينقض حكمه، قال أبو الخطاب في التمهيد: وقد أومأ إليه أحمد في رواية ابن الحكم وذكر نصه على نقض حكم من حكم بأن المشتري أسوة الغرماء، والصحيح أن المسائل تنقسم إلى قسمين: إلى ما يقطع فيه بالإصابة، وإلى ما لا ندري أصاب الحق أم أخطأ، بحسب الأدلة وظهور الحكم للناظر. ولا أظن يخالف في هذا من فهمه وعلى هذا ينبني حكم الحاكم وغيره. ومن ذلك قول أبي بكر في الكلالة، وقول عمر وغيره، وعليه ينبني حلف الإمام أحمد في مسائل منها العينة، وجبنه عن الحلف في آخر كالشفعة للجار وغير ذلك، وهكذا قال ابن حامد في أصول الفقه في باب كتابة العلم وجمعه وتصنيفه، قال: قال الخلال على المذهب: إنه لا يرى الرد على أهل المدينة، قال ابن حامد: وإنما ذلك على أصل إمامنا في تخطئة أهل الاجتهاد، وهل يسوغ لنا القطع بالخطأ أم لا؟ فأهل المدينة قد قال أحمد: إنهم للآثار يتبعون وأن من اجتهد بالأثر فالحق واحد، والآخذ بالخبر الآخر معذور، فأما أهل الرأي فلا خلاف   (1) المسودة ص 498-501 ف 2/23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 عن أبي عبد الله أن أخذهم بالرأي مع الخبر مقطوع على خطئه، فهو الذي يرد عليه ويبين عن خطئه (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل لما تأول المخالف أن قوله: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر ليس عائدا إلى الخطأ في الاجتهاد وإصابة الحكم بدليله، لكن إلى كون المحكوم له يقتطع مال خصمه أو حقه بذلك الحكم لكذب الشهود أو مغالطة الخصم بكونه أخصم وألحن كما جاء في الحديث، وهذا النوع من الخطأ هو الذي يستحق الحاكم فيه أجر اجتهاده وإصابة حكم الشرع حيث قضى بالبينة بظاهر العدالة، وحرم أجر تحصيل الحق لمستحقيه بحكمه، كمن يسقي المضطر ماء لا يعلم أنه مسموم فله أجر قصده لريه واستنقاذه من تلف العطش، ولكن حرم ثواب إحياء نفسه بإسقائه حيث لم يحصل له ذلك بإسقائه» . [الحكم نوعان: أحدهما مثل الفتيا والثاني الإبداء] قال ابن عقيل: الجهالة بكذب الشهود وما شاكل ذلك من إقرار الخصم على سبيل التهزي، ونحو ذلك مما لا يضاف إلى الحاكم به الخطأ؛ ولهذا من جهل نجاسة ماء فتوضأ به بناء على حكم الأصل أو أخطأ جهة القبلة مع اجتهاده ولم يعلم لا ينقض ثوابه ولا أجر علمه، لحديث عمر في الميراث (2) . قال شيخنا: قلت: الحكم نوعان: إنشاء، وإبداء فالإنشاء: كالحكم فيمن نزلوا على حكمه، وكالحكم في الفرائض، وفي لفظ الحرام، وفي موجبات العقود، ونحو ذلك، فهذا مثل الفتيا سواء. الثاني: الإبداء: وهو الحكم بموجب البينة والإقرار والدعوى مع كذبهما   (1) المسودة ص 503، 504 ف 2/23. (2) نسخة: في الميزاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 في الباطن، وهذا الذي دل عليه حديث أم سلمة، وهو نوعان؛ أحدهما: أن يعتقد البينة عدولا ولا تكون عدولا، أو يعقد اللفظ إقرارا ولا يكون كذلك فهذا كاعتقاده فيما ليس بدليل على الحكم أنه دليل. الثاني: أن تكون البينة عدلا لكن أخطأت، واللفظ إقرارا لكن أخطأ المقر، وأحدهما أظهر حجته والآخر سكت عنها، كما دل عليه حديث أم سلمة، فهذا كما لو حكم بدليل وكانت دلالته مختلفة فحديث أم سلمة يدل على هذا (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [اعتقاد الرجحان ورجحان الاعتقاد] قال ابن عقيل: الأمور المنظور فيها والمستدل بها على الأحكام على ضربين: منظور فيها يوصل النظر الصحيح فيها إلى العلم بحقيقة المنظور فيه، فهذا دليل على قول الجماعة. والضرب الآخر أمر يوصل النظر فيه إلى الظن وغالب الظن فيوصف بأنه أمارة من جهة الإصلاح، وقد ذكر في الجزء الأول فيه اصطلاحين، قال: ومرادنا بقولنا في هذا الضرب الذي يقع عند النظر فيه غالبا الظن أنه طريق للظن أو موصل أو مؤد إليه أنه مما يقع الظن عنده مبتدأ لا أنه طريق كالنظر في الدليل القاطع الذي هو طريق للعلم بمدلوله، وإنما يتجوز بقولنا يوصل ويؤدي وأنه طريق للظن. قال شيخنا: قلت: هذا موافق لقول من قال من المعتزلة والأشعرية كابن الباقلاني: «إن كل مجتهد مصيب» وإن الظنيات ليست في نفسها على صفات توجب الظن كالعمليات. والصواب عند الجمهور خلافه وهي مسألة: اعتقاد الرجحان، ورجحان الاعتقاد (2) .   (1) المسودة ص 504، 505 ف 2/23. (2) المسودة ص 505، 506 ف 2/23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 [الاجتهاد بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي غيبته] مسألة: يجوز لمن كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجتهد سواء كان غائبا عنه أو حاضرا معه، وبه قال أكثر الشافعية، ومنع قوم منه لمن بحضرته أو قريبا منه. وحكى الجرجاني عن أصحابه: إن كان بإذنه جاز وإلا فلا هذا قول القاضي وابن عقيل، وهو قول أبي الخطاب، وهو مقتضى قول أحمد؛ لأنه جعل القياس إنما يجوز عند الضرورة كما تقدم في مسألة القياس. وقال قوم من المتكلمين: لا يجوز ذلك لمن في حضرته حاضرا كان أو غائبا عنه، حكاه ابن عقيل، وهذا هو الذي في مقدمة المجرد، إلا أن يكون غلطا أنه لا يجوز لمن حضر أو غاب. والأول اختيار أبي الطيب. وقال بعض أصحابنا وقوم من المتكلمين: لا يجوز الاجتهاد بحضرته لأنه حكم بغالب الظن مع إمكان العلم، وهذا هو الذي حكاه القاضي في كتاب الروايتين عن ابن حامد، فقال: هل يجوز الاجتهاد بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في مجلسه؟ قال شيخنا أبو عبد الله: لا يجوز وعندي أنه يجوز، وعلل قوم شيخه بأنه رجوع إلى غالب الظن مع قدرته على اليقين، وجعلهما أبو الخطاب مسألتين، فقال: مسألة: يجوز لمن غاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد في الحوادث. وقال بعضهم: لا يجوز ثم ذكر في المسألة الثانية أنه في الغيبة به حاجة لأنه لا يمكنه سؤال الرسول وإن أخر الحادثة إلى وقت لقائه بطل الحكم وضاع الناس. [وإذا ضاق الوقت عن سؤاله في الحادثة] قال شيخنا: قلت: وبهذا يظهر ما جاء في حديث معاذ من توقفه عن الزكاة، ومن حكمه بالاجتهاد فيفرق بين ما يقرب وما لا يقرب (1) . مسألة: فإن كان بحضرته أو بموضع يمكنه سؤاله في الحادثة قبل ضيق وقتها جاز له الاجتهاد بشرط أن يأذن له أو يسمع حكمه فيقره   (1) المسودة ص 511، 512 ف 2/23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 عليه، وهو قول الحنفية. وقال الجبائي وابنه وغيرهما: لا يجوز وقال شيخنا (1) وأكثر الشافعية: يجوز بدون الشرط المذكور، ونقل المقدسي كتفصيل أبي الخطاب في مسألة واحدة (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [ما يعتبر مذهبا للإمام أحمد] قال ابن حمدان: إذا نقل عن الإمام أحمد في مسألة قولان صريحان مختلفان في وقتين وتعذر الجمع بينهما، فإن علم التأريخ فالثاني مذهبه, وقيل: والأول إن جهل رجوعه عنه. وقيل: أو علم، وقلنا مذهبه ما قاله تارة بدليل، وقال من عنده فيهما لا على التخيير ولا التعاقب ولا معا في حق شخص واحد في واقعة واحدة في وقت واحد من مفت واحد، ولا على البدل، ولا مطلقا، بل إذا قلنا: «لا يلزم المجتهد تجديد الاجتهاد بتجدد الحادثة ثانيا، ولا إعلامه المقلد له بتغير اجتهاده قبل عمل المقلد به ليرجع عما أفتاه به، وأنه لا يلزم المقلد تجديد السؤال بتجدد الحادثة ثانيًا، ولا رجوعه إلى اجتهاده الثاني فيها قبل عمله بالأول» فلا ينقض الأول بالثاني وإن كان أرجح منه، ولا يترك الثاني بالأول وإن كان أرجح منه ظنا كمن صلى صلاتين إلى جهتين باجتهادين مختلفين في وقتين ولم يتبين له الخطأ جزما، ولقول عمر في المشركة في جوابه ثانيا: ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي، فالمفتي بأحدهما مع دليله لم يخرج عن مذهب الإمام حيث قاله بدليل لم يقطع بخلافه. ولمن قلده أن يستمر على القول الأول الذي عمل به ولا يتغير عنه بتغير اجتهاد من قلده في الأقيس. ويجوز التخريج منه والتفريع والقياس عليه، ويكون مذهبه إن قلنا: «ما قيس على كلامه مذهب له» وإلا فلا. وإن قلنا: «يلزم المجتهد تجديد اجتهاده فيما أفتى   (1) المسودة ص 512 ف 2/23. (2) إن كان المراد بشيخنا في هذا هو ابن تيمية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 به لتجدد الحادثة له ثانيا وإعلامه المقلد له بتغير اجتهاده فيما أفتاه به ليرجع عنه، وبعدما عمل به حيث يجب نقضه، وإن المقلد له يلزمه السؤال بتجدد الحادثة له ثانيا ورجوعه إلى قوله الثاني قبل عمله بالأول أو بعده إن وجب نقضه» لم يكن الأول مذهبا له فلا يعمل به المقلد، وإن كان عمل به فلا يستمر عليه إذا لتغير اجتهاد من قلده فيه، ولا يخرج منه حكم إلى غيره، ولا يقاس عليه إذا، وإن بان للمفتي أنه خالف ما يجب العمل به من إجماع أو كتاب أو سنة نقض فتياه، وأعلم المستفتي بذلك ليرجع (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل وإن جهل التأريخ فمذهبه أقربهما من كتاب أو سنة أو إجماع أو أثر أو قواعد الإمام أو عوائده أو مقاصده أو أدلته، وقال من عنده: إن لم يجعل أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له مع معرفة التاريخ فكون هذا هو الراجح كالمتأخر فيما ذكرنا إذا جهل رجوعه عنه، قال من عنده.. ويحتمل الوقف لاحتمال تقدم الراجح، فإن جعلنا أولهما مذهبا له فهنا أولى لجواز كون الراجح متأخرا، وإن تساويا نقلا ودليلا فالوقف أولى، قال من عنده: ويحتمل التخيير إذا والتساقط. فإذا اتحد حكم القولين دون الفعل كإخراج الحقاق أو بنات اللبون عن مائتي بعير وكل واجب موسع أو مخير خير المجتهد بينهما [وله أن يخير المقلد بينهما] إن لم يكن المجتهد حاكما، وإن منعنا تعادل الأمارات -وهو الظاهر عنده- فلا وقف ولا تخيير ولا تساقط أيضا، وعمل بالراجح رواة بكثرة أو شهرة أو علم أو ورع أو دليل أو معنى، ويقدم الأعلم. وقيل: الأورع، فإن وافق أحد القولين مذهب غيره فهل هو أولى أم لا؟ قال من عنده: يحتمل وجهين؛ وإن علم تأريخ أحدهما فهو كما لو جهل   (1) المسودة ص 527، 528 ف 2/26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 تأريخهما، ويحتمل الوقف، وقيل: إن أفتى في واقعة بمذهب إمامه ثم وقعت له مرة أخرى وذكر حكمها ودليله أفتى به، إن لم يظهر له خلافه، وإن نسي أو جهل حكمها ودليله وقف حتى يعرفهما أو ضدهما. وقيل: إن أفتى بقول ميت لم يجب تجديد نظره (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل وما انفرد به بعض الرواة عن الإمام وقوي دليله فهو مذهبه. وقيل: لا، بل ما رواه جماعة أنه بخلافه أولى (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل ويخص كلامه بخاصة في مسألة واحدة. وقيل: لا. وما دل كلامه عليه، فهو مذهبه إن لم يعارضه أقوى منه (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل فإن أجاب في شيء ثم قال في نحوه: «هذا أهون» أو «أشد» أو «أشنع» فقيل: هما عنده سواء، وقيل: لا، قال من عنده: إن اتحد المعنى أو كثر التشابه فالتسوية أولى، وإلا فلا، وقيل: قوله: «هذا أشنع عند الناس» يقتضي المنع، وقيل: لا، وإن قال: «أخير منه» فهو للجواز، وقيل: للكراهة، قال من عنده: والنظر إلى القرائن أولى في الكل (4) . [شيخنا] : ... ... ... فصل وما أجاب عنه (5) بكتاب أو سنة أو إجماع أو قول بعض الصحابة   (1) المسودة ص 528، 529 ف 2/26. (2) المسودة ص 529 ف 2/26. (3) المسودة ص 529 ف 2/26. (4) المسودة ص 530 ف 2/26. (5) نسخة: فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 فهو مذهبه، لأن قول أحدهم عنده حجة على الأصح، وما رواه من سنة أو أثر وصححه أو حسنه أو رضي بسنده أو دونه في كتبه ولم يرده ولم يفت بخلافه فهو مذهبه، وقيل: لا كما لو أفتى بخلافه قبل أو بعد، فإن أفتى بحكم فاعترض عليه فسكت فليس رجوعا، وقيل: بلى (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل وإن ذكر عن الصحابة في مسألة قولين فمذهبه أقربهما من كتاب أو سنة أو إجماع، سواء عللهما أو لا، إذا لم يرجح أحدهما ولم يختره أو يحسنه، وقيل: لا مذهبا له منهما عينا، كما لو حكاهما عن التابعين فمن بعدهم، ولا مزية لأحدهما بما ذكر لجواز إحداث قول ثالث، بخلاف الصحابة، وقيل بالوقف، وإن علل أحدهما واستحسن الآخر أو فعلهما في أقوال التابعين أو من بعدهم فأيهما مذهبه؟ فيه وجهان، وإن أعاد ذكر أحدهما أو فرع عليه فهو مذهبه، وقيل: لا، إلا أن يرجحه أو يفتي به. وإن نص في مسألة على حكم وعلله بعلة فوجدت في مسائل أخر فمذهبه في تلك المسائل كالمسألة المعللة، سواء قلنا بتخصيص العلة أو لا كما سبق، وإن نقل عنه في مسألة قولان دليل أحدهما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ودليل الآخر قول صحابي وهو أخص منه، وقلنا: إنه يخص به العموم فأيهما مذهبه؟ فيه وجهان، وإن كان قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أخصهما أو أحوطهما تعين، وإن وافق أحدهما قول صحابي آخر، والآخر قول تابعي واعتد به إذا، وقيل: وعضده عموم كتاب أو سنة أو أثر فوجهان، وإن ذكر اختلاف الناس وحسن بعضه فهو مذهبه إن سكت عن غيره، وإن سئل مرة فذكر الاختلاف ثم سئل مرة ثانية فتوقف ثم ثالثة فأفتى فيها فالذي أفتى به مذهبه، وإن أجاب بقوله: «قال فلان كذا» يعني بعض العلماء فوجهان، وإن قال: «يفعل السائل كذا احتياطا» فهو   (1) المسودة ص 530 ف 2/26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 واجب وقيل: بل مندوب، وإن نص على حكم مسألة ثم قال: «ولو قال قائل أو ذهب ذاهب إلى كذا -يعني حكما بخلاف ما نص عليه- كان مذهبا» لم يكن مذهبا للإمام أيضا كما لو قال: وقد ذهب قوم إلى كذا، قال من عنده: ويحتمل بلى، كما لو قال: تحتمل المسألة قولين (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل وهل يجعل فعله أو مفهوم كلامه مذهبا له؟ على وجهين، فإن جعلنا المفهوم مذهبا له فنص في مسألة على خلافه بطل المفهوم، وقيل: لا، فتصير المسألة على قولين إن جعلنا أول قوليه في مسألة واحدة مذهبا له (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل الروايات المطلقة نصوص للإمام أحمد، وكذا قولنا: «وعنه» وأما التنبيهات بلفظه فقولنا: «أومأ إليه أحمد» أو أشار إليه أو دل كلامه عليه أو توقف فيه» . وأما الأوجه: فأقوال الأصحاب وتخريجهم إن كانت مأخوذة من قواعد الإمام أحمد أو إيمائه أو دليله أو تعليله أو سياق كلامه وقوته. وإن كانت مأخوذة من نصوص الإمام أو مخرجة منها فهي روايات مخرجة له أو منقولة من نصوصه إلى ما يشبهها من المسائل إن قلنا: «ما قيس على كلامه مذهبا له» وإن قلنا لا فهي أوجه لمن خرجها وقاسها، فإن خرج من نص ونقل إلى مسألة فيها نص يخالف ما خرج فيها صار فيها رواية منصوصة ورواية مخرجة منقولة من نصه، إذا قلنا المخرج من   (1) المسودة ص 530، 531 ف 2/26 (2) المسودة ص 532 ف 2/26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 نصه مذهبه، وإن قلنا لا ففيها رواية لأحمد ووجه لمن خرجه، وإن لم يكن فيها نص يخالف القول المخرج فيها من نصه في غيرها فهو وجه لمن خرجه، فإن خالفه غيره من الأصحاب في الحكم دون طريق التخريج ففيها لهم وجهان، ويمكن جعلهما مذهبا لأحمد بالتخريج دون النقل، لعدم أخذهما من نصه، وإن جهلنا مستندهما فليس أحدهما قولا مخرجا للإمام ولا مذهبا له بحال. فمن قال من الأصحاب هنا: «هذه المسألة رواية واحدة» أراد نصه. ومن قال: «فيها روايتان» فإحداهما بنص والأخرى بإيماء أو تخريج من نص آخر له أو بنص جهله منكره. ومن قال: «فيها وجهان» أراد عدم نصه عليهما، سواء جهل مستنده أم لا ولم يجعله مذهبا لأحمد (1) ، فلا يعمل إلا بأصح الوجهين وأرجحهما، سواء وقعا معا أو لا، من شخص واحد أو أكثر، وسواء علم التأريخ أو جهل. وأما «القولان هنا» فقد يكون الإمام نص عليهما كما ذكره أبو بكر عبد العزيز في زاد المسافر أو نص على أحدهما وأومأ إلى الآخر، وقد يكون مع أحدهما وجه أو تخريج أو احتمال بخلافه. وأما «الاحتمال» فقد يكون لدليل مرجوح بالنسبة إلى ما خالفه، أو لدليل مساو له. وأما «التخريج» فهو نقل حكم مسألة إلى ما يشبهها والتسوية بينهما فيه. وأما «الوقف» فهو ترك الأخذ بالأول والثاني والنفي والإثبات إن لم يكن فيها قول لتعارض الأدلة وتعادلها عنده، فله حكم ما قبل الشرع من حظر أو إباحة أو وقف.   (1) نسخة: سواء جهل مستنده أو علم أو لم يجعله مذهبا لأحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 [شيخنا] : ... ... ... فصل ومذهبه: ما قاله بدليل ومات قائلا به. وفيما قاله قبله بدليل يخالفه ثلاثة أوجه: النفي، والإثبات، والثالث: إن رجع عنه وإلا فهو مذهبه كما يأتي. وقيل: مذهب كل واحد عرفا وعادة: ما اعتقده جزما أو ظنا. وقوله وخطه وتأليفه إما نص أو ما يجري مجراه مما خرج على نصه العام ولا يرى تخصيصه أو المطلق ولا يرى تقييده أو يذكر علة الحكم ولا يرى تخصيصها، أو يعلقها بشرط يزول بزواله، أو يذكر حكم حادثة وغيرها مثلها شرعا كسراية عتق الموسر بعض عبد نفسه له أو لغيره والأمة مثله وما ثبت بالقياس والاجتهاد فمن دين الله وشرعه لا من نصه ولا من نص رسوله (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل قوله: «لا يصلح» أو «لا ينبغي» للتحريم، و «لا بأس» و «أرجو أن لا بأس» للإباحة، و «أخشى» أو «أخاف أن يكون» أو «لا يكون» ظاهر في المنع. وقيل: بالوقف، وقوله: «أحب كذا» أو «استحبه» أو «استحسنه» أو «هو أحسن» أو «حسن» أو «يعجبني» أو «هو أعجب إلي» للندب، وقيل: للوجوب، وقوله: «أكره كذا» أو «لا يعجبني» أو «لا أحبه» أو «لا أستحسنه» للتنزيه والكراهة، وقيل: للتحريم، وإن قال: «أستقبحه» أو «هو قبيح» أو قال: «لا أراه» فهو حرام، وإن قال: «هذا حرام» ثم قال: «أكرهه» أو «لا يعجبني» فحرام، وقيل: بل مكروه (2) . [شيخنا] : فصل فإن أجاب في شيء ثم قال في نحوه: «هذا أهون» أو «أشد» أو   (1) المسودة ص533 ف 2/26. (2) المسودة ص 529، 530 ف 2/26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 «أشنع» فقيل: هما عنده سواء؛ وقيل: لا، قال من عنده: إن اتحد المعنى أو كثر التشابه فالتسوية أولى، وإلا فلا، وقيل قوله: «هذا أشنع عند الناس» يقتضي المنع، وقيل: لا، وإن قال: «أخير منه» فهو للجواز وقيل: للكراهة، قال من عنده: والنظر إلى القرائن أولى في الكل (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [ما يعتبر مذهبا للشافعي] في قول الشافعي رضي الله عنه: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوا ما قلته. قال أبو عمرو بن الصلاح: عمل بذلك كثير من أئمة أصحابنا، فكان من ظفر منهم بمسألة فيها حديث ومذهب الشافعي خلافه عمل بالحديث، وأفتى به قائلا: مذهب الشافعي ما وافق الحديث، ولم يتفق ذلك إلا نادرا، ومنه ما نقل عنه قول موافق. وممن حكي أنه أفتى بالحديث في مثل ذلك أبو يعقوب البويطي، وأبو القاسم الداركي، وهذا الذي قطع به أبو الحسن إلكيا في أصوله، قال أبو عمرو: وليس هذا إلهين، فليس كل فقيه يسوغ أن يستقل بالعمل بما يراه حجة من المذهب، وفيمن سلك هذا من عمل بحديث تركه الشافعي عمدا على علم منه بصحته لمانع، كأبي الوليد بن الجارود [ممن صحبه] في حديث: «أفطر الحاجم والمحجوم» وعن ابن خزيمة أنه قيل له: هل تعرف سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتابه؟ قال: لا، قال أبو عمرو: وعند هذا أقول: من وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه فإن كملت فيه آلات الاجتهاد مطلقا أو في ذلك الباب أو في تلك المسألة كان له الاستقلال بالعمل بذلك الحديث، وإن لم تكمل آلته وجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد   (1) المسودة ص 530 ف 2/26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 لمخالفته عنه جوابا شافيا، فإن كان قد عمل بذلك الحديث إمام مستقل فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث، ويكون ذلك عذرا له في ترك مذهب إمامه في ذلك والله أعلم. قال: والمفتي المنتسب إلى إمام: هل له أن يفتي بمذهب آخر؟ إن كان ذا اجتهاد فأداه اجتهاده إلى مذهب إمام آخر اتبع اجتهاده، وإن كان اجتهاده مشوبا بشيء من التقليد نقل ذلك الشوب [من التقليد] إلى ذلك الإمام الذي أداه اجتهاده إليه، ثم إذا أفتى بين ذلك في فتواه، وذكر العمل بمثل ذلك عن القفال والمروذي والحلواني أنه أنكر مثل ذلك على الغزالي. قال: وإن لم يكن بنى على اجتهاده فإن ترك مذهبه إلى مذهب هو أسهل عليه وأوسع فالصحيح امتناعه، وإن تركه لكون الآخر أحوط المذهبين فالظاهر جوازه، ثم عليه بيان ذلك في فتواه. قال: وليس له أن يتخير من القولين (1) أو الوجهين، بل عليه في القولين أن يعمل بالمتأخر منهما كالجديد مع القديم، وإن لم يتقدم أحدهما عمل بما رجحه الشافعي، فإن لم يرجح شيئا منهما فعليه البحث على الأصح منهما متعرفا ذلك من أصول مذهبه غير متجاوز في الترجيح قواعد مذهبه إلى غيرها إن كان ذا اجتهاد في مذهبه أهلا للتخريج عليه، فإن لم يكن أهلا لذلك فلينقله عن بعض أهل التخريج من أهل المذهب وإن لم يجد شيئا من ذلك فليتوقف كما فعل الماوردي وشيخه الصيمري وشيخه ابن القاص وشيخه أبو حامد المروذي في مسألة الناسي في اليمين. والوجهان فلا بد من ترجيح أحدهما بمثل الطريق المذكورة دون التقدم والتأخر، سواء وقعا معا في حالة واحدة من إمام من أئمة المذهب أو من إمامين واحد بعد واحد، والمنصوص من   (1) نسخة: وليس للمنتسب إلى الشافعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 القولين راجح إلى المخرج إلا أن يكون المخرج مخرجا من آخر لتعذر الفارق قال: ومن اكتفى بأن يكون في فتواه أو عمله موافقا لقول أو وجه في المسألة من غير نظر في الترجيح ولا تقيد به فقد جهل وخرق الإجماع. وذكر عن أبي الوليد الباجي أنه ذكر عن بعض أصحابهم أنه كان يقول: إن الذي لصديقي عليَّ إذا وقعت له حكومة أن أفتيه بالرواية التي توافقه وذكر أن بعضهم سئلوا عن مسألة فأفتوا فيها بما يضر صاحبها، وكان غائبا، فلما عاد سألهم فقالوا: ما علمنا أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه. قال أبو الوليد: وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ممن يعتد به في الإجماع أنه لا يجوز (1) . [التمذهب والتقليد] وأما قول القائل: لا أتقيد بأحد هؤلاء الأئمة الأربعة. إن أراد أنه لا يتقيد بواحد بعينه دون الباقين فقد أحسن؛ بل هو الصواب من القولين. وإن أراد: أني لا أتقيد بها كلها بل أخالفها فهو مخطئ في الغالب قطعا؛ إذ الحق لا يخرج عن هذه الأربعة في عامة الشريعة؛ ولكن تنازع الناس: هل يخرج عنها في بعض المسائل؟ على قولين. وقد بسطنا ذلك في موضع آخر. وكثيرا ما يترجح قول من الأقوال يظن الظان أنه خارج عنها ويكون داخلا فيها. لكن لا ريب أن الله لم يأمر الأمة باتباع أربعة أشخاص دون غيرهم. هذا لا يقوله عالم؛ وإنما هذا كما يقال: أحاديث البخاري ومسلم؛ فإن الأحاديث التي رواها الشيخان فصححاها قد صححها من الأئمة ما شاء الله؛ فالأخذ بها لأنها قد صحت؛ لا لأنها قول شخص بعينه. وأما من عرض عليه حديث فقال: لو كان صحيحا لما أهمله أهل   (1) المسودة ص 535-537 ف 2/26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 مذهبنا. فينبغي أن يعزر هذا على فرط جهله وكلامه في الدين بلا علم. والكذب في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم الذنوب، وقد اختلف: هل هو فسق أو كفر؟ على قولين (1) . ولا يجب تقليد واحد بعينه غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن إن كان معتقدا في مسألة باجتهاد أو تقليد فانفصاله عنه لابد له من سبب شرعي يرجح عنده قول غير إمامه؛ فإذا ترجح عند الشافعي مثلا قول مالك قلده، وكذلك غيره. وأما انتقال الإنسان من قول إلى قول بلا سبب شرعي يأمر الشرع به ففي تسويغه نزاع (2) . لا يجب على المالكي ولا غيره تقليد أحد من الأئمة بعينه في جميع الدين باتفاق الأئمة الكبار (3) . وأما لزوم «التمذهب بمذهب» والامتناع عن الانتقال منه إلى غيره في مسألة: ففيه وجهان، وفاقا لمالك والشافعي، وعدمه أشهر وفي اللزوم طاعة غير النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل أمره ونهيه، وهذا خلاف الإجماع. قاله شيخنا. وقال: جوازه فيه ما فيه. قال: ومن أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قتل. وإن قال: ينبغي كان جاهلا ضالا. قال: ومن كان متبعا لإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم وأتقى فقد أحسن ولم يقدح في عدالته بلا نزاع. وقال أيضا: في هذه الحال يجوز عند أئمة الإسلام. وقال أيضا: بل يجب وأن أحمد نص عليه (4) .   (1) الفروع 6/571، 572 فيه زيادة ف 2/28 فيه زيادة. (2) مختصر الفتاوى 61 ف 2/28. (3) مختصر الفتاوى 73 ف 2/28. (4) مختصر الفتاوى 41 ف 2/28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 ومن ادعى العصمة لأحد في كل ما يقوله بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو ضال، وفي تكفيره نزاع وتفصيل (1) . ومن قلد من يسوغ له تقليده فليس له أن يجعل قول متبوعه أصح من غيره بالهوى بغير هدى من الله، ولا يجعل متبوعه محنة للناس فمن وافقه والاه ومن خالفه عاداه؛ فإن هذا حرمه الله ورسوله باتفاق المؤمنين؛ بل يجب على المؤمنين أن يكونوا كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} إلى قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [102-106/3] قال ابن عباس رضي الله عنهما: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وفي جواز تقليد الميت قولان في مذهب أحمد وغيره. [شيخنا] : ... ... ... فصل «التقليد» : قبول القول بغير دليل، فليس المصير إلى الإجماع تقليد؛ لأن الإجماع دليل، وكذلك يقبل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يقال له: تقليد؛ بخلاف فتوى الفقيه. وذكر في ضمن مسألة التقليد أن الرجوع إلى قول الصحابي ليس بتقليد؛ لأنه حجة، قال فيها: لما جاز له تقليد الصحابة لزمه ذلك ولم يجز له أن يخالفه، بخلاف الأعلم، وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث: من قلد الخبر رجوت له أن يسلم إن   (1) مختصر الفتاوى ص 558 ف 2/28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 شاء الله. فقد أطلق اسم التقليد على من صار إلى الخبر، وإن كان حجة في نفسه (1) . [شيخنا] : ... ... ... ... فصل في التقليد: وهو قبول قول المقلد بغير حجة، فيلزم المقلد ما كان في ذلك القول من خير وشر. وعلى هذا لا يسمى متبع الرسول ولا الإجماع مقلدا، لقيام الدليل على أنه حجة. وقال أبو الخطاب أيضا: ما سمعه من الرسول لا يسمى تقليدا، بل هو الحجة الواضحة في الشرع؛ لأنه إن كان بوحي فهو مقطوع بصحته وإن كان عن رأي فهو مقطوع بصحته أيضا، لأنه لا يخطئ فيما شرعه، ومن يجوز الخطأ عليه يقول: لا يقر عليه، فإذا أقره على ما كان أفتاه فهو مقطوع عليه. قال: وأما الصحابي فلا يجوز للعالم تقليده في إحدى الروايتين، وهو الأقوى عندي. ومن سلم قال: إن قول الصحابي حجة في الشرع، بخلاف المفتي من غير الصحابة بدليل أنه يجب على العالم ترك اجتهاده والأخذ بقول الرسول أو بقول الصحابي عند من جعله حجة، ولا يجب عليه تقليد غيره (2) . فصل قال شيخنا: أول أركان الإسلام ومبانيه الخمسة قولا وفعلا وعملا في حق كل مكلف الشهادتين نطقا إن أمكن واعتقادا جاز ما بموجبهما ومقتضاهما وقيل: والتزام أحكام الملة وإشارة مفهومة من الأخرس   (1) المسودة ص 462 ف 2/28. (2) المسودة ص 553، 554 ف 2/27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 ونحوه، وهما معلومتان عرفا. ومن جهلهما تشريعا، ثم الصلاة، ولا تصح بدون طهارة شرعية مع القدرة عليها، ولا يجب تحصيل شرط الوجوب والإيجاب؛ بل يجب تحصيل شرط أداء ما وجب كالوضوء الغسل وإزالة النجاسة، والتيمم ونحو ذلك، للصلاة الواجبة عليه قبل ذلك. [ما لا يجوز فيه التقليد] قال والد شيخنا: الذي ذكره القاضي أنه لا يجوز التقليد في معرفة الله ووحدانيته والرسالة ولا في السمعيات المتواترة الظاهرة كالصلوات ووجوب الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت لاستواء الناس في طرق علم ذلك. وهذا مطابق لما ذكره ابن عقيل. فأما الفروع التي ليست متواترة ظاهرة فيسوغ التقليد فيها، وإن كان فيها ما لا يسوغ فيه الاجتهاد لإجماع غير مشهور أو نص يعرفه الخاصة -مثل وجوب الشفعة، وحمل العاقلة دية الخطأ وكون الطواف والوقوف ركنين في الحج وتفاصيل نصب الزكاة وفرائضها، وقطع اليمنى من يد السارق، وتنجس الدهن بموت الفأرة، إلى غير ذلك من أحكام مجمع عليها لا تعد ولا تحصى مجمع عليها لا يسوغ فيها الاجتهاد والاختلاف ومع هذا فهي غير ظاهرة ظهور أصول الشرائع- فيسوغ فيها التقليد؛ لأن تكليف العامي معرفة الفرق بين مسائل الإجماع والاختلاف يضاهي تكليفه درك حكم حوادثه بالدليل، ولهذا يكفر جاحد الأحكام الظاهرة المجمع عليها وإن كان عاميا، دون الخفية؛ فما فرق بينهما في التكفير فرق في التقليد، وكذلك أيضا منع التقليد في جميع مسائل الأصول فيه نظر؛ بل الحق ما ذكره القاضي وابن عقيل أن المنع في التوحيد والرسالة فإنهما ركنا الإسلام، وفاتحة الدعوة وعاصمة الدم، ومناط النجاة والفوز. فأما تكليف عموم الناس درك دقائق المسائل الأصولية بالدليل فهو قريب من تكليفهم ذلك في الفروع فالمميز الفرق؛ فإن تراجم هذه المسألة مختلفة في كلام أصحابنا وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 قال شيخنا: وكذلك قال أبو الخطاب: الذي لا يسوغ التقليد فيها هو معرفة الله ووحدانيته، ومعرفة صحة الرسالة، وذكر أن الأدلة على هذه الأصول الثلاثة يعرفه كل أحد بعقله وعلمه، وإن لم يقدر العامي على أن يعبر عنه. قال: وبه قال عامة العلماء. وقال بعض الشافعية: يجوز للعامي التقليد في ذلك. قال: ولا يختلف الشافعية أنه ليس للمكلف المسلم أن يقلد في وجوب الصلاة والصوم عليه ونحو ذلك فأولى أن لا يجوز التقليد في الوحدانية والنبوة. ثم قال: وكذلك أصول العبادات كالصلوات الخمس وصيام رمضان وحج البيت والزكاة؛ فإن الناس أجمعوا على أنه لا يسوغ فيها التقليد لأنه ثبت بالتواتر ونقلته الأمة كلها خلفها عن سلفها. ثم أطلق أبو الخطاب أن العامي لا يجوز له التقليد في مسائل الأصول وقال في البحث مع ابن سريج: لو خشي المكلف أن يموت لم يجز له التقليد في معرفة الله والوحدانية (1) . [هل يخير المقلد في المجتهدين؟] مسألة: للعامي أن يقلد في الفروع أي المجتهدين شاء، ولا يلزمه أن يجتهد في أعيان المجتهدين في قول القاضي وأبي الخطاب وجماعة من الفقهاء وذكر القاضي وأبو الخطاب أنه ظاهر كلام أحمد كما ذكر القاضي أن العامي يتخير بين المفتين ولا يلزمه الاجتهاد. قال: فإن قيل: فهلا قلتم: يلزمه الأخذ بقول من غلظ كما قلتم: إذا تقابل في الحادثة دليلان أحدهما حاظر والآخر مبيح؟ قيل له: فرق بينهما وقال ابن عقيل: لا يتخير؛ بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين الأدين والأورع ومن يشار إليه أنه أعلم، وقال: ذكره أحمد، ولم يحك في المذهب فيه خلافا وذكره القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى بن الفراء في العامي: هل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين؛ أم له الأخذ بقول أيهم شاء؟ على روايتين؛ إحداهما مثل قول القاضي والجمهور منا. والثانية   (1) المسودة ص 459-461 ف 2/27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 مثل قول ابن عقيل، ذكر ذلك في الإتمام لكتاب الروايتين والوجهين، وبهذا قال ابن سريج القفال، وكذلك ذكر ابن برهان لهم الوجهين، وذكره الخرقي فقال: يقلد الأعمى أوثقهما في نفسه. وذكر أبو الخطاب في ضمن مسألة تعادل الأمارات فيها وجهين، أحدهما: يجتهد في أعيان المفتين، ويقلد أعلمهما وأدينهما عنده، وأخذ أصحابنا أن له أن يقلد من شاء من أهل الاجتهاد من قوله في رواية الحسن بن زياد (1) ، وقد سأله عن مسألة في الطلاق فقال: إن فعل حنث. فقال له: يا أبا عبد الله! إن أفتاني إنسان -يعني أنه لا يحنث- فقال: تعرف حلقة المدنيين- حلقة بالرصافة- فقال: له: إن أفتوني به حل؟ قال: نعم. قال: وهذا يدل على أن العامي يخير في المجتهدين. وذكر أبو الخطاب قول من قال: يلزمه أن يجتهد في أعيانهم أيهم أعلم وقد أومأ الخرقي إلى نحو هذا في مسألة القبلة، ووجه أبو الخطاب الأول بالإجماع وبأن معرفة الأعلم تتعذر على العامي، وقال أبو الخطاب: فإن اجتهد في العلماء فاستوى عنده علمهم، فإن كان أدين وجب عليه تقديم الأدين على أحد الوجهين وعلى الوجه الآخر هما سواء، فإن كان أحدهما أعلم والآخر أدين، فقال بعضهم: هما سواء, وقال آخرون: يعتمد الأعلم، فإن استووا عنده في العلم والدين كان مخيرا في الأخذ بأي أقاويلهم شاء؛ لأنه ليس بعضهم بقبول قوله أولى من بعض. قال: وإن أفتاه اثنان واختلفا فهل يخير بينهما، وقيل مع التساوي عنده، أو يأخذ بأغلظهما، أو أشدهما، أو بأخفهما، أو بأرجحهما دليلا، أو بقول أعلمهما وأورعهما، أو الأعلم، أو الأورع، أو يسأل مفتيا آخر فيعمل بقول من وافقه منهما، وقيل: أو من خالفه؟ فيه أوجه ذكرت. قال شيخنا: قلت: بعض هذه الوجوه إنما هي فيما ينسب إلى   (1) نسخة: الحسن بن بشار المخزومي. ونسخة: الحسين بن زياد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 الإمام من أقواله، لا فيما يقلده العامي من أقوال العلماء المختلفين، وأين اختلاف الواحد إلى اختلاف القائلين (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [المجتهد هل يقلد مجتهدًا] ؟ ومن جوز للعامي تقليد الأعلم فإنه يجوز له أن يترك تقليده ويعمل على اجتهاد نفسه، ذكره القاضي بما يقتضي أنه محل وفاق، قال: بخلاف العامي؛ فإنه يجب عليه الرجوع إلى قوله، وصرح ابن عقيل بذلك، فقال: ولا خلاف بيننا أنه يجوز ترك اجتهاد غيره والتعويل على اجتهاد نفسه، وإن كان الغير أعلم منه (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [تقليد الميت] قال ابن عقيل: اختلف الأصوليون والفقهاء في تقليد العامي لقول ميت من مجتهدي السلف إذا لم يبق مجتهد في العصر يفتي بقوله: هل يجوز أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه لا يجوز تقليد مذاهب الموتى ذكره ابن عقيل (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [هل يجتهد في أعيان المسائل التي يقلد فيها] ؟ الذي ليس بمجتهد له أن يجتهد في أعيان المفتين بلا ريب وهل يجتهد في أعيان المسائل التي يقلد فيها، بحيث إذا غلب على ظنه أن بعض المسائل على مذهب فقيه أقوى فعليه أن يقلده فيها ويفتي إخبارا عن قوله، قال ذلك أبو الحسن القدوري وقال أبو الطيب الطبري: ليس للعامي استحسان الأحكام فيما اختلف فيه الفقهاء، ولا أن يقول قول   (1) المسودة ص 462-464 ف 2/28. (2) المسودة ص 466 ف 2/28. (3) المسودة ص 466 ويأتي لهذا زيادة إيضاح ص 284 من المسودة ص 522 ف 2/28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 فلان أقوى من قول فلان، ولا حكم لما يغلب على ظنه، ولا اعتبار به، ولا طريق له إلى الاستحسان، كما لا طريق له إلى الصحة (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [تتبع الرخص لا يجوز] إذا جوز للعامي أن يقلد من يشاء فالذي يدل عليه كلام أصحابنا وغيرهم أنه لا يجوز له يتتبع الرخص [مطلقا] فإن أحمد أثر (2) مثل ذلك عن السلف وأخبر به (3) فروى عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل المدينة في السماع، يعني في الغناء، وبقول أهل الكوفة في النبيذ، وبقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقا، ونقلت من خط القاضي قال: نقلت من مجموع أبي حفص البرمكي قال عبد الله: سمعت أبي، وذكر نحوه وقال الخلال في كتابه: حدثنا يحيى بن طالب الأنطاكي، حدثنا محمد بن مسعود، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، قال: لو أن رجلاً أخذ بقول أهل المدينة في السماع -يعني الغناء وإتيان النساء في أدبارهن-، وبقول أهل مكة في المتعة والصرف، وبقول أهل الكوفة في المسكر، كان شر عباد الله عز وجل. وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم -أو قال بزلة كل عالم- اجتمع فيك الشر كله. وفي المعنى آثار عن علي وابن مسعود ومعاذ وسلمان، وفيه مرفوعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر. قال القاضي بعد ذكر كلام الإمام أحمد المنقول من خطه: هذا محمول على أحد وجهين: إما أن يكون من أهل الاجتهاد ولم يؤده اجتهاده إلى الرخص فهذا فاسق [لأنه ترك ما هو الحكم عنده واتبع   (1) المسودة ص 518، 512 ف 2/28. (2) نسخة: يتتبع الرخص فإن أحمد حكى مثل ذلك. (3) نسخة: راضيا به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 الباطل، أو يكون عاميا فأقدم على الرخص من غير تقليد فهذا أيضا فاسق] (1) لأنه أخل بفرضه وهو التقليد فأما إن كان عاميا فقلد في ذلك لم يفسق لأنه قلد من يسوغ اجتهاده (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا أفتى أحد المجتهدين بالحظر والآخر بالإباحة] إذا أفتى أحد المجتهدين بالحظر والآخر بالإباحة وتساوت فتواهما عند العامي فإنه يكون مخيرا في الأخذ بأيهما شاء، فإذا اختار أحدهما تعين القول الذي اختاره حظرا أو إباحة، ذكره القاضي في أسئلة المخالف بما يقتضي أنه محل وفاق ولم يمنعه (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [ما يجب على العامي] يجب على العامي قطعا البحث الذي به يعرف صلاح المفتي للاستفتاء إذا لم تكن تقدمت معرفته بذلك، ولا يجوز له استفتاء من اعتزى إلى العلم وإن انتصب في منصب التدريس أو غيره. ويجوز استفتاء من تواتر بين الناس أو استفاض فيهم كونه أهلا للفتوى. وعند بعض الشافعية إنما يعتمد على قوله إذا كان أهلا للفتوى؛ لأن التواتر لا يفيد العلم إلا في المحسوس، ورب شهرة لا أصل لها. ويجوز له استفتاء من أخبر المشهور المذكور عن أهليته. وأطلق أبو إسحاق الشيرازي وغيره أنه يقبل فيه خبر الواحد العدل، وينبغي أن يشترط فيه أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به الملبس من غيره، قال أبو عمرو: ولا ينبغي أن يكفي في هذه الأزمان مجرد تصديقه للفتوى واشتهاره بمباشرتها، لا بأهليته لها. فإذا اجتمع اثنان ممن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد   (1) ما بين المعقوفتين ساقط من بعض النسخ المسودة ص 518، 519 ف 2/28. (2) المسودة ص 519، 520 ف 2/28. (3) المسودة ص 519، 520 ف 2/28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 في أعيانهم؟ فيه وجهان، أحدهما -وهو عند العراقيين قول الأكثر والصحيح- أنه لا يجب. الثاني: أنه يجب، قاله ابن سريج والقفال، وصححه صاحبه القاضي حسين، والأول أصح؛ لكن متى اطلع على الأوثق منهما فالأظهر أنه يلزمه تقليده دون الآخر، كما يجب تقديم أرجح الدليلين، فيقدم أورع العالمين وأعلم الورعين، والأعلم أولى من الأورع على الأصح. وهل يجوز له أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء؟ فإن كان منتسبا إلى مذهب معين انبنى على أن العامي هل له مذهب؟ فيه وجهان، حكاهما أبو الحسين، أحدهما: لا، فله أن يستفتي من شاء من أهل المذاهب، الثاني: وهو أصح عند القفال والمروذي له مذهب، فلا يجوز له إن كان شافعيا أن يستفتي حنفيا، ولا يخالف إمامه. قاله أبو عمرو: وقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له مخالفة إمامه، وإن لم يكن قد لانتسب إلى مذهب معين انبنى على أنه: هل يلزمه التمذهب بمذهب معين؟ فيه وجهان ذكرهما ابن برهان، أحدهما: لا يلزمه ذلك، قال أبو عمرو: فعلى هذا هل له أن يستفتي على أي مذهب شاء أو يلزمه أن يبحث حتى يعلم علم مثله أشد المذاهب وأصحها أصلا فيستفتي أهله؟ فيه وجهان، كما في أعيان المفتين. والثاني يلزمه ذلك، وبه قطع إلكيا، وهو جار في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأرباب سائر العلوم، قال: فعلى هذا ليس له أن يتبع في ذلك مجرد التشهي والميل إلى ما وجد عليه أباه، وليس له التمذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة، وإن كانوا أعلم؛ لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه فليس لأحد منهم مذهب، وإنما قام بذلك من جاء بعدهم. ثم ذكر رجحان مذهب الشافعي على من قبله، قال: ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك. فإن اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه أوجه؛ أحدها: الأغلظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 والثاني: الأخف. الثالث: يجتهد في الأوفق فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع، واختاره السمعاني الكبير، ونص الشافعي على مثله في القبلة. والرابع: يسأل مفتيا آخر فيعمل بفتوى من وافقه. والخامس: يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء، وهو الصحيح عند أبي إسحاق واختاره ابن الصباغ فيما إذا تساوى عنده مفتيان. قال أبو عمرو: والمختار أن عليه الاجتهاد في الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض، وليس هذا من الترجيح المختلف فيه عنده الاستفتاء، فليبحث عن الأوفق من المفتين فيعمل بفتواه، فإن لم يترجح عنده أحدهما استفتى آخر فيعمل بفتوى من وافقه الآخر، فإن تعذر ذلك وكان اختلافهما في الحظر والإباحة وقبل العمل بذلك اختار الحظر، وإن تساويا من كل وجه خيرناه بينهما، وإن بينا التخيير في غيره، لأنه ضرورة، وإنما يخاطب هذا المفتون، وأما العامي الذي وقع له ذلك فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو غيرهما (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [تضعيف قول أبي المعالي] يجوز تقليد المجتهدين الموتى، ولا يبطل قولهم بموتهم كإجماعهم، وكالشاهد إذا أدى شهادته ومات قبل الحكم بها فإنها لا تبطل؛ بل يحكم بها الحاكم الذي سمعها منه، وإن لزم المفتي تجديد اجتهاده بتجديد الحادثة وإعلام المقلد به بتغير اجتهاده، لوم المقلد تجديد السؤال بتجدد الحادثة له ثانيا، ورجوعه إلى قوله الثاني فيه احتمال لاحتمال تغير اجتهاده لو كان حيا. وقيل: إن مات المفتي قبل العمل بها فله العمل بها. وقيل: لا كما سبق. وإن كان قد عمل بها لم يجز ترك قوله إلى قول غيره في تلك الحادثة.   (1) المسودة ص 464-466 ف 2/28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وقال أبو المعالي في مسألة تقليد العالم: الاختيار أنه يجوز في العقل ورود التعبد بذلك، ولكن لم يقم دليل وجود ذلك، بل ثبت بالإجماع أنه يجب على المجتهد أن يجتهد، فلهذا الوجوب لا يزول إلا بدليل وما قام عندنا دليل قاطع على أنه يجوز الآن في الشرع للعالم تقليد العالم، فإذا كان الأمران مستويين في العقل وقد تبين بالشرع وجوب أحدهما ولم يرد في الثاني شرع نفيا وإثباتا وجب التمسك بما وضح مسلك الشرع فيه. قال شيخنا: قلت: هذا ضعيف، فإن اعتماده على الإجماع، وهو لم يجمعوا على وجوب الاجتهاد عينا، بل المجوز للتقليد يقول: الواجب إما الاجتهاد وإما التخيير، كما لو اختلفوا في فريضة ما بين أربع حقاق أو خمس بنات لبون، فحقيقة قوله التوقف في المسألة (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [المجتهد في مذهب إمامه متى تحسب فتياه عن إمامه أو عن نفسه؟] قال ابن حمدان من عنده: فمن اجتهد في مذهب إمامه فلم يقلده في حكم ودليله ففتياه به عن نفسه لا عن إمامه؛ فهو موافق له فيه، لا تابع له. فإن قوي عنده مذهب غيره أفتى به وأعلم السائل مذهب إمامه وأنه ما أفتاه به. فإن كان غرض السائل مذهب إمامه لم يفته بغيره وإن قوي عنده؛ ولأنه حيث لم يقو عنده فإن قلد إمامه في حكمه وفي دليله أو دون دليله ففتياه به عن إمامه إن جاز تقليده ميتا. وإلا فعن نفسه إن قدر على التحرير والتقرير (2) والتصوير والتعليل والتفريع والتخريج الجمع والفرق كالذي لم يقلد فيهما، فإن عجز عن ذلك أو بعضه ففتياه عن إمامه لا   (1) المسودة ص 522، 523 ف 2/28. (2) نسخة: والتفريق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 عن نفسه وكذلك المجتهد في نوع علم أو مسألة منه، ومنعه فيهما أظهر. وقيل: من عرف المذهب دون دليله جاز تقليده فيه. وقيل: إن لم يجد في بلده غيره وعجز عن السفر إلى مفت في موضع بعيد، فإن عدمه في بلده وغيره فله حكم ما قبل الشرع من إباحة وحظر ووقف. ومن أفتى بحكم أو سمعه من مفت فله العمل به، لا فتوى غيره؛ لأنه حكاية فتوى غير وإنما سئل عما عنده (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [متى يلزم السائل العمل بالفتوى؟] لا يلزم السائل العمل بالفتوى إلا أن يلتزم بها ويظنها حقا، وقيل: ويشرع في العمل بها، فإن لم يجد مفتيا آخر يخالفه لزمه العمل بها مطلقا، كما لو حكم عليه بها حاكم. وذكر ابن الصلاح عن أبي المظفر السمعاني إذا سمع المستفتي الجواب من المفتي لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه، ويجوز أن يقال: إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به. وقيل: إنه يلزمه إذا وقع في نفسه صحته، وهو أولى الأوجه. قال: ولم أجده لغيره، والذي تقتضيه القواعد أنه إنما يلزمه الأخذ بفتياه إذا لم يجد غيره سواء التزم أو لم يلتزم، أو برجحان أحدهما، أو بحكم حاكم (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الاجتهاد والمجتهدون] وذكر ابن عقيل: أن العامي لا يجوز له التقليد إلا لمجتهد، وكذلك التزم أنه لا بد في كل عصر من مجتهد يجوز للعامي تقليده، ويجوز أن يولي القضاء. وهذا يقتضي أن المفتي لا يجوز أن يفتي بالنقل عن غيره من المجتهدين المتقدمين. وابن عقيل إنما عنى بذلك الاجتهاد المطلق (3) .   (1) المسودة ص 523، 524 ف 2/28. (2) المسودة ص 524 ف 2/28. (3) المسودة ص 545 ف 2/29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 مسألة: لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر، سواء في ذلك ضيق الزمان وسعته، نص عليه في رواية الفضل بن زياد، ذكرها ابن بطة أن أحمد قال له: يا أبا العباس لا تقلد دينك الرجال فإنهم لم يسلموا من أن يغلطوا. وقال في رواية أبي الحارث: لا تقلد أمرك أحدا منهم وعليك بالأثر. قال القاضي: فقد منع من التقليد وندب إلى الأخذ بالأثر [وإنما يكون هذا فيمن له معرفة بالأثر والاجتهاد] (1) (2) . قال أبو الخطاب: وعن أبي حنيفة روايتان إحداهما: جوازه والثانية: المنع منه، وبه قال الشافعي والصيرفي وابن أبي هريرة وأبو يوسف وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومحمد: يجوز حكاه أبو سفيان في مسائله. وكلامهم في المسألة يدل على الأعلم فقط، ولم يفرق بين أن يكون الزمان واسعا أو ضيقا وكذلك ذكر هذا ابن حامد في أصوله عن بعض أصحابنا وبعض المالكية واختاره ابن سريج مع ضيق الوقت وحكى عن محمد أنه أجازه لمن هو أعلم منه، ولم يجزه لمن هو مثله أو دونه، وكذلك جزم به عنه ابن برهان وأبو الخطاب ولم يذكر عن أحد تقليد المساوي مع السعة. قال والد شيخنا: وحكى الحلواني عن أبي حنيفة ومحمد: أنه يجوز تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز تقليد من هو مثله. قال: وحكى عن سفيان الثوري وإسحاق أنه يجوز له تقليد غيره بكل حال، قال أبو الخطاب: وروي [عن] ابن سريج مثل قول محمد الأخير، وروي عنه أنه يجوز مع ضيق الوقت لا مع سعته، قال: وقال بعض الشافعية: إن لم يجتهد فله أن يقلد على الإطلاق، وإن اجتهد لم يجز له التقليد. قال: وحكى عن أبي إسحاق الشيرازي أن مذهبنا جواز تقليد العالم للعالم،   (1) والاجتهاد ساقطة من بعض النسخ. (2) ما بين المعقوفتين ساقط من بعض النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وهذا لا نعرفه لأصحابنا، وقد بينا كلام صاحب مقالتنا (1) . وهذا الذي ذكره أبو الخطاب يدل على أن المجيزين على الإطلاق (2) جوزوا التقليد بعد الاجتهاد حيث جعل التفصيل (3) قولا، ثم ذكر في أثناء المسألة أن المجتهد لو اجتهد فأداه اجتهاده إلى خلاف قول من هو أعلم منه لم يجز ترك رأيه والأخذ برأي ذلك الغير، فوجب ألا يجوز وإن لم يجتهد لأنه لا يأمن لو اجتهد أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف ذلك القول، فقد جعل المنع من تقليده بعد الاجتهاد محل وفاق. [تقليد الصحابة] قال شيخنا: قلت: هذا في تقليد الصحابة عند من جعله من صور المسألة ليس بصحيح، فإن العلماء صرحوا بجواز ذلك وإن خالف رأينا، وفي كلام بعضهم ما يدل على أنهم كانوا يقلدون في مخالفة رأيهم وأما وقوع هذا بالفعل من اتباع الأئمة فكثير لا يحصر. وذكر أيضا أبو الخطاب أنه لا خلاف في أنه يجوز ترك قول الأعلم لاجتهاده، ثم ذكر بعد هذا أن قول الصحابي ليس من صور هذه المسألة، فإنه يجب عليه ترك اجتهاده لقول الصحابي عند من جعله حجة، ولا يجب عليه تقليد غيره. وحكى أبو المعالي في كتاب الاجتهاد عن الإمام أحمد قال: فأما تقليد الصحابة، قال أحمد: العالم (4) قبل اجتهاده يقلد الصحابي ويتخير في تقليده من شاء منهم، ولم يجوز تقليد التابعين، استثنى عمر بن عبد العزيز، وجوز تقليده، وهذا غريب. قال: وقال الشافعي في القديم: قول الصحابي حجة ويجب على المجتهدين التمسك به، ثم قال: يقدم على القياس الجلي   (1) ونسخة: وهذا لا نعرفه عن بعض، وقد بينا مقالتنا. (2) نسخة المجيزين الإطلاق. (3) نسخة التقليد. (4) نسخة للعالم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 والخفي وفي رواية: على الخفي دون الجلي، وظاهر مذهبه في القديم أنه حجة إذا لم يظهر خلاف في الصحابة، ونقل عنه في القديم: إذا اختلفوا فالتمسك بقول الخلفاء أولى، وقال في الجديد: لا حجة في قول الصحابي، والاختيار عنده إذا انطبق على القياس لم يكن حجة وإذا خالف القياس الجلي فلا يخالفه إلا عن توقيف، قال: وقد بنينا على هذا مسائل في الفروع كتغليظ الدية بالحرمات الثلاث، قال: وعلى هذا يجب أن يقال: يجب على بعض الصحابة الأخذ بقول البعض في محل لا قياس فيه، فإذا اختلفوا فهو كأخبار متعارضة. وعند القاضي قوله ليس بحجة وإن خالف القياس (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا ضاق الوقت فهل يقلد وإذا صلى هل يعيد؟] ذكر أبو الخطاب في كلامه مع ابن سريج أنه لا يجوز له التقليد مع ضيق الوقت، قال هو والقاضي وابن عقيل: لأن الاجتهاد شرط في صحة فرضه في الحادثة [وعلى الاستدلال في الأصول] فلم يسقط بخوف فوت الوقت كسائر الشروط مثل الطهارة والستارة في الصلاة، وقاس ابن عقيل على الاستفتاء في حق العامي وعلى الاستدلال في الأصول. وقال أبو الخطاب أيضا لما قيل له إنه لا يمكنه أداء فرض باجتهاده، قال القاضي: لا يجوز اعتبار المتمكن بالعاجز، كما لا يجوز اعتبار من لم يجد الماء والسترة بمن يقدر عليهما ولكنه يخاف فوات الوقت إن استعملهما، قال أبو الخطاب: لا نسلم الوصف، لأن فرضه يؤديه بعد اجتهاده، قال: إن كانت العبادة مما يجوز تأخيرها للعذر جاز ههنا، لأن اجتهاده عذر له في التأخير، وإن كانت مما لا يجوز تأخيرها كالصلاة وغيرها فإنه يفعلها على حسب حاله ويعيد، وكذلك من حبس في موضع نجس يصلي ويعيد.   (1) المسودة ص 468-470 ف 2/27، 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 قال شيخنا: قلت: هذا الأصل المنصوص فيه عدم الإعادة، وكذلك إحدى الروايتين أن الرجل لا يجب عليه صلاتان؛ فعلى هذا يصلي في الوقت ولا يعيد، وهذا قول ابن سريج بعينه فثبت أنه ظاهر مذهبنا. وعلى قياس قول أبي محمد في القبلة أنه يجتهد وإن خرج الوقت تفوت العبادة، وهذا لا يمشي، فإنه قد يكون أحد القولين وجوب فعلها في الحال، والآخر تحريم فعلها فكيف يصنع هذا إلا التقليد؛ فالصواب قول ابن سريج (1) . [لا يجوز خلو عصر من الأعصار من مجتهد] مسألة: لا يجوز خلو عصر من الأعصار من مجتهد يجوز للعامي تقليده، ويجوز أن يولى القضاء، خلافا لبعض المحدثين في قولهم: لم يبق في عصرنا مجتهد. هذا نقل ابن عقيل. قال شيخنا: وفي كلام القاضي في الإجماع السكوتي إشارة إليه. والأول قول عبد الوهاب المالكي وطوائف ممن تكلم في أصول الفقه وذكروه في مسائل الإجماع (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل قال أبو الخطاب: أجمع الناس على أن المجتهد إذا حكم في حادثة بحكم ثم جاءته مثلها أنه لا يقنع بذلك الاجتهاد؛ بل يجتهد ثانيا، وما عليه دليل قطعي لا يحتاج إلى ذلك كمن عرف التوحيد والنبوة قال: وفيه نظر. [إذا وقعت الحادثة مرة ثانية فهل يجدد النظر؟] وقال أيضا: إذا سئل المفتي عن مسألة فإن كان قد تقدم له فيها اجتهاد وقول وهو ذاكر لطريق الاجتهاد والحكم جاز له أن يفتي بذلك، وإلا فلا. فإن ذكر الحكم دون طريق الاجتهاد لزمه أن يذكر طريق   (1) المسودة ص 470، 471 ف 2/29. (2) المسودة ص 472، 473 ف 2/29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 الاجتهاد، ويعيد النظر في ذلك، فإن أداه اجتهاده إلى ذلك الحكم أفتى به، وإن أداه إلى غيره أفتى به أيضًا. وكذلك ذكر ابن عقيل وذكر أبو عمرو بن الصلاح: أنه إذا وقعت الحادثة مرة ثانية فإن كان ذكر الفتيا الأولى ومستندها بالنسبة إلى أصل الشرع إن كان مستقلا أو بالنسبة إلى مذهبه إن كان منتسبا إلى مذهب ذي مذهب أفتى بذلك، وإن تذكرها دون مستندها ولم يظهر ما يوجب رجوعه عنها فقد قيل: له أن يفتي بذلك. والأصح أنه لا يفتي حتى يجدد النظر، ومن لم تكن فتياه حكاية عن غيره لم يكن له بد من استصحاب الدليل فيها (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إذا حدثت مسألة ليس فيها قول لأحد من العلماء وإذا سئل عن مسألة لم تقع] إذا حدثت مسألة ليس فيها قول لأحد من العلماء جاز الاجتهاد فيها، الحكم، والفتوى، لمن هو أهل لذلك للحاجة قال: وقد أومأ أحمد إلى المنع منه كقوله للميموني: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. وقيل: يجوز ذلك في الفروع دون الأصول، وهو أولى. فإن سأل عامي عن مسألة لم تقع جاز إجابته, وقيل: يستحب إن قصد معرفة الحكم، لاحتمال أن يقع له أو لغيره أو للتفقه فيه. وقيل: يكره ذلك مطلقا (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الإفتاء والمفتون] قال أبو الخطاب: وإن أفتى باجتهاده فإن كان المستفتي قد عمل بما أفتاه لم يلزم المفتي أن يعرفه بتغير اجتهاده، ولم يلزم المستفتي نقض ما عمله، وإن كان لم يعمل بها لزمه ذلك إن أمكنه؛ لأن العامي   (1) المسودة ص 542، 543 ف 2/29. (2) المسودة ص 543 ف 2/29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 يعمل بذلك الحكم لأنه قول ذلك المفتي، ومعلوم أنه ليس هو قوله في ذلك الحال، فإن لم يفعل ومات المفتي فهل يجوز للمستفتي العمل بما أفتاه؟ فيه احتمالان، إحدهما: لا يجوز، لأنه لا يدري أنه لو كان حيا كان قائلا بذلك الحكم وطريق الاجتهاد فيه، أم لا (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في كيفية الفتوى إذا سئل المجتهد عن الحكم لم يجز له أن يفتي بمذهب غيره؛ لأنه إنما سئل عما عنده، فإن سئل عن مذهب غيره جاز له أن يحكيه؛ لأن العامي يجوز له حكاية قول غيره، ولا يجوز له أن يفتي بما يجده في كتب الفقهاء، ولا بما يفتيه به فقيه، وهذا قول أبي الخطاب. وقال الحليمي والروياني: لا يجوز للمقلد أن يفتي بما هو مقلد فيه. وقال أبو محمد الجويني عن القفال والمروذي: أنه يجوز لمن حفظ مذهب صاحب مذهب ونصوصه أن يفتي به وإن لم يكن عارفا بغوامضه وحقائقه. وقال أبو محمد: لا يجوز أن يفتي بمذهب غيره إذا لم يكن متبحرا فيه عالما بغوامضه وحقائقه، كما لا يجوز للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي بها، وإذا كان متبحرا فيه جاز أن يفتي به. قال أبو عمرو: وقول من قال: لا يجوز. معناه: أنه لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه، بل يضيفه إلى إمامه الذي يحكيه عنه. قال: فعلى هذا من عددناه في المفتين من المقلدين ليسوا في الحقيقة   (1) المسودة ص 543 ف 2/29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 من المفتين، ولكنهم قاموا مقامهم، فعدوا معهم، وسبيلهم أن يقولوا مثلاً: مذهب فلا كذا، ومقتضى مذهبه كذا [ومنهم] من ترك إضافة ذلك إلى إمامه اكتفاء بالحال. وذكر الماوردي في الحاوي في العامي إذا عرف حكم حادثة بنى على دليلها ثلاثة أوجه، أحدها: أنه يجوز أن يفتي به، ويجوز تقليده فيه. والثاني: يجوز ذلك إن كان دليلها من الكتاب أو السنة. والثالث -وهو الأصح-: أنه لا يجوز ذلك مطلقا (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل لا يشترط في المفتي الحرية والذكورية كالراوي. قال ابن الصلاح: وينبغي أن يكون كالراوي [لا تؤثر فيه القرابة والعداوة وجر النفع ودفع الضرر] (2) . وذكر عن الماوردي أن المفتي إذا نابذ في فتاواه شخصا معينا صار خصما معاندا، ترد فتواه على من عاداه، كما ترد شهادته. ولا بأس أن يكون المفتي أعمى، أو أخرس مفهوم الإشارة أو كاتبا، ولا تصح فتيا فاسق، غير أنه يعمل فيما يقع له باجتهاد نفسه، وتقبل فتوى المستور في الأظهر، ولا فرق بين القاضي وغيره في الفتيا. وعن ابن المنذر: أنه كره للقضاة أن يفتوا في مسائل الأحكام دون ما لا مجرى للقضاء فيه كالطهارة والعبادات. وقال ابن سريج: أنا أقضي ولا أفتي. وعن أبي حامد الإسفراييني: أن الحاكم له أن يفتي في العبادات وما لا يتعلق بالأحكام؛ فأما فتياه في الأحكام فلأصحابنا فيها جوابان، أحدهما: له ذلك. والثاني: ليس له ذلك (3) .   (1) المسودة ص 544، 545 ف 2/29. (2) ليس موجودا في بعض النسخ ما بين المعقوفتين. (3) المسودة ص 555 ف 2/29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 [شيخنا] : ... ... ... فصل في ترجيح المقلد أحد الأقوال لكثرة عدد قائليه من المفتين حال الفتوى: قال الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة: الصحيح في هذه المسألة أن قول من قال: «لا يجوز تولية قاض حتى يكون من أهل الاجتهاد» فإنه إنما عنى به هنا ما كانت الحالة عليه قبل استقرار ما استقر من هذه المذاهب التي أجمعت الأئمة على أن كلا منها يجوز العمل به؛ لأنه مستند إلى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو على سبيل معه. فالقاضي في هذا الوقت وإن لم يكن قد سعى في طلب الأحاديث وانتفاء طرقها وعرف من لغة الناطق بالشريعة - صلى الله عليه وسلم - ما لا يعوزه معه معرفة ما يحتاج إليه فيه، وغير ذلك من شروط الاجتهاد؛ فإن ذلك قد فرغ له منه، ودأب فيه سواه، وانتهى الأمر من هؤلاء الأئمة المجتهدين إلى ما أراحوا به من بعدهم، وانحصر الحق في أقاويلهم، وتدونت العلوم وانتهت إلى ما اتضح فيه الحق. فإذا عمل القاضي في أقضيته بما يأخذ عنهم أو عن الواحد منهم فإنه في معنى من كان باجتهاده إلى قول قاله؛ وعلى ذلك فإنه إذا خرج من خلافهم متوخيا مواطن الاتفاق ما أمكنه كان آخذا بالحزم، عاملا بالأولى، وكذلك إذا قصد في مواطن الخلاف توخي ما عليه الأكثر منهم، والعمل بما قاله الجمهور دون الواحد منهم فإنه قد أخذ بالحزم والأحوط والأولى مع جواز أن يعمل بقول الواحد إلا أنني أكره له أن يكون ذلك من حيث أنه قد قرأ مذهب واحد منهم أو نشأ في بلدة لم يعرف فيها إلا مذهب إمام واحد منهم، أو كان شيخه ومعلمه على مذهب فقيه من الفقهاء خاصة يقصر نفسه على اتباع ذلك المذهب، حتى إذا حضر عنده خصمان وكان ما تشاجرا فيه مما يفتي الفقهاء الثلاثة فيه بحكم واحد نحو التوكيل بغير رضا الخصم، وكان الحاكم حنفيا، وقد علم أن مالكا والشافعي وأحمد اتفقوا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 جواز هذا التوكيل دون أبي حنيفة فعدل عما أجمع عليه هؤلاء الأئمة الثلاثة إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة لمجرد أنه قاله فقيه هو في الجملة من فقهاء الأتباع له من غير أن يثبت عنده بالدليل ولا أداه اجتهاده إلى أن قول أبي حنيفة أولى مما اتفق عليه الجماعة فإني أخاف على مثل هذا أن يكون ممن اتبع هواه، وأنه لا يكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وكذلك إن كان على مذهب مالك فقضى بتطهير الكلب. وكذلك إن كان على مذهب الشافعي فقضى في متروك التسمية عمدا بالحل خلافا للثلاثة. وكذلك إن كان على مذهب أحمد فقال أحد الخصمين: كان له علي مال فقضيته يقضي عليه بالبراءة من إقراره مع علمه بخلاف الفقهاء الثلاثة؛ فإن هذا وأمثاله إذا توخى فيه اتباع الأكثرين فأمره عندي أقرب إلى الخلاص وأرجح في العمل. وبمقتضى هذا فإن ولايات الحكام في وقتنا هذا ولايات صحيحة وإنهم قد سدوا من ثغر الإسلام ما سده فرض كفاية. ومتى أهملنا هذا القول ولم نذكره ومشينا على طريق التغافل التي يمشي فيها من يمشي من الفقهاء الذي يذكر كل منهم في كتاب إن صنفه أو كلام إن قاله أنه لا يصح أن يكون أحد قاضيا حتى يكون من أهل الاجتهاد، ثم يذكر في شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام فإن هذا كالإحالة وكالتناقض، وكأنه تعطيل للأحكام وسد لباب الحكم وألا ينفذ لأحد حق، ولا يكاتب به، ولا تقام بينة، ولا يثبت لأحد ملك، إلى غير ذلك من القواعد الشرعية فكان هذا الأصل غير صحيح، وبان أن الحكام اليوم حكوماتهم صحيحة نافذة، وولاياتهم جائزة شرعا فقد تضمن هذا الكلام أن تولية المقلد تجوز إذا تعذر تولية المجتهد، وأنه انعقد الإجماع على تقليد كل واحد من هذه المذاهب الأربعة، وأن إجماع الفقهاء الأربعة حجة لا يخرج الحق عنهم، وأنه ينبغي الاحتراز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 من الاختلاف فإن لم يكن فاتباع الأكثر أولى، ويكره تقليد الواحد المخالف للأكثر لأجل تقدم ونحوه. وقال أيضا: في أول «شرح الحديث» : كل من هذه المذاهب إذا أخذ به آخذ ساغ له ذلك، فإن خرج من الخلاف فأخذ بالأحوط كتحريه مسح جميع رأسه، وأخذ فيما لا يمكنه الخروج من الخلاف فيه كمسألة البسملة بقول الأكثر كان هو الأولى. قال: وعلى هذا أرى ما استمر من الخلفاء الراشدين -يعني خلفاء بغداد- من ترك الجهر في الجوامع، لأن الخطباء قد يكون فيهم من يعتقد مذهب الشافعي إلا أنهم استمروا على ذلك لما ذكرته. قال: وهذا هو المانع لي من الجهر لأكون مع الأكثر. فأما المجتهد فإنه إذا ثبت عنده حق بمقتضى ما أداه اجتهاده إليه في مسألة، فإن فرضه ما أداه إليه اجتهاده على أن المجتهد اليوم لا يتصور اجتهاده في هذه المسائل التي قد تحررت في المذاهب لأن المتقدمين قد فرغوا من ذلك. فأما هذا الجدل الذي يقع بين أهل المذاهب فإنه أوفق ما يحمل الأمر فيه بأن يخرج مخرج الإعادة والتدريس فيكون الفقيه فيه معيدا محفوظه ودارسا ما يعلمه. فأما اجتماع الجمع منهم متجادلين في مسألة مع أن كل واحد منهم لا يطمع في أن يرجع خصمه إليه إن ظهرت حجته، ولا هو يرجع إلى خصمه إن ظهرت حجته عليه، ولا فيه عندهم فائدة ترجع إلى مؤانسة، ولا إلى استجلاب مودة، ولا إلى توطئة القلوب لوعي الحق، بل هو على الضد من ذلك؛ فإنه مما قد تكلم فيه العلماء وأظهروا من عذره (1) ما أظهروا كابن بطة وابن حامد في جزئه، ولا يتمارى في أنه محدث متجدد.   (1) نسخة: من عورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 فأما تعيين المدارس بأسماء فقهاء معينين فإنه لا أرى به بأسا، حيث إن اشتغال الفقهاء بمذهب واحد من غير أن يختلط بهم فقيه في مذهب آخر يثير الخلاف معهم ويوقع النزاع فيه؛ فإنه حكى لي الشيخ محمد بن يحيى عن القاضي أبي يعلى أنه قصده فقيه ليقرأ عليه مذهب أحمد، فسأله عن بلده فأخبره، فقال له: إن أهل بلدك كلهم يقرءون مذهب الشافعي فلماذا عدلت أنت عنه إلى مذهبنا؟ فقال له: إنما عدلت عن المذهب رغبة فيك أنت، فقال له: إن هذا لا يصلح فإنك إذا كنت في بلدك على مذهب أحمد وباقي أهل البلد على مذهب الشافعي لم تجد أحدا يعبد معك (1) ولا يدارسك، وكنت خليقا أن تثير خصومة وتوقع نزاعا، بل كونك على مذهب الشافعي حيث أهل بلدك على مذهبه أولى، ودله على الشيخ أبي إسحاق وذهب به إليه، فقال: سمعا وطاعة، أقدمه على الفقهاء. وعلى هذا فلا ينبغي أن يضيق في الاشتراط على المسلمين في شروط المدارس فإن المسلمين إخوة، وهو مساكن تبنى لله، فينبغي أن يكون في اشتراطها ما يتسع لعباد الله، فإنني امتنعت من دخول مدرسة شرط فيها شروط لم أجدها عندي ولعلى منعت بذلك أن أسأل عن مسألة أحتاج إليها أو أفيد أو أستفيد (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في صفة من يجوز له الفتوى أو القضاء: قال أبو علي الضرير: قلت لأحد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟ قال: لا، قلت: مائتا   (1) نسخة: يعيد معك. (2) المسودة ص 538-542 ف 2/29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 ألف؟ قال: لا، قلت: ثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قلت: أربعمائة ألف؟ قال: لا، قلت: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو. وقال الحسين بن إسماعيل: قيل لأحمد وأنا أسمع، فذكر مثل ذلك، وعن ابن معين مثل هذا. وقال أحمد بن عبدوس: قال أحمد بن حنبل: من لم يجمع علم الحديث وكثرة طرقه واختلافه لا يحل له الحكم على الحديث ولا الفتيا به. وقال أحمد بن محمد بن النظر: سئل أحمد بن حنبل عن الرجل يسمع مائة ألف حديث يفتي؟ قال: لا، قلت: فمائتي ألف حديث؟ قال: لا، قلت: فثلاثمائة ألف حديث؟ قال: لعله. وقال أحمد بن منيع: مر أحمد بن حنبل جانبا من الكوفة وبيده خريطة فأخذت بيده، فقلت: مرة إلى الكوفة ومرة إلى البصرة، إلى متى؟ إذا كتب الرجل بيده ثلاثين ألف حديث لم يكفيه، فسكت، ثم قلت: ستين ألفا، فسكت، فقلت: مائة ألف، فقال: حينئذ يعرف شيئا، فنظرنا فإذا أحمد كتب ثلاثمائة ألف عن بهز، وأظنه قال: وروح بن عبادة، وقال أحمد بن العباس النسائي: سألت أحمد عن الرجل يكون معه مائة ألف حديث يقال: هذا صاحب حديث؟ قال: لا، قال: عنده مائتا ألف حديث يقال: إنه صاحب حديث؟ قال: لا، قلت له ثلاثمائة ألف حديث، فقال بيده كذا، يروح بيده يمنة ويسرة، وأومأ اللؤلؤي كذا وكذا يقلب يده. قال القاضي في العدة: مسألة في صفة المفتي في الأحكام الذي يحرم عليه التقليد، فذكر نحوا مما ذكروه في صفة القاضي: أن يكون عالما بالكتاب والسنة والإجماع والأدلة من ذلك و [باللغة] (1) وبالقياس قال: وإذا كان بهذه الصفة وجب عليه أن يعمل في الأحكام باجتهاده، وحرام عليه تقليد غيره، إلا أن يكون ذلك حكما يجب له أو   (1) و [اللغة] ليس في إحدى النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 عليه فيحتاج في فصله إلى حاكم يحكم بينهما باجتهاده، وإذا صار من أهل الاجتهاد بما ذكرنا لم يجب قبول قوله فيما يفتي به إلا أن يكون ثقة مأمونا في دينه، فإذا كان بهذه الصفة وجب على العامة الرجوع إلى قوله وقبول فتياه، وذكر ألفاظ أحمد في صفة المفتي، كقوله في رواية صالح: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجوه القرآن عالما بالأحاديث الصحيحة، عالما بالسنن، وقال في رواية حنبل: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي. وقال في رواية يوسف بن موسى: لا يجوز الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة. ثم ذكر ما نقله عبد الله: سألت أبي عن الرجل يريد أن يسأل عن الشيء من أمر دينه مما يبتلى به من الأيمان في الطلاق وغيره وفي مصره من أصحاب الرأي ومن أصحاب الحديث لا يحفظون ولا يعرفون الحديث الضعيف ولا الإسناد القوي، لمن يسأل؟ قال: يسأل أصحاب الحديث ولا يسأل أصحاب الرأي ضعيف الحديث خير من رأي أبي حنيفة. قال القاضي: فظاهر هذا أنه أجاز تقليدهم وإن لم تكمل فيهم الشرائط التي ذكرنا، ولم يتأول ذلك فظاهره أنه جعلها على روايتين. قال شيخنا: قلت: قد يقال قوله أولا: «لا ينبغي» ليس بصريح في التحريم فيجوز أنه أراد الكراهة، وقد يقال: هؤلاء إنما أجاز استفتاءهم وإفتاءهم للحاجة والضرورة كما ذكرت نحو ذلك من كلامه في القضاء لما أشار على المتوكل بمن أشار لأجل الحاجة وذلك أنه ليس في المصر إلا من يقلد أبا حنيفة أو من يقلد المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وإن كان فيه ضعف، وتقليد المتبعين لهذه الآثار خير من تقليد المتبعين للرأي المعين، ففيه جواز الإفتاء والاستفتاء عند الحاجة لغير المجتهد إذا كان عالما بأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 ثم ذكر كلام أحمد أنه لا يكون فقيها حتى يحفظ أربعمائة ألف حديث. قال: وظاهر هذا الكلام منه أنه لا يكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ هذا القدر، قال: وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا أو أن يكون أراد وصف أكمل الفقهاء فأما ما لا بد منه فالذي وصفنا ودل عليه قول أحمد أن الأصول التي يدور عنها العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن يكون ألفا أو ألفا ومائتين. ثم ذكر عن ابن شاقلا أنه لما جلس للفتيا ذكر هذه المسألة، فقال له رجل: فأنت هو ذا تحفظ هذا القدر حتى هو ذا تفتي الناس؟ قال: فقلت له عافاك الله: إن كنت أنا لا أحفظ هذا المقدار فإني هو ذا أفتي للناس بقول من كان يحفظ هذا المقدار وأكثر منه. قال القاضي: وليس هذا الكلام من أبي إسحاق مما يقتضي أنه كان يقلد أحمد فيما يفتي به؛ لأنه قد نص في بعض تعاليقه الدالة على منع الفتيا بغير علم قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [36/17] وقوله: {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [66/3] . وذكر عن ابن بطة أنه لا يجوز له أن يفتي بما سمع من مفت، إنما يجوز أن يقلد لنفسه، فأما أن يقلد لغيره ويفتي به فلا. ثم ذكر عن أبي حفص أنه سمع أبا علي النجاد أنه سمع الحسن بن زياد يقول: ما أعيب على رجل يحفظ لأحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتي الناس بها. قال القاضي: وهذا مبالغة منه في فضله. [صفة المستفتي] ثم قال القاضي: فأما صفة المستفتي فهو: العامي الذي ليس معه ما ذكرنا من آلة الاجتهاد، وذكر قول عبد الله: سألت أبي عن رجل تكون عنده الكتب المصنفة فيها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واختلاف الصحابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 والتابعين، وليس للرجل تبصر بالحديث الضعيف والمتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف، فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير ما أحب منها فيفتي به ويعمل به؟ قال: لا يعمل به حتى يسأل ما يؤخذ به منها، فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم. قال القاضي: وظاهر هذا أن فرضه التقليد والسؤال إذا لم يكن له معرفة بالكتاب والسنة (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [متى تلزمه الفتوى؟] وللمفتي أن يرد الفتوى إذا كان في البلد من يقوم مقامه، وإلا لزمه النظر إليها وقال عمرو بن الصلاح: إن لم يكن في البلد إلا هو تعين عليه الجواب، وإن كان في الناحية اثنان واستفتيا معا فالجواب واجب عليهما على الكفاية، وإن لم يحضر غيره. وعند الحليمي يتعين عليه بسؤاله جوابه، وليس له أن يحيله على غيره (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل فإن كان في البلد من هو معروف عند العوام [بالفتيا] وهو في الباطن جاهل تعين على هذا الجواب. والأظهر أنه لا يتعين عليه بذلك لحديث ابن أبي ليلى: وإذا سأل العامي عما لم يقع لم تجب مجاوبته (3) . [والد شيخنا] : ... ... فصل ويجوز للعالم أن يرشد العامي إلى عالم آخر ليسأله وإن كان يخالف مذهبه نص عليه.   (1) المسودة ص 513-518 ف 2/29. (2) المسودة ص 512 ف 2/29. (3) المسودة ص 512 ف 2/29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 [للعالم أن يرشد العامي إلى عالم آخر] قال شيخنا: قال القاضي: نقلت من الجزء الأول من مسائل الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله وقد سئل عن الرجل يسأل عن الشيء من المسائل فيرسل صاحب المسألة إلى رجل يسأله هل عليه شيء في ذلك، فقال: إن كان رجلا متبعا وأرشده إليه فلا بأس (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [الأدب مع المفتي] لا ينبغي للعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أفتاه ولا يقول له: لم؟ ولا كيف؟ فإن أحب أن تسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنه في مجلس آخر، أو فيه بعد قبوله الفتوى مجردة عن الحجة، وذكر السمعاني: أنه لا يمنع من أن يطالب المفتي بالدليل لأجل احتياطه لنفسه، وأنه يلزمه أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به، وإلا فلا، لافتقاره حينئذ إلى اجتهاد يقصر العامي عنه. وينبغي له أن يحفظ الأدب مع المفتي ويجله في خطابه وسؤاله ونحو ذلك ولا يومئ بيده في وجهه، ولا يقول له: ما تحفظ في كذا، ولا ما مذهب إمامك في كذا، ولا يقول إذا استفتى في رقعة: إن كان جوابك موافقا لمن أجاب فيها فاكتب وإلا فلا تكتب، ولا يقول له إذا أجابه: هكذا قلت أنا، ولا هكذا وقع لي، ولا يقول له أفتاني فلان أو أفتاني غيرك بكذا وكذا، ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على حال ضجر أو هم أو غير ذلك مما يشغل قلبه، ويبدأ بالأسن الأعلم من المفتين، وبالأولى فالأولى. وقال أبو القاسم الصيمري: إذا أراد جمع الجوابات في رقعة قدم الأسن الأعلم وإن أراد إفرادها فلا يبالي بأيهم بدأ (2) .   (1) المسودة ص 513 ف 2/29. (2) المسودة ص 554-555 ف 2/27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وليس للمسلم أن يستفتي إلا من يعلم أنه من أهل العلم والدين، وأن لا يقتدي إلا بمن يصلح الاقتداء به (1) . [العامي من يستفتي] وقال شيخنا: لا يجوز استفتاء إلا من يفتي بعلم وعدل (2) . ولا يجوز أن يقدم العامي على فعل لا يعلم جوازه، ويفسق إن كان مما يفسق به. ذكره القاضي (3) . والد شيخنا: مسألة: قال ابن عقيل: ولا يجوز للعامي أن يستفتي في الأحكام الشرعية من شاء، بل يجب أن يبحث عن حال من يريد سؤاله وتقليده فإذا أخبره أهل الثقة والخبرة أنه أهل لذلك علما وديانة حينئذ استفتاه وإلا فلا. وقال قوم: لا يجب عليه ذلك؛ بل يسأل من يشاء. قال شيخنا: وقال أبو الخطاب: لا يجوز للمستفتي أن يستفتي إلا من يغلب على ظنه أنه من أهل الاجتهاد بما يراه من انتصابه للفتوى بمشهد من أعيان العلماء، وأخذ الناس عنه وإجماعهم على سؤاله، وما يبدو منه من سمات الدين والخير، فأما من لا يراه مشتغلا بالعلم ويرى عليه سيما الدين فلا يجوز له استفتاؤه بمجرد ذلك. وقال أبو المعالي: إذا تقرر عنده بقول الإثبات: إن هذا الرجل بالغ مبلغ الاجتهاد فحينئذ يستفتيه. ثم قال القاضي: له أن يعول على قول عدلين، وقال: لا يستفتي إلا من استفاضت الأخبار ببلوغه منصب الاجتهاد والأمر هنا مظنون (4) .   (1) مختصر الفتاوى ص 82 ف 2/29. (2) الفروع 6/429 ف 2/29. (3) اختيارات ص 71 ف 2/29. (4) المسودة ص 471، 472 ف 2/27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 [شيخنا] : ... ... ... فصل في أدب العالم والمتعلم [أو العامي] : قال سعيد بن يعقوب: كتب إلي أحمد بن حنبل: بسم الله الرحمن الرحيم: من أحمد بن محمد إلى سعيد بن يعقوب، أما بعد: فإن الدنيا داء، والسلطان دواء، والعالم طبيب، فإذا رأيت الطبيب يجر الداء إلى نفسه فاحذره. والسلام عليك. فيه التحذير من استفتاء من يرغب في المال والشرف من العلماء. وقد كتب في الفقه: هل يشترط في القاضي أن يكون زاهدا ورعا، أو ورعا فقط أو لا يشترط إلا العدالة؟ فيه ثلاثة أوجه، ومنع العلماء مما هو مباح لغيرهم نظير كراهته لهم ترك قيام الليل وهذا فيما لا يحتاج إليه من مال وشرف. وما ذكر عنه وعن ابن المبارك يوافق ذلك؛ فإنه أخبر أن العالم الصادق هو الزاهد ومثل ذلك عن الحسن البصري. وروى ابن بطة عن جعفر بن محمد عن أبيه مرفوعا قال: «العلماء ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل: ما لم يدخلوا في الدنيا» ، قالوا: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال: «اتباعهم السلطان، وحبهم الأغنياء فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دمائكم، فإن الله يبطل حسناتهم» (1) . ويل للعالم إذا سكت عن تعليم الجاهل، وويل للجاهل إذا لم يقبل (2) .   (1) المسودة ص 505، 551 ف 2/29. (2) مختصر الفتاوى ص 82 ف 2/29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 [شيخنا] : ... ... ... فصل [الاسترشاد والجدل] الخلاف في فرض المسئول في الجواب والدليل مذكور في كتب الجدل، والذي ذكره ابن عقيل في الأدب الكلامي أن الجواب إذا لم يكن مطابقا للسؤال بأن كان أعم منه، أو أخص، كما لو سئل عن المطبوخ فقال: أنا أحرم كل مسكر، أو أحرم مطبوخ التمر - لم يأت بجواب مطابق؛ لأنه معدول عن المطلوب في السؤال قال: وإنما ضربنا لك الأمثلة لأن قوما يجيبون بمثلها ويعدونها أجوبة. وكذلك فيما إذا سئل عن المذهب فذكر الدليل عليه فليس بجواب محقق، كما لا يخلط السؤال عن المذهب بالسؤال عن دليله، وهذا إذا قال مذهبي كذا بدلالة كذا. فأما إن قال: والدليل على ذلك كذا كان قد أتى بجواب محدد؛ إلا أنه أتى بإخبار عما علم يسأل عنه: [قال: والاتباع بجواب لم يسأل عنه كالخلط] (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل وحصر ابن عقيل الأسئلة في «أربعة» كما فعله إلكيا في جدله متبعا لمن ذكره: أحدها: السؤال عن المذهب. والثاني: السؤال عن الدليل. ولا اعتراض في ذلك. والثالث: السؤال عن وجه دلالة الدليل. والرابع: المطالبة بإجراء العلة في معلولها. ثم قال ابن عقيل: إنما اعتبرنا ما اعتبرناه من الشروط لغير سؤال   (1) المسودة ص 551، ف 2/؟؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 الاستفادة والاسترشاد فإنه لا يعتبر لهما شروط من الشروط المذكورة لسؤال الجدل (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل ذكر ابن عقيل وابن المني والمراغي وجمهور أهل الجدل أنه لا يطالبه بطرد الدليل إلا بعد تسليم ما ادعاه من دلالة البرهان، فلا ينقض دليله حتى يسلم، وإلا فإنه يجب تقديم المنع. [متى يطالب بطرد الدليل وهل يقبل المنع بعد التسليم؟] قال: والتسليم إذا لم يقع بترك مسألة لازمة تجاوزها إلى ما بعدها إما لمساهلة في النظر، وإما لضرب من التدبر على الخصم، وإما للعجز والجهل. ثم هؤلاء الجدليون [المتأخرون] لا يقبلون المنع بعد التسليم، قالوا: لأنه كالرجوع عن الإقرار. وكذلك ذكر القاضي وغيره أنه إذا منع ثبوت وصف العلة بعد النقض لم يقبل؛ لأن النقض اعتراف بوجود العلة وهي مذكورة في أصل الكتاب؛ وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما: أن السكوت لا يدل على التسليم والإقرار كما لو اشترى منه شيئا فإنه لا يقضي أنه مقر له بالملك، أكثر ما فيه أنه أخر السؤال وتركه، وفرق بين عدم منعه وبين تسليمه وليس كل من لم ينف أو يمنع يكون موافقا. الثاني: أنه لو اعترف صريحا بصحة مقدمة لجاز رجوعه عنها، بل وجب إذا تبين له الحق في خلافها، وهذا ليس كالإقرار بحقوق الآدميين، فإنه لو أقر بحق لله لجاز رجوعه عنه، فكيف بالأقوال الاعتقادية التي يجب فيها اعتقاد الحق فهو كرجوع المفتي عما تبين له خطؤه [ورجوع الحاكم والشاهد والمحدث عما تبين له خطؤه] ٍ كذلك   (1) المسودة ص 551، 552 ف 2/؟؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 رجوع المناظر سواء، وليس هذا عيبا عليه في عقله ولا دينه؛ لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، كرجوع الباقين، وهذا بناء منهم على البناء بمقدمة مسلمة وإن لم تكن معلومة؛ لكن فرق بين دوام التسليم والإقرار وبين الرجوع عنه، وقد اعترفوا بالفرق بين أسئلة الجدل وأسئلة الاسترشاد، ومن هنا تخبط، وإلا فلا ينبغي الجدل إلا على وجه الإرشاد والاسترشاد دون الغلبة والاستذلال، وإنما لأهل الجدل والأصول في الجدل العلمي من الحيل والاصطلاح الفاسد أوضاع كثيرة، كما أن للفقهاء والحكام في الجدل الحكمي نحو ذلك، والواجب رد جميع أبواب الجدل والمخاصمة في العلم وفي الحقوق إلى ما دل عليه الكتاب والسنة (1) .   (1) المسودة ص 552، 553 ف 2/؟؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 مسائل اللغات مسألة: الأسماء الشرعية كالصلاة والزكاة والحج والتيمم ونحو ذلك على أصلها في اللغة لم تخرج، بل ضمت الشرعية إليها شروطا وقيودا، اختاره القاضي في كتبه الثلاثة، وبه قال ابن الباقلاني وجماعة من المتكلمين والأشعرية. وقالت المعتزلة وأكثر الحنفية فيما ذكره أبو الخطاب وأكثر الفقهاء فيما ذكره ابن برهان، ولفظه: الفقهاء قاطبة هي منقولة ومعدول بها عن موجبها اللغوي. قال القاضي: وهذا قول فاسد، لأنه يلزم أن يكون مخاطبا لهم بغير لغتهم، وقال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [4/14] وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [195/26] . [خطأ ابن الباقلاني في الأسماء الشرعية] قال والد شيخنا: وخرجها ابن عقيل على وجهين. وحكى الجويني عن ابن الباقلاني أنها على أصولها لم تنقل، ولم يزد فيها، ورد عليه ذلك، واختار هو في ذلك تفصيلا ذكره. قال شيخنا: وحقيقة مذهب الباقلاني أن الصلاة ليست اسما للأركان وإنما هي اسم لمجرد الدعاء، لكن قيل لنا في الشرعية: ضموا إلى دعائكم كذا وكذا وادعوا على حال دون حال، والصوم والإمساك كأنه قيل لنا: أمسكوا من وقت إلى وقت، وضموا إلى الإمساك النية وغيرها، فالقيود واجبة في الحكم غير داخلة في الاسم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وهذا خطأ قطعًا (1) . [هل الأسماء كلها من تعليم الله لآدم] مسألة: «أسماء الأشياء» ثبتت كلها توقيفا من الله تعالى لآدم وتعليما له: إما بتولي خطابه أو بالوحي إليه. هذا مذهب قوم واختاره المقدسي، ولفظ القاضي: قال قوم: جميع أسماء الأشياء في كل لغة كالبيع والنكاح أخذ من جهة توقيف الله لآدم والتعليم له إما بتولي خطابه أو الوحي إليه على لسان من يتولى خطابه وإفهامه. وقيل: عرفت بالمواطأة والاصطلاح، ولا يجوز أن يكون ثبت منها شيء توقيفا، وبه قالت المعتزلة وقيل: يجوز الأمران معا، ويجوز كل واحد منهما، ويجوز أن يوافق فيها اصطلاح توقيفا لآخرين، ويحوز أن يخالف فيها اصطلاح قوم توقيفا لآخرين لم يعلموا به أو علموا ولم يحظر عليهم التواضع؛ فيكون للشيء اسمان توقيفي واصطلاحي وقطع ابن عقيل بأن بعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي، وهذا اختيار القاضي، قال: وهو ظاهر كلام أبي بكر عبد العزيز وبه قال ابن الباقلاني والجويني وابن برهان وجماعة، وقال أبو إسحاق الإسفراييني وجماعة من أصحابه: القدر الذي يدعو به غيره إلى التواضع ثبت توقيفا والبقية اصطلاحا. [شيخنا] : ... ... ... فصل [هل للناس أن يسموا الأشياء بغير ما سماها الله به؟] قال القاضي: ويجوز أن يسموا الأشياء بغير الأسماء التي وضعها الله علما لها إذا لم يحصل منه حظر لذلك، فإن حظر ذلك لم يجز مخالفة الاسم، ومتى لم يحظر ذلك كان للشيء اسمان، أحدهما موقف من الله والآخر متواضع عليه، وكذلك قال ابن الباقلاني وصاحبه (2) .   (1) المسودة ص 526 ف 2/476. (2) المسودة ص 562، 563 ف 2/476. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 [شيخنا] : ... ... ... فصل [الألفاظ دالة على المعاني بالوضع] ذهب الجمهور إلى أن الألفاظ دالة على المعاني بالوضع لا لذواتها وشذ عباد بن سليمان الصيمري فزعم أن دلالتها لذواتها وهذا باطل باختلاف الاسم لاختلاف الطوائف مع اتحاد المسمى (1) . [بعض القدرية يرون أن كل حقيقة لابد لها من مجاز] مسألة: اللغة مشتملة على الحقيقة والمجاز في قول الكافة خلافا للإسفراييني. قال شيخنا: حكى ابن الباقلاني عن بعض القدرية أن كل حقيقة فلابد لها من مجاز وما لا مجاز له فلا حقيقة له، وأن المجاز يكون بالنقل وبالزيادة والنقص، وقيل: لا يكون إلا بالنقل (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [التخصيص والإضمار] قال القاضي: التخصيص يجري مجرى الإضمار وكذلك ذكر إلكيا في الإضمار: هل هو من المجاز أو ليس منه؟ فيه قولان؛ كالقولين في العموم والخصوص؛ فإن العموم المخصوص نقص المعنى عن اللفظ والإضمار نقص اللفظ عن المعنى وليس فيهما استعمال اللفظ في موضع آخر (3) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في الأسماء المتواطئة العامة، والمشتركة، والمجازية: زعم قوم من القدرية أن الاسمين إذا جريا على المسميين حقيقة كان كل ما استحقه أحدهما من الصفات استحقه الآخر. وهذا غلط؛   (1) المسودة ص 563، 564 ف 2/476. (2) المسودة ص 564 ف 2/476. (3) المسودة ص 565 ف 2/476. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 لأن الوضع الذي استحق كل واحد من المسميين ما يستحق صاحبه لم يكن لما ذكروه. وزعم قوم من أهل العراق أن الاسم الواحد لا يقع على شيئين أو أشياء مختلفة متضادة الحقيقة وإنما تكون حقيقة في واحد مجازا في غيره، ولعل هذا يوافق قول الناشئ من المعتزلة فإنه كان يقول: الاسم إذا وقع على مسميين فلا يخلو إما أن يكون لاشتباه ذاتيهما كالجوهرين أو لاشتباه ما حملته ذاتهما كالأسود والأسود، أو لأن الاسمين أضيفا إلى مضاف واحد كمعلوم ومعلوم محسوس يقع على أحدهما حقيقة وعلى الآخر مجازا، وكان يزعم أن الله تعالى حي عالم قادر على الحقيقة والمخلوق موصوف بهذا على المجاز، ومن المعتزلة من عكس ذلك (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل في الأسماء المشتقة: هل هي حقيقة بعد انقضاء المعنى المشتق منه؟ [الأسماء المشتقة هل هي حقيقة بعد انقضاء المعنى؟ ... ] فيه أقوال، قولان متقابلان: أحدهما: أنه بعد انقضاء المشتق مجاز، وهو قول الحنفية في مسألة الخيار. الثالث: قول أبي الخطاب في مسألة خيار المجلس، وهو الفرق بين ما يطول زمنه كالأكل والشرب وما يقصر زمنه كالبيع والشراء. والضابط: أن ما يعدم عقب وجود مسماه كالبيع والنكاح والاغتسال والتوضؤ فإن الاسم يقع عليه بعد ذلك حقيقة، وما يدوم بعد وجود المسمى كالقيام والقعود فإذا عدم المسمى جميعه كان الاسم مجازا. الرابع: قول أبي الطيب، حكاه القاضي عنه في خيار المجلس. والخامس: من مسائل المجالس أن يسمى عقيب الفعل زانيا وبائعًا وآكلاً وشاربًا فإذا تطاول الزمان سمي مجازا، فعنده أن   (1) المسودة ص 565 ف 2/476. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 الأسماء حقيقة عقيب وجود المعنى المشتق منه؛ بخلاف ما إذا طال الزمان (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [وحال الشروع في الفعل هل يسمى فاعلا حقيقة] قال: فأما حال الشروع في الفعل قبل وجود ما يتناوله مطلق الاسم المشتق منه كحين الإيجاب والقبول بالنسبة إلى المتبايعين، والأكل حين أخذ اللقمة قبل وجود مسمى الأكل، فقال أبو الطيب: لا يسمى فاعلا إلا مجازا، وإنما يسمى حقيقة بعد وجود ما يسمى زنا أو أكلا وبيعا فعنده حين تشاغلهما بالتواجب لا يسميان متبايعين، وكذلك قال القاضي: المتبايع اسم مشتق من فعل، فلا يطلق اسم الفاعل إلا بعد وجود الفعل، كالآكل والشارب، فصار حقيقة الاسم بعد وجود الفعل منهما ولهما الخيار. وقال أيضا: حال التشاغل بالبيع لا يسميان متبايعين؛ لأن في اللغة من لم يوجد منه الفعل لا يسمى فاعلا كالآكل والشارب. وقال بعض الحنفية: الاسم إنما هو حقيقة لهما حال التواجب فقط، قال القاضي في مسألة الإجماع: ولأن من يقع عليه اسم المؤمن حقيقة هم الموجودون في العصر، لأن من لم يخلق لا يسمى مؤمنا ومن خلق ومات لا يسمى مؤمنا حقيقة، وإنما كان مؤمنا (2) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [المضاف بعد زوال موجب الإضافة] في المضاف بعد زوال موجب الإضافة كقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [27/33] ، وقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [12/4] ، وقوله: «أيما رجل وجد ماله عند رجل قد أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه» قال بعض الحنفية: صاحب المتاع هو   (1) المسودة ص 567، 568 ف 2/476. (2) المسودة ص 568 ف 2/476. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 المشتري، قال القاضي وغيره: معناه الذي كان صاحب متاع، وهذا مجاز مستعمل يجري مجرى الحقيقة، وقد قال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [27/33] ، معناه التي كانت أرضهم، وقال: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [12/4] وإنما كن أزواجا، ومنه قولهم: ضرب فلان، وقطيعة فلان، ونهر فلان (1) . [شيخنا] : ... ... ... فصل [إطلاق الاسم المشتق قبل وجود المعنى هل هو مجاز؟] فأما إطلاق الاسم المشتق قبل وجود المعنى فذكر بعضهم أنه مجاز بالإجماع، وهذا غلط؛ بل هو نوعان: أحدهما: أن يراد به الصفة دون الفعل، كقولهم: سيف مقطوع، وماء مرو، وخبز مشبع. فقيل: هذا مجاز، قال القاضي: بل هو حقيقة لأن المجاز ما يصح نفيه كأب الأب يسمى أبا مجازا، لأنه يصح نفيه، فيقال: ليس بأب وإنما هو جد، ومعلوم أنه لا يصح أن ينفي عن السيف الذي يقطع [فيقال] : إنه ليس بقطع، ولا عن الخبز الكثير الذي يشبع أو الماء الكثير: إنه غير مشبع أو مرو، فعلم أن ذلك حقيقة. الثاني: أن يراد الفعل الذي يتحقق وجوه في المستقبل، هو نوعان، أحدهما: أن لا يتغير الفاعل بفعله كأفعال الله تعالى، فهو -سبحانه- عند أصحابنا وجمهور أهل السنة أنه سبحانه وتعالى موصوف في الأزل بالخالق والرازق حقيقة، قال الإمام أحمد رحمه الله: لم يزل الله عز وجل متكلما غفورا رحيما. الثاني: أن يتغير (2) .   (1) المسودة ص 569 ف 2/476. (2) المسودة ص 570 ف 2/476. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 العقل قال والد شيخنا: ونقل إبراهيم الحربي عن أحمد أنه قال: العقل غزيزة والحكمة فطنة. قال شيخنا: ذكره أبو الحسن التميمي عن محمد بن أحمد بن مخزوم عن إبراهيم الحربي عن أحمد أنه قال: العقل غريزة، والحكمة فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها عفاف. قال القاضي: ومعنى قوله: «غريزة» أنه خلقه الله ابتداء، وليس باكتساب العبد ترتيب جيد؛ لكن الغرائز في القوى، وقال ابن فورك: هو العلم الذي يمتنع به من فعل القبيح، قال: ومعنى ذلك كله متقارب، وما ذكرناه أولى، وهو قول الجمهور من المتكلمين، خلافا لما حكي عن الفلاسفة أنه اكتساب. وقال قوم: هو عرض مخالف لسائر العلوم والأعراض، قال الجويني: وقال الحارث المحاسبي: العقل غريزة يتأتى بها درك العلوم وليس منها، ثم قال: والقدر الذي يحتمله كتابنا أن العقل صفة إذا ثبتت يتأتى بها التوصل إلى العلوم النظرية وإلى مقدمتها من الضروريات التي هي مستند النظريات ثم قال: ولا ينبغي أن يعتقد الناظر أن هذا مبلغ علمنا في حقيقة العقل، ولكن هذا الموضع لا يحتمل أكثر منه. وقال قوم: هو مادة وطبيعة، وقال آخرون: هو جوهر بسيط (1) . [شيخنا] : فصل قال المخالف: العقل من العلوم الضرورية، وذلك لا يختلف في حق كل عاقل. فقال القاضي: والجواب: أن تلك العلوم لم يختلف ما تدرك به من النظر والشم والذوق، فلهذا لم تختلف هي في أنفسها،   (1) المسودة ص 556، 557 ف 2/479. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 وليس كذلك العقل، لأنه يختلف ما يدرك وهو التمييز والفكر فيقل في حق بعضهم ويكثر في حق بعض (1) . مسألة: قال أصحابنا: يصح أن يكون عقل أكمل من [عقل] وأرجح ذكره أبو محمد البربهاري وأبو الحسن التميمي والقاضي. قال شيخنا: قال أبو محمد في شرح السنة: العقل مولود، أعطي كل إنسان من العقل ما أراد الله يتفاوتون في العقول، مثل الذرة في السموات، ويطالب كل إنسان على قدر ما أعطاه من العقل. قال والد شيخنا: وذهب أبو الخطاب وابن عقيل إلى أنه لا يجوز أن يكون عقل أرجح من عقل [وهذا مذهب المعتزلة فيما حكاه القاضي والأشعرية. [قالت الأشعرية: وأما قولهم: «عقل فلان أرجح من عقل فلان» ] فإنما هو من التجارب، وقد تسمى التجارب عقلا، وهذا فاسد] قال شيخنا: وهذا الثاني حكاه القاضي عن [المتكلمين من] الأشعرية والمعتزلة، وكان قد حكاه أولا عن ابن الباقلاني (2) . تم بعون الله تعالى المجلد الثاني ويليه المجلد الثالث أوله كتاب الطهارة   (1) المسودة ص 557، 558 ف 2/479. (2) المسودة ص 560 ف 2/479. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّسَ الله رُوحَه المجلد الثالث الطهارة - الجهاد جمعه ورتبه محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 كتاب الطهارة باب المياه وقد اختلف العلماء في «الطهور» هل هو بمعنى «الطاهر» أم لا؟ وهذا النزاع معروف بين المتأخرين من أتباع الأئمة الأربعة. قال كثير من أصحاب مالك وأحمد والشافعي: «الطهور» متعد. و «الطاهر» لازم. وقال كثير من أصحاب أبي حنيفة: بل «الطاهر» هو «الطهور» وهو قول الخرقي. وفصل الخطاب في المسألة: أن صيغة اللزوم والتعدي لفظ مجمل يراد به اللزوم والتعدي النحوي اللفظي، ويراد به التعدي الفقهي. فالأول أن يراد باللازم ما لم ينصب المفعول به، ويراد بالمتعدي ما نصب المفعول به، فهذا لا تفرق العرب فيه «فاعل» و «فعول» في اللزوم فمن قال: إن فعول هذا بمعنى فاعل، من أن كلاَّ منهما مفعول به كما قال كثير من الحنفية فقد أصاب، ومن اعتقد أن فعول بمعنى فاعل الماضي فقد أخطأ. وأما التعدي الفقهي فيراد به أن الماء الذي يتطهر به في رفع الحدث، بخلاف ما كان كالأدهان والألبان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وعلى هذا فلفظ طاهر في الشرع أعم من لفظ «طهور» فكل طهور طاهر، وليس كل طاهر طهورا. وقد غلط الفريقان في ظنهم أن «طهورًا» معدول عن طاهر، وإنما هو اسم لما يتطهر به؛ فإن العرب تقول: طهور، ووجور لما يتطهر به، ويوجر به، وبالضم للفعل الذي هو مسمى المصدر فطهور صيغة مبينة لما يفعل به، وليس معدولا عن طاهر، ولهذا قال تعالى في إحدى الآيتين: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورً} [48/25] وقال في الآية الأخرى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [11/8] . إذا عرفت هذا فالطاهر يتناول الماء وغيره، وكذلك الطهور؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - «جعل التراب طهورا» ، ولكن لفظ «طاهر» يقع على جامدات كثيرة كالثياب والأطعمة وعلى مائعات كثيرة كالأدهان والألبان، وتلك لا يمكن أن يتطهر بها فهي طاهرة ليست بطهور. قال بعض الناس: لا فائدة في النزاع في المسألة. قال القاضي أبو يعلى: فائدته أنه عندنا لا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء لاختصاصه بالتطهير، وعندهم تجوز لمشاركته غير الماء في الطهارة، قال أبو العباس: وله فائدة أخرى: وهي أن الماء يدفع النجاسة عن نفسه بكونه مطهرا كما دل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الماء طهور لا ينجسه شيء» وغيره ليس بطهور فلا يدفع، وعندهم الجميع سواء (1) . وتجوز طهارة الحدث بكل ما يسمى ماء، وبمعتصر الشجر، قاله ابن أبي ليلى والأوزاعي والأصم وابن شعبان؛ وبالمتغير بطاهر، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وهو مذهب أبي حنيفة، وبما خلت به امرأة لطهارة وهو رواية عن أحمد رحمه الله تعالى وهو مذهب الأئمة الثلاثة.   (1) اختيارات (1، 2) وللفهارس العامة (2/ 32) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وبالمستعمل في رفع الحدث وهو رواية اختارها ابن عقيل وأبو البقاء، وطوائف من العلماء، وذهبت طائفة إلى نجاسته وهو رواية عن أحمد رحمه الله (1) . فصل الماء المتغير بالطاهر الذي يمكن صونه عنه: فيه قولان لأحمد وغيره. قال شيخ الإسلام: والصحيح عندي -وعليه نصوص أحمد-، أنه لا يسلبه الطهورية لأن المتغير بالطاهرات إما أن يتناوله اسم الماء عند الإطلاق أو لا. فإن تناوله فلا فرق بين ما يمكن صونه وما لا يمكن صونه، وبين ما تغير بأصل الخلقة وغيره. وإذا تناوله فلا فرق بين هذين النوعين وبين غيرهما؛ إذ الفرق بين ما كان دائما وحادثا، وما كان يمكن الاحتراز عنه وما لا يمكن إنما هي فروق فقهية، أما كونها فروقا من جهة اللغة وتناول اللفظ لها فلا. وبهذا يظهر الجواب عن جميع شواهد أدلتهم: مثل اشتراء الماء في باب الوكالة، والنذر، والوقف أو اليمين أو غير ذلك فإن خطاب الناس في هذه الأحكام لا فرق فيه بين مقارن وحادث، فحقيقة قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [6/5] إن كان شاملا للمتغير بأصل الخلقة أو لما تغير بما يشق الاحتراز عنه فهو شامل لما تغير بما لا يشق صونه عنه، وإذا كانت دلالة القرآن على الكل سواء كان التمسك بدلالة القرآن حجة لمن جعله طهورا؛ لا عليه.   (1) اختيارات (3) فيه زيادات، وللفهارس (2/ 32) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وليس في المسألة دليل من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس بل الأحاديث كما في المحرم الذي وقصته ناقته: «اغسلوه بماء وسدر» ، وفي غسل ابنته قال: «اغسلنها بماء وسدر» وتوضؤ أم سلمة من قصعة فيها أثر العجين، وقوله: «تمرة طيبة وماء طهور» كل ذلك ونحوه نص دال على جواز استعمال الماء المتغير بالطاهرات أدل منها على نقيض ذلك. وأيضا الأصل بقاء ما كان على ما كان، وليس هذا استصحابا للإجماع في مورد النزاع حتى يقال: فيه خلاف؛ فإن ذلك هو دعوى بقاء الإجماع؛ بل يقال: هو قبل التغير طاهر بالنص والإجماع، والأصل بقاء الحكم على ما كان وإن لم يكن الدليل شاملا له، إذ مع شمول الدليل إنما يكون استدلالاً بنص أو إجماع، لا بالاستصحاب، وهذا الاستدلال إنما هو بالاستصحاب. وقول بعض الحنفية: إن الماء لا ينقسم إلى طاهر ونجس، فليس بشيء لأنه إن أراد: كل ما يسمى ماءً مطلقا ومقيدًا فهو خطأ، لأن المياه المعتصرة طاهرة ولا يجوز بها رفع الحدث. وإن أراد الماء المطلق، لم يصح، فإن النجس لا يدخل في المطلق. وقولهم: «طهور» بمعنى «طاهر» غلط، لأن «الطهور» اسم لما يتطهر به كالفطور، والسحور والوجور لما يفطر عليه ويتسحر به ويوجر به؛ ولهذا قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} والطاهر لا يدل على ما يتطهر به، ومن ظن أن الطهور معدول عن طاهر فيكون بمنزلته في التعدية واللزوم عند النحويين فهو قول من لم يحكم قوله من جهة العربية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وبهذا تظهر دلالة النصوص على ما قلنا كقوله - صلى الله عليه وسلم - في البحر: «هو الطهور ماؤه» وقوله: «جعلت لي الأرض مسجدًا وتربتها طهورًا» مما يبين أن المراد ما يتطهر به، ولا يجوز أن يراد طاهر لفساد المعنى، ولا يجوز أن يراد طهور تعدية طاهر لفساد الاستعمال (1) . قال الخلال: حدثنا صالح بن أحمد؛ قال: قلت لأبي: إذا اغتسل الجنب في البئر أو في الغدير وفيه الماء أكثر من قلتين؟ قال: يجزيه ذلك، قال أحمد: أنجس الماء؟ قول أحمد: أنجس الماء؟ ظن بعض أصحابه أنه أراد نجاسة الخبث فذكر رواية عنه: وإنما أراد أحمد نجاسة الحدث، كما يراد بالطهارة طهارة الحدث، وأحمد رضي الله عنه لا يخالف سنة ظاهرة معلومة له قط، والسنة في ذلك أبين من أن تخفى على أقل أتباعه. وحمل كلامه على الغدير يغتسل فيه أقل من قلتين من نجاسة الحدث، وليست هذه المسألة من موارد الظنون بل هي قطعية بلا ريب. ولا يستحب غسل البدن والثوب منه، وهو أصح الروايتين عنه. وأول القاضي القول بنجاسة الماء بجعله في صفة النجس في منع الوضوء لا أنه تنجس حقيقة. وظاهر كلام القاضي في التعليق: أن الحدث لا يرتفع عن الأعضاء إلا بعد الانفصال كما لا يصير مستعملا إلا بذلك، فهذا إذا نوى وهو في الماء، وإذا نوى قبل الانغماس ففيه وجهان، وأما إذا صب الماء على العضو: فهنا ينبغي أن يرتفع الحدث (2) .   (1) مختصر الفتاوى (ص13، 14) ، وللفهارس العامة (2/ 33) . (2) اختيارات ص (3) ، وللفهارس (2/ 33) في الاختيارات زيادات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وذكر في «شرح العمدة» : أن نجاسة الماء ليست عينية؛ لأنه يطهر غيره فنفسه أولى (1) . لو سبل ماء للشرب هل يجوز الوضوء منه مع الكراهة، أم يحرم؟ على وجهين: وقيل: يكره الغسل (خ) لا الوضوء (و) واختاره شيخنا (2) . وإن انفصل غير متغير بعد زوالها فهو طاهر، وإن كان على غير الأرض فهو طاهر، وهل يكون طهورا؟ على وجهين والوجه الثاني: أنه طهور، قال المجد: وهو الصحيح، قال الشيخ تقي الدين: هذا أقوى (3) . فائدة: ظاهر كلام المصنف أن الماء في محل التطهير لا يؤثر تغيره والحالة هذه، وقيل فيه قول: يؤثر واختاره الشيخ تقي الدين (4) . فصل وأما الماء إذا تغير بالنجاسات فإنه ينجس بالاتفاق. وأما ما لم يتغير ففيه أقوال معروفة. أحدها: لا ينجس وهو قول أهل المدينة، ورواية المدنيين عن مالك، وكثير من أهل الحديث، وإحدى الروايات عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ونصرها ابن عقيل في المفردات وابن المني وغيرهماِ.   (1) الفروع (1/ 75) وللفهارس (2/، 32) . (2) اختيارات (5) وللفهارس العامة (2/ 33) . (3) الإنصاف (1/ 46، 47) وللفهارس العامة (2/ 33) . (4) الإنصاف (1/ 47) وللفهارس العامة (2/ 33) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 والثاني: ينجس قليل الماء بقليل النجاسة، وهي رواية البصريين عن مالك. والثالث: وهو مذهب الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى اختارها طائفة من أصحابه الفرق بين القلتين وغيرهما؛ فمالك لا يحد الكثير بالقلتين والشافعي وأحمد يحدان الكثير بالقلتين. والرابع: الفرق بين البول والعذرة المائعة وغيرها، فالأول ينجس منه ما أمكن نزحه دون ما لم يمكن نزحه، بخلاف الثاني فإنه لا ينجس القلتين فصاعدا، وهذا أشهر الروايات عن أحمد واختيار أكثر أصحابه. والخامس: أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة سواء كان قليلا أو كثيرا، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، لكن ما لم يصل إليه لا ينجسه، ثم حدوا ما لم يصل إليه بما لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، ثم تنازعوا: هل يحد بحركة المتوضئ أو المغتسل؟ وقدر ذلك محمد بن الحسن بمسجده فوجدوه عشرة أذرع في عشرة أذرع. وتنازعوا في الآبار إذا وقعت فيها نجاسة هل يمكن تطهيرها؟ فزعم بشر المريسي أنه لا يمكن، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يمكن تطهيرها بالنزح، ولهم في تقدير الدلاء أقوال معروفة. والسادس: قول أهل الظاهر الذين ينجسون ما بال فيه البائل دون ما ألقي فيه البول، ولا ينجسون ما سوى ذلك إلا بالتغير. وأصل هذه المسألة من جهة المعنى: أن اختلاط الخبيث وهو النجاسة بالماء هل يوجب تحريم الجميع، أم يقال: بل قد استحال في الماء فلم يبق له حكم. فالمنجسون ذهبوا إلى القول الأول، ثم من استثنى الكثير قال: هذا يشق الاحتراز من وقوع النجاسة فيه فجعلوا ذلك موضع استحسان، كما ذهب إلى ذلك طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 وأما أصحاب أبي حنيفة فبنوا الأمر على وصول النجاسة وعدم وصولها وقدروه بالحركة، أو بالمساحة في الطول والعرض دون العمق. والصواب هو القول الأول، وأنه متى علم أن النجاسة قد استحالت فالماء طاهر سواء كان قليلا أو كثيرا، وكذلك في المائعات كلها، وذلك أن الله تعالى أباح الطيبات وحرم الخبائث، والخبيث متميز عن الطيب بصفاته، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث وجب دخوله في الحلال دون الحرام. وأيضا فقد ثبت من حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: «الماء طهور لا ينجسه شيء» . قال أحمد: حديث صحيح، وهو في المسند أيضا عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الماء طهور لا ينجسه شيء» وهذا اللفظ عام في القليل والكثير، وهو عام في جميع النجاسات. وأما إذا تغير بالنجاسة فإنما حرم استعماله لأن جرم النجاسة باق ففي استعماله استعمالها؛ بخلاف ما إذا استحالت فإن الماء طهور وليس هناك نجاسة قائمة. ومما يبين ذلك: أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت ثم شربها شارب لم يكن شاربا للخمر، ولم يجب عليه حد الخمر؛ إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها، ولو صب لبن امرأة في ماء واستحال حتى لم يبق له أثر وشرب طفل وذلك الماء لم يصر ابنها من الرضاعة بذلك. وأيضا فإن هذا باق على أوصاف خلقته فيدخل في عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فإن الكلام إنما هو فيما لم يتغير بالنجاسة لا طعمه ولا لونه ولا ريحه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 فإن قيل: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد «نهى عن البول في الماء الدائم وعن الاغتسال فيه؟» قيل: نهيه عن البول في الماء الدائم لا يدل على أنه ينجس بمجرد البول، إذ ليس في اللفظ ما يدل على ذلك، بل قد يكون نهيه سدا للذريعة، أو يقال: إنه مكروه بمجرد الطبع لا لأجل أنه ينجسه. وأيضا فيدل نهيه عن البول في الماء الدائم أنه يعم القليل والكثير. فيقال لصاحب القلتين: أتجوز بوله فيما فوق القلتين؟ إن جوزته فقد خالفت ظاهر النص، وإن حرمته فقد نقضت دليلك. وكذلك يقال لمن فرق بين ما يمكن نزحه وما لا يمكن: أتسوغ للحجاج أن يبولوا في المصانع المبنية بطريق مكة؟ إن جوزته خالفت ظاهر النص؛ فإن هذا ماء دائم والحديث لم يفرق بين القليل والكثير إلا نقضت قولك. وكذلك يقال للمقدر بعشرة أذرع: إذا كان لأهل القرية غدير مستطيل أكثر من عشرة أذرع رقيق: أتسوغ لأهل القرية البول فيه؟ فإن سوغته خالفت ظاهر النص، وإلا نقضت قولك. فإذا كان النص بل والإجماع دل على أنه نهى عن البول فيما ينجسه البول بل تقدير الماء وغير ذلك مما يشترك فيه القليل والكثير كان هذا الوصف المشترك بين القليل والكثير مستقلا بالنهي، فلم يجز تعليل النهي بالنجاسة، ولا يجوز أن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن البول فيه لأن البول ينجسه، فإن هذا خلاف النص والإجماع. وأما من فرق بين البول فيه وبين صب البول، فقوله ظاهر الفساد؛ فإن صب البول أبلغ من أن ينهى عنه من مجرد البول، إذ الإنسان قد يحتاج إلى أن يبول وأما صب الأبوال في المياه فلا حاجة إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 فإن قيل: ففي حديث القلتين: «أنه سئل عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث» وفي لفظ: «لم ينجسه شيء» . قيل: حديث القلتين فيه كلام قد بسط في غير هذا الموضع، وبين أنه من كلام ابن عمر لا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . فإذا صح فمنطوقه موافق لغيره، وهو أن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء. وأما مفهومه إذا قلنا بدلالة مفهوم العدد فإنما يدل على أن الحكم في المسكوت عنه مخالف للحكم في المنطوق بوجه من الوجوه لتظهر فائدة التخصيص بالقدر المعين، ولا يشترط أن يكون الحكم في كل صورة من صور المسكوت عنه مناقضة للحكم في كل صورة من صور المنطوق، وهذا مفهوم قولهم: المفهوم لا عموم له، فلا يلزم أن يكون كل ما لم يبلغ القلتين ينجس؛ بل إذا قيل بالمخالفة في بعض الصور حصل المقصود؛ والمقدار الكثير لا يغيره ورود ما ورد عليه في العادة؛ بخلاف القليل فإنه قد يغيره، وذلك إذا سأل عنه فإنه لا يحمل النجاسة في العادة فلا ينجسه، وما دونه فقد يحمل وقد لا يحمل، فإن حملها تنجس وإلا فلا، وحمل النجاسة هو كونها محمولة فيه. ويحقق ذلك أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر هذا التقدير ابتداء وإنما ذكره في جواب من سأله عن مياه الفلاة التي تردها السباع والدواب. والتخصيص إذا كان له سبب غير اختصاص الحكم لم يبق حجة   (1) هذه نهاية المطبوع في المجموع، ويبتدي ما لم يطبع من قوله: فإذا صح منطوقه إلى آخر الفتوى، وهو تكميل لبيان الأحكام التي في صدر هذه الفتوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 بالاتفاق كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [31/7] فإنه خص هذه الصورة بالنهي لأنها هي الواقعة، لا لأن التحريم يختص بها. وكذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [283/2] فذكر الرهن في هذه الصورة للحاجة لا للكثرة مع أنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ودرعه مرهونة، فهذا رهن في الحضر، فكذلك قوله: «إذا بلغ الماء قلتين» في جواب سؤال معين هو بيان لما احتاج السائل إلى بيانه، فلما كان ذلك المسئول عنه كثيرا قد بلغ قلتين ومن شأن الكثير أن لا يحمل الخبث فلا يبقى الخبث فيه محمولا بل يستحيل فيه الخبث لكثرته بين لهم أن ما سألتم عنه لا خبث فيه فلا ينجس. ودل كلامه على أن مناط التنجيس هو كون الخبث محمولا، فحيث كان الخبث محمولا موجودا في الماء كان نجسا، وحيث كان الخبث مستهلكا فيه غير محمول في الماء كان باقيا على طهارته. والمنازع يقول: المؤثر في التنجيس في القليل ولو مطلقا هو نفس الملاقاة وهي موجودة لحمل الخبث كان القليل والكثير سواء في ذلك. وكونه لا يحمل الخبث ليس هو لعجزه عنه كما يظنه بعض الناس فإنه لو كان كذلك لكان القليل أولى أن يحمله، فصار حديث القلتين موافقا لقوله «الماء طهور لا ينجسه شيء» . والتقدير فيه لبيان أنه في صورة السؤال لم ينجس؛ لا أنه أراد أن كل ما لم يبلغ قلتين فإنه يحمل الخبث؛ فإن هذا مخالفة للحس؛ إذ ما دون القلتين قد يحمل الخبث وقد لا يحمله، فإن كان الخبث كثيرا وكان الماء يسيرا يحمل الخبث، وإن كان الخبث يسيرا والماء كثيرا لم يحمل الخبث؛ بخلاف القلتين فإنه لا يحمل في العادة الخبث الذي سألوه عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 ونكتة الجواب: أن كونه يحمل الخبث أو لا يحمله أمر حسي يعرف بالعكس، فإذا كان الخبث موجودا فيه كان محمولا، وإن كان مستهلكا لم يكن محمولا، فإذا علم كثرة الماء وضعف الملاقي علم أنه لا يحمل الخبث. والدليل على هذا اتفاقهم على أن الكثير إذا تغير ريحه حمل الخبث، فصار قوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» و «لم ينجسه شيء» كقوله: «الماء طهور لا ينجسه شيء» وهو إنما أراد إذا لم يتغير في الموضعين، وأما إذا كان قليلا فقد يحمل الخبث لضعفه. وعلى هذا يخرج أمره بتطهير الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبعا إحداهن بالتراب والأمر بإراقته، فإن قوله «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه» أو «فليغسله سبعا أولاهن بالتراب» كقوله: «إذا قام أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» . فإذا كان النهي عن غمس اليد في الإناء هو في الإناء المعتاد للغمس وهو الواحد من آنية المياه فكذلك تلك الآنية هي الآنية المعتادة للولوغ وهي آنية الماء، وذلك أن الكلب يلغ بلسانه شيئا بعد شيء، فلا بد أن يبقى في الماء من ريقه ولعابه ما يبقى وهو لزج فلا يحيله الماء القليل بل يبقى، فيكون ذلك الخبث محمولا في ماء يسير في ذلك الإناء، فيراق ذلك الماء لأجل كون الخبث محمولا فيه لما يروى: «ويغسل الإناء الذي لاقاه ذلك الخبث» . وهذا بخلاف الخبث المستهلك المستحيل كاستحالة الخمر، فإن الخمر إذا انقلبت في الدن بإذن الله تعالى كانت طاهرة باتفاق العلماء، وكذلك جوانب الدن، فهناك يغسل الإناء وهنا لا يغسل، لأن الاستحالة حصلت في أحد الموضعين دون الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أراد الفصل بين المقدار الذي ينجس بمجرد الملاقاة وبين ما لا ينجس إلا بالتغير لقال: «إذا لم يبلغ قلتين نجس، وما بلغهما لم ينجس إلا بالتغير» أو نحو ذلك من الكلام الذي يدل على ذلك. فأما مجرد قوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث» مع أن الكثير ينجس بالتغير بالاتفاق فلا يدل على أن هذا هو المقصود، بل يدل على أنه في العادة لا يحمل الأخباث فلا تنجسه، فهو إخبار عن انتفاء سبب التنجيس، وبيان لكون المنجس في نفس الأمر هو حمل الخبث، والله أعلم (1) . «حديث القلتين» . وأما علته فمن ثلاثة أوجه: أحدها: وقف مجاهد له على ابن عمر، واختلف فيه عليه واختلف فيه على عبيد الله أيضًا رفعًا ووقفًا ورجح شيخا الإسلام أبو الحجاج المزي وأبو العباس ابن تيمية وقفه، ورجع البيهقي في سننه وقفه وجعله هو الصواب. قال شيخنا أبو العباس: وهذا كله يدل على أن ابن عمر لم يكن يحدث به عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن سئل عن ذلك فأجاب بحضرة ابنه فنقل ذلك ابنه عنه (2) . لا يسوغ الاجتهاد في حل المسكر فكيف الطهارة به قاله شيخنا (3) .   (1) المسائل الماردينيات (17-26) ، وللفهارس العامة (2/ 33) قلت: وفي الفروع (1/ 84، 85) ذكر الخلاف في النجس، وقول الشيخ: وما انتشرت إليه عادة أمامها ووراءها. (2) تهذيب السنن (1/ 62) ، وللفهارس العامة (2/ 44) . (3) الفروع (1/ 72) ، وللفهارس (2/ 33) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 ويحرم منع المحتاج إلى الطهارة ولو وقفت على طائفة معينة كمدرسة ورباط ولو في ملكه لأنها بموجب الشرع والعرف مبذولة للمحتاج، ولو قدر أن الواقف صرح بالمنع فإنما يسوغ مع الاستغناء.. ولا أجرة في الأصح (1) . وفي الثياب المشتبهة بنجس أنه يتحرى ويصلي في واحد، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، قَلَّت الطاهرة أو كثرة (2) . ولو أشبهت ميتة بمذكاة وجب الكف عنهما ولم يتحر من غير ضرورة، والحرام باطنا الميتة في أحد الوجهين اختاره الشيخ تقي الدين (3) . باب الآنية يحرم استعمال آنية الذهب والفضة واتخاذها، ذكره القاضي في الخلاف، وما لا يستعمل فهو أسهل مثل الضبة في السكين والقدح، وكذلك نقل جعفر بن محمد: لا يعجبني رءوس القوارير والمكحلة والمرود. ويحرم استعمال إناء مفضض إذا كان كثيرا، ولا يكره يسيره لحاجة ويكره لغيرها. ونص على التفصيل في رواية جماعة، وفي رواية أبي الحارث: رأس المكحلة والميل وحلقة المرآة إذا كانت من فضة فهي من الضبة والمكحلة. وأجاز الضبة فإنها في العادة تستعمل للحاجة وهو كسر   (1) الاختيارات (9) والفروع (1/ 124) ، وللفهارس (2/ 33) . (2) اختيارات (5) ، وللفهارس العامة (2/ 33) . (3) الإنصاف (1/ 69) ، وللفهارس العامة (2/ 33) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 الإناء، ومنع من الحلقة بأنها تستعمل عند عدم الحاجة، ولهذا تستعمل مع صحة الإناء، كذلك رأس المكحلة والقوارير تستعمل للزينة، وقال في رواية نصر وجعفر بن محمد: لا بأس يضببه (1) وأكره الحلقة. وقال في رواية مهنا وابن منصور: لا بأس في إناء مفضض إذا لم يقع فمه على الفضة. قال القاضي: وقد فرق بين الضبة والحلقة ورأس المكحلة. وقال أبو العباس: وكلام أحمد رحمه الله لمن تدبره لم يتعرض للحاجة وعدمها، وإنما فرق بين ما يستعمل وبين ما لا يستعمل؛ فإنه قال: رأس المكحلة والميل وحلقة المرآة إذا كانا من الفضة فهو من الآنية. وما لا يستعمل فهو أهون مثل الضبة في السكين والقدح. فقد نص على أنه إذا كان الفرق في الاستعمال كالحلقة يمسك بها الإناء وكذلك رأس المكحلة فليس كذلك، بخلاف قبضة السكين فإنها لا تستعمل، ثم أطلق: لا بأس بالضبة وأكره الحلقة، ولم يعتبر الحاجة. وقال أيضا في رواية مهنا ومنصور: لا بأس بالشرب في قدح مضبب إذا لم يقع فمه على الضبة مثل العلم في الثواب، فقد رخص في الشرب في المفضض ولم يشترط حاجة ولم يقيده بالقلة وقاسه على العلم في الثوب، وهذا بين في أن الفضة تباح على سبيل التبع كالحرير، ومقتضى هذه الرواية أن يباح الكثير إذا كان أقل مما هو فيه ولم يستعمل، وهذا هو الصواب. وكذلك في التعليق القديم: إنما كره أحمد الحلقة في الإناء، ولم يكره الضبة، لأن الحلقة يحصل الانتفاع بها على الانفراد لأنها تستعمل   (1) نسخة بالضبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 بما هو المنفصل وهو الزيادة، والضبة لا تنفرد باستعمالها، ولأن الحلقة قد يمكن الانتفاع بها لو انفردت. وقد ذكر في موضع آخر: أن أحمد إنما كره الحلقة في الإناء اتباعا لابن عمر، والمنع هنا مقتضى النص والقياس؛ فإن تحريم الشيء مطلقا يقتضي تحريم كل جزء منه إلا ما استثني، إذ النهي عن الشيء نهي عن بعضه. فأما يسير الذهب فلا يباح بحال نص عليه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث في الفص إذا خاف عليه أن يسقط هل يجعل له مسمار من ذهب؟ فقال: إنما رخص على الأسنان للضرورة، فأما المسمار فلا، فإذا كان هذا في اللباس ففي الآنية أولى. وقد غلطت طائفة من أصحاب أحمد حيث حكت قولاً بيسير الذهب تبعًا لقوله في الآنية عن أبي بكر عبد العزيز، وأبو بكر إنما قال ذلك في اللباس والتحلي، وباب اللباس أوسع. ولا يجوز تمويه السقوف بالذهب والفضة. ولا يجوز لطخ اللجام والسرج بالفضة نص عليه، وعنه ما يدل على إباحته وهو مذهب أبي حنيفة. وحيث أبيحت الضبة فإنما يراد من إباحتها أن تحتاج إلى تلك الصورة؛ لا إلى كونها من ذهب أو فضة؛ فإن هذه ضرورة وهي تبيح المتعذر. ويباح الاكتحال بميل الذهب والفضة، لأنها حاجة ويباحان لها، قاله أبو المعالي (1) .   (1) اختيارات (6-8) فيه زيادات نقل نصوص أحمد وذكر ناقليها وبيان حد القليل وتفصيل، وللفهارس (2/ 33) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 فإن توضأ منهما فهل تصح طهارته على وجهين: أحدهما تصح منها.. والوجه الثاني لا تصح الطهارة منها جزم به ناظم المفردات وهو منها، واختاره أبو بكر والقاضي أبو الحسين والشيخ تقي الدين قاله الزركشي (1) . جلد الميتة: قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: ويباح استعماله في اليابسات مع القول بالنجاسة في إحدى الروايتين، وفي الأخرى: لا تباح وهو الأظهر، للنهي عن ذلك فأما قبل الدبغ فلا ينتفع به قولا واحدا (2) . والوجه الثاني أن الحكم قبل الدبغ وبعده سواء، قال في الفائق: ويباح الانتفاع بها في اليابسات اختاره الشيخ تقي الدين. اهـ. الثاني مفهوم كلامه أنه لا يجوز استعمالها في غير اليابسات كالمائعات ونحوها.. قال لأنها نجسة العين.. وقال الشيخ تقي الدين في فتاويه يجوز الانتفاع بها في ذلك إن لم ينجس العين (3) . ولا يطهر جلد غير المأكول في الذكاة، بل لا يجوز ذبحه، وقال الشيخ تقي الدين: ولو كان في النزع (4) . ويجوز الانتفاع بالنجاسات في رواية، لكن كرهه أحمد وجماعة، وعنه وشحم ميتة (وش) أومأ إليه في رواية ابن منصور، ومال إليه شيخنا (5) .   (1) الإنصاف (1/ 80، 81) وللفهارس (2/ 33) . (2) الإنصاف (1/ 87، 88) وللفهارس العامة (2/ 33) . (3) الإنصاف (1/ 87، 88) وللفهارس العامة (2/ 34) . (4) الإنصاف (1/ 89) وللفهارس (2/ 34) . (5) الفروع (1/ 106) وللفهارس (2/ 34) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 وفأرة المسك طاهرة عند جماهير العلماء، وليس ذلك فيما يبان من البهيمة وهي حية؛ بل هو بمنزلة البيض والولد واللبن والصوف والله أعلم (1) . باب الاستنجاء وأما حمد العاطس وإجابة المؤذن فيحمد ويجيب بقلبه، ويكره بلفظه، وعنه لا يكره. قال الشيخ تقي الدين يجيب المؤذن في الخلاء (2) . فروى عبد الله وحنبل عن أحمد: إذا عطس الرجل في صلاته يحمد الله في نفسه ولا يرفع صوته، ويحمد الله إذا عطس بخلاء، قال أبو داود للإمام أحمد: في الرجل يعطس في الصلاة المكتوبة وغيرها؟ قال أحمد: يحمد الله ولا يجهر، قلت: يحرك بها لسانه؟ قال: نعم. قال القاضي: وفي هذا إذا عطس في الخلاء فقد نقل صالح وابن منصور يحمد في نفسه، ونقل بكر بن محمد يحرك به شفتيه في الخلاء، قال القاضي: بحيث لا يسمعه، وقال: ما لا يسمعه لا يكون كلاما فيجري مجرى الذكر في نفسه، ولا تبطل به الصلاة في الرواية الثانية وفاقا للقاضي وجعلها أولى الروايتين، قال أبو العباس: أما مسألة الصلاة فتقارب مسألة الخلاء، فإن الحمد لله ذكر لله ونص أحمد على أنه يقوله في الصلاة بمنزلة أذكار المخافتة، لكن لا يجهر به كما يجهر به خارج الصلاة ليس أنه لا يسمع نفسه، وأما مسألة الخلاء فيحتمل أن يكون ما قال القاضي، ويحتمل أن تكون الروايتان معناهما الذكر الخفي عن غيره كما في الصلاة، ويحتمل أن يكون في المسألة روايتان: إحداهما في نفسه بلا لفظ، والثانية باللفظ (3) .   (1) مختصر الفتاوى (16) وللفهارس العامة (2/ 34) . (2) الإنصاف (1/ 95) وللفهارس العامة (2/ 34، 50) . (3) الإنصاف (1/ 105) وللفهارس العامة (2/ 34، 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 قال الشيخ تقي الدين: ينبغي أن نقول بوجوب الاستنجاء باليسرى ومسح الفرج بها لأن النهي في كليهما: الإنصاف (8/ 326) وللفهارس (2/ 34) . ويكره رفع ثوبه قبل دنوه من الأرض وهو الصحيح جزم به في الفصول والمغنى وشرح ابن منجا وشرح العمدة للشيخ تقي الدين (1) . يحرم استقبال القبلة واستدبارها عند التخلي مطلقا سواء الفضاء والبنيان وهو رواية اختارها أبو بكر عبد العزيز، ولا يكفي انحرافه عن الجهة (2) . وقال الشيخ: يستحب أن يمكث بعد البول قليلا (3) . ونص أحمد: لا يستجمر في غير المخرج، وقيل: يستجمر في الصفحتين والحشفة (وش) واختار شيخنا وغيره ذلك لعموم الأدلة بجواز الاستجمار ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك تقدير (4) . وحدد الشيخ تقي الدين في شرح العمدة ما يتجاوز موضع العادة بأن ينتشر الغائط إلى نصف باطن الألية فأكثر، والبول إلى نصف الحشفة فأكثر فحينئذ يتعين الماء (5) . قوله: وفي وجوب غسل ما أمكن من داخل فرج ثيب في نجاسة وجنابة وجهان:   (1) تصحيح الفروع (1/ 115) وللفهارس العامة (2/ 34) . (2) الاختيارات (28) والإنصاف (1/ 101) وللفهارس العامة (2/ 34) . (3) الفروع (1/ 118) وللفهارس العامة (2/ 34) . (4) الفروع (1/ 119) والاختيارات (9) وللفهارس (2/ 34) . (5) الإنصاف (1/ 105) وللفهارس (2/ 34) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 أحدهما: لا يجب وهو الصحيح نص عليه واختاره المجد وحفيده وغيرهما (1) . إذا كان في المسجد بركة يغلق عليها بابه ويمشي حولها دون أن يصلي حلوها فهل يبال فيها؟ هذا يشبه البول في المسجد في القارورة، ومن الفقهاء من نهى عنه لأن هواء المسجد كقرارة في الحرمة، ومنهم من يرخص للحاجة، والأشبه أن هذا إذا فعل للحاجة فقريب، وأما إذا اتخذ مبالا أو متنجى فلا (2) . قال الشيخ تقي الدين: ولا يغسل في المسجد ميت، قال: ويجوز عمل مكان فيه للوضوء للمصلين وفي نسخة للمصلحة بلا محذور (3) . وإن كان في دخول أهل الذمة مطهرة المسلمين تضييق أو تنجس أو إفساد ماء ونحوه وجب منعهم، قال: وإن لم يكن ضرر ولهم ما يستغنون به عن مطهرة المسلمين فليس لهم مزاحمتهم (4) . «إلا الروث والعظام» واختار الشيخ تقي الدين الإجزاء بهما، قال في الفروع: وظاهر كلام الشيخ تقي الدين وبما نهي عنه، قال: لأنه لم ينه عنه لكونه لا ينقى بل لإفساده. فإن قيل: يزول بطعامنا مع التحريم فهذا أولى، واختار الشيخ تقي الدين في قواعده الإجزاء بالمطعوم ونحوه ذكره الزركشي أيضًا (5) .   (1) تصحيح الفروع (1/ 120) وللفهارس العامة (2/ 34) . (2) مختصر الفتاوى (33) وللفهارس (2/ 34) . (3) الإنصاف (1/ 168) وللفهارس (2/ 34) . (4) فروع (1/ 124) والاختيارات (9) وللفهارس العامة (2/ 34) . (5) الإنصاف (1/ 110) فيه زيادة، وللفهارس العامة (2/ 34) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 واختار أبو العباس في قواعده الإجزاء بالحجر المغضوب ونحوه من عصب ونحوها وفي المطعوم ونحوه، ومن مذهبه زوال النجاسة بغير الماء من المزيلات كماء الورد ونحوه (1) . فإن توضأ قبله فهل يصح وضوءه؟ على روايتين: إحداهما: يصح، قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: هذا أشهر (2) . باب السواك وسنن الوضوء السواك يطلق على الفعل، وعلى ما يتسوك به، قال الليث: وتؤنثه العرب أيضا. وغلطه الأزهري في ذلك وتبعه ابن سيدة في المحكم (3) . وهو في جميع الأوقات مستحب، والأصح ولو لصائم بعد الزوال وهو رواية عن أحمد وقاله مالك وغيره، قال أبو العباس: والسواك ما علمت أحدا كرهه في المسجد والآثار تدل على أن السلف كانوا يستاكون فيه فكيف يكره (4) ؟ وعنه يستحب للصائم كل وقت اختاره شيخنا (5) . ويستاك بيساره، نقله حرب، قال شيخنا: ما علمت إما ما خالف فيه كاستنثاره (6) . وذكر أصحابنا رحمهم الله استحباب الإدهان مطلقا، وخصه الشيخ   (1) الزركشي (1/ 228) وللفهارس (2/ 34) . (2) الإنصاف (1/ 114) وللفهارس العامة (2/ 34) (3) الاختيارات (10) وللفهارس العامة (2/ 34) . (4) الاختيارات (10) وللفهارس العامة (2/ 34) . (5) الفروع (1/ 125) وللفهارس العامة (2/ 34) . (6) الفروع (1/ 128) ف (2/ 34) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 تقي الدين رحمه الله بالبلاد الحارة، وأن الحمام لأهل البلاد الباردة كالإدهان لغيرهم (1) . «نهى عن الترجل إلا غبا» والترجل تسريح الشعر ودهنه، وظاهر ذلك أن اللحية كالرأس، وفي شرح العمدة: ودهن البدن، و (الغب) يوما ويوما نقله يعقوب. وفي الرعاية ما لم يجف الأول لا مطلقا للنساء (ش) ويفعله للحاجة للخبر. واختار شيخنا فعل الأصلح بالبلد كالغسل بماء حار ببلد رطب؛ لأن المقصود ترجيل الشعر ولأنه فعل الصحابة رضي الله عنهم، وأن مثله نوع اللبس والمأكل وأنهم لما فتحوا الأمصار كان كل منهم يأكل من قوت بلده ويلبس من لباس بلده من غير أن يقصدوا قوت المدينة ولباسها. قال: ومن هذا أن الغالب على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب الإزار والرداء فهل هما أفضل لكل أحد ولو مع القميص؟ أو الأفضل مع القميص السراويل فقط؟ هذا مما تنازع فيه العلماء. والثاني أظهر. فالاقتداء به تارة يكون في نوع الفعل، وتارة في جنسه، فإنه قد يفعل الفعل لمعنى يعم ذلك النوع وغيره لا لمعنى يخصه فيكون المشروع هو المعنى العام. قال: وهذا ليس مخصوصا بفعله وفعل أصحابه بل وبكثير مما أمرهم به ونهاهم عنه (2) . ويحرم حلق اللحية ذكره شيخنا (3) .   (1) الآداب الشرعية (3/ 21) وللفهارس العامة (2/ 35) . (2) الفروع (1/ 128، 129) وللفهارس (2/ 35) . (3) الفروع (1/ 129) والاختيارات (10) والإنصاف (1/ 121) قال في الفروع: ويأتي في العدالة هل هو كبيرة، ويأتي في آخر ستر العورة والوليمة التشبه الكفار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وقص الشارب ليس بعيب، بل فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومدح فاعله ومن عاب شيئا فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أقر عليه عرف ذلك فإن أصر كفر (1) . قال شيخنا: يجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة (2) . وينبغي إذا راهق البلوغ أن يختتن، كما كانت العرب تفعل لئلا يبلغ إلا وهو مختون (3) . زمن صغر أفضل إلى التمييز، وقال الشيخ تقي الدين: هذا المشهور (4) . وليس حلق الرأس في غير نسك بسنة ولا قربة باتفاق المسلمين. وتنازعوا في كراهته، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعزر بحلق الرأس فإنه كان عند السلف مثله (5) . قال ابن القيم رحمه الله: فصل ويتعلق بالحلق مسألة القزع، وهي حلق بعض رأس الصبي وترك بعضه، وقال: أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر عن عمر بن نافع عن أبيه، عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القَزَعِ، والقَزَعُ أن يحلق بعض رأس الصبي ويدع بعضه» .   (1) مختصر الفتاوى (28) وللفهارس العامة (2/ 35) . (2) الفروع (1/ 133) وللفهارس العامة (2/ 35) . (3) الاختيارات (10) وللفهارس العامة (2/ 35) . (4) الإنصاف (1/ 134) ، وللفهارس العامة (2/ 35) . (5) مختصر الفتاوى (28) وللفهارس العامة والتقريب (2/ 35) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 قال شيخنا: وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه، فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه؛ لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسيا وبعضه عاريا، ونظير هذا أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل فإنه ظلم لبعض بدنه، ونظيره نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة بل إما أن ينعلهما أو يحفيهما (1) . هل أحاديث الأمر بغسل اليدين من القيام من الليل واجب؟ فيه روايتان. إحداهما واجب، والرواية الثانية لا تنهض لذلك اختارها الخرقي والشيخان، قال أبو العباس اختارها الخرقي وجماعة (2) . هل يستحب أخذ ماء جديد لهما؟ فيه روايتان. إحداهما: يستحب مسحهما بماء جديد، والثانية: لا يستحب بل يمسحان بماء الرأس اختاره القاضي في تعليقه وأبو الخطاب في خلافه الصغير والمجد في شرح الهداية والشيخ تقي الدين (3) . قال ابن رجب في الطبقات: ذكر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: أن أبا الفتح بن حلية قاضي حران كان يختار مسح الأذنين بماء جديد بعد مسحهما بماء الرأس، قال ابن رجب: وهو غريب جدا، والذي رأيناه في شرح العمدة أنه قال: ذكر القاضي عبد الوهاب وابن حامد أنهما يمسحان بماء جديد بعد أن يمسحا بماء الرأس، قال: وليس بشيء، فزاد ابن حامد، والظاهر أن القاضي عبد الوهاب هو ابن جلبة قاضي حران (4) .   (1) تحفة الودود (80) وللفهارس العامة (2/ 35) . (2) الزركشي (1/ 169) وللفهارس العامة (2/ 35) . (3) تصحيح الفروع (1/ 150) وللفهارس العامة (2/ 35) . (4) الإنصاف (1/ 135) وللفهارس العامة (2/ 35) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 باب فروض الوضوء وصفته لم يرد الوضوء بمعنى غسل اليد والفم إلا في لغة اليهود؛ فإنه روى أن سلمان الفارسي قال: إنا نجده في التوراة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن من بركة الطعام الوضوء قبله وبعده» وهو من خصائص هذه الأمة كما جاءت الأحاديث الصحيحة: «أنهم يبعثون يوم القيامة غرا» الحديث. وحديث ابن ماجه: «وضوء الأنبياء قبلي» ضعيف عند أهل العلم بالحديث لا يجوز الاحتجاج بمثله، وليس عند أهل الكتاب خبر عن أحد من الأنبياء أنه كان يتوضأ وضوء المسلمين، بخلاف الاغتسال من الجنابة فإنه كان مشروعا، ولم يكن لهم تيمم إذا عدموا الماء (1) . قال ابن الجوزي: لا تجب الطهارة عن حدث ونجس قبل إرادة الصلاة؛ بل تستحب، ويتوجه قياس المذهب بدخول الوقت لوجوب الصلاة إذا ووجوب الشرط بوجوب المشروط، ويتوجه مثله في غسل، قال شيخنا: وهو لفظي. يجب الوضوء بالحدث، وقيل: يجب بإرادة الصلاة بعده. قال الشيخ تقي الدين والخلاف لفظي (2) . الوضوء عبادة لأنه لا يعلم إلا من الشارع، وكل فعل لا يعلم إلا من الشارع فهو عبادة كالصلاة والصوم، ولأنه مستلزم للثواب كما وعد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - المتوضئ بتكفير خطاياه، فلا بد فيه من النية، ومن لم يوجب النية رأى ذلك من شرائط الصلاة فهو كالسترة. وهل يصح غسل الكافر من الجنابة؟ على قولين؛ بخلاف وضوئه (3) .   (1) الاختيارات (10، 11) وللفهارس العامة (2/ 35) . (2) الفروع (1/ 157) والاختيارات (11) والإنصاف (1/ 194) وللفهارس العامة (2/ 35) . (3) مختصر الفتاوى (28) وللفهارس العامة (2/ 35) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 التسمية في الوضوء واجبة، قال الشيخ تقي الدين: اختارها القاضي وأصحابه وكثير من أصحابنا بل أكثرهم (1) ، والأفضل بثلاث غرفات المضمضة والاستنشاق يجمعهما بغرفة واحدة (2) وإن نوى الحدثين، وقال شيخنا: أو الأكبر ارتفعا (3) . غسل اليدين للقائم من نوم الليل فيه روايتان. إحداهما يجب. والثانية لا يجب غسلهما بل يستحب. قال الشيخ تقي الدين: اختاره القاضي وجماعة (4) . وقال الشيخ تقي الدين: يجوز الاقتصار على البياض الذي فوق الأذنين دون الشعر إذا قلنا يجزئ مسح بعض الرأس (5) . وعنه يجزئ مسح بعض الرأس من غير تحديد وقال القاضي: يجوز مسح بعضه للعذر، واختار الشيخ تقي الدين أنه يمسح معه العمامة للعذر كالنزلة ونحوها، ويكون كالجبيرة فلا توقيت (6) . قال في الفائق: ولا يستحب الزيادة على محل الفرض في أنص الروايتين اختاره شيخنا (7) . وما فعله أبو هريرة رضي الله عنه فهو شيء تأوله وخالفه فيه غيره، وكانوا ينكرونه عليه، وهذه المسألة كانت تلقب بمسألة «إطالة الغرة» وإن كانت الغرة في الوجه خاصة، وقد اختلف الفقهاء في ذلك، وفيها   (1) الإنصاف (1/ 128) وللفهارس العامة (2/ 35) . (2) الاختيارات (11) وللفهارس العامة (2/ 35) . (3) الفروع 1/ 205) . (4) الإنصاف: (1/ 131) وللفهارس العامة (2/ 35) . (5) الإنصاف: (1/ 162) وللفهارس العامة (2/ 35) . (6) الإنصاف: (1/ 162) وللفهارس العامة (2/ 35) . (7) الإنصاف: (1/ 168) ف (2/ 37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 روايتان عن الإمام أحمد، إحداهما: يستحب إطالتها، وبها قال أبو حنيفة والشافعي واختارها أبو البركات ابن تيمية وغيره. والثانية: لا يستحب، وهو مذهب مالك وهي اختيار شيخنا أبي العباس (1) . قال شيخنا: إذا كان مستحبا له أن يقتصر على البعض كوضوء ابن عمر لنومه جنبا إلا رجليه، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام من الليل فأتى حاجته يعني الحدث ثم غسل وجهه ويديه ثم نام، وذكر بعض العلماء أن هذا الغسل للتنظيف والتنشيط للذكر وغيره (2) . وإن منع يسير وسخ ظفر ونحوه وصول الماء ففي صحة طهارته وجهان: أحدهما: لا تصح، والوجه الثاني: تصح، وهو الصحيح.. قال في مجمع البحرين واختاره الشيخ تقي الدين (3) . ومثله كل يسير منع وصول الماء حيث كان كدم وعجين (4) . وألحق الشيخ تقي الدين كل يسير منع حيث كان من البدن كدم وعجين ونحوهما واختاره (5) . والأقطع يغسل الباقي أصلا، ويلزمه بأجرة مثله، وفي الإعادة وجهان:   (1) إغاثة اللهفان (181) والإنصاف (1/ 168) وللفهارس العامة (2/ 36) . (2) الفروع (1/ 154) والاختيارات (12) وللفهارس العامة (2/ 36) . (3) الفروع (1/ 153) وللفهارس العامة (2/ 36) . (4) الاختيارات (12) وللفهارس العامة (2/ 36) . (5) الإنصاف (1/ 158) وللفهارس العامة (2/ 36) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 أحدهما: لا يعيد، وهو الصحيح واختاره ابن عبدوس في تذكرته والشيخ تقي الدين (1) . فائدة: يجب على الصبي الوضوء بموجباته، وجعل الشيخ تقي الدين مسألة الغسل إلزامه باستجمار ونحوه (2) . يستحب للذي يتشهد بعد الوضوء أن يرفع بصره إلى السماء، ذكر في الاختيارات (ص38) . باب المسح على الخفين والذين خفي عليهم (3) ظنوا معارضة آية المائدة للمسح؛ لأنه أمر فيها بغسل الرجلين، واختلفوا في الآية مع المسح على الخفين. فقالت طائفة: المسح على الخفين ناسخ للآية قاله الخطابي. قال: وفيه دلالة على أنهم كانوا يرون نسخ القرآن بالسنة، قال الطبري: مخصص. وقالت طائفة: هو أمر زائد على ما في الكتاب. ومال إليه أبو العباس، وجميع ما يدعى من السنة أنه ناسخ للقرآن غلط. أما أحاديث المسح فهي تبين المراد من القرآن؛ إذ ليس فيه أن لابس الخف يجب عليه غسل الرجلين. وإنما فيه أن من قام إلى الصلاة يغسل، وهذا عام لكل قائم إلى الصلاة؛ لكن ليس عاما لكل أحواله؛ بل هو مطلق في ذلك مسكوت عنه.   (1) تصحيح الفروع (1/ 152، 153) وللفهارس العامة (2/ 36) . (2) الإنصاف (1/ 234) وللفهارس العامة (2/ 36) . (3) قال أبو العباس وخفي أصله أصل المسح على الخفين على كثير من السلف والخلف حتى أنكره بعض الصحابة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 قال أبو عمر بن عبد البر: معاذ الله أن يخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب الله، بل يبين مراده. وطائفة قالت كالشافعي وابن القصار ومال إليه أبو العباس أيضا: أن الآية قرأت بالخفض والنصب، فيحمل النصب على غسل الرجلين والخفض على مسح الخفين فيكون القرآن كآيتين (1) . وهل المسح أفضل، أم غسل الرجلين، أم هما سواء؟ ثلاث روايات عن أحمد. والأفضل لكل أحد بحسب قدمه؛ فللابس الخف أن يمسح عليه ولا ينزع خفيه، اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولمن قدماه مكشوفتان: الغسل، ولا يتحرى لبسه ليمسح عليه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين، ويمسح إذا كان لابس الخفين (2) ، وعبارة الإنصاف. وفصل الخطاب أن الأفضل في حق كل واحد ما هو الموافق لحال قدمه فالأفضل لمن قدماه مكشوفتان غسلهما ولا يتحرى لبس الخف ليمسح عليه، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين، ويمسح قدميه إذا كان لابسا للخف اهـ (3) . والمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وقيل: يمسح كالجبيرة واختاره الشيخ تقي الدين، قال في الفروع، وقال في الاختيارات: ولا تتوقف مدة المسح في حق المسافر الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين (4) .   (1) الاختيارات (12، 13) وللفهارس العامة (2/ 36) . (2) الاختيارات (13) زيادة إيضاح وللفهارس العامة (2/ 36) . (3) الإنصاف (1/ 169) وللفهارس العامة (2/ 36) . (4) الإنصاف (1/ 176) هذا توضيح وللفهارس العامة (2/ 36) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 قال في الاختيارات: ويجوز المسح على الخف المخرق ما دام اسمه باقيا والمشي فيه ممكن (1) . وقال: يجوز المسح على الخف المخرق إلا المخرق أكثره فكالنعل، فإن كان فيه خرق يبدو منه بعض القدم لم يجز المسح عليه، وقيل: يجوز المسح عليه اختاره الشيخ تقي الدين (2) . لو كان لا ينضم الخرق بنفسه لم يجز المسح عليه، وقيل: يجوز اختاره الشيخ تقي الدين (3) . واختار الشيخ تقي الدين أيضا جواز المسح على الملبوس ولو كان دون الكعب (4) . وإن مسح مسافر ثم أقام أتم مسح مقيم، قال الشيخ تقي الدين: هي اختيار أكثر أصحابنا (5) . ولا يجوز المسح على غير المحنكة إلا أن تكون ذات ذوابة في أحد الوجهين: أحدهما يجوز المسح عليها، وهو مقتضى اختيار الشيخ تقي الدين بطريق الأولى، فإنه اختار جواز المسح على العمامة الصماء فذات الدؤابة أولى بالجواز، وقال عن العمامة الصماء: هي القلانس (6) . ويمسح على اللفائف في أحد الوجهين حكاه ابن تميم وغيره (7) . وعلى القدم ونعلها الذي يشق نزعها إلا بيد أو رجل كما جاءت به   (1) الإنصاف (1/ 179) هذا مختصر مفيد وهو في الاختيارات. (2) الإنصاف (1/ 181، 182) وللفهارس العامة (2/ 37) . (3) الإنصاف (1/ 182) هذا مختصر مفيد وللفهارس العامة (2/ 37) . (4) الإنصاف (1/ 179) وللفهارس العامة (2/ 37) . لعله يعني المسح على النعل وقدمها (5) الإنصاف (1/ 177) وللفهارس العامة (2/ 37) . (6) الإنصاف (1/ 186، 187) زيادة شرح وإيضاح مع الاختصار، وللفهارس العامة (2/ 37) . (7) الاختيارات (13) وللفهارس العامة (2/ 37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 الآثار والاكتفاء بأكثر القدم هنا، والظاهر منها غسلا أو مسحا أولى من مسح بعض الخف ولهذا لا يتوقت (1) . وذكر في موضع آخر: أن الرجل لها ثلاث أحوال: الكشف له الغسل وهو أعلى المراتب، والستر له المسح، وحالة متوسطة وهي إذا كانت في النعل فلا هي مما يجوز المسح ولا هي بارزة فيجب الغسل فأعطيت حالة متوسطة وهي الرش، وحيث أطلق عليها المسح في هذه الحال فالمراد به الرش، وقد ورد الرش على النعلين، والمسح عليهما في المسند من حديث أوس بن أوس ورواه ابن حبان والبيهقي من حديث ابن عباس (2) . يشترط للمسح اللبس على طهارة، ويعتبر كمالها، وعنه: لا. اختاره شيخنا (3) . إن كان الممسوح عليه غير جبيرة فالصحيح من المذهب أنه يشترط لجواز المسح عليه كمال الطهارة قبل لبسه، وعليه الأصحاب، وعنه: لا يشترط كمالها اختاره الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق، وقال: وعنه لا يشترط الطهارة لمسح العمامة ذكره ابن هبيرة، وحكى أبو الفرج رواية بعدم اشتراط تقدم الطهارة رأسا فإن لبس محدثا ثم توضأ وغسل رجليه في الخف جاز له المسح، قال الزركشي: وهو غريب بعيد، قلت: اختاره الشيخ تقي الدين، وقال أيضا: ويتوجه أن العمامة لا يشترط لها ابتداء اللبس على طهارة ويكفيه فيهما الطهارة المتقدمة؛ لأن العادة أن من توضأ مسح رأسه ورفع العمامة ثم أعادها ولا يبقى مكشوف الرأس   (1) الاختيارات (13) والفروع (1/ 160) وفي الإنصاف (1/ 183) وكمسح عمامة وللفهارس العامة (2/ 37) . (2) الاختيارات (14) وللفهارس العامة (2/ 37) . (3) الفروع (1/ 165) وللفهارس العامة (2/ 37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 إلى آخر الوضوء. اهـ (1) . ومن غسل إحدى رجليه ثم أدخلها الخف قبل غسل الأخرى فإنه يجوز المسح عليها من غير اشتراط خلع، ولبسه قبل إكمال الطهارة كلبسه بعدها، وكذا لبس العمامة قبل إكمال الطهارة، وهو إحدى الروايتين، وهو مذهب أبي حنيفة. ولو غسل الرجلين في الخفين بعد أن لبسهما محدثا جاز المسح وهو مذهب أبي حنيفة وقول مخرج في مذهب أحمد (2) . ولو نوى جنب رفع حدثه وغسل رجليه وأدخلهما في الخف ثم تمم طهارته أو فعله محدث ولم نعتبر الترتيب لم يمسح على الأولى (الرواية الأولى) ويمسح على الثانية (الرواية الثانية) وكذا الحكم لو لبس عمامة قبل طهر كامل فلو مسح رأسه ثم لبسها ثم غسل رجليه خلع على الأولى ثم لبس، وعلى الثانية يجوز المسح ولو لبسها محدثا ثم توضأ ومسح رأسه ورفعها رفعا فاحشا فكذلك. قال الشيخ تقي الدين: كما لو لبس الخف محدثا ثم غسل رجليه رفعهما إلى الساق ثم أعادهما، وإن لم يرفعهما رفعا فاحشا احتمل أنه كما لو غسل رجليه في الخف، لأن الرفع اليسير لا يخرجه عن حكم اللبس، ولهذا لا تبطل الطهارة به، ويحتمل أنه كابتداء اللبس لأنه إنما عفي عنه هناك للمشقة اهـ. وتقدم أن الشيخ تقي الدين اختار أن العمامة لا يشترط لها ابتداء اللبس على طهارة ويكفي فيها الطهارة المستدامة، وقال أيضا: يتوجه أنه لا يخلعهما بعد وضوئه ثم يلبسها بخلاف الخف، وهذا مراد ابن هبيرة.   (1) الإنصاف (1/ 172) توضيح لما في الاختيارات وللفهارس العامة (2/ 37) . (2) الاختيارات (14، 15) فيه زيادة مسألتين وللفهارس العامة (2/ 37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 في الإفصاح في العمامة هل يشترط أن يكون لبسها على طهارة؟ عنه روايتان (1) . قال ابن القيم رحمه الله ونص أحمد صريح في أنه يكشف الخرقة ثم يباشر الجرح بالمسح وهذا يدل على أن مسح الجرح البارز أولى من مسح الجبيرة، وأنه خير من التيمم، وهذا هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه وهو المحفوظ عن السلف من الصحابة والتابعين، ولا ريب أنه بمقتضى القياس؛ فإن مباشرة العضو بالمسح الذي هو بعض الغسل المأمور به أولى من مباشرة غير ذلك العضو بالتراب، ولم أزل استبعد هذا حتى رأيت نص أحمد هذا بخلافه. ومعلوم أن المسح على الحائل إنما جاء لضرورة المشقة بكشفه فكيف يكون أولى من المسح على الجرح نفسه بغير حائل، فالقياس والآثار تشهد بصحة هذا النص. وقد ذكرت في الكتاب الكبير الجامع بين السنن والآثار من قال بذلك من السلف وذكرت عنهم الآثار بذلك، وكان شيخنا أبو العباس يذهب إلى هذا ويضعف القول بالتيمم بدل المسح (2) . ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما ولا بانقضاء المدة، ولا يجب عليه مسح رأسه ولا غسل قدميه، وهو مذهب الحسن البصري، كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور (3) . ومتى ظهر قدم الماسح ورأسه أو انقضت مدة المسح استأنف   (1) الإنصاف (1/ 172، 173) زيادة إيضاح لما تقدم وللفهارس العامة (2/ 37) . (2) البدائع (4/ 62) وللفهارس العامة (2/ 37) . (3) الاختيارات (15) هذه العبارة أوضح وللفهارس العامة (2/ 37) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 الطهارة، وعنه يجزيه مسح رأسه وغسل قدميه وأطلقهما في الهداية والمستوعب واختيار الشيخ تقي الدين أن الطهارة لا تبطل كإزالة الشعر الممسوح عليه (1) . باب نواقض الوضوء وإن كانت (النجاسات) من غير السبيلين لم ينقض إلا كثيرها، واختار الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق لا ينقض الكثير مطلقا (2) . ونقل الميموني لا ينقض النوم بحال، واختار الشيخ تقي الدين إن ظن بقاء طهره (3) . من النواقض أن تمس بشرته بشرة أنثى لشهوة، وقال الشيخ تقي الدين يستحب إن لمسها لشهوة وإلا فلا (4) . وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: إذا قلنا بالنقض في الملموس اعتبرنا الشهوة في المشهور كما نعتبرها من اللامس حتى ينتقض وضوءه إذا وجدت الشهوة منه دون اللامس، ولا ينتقض إذ لم توجد منه وإن وجدت عند اللامس اهـ (5) . ومس اليهودي أو النصراني لا ينقض الوضوء باتفاق المسلمين (6) .   (1) الإنصاف (1/ 190) وللفهارس العامة والتقريب (2/ 37) . (2) الإنصاف (1/ 197) قال هنا مطلقا وللفهارس العامة (2/ 37) . (3) الإنصاف (1/ 199) فيه زيادة وللفهارس العامة (2/ 38) . (4) الإنصاف (1/ 211) وللفهارس العامة (2/ 38) . (5) الإنصاف (1/ 215) فيه زيادة وللفهارس العامة (2/ 38) . (6) مختصر الفتاوى (32) وللفهارس العامة (2/ 38) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 السابع أكل لحم الجزور، وعنه لا ينقض مطلقا اختاره الشيخ تقي الدين (1) . فإن شرب من لبنها فعلى روايتين: إحداهما: لا ينقض. قال الشيخ تقي الدين اختاره الكثير من أصحابنا (2) . ويستحب الوضوء من أكل لحم الإبل، وأما اللحم الخبيث المباح للضرورة كلحم السباع فينبني الخلاف فيه على أن النقض بلحم الإبل تعبدي فلا يتعدى إلى غيره، أو معقول المعنى فيعطى حكمه، بل هو أبلغ منه فالوضوء منه أولى (3) . وفي المسائل يجب الوضوء من لحم الإبل لحديثين صحيحين. لعله آخر ما أفتى به (4) . وأما نقض الغيبة للوضوء فقد نقل عن طائفة من السلف وبعض الخلف القول بالنقض، والتحقيق أن الطهارة لها معنيان: أحدهما: الطهارة من الذنوب كقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [33/ 37] ، وقوله: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [56/57] ، وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [103/9] . والمعنى الثاني: الطهارة الحسية بالماء والتراب، وإنما أمر بهذه لتتحقق تلك؛ فالفاعل للمنهي عنه خرج عن مقصود الطهارة، فيستحب له إعادة الوضوء، وأما أنه ينقض كالنقض بقضاء الحاجة فلا، ولكن إن   (1) الإنصاف (1/ 216) وللفهارس العامة (2/ 38) . (2) الإنصاف (1/ 217) وللفهارس العامة (2/ 38) . (3) الإنصاف (1/ 218) والفروع (1/ 184) وللفهارس العامة (2/ 38) . (4) الاختيارات (16) فيه زيادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 صلى بعد الغيبة كان أجره على صلاته أنقص بقدر نقص الطهارة النفسية فتخريج كلامهم على هذا لا ينافي قول الأئمة (1) . قال أبو العباس في قديم خطه: خطر لي أن الردة تنقض الوضوء، لأن العبادة من شرط صحتها دوام شرطها استصحابا في سائر الأوقات، وإذا كان كذلك فالنية من شرائط الطهارة على أصلنا، والكافر ليس من أهلها وهو مذهب أحمد (2) . {لا يمسه إلا المطهرون} قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخ الإسلام يقرر الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسه المحدث بوجه آخر، فقال: هذا من باب التنبيه والإشارة، إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر (3) . والدراهم المكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله يجوز للمحدث لمسها، وإذا كانت معه في منديل أو خرقة وشق إمساكها جاز أن يدخل بها الخلاء (4) . باب الغسل لو انتبه بالغ أو من يحتمل بلوغه فوجد بللا جهل أنه مني وجب الغسل مطلقا على الصحيح من المذهب، وعنه: يجب مع الحلم، وعنه لا يجب مطلقا ذكرها الشيخ تقي الدين (5) .   (1) مختصر الفتاوى (89) . (2) الاختيارات (16) وللفهارس العامة (2/ 38) . (3) التبيان (143) وللفهارس العامة (2/ 38) . (4) الاختيارات (17) وللفهارس العامة (2/ 38) . (5) الإنصاف (1/ 228) وللفهارس العامة (2/ 38) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 ولو اغتسل الكافر بسبب يوجبه ثم أسلم لا يلزمه إعادته إن اعتقد وجوبه؛ بناء على أنه يثاب على طاعته في الكفر إذا أسلم (1) . والردة عن الإسلام قيل إنما تركوها لعدم فائدتها؛ لأنه إذا لم يعد إلى الإسلام فظاهر، وإن عاد إلى الإسلام وجب عليه الغسل ويدخل فيه الوضوء. وقال الشيخ تقي الدين: فائدته تظهر فيما إذا عاد إلى الإسلام فإنا نوجب عليه الوضوء أو الغسل، فإن نواهما بالغسل أجزأه وإن قلنا لم ينتقض وضوءه لم يجب عليه الغسل اهـ (2) . وإذا وجب الغسل بخروج المني فقياسه وجوبه بخروج الحيض (3) . واختار الشيخ تقي الدين عدم استحباب الغسل للوقوف بعرفة وطواف الوداع، والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار، وقال: ولو قلنا باستحباب الغسل لدخول مكة كان الغسل للطواف بعد ذلك نوع عبث لا معنى له. قال في المستوعب يستحب الغسل لدخول مكة ولو كانت حائضا أو نفساء، وقال الشيخ تقي الدين: لا يستحب لها ذلك (4) . ويجب غسل الجمعة على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره وهو بعض من مذهب من يوجبه مطلقا بطريق الأولى (5) .   (1) الاختيارات (17) وللفهارس العامة (2/ 39) . (2) الإنصاف (1/ 219) وللفهارس العامة (2) . (3) الاختيارات (17) وللفهارس العامة (2/ 39) . (4) الإنصاف (1/ 250) وللفهارس العامة (2/ 39) . (5) الاختيارات (17) وللفهارس العامة (2/ 39) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 ولا يستحب تكرار الغسل على بدنه وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد (1) . ويفيض الماء على جسده ثلاثا، وقيل: مرة واختاره الشيخ تقي الدين. لو نوى جنب بانغماسه كله أو بعضه -في ماء قليل راكد- رفع حدثه لم يرتفع وقيل: يرتفع واختاره الشيخ تقي الدين (2) . قال ابن القيم رحمه الله بعد كلام سبق، فهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي من رغب عنه فقد رغب عن سنته جواز الاغتسال من الحياض والآنية وإن كانت ناقصة غير فائضة، ومن انتظر الحوض حتى يفيض ثم استعمله وحده ولم يمكن أحدا أن يشاركه في استعماله فهو مبتدع مخالف للشريعة. قال شيخنا: ويستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ويعبدوا الله بالبدع لا بالاتباع (3) . ويكره الاغتسال في مستحم وماء عريانا قال شيخنا: عليه أكثر نصوصه (4) . لو نوى الطهارة الكبرى فقط لا يجزي عن الصغرى، وقال الشيخ تقي الدين يرتفع أيضا الأصغر معه (5) .   (1) الاختيارات (17) وللفهارس العامة (2/ 40) . (2) الإنصاف (1/ 252) وللفهارس العامة (2/ 40) . (3) إغاثة اللهفان (127) وللفهارس العامة (2/ 40) . (4) الفروع (1/ 206) والاختيارات (16) والإنصاف (1/ 262) وللفهارس العامة (2/ 40) . (5) الإنصاف (1/ 260) زيادة إيضاح وللفهارس العامة (2/ 40) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 إذا أراد الجنب النوم استحب له غسل فرجه ووضوءه، مطلقا، وقال الشيخ تقي الدين في كلام أحمد ما ظاهره وجوبه. لو أحدث بعد الوضوء لا يعيده، قال في الفروع، وظاهر كلام الشيخ تقي الدين أنه يعيده حتى يبيت على إحدى الطهارتين وقال: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه جنب» وهو حديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني (1) . وذكر شيخنا في الجنب: (لا تدخل الملائكة عليه) إلا إذا توضأ (2) . باب التيمم وعنه: يجوز التيمم للفرض قبل وقته، فالنفل المعين أولى واختاره الشيخ تقي الدين (3) . ويلزمه قبول الماء قرضا، وكذا ثمنه والمراد وله ما يوفيه، وقاله شيخنا (4) . وإن بذل ماء للأولى من حي أو ميت فالميت أحق ولو كان الحي عليه نجاسة وهو مذهب الشافعي، قال أبو العباس: وهذه المسألة في الماء المشترك أيضا (5) وأنه أولى من التشقيص (6) . وعبارة الإنصاف: من عليه نجاسة أحق من الميت والحائض.   (1) الاختيارات (17) والإنصاف (1/ 261) وللفهارس العامة (2/ 40) . (2) الاختيارات (17) والإنصاف (1/ 261) وللفهارس العامة (2/ 40) . (3) الإنصاف (1/ 263) ، وللفهارس العامة (2/ 41) الفروع (1/ 213) والاختيارات (21) والإنصاف (1/ 270) والفهارس العامة (2/ 41) . (4) الفروع (1/ 213) والاختيارات (21) والإنصاف (1/ 270) والفهارس العامة (2/ 41) . (5) الاختيارات (28) والفهارس العامة (2/ 41) . (6) الفروع (1/ 233) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 والجنب ... وقيل: الميت أولى اختاره المجد وحفيده، قال الشيخ تقي الدين: وتأتي هذه المسألة أيضا في الماء المشترك وقال: هو ظاهر ما نقل عن أحمد وهو أولى من التشقيص (1) ولا يتيمم للنجاسة على بدنه وهو قول الثلاثة خلافا لأشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله (2) . وإن تيمم في الحضر خوفًا من البرد وصلى ففي وجوب الإعادة روايتان. واختار الشيخ تقي الدين لا إعادة عليه، وعلى القول بالإعادة الثانية فرضه على الصحيح، وقيل: هما فرضه واختاره الشيخ في شرح العمدة (3) . وإن نوى فرضًا فله فعله والجمع بين الصلاتين وقضاء الفوائت والنوافل.. وقال الشيخ تقي الدين: ظاهر كلامهم لا فرق بين ما وجب بالشرع وما وجب بالنذر اهـ (4) . وقال الشيخ تقي الدين: يتخرج أن لا يصلي نافلة بتيمم جنازة، ويباح الطواف بتيمم النافلة على المشهور في المذهب كمس المصحف، قال الشيخ تقي الدين: ولو كان الطواف فرضا. وقال أيضا الشيخ تقي الدين في الفتاوى المصرية التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى أعدل الأقوال (5) . ويجوز التيمم لمن يصلي التطوع بالليل وإن كان في البلد ولا   (1) الإنصاف (1/ 307) وللفهارس (2/ 41) . (2) الاختيارات (28) وللفهارس (2/ 41) . (3) الإنصاف (1/ 281) لم يصرح في الحضر هناك وللفهارس (2/ 41) . (4) الإنصاف (1/ 293) وللفهارس (2/ 41) . (5) الإنصاف (1/ 296) وللفهارس (2/42) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 يؤخر ورده إلى النهار (1) وثبت أنه عليه الصلاة والسلام تيمم لرد السلام وألحق به من خاف فوات العيد (2) . قال أبو العباس: وهذا فيمن تيمم لعدم الماء. أما من تيمم لمرض كالجرح ونحوه فينبغي أن يكون كالمستحاضة ذكره في المبدع (3) . فإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه ثم خلعه يبطل تيممه وهذا اختيار ... والشيخ تقي الدين قاله في الفائق (4) . ومن أبيح له التيمم فله أن يصلي به أول الوقت ولو علم وجود الماء آخر الوقت، وفيه أفضلية (5) . ويستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء، وقيل: التأخير أفضل إن علم وجوده فقط واختاره الشيخ تقي الدين (6) . ولا يستحب حمل التراب معه للتيمم قاله طائفة من العلماء، خلافا لما نقل عن أحمد (7) . باب إزالة النجاسة وفي نجاسة شعر الكلب قولان هما روايتان. فلو تمعط في بئر.   (1) الاختيارات (20) وللفهارس (2/42) . (2) اختيارات (20) وللفهارس العامة (2/42) . (3) الزركشي (2/ 382) . (4) الإنصاف (1/ 298) وللفهارس (2/42) . قلت: كذا في الإنصاف ولعله [لم] يبطل تيممه كما تقدم عنه في المسح. (5) الاختيارات (20) وللفهارس العامة (2/ 42) . (6) الإنصاف (1/ 300) وللفهارس (2/42) . (7) الاختيارات (21) والفروع (1/ 224) وللفهارس (2/42) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 فهل يجب نزحه؟ يجب نزحه عند من ينجسه، وهو قول فقهاء الكوفة كأبي حنيفة، وقيل: لا ينجس إلا بالتغير وهو قول الجمهور، فيجوز استعمال الماء وإن خرج فيه شعر عند من يطهره، وعند المنجس يقول: إذا خرج في الدلو -وهو قليل- نجس، وهو المشهور: والأظهر أن شعر الكلب طاهر، لأنه لم يثبت فيه دليل شرعي (1) . وفي سائر النجاسات ثلاث روايات إحداهن يجب غسلها سبعا، والثانية يجب غسلها ثلاثا، والثالثة تكاثر بالماء من غير عدد اختارها، والشيخ تقي الدين (2) . وهل يقوم الإشنان ونحوه مقام التراب؟ فيه وجهان: أحدهما يجزئ ذلك ويقوم مقام التراب وهو الصحيح: قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: هذا أقوى الوجوه (3) . وإذا تنجس أسفل خف وحذاء بالمشي.. وقيل كذا الرجل ذكره شيخنا واختاره، وذيل المرأة قيل كذلك، وقيل: يغسل، ونقل إسماعيل ابن سعيد يطهر بمروره على طاهر يزيلها اختاره شيخنا ومال إليه (4) . ولا يجوز إزالة نجاسة إلا بماء طهور.. وعنه بكل مائع طاهر مزيل كخل اختاره ابن عقيل وشيخنا، قال: ويحرم استعمال طعام أو شراب في إزالتها (5) . وإذا تنجس ما يضره الغسل كثياب حرير والورق وغير ذلك (6) .   (1) مختصر الفتاوى (17) والفروع (1/ 235) والاختيارات (225) وللفهارس (2/43) . (2) الإنصاف (1/ 313) وللفهارس (2/43) . (3) الفروع (1/ 236، 237) وللفهارس (2/43) . (4) الفروع (1/ 245) وللفهارس (2/43) . (5) الفروع (1/ 259) وللفهارس (2/43) . (6) عبارة الإنصاف: ونحوهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 أجزأ مسحه في أظهر قولي العلماء، وأصله الخلاف في إزالة النجاسة بغير الماء، ويجزيه استعمال الطعام والشراب في إزالة النجاسة، لا إفساد الماء المحتاج إليه، كما ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها والإبل التي يحج عليها والبقر التي يحرث عليها ونحو ذلك لما في ذلك من الحاجة إليها (1) . ولو ألقي فيها (2) أحد شيئا يريد به إفسادها على صاحبها لا تخليلها أو قصد صاحبها ذلك بأن يكون عاجزا عن إراقتها لكونها في حِب فيريد إفسادها لا تخليلها فعموم كلام الأصحاب يقتضي أنها لا تحل سدا للذريعة ويحتمل أن تحل. وإذا انقلبت بفعل الله تعالى فالقياس فيها مثل أن يكون هناك ملح فيقع فيها من غير فعل أحد فينبغي على الطريقة المشهورة أن تحل. وعلى طريقة من علل النجاسة بإلقاء شيء لا تحل، فإن القاضي ذكر في خمر النبيذ أنها على الطريقة لا تحل، لما فيها من الماء وأن كلام الإمام أحمد يقتضي حلها. أما تخليل الذمي الخمر بمجرد إمساكها فينبغي جوازه على معنى كلام أحمد، فإنه علل المنع بأنه لا ينبغي لمسلم أن يكون في بيته الخمر وهذا ليس بمسلم ولأن الذمي لا يمنع من إمساكها، ولو كان المائع غير الماء كثيرا فزال تغيره بنفسه توقف أبو العباس في طهارته (3) . وإن ظنت نجاسة طين شارع وقلنا بنجاسته فهل يعفى عن يسيره أم لا؟ يعفى عن يسيره واختاره شيخنا تقي الدين (4) .   (1) الاختيارات (23) وللفهارس (2/43) . (2) يعني الخمرة. (3) اختيارات (24) فيها زيادات وللفهارس (2/43) . (4) الفروع (1/ 255) وللفهارس (2/43) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 قال الشيخ تقي الدين: لو تحققت نجاسة طين الشوارع عفي عن يسيره لمشقة التحرز منه ذكره بعض أصحابنا واختاره (1) . وقطع ابن تميم وابن حمدان أن تراب الشارع طاهر واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: هو أصح القولين (2) . حكم ريق الصبي ولعابه: قال ابن القيم رحمه الله: هذه المسألة مما تعم بها البلوى، وقد علم الشارع أن الطفل يقيء كثيرا، ولا يمكن غسل فمه، ولا يزال ريقه ولعابه يسيل على من يربيه، ولم يأمل الشارع بغسل الثياب من ذلك، ولا منع من الصلاة فيها، ولا أمر بالتحرز من ريق الطفل، فقالت طائفة من الفقهاء: هذا من النجاسة التي يعفى عنها للمشقة والحاجة كطين الشوارع والنجاسة بعد الاستجمار ونجاسة أسفل الخف والحذاء بعد دلكهما بالأرض. قال شيخنا وغيره من الأصحاب: بل ريق الطفل يطهر فمه للحاجة كما كان ريق الهرة مطهرا لفمه (3) . وقول الأصحاب: وسؤر الهرة وما دونها في الخلقة طاهر، يعني أن جنسها طاهر وقد يعرض له ما يكون نجس العين كالدود المتولد من العذرة فإنه نجس ذكره القاضي، وتتخرج طهارته بناء على أن الاستحالة إذا كانت بفعل الله تعالى طهرت، ولا بد أن يلحظ طهارة ظاهره من العذرة بأن يغمس في ماء ونحوه إلى أن لا يكون على بدنه شيء منها (4) .   (1) الإنصاف (1/ 335) وللفهارس (2/43) . (2) الإنصاف (1/ 335) وللفهارس (2/43) . (3) تحفة الورد (172) وللفهارس (2/43) . (4) الاختيارات (26) وللفهارس (2/44) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 فصل قال ابن القيم رحمه الله: ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المذي فأمر بالوضوء منه فقال: كيف ترى بما أصاب ثوبي منه؟ قال: «تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصابه» . رواه أحمد والترمذي والنسائي، فجوز نضح ما أصابه المذي، كما أمر بنضح بول الغلام. قال شيخنا: وهذا هو الصواب؛ لأن هذه نجاسة يشق الاحتراز منها لكثرة ما يصيب ثوب الشاب العزب، فهي أولى بالتخفيف من بول الغلام ومن أسفل الخف والحذاء (1) . ولا يجب غسل الثوب والبدن من المذي والقيح والصديد ولم يقم دليل على نجاسته وحكى أبو البركات عن بعض أهل العلم طهارته. والأقوى في المذي أنه يجزي فيه النضح وهو إحدى الروايتين عن أحمد (2) . ويد الصبي إذا أدخلها في الإناء فإنه يكره استعمال الماء الذي غمس يده فيه، وكذلك تكره الصلاة في ثوبه، وسئل أحمد رحمه الله في رواية الأثرم عن الصلاة في ثوب الصبي؟ فكرهها (3) . وإذا أكلت الهرة فأرة ونحوها فإذا طال الفصل طهر فمها بريقها لأجل الحاجة، وهذا أقوى الأقوال، واختاره طائفة من أصحاب أحمد   (1) إغاثة اللهفان (1/ 150) وللفهارس (2/44) . (2) الاختيارات (26) وللفهارس (2/44) . (3) الاختيارات (26) وللفهارس (2/44) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وأبي حنيفة، وكذلك أفواه الأطفال والبهائم (1) . ولا يعفى عن يسير نجاسة في الأطعمة ولا غير ما تقدم، وخالف شيخنا وغيره فيها وذكره قولا في المذهب، لأن الله تعالى إنما حرم الدم المسفوح، وما الفرق بين كونه في مرقة القدر أو مائع آخر أو في السكين أو غيره، وكانت أيدي الصحابة تتلوث بالجرح والدمل ولم ينقل عنهم التحرز من المائع حتى يغسلوه، ولعموم البلوى ببعر الفأر وغيره، وقال أيضًا: نص عليه أحمد وهو نص القرآن (2) . ولم يذكر جماعة إلا دم العروق، وقال شيخنا: لا أعلم خلافا في العفو عنه وأنه لا ينجس المرقة بل يؤكل معها (3) ، وعبارة الإنصاف: الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى في العروق إلخ. وعنه في الطير: لا يعجبني عرقه إن أكل الجيف، فدل أنه كرهه لأكله النجاسة فقط، ذكره شيخنا ومال إليه (4) ولا فرق في الكراهة بين جوارح الطير وغيرها وسواء كان يأكل الجيف أو لا (5) . ولا ينجس الآدمي بالموت وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي وأصح القولين في مذهب مالك، وخصه في شرح العمدة بالمسلم، وقاله جده أبو البركات في شرح الهداية (6) . وروث دود القز طاهر عند أكثر العلماء، ودود الجروح (7) .   (1) الاختيارات (27) فيها زيادات وللفهارس (2/44) . (2) الفروع (1/ 257) وللفهارس (2/44) . (3) الفروع (1/ 255) وللفهارس (2/44) . (4) الفروع (1/ 246) والإنصاف (1/ 327) توضيح أكثر، وللفهارس (2/ 44) . (5) الاختيارات (25) وللفهارس (2/44) . (6) الاختيارات (32، 33) والإنصاف (1/ 337) وللفهارس (2/44) . (7) الاختيارات (25) وللفهارس (2/44) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 ويجوز الانتفاع بالنجاسات سواء في ذلك شحم الميتة وغيره، وهو قول الشافعي، وأومأ إليه أحمد في رواية ابن منصور (1) . باب الحيض ويحرم وطء الحائض فإن وطئ في الفرج فعليه دينار أو نصفه كفارة، واعتبر شيخنا كونه مضروبا. قال الأكثر: يجوز إلى مسكين واحد كنذر مطلق، وذكر شيخنا وجها، ومن له أخذ زكاة لحاجته، قال في شرح العمدة: وكذا صدقة مطلقة (2) . وقيل: عليهما كفارة واحدة يشتركان فيها، قال ابن عبيدان: ذكره شيخنا في شرح العمدة (3) . ومن كانت ترى يوما دما ويوما طهرا فالنقاء طهر والدم حيض. وعنه أيام النقاء والدم حيض اختاره الشيخ تقي الدين (4) . الصحيح من المذهب أنها لا تجلس ما جاوز اليوم والليلة إلا بعد تكراره ثلاثا، وعليه جماهير الأصحاب وهو من المفردات فتجلس الرابعة على الصحيح وقيل: تجلسه في الثالثة قاله القاضي في الجامع الكبير. وعنه يصير عادة بمرتين، وقيل في الثاني واختاره الشيخ تقي الدين وقال: إن كلام أحمد يقتضيه (5) . وإن تغيرت العادة بزيادة أو تقدم أو تأخر أو انتقال فالمذهب أنها   (1) الاختيارات (25) وللفهارس (2/45) . (2) الفروع (1/ 262) والاختيارات (27) وللفهارس (2/45) . (3) الإنصاف (1/ 352) وللفهارس (2/45) . (4) الإنصاف (1/ 383) وللفهارس (2/45) . (5) الإنصاف (1/ 361) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 لا تلتفت إلى ما خرج عن العادة حتى يتكرر ثلاثا أو مرتين، قال المصنف هنا: وعندي أنها تصير إليه من غير تكرار، قلت: وهو الصواب، وعليه العمل، ولا يسع النساء العمل بغيره، قال ابن تميم: وهو أشبه، قال ابن عبيدان: وهو الصحيح قال في الفائق: وهو المختار واختاره الشيخ تقي الدين (1) . هي طاهر إذا رأت البياض، وذكر شيخنا أنه قول أكثر أصحابنا إن كان الطهر ساعة، وعنه: أقله ساعة، وعنه: يوم، اختاره الشيخ، وقال: إلا أن ترى ما يدل عليه (2) . والمبتدئة بدم أسود والأصح وأحمر، -وفي صفرة أو كدرة وجهان- تجلس برؤيته نقله الجماعة ويتوجه احتمال بمضي أقله تترك الصلاة والصوم أقل الحيض في ظاهر المذهب ثم تغتسل، وإن انقطع لدون أقله فلا حيض، ولأقله حيض، وإن جاوز أقله اغتسلت عند انقطاعه في مدة الحيض ولم تجلس ما جاوزه حتى يتكرر ثلاثا فتجلس الرابع نص على ذلك، وقيل: في الثالث: وعنه: يتكرر مرتين فتجلس في الثالث. وقيل: في الثاني، واختاره شيخنا، وأن الكلام يقتضيه ويصير عادة. وتعيد واجب صوم ونحوه نص عليه، وعنه: قبل تكراره احتياطا، واختار شيخنا لا تجب الإعادة (3) . ويجوز التداوي لحصول الحيض ذكره شيخنا إلا قرب رمضان لتفطره (4) .   (1) الإنصاف (1/ 371) توضيح للفهارس الاختيارات (25) وللفهارس (2/46) . (2) الفروع (1/ 267) وللفهارس (2/46) . (3) الفروع (1/ 269) والإنصاف (1/ 361) وللفهارس (2/46) . (4) الفروع (1/ 281) والاختيارات (30) والإنصاف (1/ 383) وللفهارس (2/46) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 كتاب الصلاة تنازع الناس في اسم الصلاة هل هو من الأسماء المنقولة عن مسماها في اللغة، أو أنها باقية على ما كانت عليه في اللغة، أو أنها تصرف فيها الشارع تصرف أهل العرف فهي بالنسبة إلى عرف أهل اللغة مجاز، وبالنسبة إلى عرف الشرع حقيقة؟ على ثلاثة أقوال. والتحقيق أن الشارع لم يغيرها، ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة كما يستعمل نظائرها كقوله تعالى: {وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [97/3] فذكر بيتا خاصا، فلم يكن لفظ الحج متناولا لكل قصد؛ بل لقصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه (1) . والسكران بالخمر والحشيش إذا علم ما يقول فعليه الصلاة بعد غسل فمه وما أصابه، وهل عليه أن يستقيء ما في بطنه؟ على قولين للعلماء. أصحهما لا؛ لكن إذا لم يتب فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من شرب الخمر لم تقبل صلاته أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد في الثالثة أو الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار» . فلا بد لهم من الصلاة، وإن كان قد قيل إنها لا تقبل، وإن تابوا   (1) الاختيارات (30) هذا النقل أتم مما في المجموع وللفهارس العامة (2/ 47) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 قبلها لله، وإن صلوا فقد تكون على رأي من ينفي القبول أنه لا ثواب لهم عليها لكن اندفع عنهم عقاب الترك في الدنيا (1) . ومن كفر بترك الصلاة الأصوب أنه يصير مسلما بفعلها من غير إعادة الشهادتين لأن كفره بالامتناع كإبليس وتارك الزكاة كذلك. فإذا تقرب بالصلاة يكون بها مسلما وإن كان محدثا، ولا يصح الائتمام به لفقد شرطه لا لفقد الإسلام، وعلى هذا عليه أن يعيد. اهـ (2) . قال شيخنا: والأشبه أيضا أن الزنديق لا بد أن يذكر أنه تائب باطنا، وإن لم يقل فلعل أن يكون باطنه تغير (3) . ولا تلزم الصلاة صبيا ولو بلغ عشرا، قاله جمهور العلماء، وثواب صلاة الصبي له (4) ، وتصح من مميز وثواب فعله له ذكره الشيخ في غير موضع وذكره شيخنا (5) . ويحرم تأخيرها.. فيحرم لغير جمع أوشرط قريب وقال شيخنا: أو شرط قريب، ليس مذهبا لأحمد وأصحابه، وأن الوقت يقدم، واختار تقديم الشرط إن انتبه قرب طلوعها (6) . والمسافر العادم للماء إذا علم أنه يجد الماء بعد الوقت فلا يجوز له التأخير إلى ما بعد الوقت؛ بل يصلي بالتيمم في الوقت بلا نزاع، وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا علم أنه يمكنه أن يصلي   (1) مختصر الفتاوى (63) وللفهارس العامة (2/ 47) . (2) تصحيح الفروع (1/ 288) والاختيارات (32) وللفهارس العامة (2/ 47) . (3) الفروع (1/ 295) وللفهارس العامة (2/ 47) . (4) الاختيارات (32) وللفهارس العامة (2/ 47) . (5) الفروع (1/ 290، 291) وللفهارس العامة (2/ 47) . (6) الفروع (1/ 293) وللفهارس العامة (2/ 48) وما في الفروع أوضح مما في المجموع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 بعد الوقت بإتمام الركوع والسجود والقراءة كان الواجب أن يصلي في الوقت بحسب إمكانه (1) . وكذلك كل من أخر صلاة عن وقتها فقد أتى بابا من الكبائر (2) . وتفويت العصر أعظم من تفويت غيرها؛ فإنها الوسطى، وعرضت على من كان قبلنا فضيعوها، ومن حافظ عليها فله الأجر مرتين، ولما فاتت سليمان فعل بالخيل ما فعل. وفي الصحيح: «من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله» وفيه «فقد وتر أهله وماله» في حديث آخر (3) . ويعفى عن النائم والناسي إن كان محافظا على الصلاة حال اليقظة والذكر، وأما من لم يكن محافظا عوقب على الترك مطلقا (4) . والمحافظ على الصلاة أقرب إلى الرحمة ممن لم يصلها ولو فعل ما فعل (5) . وينبغي الإشاعة عنه بتركها حتى يصلي قاله شيخنا، قال: ولا ينبغي السلام عليه، ولا إجابة دعوته (6) . ولا تسقط الصلاة بحج ولا تضعيف في المساجد الثلاثة ولا غير ذلك إجماعا، وتارك الصلاة عمدا لا يشرع له قضاؤها، ولا تصح منه؛ بل يكثر من التطوع، وكذلك الصوم وهو قول طائفة من السلف كأبي   (1) الاختيارات (32) وللفهارس العامة (2/ 48) . (2) مختصر الفتاوى (164) وللفهارس العامة (2/ 48) . (3) مختصر الفتاوى (164) وللفهارس العامة (2/ 48) . (4) مختصر الفتاوى (55) وللفهارس العامة (2/ 48) . (5) الاختيارات (32) وللفهارس العامة (2/ 48) . (6) الفروع (1/ 294) وللفهارس العامة (2/ 48) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 عبد الرحمن صاحب الشافعي وداود بن علي وأتباعه، وليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه، «وأمره - صلى الله عليه وسلم - المجامع في نهار رمضان بالقضاء» ضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه (1) . ومن فاتته الظهر والعصر نسيانا قضى، وأما من فوتهما متعمدا فقد أتى عظيم الكبائر، وعليه القضاء عند الجمهور، وعند بعضهم لا يصح فعلها قضاء، ومع وجوب القضاء عليه لا تبرأ ذمته من جميع الواجبات ولا يقبلها الله تعالى بحيث يرتفع عنه العقاب، بل لعله يخفف عنه العذاب بما فعله من القضاء ويبقى عليه إثم التفويت يحتاج إلى مسقط آخر، قال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما في وصيته: واعلم أن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل وحقا بالليل لا يقبله بالنهار، ولا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة، والعمل المذكور هو صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء (2) . قال شيخنا: اختار الأكثر أنها (الردة) لا تحبطه (العمل) إلا بالموت عليها (3) . باب الأذان ويكره أن يوصل الأذان بما قبله مثل قول بعض المؤذنين {قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [111/17] (4) .   (1) الاختيارات (34) وللفهارس (2/ 49) . (2) مختصر الفتاوى (65) وللفهارس (2/ 48) . فيه تفصيل غير موجود في المجموع. (3) فروع ج (1/ 287) وللفهارس (2/ 49) . (4) الاختيارات (38) وللفهارس (2/ 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 ولا يجوز أخذ الأجرة عليهما، وقيل: يجوز إن كان فقيرا ولا يجوز مع غناه، واختاره الشيخ تقي الدين، قال: وكذا كل قربة ذكره عنه في تجريد العناية، قلت: ويأتي في باب الإجارة (1) . ويستحب للمؤذن أن يرفع فمه ووجهه إلى السماء إذا أذن أو أقام ونص عليه أحمد، كما يستحب للذي يتشهد عقيب الوضوء أن يرفع بصره إلى السماء، وكما يستحب للمحرم بالصلاة أن يرفع رأسه قليلا لأن التهليل والتكبير إعلان بذكر الله لا يصلح إلا له فاستحب الإشارة إليه كما تستحب الإشارة بالأصبع الواحدة في التشهد والدعاء، وهذا بخلاف الصلاة والدعاء إذ المستحب فيه خفض الطرف (2) . وقال الآمدي: السنة أن يكون المؤذن من أولاد من جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم الأذان، وإن كان من غيرهم جاز، وقال أبو العباس: ولم يذكر هذا أكثر أصحابنا، وظاهر كلام أحمد لا يقدم بذلك، فإنه نص على أن المتنازعين في الأذان لا يقدم أحدهما بكون أبيه هو المؤذن (3) . ويتخرج أن لا يجزئ أذان القاعد بغير عذر كأحد الوجهين في الخطبة وأولى؛ إذ لم ينقل عن أحد من السلف الأذان قاعدا لغير عذر، وخطب بعضهم قاعدا لغير عذر، وأطلق أحمد الكراهة، والكراهة المطلقة هل تنصرف إلى التحريم أو التنزيه؟ على وجهين (4) . وأكثر الروايات عن أحمد المنع من أذان الجنب، وتوقف عن الإعادة في بعضها، وصرح بعدم الإعادة في بعضها، وهو اختيار أكثر   (1) الإنصاف (1/ 409) وللفهارس (2/ 49) . (2) اختيارات (38) وللفهارس (2/ 50) . (3) الاختيارات (39) وللفهارس (2/ 50) . (4) الاختيارات (36) وتصحيح الفروع (1/ 316) وللفهارس (2/ 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 الأصحاب، وذكر جماعة عنه رواية بالإعادة واختارها الخرقي (1) . وفي إجزاء الأذان في الفاسق روايتان: أقواهما عدمه لمخالفته أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما ترتيب الفاسق مؤذنا فلا ينبغي قولا واحدا (2) . والصبي المميز يتخرج في أذانه للبالغ روايتان كشهادته وولايته. وقال في موضع آخر: اختلف الأصحاب في تحقيق موضع الخلاف، منهم من يقول موضع الخلاف سقوط الفرض به والسنة المؤكدة إذا لم يوجد سواه، وأما صحة أذانه في الجملة وكونه جائزا إذا أذن غيره فلا خلاف في جوازه، ومنهم من أطلق الخلاف؛ لأن أحمد قال: لا بأس أن يؤذن الغلام قبل أن يحتلم إذا كان قد راهق، وقال في رواية علي بن سعيد وقد سئل عن الغلام يؤذن قبل أن يحتلم فلم يعجبه. والأشبه أن الأذان الذي يسقط الفرض عن أهل القرية ويعتمد في وقت الصلاة والصيام لا يجوز أن يباشره صبي قولا واحدا، ولا يسقط الفرض، ولا يعتد به في مواقيت العبادات، وأما الأذان الذي يكون سنة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر ونحو ذلك فهذا فيه الروايتان والصحيح جوازه (3) . وأما المؤذنون الذين يؤذنون مع المؤذن الراتب يوم الجمعة في مثل صحن المسجد فليس أذانهم مشروعا باتفاق الأئمة بل ذلك بدعة منكرة (4) .   (1) الاختيارات (37) وللفهارس (2/ 40) . (2) الاختيارات (37) وللفهارس (2/ 50) . (3) الاختيارات (37) وتصحيح الفروعه (1/ 319) وللفهارس (2/ 50) . (4) مختصر الفتاوى (39، 40) والاختيارات (39) وللفهارس (2/ 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 فأما ما سوى الأذان من تسبيح ونشيد ورفع صوت بدعاء فليس بمسنون عند الأئمة، ولا أعلم أحدا استحبه، بل ذكره طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد من البدع المكروهة، وما كان مكروها لم يكن لأحد أن يأمر به ولا ينكر على تركه ولا يعلق به استحقاق رزق، ولا يلزم فعله ولو شرطه واقف. وإذا قيل في بعض هذه الصور مصلحة راجحة على مفسدتها فيقتصر من ذلك على القدر الذي يحصل به المصلحة دون الزيادة التي هي ضرر بلا مصلحة راجحة (1) . وكذلك التثويب بين الأذان والإقامة لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كرهه أكثر الأئمة والسلف وعدوه بدعة (2) . ويستحب إذا أخذ المؤذن في الأذان أن لا يقوم؛ إذ في ذلك تشبه بالشيطان. قال أحمد: لا يقوم أول ما يبدأ ويصبر قليلا (3) ويجيب مؤذنا ثانيا وأكثر حيث يستحب ذلك كما كان المؤذنان يؤذنان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) . والخروج من المسجد بعد الأذان منهي عنه، وهل هو حرام أو مكروه؟ في المسألة وجهان إلا أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت فلا يكره الخروج نص عليه أحمد.   (1) مختصر الفتاوى (41) وللفهارس (2/ 50) ويأتي في صلاة الجمعة بيان الأمور المذمومة في هذه الآذان. (2) مختصر الفتاوى (40) وللفهارس (2/ 50) . (3) الاختيارات (40) وللفهارس (2/ 50) . (4) الاختيارات (39) وللفهارس (2/ 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 والإقامة كالنداء بالأذان (1) . وإذا أقيمت الصلاة وهو قائم استحب له أن يجلس، وإن لم يكن صلى تحية المسجد، قال ابن منصور: رأيت أبا عبد الله أحمد خرج عند المغرب فحين انتهى إلى موضع الصف أخذ المؤذن في الإقامة فجلس (2) . والسنة أن ينادي للكسوف: «الصلاة جامعة» ولا ينادي للعيد والاستسقاء وقاله طائفة من أصحابنا، ولهذا لا يشرع للجنازة ولا للتراويح على نص أحمد، خلافا للقاضي، لأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقياس على الكسوف فاسد الاعتبار (3) . ولم يكن التبليغ وراء الإمام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا خلفائه، ولكن لما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس مرة وكان أبو بكر يسمع الناس التكبير؛ على أن الظاهر عن أحمد أن هذه الصلاة كان أبو بكر مؤتما بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وكان إماما للناس، فيكون تبليغه لأنه إمام للناس، وكذا بلغ مرة أخرى حين صرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجحش شقه الأيمن، ولهذا اتفق العلماء على أنه لا يستحب التبليغ بل يكره إلا لحاجة مثل ضعف صوت الإمام وبعد المأموم ونحوه، وقد اختلفوا فيه في هذه الحال، والمعروف عن أحمد أنه جائز وأصح قولي مالك، وأما عند عدم الحاجة فبدعة، بل صرح كثير منهم أنه مكروه، بل قد ذهب طائفة من أصحاب مالك وأحمد إلى أنه يبطل صلاة المبلغ لغير حاجة ولم يستحبه أحد من العلماء حينئذ، ومن أصر على اعتقاد كونه قربة فإنه يعزر وهذا أقل أحواله (4) .   (1) الاختيارات (48) وللفهارس (2/ 50) . (2) الاختيارات (38) وللفهارس (2/ 50) . (3) الاختيارات (38) وللفهارس (2/ 50) . (4) مختصر الفتاوى (40) والاختيارات (39) وللفهارس العامة (2/ 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 الذي جاءت به السنة هو ما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من أنه كان بعض المؤذنين يؤذنون قبل الفجر، وبعضهم بعد طلوع الفجر، وأبلغ ما قاله الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم في تقديم الأذان من نصف الليل، مع أن أبا حنيفة وغيره ينهون عن الأذان قبل الوقت مطلقا (1) . وليس الأذان بواجب للصلاة الفائتة، وإذا صلى وحده أداء أو قضاء وأذن وأقام فقد أحسن، وإن اكتفى بالإقامة أجزأه، وإن كان يقضي صلوات فأذن أول مرة وأقام لبقية الصلوات كان حسنا أيضا (2) . وهو أفضل من الإمامة وهو أصح الروايتين عن أحمد واختيار أكثر أصحابه. وأما إمامته - صلى الله عليه وسلم - وإمامة الخلفاء الراشدين فكانت متعينة عليهم فإنها وظيفة الإمام الأعظم ولم يكن يمكن الجمع بينها وبين الأذان، فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل (3) . باب شروط الصلاة الوقت ويعمل بقول المؤذن في دخول الوقت مع إمكان العلم بالوقت وهو مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين، وكما شهدت له النصوص خلافا لبعض أصحابنا (4) .   (1) مختصر الفتناوى (41) وللفهارس (2/ 50) . (2) اختيارات (36) فيه زيادات وللفهارس (2/ 50) . (3) اختيارات (36) فيه زيادات وللفهارس (2/ 50) . (4) اختيارات (34) والإنصاف (1/ 441) وللفهارس (2/ 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 بدأ جماعة من أصحابنا كالخرقي القاضي في بعض كتبه وغيرهما بالظهر، ومنهم من بدأ بالفجر كأبي موسى وأبي الخطاب والقاضي في موضع، وهذا أجود لأن الصلاة الوسطى هي العصر، وإنما تكون الوسطى إذا كانت الفجر هي الأولى (1) . قال ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [84/20] ، وظاهر الآية أن الحامل لموسى على العجلة هو طلب رضا ربه، وأن رضاه في المبادرة إلى أوامره والعجلة إليها، ولهذا احتج السلف بهذه الآية على أن الصلاة في أول الوقت أفضل، سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يذكر ذلك، قال: إن رضى الرب في العجلة إلى أوامره (2) . وجمهور العلماء يرون أن تقديم الصلاة أفضل إلا إذا كان في التأخير مصلحة مثل المتيمم يؤخر ليصلي آخر الوقت بوضوء، والمنفرد يؤخر ليصلي آخر الوقت مع جماعة ونحو ذلك (3) . لم أجد أحدا قال: إن تأخير جميع الصلوات أفضل؛ لكن منهم من يقول بعضها أفضل، كما يقول أبو حنيفة في الفجر والعصر. والمواقيت التي علمها جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته حين بين مواقيت الصلاة وهي التي ذكرها العلماء في كتبهم هي في الأيام المعتادة. فأما ذلك اليوم الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يوم كسنة» قال: «اقدرا له» فله حكم آخر، يبين ذلك أن صلاة الظهر في الأيام المعتادة   (1) الفروع (1/ 308) والإنصاف (1/ 439) وللفهارس (2/ 50) . (2) المدارج (1/ 59) وللفهارس (2/ 50) . (3) اختيارات (33) فيه زيادة، وللفهارس (2/ 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 لا تكون إلا بعد الزوال وانتصاف النهار، وفي ذلك اليوم يكون من أوائل اليوم بقدر ذلك، وكذلك وقت العصر هي في الأيام المعتادة إذا زاد ظل كل شيء على مثله عند الجمهور، كمالك وأحمد والشافعي وأبي يوسف ومحمد وغيرهم. وقال أبو حنيفة: إذا صار ظل كل شيء مثليه، وهذا آخر وقتها عند مالك وأحمد في إحدى الراويتين والشافعي. والمقصود: أن في ذلك اليوم لا يكون وقت العصر فيه إذا صار ظل كل شيء لا مثله ولا مثليه، بل يكون أول يوم قبل هذا الوقت بشيء كثير، فكما أن وقت الظهر والعصر ذلك اليوم هما قبل الزوال، كذلك صلاة المغرب والعشاء قبل الغروب، وكذلك صلاة الفجر فيه تكون بقدر الأوقات في الأيام المعتادة ولا ينظر فيها إلى حركة الشمس لا بزوال ولا بغروب ولا مغيب شفق ونحو ذلك، وهكذا كما قيل في قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [62/ 19] قال بعضهم: يؤتون على مقدار البكرة والعشي في الدنيا، وقيل: يعرف ذلك بأنوار تظهر من ناحية العرش كما يعرف ذلك في الدنيا بنور الشمس. وقول الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله أرأيت اليوم كالسنة أيكفينا فيه صلاة اليوم؟ فقال: «لا ولكن اقدروا له قدره» أراد اليوم والليلة. فقد يعني به الليل كما يعني بلفظ الليلة الليلة بيومها، كقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [41/ 3] وفي الموضع الآخر: {ثلاث ليال سويا} [10/19] ويوم كقوله: «يوم عرفة» ، «وإذا فاته الوقوف يوم عرفة» يراد اليوم والليلة التي تليه. وأيضا إذا علموا أنهم يقدرون لثلاث صلوات قبل وقتها المعتاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 علم بطريق اللزوم أنهم يقدرون للمغرب والعشاء، ووقوع ذلك في النهار كوقوع صلاتي المغرب والعشاء قبل الزوال من ذلك اليوم. وأيضا فقوله: «اعتكف العشر» يدخل فيه الليل، وقوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} [142/ 7] دخل فيها النهار والله أعلم (1) . وقال في اقتضاء الصراط المستقيم في تسمية العشاء بالعتمة إن الأشهر عندنا (2) إنما يكره الإكثار حتى يغلب على الاسم الآخر، وأن مثلها العشاء في الخلاف تسمية المغرب بالعشاء (3) . فالمرأة إذا غلب على ظنها أنها لا تخرج من الحمام حتى يفوت العصر أو تصفر الشمس لم يجز لها تفويت العصر باتفاق الأئمة بل إما أن تصلي في البيت جمعا، وإما أن تخرج من الحمام وتصلي، وإما أن تصلي في الحمام، وجمعها في البيت خير من صلاتها في الحمام (4) . ومن دخل عليه الوقت ثم طرأ عليه مانع من جنون أو حيض فلا قضاء عليه إلا أن يتضايق الوقت عن فعلها، ثم يوجد المانع، وهو قول مالك وزفر، رواه زفر عن أبي حنيفة، ومتى زال المانع من تكليفه في وقت الصلاة لزمته إن أدرك فيها قدر ركعة، وإلا فلا وهو قول الليث وقول الشافعي ومقالة في مذهب أحمد (5) . ومن أدرك من الوقت قدر تكبيرة ثم جن أو حاضت المرأة لزمه القضاء، وعنه: لا بد أن يمكنه الأداء اختارها جماعة منهم ابن بطة وابن أبي موسى والشيخ تقي الدين، واختار الشيخ تقي الدين أيضًا أنه لا   (1) مختصر الفتاوى (38، 39) وللفهارس (2/ 50) . (2) عبارة الإنصاف الأشهر عنه. (3) الفروع (1/ 303) والإنصاف (1/ 435) وللفهارس (2/ 50) . (4) مختصر الفتاوى (73) وللفهارس (2/ 50) . (5) الاختيارات (34) وللفهارس (2/ 50) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 تترتب الأحكام إلا أن تضايق الوقت عن فعل الصلاة ثم يوجد المانع، وذكر الشيخ تقي الدين الخلاف عندنا فيما إذا طرأ مانع أو تكليف هل يعتبر بتكبيرة أو ركعة؟ واختار بركعة في التكليف (1) . قال شيخنا: إن عجز فمات بعد التوبة غفر له، قال: ولا تسقط بحج ولا تضعيف صلاة في المساجد الثلاثة ولا غير ذلك (2) . سترة العورة وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة، وكان لبعض السلف حلة بمبلغ عظيم من المال وكان يلبسها وقت الصلاة ويقول: ربي أحق من تجملت له في صلاتي. ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لا سيما إذا وقف بين يديه فأحسن ما وقف بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرا وباطنا (3) . اختلفت عبارات أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة فقال بعضهم: ليس بعورة، وقال بعضهم، عورة، وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة، والتحقيق أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر إذا لم يجز النظر إليه (4) .   (1) الإنصاف (1/ 441، 442) . (2) الفروع (1/ 308) وللفهارس (2/ 51) . (3) مدارج (2/ 384) ويحتمل أن قوله: وكان لبعض السلف إلخ من كلام تلميذه وللفهارس (2/ 51) . (4) الاختيارات (40) والإنصاف (1/ 452) وفيه زيادة إيضاح، وللفهارس (2/ 52) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 وفي الكفين روايتان: إحداهما عورة، والرواية الثانية ليستا بعورة.. واختارها الشيخ تقي الدين (1) . واختار الشيخ تقي الدين أن القدمين ليستا بعورة أيضا (2) . ولا يختلف المذهب في أن ما بين السرة والركبة من الأمة عورة، وقد حكى جماعة من أصحابنا أن عورتها السوأتان فقط كالرواية في عورة الرجل، وهذا غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصا وعلى الشريعة عموما وكلام أحمد أبعد شيء عن هذا القول (3) . واختار الشيخ تقي الدين أن الأفضل أن يلبس مع القميص السراويل من غير حاجة إلى الإزار والرداء، وهذا من جنس اختياره أن الفصاد في البلاد الرطبة أولى وأن الاغتسال بالماء الحار في البلاد الرطبة أولى من الإدهان اعتبارا في كل بلد بعادتهم ومصلحتهم (4) . السدل هو أن يطرح على كتفيه ثوبا ولا يرد أحد طرفيه على الكتف الأخرى قال الشيخ تقي الدين هذا الصحيح المنصوص عليه (5) . وقال الشيخ تقي الدين: واعتبار لبس الطيالسة على العمائم لا أصل له في السنة، ولم يكن من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنهم؛ بل ثبت في الصحيح حديث الدجال «أنه يخرج معه سبعون ألفا مطيلسين من يهود أصبهان» وكذلك جاء في غير هذا الحديث: أن الطيالسة من شعار اليهود، ولهذا كره من كره لبسها لما رواه أبو داود.   (1) قلت: المراد هنا في الصلاة أما في باب النظر فيأتي أنها من الزينة الباطنة. (2) الإنصاف (1/ 452) وللفهارس (2/ 52) . (3) الإنصاف (1/ 453) وللفهارس (2/ 52) . (4) الاختيارات (40، 41) وللفهارس (2/ 50) . (5) الآداب (3/ 523) والفروع (1/ 356) وللفهارس (2/ 52) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ليس منا من تشبه بغيرنا» (1) انتهى كلامه (2) . وقال ابن عقيل في مكان آخر: يكره ما يشبه زي الكفار دون العرب، وقاله أيضا غيره. وعن ابن عمر مرفوعا: «من تشبه بقوم فهو منهم» رواه أحمد وأبو داود وإسناده صحيح، قال شيخنا: أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [51/5] في مخالفة الأمر (3) . ولما صارت العمامة الصفراء والزرقاء من شعارهم حرم لبسها (4) . والنظري ليس له التشبه في لباسه بلباس أعداء المسلمين (5) . قال الشيخ تقي الدين: وإرخاء الذؤابة بين الكتفين معروف في السنة، وإطالة الذؤابة كثيرا من الإسبال المنهي عنه انتهى كلامه (6) . قال ابن القيم رحمه الله: وكان إذا اعتم أخرى عمامته بين كتفيه. وكان شيخنا قدس الله روحه في الجنة يذكر في سبب الذؤابة شيئا بديعا وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه في المدينة «لما رأى رب العزة تبارك وتعالى فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري فوضع يده بين كتفي فعلمت ما بين السماء والأرض» وهو في الترمذي وسئل عنه البخاري فقال: صحيح، قال:   (1) الإنصاف (1/ 469) وللفهارس (2/ 52) . (2) الآداب (3/ 524، 525) والفروع (1/ 355) وللفهارس (2/ 53) . (3) الفروع (1/ 360) وللفهارس (2/ 53) . (4) الاختيارات (243) وللفهارس (2/ 52) . (5) الاختيارات (77) وللفهارس (2/ 52) . (6) الآداب (3/ 529) والفروع (1/ 356) وللفهارس (2/ 52) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 فمن تلك الحال أرخى الذؤابة بين كتفيه، وهذا من العلم الذي تنكره ألسنة الجهال وقلوبهم، ولم أر هذه الفائدة في إثبات الذؤابة لغيره (1) . وكره مالك وأحمد لبس العمامة المقطعة التي ليست تحت الحنك منها شيء. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «لا ينظر الله إلى قوم لا يديرون عمائمهم تحت أذقانهم» وكانوا يسمونها الفاسقية لكن رخص فيها إسحاق وغيره، وروي أن أبناء المهاجرين كانوا يتعممون كذلك، وقد يجمع بينهما بأن هذا حال المجاهدين والمستعدين له، وهذا حال من ليس من أهل الجهاد، وإمساكها بالسيور يشبه التحنيك (2) . ومن لم يجد إلا ثوبا لطيفا أرسله على كتفيه وعجزه، فإن لم يجد ثيابا صلى جالسا، ونص عليه، فإن لم يحوهما ائتزر به وصلى قائما، وقال القاضي: ستر منكبيه ويصلي جالسا، والأول هو الصحيح، وقول القاضي ضعيف (3) . قال الشيخ تقي الدين: لا يلزمه الاستتار بالطين عند الآمدي وغيره، وهو الصواب المقطوع به، وقيل: إنه المنصوص عن أحمد (4) . ولكن يستحب أن يستتر بحائط أو شجرة ونحو ذلك إن أمكن (5) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شد على وسطه منطقة (6) .   (1) زاد المعاد (1/ 43) وللفهارس (2/ 52) . (2) مختصر الفتاوى (29) وللفهارس (2/ 53) . (3) الاختيارات (42) وللفهارس (2/ 53) . (4) تصحيح الفروع (1/ 327) وللفهارس (2/ 53) . (5) الاختيارات (42) وللفهارس (2/ 53) . (6) زاد المعاد (1/ 33) وللفهارس (2/ 53) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 والصلاة في النعلين سنة أمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر إذا كان فيها أذى أن يدلكهما بالأرض فإنها لهما طهور، وهذا هو الصحيح من قولي العلماء، وصلاته - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالنعال في المسجد مع أنهم يسجدون على ما يلاقي النعال كل ذلك دليل على طهارة أسفل النعل، مع أنهم كانوا يروحون بها إلى الحش للبراز، فإذا رأى عليهما أثر النجاسة فدلكهما بالأرض طهرتا (1) . وفي لبس جلد الثعلب وافتراش جلد سبع روايتان، قال الشيخ تقي الدين: وأما الثعلب ففيه نزاع، والأظهر جواز الصلاة فيه (2) . ولا يجوز لبس ما فيه صورة حيوان في أحد الوجهين، والوجه الثاني: لا يحرم؛ بل يكره ذكره ابن عقيل والشيخ تقي الدين رواية (3) . ولو صلى على راحلة مغصوبة أو سفينة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة، وإن صلى على فراش مغصوب فوجهان أظهرهما البطلان. ولو غصب مسجدا وغيره بأن حوله عن كونه مسجدا بدعوى ملكه أو وقفه على جهة أخرى لم تصح صلاته فيه، وإن أبقاه مسجدا ومنع الناس من الصلاة فيه ففي صحة صلاته فيه وجهان اختار طائفة من المتأخرين الصحة والأقوى البطلان. ولو تلف في يده لم يضمنه عند ابن عقيل، وقياس المذهب ضمانه (4) . والعبد الآبق لا يصح نفله ويصح فرضه عند ابن عقيل وابن   (1) مختصر الفتاوى (42) الفروع (1/ 359) وللفهارس (2/ 52) . (2) الفروع (1/ 106) وللفهارس (2/ 53) . (3) الإنصاف (1/ 473) وللفهارس (2/ 52) . (4) الاختيارات (42) وللفهارس (2/ 52) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 الزاغوني وبطلان فرضه قوي أيضا كما جاء في الحديث مرفوعا، وينبغي قبول صلاته (1) . ولو كان المصلي جاهلا بالمكان والثوب أنه حرام فلا إعادة عليه سواء قلنا إن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد، لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين أن تكون نجسة، وكذا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية بل يكون طاعة. وأما المحبوس في مكان مغصوب فينبغي أن لا تجب عليه الإعادة إذا صلى فيه قولا واحدا، لأن لبثه فيه ليس بمحرم، ومن أصحابنا من يجعل فيمن لم يجد إلا الثوب الحرير روايتين كمن لم يجد إلا الثوب النجس، وعلى هذا فمن لم يمكنه أن يصلي إلا في الموضع الغصب فيه الروايتان وأولى، وكذلك كل مكره على الكون بالمكان النجس والغصب بحيث يخاف ضررا من الخروج في نفسه أو ماله ينبغي أن يكون كالمحبوس وذكر ابن الزاغوني في صحة الصلاة في ملك غيره بغير إذنه إذا لم يكن محوطا عليه وجهين، وأن المذهب الصحة، يؤيده أنه يدخله ويأكل ثمره فلأن يدخله بلا أكل ولا أذى أولى وأحرى. والمقبوض بعقد فاسد من الثياب والعقار، أفتى بعض أصحابنا بأنه كالمغصوب سواء، وعلى هذا فإن لم يكن المال الذي يلبسه ويسكنه حلالا في نفسه لم يتعلق به حق الله تعالى ولا حق عباده وإلا لم تصح فيه الصلاة، وكذلك الماء في الطهارة، وكذلك المركوب والزاد في الحج وهذا يدخل فيه شيء كثير وفيه نوع مشقة (2) . وله حشو جباب وفرش بحرير (وش) وقيل: لا وذكر ابن عقيل رواية كبطانة.   (1) الإنصاف (1/ 473) وللفهارس (2/ 53) . (2) الاختيارات (43) فيه زيادة وللفهارس (2/ 52) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 وفي تحريم كتابة المهر وجهان: أحدهما لا يحرم بل يكره وهو الصحيح قدمه في الرعاية وتبعه في الآداب الكبرى والوسطى، والوجه الثاني يحرم في الأقيس قاله في الرعاية الكبرى واختاره ابن عقيل والشيخ تقي الدين (1) . فإن استوى (الحرير) وما نسج معه فعلى وجهين.. والوجه الثاني يحرم، قال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة: الأشبه أنه يحرم لعموم الخبر (2) . لبس الحرير حيث يكون سدى بحيث يكون القطن والكتان أغلى قيمة منه وفي تحريمه إضرار بهم، لأنه أرخص عليهم، يخرج على وجهين لتعارض لفظ النص ومعناه، كالروايتين في إخراج غير الأصناف الخمسة إذا لم يكن قوتا لذلك البلد. ولو كان الظهور للحرير وهو أقل من غيره ففيه ثلاثة أوجه: التحريم والكراهة، والإباحة، وحديث الحلة السيراء والقسي يستدل به على تحريم ما ظهر فيه الحرير؛ لأن ما فيه خيوط حرير أو سيور لا بد أن ينسج مع غيرها من الكتان أو القطن فالنبي - صلى الله عليه وسلم - حرمها لظهور الحرير فيها ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من القطن أو الكتان أكثر، أم لا؟ مع أن العادة أنه أقل، فإن استويا فالأشبه بكلام أحمد التحريم. والثياب القسية ثياب مخططة بحرير قال البخاري في صحيحه، قال عاصم، عن أبي بردة: قلنا لعلي ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير كأمثال الأترج. وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير   (1) الفروع وتصحيح (1/ 351) وللفهارس (2/ 54) . (2) الإنصاف (1/ 480) وللفهارس (2/ 54) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 فقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير وليست حريرا مصمتا، وهذا هو الملحم. والخز أخف من وجهين: إحداهما سداه من حرير، والسدى أيسر من اللحمة، وهو الذي بين ابن عباس جوازه بقوله: فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس به. والثاني: أن الخز ثخين والحرير مستور بالوبر فيه فيصير بمنزلة الحشو. والخز اسم لثلاثة أشياء: للوبر الذي ينسج مع الحرير، وهو وبر الأرنب، واسم لمجموع الحرير والوبر، واسم لرديء الحرير، فالأول والثاني حلال، والثالث حرام. وجعل بعض أصحابنا المتأخرين الملحم والقسي والخز على الوجهين، وجعل التحريم قول أبي بكر؛ لأنه حرم الملحم والقسي، والإباحة قول ابن البناء، لأنه أباح الخز، وهذا لا يصلح، لأن أبا بكر قال: ويلبس الخز ولا يلبس الملح ولا الديباج. وأما المنصوص عن أحمد وقدماء الأصحاب فإباحة الخز دون الملحم وغيره فمن زعم أن في الخز خلافا فقد غلط. وأما لبس الرجال الحرير كالكتولة والقباء فحرام على الرجال بالاتفاق على الأجناد وغيرهم، لكن تنازع العلماء في لبسه عند القتال بغير ضرورة على قولين: أظهرهما الإباحة. وأما إن احتاج إلى الحرير في السلاح ولم يقم غيره مقامه فهذا يجوز بلا نزاع (1) (2) .   (1) الاختيارات (75، 76) وللفهارس (2/ 54) . (2) قلت: وتقدم ويأتي حكم اللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وقال الشيخ تقي الدين: يجوز بيع حرير لكافر ولبسه له؛ لأن عمر بعث بما أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أخ له مشرك رواه أحمد والبخاري ومسلم. قال شيخنا: وعلى قياسه بيع آنية الذهب والفضة للكفار، وإذا جاز بيعها لهم جاز صنعتها لبيعها منهم، وعملها لهم بالأجرة (1) . والخلاف في كسوة الحيطان إذا لم تكن الكسوة حريرا أو ذهبا، فأما الحرير والذهب فيحرم، كما تحرم ستور الحرير والذهب على الرجال والحيطان والأبواب التي تشترك فيها الرجال والنساء وأن تكون كالتي للرجال. وأما الحيطان والأبواب التي تختص بالمرأة ففي كون ستورها وكسوتها كفرشها نظر؛ إذ ليس هو من اللباس. ولا ريب في تحريم فرش الثياب تحت دابة الأمير وأمثاله، لا سيما إن كانت خزا أو مغصوبة، ورخص أبو محمد في ستر الحيطان لحاجة من وقاية حر أو برد، ومقتضى كلام القاضي المنع، لإطلاقه على مقتضى كلام الإمام أحمد. ويكره تعليق الستور على الأبواب من غير حاجة لوجود أغلاق غيرها من أبواب الخشب ونحوها، وكذلك تكرار الستور في الدهليز لغير حاجة؛ فإن ما زاد على الحاجة فهو سرف، وهل يرتقي إلى التحريم؟ فيه نظر (2) . وأطلق في المستوعب: له الخضاب بالحناء، وقال في مكان آخر: كرهه أحمد، لأنه من الزينة، وقال شيخنا: هو بلا حاجة مختص بالنساء، ثم احتج بلعن المتشبهين والمتشبهات (3) .   (1) الاختيارات (244) . (2) الفروع (3/ 454) وللفهارس (2/ 54) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 اجتناب النجاسة وجوب تطهير البدن من الخبث، يحتج عليه بأحاديث الاستنجاء، وبحديث التنزه عن البول، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - «حتيه ثم اقرصيه ثم انضحيه بالماء ثم صلي فيه» من حديث أسماء وغيرها، وبحديث أبي سعيد في «دلك النعلين بالتراب ثم الصلاة فيهما» . وطهارة البقعة يستدل عليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الأعرابي: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة» وأمره - صلى الله عليه وسلم - بصب الماء على البول (1) . ونزاع الفقهاء فيمن صلى في موضع نجس لا يمكنه الخروج منه؟ على قولين معروفين الأظهر أنه لا يعيد؛ بل الصحيح أن كل من صلى في الوقت بحسب إمكانه لا يعيد كالعاجز عن الطهارة والستارة والاستقبال أو اجتناب النجاسة أو عن إكمال الركوع والسجود أو عن قراءة الفاتحة ونحوهم (2) . قال ابن القيم رحمه الله في مسألة الثياب التي اشتبه الطاهر منها بالنجس: هذه مسألة نزاع.. قال شيخنا: اجتناب النجاسة من باب المحظور، فإذا تحرى وغلب على ظنه طهارة ثوب منها فصلى فيه لم يحكم ببطلان صلاته بالشك، فإن الأصل عدم النجاسة وقد شك فيها في هذا الثوب فيصلي فيه، كما لو استعار ثوبا أو اشتراه ولا يعلم حاله (3) . ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها، والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك.   (1) الاختيارات (43) وللفهارس (2/ 54) . (2) مختصر الفتاوى (36) هذه أطول مما في المجموع وللفهارس (2/ 54) . (3) إغاثة اللهفان (1/ 176) وللفهارس (2/ 54) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 وذكر طائفة من أصحابنا أن وجود القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة لأنه لا يتناول اسم المقبرة وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا، وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة كل ما قبر فيه، لا أنه جمع قبر، وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلي فيه، فهذا ينبني على أن المنع يكون متناولا لتحريم الصلاة عند القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه، وذكر الآمدي وغيره: أنه لا تجوز الصلاة فيه، أي المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد (1) . ولا تصح الصلاة في الحش ولا إليه، ولا فرق عند عامة أصحابنا بين أن يكون الحش في ظاهر جدار المسجد أو باطنه، واختار ابن عقيل: أنه إذا كان بين المصلي وبين الحش ونحوه حائل مثل جدار المسجد لم يكره، والأول هو المأثور عن السلف (2) . وقال الآمدي: تكره الصلاة في الرحى ولا فرق بين علوها وسفلها، قال أبو العباس: ولعل هذا لما فيها من الصوت الذي يلهي المصلي ويشغله (3) . ولا تصح الفريضة في الكعبة؛ بل النافلة وهو مذهب أحمد، وأما صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيت الحرام فإنها كانت تطوعا فلا يلحق به الفرض لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى داخل البيت ركعتين، ثم قال: «هذه القبلة» فيشبه والله أعلم أن يكون ذكره لهذا الكلام في عقب الصلاة خارج البيت   (1) الاختيارات (44) وللفهارس (2/ 55) . (2) الاختيارات (44) وللفهارس (2/ 55) . (3) الاختيارات (45) وللفهارس (2/ 55) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 بيانا؛ لأن القبلة المأمور باستقبالها هي البنية كلها لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كاف في الفرض لأجل أنه صلى التطوع في البيت، وإلا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة، فلا بد لهذا الكلام من فائدة وعلم شيء قد يخفى ويقع في محل الشبهة وابن عباس راوي هذا الحديث فهم منه هذا المعنى وهو أعلم بما سمع. وإن نذر الصلاة في الكعبة جاز، كما لو نذر الصلاة على الراحلة، وأما إن نذر الصلاة مطلقا فإنه يعتبر فيها شروط الفريضة؛ لأن النذر المطلق يحذى فيه حذو الفرائض (1) . استقبال القبلة قال الدارقطني وغيره في قول الراوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «صلى على حمار» غلط من عمرو بن يحيى المازني، وإنما المعروف صلاته - صلى الله عليه وسلم - على راحلته أو البعير، والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم في رواية أخرى، ولهذا لم يذكر البخاري حديث عمرو هذا، وقيل: إن في تغليطه نظرا، وقيل: إنه شاذ لمخالفته الجماعة (2) . وتصح صلاة الفرض على الراحلة خشية الانقطاع عن الرفقة أو حصول ضرر بالمشيء أو تبرز للخفرة (3) . وذكر طائفة من الأصحاب أن الواجب في استقبال القبلة هواؤها دون بنيانها بدليل المصلي على جبل أبي قبيس وغيره من الجبال العالية بمكة، فإنه إنما يستقبل الهواء لا البنيان، وبدليل ما لو انتقضت الكعبة   (1) الاختيارات (45) الاختيارات (44) وللفهارس (2/ 55) . قلت: ويأتي زيادة إيضاح في فتاوى استقبال القبلة. (2) الاختيارات (46) وللفهارس (2/ 56) . (3) الاختيارات (74) وللفهارس (2/ 56) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 والعياذ بالله فإنه يكفيه استقبال العرصة، قال أبو العباس: الواجب استقبال البنيان، وأما العرصة والهواء فليس بكعبة ولا بناء وأما ما ذكروه من الصلاة على أبي قبيس ونحوه فإنما ذلك لأن بين يدي المصلي قبله شاخصة مرتفعة وإن لم تكن مسامته فإن المسامتة لا تشترط كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالإمام، وأما إذ زال بناء الكعبة والعياذ بالله فنقول بموجبه وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئا يصلي إليه، لأن أحمد جعل المصلي على ظهر الكعبة لا قبلة له، فعلم أنه جعل القبلة البناء الشاخص. وكذلك قال الآمدي: إن صلى بإزاء الباب وكان مفتوحا لا تصح صلاته وإن كان مردودا صحت، وإن كان مفتوحا وبين يديه شيء منصوب كالسترة صحت، لأنه يصلي إلى جزء من البيت. فإن زال بنيان البيت والعياذ بالله وصلى وبين يديه شيء صحت الصلاة، وإن لم يكن بين يديه شيء لم تصح، وهذا من كلام الآمدي يدل على أن البناء لو زال لم تصح الصلاة إلا أن يكون بين يديه شيء، وإنما يعني به -والله أعلم- ما كان شاخصا كما قيده فيما لو صلى إلى الباب، ولأنه علل ذلك بأنه إذا صلى إلى سترة فقد صلى إلى جزء من البيت. فعلم أن مجرد العرصة غير كاف، ويدل على هذا ما ذكره الأزرقي في أخبار مكة أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير، لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل الستور عليها حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها ففعل ذلك ابن الزبير، وهذا من ابن عباس وابن الزبير دليل على أن الكعبة التي يطاف بها ويصلى إليها لا بد أن تكون شيئا منصوبا شاخصا، وأن العرصة ليست قبلة، ولم ينقل أن أحدا من السلف خالف في ذلك ولا أنكره، نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الأشياء موضعها بأن يقع ذلك إذا هدمها ذو السويقتين من الحبشة في آخر الزمان فهنا ينبغي أن يكتفي حينئذ باستقبال العرصة، كما يكتفي المصلي أن يخط خطا إذا لم يجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 سترة فإن قواعد إبراهيم كالخط، وذكر ابن عقيل وغيره من أصحابنا: أن البناء إذا زال صحت الصلاة إلى هواء البيت مع قولهم إنه لا يصلي: على ظهر الكعبة، ومن قال هذا يفرق بأنه إذا زال البناء لم يبق هناك شيء شاخص يستقبل بخلاف ما إذا كان هناك قبلة تستقبل، ولا يلزم من سقوط الشيء الشاخص إذا كان معدوما سقوط استقباله إذا كان موجودا، كما فرقنا بين حال إمكان نصب شيء وحال تعذره، وكما يفرق في سائر الشروط بين حال الوجود والعدم والقدرة والعجز. وإذا قلنا لا بد من الصلاة إلى شيء شاخص فإنه يكفي شخوصه ولو أنه شيء يسير كالعتبة التي للباب قاله ابن عقيل، وقال أبو الحسن الآمدي: لا يجوز أن يصلي إلى الباب إذا كان مفتوحا، لكن إذا كان بين يديه شيء منصوب كالسترة صحت، فعلى هذا لا يكفي ارتفاع العتبة ونحوها، بل لا بد أن يكون مثل آخرة الرحل؛ لأنها السترة التي قدر بها الشارع السترة المستحبة فلأن يكون تقديرها في الواجب أولى، ثم إن كانت السترة التي فوق السطح ونحوه بناء أو خشبة مسمرة ونحو ذلك مما يتبع في مطلق البيع لو كان في موضع مملوك جازت الصلاة إليه لأنه جزء من البيت، وإن كان هناك لبن وآجر بعضه فوق بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة ونحو ذلك لم يكن قبلة فيما ذكره أصحابنا لأنه ليس من البيت، ويتوجه أن يكتفى في ذلك بما يكون سترة في الصلاة، لأنه شيء شاخص ولأن حديث ابن عباس وابن الزبير دليل على الاكتفاء بكل ما يكون قبلة وسترة، فإن الخشب والستور المعدة عليها لا يتبع في مطلق البيع. وقال ابن حامد وابن عقيل في الواضح وأبو المعالي: لو صلى إلى الحجر من فرضه المعاينة لم تصح صلاته، لأنه في المشاهدة والعيان ليس من الكعبة البيت الحرام، وإنما وردت الأحاديث بأنه كان من البيت فعمل بتلك الأحاديث في وجوب الطواف دون الاكتفاء به للصلاة احتياطًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 للعبادتين، وقال القاضي في التعليق: يجوز التوجه إليه في الصلاة وتصح صلاته كما لو توجه إلى حائط الكعبة، قال أبو العباس: وهذا قياس المذهب لأنه من البيت بالسنة الثابتة، وبعيان من شاهده من الخلق الكثير لما نقضه ابن الزبير، ونص أحمد أنه لا يصلي الفرض في الحجر، فقال: لا يصلي في الحجر، والحجر من البيت، قال أبو العباس: والحجر جميعه ليس من البيت، وإنما الداخل في حدود البيت ستة أذرع وشيء فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته ألبتة (1) . وإن اختلف مجتهدان في جهتين.. أنهما إذا استويا عنده له اتباع أيهما شاء وجزم به الشيخ تقي الدين في المسودة، وقال: ذكره القاضي في أصوله المختلفة بما يقتضي أنه محل وفاق ولم يمنعه (2) . النية قلت: قال شيخنا: ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه واحدة منها؛ فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نويت أصلي صلاة الظهر، فريضة الوقت، أداء لله تعالى، إماما أو مأموما، أربع ركعات، مستقبل القبلة ثم يزعج أعضاءه، ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه ويصرح بالتكبير كأنه يكبر على العدو، ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت، فلو كان في هذا خير لسبقونا إليه ولدلونا عليه، فإن كان هذا هدى، فقد ضلوا عنه، وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال (3) .   (1) الاختيارات (47-49) وللفهارس (2/ 56) . (2) الفروع (1/ 386، 387) وللفهارس (2/ 56) . (3) إغاثة اللهفان (1/ 38) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 قال شيخنا: يحرم خروجه لشكه في النية للعلم بأنه ما دخل إلا بنية، وكشكه هل أحدث (1) . ولو سمى إماما أو جنازة فأخطأ صحت صلاته إن كان قصده خلف من حضر وعلى من حضر وإلا فلا (2) . ولا يتنفل منفرد مأموما على الأصح (وهـ م ر) ولا إماما اختاره الأكثر، وعنه يصح اختاره الشيخ وشيخنا (3) . باب صفة الصلاة ويتوجه: يجب تسوية الصفوف وهو ظاهر كلام شيخنا (4) . ولا تنعقد إلا بقوله قائما في فرض: الله أكبر وهي ركن بقدر ما يسمع نفسه، ومع عذر بحيث يحصل السماع مع عدمه، واختار شيخنا الاكتفاء بالحروف وإن لم يسمعها وذكره وجها (وم) وكذا ذكر واجب (5) . وإذا قدر المصلي أن يقول: الله أكبر لزمه ولا يجزئه غيرها وهو قول مالك وأحمد (6) . قال شيخنا: ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة، مثل تكرير بعض الكلمة كقوله في التحيات: أت، أت، ألتحي، ألتحي، وفي السلام: أس، أس. وقوله في التكبير: أكككبر ونحو ذلك فهذا   (1) الفروع (1/ 397) والاختيارات (49) وللفهارس العامة والتقريب (2/ 56) . (2) الاختيارات (49) والفروع (1/ 400) وللفهارس (2/ 57) . (3) الفروع (1/ 400) ف (2/ 57) . (4) الفروع (1/ 408) وللفهارس (2/ 58) . (5) الفروع (1/ 410) وللفهارس (2/ 48) . (6) الاختيارات (50) وللفهارس (2/ 58) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 الظاهر بطلان صلاته به، وربما كان إماما فأفسد صلاة المأمومين، وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعادا له عن الله من الكبائر، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة ورغبة عن طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه وما كان عليه أصحابه، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه، وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه، فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة، وارتكاب شر الأمور، ومحدثاتها، وتعذيب نفسه، وإضاعة الوقت، والاشتغال بما ينقص أجره، وفوات ما هو الأنفع له، وتعريض نفسه لطعن الناس فيه، وتغرير الجاهل بالاقتداء به فإنه يقول: لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه، وأساء الظن بما جاءت به السنة، وأنه لا يكفي وحده، وانفعال النفس وذلها للشيطان حتى يشتد طمعه فيه، وتعريضه نفسه للتشديد عليه بالقدر عقوبة له، وإقامته على الجهل، ورضاه بالخبل في العقل كما قال أبو حامد الغزالي وغيره، الوسوسة: إما جهل بالشرع، وإما خبل في العقل، وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب (1) . ويستحب التعوذ أول كل قراءة ويجهر في الصلاة بالتعوذ وبالبسملة وبالفاتحة في الجنازة ونحو ذلك أحيانا فإنه المنصوص عن أحمد تعليما للسنة (2) . قال شيخنا: وتكتب البسملة أوائل الكتب، كما كتبها سليمان، وكتبها النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية وإلى قيصر وغير (3) . ولا يشترط أن يسمع المصلي نفسه القراءة الواجبة، بل يكفيه الإتيان بالحروف وإن لم يسمعها وهو وجه في مذهب أحمد واختاره   (1) إغاثة (1/ 139) ف (2/ 58) . (2) الاختيارات (50) ف (2/ 59) . (3) الفروع (1/ 414) والاختيارات (51) ف (2/ 59) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 الكرخي من الحنفية وكذا كل ذكر واجب (1) . والفاتحة أعظم سورة في القرآن قال عليه الصلاة والسلام فيها: «أعظم سورة في القرآن» رواه البخاري، وذكر معناه ابن شهاب الزهري وغيره (2) . وعند شيخنا ترتيب الآيات واجب، لأن ترتيبها بالنص (ع) وترتيب السور بالاجتهاد لا بالنص في قول جمهور العلماء منهم المالكية والشافعية، قال شيخنا: فيجوز قراءة هذه قبل هذه، وكذا في الكتابة؛ ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة رضي الله عنهم في كتابتها، لكن لما اتفقوا على المصحف في زمن عثمان صار هذا مما سنه الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها (3) . ووقوف القارئ على رءوس الآيات سنة وإن كانت الآية الثانية متعلقة بالأولى تعلق الصفة بالموصوف أو غير ذلك. والقراءة القليلة بتفكر أفضل من الكثيرة بلا تفكر، وهو المنصوص عن الصحابة رضي الله عنهم صريحا، ونقل عن أحمد ما يدل عليه، نقل عنه مثنى بن جامع: رجل أكل فشبع وأكثر الصلاة والصيام، ورجل أقل الأكل فقلت نوافله وكان أكثر فكرة فأيهما أفضل؟ فذكر ما جاء في الفكر «تفكر ساعة خير من قيام ليلة» قال: فرأيت هذا عندنا أفضل للتفكر (4) . ويكره أن يقول مع إمامه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ونحوه (5) .   (1) الاختيارات (50) قلت: وتقدم النقل عن الفروع وهنا صرح بالقراءة. (2) الفروع (1/ 415) ف (2/ 60) . (3) الفروع (1/ 415) ف (2/ 60) . (4) الاختيارات (53) ف (2/ 60) . وف (1/ 247) . (5) الاختيارات (53) والفروع (1/ 425) ف (2/ 60) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 ومن لم يحسن القراءة ولا الذكر، أو الأخرس لا يحرك لسانه حركة مجردة. ولو قيل: إن الصلاة تبطل بذلك كان أقرب؛ لأنه عبث ينافي الخشوع وزيادة على غير المشروع (1) . وسمعته يقول في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة القرآن في الركوع والسجود: أن القرآن هو أشرف الكلام، وهو كلام الله، وحالة الركوع والسجود حالتا ذل وانخفاض من العبد فمن الأدب مع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين، ويكون حال القيام والانتصاب أولى به (2) . وقول القائل: إن طوَّل القيام على الركوع والجلوس بين السجدتين تبطل صلاته قول ضعيف باطل (3) . قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه: فصل الصلاة مؤلفة من أقوال وأفعال، فأعظم أقوالها القرآن، وأعظم أفعالها الركوع والسجود وأول ما أنزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [1/96] وختمها بقوله {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [19/96] فافتتحها بالأمر بالقراءة وختمها بالأمر بالسجود وكل منهما يكون عبادة مستقلة. فالقراءة في نفسها عبادة مطلقا إلا في مواضع، والسجود عبادة   (1) الاختيارات (55) وتحفة الودود (156) ولفظها: وزيادة عمل غير مشروع، ف (2/ 60) . (2) مدارج (2/ 285) واختيارات (58) زيادة إيضاح. (3) مختصر الفتاوى (62) ف (2/ 61) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 بسبب السهو والتلاوة وسجود الشكر، وعند الآيات على قول. فالتلاوة الخاصة سبب السجود. وقد ذكر الله الركوع والسجود في مواضع فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [77/22] فهذا أمر بهما وقال تعالى: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [29/48] فهذا ثناء عليهم بهما، وإن كان ذكرهما منتظما لبقية أفعال الصلاة كما في القراءة والقيام والتسبيح والسجود المجرد وهو من باب التعبير بالبعض عن الجميع، وهو دليل على وجوبه فيه، وقال تعالى لبني إسرائيل {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43/2] فأفرد الركوع بالتخصيص بعد الأمر بإقامة الصلاة، ويشبه والله أعلم أن يكون فيه معنيان: أحدهما: أنهم لا يركعون في صلاتهم فأمرهم بالركوع إذا كانوا لا يفهمون ذلك في نفس الصلاة. الثاني: أن قوله: {مَعَ الرَّاكِعِينَ} أمر بصلاة الجماعة، ودل بذلك على وجوبها، وأمر بالركوع معهم؛ لأنه بالركوع يكون مدركا للركعة، فإذا ركع معهم فقد فعل بقية الأفعال معهم، وما قبل الركوع من القيام لا يجب فعله معهم فما بعده لازم؛ بخلاف ما لو قال: قوموا، أو: اسجدوا لم يدل على ذلك. وقال لمريم: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43/3] قد يكون أمرا لها بصلاة الجماعة وإن كانت امرأة لأنها كانت محررة منذورة لله عاكفة في المسجد، وقال تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [24/38] قد قيل: إنه السجود، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} [48/77] وذكر السجود والقيام في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 قوله: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [64/25] وفي قوله: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الليْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [9/39] وذكر السجود في قوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [19/96] وفي قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [42-43/68] وقوله: {وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} [154/4] وقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [98/15] وقوله: {وَمِنَ الليْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [40/50] وقوله: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [102/4] . وآيات سجود التلاوة {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [206/7] . وقوله: {وَلِلهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [49، 50/16] . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} الآية: [107/17] ، وقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [58/19] وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} الآية: [18/22] وقوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [77/22] وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [60/25] وقوله: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [25/27] وقوله: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [32/15] . وقوله: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [37/41] . وقوله: {فَاسْجُدُوا لِلهِ وَاعْبُدُوا} [62/53] . وقوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [21/84] . وقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [19/84] . فآية الأعراف والرعد والنحل والحج فيها الخبر عن سجود المخلوقات، لكن في الأعراف سجود الملائكة وفي الحج سجود المخلوقات طوعية، وهذا لم يعم بني آدم، وسجود الكائنات مطلق ليس مقيدا بركوع فشرع السجود عند ذكره، لأن المؤمن داخل في ذلك، أو متشبه بصاحبه. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} الآية: [107/17] وقوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [58/19] خبر عن سجود بسبب التلاوة، فأمر بالسجود عند التلاوة. ونظيره: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [21/84] وقوله: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ} [24/27] وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الليْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [37/41] نهي عن السجود لغير الله مطلقا وأمر بالسجود له فشرع السجود المقابل للمنهي عنه. وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [60/25] فأخبر عن امتناع الكافر عن السجود مطلقا فيشرع السجود المقابل له، وهو مطلق السجود هناك في مقابلة المعبود الباطل وهنا في مقابلة الكافر الممتنع عن الحق. وأما قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [77/22] فلا ريب أن هذا أمر بسجود الصلاة فلذلك جرى فيه النزاع فقيل: هو أمر به كما في قوله: {اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} [43/3] . وقيل: هذا لا يمنع أن يكون سببا لذلك، كما أن آيات التلاوة والسجود تتضمن السجود في الصلاة عقب سماع القرآن. فصل ولما كثر ذكر السجود في القرآن، تارة أمرا به، وتارة ذما لمن تركه، وتارة: ثناء على فاعله، وتارة إخبارا عن سجود عظماء الخليقة وعمومهم كان ذلك دليلا على فضيلة السجود، وهذا ظاهر فإن السجود فيه غاية الخضوع والتواضع، وهو أفضل أركان الصلاة الفعلية وأكثرها حتى إن مواضع الصلاة سميت به فقيل: مسجد ولم يقل: مقام، ولا مركع لوجهين: أحدهما: أنه أفضل وأشرف وأكثر. والثاني: أن نصيب الأرض منه أكثر من نصيبها من جميع الأفعال، فإن العبد يسجد على سبعة أعضاء وإنما يقوم على رجلين، وأما الركوع فسيان نسبة الأرض إليه وإلى القيام، فلهذا قيل: مسجد وهو موضع السجود دون موضع الركوع، والركوع نصف سجود، والسجود شرع مثنى مثنى في كل ركعة سجدتان ولم يشرع من الأركان مثنى إلا هو، حتى سجود الجبران جعل أيضا مثنى وهو سجدتا السهو، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسميهما المرغمتين وقال في الشك «إن كانت صلاته وترا شفعتا له صلاته، وإن كانت تامة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 كانت ترغيمًا للشيطان» فأقام السجدتين مقام ركعة في تكميل الصلاة؛ لأن الركن الأعم في كل ركعة هما السجدتان، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعني على نفسك بكثرة السجود» ، وقال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» . ولما كانت الصلاة مثنى مثنى، جعل في كل ركعة السجود مثنى مثنى، فكل سجدتين معقودتان بركعة، فتصير وترا سجدتين وركوع، والركوع مقدمة أمامهما كتقدمة الوقوف على طواف الزيارة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أدركتمونا ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركعة فقد أدرك» كما قال: «الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج» ومن فاته التعريف فإنه يفعل الطواف والسعي ولكن لا يكون مدركا للحج، لكن يكون متحللا بعمرة، أو عمل عمرة ولهذا قيل: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [43/2] فالركوع مع السجود تقدمة وتوطئه وباب إليه، وهو مشترك بين القيام والسجود وبرزخ بينهما، فالقيام قيام القراءة بعده، وأما القيام بعده فهو -والله أعلم- لأجل السجود بعده ليكون السجود عن قيام وهو السجود الكامل، فالرفع منه تكميل للركوع، والخفض من القيام تكميل للسجود، ولهذا هو ركن تام كما جاءت به السنة، وليس معادلا لبقية الأركان كما كان يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: «لا تقبل الله صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود» لعدم تكميلهما فإنه أيضا إذا لم يقم صلبه بين السجدتين لا يكون قد أكمل الأولى برفعها ولا الثانية بخفضها، فالسجود إذا شرع في الانحناء وهو قاعد، أما إذا كان وجهه قريبًا من الأرض وألصقه فليس هذا بسجود. ومن هنا غلط من غلط وقال: إن الاعتدالين ليس بركنين طويلين لما ظنوا أن المقصود مجرد الفصل، والصواب ما جاءت به السنة إيجابًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 للاعتدال واستحبابًا لإتمامه وتسويته بسائر الأركان، لأن هذا القيام والقعود إن كان تابعا من بعض الوجوه فالقعود في آخر الصلاة أيضا تابع للصلاة وهم يطردون أصلهم في عدم إيجابه عند بعضهم، والركوع أيضا تابع من بعض الوجوه للسجود الذي هو غاية الخضوع، كما قال: {سَاجِدًا وَقَائِمًا} [9/39] . فإذا كان بعض أركان الصلاة الفعلية أفضل من بعض وأبلغ في كونه مقصودا لم يمنع إيجاب التابع المفضول كالركعتين الأخريين مع الأوليين وكإيجاب الطمأنينة. وحرف المسألة: أن إتمام الأركان فرض ولا يتم إلا بذلك، وإتمام الصلاة من إقامتها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة، فإن قوله في الخوف والسفر {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [101/4] فالخوف يبيح قصر الأفعال والسفر قصر الأعداد دليل على وجوب الإتمام في الأمن والطمأنينة لقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [103/4] وإتمامها من إقامتها كما جاءت به السنة حيث قال للمسيء في صلاته: «ارجع فصل فإنك لم تصل» ، وقال: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» فجعل من لم يتمها لم يصل، والله سبحانه أعلم (1) . ما يكره في الصلاة ومن الأدب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - المصلي أن يرفع بصره إلى السماء، فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: هذا من كمال   (1) من «الكلام على مسألة السماع» لابن القيم (219-229) دار العاصمة الرياض، عن مخطوطة مكتبة اسكوريال بأسبانيا رقم 1593 وهي موجودة في مكتبة الجامعة الإسلامية مصورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 أدب الصلاة أن يقف العبد بين يدي ربه مطرقا خافضا طرفه إلى الأرض ولا يرفع بصره إلى فوق (1) . فصل آل محمد فيه قولان: أحدهما: أنهم أهل بيته الذين حرموا الصدقة، نص عليه أحمد والشافعي، وهو أصح. وعلى هذا فتحريم الصدقة على أزواجه وكونهم من أهل بيته: روايتان الأصح: دخولهن دون مواليهن كبريرة، بخلاف موالي الرجال. وعلى هذا: أهل بيته هم بنو هاشم من ذرية أبي طالب والعباس والحارث أبناء عبد المطلب أعمام النبي - صلى الله عليه وسلم - فذرية هؤلاء الثلاثة أهل بيته، وكذلك ذرية أبي لهب عند الجمهور، وليس من أعمامه من له نسل غير هؤلاء الأربعة. وأفضل أهل بيته علي وفاطمة وحسن وحسين الذين أدار عليهم الكساء وخصهم بالدعاء. وظاهر كلام أبي العباس في موضع آخر، أن حمزة أفضل من حسن وحسين واختاره بعض العلماء (2) .   (1) مدارج (2/ 385) ف (2/ 65) . (2) هذا النقل عن الاختيارات (55) من قوله وظاهر كلام أبي العباس إلى قوله بعض العلماء بحث معترض في هذا الفصل يناسب وضعه هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وأما بنو المطلب هل هم من أهل بيته الذين تحرم عليهم الصدقة؟. على روايتين. والقول الثاني: آل محمد هم أمته، أو الأتقياء من أمته، روي ذلك عن مالك وطائفة من أصحاب أحمد وغيرهم. ولفظ آل فلان، إذا أطلق دخل فيه فلان وآله، وقد يقال: محمد وآل محمد، فلا يدخل فيهم محمد، وكذلك أهل البيت. وأصل آل أول، فحركة الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا. ومن قال: إن أصله أهل فقد غلط، لأن الأهل يضاف إلى الجماد وغيره. وأما آل فإنما يضاف إلى شخص معظم من شأنه أن يئول إليه غيره أي يسوسه فيكون مآله إليه فيتناول نفسه ومن يئول إليه. ولهذا جاء في أكثر الألفاظ، «كما صليت على إبراهيم» جاء في بعضها «على إبراهيم» لأنه هو الأصل في الصلاة وسائر أهل بيته تبع له. ولم يأت «على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» بل روي ولكنه غير ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن المتأخرين من يرى الجمع بين ألفاظ الأدعية التي رويت بألفاظ متنوعة مثل قوله: «ظلما كثيرا كبيرا» وهي طريقة محدثة بل فاسدة عقلا، لأنه لم يستحب أحد من المسلمين للقارئ أن يجمع بين حروف القراءة. فإن قيل: فلم جاء «على محمد وعلى آل محمد» فذكر محمد وآله بخلاف إبراهيم؟ قيل: لأن الصلاة على محمد وآله ذكرت في مقام الطلب والدعاء، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وفي إبراهيم في مقام الخبر، والجملة الطلبية إذا بسطت كان بسطها مناسبا لأن المطلوب يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه، فأما الخبر فهو خبر عن أمر قد وقع لا يحتمل الزيادة ولا النقصان فلم يكن في زيادة اللفظ زيادة معنى فكان الإيجاز أحسن ولهذا جاء بلفظ «إبراهيم» ، تارة وبلفظ «آل إبراهيم» أخرى لأن كلا من اللفظين يدل على ما يدل عليه الآخر، وهو الصلاة التي وقعت ومضت، إذ قد علم أن الذي وقع هو الصلاة عليه وعلى آله بخلاف ما لو طلب صلاة على محمد فإنه يدل على طلب الصلاة على آل محمد، إذ هو طلب ودعاء ينشأ بيننا بهذا اللفظ لم يعلم ما يريد به. ولو قيل: «صل على محمد» ، لكان إنما يصلي عليه في العموم، فقيل: على محمد وآل محمد ليخص بالدعاء. ثم إن قيل: إنه داخل في آله مع الاقتران، كما هو داخل مع الإطلاق فقد صُلي عليه مرتين خصوصا وعموما. ولو قيل: إنه لم يدخل ففي ذلك بيان أن الصلاة على آله إنما طلبت تبعا له وأنه هو الأصل الذي بسببه طلبت الصلاة على آله. فإن قيل: قوله «صليت على آل إبراهيم» يشعر بفضيلة إبراهيم، لأن المشبه دون المشبه به؟ قيل: الجواب: أن محمدا داخل في آل إبراهيم، لأنه في الأصح أحق من غيره من الأنبياء بالدخول فيدخل عموما في آل إبراهيم، ثم أمرنا أن نصلي على محمد على آله خصوصا بقدر ما صلينا عليه مع سائر آل إبراهيم عموما، ثم لأهل بيته من ذلك ما يليق بهم، والباقي له، فيطلب له من الصلاة هذا القدر العظيم فيحصل له به أعظم ما لإبراهيم وغيره، ويظهر به من فضيلته على كل من النبيين ما هو اللائق به - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 وجواب ثان وهو أن «آل إبراهيم» فيهم الأنبياء الذين ليس مثلهم في آل محمد، فإذا طلب له من الصلاة مثل ما صلي على هؤلاء حصل لآله ما يليق بهم، فإنهم دون الأنبياء وبقيت الزيادة لمحمد فحصل له بذلك مزية ليست لإبراهيم ولا لغيره، وهذا حسن أيضا. وجواب ثالث: منع أن يكون المشبه دون المشبه به. وجواب رابع: أن التشبيه عائد إلى الصلاة على الآل فقط فعند قوله «على محمد» انقطع الكلام وقوله «على آل محمد» مبتدأ وهذا نقل عن الشافعي وهو ضعيف كالذي قبله، لأن الفعل العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه، وهو العامل في أداة التشبيه، والحذف إنما يجوز مع قيام الدليل، كما لو قال: اضرب زيدا وعمرو مثل ضربك خالدا وجعل التشبيه للمعطوف كان تلبيسا. ومحمد أفضل الرسل باتفاق المسلمين، لكن وقع نزاع، هل هو أفضل من جملتهم؟ قطع طائفة بأن أفضل، كما أن صديقه أبا بكر وزن إيمانه بإيمان جميع الأمة فرجح. فعلى هذا يكون آل محمد الذين هو فيهم أفضل من آل إبراهيم الذين ليس فيهم محمد وإن كان فيهم عدد من الأنبياء، وإن لم يكن محمد من آل نفسه فيكون آل محمد ليس فيهم نبي دون آل إبراهيم ففيهم أنبياء. وإن قلنا: إنه داخل في آل إبراهيم كان آل إبراهيم فيهم محمد وأنبياء غيره وآل محمد فيهم محمد ولا نبي معه فتكون الجملة التي هو وغيره فيها من الأنبياء أفضل من الآخرين. واتفق المسلمون على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء كله سرا أفضل، بل الجهر ورفع الصوت بالصلاة بدعة، ورفع الصوت بذلك أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 بالترضي قدام الخطيب في الجمعة مكروه أو محرم بالاتفاق، ومنهم من يقول: سرا، ومنهم من يسكت. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، بلفظ الحديث أفضل من كل لفظ، ولا يزاد عليه كما في الأذان والتشهد قاله الأئمة الأربعة وغيرهم، وهي في الصلاة واجبة في أشهر الروايتين وقول للشافعي، ولا تجب في غيرها، والرواية الأخرى: لا تجب في الصلاة، وهو قول مالك وأبي حنيفة. ثم منهم من قال: تجب في العمر مرة، ومنهم من قال: تجب في المجلس الذي يذكر فيه - صلى الله عليه وسلم - (1) . ولا تجوز الصلاة على غير الأنبياء إذا اتخذت شعارا، وهو قول متوسط بين من قال بالمنع مطلقا وهو قول طائفة من أصحابنا، ومنهم من قال بالجواز مطلقًا وهو منصوص أحمد (2) . وقوله في حديث أبي بكر رضي الله عنه: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» (3) . ثبت في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» . وهذا موافق لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [31/4] وكذلك   (1) مختصر الفتاوى المصرية (88-92) هذا فيه زيادات كثيرة عما في (22/ 460-464) ف (2/ 62) . (2) اختيارات (55) هذا لفظ مختصر في الموضوع ف (2/ 62) . (3) تقدم هذا الحديث وشرحه في المجلد الأول قسم الحديث المرتب على حروف الهجاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 قوله {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللمَمَ} [33/35] فقد فسر اللمم: بأنه غير الوطء من النظر واللمس والسمع والمشي ونحوه، كما ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما رأيت أشبه باللم مما قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمنى ويشتهي الفرج يصدق ذلك أو يكذبه» وسماه الله لمما لأن العبد المؤمن يلم بالكبيرة ولا يأتيها قال: متى تأتنا تلمم بنا في دارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا وقال متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد فإن الطارق يلم بأهل المنزل قبل أن يدخل إلى منزلهم. ويقال: اللمم أن يلم بالذنب الصغير مرة من غير إصرار، لأن من أصر على الصغيرة صارت كبيرة، كما في الترمذي: «لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار» ، فقد جاء الكتاب والسنة بتكفير الصغائر لمن اجتنب الكبائر وهذا لا ريب فيه. ثم قال قائلون: مفهوم هذا أنه لا يكفر الصغائر إلا بهذا الشرط، فمن لم يجتنب الكبائر كلها لا يكفر عنه صغيرة، وخالف الخوارج والمعتزلة فقالوا: إن من أتى كبيرة استحق العقوبة حتما، فتحبط جميع حسناته بتلك الكبيرة ويستحق التخليد في النار لا يخرج منها بشفاعة ولا غيرها، وهذا قول باطل باتفاق الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وسائر أهل السنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 والمرجئة من الشيعة والأشعرية قابلوا المعتزلة بنقيض قولهم فقالوا: لا نجزم بتعذيب أحد من أهل التوحيد، وهذا أيضا باطل، بل تواترت السنن بدخول أهل الكبائر النار، وخروجهم منها بشفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة وأئمتها متفقون على ما جاءت به السنن. وقد يفعل العبد من الحسنات ما يمحو الله به بعض الكبائر كما غفر للبغي بسقي الكلب، وقوله لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» ولكن هذا يختلف باختلاف الحسنات ومقاديرها وبصفات الكبائر ومقاديرها، فلا يمكن لنا أن نعين حسنة تكفر بها الكبائر كلها غير التوبة فمن أتى كبيرة ولم يتب منها ولكن أتى معها بحسنات أخر فهذا يتوقف أمره على الموازنة والمقابلة، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [6-9/101] فلهذا كان صاحب الكبيرة تحت الخطر ما لم يتب منها، فإذا أتى بحسنات يرجى له محو الكبيرة، وكان بين الخوف والرجاء. والحسنة الواحدة قد يقترن بها من الصدق واليقين ما يجعلها تكفر الكبائر، كالحديث الذي في صاحب البطاقة الذي ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، ويؤتى ببطاقة فيها كلمة لا إله إلا الله فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة فثقلت البطاقة وطاشت السجلات وذلك لعظم ما في قلبه من الإيمان واليقين، وإلا فلو كان كل من نطق بهذه الكلمة تكفر خطاياه لم يدخل النار من أهل الكبائر المؤمنين بل والمنافقين أحد، وهذا خلاف ما تواترت به الآيات والسنن، وكذلك حديث البغي، وإلا فليس كل من سقى كلبا عطشانا يغفر له، كما أنه قد يقترن بالسيئة من الاستخفاف والإصرار ما يعظمها فلهذا وجب التوقف في المعين، فلا يقطع بجنة ولا نار إلا ببيان من الله، لكن يرجى للمحسن ويخاف على المسيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وأما من شهد له النص فنقطع له، ومن له لسان صدق ففيه نزاع (1) . والمصافحة أدبار الصلوات بدعة باتفاق المسلمين، لكن عند اللقاء فيها آثار حسنة، وقد اعتقد بعضهم أنها في أدبار الصلاة تندرج في عموم الاستحباب وبعضهم أنها مباحة. والتحقيق أنها بدعة إذا فعلت على أنها عبادة، أما إذا كانت أحيانا لكونه لقيه عقيب الصلاة - لا لأجل الصلاة - فهذا حسن كما أن الناس لو اعتادوا سلاما غير المشروع عقيب الصلاة كره. وأما المعانقة ففي الحديث النهي عنها، ويحمل النهي على فعلها دائما، وأما عند اللقاء فقد جاء فيها حديث جعفر، «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه فالتزمه وقبل بين عينيه» (2) . الذكر بعد الصلاة وما جاء في خبر ثوبان «من أن الإمام إذا خص نفسه بالدعاء فقد خان المأمومين» المراد به الدعاء الذي يؤمن المأموم عليه كدعاء القنوت فإن المأموم إذا أمن كان داعيا، قال تعالى لموسى وهارون: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [89/10] وكان أحدهما يدعو والآخر يؤمن والمأموم يؤمن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما، فإن لم يفعل فقد خان الإمام المأموم (3) .   (1) مختصر الفتاوى (575-577) ف (2/ 63) فيها زيادة إيضاح عما في المجموع. (2) مختصر الفتاوى (67) فيها زيادات عما في المجموع ف (2/63) . (3) الوابل الصيب (229) وزاد المعاد (1/ 78) ف (2/ 64) الاختيارات (56) والفروع (1/ 456) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 ويحرم الاعتداء في الدعاء لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [55/7] والاعتداء قد يكون في نفس الطلب، وقد يكون في نفس المطلوب (1) . ويكره رفع بصره إلى السماء في الدعاء ذكره في الغنية من الأدب، وهو قول شريح وآخرين وظاهر كلام جماعة واختاره شيخنا في الأجوبة المصرية الأصولية لفعله عليه السلام (وم ش) قال: وذكر بعض أصحابنا خلافا بيننا في كراهته، قال شيخنا: وما علمت أحد استحبه (2) . وإذا لم يخلص الداعي الدعاء ولم يجتنب الحرام تبعد إجابته إلا مضطرا أو مظلوما (3) . وفي النسائي الكبير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ آية الكرسي عقب كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت» وبلغني عن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: ما تركته عقيب كل صلاة إلا نسيانا أو نحوه (4) . ولا يستحب الدعاء عقب الصلوات لغير عارض كالاستسقاء أو تعليم المأموم ولم يستحبه الأئمة الأربعة (5) . ويسن للداعي رفع يديه والابتداء بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يختمه بذلك كله وبالتأمين (6) .   (1) الاختيارات (56) والفروع (1/ 458) . (2) فروع (1/ 460) ف (2) (3) اختيارات (57) والفروع (1/ 460) ف (2/ 64) . (4) الوابل الصيب (229) وزاد المعاد (1/ 78) ف (2/ 64) . (5) الاختيارات (57) . (6) اختيارات (56) والفروع (1/ 456) ف (2/ 64) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 ما يكره في الصلاة وكره شيخنا السجود عليها -الصورة- وسبق في اللباس من سترة العورة (1) . والصواب أن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار بين يدي المصلي دون سترته يقطع الصلاة (2) ، وقال: هو مذهب أحمد رحمه الله (3) . أركان الصلاة وواجباتها يجب تحريك لسانه بالذكر الواجب في الصلاة من القراءة وغيرها مع القدرة. ومن قال: إنها تصح بدونه يستتاب، ويستحب ذلك في الذكر المستحب. والمشهور من مذهب الشافعي وأحمد أن يكون بحيث يسمع نفسه إذا لم يكن مانع، وفيه وجه أن تكون الحركة بالحرف. وأكمل الذكر بالقلب واللسان، ثم بالقلب، ثم باللسان، والمأمور به في الصلاة القلب واللسان جميعًا، لكن ذكر اللسان مقدور، والقلب قد لا يقدر عليه للوسواس، فلو قدررجلان أحدهما ذكر الذكر الواجب بالقلب فقط، والثاني بلسانه فقط فإن الأول لا يجزئه في صلاته بلا نزاع وإن قدر ذكر القلب أفضل، لأنه ترك الواجب المقدور عليه، كما أن الخشوع لله بالقلب والبدن أكمل منه بالقلب وحده، وهو بالقلب وحده أكمل منه بالبدن وحده.   (1) الفروع (1/ 485) ف (2/ 65) . (2) مختصر الفتاوى المصرية (56) ف (2/ 65) . (3) الاختيارات (59) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 ثم إن المصلي لو اقتصر على خشوع القلب لم يجزئه بلا نزاع، ولو غلب الوسواس على قلبه في أكثر الصلاة لم تصح صلاته عند أبي حامد الغزالي وأبي الفرج ابن الجوزي، لكن المشهور عند الأئمة أن الفرض يسقط بذلك. والتحقيق أن كل عمل في الظاهر من مؤمن لا بد أن يصحبه عمل القلب، بخلاف العكس فلا يتصور عمل البدن منفردا إلا من المنافق الذي يصلي رياء وكان عمله باطلا حابطا، ففرق بين المنافق والمؤمن، فيظهر الفرق بين المؤمن الذي يقصد عبادة الله بقلبه مع الوسواس، وبين المنافق الذي لا يصلي إلا رياء الناس. وأما أبو حامد ونحوه فسووا بين النوعين، فإن كلاهما إنما تسقط عنه الصلاة القتل في الدنيا من غير أن يبرأ ذمته ولا ترفع عنه عقوبة الآخرة، والتسوية بين المؤمن والمنافق في الصلاة خطأ. نعم قد يكون بعض الناس فيه إيمان ونفاق مثل أن يصلي لله ويحسنها لأجل الناس فيثاب على ما أخلصه لله دون عمله للناس: {ولا يظلم ربك أحدا} (1) . وقال أيضا: لا يمكن أن يقال: لم لا يأخذ نصيبه منه؟ لأنه مع الإشراك يمتنع أن يكون له شيء، كما أنه بتقدير الإشراك في الربوبية يمتنع أن يصدر عنه شيء، فإن الغير لا وجود له، وهو لم يستقل بالفعل وكذا هنا هو لم يستقل بالقصد، والغير لا ينفع قصده، ولهذا نظائر كثيرة، في الشرعيات والحسيات إذا خلط بالنافع الضار أفسده، كخلط الماء بالخمر. يبين هذا أنه لو سأل الله شيئا فقال: اللهم افعل كذا أنت وغيرك،   (1) مختصر الفتاوى (43، 44) والاختيارات بمعناه (59) ف (2/ 65) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 أو دعا الله وغيره فقال: افعلا كذا، لكان هذا طلبا ممتنعا، فإن غيره لا يشاركه وهو على هذا التقدير لا يكون فاعلا له، لأن تقدير وجود الشريك يمنع أن يكون هو أيضا فاعلا فإذا كان هذا يمتنع في الدعاء والسؤال فكذلك يمتنع في العبادة والعمل أن يكون له ولغيره (1) . والمسبوق إذا لم يتسع وقت قيامه لقراءة الفاتحة فإنه يركع مع إمامه ولا يتم الفاتحة باتفاق الأئمة، وإن كان فيه خلاف فهو شاذ، وأما إذا أخر في الصلاة مع إمكانه حتى قصر القيام أو كان القيام متسعا ولم يقرأها فهذا تجوز صلاته عند الجماهير، وعند الشافعي عليه أن يقرأها وإن تخلف عن الركوع، وإنما تسقط قراءتها عنده على المسبوق خاصة (2) . وذكر الأصحاب أن ترك ركن وشرط كتركها كلها، قال جماعة: لأن الصلاة مع ذلك وجودها كعدمها؛ لأنه لا يثاب على قراءة وذكر ونحو ذلك. وقال شيخنا في رده على الرافضي: جاءت السنة بثوابه على فعله وعقابه على ما تركه، ولو كان باطلا كعدمه لم يجبر بالنوافل شيء، والباطل في عرف الفقهاء ضد الصحيح في عرفهم وهو ما أبرأ الذمة فقولهم: بطلت صلاته وصومه وحجه لمن ترك ركنا بمعنى وجب القضاء، لا بمعنى أنه لا يثاب عليها بشيء في الآخرة، إلى أن قال: فنفي الشارع الإيمان عمن ترك واجبا منه أو فعل محرما فيه كنفي غيره، كقوله: «لا صلاة إلا بأم القرآن» وقوله للمسيء «فإنك لم تصل» «ولا صلاة لفذ» .   (1) الفروع (1/ 496) ف (2/ 65) . (2) مختصر الفتاوى (59، 60) ف (2/ 65) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وقال شيخنا أيضا في قوله {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [23/47] البطلان هو بطلان الثواب ولا نسلم بطلانه جميعه، بل قد يثاب على ما فعله فلا يكون مبطلا لعمله (1) . باب سجود السهو وتبطل الصلاة بتعمد تكرار الركن الفعلي لا القولي، وهو مذهب الشافعي وأحمد (2) . ومن تخلف عن الإمام لعذر من نوم أو نسيان ونحوه فمذهب الشافعي وأحمد في رواية أنه إذا أتى بما تخلف عنه ولحق الإمام ولو سبقه بركن أو اثنين أو ثلاثة وهو يدركه في الركعة فصلاته صحيحة (3) . ومن قال: إن من سلم في الرباعية من ركعتين ساهيا استوجب غضب الله وأقل ما يجب عليه أن ينزل عليه نار من السماء وتحرقه يستتاب من ذلك القول فإن تاب وإلا قتل (4) . والوسواس إذا قل لم يبطل الصلاة بالاتفاق، لكن ينقصها. وأما الوسواس إذا غلب فقد قيل يبطل، قال عمر رضي الله عنه: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة، وليس من تفكر بالواجب مثل من تفكر بالفضول فعمر رضي الله عنه كان أمير الجيش وهو مأمور بالصلاة والجهاد معا، فلو قدر أنه نقص شيء من الصلاة لأجل الجهاد لم يقدح في كمال إيمانه، فلهذا خففت صلاة الخوف، فكان بمنزلة من يصلي   (1) الفروع (3/ 183) قلت: وتقدم معناه في أصول الفقه نقلا عن الاختيارات ف (2/ 66) . (2) اختيارات (55) ف (2/ 66) . (3) مختصر الفتاوى (60) ف (2/ 66) . (4) مختصر الفتاوى (69) ف (2/ 66) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 صلاة الخوف ولا شك أن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الخوف كانت ناقصة عن صلاته حال أمنه في الأفعال الظاهرة، فإذا كان قد عفي عن الأفعال الظاهرة فكيف بالباطنة؟ وقال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [103/4] وإقامتها حال الأمن لا يؤمر به حال الخوف، والله أعلم (1) . باب صلاة التطوع وفي رد شيخنا على الرافضي بعد أن ذكر تفضيل أحمد للجهاد والشافعي للصلاة وأبي حنيفة ومالك للعلم: والتحقيق أنه لا بد لكل من الآخرين، وقد يكون كل واحد أفضل في حال كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه رضي الله عنهم بحسب الحاجة والمصلحة (2) . وقد ذكر شخينا أن تعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد وأنه من أنواع الجهاد من جهة أنه من فروض الكفايات، قال والمتأخرون من أصحابنا أطلقوا القول، أفضل ما تطوع به الجهاد، وذلك لمن أراد أن يفعله تطوعًا باعتبار أنه ليس بفرض عين عليه بحيث إن الفرض قد سقط عنه، فإذا باشره وقد سقط الفرض عنه فهل يقع فرضا أو نفلا، على وجهين كالوجهين في صلاة الجنازة إذا أعادها بعد أن صلاها غيره. وانبنى على الوجهين في صلاة الجنازة وجواز فعلها بعد العصر والفجر مرة ثانية. والصحيح أن ذلك يقع فرضا، وأنه يجوز فعلها بعد العصر والفجر وإن كان ابتداء الدخول فيها تطوعا كما في التطوع الذي يلزم بالشرع فإنه كان نفلا ثم يصير إتمامه فرضا (3) . ونقل حرب أنه قال لرجل له مال كثير: أقم على ولدك وتعاهدهم   (1) مختصر الفتاوى (66) هذا فيه اختصار وزيادة كلمات ف (2/66) . (2) فروع (1/ 531) ف (2/68) . (3) الاختيارات (63) والفروع (1/ 526) ف (2/68) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 أحب إلي، ولم يرخص له يعني في غزو غير محتاج إليه (1) . وقال شيخنا: واستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلا ونهارا أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله، والعبادة في غيره تعدل الجهاد للأخبار الصحيحة المشهورة وقد رواها أحمد وغيره، وقال: العمل بالقوس والرمح أفضل من الرباط في الثغر وفي غيره نظيرها (2) . وظاهر كلام ابن الجوزي وغيره أن الطواف أفضل من الصلاة فيه وقال شيخنا: وذكره عن جمهور العلماء للخبر (3) . قال شيخنا: قال أحمد: معرفة الحديث والفقه فيه أعجب إلي من حفظه. قال شيخنا: أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، فذنبه من جنس ذنب اليهود والله أعلم (4) . وقال شيخنا: من طلب العلم أو فعل غيره مما هو خير في نفسه لما فيه من المحبة له، لا لله ولا لغيره من الشركاء فليس مذموما، بل قد يثاب بأنواع من الثواب، إما بزيادة فيها وفي أمثالها فيتنعم بذلك في الدنيا، ولو كان كل فعل حسن لم يفعل لله مذموما لما أطعم الكافر بحسناته في الدنيا لأنها تكون سيئات، وقد يكون من فوائد ذلك وثوابه في الدنيا أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه، وهذا معنى قول بعضهم، طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، وقول الآخر: طلبهم له نية، يعني نفس طلبه حسنة تنفعهم، وهذا قيل في العلم لأنه الدليل المرشد.   (1) الفروع (1/ 522) ف (2/68) . (2) الفروع (1/ 522، 523) واختيارات (52) ف (2/68) . (3) فروع (1/ 528) ف (2/68) . (4) اختيارات (63) وفروع (1/ 528) ف (2/68) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 فإذا طلبه بالمحبة وحصله وعرفه بالإخلاص فالإخلاص لا يقع إلا بالعلم، فلو كان طلبه لا يكون إلا بالإخلاص لزم الدور، وعلى هذا ما حكاه أحمد، وهو حال النفوس المحمودة، ومن هذا قول خديجة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: كلا والله لا يخزيك الله فعلمت أن النفس المطبوعة على محبة الأمر المحمود وفعله لا يوقعه الله فيما يضاد ذلك (1) . قال القاضي: أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة، ومعناه أنه إذا بين ما يقرأ به فقد أتى بالترسل وإن كان مستعجلا في قراءته وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها ما لم يخرجه ذلك إلى التمديد والتمطيط فإذا انتهى إلى التمطيط كان ممنوعا، قال: وقد أومأ أحمد إلى معنى هذا فقال في رواية أبي الحارث: يعجبني من قراءة القرآن السهلة ولا تعجبني هذه الألحان، قال الشيخ تقي الدين أظنه حكاية عن أبي موسى، والتفهم فيه والاعتبار فيه مع قلة القراءة أفضل من إدراجه بغير تفهم، انتهى كلامه (2) . وقال الشيخ تقي الدين قراءة القرآن بصفة التلحين الذي يشبه تلحين الغناء مكروه مبتدع، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من الأئمة (3) . وإن غلط القراء المصلين فذكر صاحب الترغيب وغيره يكره، وقال شيخنا: ليس لهم القراءة إذن، وعن البياضي واسمه عبد الله بن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال: «إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن» ، وعن أبي سعيد قال: «اعتكف رسول الله   (1) فروع (1/ 524) والاختيارات (62، 63) باختلاف غير مخل ف (2/68) . (2) الآداب الشرعية (2/ 311) ف (2/68) . (3) الآداب (2/ 315) ف (2/ 68) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 - صلى الله عليه وسلم - في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة وهو في قبة له فكشف الستور وقال: «كلكم مناج ربه فلا يؤذين بعضكم بعضا ولا يرفعن بعضكم على بعض في القراءة» أو قال: «في الصلاة» وعن علي: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يرفع الرجل صوته بالقراءة قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه وهم يصلون» رواهن أحمد، ولمالك الأول، ولأبي داود الأخير (1) . والتراويح سنة وإنما سماها عمر رضي الله عنه بدعة، لأنها لم تفعل قبل ذلك على الوجه الذي جمع الناس فيه على أبي، كما أخرج عمر اليهود والنصارى من الجزيرة وكما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة أهل الردة، وكما جمع أبو بكر رضي الله عنه المصحف، وكما قاتل علي رضي الله عنه الخوارج، وكما شرط على أهل الذمة الشروط وغير ذلك من الأمور التي فعلوها عملا بكتاب الله واتباعا لسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يتقدم نظيرها، وكضرب عمر رضي الله عنه الناس على الركعتين بعد العصر، وعلى إلزامه الإفطار في رجب وكسر أبو بكر رضي الله عنه كيزان أهله في رجب وقال لا تشبهوه برمضان. فهذه العقوبة البدنية والمالية لمن كان يعتقد أن صوم رجب مشروع مستحب وأنه أفضل من صوم غيره من الأشهر، وهذا الاعتقاد خطأ وضلال ومن صامه على هذا الاعتقاد الفاسد كان عاصيا فيعزر على ذلك، ولهذا كرهه من كرهه خشية أن يتعوده الناس، وقال: يستحب أن يفطر بعضه، ومنهم من رخص فيه إذا صام معه شهرا آخر من السنة كالمحرم. ورجب أحد الأشهر الحرم، وله فضل على غيره من الأشهر التي   (1) الفروع (1/ 555، 655) ف (2/69) . قلت: وإنما سقطت الأحاديث التي ذكرها صاحب الفروع لأنه ذكر من رواها وبين نوع الجهر المنهي عنه وأنه ليس معناه أن لا يسمع من أهل المسجد كلهم صوت ولا يعلم هل هم يقرءون أو صامتون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 ليست بحرم، وكلما كان المكان والزمان أفضل كانت الطاعة فيه أفضل، والمعاصي فيه أشد، وليس هو أفضل الشهور عند الله، بل شهر رمضان أفضل منه كما أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع (1) . دعاء القنوت: اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا برحمتك واصرف عنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت، لك الحمد على ما قضيت، ولك الشكر على ما أعطيت، نستغفرك ربنا اللهم من جميع الذنوب ونتوب إليك، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك وبك منك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدا ما أحييتنا، واجعلها الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير اللهم وأظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - على الدين   (1) مختصر الفتاوى (291) أولها موجود معناه: وأما ما يتعلق برجب فغير موجود وهو متصل بما قبله لا يصلح نزعه لرجب، لكن يشار إليه هناك ف (2/71) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 كله، ولو كره المشركون، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين (1) . قيام الليل والتراويح: قول عائشة رضي الله عنها: «ما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة إلى الصباح، وما صام شهرا كاملا إلا رمضان» ، وصح عنها رضي الله عنها: «أنه كان يصوم شعبان إلا قليلا، بل كان يصومه كله» ، «وأنه كان إذا دخل العشر شد المئزر وأحيا الليل كله» . فحمل بعضهم رواية الشك على الجزم، وكذلك من صلى غالب الليل فقد يقال إنه أحياه، أو أنها نفت القيام وأثبتت الإحياء الذي يكون بقيام وإحياء وقراءة وذكر ودعاء وغير ذلك (2) . وقيام بعض الليالي كلها مما جاءت به السنة (3) . دعاء ختم القرآن (4) . صدق الله العظيم الذي لا إله إلا هو المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرا وتدبيرا المتعالي بعظمته ومجده، الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليمًا كثيرًا، الذي أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس بشيرًا ونذيرًا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.   (1) لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية مطبعة حجازي بمصر الطبعة الثالثة ف (2/ 100) . (2) مختصر الفتاوى (84) ف (2/ 70) . (3) اختيارات (65) والفروع (1/ 560) ف (2/ 70) (4) دعاء ختم القرآن تأليف شيخ الإسلام وقدوة الأنام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الطبعة الثالثة مطبعة حجازي بجوار قسم الجمالية بمصر، كما يأتي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة حيث أنزلت علينا خير كتبك، وأرسلت إلينا أفضل رسلك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس، وهديتنا لمعالم دينك الذي ارتضيته لنفسك، وبنيته على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإتياء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، ولك الحمد على ما يسرته من صيام رمضان وقيامه، وتلاوة كتابك العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك، بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويعلم بمحكمه ويؤمن بمتشابهه، ويتلوه حق تلاوته، اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده، ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده، اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك الجنة، ولا تجعلنا ممن اتبعه القرآن فزج في قفاه إلى النار، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبارك لهم في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 أسماعهم وأبصارهم وذرياتهم وأزواجهم أبدا ما أبقيتهم واجعلهم شاكرين لنعمك مثنين بها عليك، قابليها وأتمها عليهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم واغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادك الصالحون، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، ونسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضا إلا شفيته وعافيته ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وصلى الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم (1) . وتقول المرأة في سيد الاستغفار وما في معناه: وأنا أمتك بنت أمتك. أو بنت عبدك، ولو قالت: وأنا عبدك، فله مخرج في العربية بتأويل الشخص (2) . السنن الرواتب: وكان - صلى الله عليه وسلم - يضطجع بعد سنة الفجر على شقه الأيمن، هذا الذي ثبت عنه في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، وذكر الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن» قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وسمعت ابن تيمية يقول: هذا باطل وليس بصحيح، وإنما الصحيح عنه الفعل لا الأمر بها، والأمر تفرد به عبد الواحد بن زياد وغلط فيه (3) . وأما الأربع قبل العصر فلم يصح عنه عليه السلام في فعلها شيء، إلا حديث عاصم بن ضمرة عن علي الحديث الطويل، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في النهار ست عشرة ركعة، يصلي إذا كانت الشمس من ههنا كهيئتها من ههنا لصلاة الظهر أربع ركعات، وكان يصلي قبل الظهر   (1) قلت: وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن دعاء ختم القرآن.. فأجاب: الصواب أنه مشروع وعليه درج أهل العلم من عهد الصحابة إلى وقتنا هذا وقد كان أنس رضي الله عنه يجمع أهله عند ختم القرآن، ويدعو، فالحاصل أن دعاء ختم القرآن مستحب وعليه درج سلف الأمة وأتباعهم بإحسان، ولا فرق بين فعله داخل أو خارج الصلاة فإذا دعاء الإمام عند ختم القرآن في صلاة التراويح أو في القيام في عشر الأواخر فكله لا بأس به، والصواب أنه لا حرج في ذلك إن شاء الله مجلة اليمامة العدد (1151) في (5/ 9/ 1411) ف (2/ 71) . (2) اختيارات (65) والفروع (1/ 562) ف (2/ 71) . (3) زاد المعاد (1/ 82) ف (2/ 71) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 أربع ركعات وبعد الظهر ركعتين، وقبل العصر أربعا، ويفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين ومن تبعهم من المؤمنين والمرسلين، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية ينكر هذا الحديث، ويدفعه جدا ويقول: إنه موضوع، ويذكر عن أبي إسحاق الجوزجاني إنكاره (1) . وكذلك اجتماع الإمام والمأموم دائما على صلاة ركعتين عقب الفريضة ونحو ذلك كل ذلك مما لا ريب في أنه من البدع (2) . وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل وكان من السلف من يصليها لكن اجتماع الناس فيها لإحيائها في المساجد بدعة، والله أعلم (3) . وصلاة الألفية في ليلة النصف من شعبان والاجتماع على صلاة راتبة فيها بدعة وإنما كانوا يصلون في بيوتهم في قيام الليل. وإن قام معه بعض الناس من غير مداومة على الجماعة فيها وفي غيرها فلا بأس، كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الليلة بابن عباس، وليلة بحذيفة. وولي الأمر ينبغي أن ينهي عن هذه الاجتماعات البدعية (4) . وعند جماعة «وصلاة التسبيح» ونصه: لا، لخبر ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمها لعمه العباس أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بالفاتحة وسورة، ثم يسبح ويحمد ويهلل ويكبر خمس عشرة مرة، ثم يقولها في ركوعه، ثم في رفعه منه، ثم في سجوده، ثم في رفعه، ثم في   (1) زاد المعاد (1/ 82) ف (2/78) . (2) مختصر الفتاوى (86) ف (2/72) (3) مختصر الفتاوى (291) ف (2/72) (4) مختصر الفتاوى (292) هذه فيها تأكيد وتوضيح لما في المجموع ف (2/72) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 سجوده ثم في رفعه عشرا عشرا، ثم كذلك في كل ركعة في كل يوم، ثم في الجمعة، ثم في الشهر، ثم في العمر» ، رواه أحمد، وقال: لا يصح، وأبو داود وابن خزيمة والآجري وصححوه والترمذي وغيرهم وادعى شيخنا: أنه كذب، ونص أحمد وأئمة أصحابه على كراهتها ولم يستحبها إمام، واستحبها ابن المبارك على صفة لم يرد بها الخبر لئلا تثبت سنة بخبر لا أصل له، قال: وأما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يسمعوها بالكلية (1) . صلاة الضحى وقال في الرعاية: وكان واجبا عليه - صلى الله عليه وسلم - الضحى وقال شيخنا: هذا غلط والخبر «ثلاث هي علي فرائض» موضوع، ولم يكن يداوم على الضحى باتفاق العلماء بسنته (2) . ومن سمع المؤذن وهو في صلاة التطوع أتمها، ولا يقول مثل ما يقول عند الجمهور، كما لو سمع غيره يقرأ سجدة لم يسجد في الصلاة عند الجمهور (3) . الاستخارة والسجود لأجل الدعاء أو لسبب وفي مسند الإمام أحمد من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من سعادة ابن آدم استخارة الله، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضاه الله» وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: ما ندم من استخار الخالق وشاور المخلوقين، وثبت في أمره،   (1) فروع (1/ 568) وانظر الاختيارات (65) ف (2/72) (2) فروع (5/ 162) والإنصاف (8/ 40) ف (2/73) (3) مختصر الفتاوى (116) ف (2/ 73) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [159/3] ، وقال قتادة ما تشاور قوم يبتغون وجه الله إلا هدوا إلى أرشد أمرهم (1) . وقال شيخنا: ولو أراد الدعاء فعفر وجهه بالتراب وسجد له ليدعوه فهذا سجود لأجل الدعاء ولا شيء يمنعه، وابن عباس سجد سجودا مجردا لما جاء نعي بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم آية فاسجدوا» وقال: وهذا يدل على أن السجود يشرع عند الآيات، فالمكروه هو السجود بلا سبب (2) . إذا تكرر منه دخول المسجد يستحب له أن يعيد التحية، واختاره الشيخ تقي الدين (3) . أوقات النهي: ولا نهي عن الصلاة عند طلوع الشمس إلى زوالها يوم الجمعة، وهو قول الشافعي. ويصلي صلاة الاستخارة وقت النهي في أمر يفوت بالتأخير إلى وقت الإباحة (4) . ويستحب أن يصلي ركعتين عقب الوضوء ولو كان وقت النهي، قاله الشافعية (5) .   (1) الكلم الطيب (235) ف (2/ 73) . (2) الفروع (1/ 505) فيه زيادة ف (2/ 73) . (3) تصحيح الفروع (1/ 502) ف (2/ 73) . (4) الاختيارات (66) ف (2/ 74) . (5) الاختيارات (66) ف (2/ 74) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 باب صلاة الجماعة الإمامة مسألة: وإذا كان الرجلان من أهل الديانة فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وجب تقديمه على الآخر، وكان ائتمامه به متعينا (1) . ومن لا سبب له إلا قراءة سيرة عنترة والبطال ونحوهما لا يجوز أن يرتب إماما يصلي بالمسلمين فإنه يحدث دائما بالأكاذيب ويأكل الجعل عليها، وكلاهما محرم، فإن عنترة والبطال، - وإن كانا موجودين - لكن كذب عليهما ما لا يحصيه إلا الله (2) . فصل من شرب الخمر يوما ثم لم يشربها إلى شهر ونيته إذا قدر عليها شربها فهو مصر ليس بتائب وكذلك جميع الذنوب. ومن اعتاد شربها كما يعتاد أمثالها من الشراب فهو مدمن عليها، فاعتياد الخمر كاعتياد اللحم من الناس من يأكله كل يوم، ومنهم من يأكله كل أسبوع، أو يومين أو أكثر أو أقل. ولا يجوز أن يولى المصر ولا المدمن إمامة صلاة؛ لكن لو ولي صلي خلفه عند الحاجة، كالجمعة والجماعة التي لا يقوم بها غيره، وإن أمكن الصلاة خلف البر فهو أولى (3) .   (1) مختصر الفتاوى (82) ف (2/ 78) . (2) مختصر الفتاوى (65، 66) ف (2/ 79) . (3) مختصر الفتاوى (56) ف (2/ 79) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 ويصح ائتمام المسلمين بعضهم ببعض مع اختلافهم في الفروع بإجماع السلف وأصح قول الخلف، فإن صلاة الإمام جائزة إجماعا، لأنه صلى باجتهاده فهو مأجور فاعل الواجب عليه الذي يكفي، وهو من المصلين. ومن قال: إن صلاته لا تسقط الفرض فقد خالف الإجماع يستتاب بخلاف من صلى بلا وضوء مع علمه، فهذا صلاته فاسدة فلا يأتم به من علم حاله، ولم يزل التابعون رضي الله عنهم أجمعين يؤم بعضهم بعضا مع أنهم مختلفون في الفروع. وسر المسألة: أن ما تركه المجتهد من البسملة وغيرها إن لم يكن واجبا في نفس الأمر فلا كلام، إن كان واجبا فقد يسقط عنه باجتهاده، وقد قال الله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [286/2] فقال الله: قد فعلت (1) . ولو ترك الإمام ركنا يعتقده المأموم ولا يعتقده الإمام صحت صلاته خلفه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ومذهب مالك واختيار المقدسي. وقال في موضع آخر: إن الروايات المنقولة عن أحمد لا تجب اختلافا وإنما ظواهرها أن كل موضع يقطع فيها بخطأ المخالف تجب فيه الإعادة، وما لا يقطع فيه بخطأ المخالف لا تجب فيه الإعادة، وهو الذي تدل عليه السنة والآثار وقياس الأصول، وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء. وعبارة تصحيح الفروع (2/ 26) ولو فعل الإمام ما هو محرم عند المأموم دونه مما يسوغ فيه الاجتهاد صحت صلاته خلفه وهو   (1) مختصر الفتاوى (55) ف (2/ 80) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 المشهور عن أحمد، وقال في موضع آخر إلى آخر ما تقدم (1) . وإذا فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد يتبعه المأموم فيه وإن كان هو لا يراه مثل القنوت في الفجر، ووصل الوتر، وإذا ائتم من يرى القنوت بمن لا يراه تبعه في تركه (2) . وإذا قال الرجل: لا أصلي إلا خلف من يكون من أهل مذهبي، فهو كلام محرم قائله يستحق العقوبة فإنه ليس من أئمة المسلمين من قال: لا تشرع صلاة المسلم إلا خلف من يوافقه في مذهبه المعين (3) . ومن قال: لا تجوز الصلاة خلف من لا تعرف عقيدته وما هو عليه فهو قول لم يقله أحد من المسلمين، فإن أهل الحديث السنة كالشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم متفقون على أن صلاة الجمعة تصلى خلف البر والفاجر، حتى إن أهل البدع كالجهمية الذين يقولون بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة، ومع أن أحمد ابتلي بهم، - وهو أشهر الأئمة بالإمامة في السنة - ومع هذا فلم تختلف نصوصه أنه تصلى الجمعة خلف الجهمي والقدري والرافضي، وليس لأحد أن يدع الجمعة لبدعة في الإمام، لكن تنازعوا: هل تعاد؟ على قولين هما روايتان عن أحمد: قيل: تعاد خلف الفاسق، ومذهب الشافعي وأبي حنيفة لا تعاد (4) . ومن قال: إن الإمام إن سبح أكثر من ثلاث بغير رضا المأمومين بطلت صلاته فهو قول باطل محدث لم يقله أحد من الأئمة (5) .   (1) الاختيارات (70) وتصحيح الفروع (2/ 26) ف (2/ 80) . (2) اختيارات (70) ف (2/ 81) . (3) مختصر الفتاوى (60) ف (2/ 80) . (4) مختصر الفتاوى (63) ف (2/ 80) . (5) مختصر الفتاوى (53) ف (2/ 80) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 ولا إمامة من به حدث مستمر (و) وفيه بمثله وجهان ولا - على الأصح - (ش) إمامة عاجز عن ركن أو شرط، واختار شيخنا الصحة قاله في إمام عليه نجاسة يعجز عنها (1) . واللحن الذي يحيل المعنى: إن أحاله إلى ما هو من جنس معنى من معاني القرآن خطأ فهذا لا يبطل صلاته، كما لو غلط في القرآن في موضع الاشتباه فخلط سورة بغيرها، وأما إن أحاله إلى ما يخالف معنى القرآن كقوله: (أنعمت) بالضم فهذا بمنزلة كلام الآدميين وهو في مثل هذه الحال كلام محرم في الصلاة؛ لكنه لو تكلم به في الصلاة جاهلا بتحريمه ففي بطلان صلاته نزاع في مذهب أحمد وغيره كالناسي، الصحيح أنه لا يبطل صلاته. والجاهل بمعنى أنعمت عذره أقوى من عذر الناسي والجاهل، فإنه يعلم أنه كلام الآدميين لكن لا يعلم أنه محظور. وعلى هذا فلو كان مثل هذا اللحن في نفل القراءة لم تبطل، وأما إذا كان في الفاتحة التي هي فرض فيقال: هب أنها لا تبطل من جهة كونه متكلما، لكنه لم يأت بفرض القراءة، فيكون قد ترك ركنا في الصلاة جاهلا، ولو تركه ناسيا لم تصح صلاته فكذلك إن تركه جاهلا؛ لكن هذا لم يترك أصل الركن وإنما ترك صفة فيه وأتى بغيرها، ظانا أنها هي، فهو بمنزلة من سجد إلى غير القبلة. ولو ترك بعض الفروض غير عالم بفرضه، ففي هذا الأصل قولان، في مذهب أحمد وغيره. وأصل ذلك خطاب الشارع: هل يثبت قبل البلوغ والعلم به،   (1) فروع (2/ 21) ف (2/ 80) لفظ الاختيارات (70) وتصح إمامة من عليه نجاسة يعجز عن إزالتها بمن ليس عليه نجاسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 أم لا؟ على ثلاثة أقوال: أصحها أنه يعذر فلا تجب الإعادة على هذا الجاهل، ومثله ما لو لم تعلم المرأة أنه يجب ستر رأسها وجسدها لم تعد، ولهذا إذا تغير اجتهاد الحاكم لم ينقض ما حكم فيه، وكذلك المفتي إذا تغير اجتهاده. وأما إن تعمد اللحن عالما بمعناه بطلت صلاته من جهة أنه لم يقرأ الفاتحة، ومن جهة أنه تكلم بكلام الآدميين بل لو عرف معناه وخاطب به الله كفر، وإن تعمده ولم يعلم معناه لم يكفر، وإن لم يتعمد لكن ظن أنه حق ففي صحة صلاته نزاع، كما ذكرناه. وكذلك لو علم أنه لحن لكن اعتقد أنه لا يحيل المعنى حتى لو كان إماما ففي صحة صلاة من خلفه نزاع، هما روايتان عن أحمد. وفي إمامة المتننفل بالمفترض ثلاثة أقوال: يجوز، ولا يجوز ويجوز عند الحاجة نحو أن يكون المأمومين أميين. أما لو صلى من يلحن بمثله فيجوز إذا كانوا عاجزين عن إصلاحه هذا في الفاتحة، أما في غير الفاتحة فإن تعمده بطلت صلاته. والذي يحيل المعنى مثل (أنعمتُ) و (إياك) بالضم والكسر، والذي لا يحيله مثل فك الإدغام في موضعه، أو قطع همز الوصل، ومثل الرحمن الرحيم ومالك يوم الدين. وأما إن قال: (الحمدَ) أو (ربَّ) أو (نستعين) أو (أنعَمَتَ) فهذا تصح صلاته لكل أحد فإنها قراءة وليست لحنا (1) . ومن يبدل الراء غينا والكاف همزة: لا يؤم إلا مثله، أما من يشوب الراء بغين يخرجها من فوق مخرجها بقليل فتصح إمامته للقارئ.   (1) مختصر الفتاوى (53-55) هذه مستوفاة أكثر من الموجود في المجموع (2/ 81) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وغيره، وهذا كله مع العجز (1) . ولا يجوز للعامي أن يقدم على فعل لا يعلم جوازه ويفسق به إن كان مما يفسق به ذكره القاضي (2) . ويلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره. وليس له أن يزيد على القدر المشروع وينبغي أن يفعل غالبا ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد وينقص أحيانا (3) . وليس للإمام تأخير الصلاة عن الوقت المستحب وبعد حضور أكثر الجماعة منتظرا لأحد؛ بل ينهى عن ذلك إذا شق ويجب عليه رعاية المأمومين (4) . وإن كان بين الإمام والمأمومين معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء أو المذاهب لم ينبغ أن يؤمهم لأن المقصود بالصلاة جماعة الائتلاف ولهذا قال النبي: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» فإن أمهم فقد أتى بواجب ومحرم يقام به الصلاة فلم تقبل؛ إذ الصلاة المقبولة ما يثاب عليها (5) . وتجوز الصلاة خلف ولد الزنا باتفاقهم، لكن تنازعوا في كراهتها فكرهه مالك وأبو حنيفة، وغير ولد الزنا أولى (6) . وتجوز صلاة الفجر خلف الظهر في إحدى الروايتين عن أحمد (7) .   (1) مختصر الفتاوى (64) فيها زيادات عما في المجموع (2/ 81) . (2) اختيارات (71) ف (2/ 80) . (3) الاختيارات (69) ف (2/ 81) . (4) مختصر الفتاوى (82) ف (2/ 81) . (5) اختيارات (70) ف (2/ 81) . (6) مختصر الفتاوى (64) ف (2/ 81) . (7) مختصر الفتاوى (64) ف (2/ 81) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 مسألة: ولو قام رجل يقضي ما فاته فائتم به رجل آخر جاز في أصح قولي العلماء إذا نويا (1) . موقف الإمام والمأمومين وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسوية الصفوف ورصها وسد الفرج، وتكميل الأول فالأول، وأن يتوسط الإمام وتقاربها -يعني: الصفوف- خمس سنن (2) . وتجوز الصلاة قدام الإمام لعذر من زحمة ونحوها في أعدل الأقوال، وكذا المأموم إذا لم يجد من يقوم معه صلى وحده ولم يدع الجماعة ولم يجذب أحدا يصلي معه، كالمرأة إذا لم تجد من يصافها فيها تصف وحدها بالاتفاق، وهو مأمور بالمصافة مع الإمكان لا مع العجز (3) . وتصح صلاة الفذ لعذر وفاقا للحنفية، وإذا لم يجد إلا موقفا خلف الصف فالأفضل أن يقف وحده ولا يجذب من يصافه لما في الجذب من التصرف في المجذوب، فإن كان المجذوب يطيعه قائما أفضل له، وللمجذوب الاصطفاف مع بقاء فرجه أو وقوف المتأخر وحده، وكذلك لو حضر اثنان وفي الصف فرجة فأيهما أفضل، وقوفهما جميعا، أو سد أحدهما الفرجة وينفرد الآخر؟ رجح أبو العباس الاصطفاف مع بقاء الفرجة، لأن سد الفرجة مستحب والاصطفاف واجب (4) .   (1) مختصر الفتاوى (59) ف (2/ 81) . (2) مختصر الفتاوى (74) ف (2/ 81) . (3) مختصر الفتاوى (66) فيها زيادة تفصيل عما في المجموع ف (2/ 81) . (4) اختيارات (71) ف (2/ 81) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 والمرأة إذا كان معها امرأة أخرى تصافها كان من حقها أن تقف معها، وكان حكمها إن لم تقف معها حكم المنفرد عن صف الرجال، وهو أحد القولين في مذهب أحمد (1) . قال ابن القيم رحمه الله: وقال في رواية المروذي: إذا جاء ولا يمكنه الدخول في الصف هل يمد رجلا يصلي معه؟ قال: لا؛ ولكن يزاحم الصف ويدخل. قال أبو حفص: وقد ذكرنا عن أحمد جواز جر الرجل في رواية المروذي فإن صح النقل كان في المسألة روايتان، روي عن أبي أيوب قال: تحريك الرجل من الصف ظلم، قلت: وفي المدونة قال مالك: هو خطأ منهما. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ينكره أيضا: ويقول: يصلي خلف الصف فذًا ولا يجذب غيره، قال: وتصح صلاته في هذه الحالة فذًا لأن غاية المصافة أن تكون واجبة فتسقط بالعذر (2) . وتصح صلاة الجمعة ونحوها قدام الإمام لعذر، وهو قول في مذهب أحمد، ومن تأخر بلا عذر فلما أذن جاء فصلى قدام الإمام عزر (3) . وحيث صحت الصلاة عن يسار الإمام كرهت إلا لعذر (4) . ومن آخر الدخول في الصلاة مع إمكانه حتى قضى الإمام القيام، أو كان القيام متسعا لقراءة الفاتحة ولم يقرأها فهذا تجوز صلاته عند جماهير العلماء.   (1) اختيارات (71) ف (2/ 81) . (2) بدائع (3/ 87) ف (2/ 81) . (3) اختيارات (71) ف (2/ 81) . (4) اختيارات (2/ 71) ف (2/ 81) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وأما الشافعي فعليه عنده أن يقرأ وإن تخلف عن الركوع، وإنما تسقط قراءتها عنده عن المسبوق خاصة، فهذا الرجل كان حقه أن يركع مع الإمام ولا يتم القراءة لأنه مسبوق (1) . باب صلاة أهل الأعذار قال ابن القيم رحمه الله: فائدة في صحيح البخاري ما انفرد به من رواية عمران بن حصين أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعدا قال: «إن صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد» . قلت: اختلف العلماء هل قوله: «من صلى قاعدا» في الفرض، أو النفل؟ فقالت: طائفة: هذا في الفرض، وهو قول كثير من المحدثين، واختيار شيخنا، فورد على هذا أن من صلى الفرض قاعدا مع قدرته على القيام فصلاته باطلة وإن كان مع عجزه فأجر القاعد مساو لأجر القائم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما» فقال لي شيخنا: وضع صلاة القاعد على النصف مطلقا، وإنما كمل الأجر بالنية للعجز (2) . وقال شيخنا: من نوى الخير وفعل ما يقدر عليه منه كان له مثل أجر الفاعل، ثم احتج بحديث أبي كبشة، وحديث: «إن بالمدينة رجالا» وحديث: «إذا مرض العبد» وحديث «من دعا إلى هدى» [قال] : وله نظائر واحتج بها في مكان آخر وبقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} وقال أيضًا عن حديث: «إذا مرض العبد» هذا يقتضي أن من ترك الجماعة لمرض أو سفر وكان يعتادها كتب له أجر الجماعة وإن   (1) اختيارات (71) ف (2/ 81) . (2) بدائع (4/ 209) ف (2/ 82) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 لم يكن يعتادها لم يكتب له، وإن كان في الحالين إنما له بنفس الفعل صلاة منفرد، وكذلك المريض إذا صلى قاعدا أو مضطجعا قال: ومن قصد الجماعة فلم يدركها كان له أجر من صلى في جماعة (1) . الجمع بين الصلاتين واعتبر في الفصول الموالاة، قال شيخنا، ومعناها أن لا يفصل بينهما بصلاة ولا كلام لئلا يزول معنى الاسم وهو الجمع، وقال: إذا سبقه الحدث في الثانية وقلنا تبطل [به] فتوضأ أو اغتسل ولم يطل ففي بطلان جمعه احتمالان، واختار شيخنا لا موالاة، وأخذه من رواية أبي طالب والمروذي: للمسافر أن يصلي العشاء قبل مغيب الشفق، وعلله أحمد بأنه يجوز له الجمع، ومن نصه في جمع المطر، إذا صلى إحداهما في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس (2) . صلاة الخوف ويصلي صلاة الخوف في الطريق إذا خاف فوات الوقوف بعرفة، وهو أحد الوجوه الثلاثة في مذهب أحمد (3) . باب صلاة الجمعة ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة بين يدي مناجاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبطل حكمه بالكلية، نسخ وجوبه وبقي استحبابه والندب إليه وما علم من تنبيهه وإشارته وهو أنه إذا استحبت الصدقة بين يدي مناجاة   (1) الفروع (2/ 51) ف (2/ 82) . (2) فروع (2/ 72) فيه زيادة إيضاح ف (2/ 82) . (3) اختيارات (74) ف (2/ 86) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 المخلوق فاستحبابها بين يدي مناجاة الله عند الصلوات والدعاء أولى، فكان بعض السلف الصالح يتصدق بين يدي الصلاة والدعاء إذا أمكنه ويتأول هذه الأولوية، ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يفعله ويتحراه ما أمكنه، وفاوضته فيه فذكر لي هذا التنبيه والإشارة (1) . وشاهدت شيخ الإٍسلام ابن تيمية قدس الله روحه إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سرا، وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالصدقة بين يدي مناجاته أفضل وأولى بالفضيلة (2) . الحادي عشر: أنه لا يكره فعل الصلاة فيه وقت الزوال عند الشافعي رضي الله عنه ومن وافقه، وهو اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية، ولم يكن اعتماده على حديث ليث، عن مجاهد، عن أبي الخليل، عن أبي قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: إن جهنم تسعر إلا يوم القيامة» وإنما كان اعتماده على أن من جاء إلى الجمعة يستحب له أن يصلي حتى يخرج الإمام (3) . هؤلاء الذين يؤذنون مع المؤذن الراتب يوم الجمعة في مثل صحن الجامع ليس أذانهم مشروعا باتفاق الأئمة، بل هو بدعة منكرة مشتملة على وجوه مذمومة. منها: أنه بدعة. ومنها: أنهم يتركون ما أمروا به، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - «أنه أمر أن يقول السامع مثل ما يقول المؤذن، إلا في الحيعلة، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله» .   (1) زاد المعاد (110) ومفتاح دار السعادة (362) ف (2/ 86) . (2) زاد المعاد (110) ومفتاح دار السعادة (362) ف (2/ 86) . (3) زاد المعاد (1/ 101) ف (2/ 86) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 الثاني: أنه يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - الثالث: أنه يسأل الله له الوسيلة، الرابع: أنه يدعو بعد ذلك بما شاء، فيتركون سماع المؤذن وما أمروا به ويفعلون ما لم يؤمروا به. ومنها: أنهم يشغلون الناس عن هذه السنن ويخلطون عليهم، فإن أصواتهم تختلط وتشتبه. وأيضًا: لا فائدة في هذا الأذان، فإن أهل المسجد قد سمعوا قول المؤذن الراتب، وغيرهم لا يسمع هذا المؤذن. ومنها: أنه يؤذن مؤذنان في وقت واحد، ومتى أذن مؤذنان معا في وقت واحد مفترقان كان مكروها منهيا عنه بخلاف ما إذا أذن واحد بعد واحد كما كان المؤذنان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) . صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صيام يوم عرفة يكفر سنتين، وصيام يوم عاشوراء يكفر سنة» لكن إطلاق القول بأنه يكفر لا يوجب أن يكفر الكبائر بلا توبة فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال في: «الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» ومعلوم أن الصلاة هي أفضل من الصيام، وصيام رمضان أعظم من صيام يوم عرفة، ولا يكفر السيئات إلا باجتناب الكبائر كما قيده النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف يظن أن صوم يوم أو يومين تطوعًا يكفر الزنا والسرقة وشرب الخمر، والميسر، والسحر، ونحوه؟ فهذا لا يكون (2) . وتكفير الطهارة والصلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصغائر فقط، وكذا الحج؛ لأن الصلاة ورمضان أعظم منه (3) .   (1) مختصر الفتاوى (40) ف (2/ 86) . (2) مختصر الفتاوى (290) ف (2/ 86) . (3) الاختيارات (65) ف (2/ 86) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وتنعقد الجمعة بثلاثة، واحد يخطب، واثنان يستمعان، وهو إحدى الروايات عن أحمد، وقول طائفة من العلماء، وقد يقال بوجوبها على الأربعين لأنه لم يثبت وجوبها على من دونهم، وتصح ممن دونهم، لأنه انتقال إلى أعلى الفرضين كالمريض، بخلاف المسافر فإن فرضه ركعتان (1) . وتجب الجمعة على من أقام في غير بناء كالخيام وبيوت الشعر ونحوها، وهو أحد قولي الشافعي، وحكاه الأزجي رواية عن أحمد، ونقل أبو النصر الأزجي عن أحمد: ليس على أهل البادية جمعة، لأنهم ينتقلون فأسقطها عنهم، وعلل ذلك بأنهم غير مستوطنين. وقال أبو العباس في موضع آخر: يشترط مع إقامتهم في الخيام ونحوها أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية (2) . ويجوز إقامة جمعتين في بلد واحد لأجل الشحناء بأن حضروا كلهم ووقعت الفتنة ويجوز ذلك للضرورة إلى أن تزول الفتنة. وتسقط الجمعة عمن يخاف بحضوره فتنة إذا لم يكن ظالما. والواجب عليهم الاعتصام بحبل الله، والاجتماع على ما يرضي الله (3) . ولا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت، بل لا بد من مسمى الخطبة عرفا، ولا تحصل باختصار يفوت به المقصود. ويجب في الخطبة أن يشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله.   (1) اختيارات (79) ف (2/ 86) . (2) اختيارات (79) ف (2/ 86) . (3) مختصر الفتاوى (75) ف (2/ 86) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وأوجب أبو العباس في موضع آخر الشهادتين وتردد في وجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة. وقال في موضع آخر، وهو الأشبه أن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - فيها واجبة، ولا تجب منفردة لقول عمر رضي الله عنه: الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك - صلى الله عليه وسلم - وتقدم الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - على الدعاء لوجوب تقديمه على النفس. وأما الأمر بتقوى الله فالواجب إما معنى ذلك وهو الأشبه من أن يقال الواجب لفظ التقوى، ومن أوجب لفظ التقوى فقد يحتج بأنها جاءت بهذا اللفظ في قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} [204/7] وليست كلمة أجمع لما أمر الله من كلمة التقوى. قال الإمام أحمد في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [204/7] أجمع الناس أنها نزلت في الصلاة، وقد قيل في الخطبة: والصحيح أنها نزلت في ذلك كله. وظاهر كلام أبي العباس: أنها تدل على وجوب الاستماع. وصرح على أنها تدل على وجوب القراءة في الخطبة، لأن كلمة (إذا) ظرف لما يستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالبا، والظرف للفعل لا بد أن يشتمل على الفعل وإلا لم يكن ظرفا (1) . وقال شيخ الإسلام في رفع الخطيب يديه على المنبر يوم الجمعة: في هذه قولان، هما وجهان في مذهب أحمد في رفع الخطيب يديه، قيل: يستحب، قاله ابن عقيل: وقيل: لا يستحب، بل هو مكروه، وهو   (1) اختيارات (79، 80) ف (2/ 87) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 أصح. قال إسحاق بن راهوية: هو بدعة للخطيب وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بأصبعه إذا دعا (1) . وأما القُصَّاص الذين يقومون على رءوس الناس ويشغلون الناس عما يشرع من الصلاة والقراءة والدعاء، لا سيما إن قصوا والإمام يخطب فإن هذا من المنكرات الشنيعة التي ينبغي أزالتها باتفاق الأئمة، وينبغي لولاة الأمور أن يمنعوا من هذا المنكرات كلها، فإنهم متصدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (2) . وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الجمعة دخل إلى منزله فصلى ركعتين سنتها، وأمر من صلاها أن يصلي بعدها أربعا. قال شيخنا أبو العباس: إن صلى في المسجد صلى أربعا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين (3) . ويحرم تخطي رقاب الناس. قال أبو العباس في موضع آخر: ليس لأحد أن يتخطى رقاب الناس ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فرجة لا يوم الجمعة ولا غيره، لأن هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى (4) . باب صلاة العيدين ومن شرطها الاستيطان، وعدد الجمعة، ويفعلها المسافر والعبد والمرأة تبعا، ولا يستحب قضاؤها لمن فاتته منهم، وهو قول أبي حنيفة (5) .   (1) الاختيارات (80) ومختصر الفتاوى (161) ف (2/ 87) . (2) اختيارات (88) (2/ 87) . (3) زاد المعاد (1/ 121) ف (2/ 87) (4) اختيارات (81) ف (2/ 88) (5) اختيارات (82) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 اليوم الثامن من شوال ليس لأحد أن يتخذه عيدا ولا هو عيد الأبرار، بل هو عيد الفجار، ولا يحل أن يحدث فيه المسلم شيئا من شعائر الأعياد، فإن المسلمين متفقون على أنه ليس بعيد. وكره بعضهم صوم السبت من شوال، عقب العيد مباشرة لئلا يكون فطر يوم الثامن كأنه العيد فينشأ عن ذلك أن يعده عوام الناس عيدا آخر (1) . وليس الخميس من أعياد المسلمين، بل هو من أعياد النصارى كعيد الميلاد، وعيد الغطاس، لكل أمة قبلة، وليس لأهل الذمة أن يعينوهم على أعيادهم في بلاد المسلمين، وليس للمسلمين أن يعينوهم على أعيادهم لا ببيع ما يستعينون به على عيدهم ولا بإجارة دوابهم ليركبوها في عيدهم، لأن أعيادهم مما حرمه الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لما فيها من الكفر والفسوق والعصيان. وأما إذا فعل المسلمون معهم أعيادهم مثل صبغ البيض وتحمير دوابهم بمغرة وبخور وتوسيع النفقات وعمل طعام فهذا أظهر من أن يحتاج إلى سؤال بل قد نص طائفة من العلماء من أصحاب أبي حنيفة ومالك على كفر من يفعل ذلك. وقال بعضهم من ذبح بطيخة في عيدهم فكأنما ذبح خنزيرا. ولو تشبه المسلم باليهود والنصارى في شيء من الأمور المختصة بهم لنهي عن ذلك باتفاق العلماء وإن كان أصل ذلك جائزا، وإذا لم يكن من شعارهم مثل لباس الأصفر، ونحوه فإن هذا جائز في الأصل، لكن لما صار شعار الكفر لم يجز لأحد من المسلمين، أن يخص مواسمهم   (1) مختصر الفتاوى (290) والاختيارات (111) ف (2/ 90) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 بشيء مما يخصونها به، فليس للمسلم أن يخص خميسهم الحقير بتجديد طعام الرز والعدس والبيض المصبوغ وغير ذلك، ومن فعل ذلك على وجه العبادة والتقرب به واعتقاد التبرر به فإنه يعرف دين الإسلام وأن هذا ليس منه بل هو ضده ويستتاب منه فإن تاب وإلا قتل. وليس لأحد أن يجيب دعوة مسلم يعمل في أعيادهم مثل هذه الأطعمة ولا يحل له أن يأكل من ذلك، بل لو ذبحوا هم في أعيادهم شيئا لأنفسهم ففي جواز أكل المسلم من ذلك نزاع بين العلماء، والأصح عدم الجواز، لكونهم يذبحونها على وجه القربان، فصار من جنس ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله. وأما ذبح المسلم لنفسه في أعيادهم على وجه القربة فكفر بين كالذبح للنصب، ولا يجوز الأكل من هذه الذبيحة بلا ريب، ولو لم يقصد التقرب بذلك بل فعله لأنه عادة أو لتفريح أهله فإنه يحرم عليه ذلك، واستحق العقوبة البليغة إن عاد إلى مثل ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «ليس منا من تشبه بغيرنا» و «من تشبه بقوم فهو منهم» وقد بسطنا ذلك في كتابنا: اقتضاء الصراط المستقيم وذكرنا دلائل ذلك كلها. وسأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نذرت أن أذبح ببوانة فهل أوف بنذري؟ فقال: «إن كان بها عيد من أعياد المشركين أو وثن فلا تذبح بها» . فنهاه أن يذبح في مكان كانوا يتخذونه في الجاهلية عيدا، لئلا يكون ذبحه ذريعة إلى إحياء سنن الكفر، فكيف بمن يظهر شعائر كفرهم وإفكهم؟ وإن كان لا يعلم أنه من خصائص دينهم بل يفعله على وجه العادة فهي عادة جاهلية مأخوذة عنهم، ليس هذا من عادات المسلمين التي أخذوها عن المؤمنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 والدين الفاسد هو عبادة غير الله أو عبادة الله فاسدة (1) ابتدعها بعض الضالين. والدين الصحيح عبادة الله وحده، وعبادته بما شرعه الله ورسوله. وقد كره السلف صيام أيام أعيادهم وإن لم يقصد تعظيمها فكيف بتخصيصها بمثل ما يفعلونه هم، بل قد نهى أئمة الدين عن أشياء ابتدعها بعض الناس من الأعياد وإن لم تكن من أعياد الكفار، كما يفعلونه في يوم عاشوراء، وفي رجب، وفي ليلة نصف شعبان، ونحو ذلك، فقد نهى العلماء عما أحدث في ذلك من الصلوات والاجتماعات والأطعمة والزينة وغير ذلك، فكيف بأعياد المشركين فالناهي عن هذه المنكرات من المطيعين لله ورسوله، كالمجاهدين، في سبيله. وينبغي لولاة الأمور التشديد في نهي المسلمين عن كل ما فيه عز للنصارى كالسؤال على بابه، وخدمته له بعوض يعطيه إياه، ويكره إجارة نفسه للخدمة في المنصوص من الروايتين، وهو مذهب مالك (2) . ويحرم بيعهم ما يعملونه كنيسة أو مثالا ونحوه، وكل ما فيه تخصيص لعيدهم أو ما هو بمنزلته قال أبو العباس: لا أعلم خلافا أنه من التشبه بهم، والتشبه بهم منهي عنه إجماعا، وتجب عقوبة فاعله، ولا ينبغي إجابة هذه الدعوى. ويحرم شهود عيد اليهود والنصارى، ونقله مهنا عن أحمد وبيعه لهم فيه ما يستعينون به عليه (3) .   (1) قلت: كذا بالأصل، ولعله أو عبادة فاسدة ابتدعها إلخ فإنه لا يعبد إلا بما شرع وما لم يشرعه فهو فاسد فلا يسمى عبادة الله والله أعلم. (2) مختصر الفتاوى (517-519) هذا مفرق في عدة فتاوى وفيه زيادات وتأتي فتوى مماثلة (254) وفيها بيان عبادة النصارى لمريم وللقسيسين (2/ 90) . (3) اختيارات (243) قلت: ويأتي هذا النقل في وليمة العرس ف (2/ 90) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وقال الخلال في جامعه باب كراهية خروج المسلمين في أعياد المشركين، وذكر عن مهنا قال: سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام، مثل دير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الغنم والبقر والرقيق والبر وغير ذلك، إلا أنه إنما يكون في الأسواق يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم؟ قال: إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس، قال الشيخ تقي الدين: فإنما رخص أحمد رحمه الله في دخول السوق بشرط أن لا يدخلوا عليهم بيعهم، فعلم منعه من دخول بيعهم (1) . والذي يدل عليه كلام أحمد في أكثر المواضع، وهو الذي تدل عليه السنة وآثار السلف أن الاجتماع على جنس القرب والعبادات كالاجتماع على الصلاة أو القراءة وسماعها، أو ذكر الله تعالى، أو دعائه أو تعليم العلم أو غير ذلك نوعان: نوع شرع الاجتماع له على وجه المداومة، وهو قسمان: قسم مؤقت يدور بدوران الأوقات، كالجمعة والعيدين، والحج، والصلوات الخمس، وقسم مسبب، ويتكرر بتكرر الأسباب، كصلاة الاستسقاء والكسوف والآيات، والقنوت في النوازل. والمؤقت فرضه ونفله إما أن يعود بعود اليوم، وهو الذي يسمى عمل اليوم والليلة كالصلوات الخمس، وسننها الرواتب، والوتر، والأذكار والأدعية المشروعة طرفي النهار وزلفا من الليل. وإما أن يعود بعود الأسبوع كالجمعة وصوم الاثنين والخميس وإما أن يعود بعود الشهر كصيام أيام البيض، وثلاثة أيام من كل شهر، والذكر المأثور عند رؤية الهلال.   (1) الآداب (3/ 432) ف (2/ 90) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 وإما أن يعود بعود الحول، كصيام شهر رمضان، والعيدين، والحج. والمسبب ما له سبب وليس له وقت محدود، كصلاة الاستسقاء، والكسوف وقنوت النوازل. وما لم يشرع فيه الجماعة: كصلاة الاستخارة وصلاة التوبة، وصلاة ركعتين بعد الوضوء، وتحية المسجد ونحو ذلك مما لم يذكر نوعه في باب صلاة التطوع والأوقات المنهي عن الصلاة فيها. والنوع الثاني ما لم يسن له الاجتماع المعتاد الدائم كالتعريف في الأمصار، والدعاء المجتمع عليه بعد الفجر والعصر، والصلاة والتطوع المطلق في جماعة، والاجتماع لسماع القرآن وتلاوته، أو سماع العلم والحديث ونحو ذلك، فهذه الأمور لا يكره الاجتماع لها مطلقا، ولم يسن مطلقا بل المداومة عليها بدعة، فيستحب أحيانا، ويباح أحيانا، وتكره المداومة عليها، وهذا هو الذي نص عليه أحمد في الاجتماع على الدعاء والقراءة والذكر ونحو ذلك. والتفريق بين السنة والبدعة في المداومة أمر عظيم ينبغي التفطن له (1) . باب صلاة الكسوف وتصلى صلاة الكسوف لكل آية كالزلزلة وغيرها، وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وقول محققي أصحابنا وغيرهم (2) .   (1) اختيارات (82-84) هذه قاعدة شاملة موجود بعض أفرادها مفرقا في المجموع ف (2/ 90) . (2) الاختيارات (84) ف (2/ 91) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 باب في الاستسقاء من الناس من قال: إن اليد لا ترفع إلا في الاستسقاء، وتركوا رفع اليدين في سائر الأدعية. ومنهم من فرق بين دعاء الرغبة ودعاء الرهبة، فقال في دعاء الرغبة، يجعل ظاهر كفيه إلى السماء وباطنهما إلى الأرض، وفي الرهبة بالعكس يجعل باطنهما إلى السماء وظاهرهما إلى الأرض، وقالوا: الراغب كالمستطعم والراهب كالمستجير. والصحيح الرفع مطلقا فقد تواتر عنه - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحاح أن الطفيل قال: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليهم فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: «اللهم اهد دوسا وأت بهم» . وفي الصحيحين: «لما دعا لأبي عامر رفع يديه» . وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «لما دعا لأهل البقيع رفع يديه ثلاث مرات» ، رواه مسلم. وفيه أيضا: أنه رفع يديه فقال: «اللهم أمتي أمتي» ، وفي آخره أن الله تعالى قال: «إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك» . وفيه «أنه لما نظر إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاث مائة مد يديه وجعل يهتف بربه فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط دراؤه عن مكنبيه» . وفي حديث قيس بن سعد رضي الله عنه، فرفع يديه وهو يقول: «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على أبي سعد بن عبادة» . وبعث جيشا فيهم علي رضي الله عنه فرفع يديه وقال: «اللهم لا تمتني حتى تريني عليا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 «ولما كان أسامة بن زيد رضي الله عنه رديفه فرفع يديه يدعو فسقط حطام الناقة فتناوله بإحدى يديه وهو رافع الأخرى» . وفي حديث القنوت: «رفع يديه يدعو عليهم» رواه البيهقي والأول رواه أبو داود وغيره. وروى عنه أنس رضي الله عنه، قال: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء» أخرجاه في الصحيحين وفيهما: «أنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه وينحي فيه يديه» . وهذا هو الذي سماه ابن عباس رضي الله عنه الابتهال، وجعل المراتب ثلاثا، الإشارة بأصبع واحدة كما كان يفعل يوم الجمع على المنبر. والثانية: المسألة: وهو أن تجعل يديك حذو منكبيك كما في أكثر الأحاديث: والثالثة: الابتهال وهو الذين ذكره أنس رضي الله عنه، ولهذا قال: «كان يرفع يديه حتى يرى بيان إبطيه» ، وهو الرفع إذا اشتد وكان بطون يديه مما يلي وجهه والأرض وظهورهما مما يلي السماء. وقد يكون أنس بن مالك رضي الله عنه أراد بالرفع على المنبر يوم الجمعة كما في مسلم وغيره: «أنه كان لا يزيد على أن يرفع أصبعه المسبحة» . وفي هذه المسألة قولان هما وجهان في مذهب أحمد في رفع الخطيب يديه. قيل: يستحب قاله ابن عقيل، وقيل: لا يستحب بل هو مكروه وهو أصح: قال إسحاق بن راهويه هو بدعة للخطيب، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير بأصبعه إذا دعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وأما في الاستسقاء فإنه لما استسقى على المنبر رفع يديه كما رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه فقد روى أنس في هذا الحديث: «أنه استسقى بهم يوم الجمعة على المنبر فرفع يديه» . وقد ثبت أنه لم يكن يرفع يديه على المنبر في غير الاستسقاء فيكون أنس أراد هذا المعنى لا سيما وقد كان عبد الملك بن مروان أحدث رفع الأيدي على المنبر وأنس رضي الله عنه أدرك هذا العصر، وقد أنكر ذلك على عبد الملك عاصم بن الحارث، فيكون هو أخبر بالسنة التي أخبر بها غيره من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرفع يديه - يعني على المنبر - إلا في الاستسقاء» . وهذا يبين أن الاستسقاء مخصوص بمزيد الرفع وهو الابتهال الذي ذكره ابن عباس رضي الله عنهما. فالأحاديث تأتلف ولا تختلف. ومن ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرفع المعتدل جعل ظهر كفيه إلى السماء فقد أخطأ. وكذلك من ظن أنه قصد بوجهه وظهر يديه إلى السماء فقد أخطأ فإنه نهى عن ذلك فقال: «إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها» أخرجه أبو داود عن ابن عباس، قال: وهو من غير وجه عن محمد بن كعب كلها واهية، وروى أحاديث أخر في أبي داود وغيره. وبالجملة فهذا الرفع الذي استفاضت به الأحاديث وعليه الأئمة والمسلمون من زمن نبيهم إلى هذا التأريخ. وحديث أنس الذي تقدم يدل على أنه لشدة الرفع انحنت يداه فصار كفه مما يلي السماء لشدة الرفع لا قصدا لذلك، كما جاء «أنه رفعهما حذاء وجهه» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وتقدم حديث أنس رضي الله عنه ففيه: أنه رآه يدعو بباطن كفيه وظاهرهما فهذه ثلاثة أنواع في هذا الرفع الشديد. رفع الابتهال يذكر فيها أن بطونهما مما يلي وجهه، وهذا أشد وتارة يذكر هذا وهذا. فتبين بذلك أنه لم يقصد في هذا الرفع الشديد لا ظهر اليد ولا بطنها، وهذا لأن الرفع إذا قوي تبقى أصابعهما نحو السماء مع نوع من الانحناء الذي يكون فيه هذا تارة وهذا تارة. وأما إذا قصد توجيه بطن اليد أو ظهرها فإنما كان توجيه بطنها، وهذا في الرفع المتوسط الذي هو رفع المسألة التي يمكن فيها القصد ورفع ما يختار من البطن والظهر، بخلاف الرفع الشديد الذي يرى به بياض إبطيه فلا يمكن فيه توجيه باطنهما بل ينحني قليلا بحسب الرفع. فبهذا تأتلف الأحاديث وتظهر السنة (1) .   (1) مختصر الفتاوى (159-162) ف (2/ 91) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 كتاب الجنائز واختلف أصحابنا وغيرهم في عيادة المريض، وتشميت العاطس وابتداء السلام، والذي يدل عليه النص وجوب ذلك، فيقال: هو واجب على الكفاية (1) . وأوجب أبو الفرج وبعض العلماء عيادته، والمراد مرة، واختاره الآجري. وفي أواخر الرعاية: فرض كفاية، كوجه في ابتداء السلام، ذكره شيخنا واختاره شيخنا (2) . وسمعت شيخ الإسلام أبا العباس ابن تيمية رحمه الله يقول - وقد عرض له بعض الألم - فقال له الطبيب: أضر ما عليك الكلام في العلم والفكر فيه والتوجه والذكر، فقال الشيخ: ألستم تزعمون أن النفس إذا قويت وفرحت أوجب فرحها لها قوة تعين بها الطبيعة على دفع المعارض فإنه عدوها فإذا قويت عليه قهرته، فقال له الطبيب: بلى، فقال: إذا اشتغلت نفسي بالتوجه والذكر والكلام في العلم وظفرت بما يشكل عليها منه فرحت به وقويت فأوجب ذلك دفع المعارض هذا أو نحوه من الكلام (3) .   (1) اختيارات (85) ف (2/ 92) . (2) مفتاح دار السعادة (270) . (3) الآداب (3/ 116) ف (2/ 92) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 قال الشيخ تقي الدين: الأدوية أنواع كثيرة، والدعاء والرقى أعظم نوعي الدواء حتى قال بقراط: نسبة طبنا إلى طب أرباب الهياكل كنسبة طب العجائز إلى طبنا. وقد يحصل الشفاء بغير سبب اختياري، بل بما يجعله الله في الجسم من القوى الطبيعية ونحو ذلك، انتهى كلامه (1) . وكان الشيخ تقي الدين رحمه الله يكتب على جبهة الراعف: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [44/11] . قال: ولا يجوز كتابتها بدم، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله (2) . وشاهدت شيخنا يرسل إلى المصروع، من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ: اخرجي فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسها، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب فيفيق المصروع ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مرارًا. وكان كثيرا ما يقرأ في أذن المصروع {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [115/23] . وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع، فقالت الروح: نعم، ومد بها، صوته، قال: فأخذت له عصا وضربته بها في عروق عنقه حتى تخلت يداي من الضرب، ولم يشك الحاضرون بأنه يموت لذلك.   (1) الآداب (2/ 457) (2/ 93) . (2) الفروع (2/ 174، 175) ف (2/ 92) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 الضرب. ففي أثنا الضرب قالت: أنا أحبه، فقلت لها: هو لا يحبك، قالت: أنا أريد أن أحج به، فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك، فقالت: أنا أدعه كرامة لك، قال: قلت: لا، ولكن طاعة لله ورسوله، قالت: فأنا أخرج منه، قال: فقعد المصروع يلتفت يمينا وشمالا، وقال ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ قالوا له: وهذا الضرب كله، فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب، ولم يشعر بأنه وقع به ضرب ألبتة. وكان يعالج بآية الكرسي، وكان يأمر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين (1) . وقال الشيخ تقي الدين: إذا كان اليهودي أو النصراني خبيرا بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطبه، كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} . وفي الصحيح: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأجر رجلا مشركا هاديا خريتا» والخريت: الماهر بالهداية و «أتمنه على نفسه وماله» ، «وكانت خزاعة عيبة لرسل الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمهم وكافرهم» ، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أمر أن يستطب الحارث بن كلدة وكان كافرا» . وإذا أمكنه أن يستطب مسلما فهو كما لو أمكنه أن يودعه أو يعامله فلا ينبغي أن يعدل عن ذلك، وأما إذا احتاج إلى ائتمان الكتابي أو استطبابه فله ذلك، ولم يكن من ولاية اليهود والنصارى المنهي عنها، وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسنا، فإن الله تعالى يقول: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} انتهى كلامه (2) .   (1) زاد المعاد (3/ 84، 85) ف (2/ 93) . (2) الآداب (2/ 441، 442) ف (2/ 93) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 والقراءة على الميت بعد موته بدعة، بخلاف القراءة على المحتضر فإنها تستحب بياسين (1) . وأما قول كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم، لا بأس أن يجعل المصاب على رأسه ثوبا يعرف به، قالوا: لأن التعزية سنة، وفي ذلك تيسير لمعرفته حتى يعزيه، ففيه نظر وأنكره شيخنا (2) . غسل الميت وتكفينه ومن ظن أن غيره لا يقوم بأمر الميت تعين عليه، وقاله القاضي وغيره (3) . وترك النبي صلى الله عليه سلم غسل الشهيد والصلاة عليه يدل على عدم الوجوب أما استحباب الترك فلا يدل على التحريم (4) . روى ابن حبان في صحيحه وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت يبعث في ثيابه التي قبض فيها» ودعا أبو سعيد رضي الله عنه بثياب جدد فلبسها عند الموت وقال ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحمل الحديث على ثيابه التي يقبض فيها لا على كفنه. فقيل: يبعث في نفس الثوب الظاهر، وقيل: إن المراد أنه يبعث على ما مات عليه من العمل كما قال أكثر المفسرين في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [4/74] أي عملك. يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [104/21] قالت عائشة رضي الله عنها: النساء والرجال ينظر   (1) اختيارات (91) ف (2/ 93) . (2) عدة الصابرين (80) ف (2/ 93) . (3) اختيارات (86) ف (2/ 93) . (4) اختيارات (87) ف (2/ 93) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 بعضهم إلى بعض؟ قال: «نعم» ، قالت، وآفضيحتاه، قال: «الأمر أشد من ذلك» (1) . الصلاة عليه وقال شيخنا: كان يشكل عليَّ أحيانا حال من أصلي عليه الجنائز: هل هو مؤمن، أو منافق؟ فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة، فقال: «يا أحمد: الشرط، الشرط، أو قال: علق الدعاء بالشرط» (2) . ويصلي على الجنازة مرة بعد أخرى، لأنه دعاء، وهو وجه في المذهب واختاره ابن عقيل في الفنون. وقال أبو العباس في موضع آخر: ومن صلى على الجنازة فلا يعيدها إلا لسبب مثل أن يعيد غيره الصلاة فيعيدها معه، أو يكون هو أحق بالإمامة من الطائفة التي صلت أولا فيصلي بهم، ويصلي على القبر ولو إلى شهر وهو مذهب أحمد. صلى على جنازة وهي على أعناق الرجال وهي واقفة فهذا له مأخذان: الأول: اشتراط استقرار المحل فقد يخرج على الصلاة في السفينة وعلى الراحلة مع استيفاء الفرائض وإمكان الانتقال، وفيه روايتان. والثاني: اشتراط محاذاة المصلي للجنازة بحيث (3) كانت أعلى من   (1) مختصر الفتاوى (172، 173) ف (2/ 93) . (2) إعلام الموقعين (3/ 399) ف (2/ 94) . (3) نسخة فلو كانت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 رأسه فهذا يخرج على علو الإمام على المأموم، فلو وضعت على كرسي عال أو منبر ارتفع المحذر الأول دون الثاني (1) . ولا يصلي على الغائب عن البلد إن كان صلي عليه، وهو وجه في المذهب، ومقتضى اللفظ أن من هو خارج السور أو ما يقدر سورا يصلى عليه، أما الغائب فهو الذي يكون انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر، وقال القاضي وغيره، إنه يكفي خمسون خطوة، وأقرب الحدود ما تجب فيه الجمعة، لأنه إذا كان من أهل الصلاة في البلد فلا يعد غائبا عنه، ولا يصلي كل يوم على غائب، لأنه لم ينقل، يؤيده قول الإمام أحمد: إذا مات رجل صالح صلي عليه، واحتج بقصة النجاشي. وما يفعله بعض الناس من أنه كل ليلة يصلي على جميع من مات من المسلمين في ذلك اليوم لا ريب أنه بدعة (2) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصواب أن الغائب إذا مات ببلد لم يصل عليه فيه صلي عليه صلاة الغائب، كما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي لأنه مات بين الكفار ولم يصل عليه، وإن صلي عليه حيث مات لم يصل عليه صلاة الغائب، لأن الفرض قد سقط بصلاة المسلمين عليه والنبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغائب، وتركه وفعله سنة، وهذا له موضع وهذا له موضع، والله أعلم (3) . ومن مات وكان لا يزكي ولا يصلي إلا في رمضان ينبغي لأهل العلم والدين أن يدعو الصلاة عليه عقوبة ونكالا لأمثاله، لتركه - صلى الله عليه وسلم -   (1) الاختيارات (86) ف (2/ 93) . (2) اختيارات (87) ف (2/ 94) . (3) زاد المعاد (4/ 145) ف (2/ 94) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 الصلاة على القاتل وعلى الغال، والمدين الذي لا وفاء له، ولا بد أن يصلي عليه بعض الناس (1) . ويستحب القيام للجنازة إذا مرت به وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار ابن عقيل (2) . ويتبع الجنازة ولو لأجل أهله فقط إحسانا إليهم لتألفهم أو مكافئة أو غير ذلك (3) . وأما الجنازة التي فيها منكر مثل أن يحمل قدامها أو وراءها الخبز والغنم أو غير ذلك من البدع الفعلية أو القولية، أو يجعل على النعش شنخانات، فهل له أن يمتنع من تشييعها؟ على قولين هما روايتان عن أحمد. والصحيح أنه يشيعها، لأنه حق للميت فلا يسقط بفعل غيره، وينكر المنكر بحسبه، وإن كان ممن إذا امتنع تركوا المنكر امتنع، بخلاف الوليمة فإن صاحب الحق هو فاعل المنكر فسقط حقه لمعصيته، كالمتلبس بمعصية لا يسلم عليه حال تلبسه بها، والله أعلم (4) . وعمل العرس للميت من أعظم البدع المنكرات، وكذلك الضرب بالدف عند الجنازة، لكن يضرب به عند العرس، وكرهه بعضهم مطلقا، والصحيح الفرق، وكان دفهم ليس له صلاصل، ولهذا تنازع العلماء في دف الصلاصل؟ على قولين.   (1) الاختيارات (87) ف (2/ 94) . (2) اختيارات (87) ف (2/ 94) . (3) اختيارات (88) ف (2/ 94) . (4) مختصر الفتاوى (251) ف (2/ 94) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 وأما الشابة فلم يرخص أحد من الأئمة الأربعة في حضورها مجتمع الرجال الأجانب لا في الجنازة ولا في العرس (1) . حمل الميت ودفنه كان الميت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج به الرجال يحملونه إلى المقبرة، لا يسرعون ولا يبطئون بل عليهم السكينة، لا نساء معهم، ولا يرفعون أصواتهم، لا بقراءة ولا غيرها، وهذه هي السنة باتفاق المسلمين (2) . ولا يستحب للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك لا هو ولا أصحابه، والعبد لا يدري أين يموت، وإذا كان مقصود الرجل الاستعداد للموت فهذا يكون من العمل الصالح (3) . وفي لحد الرجل للمرأة نزاع: الصحيح أنه إن كان من أهل الخير يلحدها (4) . وحديث عقبة بن عامر: «ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا» فسر بعضهم القبر بأنه الصلاة على الجنازة وهذا ضعيف لأن صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع وإنما معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات، كما يكره تعمد تأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس بلا عذر، فأما إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره (5) .   (1) مختصر الفتاوى (168) ف (2/ 94) . (2) مختصر الفتاوى (168) ف (2/ 94) . (3) يعني: بالعمل الصالح اختيارات (89، 90) ومختصر الفتاوى (172) ف (2/ 94) . (4) مختصر الفتاوى (172) ف (2/ 94) . (5) اختيارات (86) ف (2/ 94) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 ويكره دفن اثنين فأكثر في قبر واحد، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختارها جماعة من الأصحاب (1) . ولا بد أن تكون مقابر أهل الذمة متميزة عن مقابل المسلمين تمييزا ظاهرا بحيث لا يختلطون بهم، ولا تشتبه على المسلمين بقبورهم، وهذا آكد من التمييز بينهم حال الحياة بلبس الغيار ونحوه، فإن مقابر المسلمين فيها الرحمة ومقابر الكفار فيها العذاب، بل ينبغي مباعدة مقابرهم عن مقابر المسلمين، وكلما بعدت كان أصلح (2) . وتلقين الميت بعد دفنه، قيل: مباح، وقيل: مستحب، وقيل: مكروه. وفعله واثلة بن الأسقع وأبو أمامة، والأظهر أنه مكروه، لأنه لم يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل المستحب الدعاء له، كما في سنن أبي داود أنه كان إذا مات رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبره فيقول: «اسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» (3) . ومن بنى في مقبرة المسلمين ما يختص به فهو عاص، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم (4) . ومن نبش قبور المسلمين عدوانا عوقب بما يردعه وأمثاله عن ذلك، وكذا من خرب مسجدهم فعليه إعادته من ماله (5) . ويحرم الإسراج على القبور، واتخاذ المساجد عليها وبينها، ويتعين إزالتها.   (1) الاختيارات (89) ف (2/ 95) . (2) اختيارات (94) ف (2/ 95) . (3) مختصر الفتاوى (168) هنا جزم بأنه مكروه ف (2/ 95) . (4) الاختيارات (88) ف (2/ 95) . (5) مختصر الفتاوى (202) ف (2/ 95) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 قال أبو العباس: لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين، وإذا لم يمكنه المشي إلى المسجد إلا على الجبانة فله ذلك ولا يترك المسجد (1) . ذهب طائفة من المتأخرين إلى جواز إهداء الأعمال الصالحة: من الصدقة والصلاة والقراءة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه. وفي إهداء الفريضة وجهان. وأما السلف فلم يكونوا يفعلون شيئا من ذلك، وهم أخلق بالاتباع. وحديث أُبي الذي فيه: أجعل صلاتي كلها عليك، قال: «إذا يكفيك الله همك ويغفر ذنبك» المراد أنه يجعل له ربع دعائه أو نصفه أو ثلثه، إلى أن قال: كلها أي كل دعائي، فإن الصلاة في اللغة الدعاء، ولهذا قال له: «إذا يكفيك الله همك ويغفر ذنبك» فإنه إذا صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشرًا. ومن دعا لأخيه وكل الله بها ملكا يقول: «ولك بمثله» فإذا صلى عليه بدل دعائه كفاه الله همه وحصل له مقصود ذلك الدعاء من كفاية همه وغفران ذنبه، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، فكيف بمن يدعو للنبي - صلى الله عليه وسلم - بدل نفسه؟ إنه لحقيق أن يحصل له أكثر مما يطلبه لنفسه. وقد يتوهم متوهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - «من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرًا» إنه يحصل للمصلي أكثر مما يحصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس الأمر كذلك، بل له مثل أجر المصلي الذي حصل له، فإنه هو الذي علمه وسن له ذلك فله على ذلك مثل أجره (2) .   (1) اختيارات (88) ف (2/ 95) . (2) مختصر الفتاوى (175) ف (2/ 95) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 ثم له مثل أجره لخبر عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعا رواه حرب، وقال شيخنا أو أكثر (1) . ولا يستحب إهداء القرب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو بدعة، هذا هو الصواب المقطوع به، قال أبو العباس: وأقدم من بلغنا أنه فعل ذلك علي بن الموفق أحد الشيوخ المشهورين كان أقدم من الجنيد، وأدرك أحمد طبقته وعاصره وعاش بعده (2) . واستفاضت الآثار بمعرفة الميت أهله وبأحوال أهله وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وجاءت الآثار بأنه يرى أيضا، وبأنه يدري بما يفعله عنده فيسر بما كان حسنا ويتألم بما كان قبيحا وتجتمع أرواح الموتى فينزل الأعلى إلى الأدنى لا العكس (3) . ولا يمنع الكافر من زيارة قبر أبيه المسلم (4) . قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر أقوال الفرق في جواز البكاء على الميت وعدمه إذا كان معه نياحة أو ندب، قال: فإذا بكى على الميت البكاء المحرم وهو البكاء الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه والبكاء على الميت عندهم اسم لذلك وهو معروف في نثرهم ونظمهم تألم الميت بذلك في قبره، فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه، وهذه طريقة شيخنا في هذه الأحاديث (5) . والميت يتأذى بنوح أهله عليه مطلقًا قاله طائفة من العلماء، وما يهيج المصيبة من إنشاد الشعر والوعظ فمن النياحة، وفي الفنون لابن عقيل ما يوافقه (6) .   (1) الفروع (2/ 310) ف (2/96) (2) اختيارات ص (92) ف (2/95) (3) اختيارات (90) فيه زيادة ف (2/96) (4) اختيارات (90) ف (2/97) (5) عدة الصابرين (87، 88) ف (2/ 98) . (6) الاختيارات (90) ف (2/98) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 كتاب الزكاة وتجب الزكاة في جميع أجناس الأجرة المقبوضة، ولا يعتبر لها مضي حول، وهو رواية عن أحمد، ومنقول عن ابن عباس. وعنه لا حول لأجرة اختاره شيخنا (1) . ولا يصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح، لأنه قد يحيط بالربح، فهو كشرط فضل دراهم، سأله المروذي: يشترط المضارب على رب المال أن الزكاة من الربح؟ قال: لا، الزكاة على رب المال، وصححه شيخنا، كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر (2) وركوب الفرس في الجهاد إذا لم يغنموا (3) . ويصح أن يشترط رب المال زكاة رأس المال أو بعضه من الربح، ولا يقال بعدم الصحة ونقله المروذي عن أحمد لأن الزكاة قد تحيط بالربح فيختص رب المال بعمله، لأنا نقول لا يمتنع ذلك، كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر وبركوب الفرس في الجهاد إذا لم يغنموا (4) .   (1) اختيارات (98) الفروع (2/ 327) ف (2/ 98) . (2) نسخة إذا لم يثمر عن ربح الشجر. (3) الفروع (2/ 338) ف (2/ 98) . (4) الاختيارات (98) ف (2/ 98) قلت: هذا خلاف ما في الفروع ولعل ما فيه أصح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 لا تجب في دين مؤجل أو على معسر أو مماطل أو جاحد ومغصوب ومسروق وضال وما دفنه ونسيه أو جهل عند من هو ولو حصل في يده، وهو رواية عن أحمد واختارها وصححها طائفة من أصحابه وهو قول أبي حنيفة. ودين الابن الذي له على أبيه، قال أبو العباس: الأشبه عندي أن يكون بمنزلة المال الضال فيخرج على الروايتين ووجهه ظاهر فإن الابن غير ممكن من المطالبة به فقد حيل بينه وبينه، ولو قيل: لا تلزمه زكاته بمنزلة دين الكتابة لكان متوجها، ودين الولد هل يمنع الزكاة عن الأب لثبوته في الذمة أم لا؟ لتمكنه من إسقاطه؟ أخرجه أبو العباس على وجهين: وجعل أصلها الخلاف على أن قدرة المريض على استرجاع ملكه المنتقل عنه أو عن غيره هل ينزل منزلة تبرعه في المرض أم لا؟ (1) . وإذا فرط الإنسان ولم يخرج الزكاة حتى مات فعلى الورثة الإخراج عند أحمد والشافعي وكذلك كل حق لله. وعند غيرهما لا يجب على الورثة مع أنه يعذب بتركه الزكاة. وأما إذا مات الميت وله غرماء مديونون لم يستوف مما عليهم شيئا فهل مطالبتهم للميت أو للورثة، اضطرب فيها الناس. والصواب: إن كان الحق مظالم لم يتمكن هو ولا ورثته من استيفائها من قول أو قذف أو غصب فهو المطالب. وإن كان دينا ثبت باختياره وتمكن من استيفائه فلم يستوفه حتى مات فورثته تطالب به إلى يوم القيامة.   (1) اختيارات (98) ف (2/ 99) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وإن كان دينا عجز عن استيفائه هو وورثته فالأشبه أنه هو الذي يطالب به، فإن العجز إذا كان ثابتا فيه وفي الوارث ولم يتمكن أحدهما من الانتفاع بذلك في الدنيا لم يدخل في الميراث فيكون المستحق أحق بحقه في الآخرة، كما في المظالم، والإرث مشروط بالتمكن من الاستيفاء كما أنه مشروط بالعلم بالوارث. فلو مات وله عصبة بعيدة لا يعرف نسبهم لم يرثوه في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا عام في جميع الحقوق التي لله ولعباده هي مشروطة بالتمكن من العلم والقدرة، والمجهول والمعجوز عنه كالمعدوم. ولهذا قال العلماء: إن ما يجهل مالكه من الأموال التي قبضت بغير حق كالمكوس أو قبضت بحق كالوديعة والعارية وجهل صاحبها بحيث تعذر ردها عليه فإنها تصرف في مصالح المسلمين، وتكون حلالا لمن أخذها بحق، كأهل الحاجة والاستعانة بها على مصالح المسلمين، دون من أخذها بباطل، كمن يأخذ فوق حقه. ثم المظلوم إذا طالب بها يوم القيامة وعليه زكاة فلا تقوم هذه بالزكاة بل عقوبة الزكاة أعظم من حسنة المظالم، والوعيد بترك الزكاة عظيم، ولكن الذي ورد أن الفرائض تجبر بالنوافل، فهذا إذا تصدق باختياره صدقة تطوع، ولا يكون شيئا خرج بغير اختياره فإنه يرجى له أن يحاسب بما تركه من الزكاة إذا كان من أهلها العازمين على فعلها. و «أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة فإن أكملها وإلا قيل انظروا إن كان لعبدي تطوع فيكمل بها فريضته ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حساب ذلك» ، روي ذلك أحمد في المسند. هذا لأن التطوع من جنس الفريضة فأمكن الجبران به عند التعذر، كما قال الصديق رضي الله عنه: إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 فيكون من رحمة الله به أن يجعل النفل مثل الفرض، بمنزلة من أحرم بالحج تطوعا وعليه فرضه فإنه يقع عن فرضه عند طائفة كالشافعي وأحمد في المشهور. وكذلك في رمضان عند أبي حنيفة وهو قول في مذهب أحمد. وكذلك من شك: هل وجب عليه غسل أو وضوء بحدث أم لا؟ فإنه لا يجب عليه غسل. وكذلك الوضوء عند جمهور العلماء، لكن يستحب له التطهر احتياطا. وإذا فعل ذلك وكان واجبا عليه في نفس الأمر أجزأ عنه {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} . وكذلك الشارع جعل عمل الغير عنه يقوم مقام فعله فيما عجز عنه، مثل من وجب عليه الحج وهو معضوب أو مات ولم يحج، أو نذر صوما أو غير ذلك، ومات قبل فعله، فعله عنه وليه، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «دين الله أحق بالقضاء» أي أحق أن يستوفى من وارث الغريم؛ لأنه أرحم من العباد، فهذا تشهد له الأصول. أما أن يعتد له بالدين الذي على الناس مع كونه لم يخرج الزكاة فلا يصح. نعم لو كان للناس عليه مظالم أو ديون بقدر ما له عند الناس كان يسوغ أن يقال يحاسب بذلك فيؤخذ حقه من هذا ويصرف إلى هذا، كما يفعل في الدنيا بالمدين الذي له وعليه، وكل هذا من حكم العدل بين العباد {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) .   (1) مختصر الفتاوى (277) ف (2/ 99) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وهل يعتبر في وجوب الزكاة إمكان الأداء؟ فيه روايتان. ولو تلف النصاب بغير تفريط من المالك لم يضمن الزكاة على كل من الروايتين واختاره طائفة من أصحاب أحمد (1) . باب زكاة بهيمة الأنعام ومن أنكر زكاة السائمة وجبت استتابته (2) . وقالت طائفة: تجب الزكاة في خمس من البقر كالإبل، ورووا فيه أثرا فقالوا: هذا آخر الأمرين (3) . وقال ابن عقيل: ولا يجوز إخصاء البهائم ولا كيها بالنار للوسم، وتجوز المداواة حسب ما أجزنا في إحدى الروايتين، وقال في موضع آخر: إن ذلك وخزمها في الأنف لقصد المثلة إثم، وإن كان ذلك لغرض صحيح جاز، وأما فعل ذلك بالآدميين فيحصل به الفسق. وذكر الشيخ تقي الدين كلام ابن عقيل الأول، وقال: فعلى قوله لا يجوز وسمها قال: وهو ضعيف (4) . باب زكاة الحبوب والثمار ونص أبو العباس على وجوب الزكاة في التين للادخار، وإنما اعتبر الكيل والوزن في الروايات لأجل التماثل المعتبر فيها وهو غير موجود ههنا (5) .   (1) اختيارات (98) ف (2/ 99) . (2) مختصر الفتاوى (278) ف (2/ 99) . (3) مختصر الفتاوى (271) ف (2/ 99) . (4) الآداب (3/ 143) ف (2/ 99) . (5) اختيارات (100) ف (2/ 101) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وما يديره الماء من النواعير ونحوها مما يصنع من العام إلى العام أو أثناء العام ولا يحتاج إلى دولاب تديره الدواب يجب فيه العشر، لأن مؤنته خفيفة فهي كحرث الأرض وإصلاح الماء (1) . وتسقط الزكاة فيما خرج من مؤنة الزرع والثمر منه، وهو قول عطاء بن أبي رباح؛ لأن الشارع أسقط في الخرص زكاة الثلث أو الربع لأجل ما يخرج من الثمرة بالإعراء والضيافة وإطعام ابن السبيل، وهو تبرع فيما يخرج عنه لمصلحته التي لا تحصل إلا بها أولى بإسقاط الزكاة عنه (2) . إذا زرع الجندي إقطاعه فعليه فيه الزكاة. ومذهب سائر الأئمة أنه لا بد في الأرض من عشر أو خراج وهل يجتمعان؟ قال أبو حنيفة: لا فلو كان على مصر خراج كما كان في أول الإسلام كان في وجوب العشر عليها نزاع، فأما اليوم فلا خراج عليها؛ لأن الأرض الخراجية عند أبي حنيفة هي التي يملكها صاحبها وعليه خراجها وهو الخراج الذي ضربه عمر على ما فتح من الأرض عنوة وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه. فأما الجند فلا يملكون الأرض اليوم فلا خراج عليهم فيكون عليهم العشر بلا نزاع، لكن لو استأجرها رجل وزرعها فالعشر على المستأجر صاحب الزرع عندهم، إلا أبا حنيفة فقال على رب الأرض المؤجر لها (3) . وكلام أبي العباس في اقتضاء الصراط المستقيم، يعطي أن أهل الذمة منعوا من شراء الأرض العشرية، ولا يصح البيع، وجزم الأصحاب   (1) اختيارات (101) ف (2/ 100) . (2) اختيارات (101) ف (2/ 100) . (3) مختصر الفتاوى (276) هذا فيه زيادة تفصيل ف (2/ 101) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 بالصحة ولكن حكى الإمام أحمد عن عمر بن عبد العزيز والحسن أنهم يمنعون من الشراء فإن اشتروا لم تصح، وتعطيل الأرض العشرية باستئجار الذمي لها أو مزارعته فيها كتعطيله بالشراء، وكلام أحمد يوافقه فإنه قال: لا يؤجر منه، - أي الأرض من الذمي - ولا يجوز بقاء أرض بلا عشر ولا خراج اتفاقا، فيخرج من أقطع أرضا بأرض مصر أو غيرها العشر (1) . ويلحق المدفون حكما الموجود ظاهرا في مكان خراب جاهلي أو طريق غير مسلوك (2) . باب زكاة النقدين وما سماه الناس درهما وتعاملوا به تكون أحكامه أحكام الدرهم من وجوب الزكاة فيما بلغ مائتين منه، والقطع بسرقة ثلاثة دراهم منه، إلى غير ذلك من الأحكام قل ما فيه من الفضة أو كثر، وكذلك ما سمي دينارا (3) . أما الفلوس فلا يجوز إخراجها عن النقدين على الصحيح لأنها ولو كانت نافقة فليست في المعاملة كالدراهم، في العادة لأنها قد تكسد وتحرم المعاملة بها ولأنها أنقص سعرا، ولهذا يكون البيع بالفلوس، دون البيع بقيمتها من الدراهم، وغايتها أن تكون بمنزلة المكسرة مع الصحاح والبهرجة مع الخالصة فإن تلك إلى النحاس أقرب. وعلى هذا إذا أخرج الفلوس وأخرج التفاوت جاز على المنصوص في جواز إخراج التفاوت فيما بين الصحيح والمكسر، بناء على أن   (1) اختيارات (101) ف (2/ 101، 179) . (2) اختيارات (101) ف (2/ 101) . (3) اختيارات (102) ف (2/ 102) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 جبران الصفات كجبران المقدار؛ لكن يقال: المكسرة من الجنس والفلوس من غير الجنس فينتفي فيها المأخذ، ولا ينبغي أن يكون إلا وجهان، إلا إذا خرجت بقيمتها فضة لا بسعرها في العرض (1) . وأما كتابة «لا إله إلا الله» على الدراهم فمحدث من خلافة عبد الملك بن مروان - وإلى الآن - وكانوا يكتبون عليها نحوا من ذلك. ويجوز للمحدث مسكها وإذا كانت معه في منديل أو خريطة وشق عليه مسكها جاز أن يدخل بها الخلاء. ولم يضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه دراهم، وإنما حدث ضربها في خلافة عبد الملك كما تقدم (2) . وسمعت شيخ الإسلام يقول: حديث معاوية في إباحة الذهب مقطعا هو في التابع غير المنفرد كالزر والعلم ونحوه، وحديث الخريصة هو في الفرد كالخاتم وغيره فلا تعارض بينهما، والله أعلم (3) . وأما أبو العباس فقد ذكر الخلاف في ضم أحد النقدين (4) . ونقل عن غير واحد من الصحابة أنه قال: زكاة الحلي عاريته، ولهذا تنازع أهل هذا القول: هل يلزمها أن تعيره لمن يستعيره إذا لم يكن في ذلك ضرر عليها؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره. والذي ينبغي إذا لم تخرج الزكاة عنه أن تعيره، وأما إذا كانت تكريه ففيه الزكاة عند جمهور العلماء.   (1) اختيارات (103) ف (2/ 101) . (2) مختصر الفتاوى (200، 201) ف (2/ 102) . (3) مختصر سنن أبي داود (6/ 128) ف (2/ 102) . (4) اختيارات (102) ف (2/ 102) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 قال الزركشي نقلا عن الشيخ: وكذلك المكروه (1) . باب زكاة العروض ما أعد للتجارة من ماء وحطب وغيره ففيه الزكاة، وما أعد للكراء كالقدور والجمال والعقار وغيرها ففيها نزاع في مذهبنا وغيره. ومن السلف من يوجب الزكاة في المعد للكراء إذا قبض الأجرة. (2) . ويجوز إخراج زكاة العروض عرضا ويقوى على قول من يقول تجب الزكاة في عين المال (3) . باب صدقة الفطر ولا يعتبر في زكاة الفطر ملك نصاب، بل تجب على كل من ملك صاعا فاضلا عن قوته يوم العيد وهو مذهب أحمد، ومن عجز عن صدقة الفطر وقت وجوبها عليه ثم أيسر فأداها فقد أحسن (4) . صدقة الفطر قدرها صاع من الشعير أو التمر ونصفه من البر عند أبي حنيفة واختيار الشيخ وخرجه على قواعد أحمد (5) . وقياس قول أحمد في الكفارات (6) .   (1) الزركشي ج (2/ 105) ف (2/ 102) . (2) مختصر الفتاوى (277) غير موجود هذا التمثيل ف (2/ 103) . (3) اختيارات (101) ف (2/ 103) . (4) اختيارات (102) ف (2/ 103) . (5) مختصر الفتاوى (282) ف (2/ 103) . (6) الاختيارات (102) ف (2/ 103) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 باب إخراج الزكاة فصل وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها» يراد بالحق الزكاة ويراد به ما يجب من غير الزكاة: مثل الإعطاء في النوائب لابن السبيل والمسكين وذي الرحم، «ومن حقها حلبها يوم وردها» لأجل ابن السبيل ونحوهم، فإنهم يقعدون على الماء، فإن إطعام المحتاج وسقيه فرض كفاية. وأما ما يأخذ العداد فإن كان هو من أهل الزكاة أجزأت عن صاحبها عند الأئمة، وإن كان من الكلف التي وضعها الملوك فإنها لا تجزئ عن الزكاة (1) . وأما ما يؤخذ من التجار بغير اسم الزكاة من الوظائف السلطانية فلا يعتبر من الزكاة، وما يؤخذ باسم الزكاة ففيه نزاع، والأولى إعادتها إذا غلب على الظن أنها لا تصرف إلى مستحقها. وإذا أخذ ولي الأمر العشر أو زكاة التجارة فصرفها في مصرفها أجزأت باتفاق المسلمين. وأما إذا كان ولي الأمر يتعدى في صرفها فالمشهور عند الأئمة أنه يجزئ أيضا كما نقل ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم (2) . وما يأخذه الإمام باسم المكس جاز دفعه بنية الزكاة، وتسقط وإن لم تكن على صفتها (3) .   (1) مختصر الفتاوى (271، 272) ف (2/ 103) . (2) مختصر الفتاوى (275) ف (2/ 103) . (3) اختيارات (105) ف (2/ 104) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وقال الشيخ تقي الدين: إذا وجب العشر على فلاح أو غيره وأمر ولي الأمر بصرفه إلى من يستحق الزكاة وجبت طاعته في ذلك ولم يكن لأحد أن يمتنع من ذلك (1) . وحكى أبو البركات رواية أخرى أن الدين لا يمنع في الظاهرة مطلقا، قال أبو العباس: ولم أجد بها نصا عن أحمد (2) . زكاة الباطن: وقيل: لا يجب دفع الباطن بطلبه، وقال بعضهم: وجها واحدا. وذكر شيخنا أن من أداها لم تجز مقاتلته للخلف في إجزائها ثم ذكر نص أحمد فيمن قال: أنا أؤديها ولا أعطيها للإمام، لم يكن له قتاله، ثم قال: من جوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوزه، ومن لم يجوزه إلا على ترك طاعة الله ورسوله لم يجوزه (3) . وإذا نقل الزكاة إلى المستحقين بالمصر الجامع مثل أن يعطي من بالقاهرة من العشور التي بأرض مصر فالصحيح جواز ذلك، فإن سكان المصر إنما يعانون من مزارعهم، بخلاف النقل من إقليم إلى إقليم مع حاجة أهل المنقول عنه، وإنما قال السلف، جيران المال أحق بزكاته وكرهوا نقل الزكاة إلى بلد السلطان وغيره ليكتفي أهل كل ناحية بما عندهم من الزكاة، ولهذا في كتاب معاذ بن جبل: «من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف جيرانه والمخلاف عندهم كما يقال المعاملة، وهو ما يكون فيه الوالي والقاضي، وهو الذي يستخلف فيه ولي الأمر جابيا يأخذ الزكاة من أغنيائهم فيردها على فقرائهم ولم يقيد ذلك بمسير يومين.   (1) الآداب (1/ 495) ف (2/ 104) . (2) الزركشي (2/ 485) ف (2/ 104) . (3) الفروع (2/ 557، 558) ف (2/ 104) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وتحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي. ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية (1) . ويلزم عامل الزكاة رفع حساب ما تولاه إذا طلب منه الخراج (2) . باب أهل الزكاة لا ينبغي أن تعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج إليها من المؤمنين كالفقراء والغارمين ولمن يعاونون المؤمنين، فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يعطى شيئا حتى يتوب ويلتزم بأداء الصلاة في أوقاتها (3) . إذا اشترى من قبض الزكاة ليدفعها إلى أهلها عقارا أو نحوه فإن عليه أن يؤدي إلى الثمانية الأصناف مقدار الذي قبضه وما حصل من نماء يقسمه بينه وبينهم (4) . وإذا قبض من ليس من أهل الزكاة مالا من الزكاة وصرفه في شراء عقار أو نحوه فالنماء الذي حصل بعمله وسعيه يجعل مضاربة بينه وبين أهل الزكاة (5) . والرقاب والغارمون وفي سبيل الله، وابن السبيل مصارف الزكاة فتعطى في فداء الأسرى لمن يفديهم قال شيخنا: أو يوفي ما استدين فيهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان تارة يستدين لأهل الزكاة ثم يصرفها لأهل   (1) اختيارات (99) ف (2/ 104) . (2) اختيارات (106) ف (2/ 104) . (3) الاختيارات (103) مختصر الفتاوى (275) ف (2/ 105) . (4) مختصر الفتاوى (277) ف (2/ 105) . (5) اختيارات (105) ف (2/ 105) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 الدين فعلم أن الصرف وفاء كالصرف أداء، قال: ويعطى من صار مستحقا قبل قسمة المال كزكاة (1) . ويأخذ الفقير من الزكاة ما يصير به غنيا وإن كثر، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي (2) . ويجوز للإمام أن يعتق من مال الفيء والمصالح إذا كان في الإعتاق مصلحة، إما لمنفعة المسلمين أو لمنفعة المعتق، أو تأليفا لمن يحتاج إلى تأليفه، وقد ينفذ العتق حيث لا يجوز إذا كان في الرد فساد كما في الولايات مثل أن يكون قد أسلم وهو لكافر ذمي أو معاهد حربي (3) . ومن لم يحج حجة الإسلام وهو فقير أعطي ما يحج به وهو إحدى الروايتين عن أحمد (4) . ومن ليس معه ما يشترى به كتبا يشتغل بها بعلم الدين يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري له به ما يحتاج إليه من كتب العلم التي لا بد لتعلم دينه أو دنياه منها (5) . ويجوز الأخذ من الزكاة لما يحتاج إليه في إقامة مؤنته وإن لم ينفقه بعينه في المؤنة. وقيل لأحمد رحمه الله: الرجل يكون له الزرع القائم وليس عنده ما يحصده أيأخذ من الزكاة؟ قال: نعم يأخذ (6) . ونص أحمد في فقير لقريبه وليمة: يستقرض ويهدي له ذكره أبو الحسين في الطبقات، قال شيخنا: فيه صلة الرحم بالقرض (7) .   (1) فروع (4/ 619) ف (2/ 105) . (2) اختيارات (105) ف (2/ 104، 105) . (3) اختيارات (105) ف (2/ 105) . (4) اختيارات (105) ف (2/ 105) . (5) اختيارات (105) ف (2/ 105) . (6) اختيارات (105) ف (2/ 105) . (7) الفروع (6/ 651) ف (2/ 105) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 والذي يخدمه إذا لم تكفه أجرته أعطاه من زكاته إذا لم يستعمله بدل زكاته. واليتيم المميز يقبض الزكاة لنفسه، وإن لم يكن غير مميز قبضها كافله كائنا من كان (1) . ويشترط في إخراج الزكاة تمليك المعطى (و) فلا يجوز أن يغدي المساكين ويعشيهم ولا يقضي منها دين ميت غرمه لمصلحة نفسه أو غيره حكاه أبو عبيد وابن عبد البر (ع) لعدم أهليته لقبولها، كما لو كفنه منها (ع) وحكى ابن المنذر عن أبي ثور يجوز، وعن مالك أو بعض أصحابه مثله، وأطلق صاحب التبيان الشافعي وجهين، واختاره شيخنا وذكره إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن الغارم لا يشترط تمليكه لأن الله تعالى قال: {وَالْغَارِمِينَ} ولم يقل: وللغارمين (2) . دفع الزكاة إلى الوالد لا يجوز عند الأئمة المتبوعين في المشهور عنهم؛ إلا إذا أخذها لكونه غارما لإصلاح ذات البين أو للجهاد ونحوه مما فيه مصلحة للمسلمين. وأما إذا كان غارما في مصلحة نفسه ففيه الخلاف، وجوازه قوي متجه، ويدفعها إلى أبنائه إن كان عاجزا عن نفقتهم في قول بعضهم. وإن دفعها إلى غريمه وشارطه أن يوفيه إياها فلا يجوز، وإن قصد ذلك من غير شرط ففيه نزاع. وإن دفعها لا تجب عليه نفقة من هم في عياله فيعطيهم ما لم تجر   (1) اختيارات (104) ف (2/ 105) . (2) الفروع (2/ 619، 620) فيه زيادات على ما في تفسير الآية ولم يذكر في الزكاة ف (2/ 105) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 عادتهم بإنفاقه من ماله. وإن أعطاهم ما هو معتاد إنفاقه من ماله ففيه نزاع، والمأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما المنع. وذكر أحمد رضي الله عنه عن سفيان بن عيينة قال: كان العلماء رحمهم الله يقولون: لا يحابي بها قريبا ولا يدفع بها مذلة ولا مذمة، ولا يقي بها ماله والله أعلم (1) . وإذا منع بنو هاشم حقهم من الخمس فلا يجوز لهم أخذ الصدقة إلا عند بعض المتأخرين وليس هو قولا لأحد المتبوعين (2) . وبنو هاشم إذا منعوا خمس الخمس جاز لهم الأخذ من الزكاة، وهو قول القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا، وقاله أبو يوسف من الحنفية، والإصطخري من الشافعية، لأنه محل حاجة وضرورة. ويجوز لبني هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين وهو محكي عن طائفة من أهل البيت (3) . ومن سأل وظهر صدقه وجب إطعامه لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [24،25/70] وإن ظهر كذبه لم يجب إطعامه، وإن سأل مطلقا بغير معين لم يجب أيضا، وإذا أقسم على غير معين فإن إبرار القسم إنما هو إذا أقسم على معين. وقوله: لأجل فلان من المخلوقين فلا حرمة له، وأما قوله: شيء لله ولأجل الله فيعطى لأنه سؤال وليس هذا إقسامًا (4) .   (1) مختصر الفتاوى (276، 277) ف (2/ 105) . (2) مختصر الفتاوى (277) ف (2/ 106) . (3) اختيارات (104) ف (2/ 106) قلت: وتقدم التسمية بالأشراف في أهل البيت. (4) مختصر الفتاوى (575) ف (2/ 106) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وعنه يعتبر في الإعسار ثلاثة، واستحسنه شيخنا، لأن حق الآدمي آكد فاستظهر بالثالث، ولا يقبل في الإعسار شاهد ويمين، وقال شيخنا فيه نظر (1) . وإعطاء السؤال فرض كافية إن صدقوا. ومن سأل غيره الدعاء لنفع ذلك الغير أو نفعهما أثيب، وإن قصد نفع نفسه فقط نهى عنه، كسؤال المال، وإن كان لا يأثم. وقال أبو العباس في الفتاوى المصرية: لا بأس بطلب الناس الدعاء بعضهم من بعض؛ لكن أهل الفضل يفوزون بذلك، إذ الذي يطلبون منه الدعاء إذا دعا لهم كان له من الأجر على دعائه أعظم من أجره لو دعا لنفسه وحده (2) . ولا تسقط الزكاة والحج والديون ومظالم العباد عمن مات شهيدا (3) . ويحرم المن بالصدقة وغيرها، وهو كبيرة على نص أحمد أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، ويبطل الثواب بذلك للآية، ولأصحابنا خلاف فيه، وفي بطلان طاعة بمعصية، واختار شيخنا الإحباط بمعنى الموازنة وذكر أنه قول أكثر السلف (4) . قال جماعة من أصحابنا: يجوز العمل مع السلطان وقبول جوائزه، وقيده في الترغيب بالعادل، وقيده في التبصرة بمن غلب عدله وأنها   (1) الفروع (2/ 591) ف (2/ 106) . (2) اختيارات (106) ف (2/ 106) . (3) اختيارات (106) ف (2/ 106) . (4) فروع (2/ 651، 652) ف (2/ 106) قلت، وتقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 تكره في رواية، وقيل للإمام أحمد في جائزته ومعاملته فقال: أكرههما وجائزته أحب إلي من الصدقة وقال: هي خير من صلة الإخوان وأجرة التعليم خير منهما، ذكره شيخنا وقال أيضا: ليس بحرام (1) .   (1) الفروع (2/ 661) ف (2/ 106) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 كتاب الصيام والمستحب قول شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} [185/2] ولا يكره قول رمضان بإسقاط الشهر (وهـ) وأكثر العلماء، وذكر الشيخ: يكره إلا مع قرينة الشهر وفاقا لأكثر الشافعية، وذكر شيخنا وجها يكره وفاقا للمالكية (1) . وعند شيخنا: لا يقضي متعمد بلا عذر (خ) صوما ولا صلاة، قال: ولا يصح منه، وأنه ليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه وضعف أمره عليه السلام المجامع بالقضاء لعدول البخاري ومسلم عنه (2) . وإن حال دون رؤية الهلال ليلة الثلاثين غيم أو قتر فصومه جائز لا واجب ولا حرام، وهو قول طوائف من السلف والخلف، وهو مذهب أبي حنيفة والمنقولات المستفيضة عن أحمد إنما تدل على هذا، ولا أصل للوجوب في كلامه ولا في كلام أحد من الصحابة رضي الله عنهم (3) .   (1) الفروع (3/ 4) ف (2/ 107) . (2) الفروع (3/ 97) والاختيارات (209) هنا جزم ف (2/ 107) . (3) اختيارات (107) والفروع (3/ 7) ف (2/ 107) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 وحكي عن أبي العباس أنه كان يميل أخيرًا إلى أنه لا يستحب صومه (1) . ومن تجدد له الصوم بسبب كما إذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار فإنه يتم بقية يومه، ولا يلزمه قضاء وإن كان قد أكل (2) . والمريض إذا خاف الضرر استحب له الفطر، والمسافر الأفضل له الفطر فإن أضعفه الصوم عن الجهاد كره له بل يجب منعه إن منعه عن واجب آخر (3) . قال ابن القيم رحمه الله: وأجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله وأفتى به لما نازل العدو دمشق في رمضان، فأنكر عليه بعض المتفقهين وقال: ليس هذا سفر طويل، فقال الشيخ: هذا فطر للتقوي على جهاد العدو، وهو أولى من الفطر للسفر يومين سفرا مباحًا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم، وربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة الإسلام وهل يشك ففيه أن الفطر ههنا أولى من فطر المسافر وقد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا على عدوهم فعل ذلك للقوة على العدو لا للسفر والله أعلم (4) . إذا دخل المسافر فنوى الإقامة في رمضان أقل من أربعة أيام فله أن يفطر (5) .   (1) اختيارات (107) فيه زيادة ذكر ميله رحمه الله ف (2/ 107) . (2) اختيارات (107) فيه زيادة ف (2/ 110) . (3) اختيارات (107) هذا ملخص ف (2/ 110) . (4) بدائع (4/ 45) ف (2/ 110) . (5) مختصر الفتاوى (288) الاختيارات (107) ف (2/ 110) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وهل يجب تعيين النية لرمضان؟ فمذهب مالك والشافعي تجب فلو نوى نية مطلقة أو معلقة لم تجزه. وعند أبي حنيفة: لا يجب التعيين فلو نوى نية مطلقة أو معلقة تقع عن رمضان في هذه الصورة وفي هذه الصورة في مذهب أحمد ثلاثة أقوال: أحدها: كمذهب مالك والشافعي يجب. والثاني: كقول أبي حنيفة. والثالث: تقع عن رمضان مع الإطلاق لا مع نية غير رمضان، وهذا اختيار الخرقي في شرح المختصر واختيار جدي المجد عبد السلام وغيرهم. والذي يجب أن يفرق بين العالم والجاهل، فمن علم أن غدا من رمضان ولم ينوه بل نوى غيره فقط ترك الواجب فلم يجزه ومن لم يعلم فنوى صوما مطلقا للاحتياط أو صوما مقيدا فهذا إذا قيل بجوازه كان متوجها (1) . وإن نوى نذرا أو نفلا ثم بان من رمضان أجزأه إن كان جاهلا، كمن دفع وديعة رجل إليه على طريق التبرع ثم تبين أنها كانت حقه فإنه لا يحتاج إلى إعطاء ثان؛ بل يقول له: الذي وصل إليك هو كان عندي لك (2) . ومن خطر في قلبه أنه صائم غدا فقد نوى.   (1) مختصر الفتاوى (283) ف (2/ 111) فيه زيادة وثلاثة أسطر غير موجودة هناك ف (2/ 111) . (2) اختيارات (107) ف (2/ 111) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 والصائم لما يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصيام؛ ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي رمضان. وتصح النية المترددة كقوله: إن كان غدا من رمضان فهو فرض وإلا فهو نفل، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (1) . وإذا نوى صيام التطوع بعد الزوال ففي ثوابه روايتان عن أحمد. والأظهر الثواب، وإذالم ينو الصوم ولكن إذا أشهى الأكل واستمر به الجوع فهذا يكون جوعه من باب المصائب التي تكفر بها خطاياه ويثاب على صبره عليها، ولا يكون من باب الصوم الذي هو عبادة يثاب عليها ثواب الصوم، والله سبحانه وتعالى أعلم (2) . «ومن فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء» صححه الترمذي من حديث زيد بن خالد. وظاهر كلامهم من أي شيء كان كما هو ظاهر الخبر، وكذا رواه ابن خزيمة من حديث سلمان الفارسي وذكر فيه ثوابا عظيما إن أشبعه، وقال شيخنا: مراده بتفطيره أن يشبعه (3) . باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة ولا يفطر الصائم بالاكتحال والحقنة وما يقطر في إحليله ومداواة المأمومة والجائفة وهو قول بعض أهل العلم، ويفطر بإخراج الدم بالحجامة وهو مذهب أحمد، وبالفصد والتشريط وهو وجه لنا، أو بإرعاف نفسه وهو قول الأوزاعي، ويفطر الحاجم إن مص القارورة (4) .   (1) اختيارات (107) فيه زيادة إيضاح ف (2/ 111) . (2) اختيارات (107، 108) ف (2/ 111) . (3) الفروع (3/ 73) ف (2/ 111) . (4) اختيارات (108) فيه زيادة واختصار ف (2/ 111) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 ولا يفطر بمذي بسبب قبلة أو لمس وتكرار نظر، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وبعض أصحابنا (1) . وأما من طلع عليه الفجر وهو مجامع فالواجب عليه النزع عينا، ويحرم عليه استدامة الجماع واللبث، وإنما اختلف في وجوب القضاء والكفارة عليه على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، أحدها: عليه القضاء والكفارة، وهذا اختيار القاضي أبي يعلى، والثاني: لا شيء عليه، وهذا اختيار شيخنا (2) . ومن جامع جاهلاً بالرفث فلا قضاء عليه وهو إحدى الروايتين عن أحمد (3) . وإذا أكره الرجل زوجته على الجماع في رمضان يحمل عنها ما يجب عليها، وهل تجب كفارة الجماع في رمضان لإفساد الصوم الصحيح، أو لحرمة الزمان؟ فيه قولان: الصواب الثاني (4) . ونقل طائفة عن طائفة من السلف: أن الغيبة والنميمة ونحوهما تفطر الصائم وذكر وجها في مذهب أحمد. وتحقيق الأمر في ذلك: أن الله تعالى أمر بالصيام لأجل التقوى، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» فإذا لم تحصل له التقوى لم يحصل له مقصود الصوم فينقص من أجر الصوم بحسب ذلك. والأعمال الصالحة لها مقصودان: حصول الثواب، واندفاع العقاب.   (1) اختيارات (112) ف (2/ 112) . (2) مفتاح دار السعادة (436) والفروع (3/ 75) ف (2/ 112) . (3) اختيارات (109) ف (2/ 112) . (4) اختيارات (109) ف (2/ 112) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 فإذا فعلها مع المنهيات من الغيبة والنميمة وأكل الحرام وغيره فاته الثواب. فقول الأئمة: لا يفطر، أي لا يعاقب عقاب المعلن بالفطر. ومن قال: إنه يفطر بمعنى أنه لم يحصل له مقصود الصوم أو قد يذهب بأجر الصوم فقوله موافق لقول الأئمة. ومن قال: إنه يفطر بمعنى أنه يعاقب على الترك فهو مخالف لأقوالهم (1) . باب ما يكره ويستحب وحكم القضاء وإذا ذاق طعامًا ولفظه أو وضع في فيه عسلاً ومجه فلا بأس به للحاجة كالمضمضة والاستنشاق (2) وشم الروائح الطيبة لا بأس به للصائم (3) . وإذا شتم الصائم استحب له أن يجهر بقوله: «إني صائم» ، وسواء كان الصوم فرضا أو نفلا، وهو أحد الوجوه في مذهب أحمد (4) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من فطر صائما فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء» صححه الترمذي من حديث زيد بن خالد والمراد بتفطيره أن يشبعه (5) . وإن تبرع إنسان بالصوم عمن لم يطقه لكبر ونحوه أو عن ميت   (1) مختصر الفتاوى (289) ف (2/ 112) . (2) اختيارات (112) ف (2/ 112) (3) اختيارات (112) ف (2/ 112) . (4) اختيارات (109) والفروع (3/ 66) ف (2/ 112) . (5) وتقدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وهما معسران توجه جوازه؛ لأنه أقرب إلى المماثلة من المال، وحكى القاضي في صوم النذر في حياة الناذر نحو ذلك. ومن مات وعليه صوم نذر أجزأ الصوم عنه بلا كفارة. وما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المجامع في رمضان بالقضاء، فضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه (1) . وإذا شرعت المرأة في قضاء رمضان وجب عليها إتمامه، ولم يكن لزوجها تفطيرها، وإن أمرها أن تؤخر القضاء قبل الشروع فيه كان حسنا، لحديث عائشة (2) . باب صوم التطوع ويستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر للأخبار الصحيحة وفي بعضها «هو كصوم الدهر» والمراد بذلك أن من فعل هذا حصل له أجر صيام الدهر من غير حصول مفسدة (3) . وصوم الدهر: الصواب قول من جعله تركًا للأولى أو كرهه، فعلى الأول صوم وفطر يوم أفضل منه خلافا لطائفة من العباد، ذكره شيخنا (4) . سئل - صلى الله عليه وسلم -: أي الصيام أفضل؟ فقال: «شهر الله الذي تدعونه المحرم» . قال شيخنا: ويحتمل أن يريد بشهر الله المحرم أول العام، وأن يريد به الأشهر الحرم، والله أعلم (5) .   (1) وتقدم. (2) اختيارات (109) ف (2/ 112) . (3) اختيارات (109) ف (2/ 113) . (4) فروع (3/ 115) ف (2/ 113) . (5) أعلام (4/ 293) ف (2/ 113) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة. ولا يكره إفراد العاشر بالصوم، وقد أمر أحمد بصومهما، ووافق شيخنا المذهب أنه لا يكره، وقال: مقتضى كلام أحمد يكره، وهو قول ابن عباس وعن أحمد: وجب ثم نسخ، اختاره شيخنا، ومال إليه الشيخ (1) . ويكره موسم خاص: كالرغائب، وليلة النصف من شعبان، وهو بدعة. وأما ما يروى في الكحل يوم عاشوراء أو الخضاب، أو الاغتسال، أو المصافحة أو مسح رأس اليتيم أو أكل الحبوب، أو الذبح، أو نحو ذلك لا يستحب منه شيء عند أئمة الدين، بل ينهى عنه. وما يفعله الرافضة في يوم عاشوراء، من النياحة والندب والمأتم وسب الصحابة رضي الله عنهم هو أيضًا من أعظم البدع والمنكرات، وكل بدعة ضلالة هذا، وهذا، وإن كان بعض البدع والمنكرات أغلظ من بعض (2) . وصيام يوم عرفة كفارة سنتين، فإن غم هلال ذي الحجة أو شهد برؤيته من لا تقبل شهادته إما لانفراده بالرؤية أو لكونه ممن لا يجوز قبول قوله ونحو ذلك واستمر الحال على إكمال ذي القعدة فصوم يوم التاسع الذي هو يوم عرفة من هذا الشهر المشكوك فيه جائز بلا نزاع، وأما من شهد بهلال ذي الحجة من يثبت الشهر به لكن لم يقبله الحاكم، إما لعذر ظاهر، وإما لتقصير في أمره فقال أبو العباس: هذه الصورة تخرج على الخلاف المشهور في مسألة المنفرد بهلال شوال:   (1) اختيارات (110) والفروع (3/ 113) ف (2/ 113) . (2) اختيارات (243، 244) فيه زيادات ف (2/ 113) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 هل يفطر عملا برؤيته، أم لا يفطر إلا مع الناس؟ في ذلك قولان مشهوران، فعلى قول من يقول: لا يفطر المنفرد برؤية هلال شوال بل يصوم ولا يفطر إلا مع الناس فإنه يقول: لا يستحب صوم يوم عرفة للشاهد الذي لم تقبل شهادته بهلال ذي الحجة، ومن قال في الشاهد بهلال شوال يفطر سرا قال هنا إنه يفطر ولا يصوم لأنه يوم عيد في حقه، ولكن لا يضحي ولا يقف بعرفة بذلك (1) . قال ابن القيم رحمه الله: وقد ذكر لفطره بعرفة عدة حكم، منها: أنه أقوى على الدعاء، ومنها: أن الفطر في السفر أفضل في فرض الصوم فكيف بنفله، ومنها: أن ذلك اليوم كان يوم جمعة وقد نهى عن إفراده بالصوم فأحب أن يرى الناس فطره فيه تأكيدا لنهيه عن تخصيصه بالصوم وإن كان صومه لكونه يوم عرفة لا يوم جمعة. وكان شيخنا رضي الله عنه يسلك مسلكا آخر، وهو أنه يوم عيد لأهل عرفة لاجتماعهم فيه كاجتماع الناس يوم العيد، وهذا الاجتماع يختص بمن بعرفة دون أهل الآفاق، قال وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا في الحديث الذي رواه أهل السنن: «يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام» ، ومعلوم أن كونه عيدًا هو لأهل ذلك المجمع لاجتماعهم فيه، والله أعلم (2) . (3) . ومن صام رجب معتقدا أنه أفضل من غيره من الأشهر أثم وعزر، وعليه يحمل فعل عمر، وفي تحريم إفراده وجهان. ومن نذر صومه كل سنة أفطر بعضه وقضاه، وفي الكفارة خلاف، وأما من صام الأشهر الحرم الثلاثة فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يصوم شهرا كاملا إلا شهر رمضان،   (1) اختيارات (110) ف (2/ 113) . (2) زاد المعاد (1/ 168) ف (2/ 113) . (3) قلت: وتقدم حكم صوم يوم وفطر يوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وكان يصوم أكثر شعبان ولم يصح عنه في رجب شيء، وإذا أفطر الصائم بعض رجب وشعبان كان حسنا، ولا يكره صوم العشر الأواخر من شعبان عند أكثر أهل العلم (1) . وإفراد رجب بالصوم مكروه، نص على ذلك الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما، وسائر الأحاديث التي وردت في فضل الصوم فيه موضوعة، لكن لو صام أكثره فلا بأس. فلو نذر صومه قصدا فهو مثل من نذر صوم يوم الجمعة وغيره من العبادات المكروهة، والواجب أن يصوم شهرا آخر، وهل عليه كفارة يمين؟ على قولين لنا ولغيرنا، وإنما يلزم الوفاء بما كان طاعة بدون النذر، والنذر في نفسه ليس بطاعة ولكن يجعل الطاعة واجبة، والصلاة في وقت النهي منهي عنها فلا تصير بالنذر طاعة واجبة (2) . ولا يكره إفراد يوم السبت بالصوم (3) . قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بشر، منها حديث أم سلمة يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم السبت والأحد، ويقول: «هما عيدان للمشركين فأنا أحب أن أخالفهما» رواه أحمد والنسائي وإسناده جيد، واختار شيخنا أنه لا يكره وأنه قول أكثر العلماء، وأنه الذي فهمه الأثرم من روايته، وأنه لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فالحديث شاذ أو منسوخ، وأن هذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم وأبي داود، وأن أكثر أصحابنا فهم من كلام أحمد   (1) اختيارات (111) ف (2/ 113) . (2) مختصر الفتاوى (288) ف (2/ 113) . (3) اختيارات (111) ف (2/ 113) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 الأخذ بالحديث (1) ، ولم يذكر الآجري غير صوم يوم الجمعة فظاهره لا يكره غيره (2) . ولا يجوز تخصيص صوم أعياد المشركين، ولا صوم يوم الجمعة ولا قيام ليلتها (3) . ورمضان أفضل الشهور، ويكفر من فضل رجبا عليه (4) . وليلة القدر أفضل الليالي (5) . ومن العجب أن طائفة من أصحاب أحمد فضلوا ليلة الجمعة على ليلة القدر، ورأوا أن إحياءها أفضل من إحياء ليلة القدر، وقد ثبت في الصحيح النهي عن تخصيصها بقيام؛ مع أنه ثبت بالتواتر أن ليلة القدر أمر الله بالقيام فيها، وأنه - صلى الله عليه وسلم - حض على قيامها، وأنه لا عدل لها في ليالي العام (6) . والأوتار هي باعتبار ما مضى، أو باعتبار ما بقي؟ فليلة إحدى وعشرين وثلاثة، وخمسة وسبعة وتسعة باعتبار ما مضى، وباعتبار ما بقي لتسع بقين وسبع بقين ونحو ذلك فإذا كان الشهر ناقصًا فقيل لتسع كانت ليلة إحدى وعشرين فيكون وتر المستقبل والماضي، وإن كان الشهر كاملا كانت الأوتار هي الأشفاع باعتبار الماضي كما فسره أبو سعيد رضي الله عنه وغيره.   (1) حديث الصماء لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم. (2) الفروع (3/ 124) ف (2/ 113) . (3) اختيارات (111) ف (2/ 113) . (4) اختيارات (113) ف (2/ 114) . (5) اختيارات (112) ف (2/ 114) . (6) مختصر الفتاوى (86) ف (2/ 114) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 ولهذا كانت ليلة القدر كثيرًا ما تكون لسبع مضين ولسبع بقين فتكون ليلة أربع وعشرين وهي التي روي أن القرآن نزل فيها. فالتحقيق أنها تكون في العشر الأواخر، في الأوتار، لكن بالاعتبارين. فأما ليلة سبع عشرة من رمضان فلا ريب أنها ليلة بدر يومها هو: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [41/8] ولم يجئ حديث يعتمد عليه أنها ليلة القدر إن كان قد قاله بعض الصحابة، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «من يقم الحول يصبها» ، وبعضهم يعين لها ليلة من العشر الأواخر. الصحيح أنها في العشر الأواخر تنتقل، فروى البخاري: «ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» . والأحاديث المروية أنها في أول ليلة المحرم، أو ليلة عاشوراء، أو أول ليلة من رجب، أو أول ليلة جمعة من رجب، أو ليلة سبع وعشرين، أو ليلة العيدين، وفي الصلاة الألفية ليلة النصف كلها كذب موضوعة، لم يكن أحد يأمر بتخصيص هذه الليالي بقيام ولا صلاة أصلا (1) . باب الاعتكاف وأحكام المساجد ومن نذر الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة تعين ما امتاز على غيره بمزية شرعية: كقدم، وكثرة جمع، اختاره أبو العباس في موضع، وحكى في موضع آخر وجهين في مذهبنا (2) .   (1) مختصر الفتاوى (85) من قوله: ولهذا كانت ليلة القدر إلخ غير موجودة في (25/ 384) ف (2/ 114) . (2) اختيارات (113، 114) والفروع (3/ 165) ف (2/ 115) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 «اعتكف العشر» يدخل فيه الليل (1) . ولم ير أبو العباس لمن قصد المسجد للصلاة، أو غيرها أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه (2) . ليس للمعتكف أن يخيط ثوبا، وقيل: يجوز أن يخيط لنفسه لا ليكتسب وقيل: بجواز اليسير، وهذه الثلاثة الأقوال في المذهب (3) . وحكى الشيخ تقي الدين رحمه الله عن الجمهور استحباب المجاورة بمكة، قال: قالوا: ولأن المجاورة بها من تحصيل العبادات وتضعيفها ما لا يكون في بلد آخر، ولأن الصلاة فيها تتضاعف هي وغيرها من الأعمال انتهى (4) . أحكام المساجد وينشأ مسجد إلى جنب آخر إذا كان محتاجا إليه، ولم يقصد الضرر، فإن قصد الضرر أو لا حاجة، فلا ينشأ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، نقلها عن محمد بن موسى، ويجب هدمه وقاله أبو العباس فيما بني بجوار جامع بني أمية (5) . وليس له البول في المسجد ولو في وعاء، وقال في موضع آخر في البول حول البركة في المسجد هذا يشبه البول في قارورة في المسجد ومنهم من نهى عنه، ومنهم من رخص فيه للحاجة، فأما اتخاذه مبالا فلا (6) .   (1) مختصر الفتاوى (39) ف (2/ 115) . (2) اختيارات (114) ف (2/ 115) . (3) مختصر الفتاوى (292) ف (2/ 115) . (4) الآداب (3/ 427) ف (2/ 115) . (5) اختيارات (72) ف (2/ 115) . (6) الاختيارات (9) قلت، وقد تقدم في باب الاستنجاء وله مناسبة هنا ف (2/ 115) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 والنهي عن قربان المسجد لمن أكل الثوم ونحوه عام في كل مسجد عند عامة العلماء، وحكى القاضي عياض أن النهي خاص بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . قال الشيخ تقي الدين: المعاصي في الأيام المعظمة والأمكنة المعظمة تغلظ معصيتها وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان، انتهى كلامه (2) . ومنع شيخنا اتخاذه طريقا، قال: والاتخاذ والاستئجار كبيع وشراء وقعود صانع وفاعل فيه لمن يكتريه كبضاعة لمشتر لا يجوز (3) . ويجوز تعليم القرآن في المسجد إذا لم يكن فيه ضرر على المسجد وأهله، بل يستحب (4) . والسنة في المسجد أن من سبق إلى بقعة لعمل جائز فهو أحق به حتى يقوم منه، لكن المصلون أحق بالسواري. ويجوز نصب خيمة وسترة لمن يعتكف. وكذلك لو أقام الرجل مدة إقامة مشروعة، كما أذن - صلى الله عليه وسلم - لوفد ثقيف أن ينزلوا بالمسجد ليكون أرق لقلوبهم، وأقرب لدخول الإيمان فيها، وكما مرض سعدا فيه ليكون أسهل لعيادته، وكالمرأة التي كانت تقم المسجد كان لها خص فيه (5) .   (1) الاختيارات (44) ف (2/ 115) . (2) الآداب (3/ 430) ف (1/ 304) وتقدم. (3) فروع (4/ 635) فيه زيادة ف (2/ 115) . (4) فروع (4/ 635) فيه زيادة ف (2/ 115) . (5) مختصر الفتاوى (64) واختيارات (265) ف (2/ 115) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 كتاب الحج والبيت زاده الله تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا له الشرف من وجوه كثيرة. منها: نفس البقعة شرفها الله على غيرها، كما شرف في بقية الأنواع بعض أشخاصها وكما خص بعض الناس بنوع من الفضل. ومنها: أن الله بوأه لخليله إبراهيم خير البرية، فليس بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من إبراهيم الذي بناه ودعا الناس إليه. ومنها: أنه جعل على الناس حج البيت، حتى حجه الأنبياء كموسى ويونس وغيرهما. وفيه آيات كثيرة: مثل مقام إبراهيم، ومثل الأمان الذي جعله للناس والطير والوحش. ومثل إهلاك الجبابرة الذين قصدوا انتهاكه، إلى غير ذلك من العلامات والدلالات على حرمته وعظمته. {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [97/3] فلا يقتل الجاني فيه عند أحمد وأبي حنيفة، وكان الكفار يعظمونه حتى ليلقى الرجل قاتل أبيه فلا يقتله. والإسلام زاده حرمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وأما أن يظن أن من دخله كان آمنا من عذاب الله مع تركه الفرائض واتخاذه الأنداد من دون الله فخلاف إجماع المسلمين (1) . ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية وإن كانا فاسقين، وهو ظاهر إطلاق أحمد، وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر عليه، فإن شق عليه ولم يضره وجب، وإلا فلا، ولم يقيده أبو عبد الله لسقوط الفرائض بالضرر، وتحرم الطاعة في المعصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فحينئذ ليس للأبوين منع ولدهما من الحج الواجب؛ لكن يستطيب أنفسهما فإن أذنا وإلا حج. وليس للزوج منع زوجته من الحج الواجب مع ذي محرم، وعليها أن تحج وإن لم يأذن في ذلك، حتى إن كثيرا من العلماء أو أكثرهم يوجبون لها النفقة (2) . والحج واجب على الفور عند أكثر العلماء. ومن وجب عليه الحج فتوفي قبله وخلف مالاً حج عنه في أظهر قولي العلماء. وإذا وجب الحج على المحجور عليه لم يكن لوليه منعه منه على الوجه الشرعي، والتجارة ليست محرمة؛ لكن ليس للإنسان أن يفعل ما يشغله عن الحج. ومن أراد سلوك طريق يستوي فيها السلامة والهلاك وجب عليه الكف عن سلوكها، فإن لم يكف فيكون قد أعان على هلاك نفسه فلا يكون شهيدًا.   (1) مختصر الفتاوى (301) ف (2/ 116) . (2) اختيارات (115) ف (2/ 116) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 وتجوز الخفارة عند الحاجة إليها في الدفع عن المخفر، ولا يجوز مع عدمها، كما يأخذ السلطان من الرعايا. وتحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم، قال أبو العباس: وهذا متوجه في سفر كل طاعة. وأما إماء المرأة فيسافرون معها ولا يفتقرن إلى المحرم، لأنه لا محرم لهن في العادة الغالبة، فأما عتقاؤها من الإماء فقد بيض لذلك أبو العباس. وصحح أبو العباس في الفتاوى المصرية أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع زوج أو ذي محرم. والمحرم زوج المرأة أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب، ولو كان النسب وطء شبهة لا زنا، وهو قول أكثر العلماء واختاره ابن عقيل (1) . وعند شيخنا تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، وقال: إن هذا متوجه في كل سفر طاعة، ونقله الكرابيسي عن الشافعي في حجة التطوع، وقاله بعض أصحابه فيه وفي كل سفر غير واجب كزيارة وتجارة، وقاله الباجي المالكي في كبيرة غير مشتهاة، وذكر أبو الخطاب رواية المروذي ثم قال: وظاهره جواز خروجها بغير محرم ذكره شيخنا في مسألة العجوز تحضر الجماعة هذا كلامه (2) . وذكر صاحب المحرر عن نقل أسماء النوى على رأسها للزبير نحو ثلثي فرسخ من المدينة أنه حجة في سفر المرأة السفر القصير بغير محرم، ورعي جارية معاوية بن الحكم في معناه وأولى، فيتوجه على هذا الخلاف، وأما كلام شيخنا ومعناه لغيره فيجوز مثل هذا قولاً.   (1) الاختيارات (115، 116) ف (2/ 117) . (2) الفروع (3/ 236) ف (2/ 117) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 واحدا لأنه ليس بسفر شرعا ولا عرفا ولا يتأهب له أهبته (1) . قال شيخنا: ويحرم سفره بأخت زوجته ولو معها، قال في ميت عن امرأة شهد قوم بطلاقه ثلاثا مع علمهم عادة بخلوته بها، لا يقبل؛ لأن إقرارهم يقدح فيهم (2) . ولا يجوز تكليف الأمة بالرعي، لأن السفر مظنة الطمع [وقد لا يوجد من يذب عنها] (3) . الحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست بواجبة، وأما إن كان له أقارب محاويج، أو هناك فقراء تضطرهم الحاجة إلى نفقة فالصدقة عليهم أفضل. أما إذا كان كلاهما تطوعا فالحج أفضل، لأنه عبادة بدنية ومالية، وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك لكن بشرط أن يقيم الواجب في الطريق (4) ، ويترك المحرمات، ويصلي الصلوات ويصدق الحديث ويؤدي الأمانة، ولا يتعدى على أحد، فمن فعل شيئا من تلك المحرمات فقد يكون إثمه أعظم من أجره، فأي فضيلة في هذا؟ قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [197/2] فيه قراءتان {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} بالرفع {وَلَا جِدَالَ} بالفتح: والقراءة الثانية التسوية بين الكل بالفتح.   (1) فروع (5/ 603) ف (2/ 117) . (2) فروع (5/ 558) ف (2/ 117) . (3) فروع (5/ 602، 603) . (4) لأنه عبادة بدنية ومالية وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك، زيادة في الاختيارات عما في مختصر الفتاوى وكذلك قوله في الطريق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 فالقراءة الأولى توافق الحديث الذي في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» جعل الوعد بالمغفرة لمن لم يرفث ولم يفسق. فالمنهي عنه المحرم في الآية: هو «الرفث» ، وهو الجماع ودواعيه قولا وفعلا، و «الفسوق» ، هو المعاصي كلها، هذا الذي نهى عنه المحرم. وقوله: {وَلَا جِدَالَ} نهى المحرم عن الجدال مطلقا، بل الجدال بالتي هي أحسن قد يؤمر به المحرم وغيره. والمعنى أنه أمر الحج قد بينه الله وأوضحه فلم يكن فيه جدال. وأما القراءة الأخرى، فقالوا في أحد القولين: نهي المحرم عن الثلاثة: الرفث والجماع وذكره، و «الفسوق» ، وهو السباب والجدال. والتحقيق: أن الفسوق أعم من السباب، والجدال المكروه المحرم هو المراد. والخصومة من الجدال لقوله - صلى الله عليه وسلم - «من ترك المراء وهو محق بني الله له بيتا في أعلى الجنة، ومن تركه وهو مبطل بنى الله له بيتا في ربض الجنة» . وقالوا في القول الآخر: حكم هذه القراءة حكم الأولى في أن المراد نهي المحرم عن الرفث والفسوق وهي المعاصي كلها. وبين الله بعد ذلك أن الحج قد اتضح أمره، فلا جدال بالباطل أي لا تجادلوا فيه بغير حق، فقد ظهر وبان، وهذا القول أصح لموافقته الحديث المتقدم، فإن فيه «من حج فلم يرفث ولم يفسق» فقط. وبكل حال فالحاج مأمور بالبر والتقوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 و"البر" إطعام الطعام، وإفشاء السلام، كذا روي في الحديث، وهو يتضمن الإحسان إلى الناس بالنفس والمال. وإذا حصل من الحاج المشاجرة والخصومة والسب فكفارته الاستغفار وفعل الحسنات الماحية إلى من جهل عليه وغيره، فيحسن إليه ويستغفر له ويدعو له ويداريه ويلاينه، وإن اغتاب غائبا وهو لم يعلم دعا له ولا يحتاج إلى إعلامه في أصح قولي العلماء (1) . قال شيخنا: قوله عليه السلام: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» يدخل فيه بإحرام العمرة ولهذا أنكر أحمد على من قال: إن حجة التمتع حجة مكية، نقله الأثرم وهي عند أحمد بعض حجة الكامل بدليل صومها (2) . وعنه العمرة سنة (وهـ م ق) اختاره شيخنا (3) . ومن استطاع الحج بالزاد والراحلة وجب عليه الحج بالإجماع، فإن خرج عقيب ذلك بحسب الإمكان ومات في الطريق وقع أجره على الله ومات غير عاص، وإن كان فرط ثم خرج بعد ذلك ومات قبل الحج مات عاصيا، وله أجر ما فعله، ولم يسقط عنه الفرض؛ بل يحج عنه من حيث بلغ (4) . ويجوز حجه عنها (المرأة) اتفاقا، وفي جواز حجها عنه نزاع (5) . ومن جرد مع الحاج أو غيره وجمع له من الجند المقطعين ما   (1) مختصر الفتاوى (293، 294) ف (2/ 116، 124) . (2) فروع (3/ 529) ف (2/ 116، 124) . (3) الفروع (3/ 204) ف (2/ 116، 124) (4) مختصر الفتاوى (317) ف (2/ 116) . (5) مختصر الفتاوى (172) ف (2/ 117) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 يعينه على كلفة الطريق أبيح له أخذه، ولا ينقص أجره، وله أجر الحج والجهاد وليس في هذا اختلاف (1) . وهذا كأخذ بعض الإقطاع ليصرفه في المصالح، وليس في هذا اختلاف ويلزم المعطي بذل ما أمر به (2) . ومن كان قادرا على الكسب ويأكل من صدقات الناس فهو مذموم على ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - «لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب» . وأما سؤال الناس مع القدرة على الكسب فهو حرام بلا نزاع؛ فمن حج على أن يسأل مع إمكان القعود فهو عاص، فقد جاء بضعة عشر حديثا في النهي عن المسألة (3) . ومن اغتصب إبلا أو اشتراها بثمن مغصوب أو بعضه وأراد الحج وليس له مال يحج به غيره فإنه يجب عليه أن يعوض أربابها إن أمكن معرفتهم، وإلا تصدق بقيمة الثمن عنهم، فإن عجز عن الصدقة، تصدق وقت قدرته بعد ذلك، وإن عرفهم في قرية ولا يعرف أعيانهم تصدق على فقراء تلك القرية وقد طاب له الحج، والله أعلم (4) . ومن حج بمال حرام لم يتقبل الله منه حجه، وهل عليه الإعادة؟ على قولين للعلماء (5) . باب المواقيت وكذلك يكره الخروج من مكة لعمرة تطوع، وذلك بدعة لم يفعله   (1) اختيارات (119) ف (2/ 117) . (2) فروع (2/ 117) . (3) مختصر الفتاوى (575) ف (2/ 117) . (4) مختصر الفتاوى (297) ف (2/ 117) . (5) مختصر الفتاوى (295) ف (2/ 117) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه على عهده لا في رمضان ولا في غيره، ولم يأمر عائشة بها؛ بل أذن لها بعد المراجعة تطييبا لقلبها، وطوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقا، ويخرج عند من لم يكرهه على سبيل الجواز (1) . باب الإحرام ويستحب للمحرم الاشتراط إن كان خائفا وإلا فلا جمعا بين الأخبار (2) . ويقول: «لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» «لبيك إن» بكسر الهمزة عند أحمد. قال شيخنا: هو أفضل عن أصحابنا والجمهور؛ فإنه حكي عن محمد بن الحسن والكسائي والفراء وغيرهم وقاله الحنفية والشافعية، وحكي الفتح عن أبي حنيفة وآخرين: قال ثعلب: من كسر فقد عم. يعني حمد الله على كل حال، قال: ومن فتح فقد خص، أي لأن الحمد لك، أي لهذا السبب (3) . باب محظورات الإحرام ويقتل النملة إذا عضته، والنحلة إذا آذته، واختار شيخنا: لا يجوز قتل نحل ولو بأخذ كل عسله، قال هو وغيره: إن لم يندفع ضرر نمل إلا بقتله جاز، قال أحمد: يدخن للزنابير إذا خشي أذاهم أحب إلي من تحريقه، والنمل إذا آذاه يقتله (4) .   (1) اختيارات (119) والفروع (3/ 528) فيه التصريح بالحكم ف (2/ 117) . (2) الاختيارات (116) الفروع (3/ 297) ف (2/ 119) . (3) الفروع (4/ 240) ف (2/ 119) . (4) الفروع (3/ 440) ف (2/ 123) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 ونقل ابن منصور والميموني وابن الحكم فيمن وطئ بعد الرمي ينتقض إحرامه ويعتمر من التنعيم فيكون إحرام مكان إحرام، فهذا المذهب أنه يفسد الإحرام بالوطء بعد رمي جمرة العقبة، ويلزمه أن يحرم من الحل ليجمع بين الحل والحرم ليطوف في إحرام صحيح، لأنه ركن الحج كالوقوف، وإذا أحرم طاف للزيارة وسعى ما لم يكن سعى وتحلل؛ لأن الإحرام إنما وجب ليأتي بما بقي من الحج، هذا ظاهر كلام الخرقي واختاره الشيخ وغيره، وقال: ويحتمل أن الإمام أحمد والأئمة أرادوا هذا وسموه عمرة؛ لأن هذه أفعالها، ويحتمل أن يريدوا عمرة حقيقية فيلزمه سعي وتقصير، واختيار شيخنا كالشيخ، قال: سواء بعد أو لا، ومعناه كلام غيره، وقاله القاضي في المجرد، وقال: شيخنا أيضا: يعتمر مطلقا وعليه نصوص أحمد وجزم به القاضي في الخلاف وابن عقيل في مفرداته وابن الجوزي في كتاب أسباب الهداية وغيرهم (1) . وإذا تعدى أحد على الركب في الطريق أو في مكة فدفعهم الركب عن أنفسهم كالصائل فيجوز الدفع مع الركب، بل يجب دفع هؤلاء عن الركب. وإذا تعدى على أهل مكة أو غيرهم، فلا يعينهم على ذلك، وإذا وجد مع الركب جائعا أو عطشانا فعليه أن يبذل ما فضل عن حاجته فأما ما يحتاج إليه فلا يجب بذله، ولو وجد ميتا فليس عليه أن يتخلف ليدفنه بحيث يخاف الانقطاع (2) . وقال شيخنا: إن تعدى أهل مكة أو غيرهم، على الركب دفع   (1) الفروع (3/ 397، 398) ف (2/ 124) . (2) الاختيارات (118) ف (2/ 124) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 الركب كما يدفع الصائل، وللإنسان أن يدفع مع الركب بل يجب إن احتيج إليه (1) . ولا تعصم الأشهر الحرم للعمومات، ولغزو الطائف، وتردد كلام شيخنا (2) . باب الفدية والمحرم إن احتاج وقطع شعره لحجامة أو غسل لم يضره، والقمل والبعوض والقراد إن قرصه قتله مجانا، وإلا فلا يقتله، ولا يجوز قتل النحل ولو بأخذ كل عسله، وإن لم يندفع ضرره إلا بقتله جاز (3) . باب دخول مكة ويسن أن يستقبل الحجر الأسود وفي الطواف (4) . صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال حين أراد تقبيل الحجر الأسود: «إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك» ، وزاد بعضهم، أن أبا بكر رضي الله عنه قال: بل يشفع وينفع، وهذا كذب واضح، وروى الأوزاعي عن علي رضي الله عنه في ذلك أثرا لكن إسناده ضعيف واه (5) . ثم يجعل البيت عن يساره فيقرب جانبه، الأيسر إليه قال شيخنا: لكون الحركة الدورية تعتمد فيها اليمنى على اليسرى فلما كان الأكرم في   (1) مختصر الفتاوى (575) ف (2/ 123) . (2) فروع (6/ 64) ف (2/ 123) . (3) فروع (6/ 64) ف (2/ 123) . (4) اختيارات (118) فيه زيادة (2/ 126) . (5) مختصر الفتاوى (301) ف (2/ 126) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 ذلك للخارج كان لليمنى (1) . وعنه: تكره القراءة قال في الترغيب لتغليطه المصلين، وقال شيخنا: ليس له إذا. وقال شيخنا: تستحب القراءة فيه، لا الجهر بها (2) . ولا يشرع الطواف بغير الكعبة من سائر الأرض باتفاق المسلمين، ومن اتخذ ذلك عرف واستتيب فإن أصر قتل بالاتفاق (3) . قال شيخنا: يحرم طوافه بغير البيت اتفاقا، واتفقوا على أنه لا يقبله ولا يتمسح به فإنه من الشرك، وقال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر (4) . ولا يشرع تقبيل المقام ولا مسحه إجماعا فسائر المقامات غيره أولى (5) . ومن لم يمكنه الطواف إلا عريانا فطوافه عريانا هو من جنس صلاته عريانا إذا لم يجد ما يستره، وهو واجب بالاتفاق، فالطواف مع العري إذا لم يمكنه إلا ذلك أولى وأحرى، وهذا العذر نادر لا يكاد الشخص يعجز عن السترة، لكن لو سلب ثيابه والقافلة خارجون ولا يمكنه أن يتخلف عنهم فالواجب فعل ما قدر عليه من الطواف مع العري، وهو الأظهر (6) .   (1) فروع (3/ 497) ف (2/ 126) . (2) فروع (3/ 498، 499) ف (2/ 126) . (3) مختصر الفتاوى (298) ف (2/ 126) . (4) اختيارات (119) والفروع (3/ 524) فيه التصريح بأنه شرك ف (2/ 126) . (5) اختيارات (118) فيه زيادة ف (2/ 126) . (6) مختصر الفتاوى (296) فيها زيادة ف (2/ 126) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم دليل أصلا، وما روي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما طاف توضأ» ، فهذا لا يدل، فإنه كان يتوضأ لكل صلاة (1) . باب صفة الحج والعمرة ولا يسقط الوقوف بعرفة شيئا من فرائض الإسلام الواجبة لا من حق الله تعالى كالزكاة ولا من حقوق الآدميين كالدماء والأموال، ومكة لا تشفع لأحد (2) . وعنه يلزم من دفع قبل الإمام دم، وهل لخائف فوتها صلاة خائف؟ واختاره شيخنا (3) . يوم عرفة يراد به اليوم والليلة التي تليه (4) . ولا يشرع صعود جبل الرحمة إجماعا (5) . وإن قصر فمن جميعه نص عليه، قال شيخنا: لا من كل شعرة بعينها. ويقص من شعره إذا حل لا من كل شعرة بعينها، والحلق أو التقصير إما واجب، أو مستحب، ومن حكى عن أحمد أنه مباح فقد غلط (6) . فأما المتمتع فلا بد أن يسعى قبل ذلك.   (1) اختيارات (219) ف (2/ 127) . (2) مختصر الفتاوى (297) ف (2/ 130) . (3) الفروع (3/ 509) ف (2/ 130) . (4) مختصر الفتاوى (39) ف (2/ 130) . (5) اختيارات (118) ف (2/ 130) . (6) الفروع (3/ 513) والاختيارات (118) ف (2/ 132) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 وهل عليه سعي ثان؟ فيه روايتان هما قولان للعلماء، وذلك لما روي أن الصحابة رضي الله عنهم تمتعوا بالعمرة إلى الحج ولم يسعوا بين الصفا والمروة إلا مرة واحدة مع طواف القدوم، وهذا بيان أن عمرة المتمتع بعض حجه، كما أن وضوء المغتسل بعض غسله فيقع السعي، عن جملة النسك، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» والله أعلم (1) . عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أفاض يوم النحر ثم صلى الظهر بمنى يعني راجعا» . قال ابن القيم: هكذا قال ابن عمر، وقال جابر في حديثه الطويل: «ثم أفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر» ، رواه مسلم، وقالت عائشة رضي الله عنها: «أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها» ، الحديث وسيأتي. فاختلف الناس في ذلك، فرجحت طائفة منهم ابن حزم وغيره حديث جابر وأنه صلى الظهر بمكة، قالوا: وقد وافقته عائشة واختصاصها به وقربها منه، واختصاص جابر وحرصه على الاقتداء به أمر لا يرتاب فيه. قالوا: ولأنه - صلى الله عليه وسلم - رمى الجمرة وحلق رأسه وخطب الناس ونحر مائة بدنة هو وعلي وانتظر حتى سلخت وأخذ من كل بدنة بضعة فطبخت وأكلا من لحمها. قال ابن حزم: وكانت حجته في آذار ولا يتسع النهار لفعل هذا جميعه مع الإفاضة إلى البيت والطواف وصلاة الركعتين ثم يرجع إلى منى والوقت باق.   (1) مختصر الفتاوى (295) فيها زيادة من قوله وهذا بيان ف (2/ 132) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 وقالت طائفة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: الذي يرجح أنه إنما صلى بمنى وجوه: أحدها: أنه لو صلى الظهر بمكة لأناب عنه في إمامة الناس بمنى إماما يصلي بهم الظهر بمنى نائب له ولا ينقله أحد. فقد نقل الناس نيابة عبد الرحمن بن عوف لما صلى بهم الفجر في السفر، ونيابة الصديق لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلح بين بني عمرو بن عوف، ونيابته في مرضه، ولا يحتاج إلى ذكر من صلى بهم بمكة، لأن إمامهم الراتب الذي كان مستمرا على الصلاة قبل ذلك وبعده هو الذي كان يصلي بهم. الثاني: أنه لو صلى بهم في مكة لكان أهل مكة مقيمين فكان يتعين عليهم الإتمام، ولم يقل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر» كما قاله في غزوة الفتح. الثالث: أنه يمكن اشتباه الظهر المقصورة بركعتي الطواف، ولا سيما والناس يصلونهما معه ويقتدون به فيهما فظنهما الرائي الظهر، وأما صلاته بمنى والناس خلفه فهذه لا يمكن اشتباهها بغيرها أصلا، لا سيما وهو - صلى الله عليه وسلم - كان إمام الحاج الذي لا يصلي لهم سواه، فكيف يدعهم بلا إمام يصلون أفرادا ولا يقيم لهم من يصلي بهم هذا في غاية البعد (1) . وذكر أحمد: أنه يأتي الحطيم وهو تحت الميزاب فيدعو، وذكر شيخنا ثم يشرب من ماء زمزم ويستلم الحجر الأسود (2) . ويتوجه على اختيار شيخنا بعد يوم النحر يوم القر الذي يليه، لأنه احتج بقوله عليه السلام: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر» (3) .   (1) تهذيب السنن (2/ 426، 427) ف (2/ 133) . (2) الفروع (3/ 522، 523) ف (2/ 134) . (3) الفروع (3/ 145) ف (2/ 134) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 قال أصحابنا: وإن خرج إنسان غير حاج فظاهر كلام أبي العباس لا يودع (1) . وذكر ابن عقيل وابن الزاغوني: لا يودع البيت ظهره حتى يغيب، قال أبو العباس: هذا بدعة منكرة (2) . وشهر السلاح عند قدوم تبوك بدعة، زاد شيخنا محرمة. وما يذكره الجهال من حصار تبوك كذب لا أصل له، فلم يكن بها حصن ولا مقاتلة، وأن مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بضعا وعشرين لم يقاتل فيها إلا في تسع، بدر، وأحد، والخندق وبني المصطلق، والغابة، وفتح خيبر، وفتح مكة، وحنين، والطائف (3) . الصلاة في المسجد النبوي والسلام على الرسول والوقوف للدعاء قال ابن عقيل وابن الجوزي: يكره قصد القبور للدعاء، قال شيخنا: ووقوفه عندها له (4) . قال ابن القيم رحمه الله: ومن حديثه أيضا ما رواه الإمام أحمد وأبو داود، قال أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا حيوة، حدثنا أبو صخر، أن يزيد بن عبد الله بن قسيط أخبره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يسلم علي إلا رد الله إلي روحي حتى أرد إليه السلام» أبو صخر اسمه حميد بن زياد، ورواه أبو   (1) الاختيارات (118) والفروع (3/ 521) ف (2/ 135) . (2) اختيارات (109) فيه ذكر الحكم ف (2/ 136) . (3) الفروع (3/ 531) والاختيارات (151) ف (2/ 136) . (4) الفروع (3/ 523) ف (2/ 137) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 داود عن محمد بن عوف، عن عبد الله بن يزيد المقري، وقد صحح إسناد هذا الحديث، وسألت شيخنا عن سماع يزيد بن عبد الله من أبي هريرة فقال: ما كان أدركه، وهو ضعيف ففي سماعه منه نظر (1) . ومكة أفضل بقاع الله، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وأنص الروايتين عن أحمد، قال أبو العباس: ولا أعلم أحدا فضل تربة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه إليه أحد، ولا وافقه عليه أحد. والصلاة وغيرها من القرب بمكة أفضل، والمجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان، وتضاعف السيئة والحسنة بمكان أو زمان فاضل، ذكره القاضي وابن الجوزي انتهى (2) . والمعاصي في الأيام المفضلة والأمكنة المفضلة تغلظ المعصية والعقاب عليها على قدر ذلك المكان والزمان (3) . باب الفوات والإحصار والمحصر بمرض أو ذهاب نفقة كالمحصر بعدو، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والمحصر يلزمه دم في إحدى الروايتين (4) . وإذا منع في حج عن عرفة تحلل بعمرة مجانا، وعنه كمن منع البيت، وعنه كحصر مرض. وإن حصره مرض أو ذهاب نفقة بقي محرمًا حتى يقدر على البيت   (1) جلاء الأفهام (18، 19) ف (2/ 136) . (2) الاختيارات (113) والفروع (3/ 493) فيه زيادات ف (2/ 145) . (3) مختصر الفتاوى (270) ف (2/ 145) وتقدمت هذه العبارة ولها مناسبة فيما أوردت فيه. (4) اختيارات (120) فيه زيادة ف (2/ 151) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 فإن فاته الحج تحلل بعمرة نقله الجماعة، ولا ينحر هديًا معه إلا بالحرم، نص على التفرقة، وفي لزوم القضاء والهدي الخلاف وأوجب الآجري القضاء هنا. وعنه يتحلل كمحصر بعدو، واختاره شيخنا، وأن مثله حائض تعذر مقامها وحرم طوافها ورجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو لعجزها عنه، أو لذهاب الرفقة، وكذا من ضل الطريق ذكره في المستوعب، وفي التعليق: لا يتحلل، واحتج شيخنا لاختياره بأن الله لم يوجب على المحصر أن يبقى محرما حولا بغير اختياره، بخلاف بعيد أحرم من بلده ولا يصل إلا في عام، بدليل تحلل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما حصروا عن إتمام العمرة مع إمكان رجوعهم محرمين إلى العام القابل (1) . باب الأضحية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ فحضر النحر فاشتركنا في البعير عن عشرة، وفي البقرة عن سبعة، والذي في الصحيح، أنهم عام الحديبية نحروا البدنة عن سبعة، وهي البعير، وهو مذهب الجمهور، وقال مالك: لا يجزي نفس إلا عن نفس. وأما ذبح البعير عن عشرة فلم يقل به أحد من الأئمة الأربعة. وحديث النسائي قيل: إنه في قسم الغنائم، فقسم بينهم فجعل الجزور بعشرة من الغنم، لا في النسك، لأن ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر غير النحر إلا في حجة الوداع خاصة، فإنه كان مقيما مع أبيه إلى عام الفتح، فلم يشهد معه عيدًا قبل ذلك لا   (1) الفروع (جـ3/ 538) فيه زيادة ف (2/ 151) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 في حضر ولا في سفر، وبعد الفتح إنما عيد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أعياد: عام ثمان، وسبع، وعشر، ولم يسافر سفر حج إلا في حجة الوداع، وسفرتان للغزو وهما: غزوة خيبر وغزوة تبوك، وابن عباس كان صبيًا قبل الاحتلام لم يكن يشهد معه المغازي، لكن شهد معه حجة الوداع، وفي حجة الوداع لم يذبحوا البدنة عن عشرة ولا نقل ذلك أحد (1) . فصل ومن ضحى بشاة ثمنها أكثر من ثمن البقرة كان أفضل من البقرة، فإنه - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الصدقات أفضل؟ فقال: (أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها) . والذي دلت عليه السنة أن الضحية وإن كانت واجبة يضحي الرجل بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته، فقد ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (اللهم هذا عن محمدٍ وآل محمد) وقال: (الرجل يضحي بالشاة الواحدة عن أهل بيته) (2) . وتعدد أفضل، ومسألة ابن منصور بدنتان سمينتان بتسعة، وبدنة بعشرة فقال: اثنتان أعجب إلي، ورجح الشيخ تقي الدين البدنة السمينة (3) . والأضحية من النفقة بالمعروف، فتضحي امرأة من مال زوجها عن أهل البيت بدون إذنه ومدين لم يطلبه رب الدين. وتجوز الأضحية بما كان أصغر من الجذع من الضأن لمن ذبح قبل صلاة العيد جاهلا بالحكم ولم يكن عنده ما يعتد به في الأضحية غيرها   (1) مختصر الفتاوى (522) ف (2/ 151) . (2) مختصر الفتاوى (525) ف (2/ 151) . (3) فروع (3/ 541) ف (2/ 151) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 لقصة أبي بردة بن نيار، ويحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ولن تجزئ عن أحد بعدك) أي بعد حالك. والأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقا (1) . وتجزئ الهتماء التي سقط بعض أسنانها في أصح الوجهين. ولا يستحب أخذ شعره بعد ذبح الأضحية، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والتضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها. وآخر وقت ذبح الأضحية آخر أيام التشريق، وهو مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد، ولم ينسخ تحريم الادخار عام مجاعة؛ لأنه سبب التحريم قاله طائفة من العلماء. ومن عدم ما يضحي به ويعق اقترض وضحى وعق مع عدم القدرة على الوفاء (2) . وينهى عن التضحية في الكنيسة التي فيها صور، كما ينهى عن ذبحها عند الأصنام، ومن قال: إن نسك المسلمين يذبح عند الأصنام كما يذبح المشركون القرابين لآلهتهم فهو مخالف لإجماع المسلمين، بل يستتاب قائل هذا فإن تاب وإلا قتل، وفي الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن العقر عند القبر، ولم يشرع الصدقة عنده، ومن اعتقد أن الذبح عند القبر أفضل أو الصلاة أو الصدقة فهو ضال مخالف لإجماع المسلمين (3) .   (1) اختيارات (120) ف (2/ 151) . (2) اختيارات (120) ف (2/ 151) . (3) مختصر الفتاوى (522) ف (2/ 151) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 العقيقة والعقيقة سنة، وتنازعوا في وجوبها على قولين في مذهب أحمد وغيره، وإن كان بعض أهل العراق لم يعرفها، وهي أفضل من الصدقة. ويعق الكبير عن نفسه إذا لم يعق عنه أبوه، جوزه طائفة، وروى عبد الحق في أحكامه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة، وهذا فيه نظر ونزاع (1) . ولا يعتبر التمليك في العقيقة. يكره أن يكنى بأبي يحيى وأبي عيسى ذكره في المستوعب والرعاية وذكره القاضي وابن عقيل ولم يذكر له دليلا، وقال أحمد في رواية ابن منصور: عمن كره أن يكنى بأبي عيسى. قال الشيخ تقي الدين: فإنما كره أبا عيسى دون أبي يحيى، والفرق ظاهر، انتهى كلامه (2) .   (1) مختصر الفتاوى (522) ف (2/ 151) . (2) الآداب جـ (3/ 164) ف (2/ 152) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضله ووجوبه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، وكل واحد من الأمة مخاطب بقدر قدرته، وهو من أعظم العبادات. ومن الناس من يكون ذلك لهواه، لا لله. وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه: مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق، ويجلد الشارب، ويقيم الحدود؛ لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد؛ لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك؛ فهذا مما ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر المطاع كالسلطان ونوابه. وكذلك دقيق العلم الذي لا يفهمه إلا خواص الناس. وجماع الأمر في ذلك بحسب قدرته. وإنما الخلاف فيما إذا غلب على ظن الرجل أن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لا يطاع فيه هل يجب عليه حينئذ؟ على قولين: أصحهما أنه يجب وإن لم يقبل منه إذا لم يكن مفسدة الأمر راجحة على مفسدة الترك، كما بقي نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاما ينذر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 قومه، ولما قالت الأمة من أهل القرية الحاضرة البحر لواعظي الذين يعدون في السبت {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [164/7] أي نقيم عذرنا عند ربنا، وليس هداهم علينا، بل الهداية إلى الله. ومن لم يحب ما أحبه الله وهو المعروف ويبغض ما أبغضه الله تعالى وهو المنكر لم يكن مؤمنا، فلهذا لم يكن وراء إنكار المنكر بالقلب حبة خردل من إيمان، ولا يمكن أن يحب جميع المنكرات بالقلب إلا إن كان كافرا، وهو الذي مات قلبه، كما سئل بعض السلف عن ميت الأحياء في قولهم: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء فقال: هو الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، لكن من الناس من ينكر بعض الأمور دون بعض، فيكون في قلبه إيمان ونفاق، كما ذكر ذلك من ذكره من السلف حيث قالوا: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف فهو، قلب الكافر، وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق، وقلب فيه مادتان، مادة تمده بالإيمان، ومادة تمده بالنفاق، فذلك خلط عملا صالحا وآخر سيئا. وفي الجملة فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فإذا غلب على ظنه أن غيره لا يقوم به تعين عليه ووجب عليه ما يقدر عليه من ذلك؛ فإن تركه كان عاصيا لله ولرسوله، وقد يكون فاسقا وقد يكون كافرا. وينبغي لمن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أن يكون فقيها قبل الأمر، رفيقا عند الأمر، ليسلك أقرب الطرق في تحصيله حليما بعد الأمر، لأن الغالب أن لا بد أن يصيبه أذى كما قال تعالى: {وَأْمُرْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) [17/31] . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: [في قوله وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل] إنه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان، ليس مراده أن من لم ينكر لم يكن معه من الإيمان حبة خردل ولهذا قال: (وليس وراء ذلك) فجعل المؤمنين ثلاث طبقات فكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه. قال: وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم (2) . مسائل الخلاف هل فيها إنكار؟ وقال في إبطال التحليل، قولهم: ومسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم، أو العمل، أما الأول فإن كان القول يخالف سنة أو إجماعًا قديمًا، وجب إنكاره وفاقا، وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول: المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء. وأما العمل فإن كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار، كما ذكرنا من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض   (1) مختصر الفتاوى (580، 581) فيه زيادات عما في المجموع: منها التمثيل بما لا يجوز إنكاره وتوضيح معنى وليس وراء ذلك.. وقوله فقيهًا ... وهو كلام متصل ف (2/ 152) . (2) الآداب جـ (1/ 180، 181) ف (2/ 152) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 العلماء. وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس. والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيه دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ إذا عدم ذلك الاجتهاد لتعارض الأدلة المقاربة أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في ذكر كون المسألة قطعية طعن على من خالفها من المجتهدين كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها مثل كون الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد بوضع الحمل، وأن الجماع المجرد عن الإنزال يوجب الغسل، وأن ربا الفضل والمتعة حرام، وذكر مسائل كثيرة (1) . آداب المحتسب: قال الشيخ تقي الدين: الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين: إما تعطيل الأمر والنهي، وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي أو مثلها أو قريب منها، وكلاهما معصية وفساد قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [17/31] فمن أمر ولم يصبر، أو صبر ولم يأمر، أو لم يأمر ولم يصبر حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر، وفي الصحيحين عن عبادة قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا وعلى أثره علينا وأن   (1) الآداب (1/ 190) ف (2/ 152) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 لا ننازع الأمر أهله وأن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القتال في الفتنة. فأهل البدع من الخوارج والمعتزلة والشيعة وغيرهم يرون قتالهم والخروج عليهم إذا فعلوا ما هو ظلم أو ما ظنوه هم ظلمة ويرون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بعض المرجئة وأهل الفجور يرون أن إنكار المنكر من الفتن: وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظنا أن ذلك من باب ترك الفتنة، وهؤلاء يقابلون لأولئك ولهذا ذكر الأستاذ أبو منصور الماتريدي المصنف في الكلام وأصول الدين من الحنفية الذين وراء النهر ما قابل به المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط في هذا الزمان. وقد صنف القاضي أبو يعلى كتابا مفردًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما صنف الخلال والدارقطني ذلك، انتهى (1) . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم (2) . من المنكرات: وقال أيضا في مكان آخر: إن من أصر على ترك الجماعة ينكر   (1) الآداب (1/ 176، 177) لم أر هذا في المجموع بهذا اللفظ ف (2/ 153) . (2) إعلام الموقعين (3/ 16) ف (2/ 161) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 عليه، ويقاتل أيضًا في أحد الوجهين عند من استحبها، وأما من أوجبها فإنه عنده يقاتل ويفسق إذا قام عنده الدليل المبيح للمقاتلة والتفسيق كالبغاة بعد زوال الشبهة (1) . وقال الشيخ تقي الدين: ومن كان قادرا على إراقة الخمر وجب عليه إراقتها ولا ضمان عليه، وأهل الذمة إذا أظهر الخمر فإنهم يعاقبون عليه أيضا بإراقتها وشق ظروفها وكسر دنانها، وإن كنا لا نتعرض لهم إذا أسروا ذلك بينهم (2) . كفارة الغيبة: قال ابن القيم رحمه الله في كفارة الغيبة بعد ذكر الحديث: وهذه المسألة فيها قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد، وهما: هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب، أم لا بد من إعلامه وتحليله؟ والصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه بل يكفيه الاستغفار له وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره (3) . وذكر غير واحد: إن تاب من قذف إنسان أو غيبته قبل علمه به هل يشترط لتوبته إعلامه والتحليل منه؟ على روايتين. وقال الشيخ تقي الدين بعد أن ذكر الروايتين في المسألة المذكورة قال: فكل مظلمة في العرض من اغتياب صادق وبهت كاذب فهو في معنى القذف إذا القذف قد يكون صدقًا فيكون في المغيب غيبة، وقد يكون كذبا فيكون بهتا، واختيار أصحابنا أنه لا يعلمه بل يدعو له دعاء   (1) الآداب جـ (1/ 190) ف (2/ 156) . (2) الآداب جـ (1/ 297) ف (2/ 155) . (3) الوابل الصيب ص (292) ف (2/ 158) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 يكون إحسانا إليه في مقابلة مظلمته كما روي في الأثير، ومن هذا الباب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إيما مسلم شتمته أو لعنته أو سببته أو جلدته فاجعل ذلك له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة) وهذا المعنى صحيح من وجه (1) . وإذا زنا بامرأة ثم تاب هل يعلم الزوج؟ وقال شيخ الإسلام تقي الدين أيضا: سئلت عن نظير هذه المسألة، وهو رجل تعرض لامرأة غيره فزنا بها، ثم تاب من ذلك، وسأله زوجها عن ذلك فأنكر، فطلب استحلافه، فإن حلف على نفي الفعل كانت يمينه غموسا، وإن لم يحلف قويت التهمة، وإن أقر جرى عليه وعليها من الشر أمر عظيم. فأفتيته أنه يضم إلى التوبة فيما بينه وبين الله تعالى الإحسان إلى الزوج بالدعاء والاستغفار والصدقة عنه ونحو ذلك بما يكون بإزاء إيذائه له في أهله، فإن الزنا بها تعلق به حق الله تعالى، وحق زوجها من جنس حقه في عرضه، وليس مما ينجبر بالمثل كالدماء والأموال، بل هو من جنس القذف الذي جزاؤه من غير جنسه، فتكون توبة هذا كتوبة القاذف، وتعريضه كتعريضه وحلفه على التعرض كحلفه، وأما لو ظلمه في دم أو مال فإنه لا بد من إيفاء الحق فإن له بدلا، وقد نص أحمد رضي الله عنه في الفرق بين توبة القاتل وبين توبة القاذف. وهذا الباب ونحوه فيه خلاص عظيم وتفريج كربات للنفوس من آثار المعاصي والمظالم، فإن الفقيه كل الفقيه الذي لا يؤيس الناس من رحمة الله عز وجل، ولا يجرؤهم على معاصي الله تعالى، وجميع النفوس لا بد أن تذنب، فتعريف النفوس ما يخلصها من الذنوب من   (1) الآداب الشرعية جـ (1/ 73، 74) ف (2/ 158) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 التوبة والحسنات الماحيات كالكفارات، والعقوبات هو من أعظم فوائد الشريعة انتهى كلامه (1) . وقال في الإنصاف: لا يشترط لصحة توبة من قذف وغيبة ونحوهما إعلامه والتحلل منه على الصحيح، قال الشيخ تقي الدين: والأشبه أنه يختلف، وقيل: إن علم به المظلوم وإلا دعا له واستغفر له ولم يعلمه وذكره الشيخ تقي الدين عن أكثر العلماء وعلى الصحيح من الروايتين لا يجب الاعتراف لو سأل فيعرض ولو مع استحلافه؛ لأنه مظلوم لصحة توبته. ومن جوز التصريح في الكذب المباح فهنا فيه نظر، ومع عدم التوبة والإحسان تعريضه كذب ويمينه غموس، قال: واختار أصحابنا، لا يعلمه بل يدعو له في مقابلة مظلمته، وقال الشيخ تقي الدين، وزناه بزوجة غيره كالغيبة (2) . وسئل أيضًا عن غيبة تارك الصلاة فقال: إذا قيل عنه: إنه تارك للصلاة وكان تاركها فهذا جائز، وينبغي أن يشاع ذلك عنه ويهجر حتى يصلي. وقال الشيخ تقي الدين في المستتر: ويذكره أمره على وجه النصيحة. وقال أيضًا: يجب أن يكون على وجه النصح وابتغاء وجه الله تعالى (3) . ومن حلفه مخدومه أنه متى رأى أحدًا خانه يعلمه، فخانه أحد،   (1) الآداب جـ (1/ 79) ف (2/ 158) . (2) الإنصاف: جـ (1/ 225) ف (2/ 158، 364) . (3) الآداب جـ (1/ 290) ف (2/ 158) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 فإذا اطلع عليه استوفى حقه منه أو عاقبه بما يستحق من غير عدوان، وجب على الذي عرف بالقضية أن يطلعه وينصحه ولو لم يستخلفه، فكيف إذا حلفه؟ ويأثم إذا سكت عن هذه النصيحة (1) . ويصح ابتياع كتب الزندقة ليحرقها ذكره الشيخ تقي الدين في مسودة شرح المحرر ولم يزد عليه (2) . ويخرج من رواية منصوصة عن الإمام أحمد في منع التجارة إلى دار الحرب إذا لم يلزموه بفعل محرم أو ترك واجب، وينكر ما يشاهد من المنكر بحسبه (3) . وحكى الشيخ تقي الدين أن أبا حنيفة وأحمد وغيرهما، قالوا: إنه لا يسلم على لاعب الشطرنج، لأنه مظهر للمعصية، وقال مالك وصاحب أبي حنيفة: يسلم عليه، انتهى (4) . وقال أبو داود: قلت لأحمد، أسلم على المخنث؟ قال: لا أدري: السلام اسم من أسماء الله عز وجل، قال الشيخ تقي الدين: فقد توقف في السلام على المخنث (5) . وذكر الشيخ تقي الدين في فتاويه: أنه لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي، ولا يجيب دعوته (6) . قال الشيخ تقي الدين: فأما الحدث الوضيء فلم يستثنوه، فيه   (1) مختصر الفتاوى (544) ف (2/ 158) . (2) الآداب (1/ 314) . (3) اختيارات (243) ف (2/ 160) . (4) الآداب (3/ 373) ف (2/ 161) . (5) الآداب (3/ 373) ف (2/ 161) . (6) الآداب (1/ 373) ف (2/ 161) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 نظر، وهو كما قال: وهذه المسألة تشبه مسألة النظر إليه، وهي مشهورة (1) . وذكر الشيخ تقي الدين أن ابتداء السلام واجب في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره (2) . الهجر والسلام: فأما هجر المسلم العدل في اعتقاده وأفعاله فقال ابن عقيل: يكره، وكلام الأصحاب خلافه، ولهذا قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: اقتصاره في الهجرة على الكراهة ليس بجيد، بل من الكبائر على نص أحمد الكبيرة ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، وقد صح قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار) (3) . وقال الشيخ تقي الدين فإن اقتصر الراد على لفظ وعليك، كما رد النبي - صلى الله عليه وسلم -، على الأعرابي وهو مقتضى الكتاب فإن المضمر كالمظهر، إلا أن يقال: إذا وصله بكلام فله الاقتصار بخلاف ما إذا سكت، ولولا أن الرد الواجب يحصل به لما أجزأ الاقتصار عليه في الرد على الذمي، ومقتضى كلام ابن أبي موسى وابن عقيل لا يجوز، وكذلك قال الشيخ عبد القادر، انتهى كلامه (4) . روى أبو جعفر عن ابن عباس مرفوعا: إني لأرى لرد جواب الكتاب علي حقا كما أرى رد جواب السلام، قال الشيخ تقي الدين: وهو المحفوظ عن ابن عباس، يعني: موقوفًا (5) .   (1) الآداب (1/ 380) ف (2/ 161) . (2) الآداب (1/ 374) ف (2/ 161) . (3) الآداب (1/ 273) ف (2/ 161) . (4) الآداب (1/ 384) ف (2/ 161) . (5) الآداب (1/ 385) ف (2/ 161) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 كتاب الجهاد وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم (1) . أنواع الجهاد ومتى يجب كفاية أو عينا؟ والجهاد منه: ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب، والدعوة، والحجة، واللسان، والرأي والتدبير، والصناعة، فيجب بغاية ما يمكنه (2) . والحرب خدعة. الرأي قبل شجاعة الشجعان ... ... هو أول وهو المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لعبد مرة ... ... بلغا من العلياء كل مكان قال: وعلى الأمير أن يحرضهم على الجهاد ويقاتل بهم عدوه بدعائهم ورأيهم وفعلهم وغير ذلك مما يمكن الاستعانة به على الجهاد، ويفعل مع بر وفاجر يحفظان المسلمين، لا مخذل ونحوه (3) .   (1) روضة المحبين (478) ف (2/ 161) . (2) اختيارات (310) وفروع (6/ 189) ف (2/ 161) . (3) فروع (6/ 198، 199) ف (2/ 161) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 ويستحب أن يدعو سرا، قال أبو داود باب ما يدعى عند اللقاء ثم روي بإسناد جيد عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قال: اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل.. وكان غير واحد منهم شيخنا يقول هذا عند قصد مجلس علم (1) . ومن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله وجب عليه الجهاد بماله وهو نص أحمد في رواية ابن الحكم، وهو الذي قطع به القاضي في أحكام القرآن في سورة براءة عند قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله. وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد في أموالهن إن كان فيها فضل، وكذلك في أموال الصغار إذا احتيج إليها، كما تجب النفقات والزكاة وينبغي أن يكون محل الروايتين في واجب الكفاية، فأما إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه، فإن دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعًا. قال أبو العباس: سئلت عمن عليه دين وله ما يوفيه وقد تعين الجهاد فقلت: من الواجبات ما يقدم على وفاء الدين، كنفقة النفس والزوجة والولد الفقير، ومنها ما يقدم وفاء الدين عليه كالعبادات من الحج والكفارات، ومنها ما لا يقدم عليه إلا إذا خوطب به كصدقة الفطر، فإن كان الجهاد المتعين لدفع الضرر كما إذا حضره العدو أو حضر هو الصف قدم على وفاء الدين كالنفقة، وأولى، وإن كان حال استنفار الإمام فقضاء الدين أولى؛ إذ الإمام لا ينبغي له استنفار المدين مع الاستغناء عنه ولذلك قلت: لو ضاق المال عن إطعام جياع والجهاد الذي يتضرر بتركه قدمنا الجهاد وإن مات الجياع، كما في مسألة التترس وأولى، فإن هناك نقتلهم بفعلنا وهنا يموتون بفعل الله، وقلت أيضًا: إذا   (1) فروع (6/ 204) ف (2/ 162) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 كان الغرماء يجاهدون بالمال الذي يستوفونه فالواجب وفاؤهم لتحصيل المصلحتين الوفاء والجهاد. ونصوص أحمد توافق ما كتبته وقد ذكرها الخلال. قال القاضي: إذا تعين فرض الجهاد على أهل بلد وكان على مسافة تقصر فيها الصلاة فمن شرط وجوبه الزاد والراحلة كالحج، وما قاله القاضي من القياس على الحج لم ينقل عن أحمد، وهو ضعيف، فإن وجوب الجهاد قد يكون لدفع ضرر العدو فيكون أوجب من الهجرة لا تعتبر فيها الراحلة فبعض الجهاد أولى. وثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثرة عليه) فأوجب الطاعة التي عمادها الاستنفار في العسر واليسر، وهذا نص في وجوبه مع الإعسار، بخلاف الحج، هذا كله في قتال الطلب. وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا. فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده. والجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب، والدعوة والحجة، واللسان، والرأي، والتدبير، والصناعة، فيجب بغاية ما يمكنه (1) .   (1) هذان السطران من قوله: والجهاد منه إلى قوله ما يمكنه تقدما في أول الكتاب نقلا عن الاختيارات أيضا ولها مناسبة هناك وهنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم وأموالهم، قال المروذي: سئل أبو عبد الله عن الغزو في شدة البرد في مثل الكانونين فيتخوف الرجل إن خرج في ذلك الوقت أن يفرط في الصلاة فيرى له أن يغزو أو يقعد، قال: لا يقعد، الغزو خير له وأفضل، فقد قال الإمام أحمد بالخروج مع خشيته تضييع الفرض، لأن هذا مشكوك فيه، أو لأنه إذا أخر الصلاة بعض الأوقات عن وقتها كان ما يحصل له من فضل الغزو مربيا على ما فاته. وكثيرا ما يكون ثواب بعض المستحبات أو واجبات الكفاية أعظم من ثواب واجب، كما لو تصدق بألف درهم وزكى بدرهم. قال ابن بختان: سألت أبا عبد الله عن الرجل يغزو قبل الحج قال: نعم، إلا أنه بعد الحج أجود. فضل الجهاد: وسئل أيضا عن رجل قدم يريد الغزو ولم يحج فنزل على قوم ثبطوه عن الغزو وقالوا: إنك لم تحج تريد الغزو، قال أبو عبد الله: يغزو ولا عليه، فإن أعانه الله حج، ولا نرى بالغزو قبل الحج بأسا. قال أبو العباس: هذا مع أن الحج واجب على الفور عنده؛ لكن تأخيره لمصلحة الجهاد كتأخير الزكاة الواجبة على الفور لانتظار قوم أصلح من غيرهم، أو لضرر أهل الزكاة، وكتأخير الفوائت للانتقال عن مكان الشيطان ونحو ذلك، وهذا أجود ما ذكره بعض أصحابنا في تأخير النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج إن كان وجب عليه مقدمًا. وكلام أحمد يقتضي الغزو وإن لم يبق معه مال للحج، لأنه قال: فإن أعانه الله حج مع أن عنده تقديم الحج أولى، كما أنه يتعين الجهاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 بالشروع وعند استنفار الإمام، لكن لو أذن الإمام لبعضهم لنوع مصلحة فلا بأس (1) . وهل يطيع والديه في تركه أو ترك غيره؟ وقال أبو بكر في زاد المسافر: من أغضب والديه وأبكاهما يرجع فيضحكهما وقال في رواية أبي عبد الله: روى عبد الله بن عمر وقال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعه، فقال: جئت أبايعك على الجهاد، وتركت أبوي يبكيان، قال: (ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما) . وقال الشيخ تقي الدين بعد قول أبي بكر هذا مقتضى قوله أن يبرا في جميع المباحات، فما أمراه ائتمر، وما نهياه انتهى، ثم ذكر الشيخ تقي الدين: نصوص أحمد تدل على أنه لا طاعة لهما في ترك الفرض، وهي صريحة في عدم ترك الجماعة وعدم تأخير الحج (2) . وروى المروذي عن علي بن عاصم: أنه سئل عن الشبهة فقال: اطع والديك وسئل عنها بشر بن الحارث، فقال: لا تدخلني بينك وبين والديك، وذكر الشيخ تقي الدين رواية المروذي ثم قال: وقال في رواية ابن إبراهيم فيما هو شبهة فتعرض عليه أمه أن يأكل، فقال: إذا علم أنه حرام بعينه فلا يأكل، قال الشيخ تقي الدين، مفهوم هذه الرواية أنهما قد يطاعان إذا لم يعلم أنه حرام ورواية المروذي فيها أنهما لا يطاعان في الشبهة وكلامه يدل على أنه لولا الشبهة لوجب الأكل لأنه لا ضرر عليه فيه وهو يطيب نفسهما، انتهى كلامه (3) .   (1) اختيارات (308-310) فيها زيادات كثيرة خصوصا بالنسبة إلى الجهاد بالمال وتقديم الغزو على الحج الواجب ف (2/ 163) . (2) الآداب (1/ 491) ف (2/ 163) . (3) الآداب (1/ 500) ف (2/ 163) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 فضل تعلم الرمي: قال شيخ الإسلام: وقد روي أن قوما يتناضلون فقيل: يا رسول الله قد حضرت الصلاة، قال: «إنهم في الصلاة» فشبه رمي النشاب بالصلاة وكفى بذلك فضلا (1) . قال شيخنا: وهذه الأمور الثلاثة التي فضل كل واحد من الأئمة بعضها، وهي: الصلاة والعلم والجهاد، هي التي قال فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لولا ثلاث في الدنيا لما أحببت البقاء فيها لولا أن أحمل أو أجهز جيشا في سبيل الله، ولولا مكابدة هذا الليل، ولولا مجالسة أقوام ينتقمون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر لما أحببت البقاء (2) قال ابن القيم رحمه الله: فالأول الجهاد، الثاني قيام الليل، والثالث مذاكرة العلم. جهاد الدفع: وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم، ونصوص أحمد صريحة بهذا وهو خير مما في المختصرات، لكن هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية؟ كلام أحمد فيه مختلف. وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به؛ لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين، فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا.   (1) الفروسية ص (6) ف (2/ 163) . (2) مفتاح دار السعادة ص (130) ف (2/ 165) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف عنه بحال، ووقعة أحد من هذا الباب (1) . وتجوز النيابة في الجهاد إذا كان النائب ممن لا يتعين عليه (2) . وقال شيخنا: جهاد الدافع للكفار يتعين على كل أحد، ويحرم فيه الفرار في مثليهم لأنه جهاد ضرورة لا اختيار، وثبتوا يوم أحد والأحزاب وجوبله وكذا لما قدم التتار دمشق (3) . ويجوز أن يغمس المسلم نفسه في صف الكفار لمصلحة ولو غلب على ظنه أنهم يقتلونه (4) . يستعان باليهود والنصارى ولا يستعان بأهل الأهواء كالرافضة والقدرية والجهمية وفروعهم والخوارج: قال صاحب المحرر في أحكامه: (باب وجوب نصب ولاية القضاء والإمارة وغيرهما) : وذكر هذه الأخبار (5) وقال حفيده: فأوجب - صلى الله عليه وسلم - تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع انتهى كلامه (6) . قال أبو علي بن الحسين بن أحمد بن المفضل البلخي: دخلت على أحمد بن حنبل فجاءه رسول الخليفة يسأله عن الاستعانة بأهل الأهواء فقال أحمد: لا يستعان بهم، قال: يستعان باليهود والنصارى   (1) اختيارات (311) فيه زيادات فوائد منها التمثيل لقتال الدفع ف (2/ 165) . (2) اختيارات (315) ف (2/ 165) . (3) فروع ج (6/ 202) ف (2/ 165) . (4) مختصر الفتاوى (508) ف (2/ 165) . (5) التي فيها وجوب نصب هذه الولايات. (6) الآداب ج (1/ 479) ف (2/ 166) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 ولا يستعان بهم؟ قال: إن النصارى واليهود لا يدعون إلى أديانهم وأصحاب الأهواء داعية، عزاه الشيخ تقي الدين إلى مناقب البيهقي وابن الجوزي يعني للإمام أحمد. وقال: فالنهي عن الاستعانة بالداعية لما فيه من الضرر على الأمة، انتهى كلامه (1) . من يعتبر برأيه في أمور الجهاد: والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا (2) . لا يستعان بأهل الذمة: ولا يستعان بأهل الذمة في عمالة ولا كتابة، لأنه يلزم منه مفاسد أو يفضي إليها. وسئل أحمد في رواية أبي طالب عن الاستعانة بهم في مثل الخراج فقال: لا يستعان بهم في شيء، ومن تولى منهم ديوان للمسلمين ينقض عهده، ومن ظهر منه أذى للمسلمين أو سعى في فساد لم يجز استعماله، لكن إن تاب ومضت مدة ظهر معها صدق توبته جاز استعماله، وغيره أولى منه بكل حال، فإن أبا بكر رضي الله عنه عهد: ألا يستعمل من أهل الردة أحد وإن عاد إلى الإسلام: لما يخاف من فساد نياتهم (3) .   (1) الآداب (1/ 290) ف (2/ 167) . (2) التي فيها وجوب نصب هذه الولايات. (3) اختيارات (311) ف (2/ 168) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 أصناف من يقاتل والغرض من قتالهم: وإذا قدر على كافر حربي فنطق بالشهادتين وجب الكف عنه؛ بخلاف الخارجين عن الشريعة، كالمرتدين الذين قاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، أو الخوارج الذين قاتلهم علي: كالخرمية، والتتار، وأمثال هذه الطوائف ممن نطق بالشهادتين ولا يلتزم شرائع الإسلام. وأما الحربي إذا نطق بها كف عنه، ثم إن لم يصل فإنه يستتاب، فإن صلى وإلا قتله الإمام، وليس لأحد من الرعية قتله، إنما يقتله ولي الأمر عند مالك والشافعي وأحمد؛ وعند أبي حنيفة يعاقبه بدون القتل. وأما إذا كان في طائفة ممتنعين عن الصلاة ونحوها، فهؤلاء يقاتلون كقتال المرتدين والخوارج، ومن قدر عليه قتله، فيجب الفرق بين المقدور عليه وبين قتال الطائفة الممتنعة التي تحتاج إلى قتال (1) . وقال أبو العباس في رده على الرافضي [كل طائفة] يقع منها التأويل في الدم والمال والعرض، ثم ذكر قتل أسامة للرجل الذي أسلم بعد أن علاه السيف، وخبر المقداد، فقال: قد ثبت أنهم مسلمون يحرم قتلهم ومع هذا فلم يضمن المقتول بقود ولادية؛ لأن القاتل كان متأولاً، وهذا قول أكثرهم كالشافعي وأحمد وغيرهم (2) . ويجب جهاد الكفار واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأسراهم، ويجب على المسلمين أن يكونوا يدًا واحدة على الكفار، وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله، ويدعوا المسلمين إلى ما كان عليه السلف من الصدق وحسن الأخلاق، فإن هذا من أعظم أصول الإسلام وقواعد الإيمان التي بعث الله بها رسله وأنزل.   (1) مختصر الفتاوى (510، 511) ف (2/ 170) . (2) اختيارات ص (312) وانظر الفروع جـ (6/ 216، 217) ف (2/ 170) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 كتبه، أمر عباده عمومًا بالاجتماع ونهاهم عن التفرق والاختلاف، كما قال تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [13/42] وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [105/ 3] وأخبر سبحانه أنه أرسل جميع المرسلين بدين الإسلام كما قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [78/22] . وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنا معاشر الأنبياء إخوة لعلاة ديننا واحد، وأنا أولى بابن مريم، لأنه ليس بيني وبينه نبي) فتبين أن دين الأنبياء واحد، وأنهم إخوة لعلاة، وهم الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، فإن كان بالعكس، قيل: أولاد أخياف، وإن اشتركوا في الأمرين قيل: أولاد أعيان. وهذا لأن الدين هو الأصل، فشبه بالأب، والشرعة، والمنهاج تبع، فشبه بالأم فقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [48/5] والشرعة والمنهاج السبيل. وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [148/2] والقرآن له شريعة، والتوراة لها شريعة قبل النسخ، واتباع كل شريعة قبل النسخ والتبديل هو الواجب، وهو من تمام الدين الذي هو الإسلام. فلما بدلت اليهود التوراة ونسخت لم يبقوا مسلمين حيث كفروا ببعض الكتاب وآمنوا ببعض (1) . والزنديق وهو المنافق كمرتد.. وكذا قال ابن الجوزي بعد أن ذكر هل جهادهم بالكلام أم بالسيف وأورد على الثاني أنه لم يقع؟ فأجاب أنه إذا أظهروه.. وكذا قال شيخنا: هذا كان أولا ثم نزل: {مَلْعُونِينَ   (1) مختصر الفتاوى (509، 510) ف (2/ 171) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [61/ 33] فعلم أنهم إن أظهروه كما كانوا قتلوا (1) . وقتال التتار ولو كانوا مسلمين هو مثل قتال الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة، ويأخذ مالهم وذريتهم: وكذا المتحيز إليهم (2) ولو ادعى إكراهًا. ومن أجهز على جريح لم يأثم، ولو تشهد ومن أخذ منهم شيئًا خمس وبقيته له، ومن ابتاع منهم مال مسلم أخذه ربه، وإن جهله أعطى ما اشتراه به، وهو للمصالح (3) . ومن قفز إلى بلد العدو ولم يندفع ضرره إلا بقتله جاز قتله كالصائل. ذكره شيخنا (4) . والرافضة الجبلية يجوز أخذ أموالهم وسبي حريمهم يخرج على تكفيرهم (5) . ويجب أن يحال بين الرافضي وبين أولاده في حال حياتهم، لأنه لا بد أن يفسد دينهم (6) . التمثيل: وإن مثل الكفار بالمسلمين فالمثلة حق لهم، فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر، ولهم تركها، الصبر أفضل، وهذا حيث لا يكون في التمثيل بهم زيادة في الجهاد ولا نكال لهم عن نظيرها، فأما إن كان في التمثيل السائغ لهم دعاء إلى الإيمان أو زجر لهم عن العدوان فإنه هنا   (1) فروع جـ (5/ 52) هذا عام ليس خاصًا بالنصيرية ف (2/ 172) . (2) عبارة الفروع المقفر إليهم. (3) اختيارات ص (298) فيه زيادة ف (2/ 173) . (4) فروع جـ (6/ 150) ف (2/، 173) . (5) اختيارات ص (298) فيه زيادة ف (2/ 174) . (6) مختصر الفتاوى ص (510) ف (2/ 175) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 من إقامة الحدود والجهاد المشروع، ولم تكن القصة في أحد كذلك؛ فلهذا كان الصبر أفضل، فأما إن كانت المثلة حقًا لله تعالى (1) فالصبر هناك واجب، كما يجب حيث لا يمكن الانتصار، ويحرم الجزع، انتهى (2) . الاسترقاق والرق الشرعي سببه الكفر لما لم يسلم ويعبد الله أباح الله للمسلم أن يستعبده (3) . وسئل أبو العباس عن سبي ملطية مسلميها ونصاراها، فحرم مال المسلمين وأباح سبي النصارى وذريتهم ومالهم كسائر الكفار، إذ لا ذمة لهم ولا عهد، لأنهم نقضوا عهدهم السابق من الأئمة بالمحاربة وقطع الطريق وبما فيه الغضاضة علينا والإعانة على ذلك، ولا يعقد لهم الأمن عن قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وهؤلاء التتر لا يقاتلونهم على ذلك؛ بل بعد إظهار إسلامهم لا يقاتلون الناس على الإسلام؛ ولهذا وجب قتال التتر حتى يلتزموا شعائر الإسلام، ومنها الجهاد وإلزام أهل الذمة بالجزية والصغار، ونواب التتر، الذين يسمون الملوك لا يجاهدون على الإسلام، وهم تحت حكم التتر. ونصارى أهل ملطية وأهل المشرق ويهودهم لو كان لهم ذمة وعهد من ملك مسلم يجاهدهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية كأهل المغرب واليمن لما لم يعاملوا (4) أهل مصر والشام معاملة أهل العهد جاز لأهل   (1) في الفروع: المغلب حق الله تعالى. (2) اختيارات ص (312) والفروع جـ (6/ 218) فيه زيادة ف (2/ 176) . (3) مختصر الفتاوى ص (511) ف (2/، 176) . (4) وفي الفروع ثم لم يعاملوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 مصر والشام غزوهم واستباحة دمهم ومالهم، لأن أبا جندل وأبا بصير حاربا أهل مكة مع أن بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهدًا، وهذا باتفاق الأئمة، لأن العهد والذمة إنما يكون من الجانبين، والسبي المشتبه يحرم استرقاقه، ومن كسب شيئًا فادعاه رجل وأخذه فعلى الآخذ للمأخوذ منه ما غرمه عليه من نفقة وغيرها إن لم يعرف أنه ملكه أو ملك الغير أو عرف وأنفق غير متبرع. والله أعلم (1) . ويحكم بإسلام الطفل إذا مات أبواه أو كان نسبه منقطعًا: مثل كونه ولد زنا، أو منفيًا بلعان. وقاله غير واحد من العلماء (2) . الغنائم وقسمتها وتحريق رحل الغال من باب التعزير، لا الحد الواجب، فيجتهد فيه الإمام بحسب المصلحة. ومن العقوبة المالية حرمانه - صلى الله عليه وسلم - السلب للمددي لما كان في أخذه عدوانًا على ولي الأمر. وإذا قال الإمام: من أخذ شيئًا فهو له أو فضل بعض الغانمين على بعض، وقلنا ليس له ذلك على رواية: هل تباح لمن لا يعتقد جواز أخذه؟ قد يقال: هذا مبني على الروايتين فيما إذا حكم بإباحة شيء يعتقده المحكوم له حرامًا، وقد يقال: يجوز هنا قولاً واحدًا، لأنا لا نفرق دائمًا في تصرفات السلطان بين الجواز وبين النفوذ؛ لأنا لو قلنا: تبطل ولايته وقسمه وحكمه لما أمكن إزالة هذا الفساد إلا بأشد منه فسادًا، فينفذ دفعًا لاحتماله ولما هو شر منه في الوفاء. والواجب أن يقال: يباح الأخذ مطلقًا، لكن يشترط أن لا يظلم غيره، وإذا لم يغلب على ظنه واحد من الأمرين فالحل أقرب.   (1) اختيارات ص (317) فروع جـ (6/ 156، 157) ف (2/، 176) . (2) اختيارات ص (315) ف (2/ 177) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 ولو ترك قسمة الغنيمة وترك هذا القول وسكت سكوت الإذن في الانتهاب وأقر على ذلك فهو إذن، فإن الإذن تارة يكون بالقول، وتارة يكون بالفعل، وتارة يكون بالإقرار على ذلك، فالثلاث في هذا الباب سواء، كما في إباحة المالك في أكل طعامه ونحو ذلك؛ بل لو عرف أنه راض بذلك فيما يرون أن يصدر منه قول ظاهر أو فعل ظاهر أو إقرار فالرضا منه بتغيير إذنه بمنزلة الدال على ذلك، إذ الأصل رضاه حتى لو أقام الحد وعقد الأنكحة من رضي الإمام بفعله ذلك كان بمنزلة إذنه على أكثر أصولنا، فإن الإذن العرفي عندنا كاللفظي والرضا الخاص كالإذن العام فيجوز للإنسان أن يأكل طعام من يعلم رضاه بذلك لما بينهما من المودة، وهذا أصل في الإباحة والوكالات والولايات، لكن لو ترك القسمة ولم يرض بالانتهاب إما لعجزه أو لأخذه المال ونحو ذلك أو أجاز القسمة فهنا من قدر على أخذ مبلغ حقه من هذا المال المشترك فله ذلك؛ لأن مالكية متعينون، وهو قريب من الورثة؛ لكن يشترط انتفاء المفسدة من فتنة أو نحوها (1) . وفي رد شيخنا على الرافضي عن بعض أصحابنا (وش) أن الله أضاف هذه الأموال إضافة ملك كسائر أملاك الناس، ثم اختار قول بعض العلماء أنها ليست ملكًا لأحد؛ بل أمرها إلى الله والرسول، بخلاف ما ملكه الله تعالى لعباده فإن له صرفه في المباح (2) . ويرضخ للبغال والحمير وهو قياس المذهب والأصول، كمن يرضخ لمن لا سهم له من النساء والعبيد والصبيان (3) .   (1) الاختيارات ص (314، 315) فيه زيادات وتفصيل وانظر الفروع جـ (6/ 236) ف (2/ 177) . (2) فروع جـ (6/ 228) فيه زيادة إيضاح ف (2/ 177) . (3) اختيارات ص (315) ف (2/ 178) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 فصل الإقطاع اليوم إقطاع استغلال ليس له بيعه ولا هبته باتفاق الأئمة، ولا ينتقل إلى ورثته، بخلاف ما كان في العصور الأولى. وما يأخذه الجندي ليس أجرة للجهاد، لأنه لو كان أجرة كان لفعل الجهاد، وإنما عليهم أن يقاتلوا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، وأجرهم على الله، فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. والإقطاع الذي يأخذونه معاونة لهم، ورزقًا لنفقة عيالهم ولإقامة الخيل والسلاح، وفي الحديث (مثل الذي يغزو من أمتي في سبيل الله مثل أم موسى ترضع ابنها وتأخذ أجرها) فهي ترضعه لما في قلبها عليه من الشفقة والرحمة، لا لأجل أجرها، كذلك المجاهد يغزو لما في قلبه من الإيمان بالله والدار الآخرة، لا لأجل المال. وإذا كان الله قد أمر المسلمين من الصحابة وغيرهم أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأوجب عليهم عشر أموالهم من الخارج من الأرض فكيف لا يجب على من يعطي مالاً ليجاهد؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (من جهز غازيًا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا) فالذي يعطي المجاهد يكون مجاهدًا بماله، والمجاهد يجاهد بنفسه، وأجر كل واحد منهما على الله لا ينقص أحدها من الآخر شيئًا، ولم يكن هذا أجيرًا لهذا. ولو أعطى رجل من المسلمين أرضًا يستغلها ويكون هو يجاهد في سبيل الله لوجب عليه فيها العشر ولم يسقط لأجل الجهاد، فإن الإقطاع أولى. وولي الأمر لا يعطيهم من ماله وإنما يقسم بينهم حقهم كما يقسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 التركة بين الورثة، ولهذا يجوز لهم إجارته كما يجوز لأهل الوقف، كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [41/22] . فمن قام بهذه الأمور نصره الله على عدوه. فعلى كل من أنبت الله له زرعًا العشر، سواء كان بأرض مصر أو غيرها، من مالك، ومستأجر، ومقطع، ومستعير. وكذلك التمر والزبيب ونحوه مما تجب فيه الزكاة، فلا تخلى الأرض من عشر، أو خراج باتفاق المسلمين. ولكن اختلفوا هل يجتمع العشر والخراج الذي هو خراج الإسلام؟ فقال أبو حنيفة: لا وقال الباقون: نعم. والأرض الخراجية عند أبي حنيفة هي التي يملكها صاحبها وعليه فيها الخراج وله بيعها وهبتها وتورث عنه. فمن قال: إن أرض مصر اليوم لا عشر عليها عند أبي حنيفة فقد أخطأ لأن الجند لا يملكونها ولا الفلاحون، ولم يضرب على المقطع خراج في خدمته. وإذا تركت الأرض المملوكة بلا عشر ولا خراج كان هذا مخالفًا لإجماع المسلمين، ومن أفتى بخلو هذه الأرض عن العشر والخراج يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. ومن زعم أن الجهاد هو عوض الخراج فقد أخطأ من وجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 أحدهما: أنهم لا يملكون الخراج، بل تنازع الناس في إجارة الإقطاع حتى ظن طائفة من الحنفية وغيرهم أنه لا يؤجر، لأن المقطع لم يملك المنفعة بنفسه، والأرض الخراجية يؤجرها من عليهم الخراج بالإجماع. والثاني: أن ما يعطاه الجندي من الرزق ليس خراجًا عليهم ولا أجرة للجهاد؛ بل هم أعظم المستحقين، للخراج وغيره من أصول الفيء والفيء. إما أن يختصموا به في أحد القولين: وإما أن يكونوا من أحق المسلمين به، فكيف يكون الخراج مأخوذًا منهم. وقول القائل: الإمام أسقط عنهم الخراج لكونهم من المقاتلة فصاروا كأنهم يؤدونه. يقال له: هذا لا يسقط الزكاة؛ لأن إقطاعهم إياها لأجل أن يستغلوها بلا خراج ولو كان جعلها لهم كالخراجية لجاز لهم بيعها والذي تنتقل إليه إما أن يؤدى خراجها أو يسقط عنه الخراج إن كان من المقاتلة، فأما ما لم يكن لهم ذلك علم أنه لا خراج عليهم. ولو استأجر المجاهد أرضًا كان عليه العشر عند الجمهور عليه الأجرة لرب الأرض وهو قول صاحبي أبي حنيفة. وأبو حنيفة يقول: العشر على المؤجر: فلا يجتمع عنده الأجرة. وأبو حنيفة أسقط العشر على من عليه الخراج قال: لأن كلاهما حق وجب بسبب الأرض والمقطع لم يعط شيئًا غير ما أعد نفسه له من القتال، ألا ترى أنه لو أخذ بعض المسلمين أرضًا خراجية كان عليه العشر مع الجهاد. يوضح ذلك أن الأرض لو كانت عشرية وصارت لبيت المال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 بطريق الإرث فأقطعهما السلطان لمن يستغلها من المقاتلة، فهل يكون ذلك مسقطًا للعشر؟ فمن جعل الإقطاع استئجارًا يجعل المجاهدين بمنزلة من يستأجره الإمام للعمارة والفلاحة. يقول: إذا كان الخراج على شخص فاعتاض عنه الإمام ببعض هذه الأعمال كانت الأرض خراجية. وهذا غلط عظيم، فإنه يخرج الجهاد عن أن يكون قربة وطاعة، ويجعل المجاهد في سبيل الله بمنزلة اليهود والنصارى استؤجروا لعمارة دار وصنعة سلاح. والفقهاء متفقهون على الفرق بين الاستئجار على القرب وبين رزق أهلها. فرزق المقاتلة والقضاة والمؤذنين والأئمة جائز بلا نزاع. وأما الاستئجار فلا يجوز عند أكثرهم لا سيما أبو حنيفة والشافعي، وإن جوزوه على الإمامة فإنه لا يجوز على الجهاد لأنه يصير متعينًا. فهؤلاء غلطوا على الأئمة عمومًا وعلى أبي حنيفة خصوصًا (1) . قال شيخنا: ولو يبست الكروم بجراد أو غيره سقط من الخراج حسبما تعطل من النفع قال: وإذا لم يمكن النفع به ببيع أنو إجارة أو عمارة أو غيره لم تجز المطالبة بالخراج (2) . ويحرم تعشير الأموال والكلف التي ضربها الملوك على الناس (ع) ذكره ابن حزم وشيخنا (3) .   (1) مختصر الفتاوى ص (272، 275) ف (2/ 178، 201) . (2) الفروع جـ (6/ 242) ف (2/ 178) . (3) الفروع جـ (6/ 280) ف (2/ 179) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 لم ينص الإمام أحمد على أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر ولا على عدمه؛ وإنما نص على أحكام أخذ منها ذلك. فالصواب أنهم يملكونها ملكًا مقيدًا لا يساوي ملك المسلمين من كل وجه. وإذا أسلموا وفي أيديهم أموال المسلمين فهي لهم، نص عليه الإمام أحمد، وقال في رواية أبي طالب، ليس بين المسلمين اختلاف في ذلك. قال أبو العباس: وهذا يرجع إلى أن كل ما قبضه الكفار من الأموال قبضا يعتقدون جوازه فإنه يستقر لهم بالإسلام، كالعقود الفاسدة والأنكحة والمواريث وغيرها؛ ولهذا لا يضمنون ما أتلفوه على المسلمين بالإجماع. وما باعه الإمام من الغنيمة أو قسمه وقلنا لم يملكوه ثم عرف ربه فالأشبه أن المالك لا يملك انتزاعه من المشتري مجانًا؛ لأن قبض الإمام بحق ظاهرًا وباطنًا. ويشبه هذا ما يبيعه الوكيل والوصي ثم يتبين مودعًا أو مغصوبًا أو مرهونًا، وكذا القبض، والقبض منه واجب، ومنه مباح، وكذلك صرفه منه واجب، ومنه مباح، قال في المحرر: وكل ما قلنا قد ملكوه ما عدا أم الولد فإذا اغتنمناه وعرف ربه قبل قسمته رد إليه إن شاء وإلا بقي غنيمة. قال أبو العباس: يظهر الفرق إذا قلنا قد ملكوه يكون الرد ابتداء ملك، وإلا كان كالمغصوب، وإذا كان ابتداء ملك فلا يملكه ربه إلا بالأخذ، فيكون له حق تملكه؛ ولهذا قال: وإلا بقي غنيمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 ومثله لو ترك العامل حقه في المضاربة أو ترك أحد الورثة حقه أو أحد أهل الوقف المعين حقه ونحو ذلك. وعلى ذلك إجازة الورثة. ومثله عفو المرأة أو الزوج عن نصف الصداق قال في المحرر: وإن لم يعرفه ربه بعينه قسم ثمنه وجاز التصرف فيه. قال أبو العباس: أما إذا لم يعلم أنه ملك المسلم فظاهر أنه لا يرده، وأما إذا علم فهل يكون كاللقطة أو كالخمس والفيء واحدًا أو يصير مصروفًا في المصالح وهذا قول أكثر السلف ومذهب أهل المدينة، ورواية عن أحمد ووجه في مذهبه، وليس للغانمين إعطاء أهل الخمس قدره من غير الغنيمة (1) . والمكوس إذا قطعها الإمام الجند فهي حلال لهم إذا جهل مستحقها، وكذلك إذا رتبها للفقراء والفقهاء وأهل العلم (2) . وأما إعارة السلاح والخيل لمن يقرض عليها، فإن كان ممن يرتزق من بيت المال ويصرفه في غير مصارفه الشرعية أو يقصر فيما يجب عليه من الجهاد لم يجز إعانته على المعصية والتدليس والتزوير، وكذلك الجندي الذي يسرق النفقة وينفقها في المعاصي والفواحش حتى يبقى لا يمكنه أن يقوم بما يجب عليه. وكذلك الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله أو يتخذون مالاً ينفع للجهاد من عرض وعقار حتى لا يقوموا بما يجب عليهم. وأما إذا كان الغازي معذورًا أو معدومًا أو مظلومًا مثل أن يكون قد   (1) اختيارات ص (312-314) فيه زيادات ف (2/ 179) . (2) اختيارات ص (177) ف (2/ 179) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 ماتت خيله بغير تفريط منه ولم يعوض عنهما (1) وأن الأرض التي له لم تغل ما يقوم بذلك أو حدث له من العيال ما يمنعونه عن تمام العمل، أو كان قد ظلم فلم يعط من بيت المال الرزق الذي عليه أن يقيم به ما ينبغي لمثله فهذا إذا خيف في عَرضِهِ نقصًا أن يزداد ظلمه أو يقطع خبزه مع استحقاقه أو يعطي خبزه لمن هو دونه في نفع المسلمين فأعير ما يتجمل به فلا بأس بذلك، بل يستحب ذلك ويؤمر به إذا كانت الإعارة لأجل أن ترى عيون الكفار جند المسلمين وقصد بذلك عز المسلمين كان حسنًا محمودًا (2) . الفيء ومصرفه ولا حق للرافضة في الفيء. وليس لولاة الأمور أن يستأثروا منه بما فوق الحاجة، كالإقطاع يصرفونه فيما لا حاجة إليه، أو إلى من يهوونه قاله شيخنا وغيره (3) . ويقدم المحتاج على غيره في الأصح عن أحمد. وعمال الفيء إذا خانوا فيه وقبلوا هدية أو رشوة فمن فرض له دون أجرته أو دون كفايته وكفاية عياله بالمعروف لم يستخرج منه ذلك القدر. قال: وإن قلنا: لا يجوز لهم الأخذ خيانة، فإنه يلزم الإمام الإعطاء، فهو كأخذ المضارب حصته أو الغريم دينه بلا إذن فلا فائدة في استخراجه ورده إليهم، بل إن لم يصرفه الإمام في مصارفه الشرعية، لم يعن على ذلك، قال: وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه شاطر عماله.   (1) في الأصل ولم يعرض عنهما ولعله: ولم يعوض عنها. (2) مختصر الفتاوى ص (520، 521) ف (2/ 180) . (3) فروع جـ (6/ 291) ف (2/ 180) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 كسعد وخالد وأبي هريرة وعمرو بن العاص ولم يتهمهم بخيانة بينة بل بمحاباة اقتضت أن جعل أموالهم بينهم وبين المسلمين (1) . وليس للسلطان إطلاق الفيء دائمًا (2) . باب الأمان والهدنة ولا يصح إلا حيث جاز تأخير الجهاد مدة معلومة لازمة، قال شيخنا: وجائزة (3) . وإذا قال: هادناكم ما شئنا أو شاء فلان لم يصح في الأصح، كقوله: نقركم ما أقركم الله، واختار شيخنا صحته أيضًا (4) . وفي «المبهج» رواية برد مهر من شرط ردها مسلمة، ونصر لا يلزم، كما لو لم يشترط ذكر ذلك آخر الجهاد في فصل أرض العنوة والصلح، وقال قبيل (كتاب الجزية) ، نقل جعفر: المرأة منهم تجيء إلينا اليوم مسلمة يرد على زوجها المهر، فإن ذلك كان حينئذ ولا ترد المرأة، والظاهر أنه سقط لا قال شيخنا: رد المال الذي هو عوض عن رد المرأة المشروط ردها منسوخ، أما رده نفسه فلا ناسخ له، ولو لم تبق امرأة يشترط ردها فلا يرد مهرها لعدم سببه فإن وجد سببه هو إفساد النكاح فالآية دلت عليه ولم ينسخ، وفي لزوم مسلم تزوجها رد مهرها الذي كان دفعه إليها زوج كان إليه روايتان (5) .   (1) اختيارات ص (320) وفروع جـ (6/ 290، 291) ف (2/ 180) . (2) اختيارات ص (320) وفروع جـ (6/ 290) ف (2/ 180) . (3) فروع جـ (6/ 253) ف (2/ 2/ 182) . (4) فروع جـ (6/ 253) ف (2/ 182) . (5) فروع جـ (6/ 255) ف (2/ 182) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 أخذ الجزية والجزية شرعت عقوبة وعوضًا، عن حقن الدم عند أكثر العلماء، وأجرة عن سكني الدار عند بعضهم، ومن قال بالثاني لا يسقطها بإسلام من وجبت عليه ولا بموته، لا جزية على عبد مسلم، وفي عبد الكافر نزاع لأحمد وغيره (1) . قال ابن القيم رحمه الله: ولما كان في بعض الدول التي خفيت فيها السنة وأعلامها أظهر طائفة منهم كتابا قد عتقوه وزوروه وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقط عن يهود خيبر الجزية، وفيه شهادة علي بن أبي طالب وسعد بن معاذ وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم، فراج ذلك على من جهل سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومغازيه وسيره، وتوهموا بل ظنوا صحته، فجروا على حكم هذا الكتاب المزور، حتى ألقي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من طلب منه أن يعين على تنفيذه والعمل عليه، فبصق عليه، واستدل على كذبه بعشرة أوجه. تزوير اليهود: منها: أن فيه شهادة سعد بن معاذ، وسعد توفي قبل خيبر. ومنها: أن في الكتاب أنه أسقط عنهم الجزية، والجزية لم تكن نزلت بعد، ولا يعرفها الصحابة حينئذ فإن نزولها عام تبوك بعد خيبر بثلاثة أعوام. ومنها: أنه أسقط عنهم الكلف والسخر، وهذا محال فلم يكن في زمانه كلف ولا سخر تؤخذ منهم ولا من غيرهم، وقد أعاذه الله وأعاذ أصحابه من أخذ الكلف والسخر؛ وإنما هي من وضع الملوك الظلمة واستمر الأمر عليها.   (1) مختصر الفتاوى ص (512) ف (2/ 183) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 ومنها: أن هذا الكتاب لم يذكره أحد من أهل العلم على اختلاف أصنافهم، فلم يذكره أحد من أهل المغازي والسير، ولا أحد من أهل الحديث والسنة، ولا أحد من أهل الفقه والإفتاء، ولا أحد من أهل التفسير، ولا أظهروه في زمان السلف لعلمهم أنهم إن زوروا مثل ذلك عرفوا كذبه وبطلانه، فلما استرقوا بعض الدول في وقت فتنة وخفاء بعض السنة زوروا ذلك وعتقوه وأظهروه، وساعدهم على ذلك طمع بعض الخائنين لله ولرسوله، ولم يستمر لهم ذلك حتى كشف الله أمره وبين خلفاء الرسل بطلانه وكذبه (1) . قال شيخنا: ولما كان عام إحدى وسبعمائة أحضر جماعة من يهود دمشق عهودًا ادعوا أنها قديمة، وكلها بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقد غشونا (2) بما يقتضي تعظيمها وكانت قد نفقت على ولاة الأمور من مدة طويلة فأسقطت (3) عنهم الجزية بسببها، وبأيديهم توقيع ولاة فلما وقفت عليها تبين في نفسها (4) ، ما يدل على كذبها من وجوه كثيرة جدًا. منها: اختلاف الخطوط اختلافًا متفاقمًا في تأليف الحروف الذي يعلم معه أن ذلك لا يصدر عن كاتب واحد، وكلها نافية أنه خط علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ومنها: أن فيها من اللحن الذي يخالف لغة العرب ما لا يجوز نسبة مثله إلى علي رضي الله عنه ولا غيره.   (1) زاد المعاد ج (2/ 79، 80) ف (2/ 183) . (2) في الاختيارات (وقد لبسوها) . (3) في الاختيارات فأسقطوا. (4) وبيدهم تواقيع ولاة الأمور بذلك فلما وقفت عليها تبين لي في نقشها ما يدل على كذبها من وجوه عديدة جدًا، الاختيارات ص (317) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 ومنها: الكلام الذي لا يجوز نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق اليهود مثل: (إنهم يعاملون بالإجلال والإكرام) وقوله: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وقوله (أحسن الله بكم الجزاء) وقوله: (عليه أن يكرم محسنكم ويعفو عن مسيئكم) وغير ذلك. ومنها: أن في الكتاب إسقاط الخراج عنهم مع أنهم في أرض الحجاز، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضع خراجا قط، وأرض الحجاز لا خراج فيها بحال، والخراج أمر يجب على المسلمين فكيف يسقط عن أهل الذمة؟ ومنها: أن في بعضها إسقاط الكلف والسخر عنهم، وهذا مما فعله الملوك المتأخرون لم يشرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه. وفي بعضها: أنه شهد عنده عبد الله بن سلام وكعب بن مالك وغيرهما من أحبار اليهود، وكعب بن مالك لم يكن من أحبار اليهود فاعتقدوا أنه كعب الأحبار وذلك لم يكن من الصحابة وإنما أسلم على عهد عمر رضي الله عنه. ومنها: أن لفظ الكلام ونظمه ليس من جنس كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنها: أن فيه من الإطالة والحشو ما لا يشبه عهود النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفيها وجوه أخر متعددة مثل أن هذه العهود لم يذكرها أحد من العلماء المتقدمين قبل ابن شريح ولا ذكروا أنها رفعت إلى أحد من ولاة الأمور فعملوا بها ومثل ذلك مما يتعين شهرته ونقله (1) . ومن كان من أهل الذمة زنديق يبطن جحود الصائغ أو جحود الرسل أو الكتب المنزلة أو الشرائع أو المعاد ويظهر التدين بموافقة أهل الكتاب فهذا يجب قتله بلا ريب كما يجب قتل من ارتد من أهل   (1) أحكام أهل الذمة لابن القيم (51-54) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 الكتاب إلى التعطيل، فإن أراد الدخول في الإسلام فهل يقال: إنه يقتل أيضا كما يقتل منافق المسلمين لأنه ما زال يظهر الإقرار بالكتب والرسل؟ أو يقال: بل دين الإسلام فيه من الهدى والنور ما يزيل شبهته؟ بخلاف دين أهل الكتابين؟ هذا فيه نظر (1) . واختار أبو العباس في رده على الرافضي أخذ الجزية من جميع الكفار، وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد بل كانوا قد أسلموا. وقال في الاعتصام بالكتاب والسنة، من أخذها من الجميع أو سوى بين المجوس وأهل الكتاب فقد خالف الكتاب والسنة. ولا يبقى في يد راهب مال إلا ما يتبلغ به فقط. ويجب أن يؤخذ منه مال كالورق التي في الديورة والمزارع إجماعا. ومن له تجارة منهم أو زراعة وهو مخالطهم أو معاونهم على دينهم كمن يدعو إليه من راهب وغيره تلزمه الجزية، وحكمه حكمهم بلا نزاع (2) . وقال شيخنا: اتفقوا على التسوية، بين اليهود والنصارى لتقابلهما وتعارضهما (3) والعشور التي تؤخذ من تجار أهل الحرب تدخل في أحكام الجزية وتقديرها على الخلاف (4) . لعن الكفار: ولعن الكفار مطلقا حسن لما فيهم من الكفر، وأما لعن المعين   (1) الاختيارات (317) ف (2/ 170، 183) . (2) اختيارات ص (319) ف (2/ 183) . (3) فروع جـ (6/ 260) ف (2/ 183) . (4) اختيارات ص (319) ف (2/ 185) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 فينهى عنه وفيه نزاع، وتركه أولى (1) . تشميت العاطس وإذا كان كافرا أو ذميا أو ما شابة: قال أحمد في رواية أبي طالب: التشميت يهديكم الله ويصلح بالكم، وهذا معنى ما نقل غيره، وقال في رواية حرب، هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه، وقال ابن تميم: يرد عليه العاطس وإن كان المشمت كافرا، فيقول: آمين يهديكم الله ويصلح بالكم وإن كان المشمت المسلم، يغفر الله لنا ولكم، فحسن والأول أفضل، وكذا ذكر ابن عقيل إلا قوله، وإن كان المشمت كافرا، وقال القاضي: إنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لفظان: أحدهما: (يهديكم الله) الثاني: (يرحمكم الله) كذا قال: وصوابه: (يغفر الله لكم) قاله الشيخ تقي الدين (2) . قال ابن تيمي: لا يشمت الرجل الشابة ولا تشمته، وقال حرب: قلت لأحمد: الرجل يشمت المرأة إذا عطست فقال: إن أراد أن يستنطقها يسمع كلامها فلا؛ لأن الكلام فتنة، وإن لم يرد ذلك فلا بأس أن يشمتها قال الشيخ تقي الدين فيه عموم في الشابة (3) . فإن عطس رابعة لم يشمته ذكره السامري وقدمه في الرعاية، وهو الذي ذكره الشيخ عبد القادر ومذهب مالك وغيره، وقال الشيخ تقي الدين، وهو المنصوص عن أحمد وذكر رواية صالح ومهنا (4) . وكره الإمام أحمد الدعاء لكل أحد بالبقاء ونحوه لأنه شيء فرغ منه، واختاره شيخنا (5) .   (1) مختصر الفتاوى (512) ف (2/ 183) . (2) الآداب (2/ 335) ف (2/ 183) . (3) الآداب (2/ 341) ف (2/ 183) . (4) الآداب (2/ 342) ف (2/ 183) . (5) فروع (6/ 270) ف (2/ 184) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 قال الشيخ تقي الدين: وقد نص أحمد على أنه لا يستحب تشميت الذمي، ذكره أبو حفص في كتاب الأدب عن الفضل بن زياد، قال: قلت: يا أبا عبد الله لو عطس يهدي قلت له يهديكم الله ويصلح بالكم قال: أي شيء يقال لليهودي؟ كأنه لم يره، قال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه لم يستحب تشميته لأن التمشيت تحية له فهو كالسلام ولا يستحب أن يبدأ بالسلام كذلك التشميت ويدل عليه ما رواه أبو حفص بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن للمسلم على المسلم ست خصال إن ترك شيئا منهن ترك حقا واجبا عليه: إذا دعاه أن يجيبه وإذا مرض أن يعوده، وإذا مات أن يحضره وإذا لقيه إن يسلم عليه، وإذا استنصحه أن ينصحه، وإذا عطس أن يشمته، أو يسمته) فلما خص المسلم بذلك دل على أن الكافر بخلافه وهو في السنن إلا قوله: حقا واجبا عليه، ولأحمد ومسلم من حديث أبي هريرة: حق المسلم على المسلم ست، وذكره. قال الشيخ تقي الدين: التخصيص بالوجوب أو الاستحباب إنما ينفى ذلك في حق الذمي كما ذكره أحمد في النصيحة، وإجابة الدعوة لا تنفي جواز ذلك في حق الذمي من غير استحباب ولا كراهة كإجابة دعوته والذي ذكره القاضي وهو ظاهر كلام أحمد أنه يكره، وكلام ابن عقيل إنما نفى الاستحباب، وفي المسألة تعاطس اليهود عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يجيبهم بالهداية، وإذا كان في التهنئة والتعزية روايتان فالتشميت كذلك (1) . فإذا سلم أحدهم وجب الرد عليه عند أصحابنا وعند عامة العلماء لصحة الأحاديث عنه عليه السلام بالرد.   (1) الآداب ج (2/ 346، 347) ف (2/ 183) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 السلام عليهم وتهنئتهم وتعزيتهم وعيادة مرضاهم: وقال الشيخ تقي الدين: إذا سلم الذمي على المسلم فإنه يرد عليه مثل تحيته، وإن قال: أهلا وسهلا فلا بأس. كذا قال: وجزم في مواضع أخر بمثل قول الأصحاب (1) . وتحرم البداءة بالسلام، وفي الحاجة احتمال، نقل أبو داود فيمن له حاجة إليه، لا يعجبني، ومثله: كيف أنت؟ أو أصبحت؟ أو حالك؟ نص عليه وجوزه شيخنا (2) . وقال الشيخ تقي الدين: إن خاطبه بكلام غير السلام مما يؤنسه له فلا بأس بذلك (3) . واختلف كلام أبي العباس في تحية الذمي، هل ترد بمثلها، أو وعليكم فقط؟ ويجوز أن يقول: أهلا وسهلا. وتجوز عيادة أهل الذمة، وتهنئتهم وتعزيتهم، ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة كرجاء الإسلام. وقال العلماء: يعاد الذمي ويعرض عليه الإسلام (4) . من الشروط عليهم: ويمنع أهل الذمة من إظهار الأكل في نهار رمضان؛ فإن هذا من المنكر في دين الإسلام (5) . وليس لهم إظهار شيء من شعائر دينهم في دار الإسلام لا وقت   (1) الآداب (3/ 414) ف (2/ 183) . (2) يعني قوله كيف أنت إلخ فروع ج (6/ 271) ف (2/ 184) . (3) الآداب ج (2/ 416) ف (2/ 183) . (4) اختيارات (319، 320) ف (2/ 185) . (5) اختيارات (318) ف (2/ 183) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 الاستسقاء ولا عند لقاء الملوك. ويمنعون من المقام في الحجاز، وهو مكة، والمدينة واليمامة، والينبع، وفدك، وتبوك، ونحوها وما دون المنحنى وهو عقبة الصوان من الشام كمعان (1) . وإن أبى الذمي بذل الجزية أو الصغار أو التزام حكمنا ينقض عهده، وساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقتل ولو أسلم وهو مذهب أحمد. ومن قطع الطريق على المسلمين أو تجسس عليهم أو أعان أهل الحرب على سبي المسلمين أو أسرهم وذهب بهم إلى دار الحرب ونحو ذلك مما فيه مضرة على المسلمين فهذا يقتل ولو أسلم. ولو قال الذمي: هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب ينغصون علينا، إن أراد طائفة معينين عوقب عقوبة تزجره وأمثاله، وإن ظهر منه قصد العموم ينقض عهده وجب قتله (2) . وإذا شرط ولي الأمر على التجار الداخلين إلى بلاد الإسلام، وهم من أهل الحرب أن يضمنوا ما أخذه أهل الحرب منهم لتجار المسلمين جاز ذلك وكان شرطا صحيحان لأن غايته أنه ضمان مجهول أو ضمان ما لم يجب، فهو كضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التاجر للناس من الديون، وهذا جائز عند أكثر العلماء مالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم، كما في قوله {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [72/12] ولأن هؤلاء الطائفة الممتنعة ينصر بعضهم بعضا فهم كالشخص الواحد؛ فإذا اشترطوا أن تجارهم يدخلون بلاد الإسلام بشرط ألا يأخذوا للمسلمين شيئا وما أخذوه كانوا ضامنين له والمضمون يؤخذ من أموال التجار جاز ذلك؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسير العقيلي   (1) اختيارات (319) فروع ج (6/ 276) ف (2/ 184) . (2) اختيارات (319، 320) ف (2/ 185) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 حين قال: يا محمد علام أوخذ؟ فقال: (بجريرة حلفائك من ثقيف) وأسره النبي - صلى الله عليه وسلم - وحبسه لينال بذلك من حلفائه مقصوده. ولو أسرنا حربيًا لأجل تخليص من أسروه منا جاز باتفاق المسلمين. ولنا أن نحبسه حتى يردوا أسيرنا، ولو أخذنا مال حربي حتى يردوا علينا ما أخذوه لمسلم جاز، فإذا اشترط عليهم ذلك في عقد الأمان جاز (1) . وليس لأهل الذمة إظهار شيء من شعائر دينهم في ديار المسلمين، لا في أوقات الاستسقاء ولا في وقت مجيء النوائب، ويمنعون من إظهار التوراة، ولا يرفعون أصواتهم بالقراءة وصلاتهم، وعلى ولي الأمر منعهم من ذلك (2) . وكان شيخي رحمه الله يقول: لا يمنع أهل الذمة، من ركوب جنس الخيل، فلو ركبوا البراذين التي لا زينة فيها والبغال على هذه الصفة فلا منع. والحمار الذي تبلغ قيمته مبلغا إذا ركبه واحد منهم لم أر للأصحاب فيه منعا، ولعلهم نظروا إلى الجنس، ومن الكلام الشائع: ركوب الحمار ذل، وركوب الخيل عز انتهى (3) . ويمنعون من تعلية البنيان على جيرانهم المسلمين، وقال العلماء: ولو في ملك مشترك بين مسلم وذمي، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب (4) .   (1) مختصر الفتاوى (516) ف (2/ 184) . (2) مختصر الفتاوى (517) ف (2/ 814) . (3) أحكام أهل الذمة (759) ف (2/ 184) . (4) اختيارات (318) ف (2/ 184) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 الكنائس والبيع والديورة هل تبقى؟ وورد على شيخنا استفتاء في أمر الكنائس صورته: ما يقول السادة العلماء وفقهم الله: في إقليم توافق أهل الفتوى في هذا الزمان على أن المسلمين فتحوه عنوة من غير صلح ولا أمان فهل ملك المسلمون ذلك الإقليم المذكور بذلك؟ وهل يكون الملك شاملا لما فيه من أموال الكفار من الأثاث والمزارع والحيوان والرقيق والأرض والدور والبيع والكنائس والقلايات والديورة ونحو ذلك، أو يختص الملك بما عدا متعبدات أهل الشرك؟ فإن ملك جميع ما فيه فهل يجوز للإمام أن يعقد لأهل الشرك من النصارى واليهود بذلك الإقليم أو غير الذمة على أن يبقى ما بالإقليم المذكور من البيع والكنائس والديورة ونحوها متعبدا لهم وتكون الجزية المأخوذة منهم في كل سنة في مقابلة ذلك بمفرده، أو مع غيره، أم لا؟ فإن لم يجز لأجل ما فيه من تأخير ملك المسلمين عنه فهل يكون حكم الكنائس ونحوها حكم الغنيمة يتصرف فيه الإمام تصرفه في الغنائم أم لا؟ وإن جاز للإمام أن يعقد الذمة بشرط بقاء الكنائس ونحوها فهل يملك من عقدت له الذمة بهذا العقد رقاب البيع والكنائس والديورة ونحوها ويزول ملك المسلمين عن ذلك بهذا العقد، أم لا لأجل أن الجزية لا تكون عن ثمن مبيع؟ وإذا لم يملكوا ذلك وبقوا على الانتفاع بذلك وانتقض عهدهم بسبب يقتضي انتقاضه إما بموت من وقع عقد الذمة معه ولم يعقبوا أو أعقبوا فإن قلنا إن أولادهم يستأنف معهم عقد الذمة كما نص عليه الشافعي فيما حكاه ابن الصباغ وصححه العراقيون واختاره ابن أبي عصرون في المرشد، فهل لإمام الوقت أن يقول: لا أعقد لكم الذمة إلا بشرط أن لا تدخلوا الكنائس والبيع والديورة في العقد، فتكون كالأموال التي جهل مستحقوها وأيس من معرفتها، أم يجوز له الامتناع من إدخالها في عقد الذمة، بل يجب عليه إدخالها في عقد الذمة؟ فهل ذلك يختص بالبيع والكنائس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 والديورة التي تحقق أنها كانت موجودة عند فتح المسلمين، ولا يجب عليه ذلك عند التردد، في أن ذلك كان موجودا عند الفتح أو حدث بعد الفتح، أو يجب عليه مطلقا فيما تحقق أنه كان موجودا قبل الفتح أو شك فيه؟ وإذا لم يجب في حالة الشك فهل يكون ما وقع الشك في أنه كان قبل الفتح وجهل الحال فيمن أحدثه لمن هو؟ لبيت المال، أم لا؟ وإذا قلنا: إن من بلغ من الأولاد من عقدت معهم الذمة وإن سفلوا ومن غيرهم لا يحتاجون أن تعقد لهم الذمة بل يجري عليهم حكم من سلف، إذا تحقق أنه من أولادهم، يكون حكم كنائسهم وبيعهم حكم أنفسهم، أم يحتاج إلى تجديد عقد وذمة؟ وإذا قلنا إنهم يحتاجون إلى تجديد عقد عند البلوغ فهل تحتاج كنائسهم وبيعهم إليه أم لا؟ فأجاب: الحمد لله ما فتحه المسلمون كأرض خيبر التي فتحت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكعامة أرض الشام وبعض مدنها وكسواد العراق إلا مواضع قليلة فتحت صلحا وكأرض مصر فإن هذه الأقاليم فتحت عنوة على خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد ري في أرض مصر أنها فتحت صلحا، وروي أنها فتحت عنوة، وكلا الأمرين صحيح، على ما ذكره العلماء المتأملون للروايات الصحيحة في هذا الباب؛ فإنها فتحت أولا صلحا، ثم نقض أهلها العهد فبعث عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستمده فأمده بجيش كثير فيه الزبير بن العوام ففتحها المسلمون الفتح الثاني عنوة. ولهذا روي من وجوه كثيرة أن الزبير سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن يقسمها بين الجيش كما سأله بلال قسم الشام فشاور الصحابة في ذلك فأشار عليه كبراؤهم كعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أن يحبسها فيئا للمسلمين ينتفع بفائدها أول المسلمين وآخرهم، ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 وافق عمر على ذلك بعض من كان خالفه ومات بعضهم، فاستقر الأمر على ذلك. فما فتحه المسلمون عنوة فقد ملكهم الله إياه، كما ملكهم ما استولوا عليه من النفوس والأموال والمنقول والعقار. ويدخل في العقار معابد الكفار ومساكنهم وأسواقهم ومزارعهم وسائر منافع الأرض، كما يدخل في المنقول سائر أنواعه من الحيوان والمتاع والنقد. ما يقال في الكنائس والديرة وما يفعل فيها من العبادات إما مبدل أو محدث لم يشرعه الله أو نهى عنه بعد ما شرعه. وليس لمعابد الكفار خاصة تقتضي خروجها عن ملك المسلمين؛ فإن ما يقال فيها من الأقوال ويفعل فيها من العبادات إما أن يكون مبدلا أو محدثا لم يشرعه الله قط، أو يكون الله نهى عنه بعد ما شرعه. وقد أوجب الله على أهل دينه جهاد أهل الكفر حتى يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا، ويرجعوا عن دينهم الباطل إلى الهدى ودين الحق الذي بعث الله به خاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ويعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. ولهذا لما استولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أرض من حاربه من أهل الكتاب وغيرهم كبني قينقاع والنضير وقريظة كانت معابدهم مما استولى عليه المسلمون ودخلت في قوله سبحانه {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [27/ 33] ، وفي قوله: {وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} [6/59] {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [7/59] . لكن وإن ملك المسلمون ذلك فحكم الملك متنوع، كما يختلف حكم الملك في المكاتب والمدبر، وأم الولد والعبد، وكما يختلف حكمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 في المقاتلين الذين يؤسرون، وفي النساء والصبيان الذين يسبون، كذلك يختلف حكمه في المملوك، نفسه والعقار والأرض والمنقول، وقد أجمع المسلمون على أن الغنائم لها أحكام مختصة بها لا تقاس بسائر الأموال المشتركة. ولهذا لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر أقر أهلها ذمة للمسلمين في مساكنهم وكانت المزارع ملكا للمسلمين عاملهم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشرط ما يخرج منها من ثمر أو زرع، ثم أجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته، واسترجع المسلمون ما كانوا أقروهم فيه من المساكن والمعابد. فصل وأما أنه هل يجوز للإمام عقد الذمة مع بقاء المعابد بأيديهم؟ فهذا فيه خلاف معروف في مذاهب الأئمة الأربعة. منهم من يقول: لا يجوز تركها لهم، لأنه إخراج ملك المسلمين عنها وإقرار الكفر بلا عهد قديم، ومنهم من يقول: بجواز إقرارهم فيها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر فيها، وكما أقر الخلفاء الراشدون الكفار على المساكن والمعابد. فمن قال بالأول قال: حكم الكنائس حكم غيرها من العقار، منهم من يوجب إبقاءه كمالك في المشهور عنه وأحمد في رواية، ومنهم من يخير الإمام فيه بين الأمرين بحسب المصلحة، وهذا قول الأكثرين وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه، وعليه دلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قسم نصف خيبر وترك نصفها لمصالح المسلمين. ومن قال بجواز إقرارها بأيديهم فقوله أوجه وأظهر، فإنهم لا يملكون بهذا الإقرار رقاب المعابد كما يملك الرجل ماله، كما أنهم لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 يملكون ما ترك لمنافعهم المشتركة كالأسواق والمراعي، كما لم يملك أهل خيبر ما أقرهم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المساكن والمعابد، ومجرد إقرارهم ينتفعون بها ليس تمليكا، كما لو أقطع المسلم بعض عقار بيت المال ينتفع بغلته أو سلم إليه مسجد أو رباط ينتفع به لم يكن ذلك تمليكا له؛ بل ما أقروا فيه من كنائس العنوة يجوز للمسلمين انتزاعها منها إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما انتزعها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل خيبر بأمره بعد إقرارهم فيها، وقد طلب المسلمون في خلافة الوليد بن عبد الملك أن يأخذوا من النصارى بعض كنائس العنوة التي خارج دمشق، فصالحوهم على إعطائهم الكنيسة التي داخل البلد وأقر ذلك عمر بن عبد العزيز أحد الخلفاء الراشدين ومن معه في عصره من أهل العلم؛ فإن المسلمين لما أرادوا أن يزيدوا جامع دمشق بالكنيسة التي إلى جانبه وكانت من كنائس الصلح لم يكن لهم أخذها قهرا، فاصطلحوا على المعاوضة بإقرار كنائس العنوة التي أرادوا انتزاعها، وكان ذلك الإقرار عوضا عن كنيسة الصلح التي لم يكن لهم أخذها عنوة. فصل ومتى انتقض عهدهم: ومتى انتقض عهدهم جاز أخذ كنائس الصلح منهم فضلا عن كنائس العنوة كما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان لقريظة والنضير لما نقضوا العهد؛ فإن ناقض العهد أسوأ حالا من الكافر الأصلي ولذلك لو انقرض أهل مصر من الأمصار ولم يبق من دخل في عهدهم فإنه يصير للمسلمين جميع عقارهم ومنقولهم من المعابد وغيرها فيئا، فإذا عقدت الذمة لغيرهم كان كالعهد المبتدأ وكان لمن يعقد لهم الذمة أن يقرهم في المعابد، وله أن لا يقرهم بمنزلة ما فتح ابتداء، فإنه لو أراد الإمام عند فتحه هدم ذلك جاز بإجماع المسلمين، ولم يختلفوا في جواز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 هدمه، وإنما اختلفوا في جواز بقائه، وإذا لم تدخل في العهد كانت فيئا للمسلمين. أما على قول الجمهور الذين لا يوجبون قسم العقار فظاهر. وأما على قول من يوجب قسمه فلأن عين المستحق غير معروف كسائر الأموال التي لا يعرف لها مالك معين. وأما تقدير وجوب إبقائها فهذا تقدير لا حقيقة له، فإن إيجاب إعطائهم معابد العنوة لا وجه له ولا أعلم به قائلا، فلا يفرع عليه؛ وإنما الخلاف في الجواز. نعم قد يقال في الأبناء إذا لم نقل بدخولهم في عهد آبائهم لأن لهم شبهة الأمان والعهد؛ بخلاف الناقضين فلو وجب لم يجب إلا ما تحقق أنه كان له؛ فإن صاحب الحق لا يجب أن يعطى إلا ما عرف أنه حقه، وما وقع الشك فيه -على هذا التقدير- فهو لبيت المال. وأما الموجودون الآن إذا لم يصدر منهم نقض عهد فهم على الذمة؛ فإن الصبي يتبع أباه في الذمة وأهل داره من أهل الذمة، كما يتبع في الإسلام أباه وأهل داره من المسلمين؛ لأن الصبي لما لم يكن مستقلا بنفسه جعل تابعا لغيره في الإيمان والأمان. وعلى هذا جرت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه والمسلمين في إقرارهم صبيان أهل الكتاب بالعهد القديم من غير تجديد عقد آخر. وهذا الجواب حكمه فيما كان من معابدهم قديما قبل فتح المسلمين. أما ما حدث بعد ذلك فإنه يجب إزالته، ولا يمكنون من إحداث البيع والكنائس كما شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 الشروط المشهورة عنه: «ألا يجددوا في مدائن الإسلام ولا فيما حولها كنيسة ولا صومعة ولا ديرا ولا قلاية» امتثالا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تكون قبلتان ببلد واحد) رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد، ولما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا كنيسة في الإسلام. وهذا مذهب الأئمة الأربعة في الأمصار، ومذهب جمهورهم في القرى، وما زال من يوفقه الله من ولاة أمور المسلمين ينفذ ذلك ويعمل به مثل عمر بن عبد العزيز الذي اتفق المسلمون على أنه إمام هدى؛ فروى الإمام أحمد عنه أنه كتب إلى نائبه عن اليمن أن يهدم الكنائس التي في أمصار المسلمين؛ فهدمها بصنعاء وغيرها. وروى الإمام أحمد عن الحسن البصري أنه قال: من السنة أن تهدم الكنائس التي في الأمصار القديمة والحديثة. وكذلك هارون الرشيد في خلافته أمر بهدم ما كان في سواد بغداد، وكذلك المتوكل لما ألزم أهل الكتاب بشروط عمر استفتى أهل وقته في هدم الكنائس والبيع فأجابوه فبعث بأجوبتهم إلى الإمام أحمد فأجابه بهدم كنائس سواد العراق وذكر الآثار عن الصحابة والتابعين، فمما ذكره ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أيما مصر مصرته العرب يعني المسلمين فليس للعجم يعني أهل الذمة، أن يبنوا فيه كنيسة، ولا يضربوا فيه ناقوسا، ولا يشربوا فيه خمرا، وأيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فإن للعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يوفوا بعهدهم، ولا يكلفوهم فوق طاقتهم (1) . وكل مصر مصره العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة.. ولهم رم   (1) أحكام أهل الذمة (677-686) ف (2/ 184) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 ما تشعث منها، وعنه وبناؤها إذا انهدمت وعنه منعهما، اختاره الأكثر، قاله ابن هبيرة، كمنع الزيادة، قال شيخنا: ولو في الكيفية، وقال: لا أعلى ولا أوسع اتفاقا (1) . والكنائس ليست ملكا لأحد، وأهل الذمة ليس لهم منع من يعبد الله فيها لأنا صالحناهم عليه، والعابد بينهم وبين الغافلين أعظم أجرا (2) . لا يقال لزائر كنائسهم يا حاج ولا لمن يزور القبور والمشاهد: وإذا زار أهل الذمة كنيسة بيت المقدس فهل يقال لهم: يا حاج، مثلا؟ لا ينبغي أن يقال لهم ذلك تشبيها بحاج البيت الحرام، ومن اعتقد أن زيارتها قربة فقد كفر، فإن كان مسلما فهو مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن جهل أن ذلك محرم عرف ذلك، فإن أصر فقد كفر وصار مرتدًا، ومن قال لأحدهم: يا حاج فإنه يعاقب عقوبة بليغة تردعه عن مثل هذا الكلام الذي فيه تشبيه القاصدين للكنائس بالقاصدين لبيت الله الحرام، وفيه تعظيم لذلك النصراني وللكنيسة، وهو بمنزلة من يشبه أعياد النصارى بأعياد المسلمين ويعظمها، وأمثال ذلك مما فيه تشبيه الذين كفروا من أهل الكتاب بأهل الإيمان وقد قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [35/68] وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [28/38] . وأي نصراني قال لنصراني: يا حاج بين المسلمين، فإنه يعاقب على ذلك بما يردعه عقوبة بليغة.   (1) فروع (6/ 274) ف (2/ 184) . (2) اختيارات (243) ف (2/ 184) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 وكل من يسافر إلى زيارة القبور والمشاهد كما يفعله طوائف من الرافضة ونحوهم في تسميتهم ذلك حجا، وقد صنف بعضهم كتابا سماه مناسك حج المشاهد فمن شبه ذلك الشرك والوثنية بالحج المشروع وجعله مثله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن سماه حجا أو جعله مناسك فإنه أيضا يعاقب عقوبة بليغة بما يردعه وأمثاله (1) . ومما شرط عليهم أيضًا: ويلزم تمييز قبورهم عن قبورنا تمييزا ظاهرا كالحياة وأولى، ذكره شيخنا وألا يتكنوا بكنية المسلمين، كأبي القاسم، وأبي عبد الله، وكذا اللقب، كعز الدين، ونحوه قاله شيخنا. وقال شيخنا: ومن حمل سلاح والمقاتلة بثقاف ورمي وغيره، لأنه مشروط عليهم (2) . ومن حمل سلاح والعمل به وتعلم المقاتلة والطعان والرمي وركوب الخيل (3) . قال ابن القيم رحمه الله: ولما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته، وكادوا لولا دفاع الله أن يحترق كله، وعلم من علم بذلك من النصارى وواطئوا عليه وأقروه ورضوا به ولم يعلموا به ولي الأمر فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء وأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك وأعان عليه بوجه من الوجوه، أو رضي به وأقر عليه، وأن حده القتل حتما لا تخيير للإمام فيه كالأسير، بل صار القتل له حدا، والإسلام لا   (1) مختصر الفتاوى (514، 515) ف (2/ 184) . (2) فروع (6/ 269) . (3) اختيارات (318) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 يسقط القتل إذا كان حدا ممن هو تحت الذمة ملتزما لأحكام الله؛ بخلاف الحربي إذا أسلم فإن الإسلام يعصم دمه وماله ولا يقتل بما فعله قبل الإسلام، فهذا له حكم، والذمي الناقض للعهد إذا أسلم له حكم آخر، وهذا الذي ذكرناه هو الذي تقتضيه نصوص الإمام أحمد وأصوله، ونص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، وأفتى به في غير موضع (1) . وقال شيخنا: من تولى منهم ديوانا للمسلمين انتقض عهده لأنه من الصغار (2) .   (1) زاد المعاد (2/ 75) ف (2/ 185) . (2) فروع (6/ 205) ف (2/ 185) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 بسم الله الرحمن الرحيم مسألة: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فيمن يسمى الخميس المعروف بعيد النصارى عيدا وفيمن يعتقد أن مريم ابنة عمران عليها السلام تجر ذيلها ذلك اليوم على الزرع فينمو ويلحق اللقيس بالبكير، ويخرجون في ذلك اليوم ثيابهم وحلي النساء يرجون البركة من ذلك اليوم وكثرة الخير، ويكحلون الصبيان، ويمغرون الدواب والشجر لأجل البركة، ويصبغون البيض، ويقامرون به، ويعتقدون حله، ويدقون البخور، ويتبخرون به قصد البركة، أفتونا مأجورين؟ الجواب: قال الشيخ الإمام، العالم العامل، مفتي الفرق، أبو العباس، أحمد بن عبد الحليم، بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الحنبلي رحمه الله ورضي عنه. الحمد لله وحده، كل ما يفعل في أعياد الكفار من الخصائص التي يعظم بها فليس للمسلم أن يفعل شيئا منها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من تشبه بقوم فهو منهم) وقال - صلى الله عليه وسلم - (ليس منا من تشبه بغيرنا) وقد شارط عمر بن الخطاب رضي الله عنه أهل الكتاب ألا يظهروا شيئا من شعائر الكفار لا الأعياد ولا غيرها، واتفق المسلمون على نهيهم عن ذلك كما شرطه عليهم أمير المؤمنين، وسواء قصد المسلم التشبه بهم أو لم يقصد ذلك بحكم العادة التي تعودها فليس له أن يفعل ما هو من خصائصهم، وكل ما فيه تخصيص عيدهم بلباس وطعام ونحو ذلك فهو من خصائص أعيادهم، وليس ذلك من دين المسلمين. ومن قال: إن مريم تجر ذيلها على الزرع فينمو، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل؛ فإن هذا اعتقاد الكفار النصارى وهو من أفسد الاعتقادات فإن من هو أفضل من مريم من الأنبياء والمرسلين عليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 السلام لا سعى لهم في إنبات النبات، وإنزال القطر من السموات فكيف يكون ذلك من مريم عليها السلام؟ وإنما هذا اعتقاد النصارى فيها وفي شيوخهم القسيسين أنهم ينفعونهم أو يضرونهم، وهذا من شركهم الذي ذمهم الله تعالى به كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [31/9] ، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ} [79/3] الآيتين. فإذا كان من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا هو كافر فكيف بمن اتخذ مريم أو غيرها من الشيوخ؟ وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [56/17] قال طائفة من السلف: كان قوم يدعون العُزير والمسيح والملائكة فقال الله تعالى: هؤلاء الأنبياء والملائكة الذين تدعونهم يرجون رحمتي ويخافون عذابي كما ترجون رحمتي وتخافون عذابي ويتقربون إلي كما تتقربون إلي، وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويلا، فإذا كان هذا في الملائكة والنبيين فكيف بمن دونهم كمريم وغيرها من الصالحين الرجال والنساء؟ فمن دعا غير الله تعالى أو عبده فهو مشرك بالله العظيم، وإن كان ذلك رجل صالح أو امرأة صالحة. وكذلك التزين يوم عيد النصارى من المنكرات وصنعة الطعام الزائد عن العادة وتكحيل الصبيان وتحمير الدواب والشجر بالمغرة وغيرها وعمل الولائم وجمع الناس على الطعام في عيدهم، ومن فعل هذه الأمور يتقرب بها إلى الله تعالى راجيا بركتها فإنه يستتاب فإن تاب وإلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 قتل فإن هذا من إخوان النصارى، كما لو عظم رجل الصليب وصلى إلى المشرق، وتعمد بالعمودية فإن من فعل هذا فهو كافر مرتد يجب قتله شرعا وإن أظهر مع ذلك الإسلام. وكذلك صبغ البيض فيه. وأما القمار فيه فإنه حرام في كل وقت فيه وفي غيره. وكذلك البخور فيه ونحو ذلك. وبالجملة فليس ليوم عيدهم مزية على غيره، ولا يفعل فيه شيء مما يميزونه هم به. ولكن لو صامه الرجل قصدا لمخالفتهم فقد كرهه كثير من العلماء، كما روي عن أنس بن مالك، والحسن البصري، وأحمد بن حنبل، وغيرهم رضي الله عنهم، لأن من تخصيص أعياد الكفار بالصوم نوع تعظيم لها، وإن كانوا هم لا يصومونه فكيف إذا كان التعظيم من جنس ما يفعلونه؟ ألا ترى أن اليهود كانوا يتخذون يوم عاشوراء عيدا فيصومونه ويظهرون السرور فيه، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيامه مرة واحدة قبل أن يفرض رمضان، فلما فرض رمضان سقط وجوبه وبقي صومه مستحبا ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له إن اليهود والنصارى ويتخذونه عيدا قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) فقال أكثر أهل العلم مراده صوم التاسع والعاشر لئلا يخص يوم عاشوراء بالصوم، كما نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم، وكان يقول: (صوموا يوما قبله أو يوما بعدها) وهو - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا في عاشوراء بعد أن كان أمر بصيامه ليخالف اليهود ولا يشاركهم في إفراد تعظيمه هذا مع أن عاشوراء لم يشرع فيه غير الصوم باتفاق علماء المسلمين فكل ما يفعل فيه غير ذلك من الاختضاب والكحل والتزين والاغتسال والتوسع على العيال غير العادة فيه من حبوب وغيرها هو من البدع المحدثة في الدين لم يستحبها أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 من العلماء ولا السلف، بل كل ما روي فيها من الأحاديث المرفوعة فهي أحاديث موضوعة. فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره نوعًا من التشبه بهم في عاشوراء فكيف بأعياد الشعانين والخميس وغير ذلك من أعياد الكافرين؟ وقد ذهب طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل خصائص عيدهم، وقال بعضهم، من ذبح فيه بطيخة فكأنما ذبح خنزيرا. فالواجب على ولاة الأمور نهي الناس عن هذه المنكرات المحرمة وأمرهم بملازمة شعائر الإسلام الذي لا يقبل الله غيره {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ} [19/3] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [85/3] . مصورة عن مكتبة اسطنبول فقه نقلها من مكتبة الجامعة الإسلامية بخطة محمد بن عبد الرحمن بن قاسم 3/ 3/ 1412 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّسَ الله رُوحَه المجلد الرابع البيع - الخلع جمعه ورتبه محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 كتاب البيع وكل ما عده الناس بيعًا أو هبة: من متعاقب، أو متراخ، من قول، أو فعل، انعقد به البيع والهبة (1) . ومن استولى على ملك إنسان بلا حق ومنعه إياه حتى يبيعه إياه فهو كبيع المكره بلا عوض (2) . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: بيع الحرير للكفار حديث عمر رضي الله عنه يقتضي جوازه؛ بخلاف بيع الخمر؛ فإن الحرير ليس حرامًا على الإطلاق، وعلى قياسه بيع آنية الذهب والفضة لهم؛ وإذا جاز بيعها لهم جاز صنعتها لبيعها منهم، وجاز عملها لهم بالأجرة. انتهى كلامه ذكره في أول باب ما يجوز بيعه من تعليقه على المحرر (3) . قال شيخنا في الفتاوى المصرية: يجوز تصرفه فيما بيده بالوقف وغيره حتى تقوم حجة شرعية بأنه ليس ملكًا له؛ لكن لا يحكم بالوقف حتى يثبت الملك (4) . وفي مجموع أبي حفص في الإجارة: نقل يحيى بن محمد   (1) الاختيارات 121 ف 2/ 186. (2) اختيارات ص122 والفروع ج4/50 ف2/ 186. (3) الآداب 3/501 ف2/ 187. (4) فروع ج 4/406 ف2/ 187. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 الكحال: سألت أحمد عن رجل له حمام تقيمه غلته يريد أن يبيعه قال: لا يبيعه على أنه حمام يبيعه على أنه عقار ويهدم الحمام: ذكره الشيخ تقي الدين. قال: وكذلك الأبنية المصورة كنائس ونحو ذلك مما هو مبني للمنفعة المحرمة وما هو مصور على صورة المنفعة المحرمة ويمكن تصويره على صورة مباحة: مثل الحرير المفصل للرجال، وخاتم الذهب للرجل، وآنية الذهب والفضة (1) . قال ابن القيم رحمه الله: فصل وأما تحريم بيع الميتة فيدخل فيه كل ما يسمى ميتة سواء مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة لا تفيد حله، ويدخل فيه أبعاضها أيضًا، ولهذا استشكل الصحابة رضي الله عنهم تحريم بيع الشحم مع ما لهم فيه من المنفعة فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرام وإن كان فيه ما ذكروا من المنفعة. وهذا موضع اختلف فيه الناس لاختلافهم في فهم مراده - صلى الله عليه وسلم - وهو أن قوله: «لا هو حرام» هل هو عائد إلى البيع، أو عائد إلى الأفعال التي سألوا عنها فقال شيخنا: هو راجع إلى البيع فإنه - صلى الله عليه وسلم - لما أخبرهم أن الله حرم بيع الميتة قالوا: إن في شحومها من المنافع كذا وكذا يعنون فهل ذلك مسوغ لبيعها؟ فقال: «لا هو حرام» (2) . ومكة المشرفة فتحت عنوة. ويجوز بيعها لا إجارتها. فإن استأجرها فالأجرة ساقطة يحرم بذلها (3) . وجوز شيخنا بيع الصفة والسلم حالاً إن كان في ملكه. قال: وهو المراد بقوله - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» فلو لم يجز السلم حالاً لقال: لا تبع هذا. سواء كان عنده أولاً. وأما إذا لم يكن   (1) الآداب 3/321 ف 2/ 187. (2) زاد المعاد ج4/240 ف 2/187. (3) اختيارات ص121 فيها زيادة ف2/188. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 عنده فإنما يفعله لقصد التجارة والربح فيبيعه بسعر ويشتريه بأرخص ويلزمه تسليمه في الحال وقد يقدر عليه وقد لا تحصل له تلك السلعة إلا بثمن أعلى مما تسلف فيندم. وإن حصلت بسعر أرخص من ذلك ندم المسلف إذ كان يمكنه أن يشتريه بذلك الثمن؛ فصار هذا من نوع الميسر والقمار والمخاطرة، كبيع العبد الآبق والبعير الشارد يباع بدون ثمنه فإن حصل ندم البائع وإن لم يحصل ندم المشتري. وفي التلخيص وغيره: لا يصح بيع لحم في جلد أو معه اكتفاء برؤية الجلد فإنه بيع رءوس وسموط قال شيخنا في حيوان مذبوح: يجوز بيعه مع جلده جميعًا، كما قبل الذبح كقول جماهير العلماء، كما يعلمه إذا رآه حيًا. ومنعه بعض متأخري الفقهاء ظنًا أنه بيع غائب بدون رؤية ولا صفة. قال شيخنا: وكذلك يجوز بيع اللحم وحده والجلد وحده. وأبلغ من ذلك «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر في سفر الهجرة، اشتريا من رجل شاة، واشترطا له رأسها وجلدها وسواقطها وكذلك كان أصحابه عليه السلام يتبايعون (1) . ويجوز بيع الطير لقصد صوته إذا جاز حبسه. وفيه احتمالان لابن عقيل (2) . واختار أبو العباس صحة البيع بغير صفة وهو بالخيار إذا رآه، وهو رواية عن أحمد ومذهب الحنفية. وضعفه في موضع آخر (3) . وإن باعه لبنًا موصوفًا في الذمة واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة صح (4) . فلا يصح برقم مجهول، ولا بما ينقطع سعره، أو كما يبيع الناس   (1) الفروع ج 2/23، 94 ف2/ 189. (2) الفروع ج 4/ 29 ف2/189. (3) اختيارات 121 والفروع ج 4/9 ف2/ 189. (4) اختيارات 121 ف 2/ 189. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 على الأصح فيهن. وصححه شيخنا بثمن المثل، كنكاح، وأنه مسألة السعر، وأخذه من مسألة التحالف (1) . واحتج بما في المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نهى أن يسلم في حائط بعينه» إلا أن يكون قد بدا صلاحه، وقال: أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط جاز، كما يجوز أن يقول: ابتعت منك عشرة أوسق من هذه الصبرة، ولكن التمر يتأخر قبضه إلى كمال صلاحه (2) . ويجوز بيع الكلاء ونحوه الموجود في أرضه إذا قصد استنباته (3) . ولو باع ولم يسم الثمن صح بثمن المثل كالنكاح (4) . فصل ولا يصح بيع ما قصد به الحرام كعصير يتخذه خمرًا إذا علم ذلك كمذهب أحمد وغيره، أو ظن وهو أحد القولين. ويؤيده أن الأصحاب قالوا: لو ظن المؤجر أن المستأجر يستأجر الدار لمعصية كبيع الخمر ونحوه لم يجز له أن يؤجره تلك الدار ولم تصح الإجارة. والبيع والإجارة سواء (5) . وإن جمع البائع بين عقدين مختلفي الحكم بعوضين متميزين لم يكن للمشتري أن يقبل أحدهما بعوضه (6) . ومن باع ربويًا بنسيئة حرم أخذه عن ثمن ما لا يباع به نسيئة ما لم   (1) اختيارات ص 121 ف 2/189. (2) الفروع ج 4/ 30 ف 2/190. فيه زيادة إيضاح. (3) الفروع 4/25، 26 ق 2/189. (4) اختيارات ص 121 فيه زيادة إيضاح ف 2/189. (5) اختيارات ص 122 ف 2/ 190. (6) اختيارات ص 122 ف 2/190 فروع ج 4/ 42 ف 2/ 190. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 تكن حاجة، وهو توسط بين الإمام أحمد في تحريمه والشيخ أبي مقدس في حله (1) . وقال أحمد أيضًا: أكره للرجل ألا يكون له تجارة غير النسيئة فلا يبيع بنقد. قال ابن عقيل: إنما كره ذلك لمضارعته الربا، فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبًا، وعلله شيخنا ابن تيمية رضي الله عنه بأنه يدخل في بيع المضطر؛ فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه؛ فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة، وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرًا من التجار (2) . فصل ويحرم الشراء على شراء أخيه، وإذا فعل ذلك كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة وأخذ السلعة أو عوضها (3) . وتحرم مسألة التورق، وهو رواية عن أحمد (4) . قوله: «كشرائه وبيعه زمن الخيار» قال ابن رجب: ومال الإمام أحمد إلى القول بأنه عام في الحالين يعني مدة الخيار وبعدها ولو لزم العقد ... وتبع في ذلك الشيخ تقي الدين فإنه سئل عن ذلك في المسائل البغدادية وأجاب بأن الذي يدل عليه كلام الإمام أحمد وقدماء أصحابه أنه لا فرق بين زمن الخيار وعدمه، فما أطلقه أبو الخطاب ذكره أبو بكر، وكذلك ذكره القاضي وغيره. وإن كان هذا القيد ذكره جماعة   (1) اختيارات ص 129 ف 2/190. (2) اختيارات ص129 والفروع ج4/ 45، 46، 71 ف 2/191. (3) تهذيب السنن ج 5/ 109 ف2/191. (4) اختيارات ص 122 ف 2/191. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 منهم القاضي في بعض المواضع، وابن عقيل فيما أظن، وأبو حكيم وصاحبه السامري، وأسعد بن منجا وأبو محمد وأبو البركات وغيرهم وأطال في ذلك واختاره. وذكر المسألة أيضًا في إبطال التحليل (1) . وسأله ابن الحكم عن رجل يقر بالعبودية حتى يباع قال: يؤخذ المقر والبائع بالثمن، فإن مات أحدهما أو غاب أخذ الآخر بالثمن واختاره شيخنا (2) . وقال الشيخ تقي الدين: يكره للرجل أن يحب غلو أسعار المسلمين ويكره الرخص. ويكره المال المكسوب من ذلك، كما قال من قال من الأئمة: إن مالاً جمع من عموم المسلمين لمال سوء (3) . قال أحمد: لا ينبغي أن يتمنى الغلاء (4) . ومن ضمن مكانًا للبيع ويشتري فيه وحده كره الشراء منه بلا حاجة. ويحرم عليه أخذ زيادة بلا حق (5) . ولا يربح على المسترسل أكثر من غيره. وله أن يأخذه منه بالقيمة المعروفة بغير اختياره. قال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك قال: إذا كان أجله إلى سنة أو أقل بقدر الربح فلا بأس به. وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل؛ لأنه شبه بيع المضطر. وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة (6) . وإذا اتفق أهل السوق على ألا يزيدوا في سلعة لهم فيها غرض   (1) اختيارات ص128 ف 2/191. (2) الفروع وتصحيحه ج 4/45-47 باختصار ف 2/191. (3) الفروع ج 4/51 ف 2/191 ص 126 ف 2/196 وانظر الزركشي 3/ 577. (4) الآداب ج 3/ 294 ف 2/ 194. (5) الاختيارات 192 ف 2/ 194 والفروع 4/ 54. (6) الاختيارات 122، 123 فروع 4/ 54 فيه زيادة 2/ 196. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 ليشتريها أحدهم ويتقاسموها فهذا يضر بالمسلمين أكثر من تلقي الركبان، أما إذا اتفق اثنان وفي السوق من يزيد فلا يحرم ذلك؛ لأن باب المزايدة مفتوح. ولا يجوز أن يطلب بالسلعة ثمنًا كثيرًا ليغري المشتري بها فيدفع ما يزيد على قيمتها إذا كان جاهلاً بالقيمة (1) . باب الشروط في البيع وتصح الشروط التي لم تخالف الشرع في جميع العقود -فلو باع جارية وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن صح البيع والشرط، ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن أحمد نحو العشرين نصًا على صحة الشروط، وأنه يحرم الوطء لنقص الملك. سأل أبو طالب الإمام أحمد عمن اشترى أمة يشترط أن يتسرى بها لا للخدمة قال: لا بأس به، وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط على البائع فعلاً أو تركًا في البيع مما هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه صح البيع والشرط كاشتراط العتق، وكما اشترط عثمان لصهيب وقف داره عليه، ومثل هذا أن يبيعه بشرط أن يعلمه، أو شرط ألا يخرجه من ذلك البلد، أو شرط ألا يستعمله في العمل الفلاني، أو أن يزوجه، أو يساويه في المطعم، أو لا يبيعه، أو لا يهبه. فإذا امتنع المشتري من الوفاء فهل يجبر عليه أو يفسخ؟ على وجهين؛ وهو قياس قولنا: إذا شرط في النكاح ألا يسافر بها أو ألا يتزوج عليها؛ إذ لا فرق في الحقيقة بين الزوجة والمملوك (2) . وإذا شرط البائع نفع المبيع لغيره مدة معلومة -فمقتضى كلام أصحابنا جوازه؛ فإنهم احتجوا بحديث أم سلمة: «أنها أعتقت سفينة   (1) مختصر الفتاوى 323 ف 2/196. (2) اختيارات 123 ف 2/196. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وشرطت عليه أن يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش» . واستثناء خدمة غيره في العتق كاستثنائها في البيع (1) . وشرط البراءة من كل عيب، باطل، وعلله جماعة من أصحابنا بأنه خيار يثبت بعد البيع فلا يسقط قبله كالشفعة. ومقتضى هذا التعليل صحة البراءة من العيوب بعد عقد البيع. وقال المخالف: في صحة البراءة إسقاط حق. وصح في المجهول كالطلاق والعتاق. قيل له: والجواب: أنا نقول بوجوبه، وأنه يصح في المجهول لكن بعد وجوبه. والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كل عيب والذي تقضي به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم أن البائع إذا لم يكن علم بذلك العيب فلا رد للمشتري؛ لكن إذا ادعى أن البائع علم بذلك فأنكر البائع حلف أنه لم يعلم، فإن نكل قضي عليه (2) . لو قال: بعتك إن جئتني بكذا، أو إن رضي زيد صح البيع والشرط، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (3) . وإن علق عتق عبده ببيعه وكان قصده بالتعليق اليمين دون التبرر بعتقه أجزأه كفارة يمين. وإن قصد به التقرب كان عتقه مستحقًا كالنذر فلا يصح بيعه، ويكون العتق معلقًا على صورة البيع. وطرد أبو العباس قوله هذا في تعليق الطلاق على الفسخ والخلع فجعله معلقًا على صورة الفسخ والخلع. قال: ولو قيل بانعقاد الفسخ والعقد المعلق عليه فلا يمتنع وقوع الطلاق معه على رأي ابن حامد حيث أوقعه مع البينونة بانقضاء العدة فكذلك بالفسخ (4) .   (1) اختيارات ص 124 ف 2/196. (2) اختيارات 124 ف 2/196. (3) اختيارات 123 فروع 4/ 62 ف 2/196. (4) اختيارات 125، 126 ف 2/196. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 باب الخيار ويثبت خيار المجلس في البيع، ويثبت خيار الشرط في كل العقود ولو طالت المدة، فإن أطلقا الخيار ولم يوقتاه بمدة توجه أن يثبت ثلاثًا، لخبر حبان بن منقذ. وللبائع الفسخ في مدة الخيار إذا رد الثمن وإلا فلا. ونقل أبو طالب عن أحمد وكذلك التملكات القهرية لإزالة الضرر كالأخذ بالشفعة وأخذ الغراس والبناء من المستعير والمستأجر والزرع من الغاصب (1) . ويثبت خيار مسترسل إلى البائع لم يماسكه. اختاره شيخنا (2) . والنماء المتصل في الأعيان المملوكة العائد إلى من انتقل الملك عنه، لا يتبع الأعيان، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب حيث قال: إذا اشترى غنمًا فنمت ثم استحقت فالنماء له وهو يعم المتصل والمنفصل (3) . ويحرم كتم العيب: ذكره الترمذي عن العلماء. وذكر أبو الخطاب: يكره. وفي التبصرة: وهو نص أحمد ويصح. وعنه لا. نقل حنبل بيعه مردود، اختاره أبو بكر. وكذا لو أعلمه به ولم يعلما قدر عيبه ذكره شيخنا (4) . وإن اشترى شيئًا وظهر به عيب فله أرشه إن تعذر رده، وإلا فلا. وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة والشافعي، وكذا في نظائره كالصفقة إذا تفرقت. والمذهب يخير المشتري بين الرد وأخذ الثمن   (1) الاختيارات ص125 ف 2/196. (2) الفروع 4/97، توضيح ف2/196، وعبارة الاختيارات ص125: ويثبت خيار الغبن لمسترسل، لا لبائع لم يماسكه وهو مذهب أحمد. (3) اختيارات 126 وانظر الزركشي ج3/577 ف 2/196. (4) الفروع ج4/94 ف2/198. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 وإمساكه وأخذ الأرش. فعليه يجبر المشتري على الرد وأخذ الأرش لتضرر البائع بالتأخير (1) . والجار السوء عيب (2) . وإذا ظهر عسر المشتري أو مطله فللبائع الفسخ (3) . فصل في التصرف في المبيع قبل قبضه، وما يحصل به قبضه. من اشترى شيئًا بكيل أو وزن نقله جماعة. وعنه: المطعوم منهما وظاهر المذهب، أو عدد، والمشهور أو ذرع (و) وذكره شيخنا (4) . ولا يتصرف فيه ولا بإجارة قبل قبضه. وعنه يجوز من بائعه وفي رهنه وهبته بلا عوض بعد قبض ثمنه وجهان. ويصح عتقه قولاً واحدًا وذكره شيخنا. وجوز شيخنا التولية والشركة وجوز التصرف بغير بيع، وبيعه لبائعه (5) . ويملك المشتري المبيع بالعقد، ويصح عتقه قبل القبض إجماعًا فيهما. ومن اشترى شيئًا لم يبعه قبل قبضه سواء كان المكيل والموزون وغيرهما، وهو رواية عن أحمد اختارها ابن عقيل ومذهب الشافعي، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وسواء كان المبيع من ضمان   (1) الاختيارات ص126 ف2/198. (2) الاختيارات ص126 ف2/ 198. (3) الاختيارات ص126 ف2/ 198. (4) فروع 6/134 ف 2/199. (5) فروع ج 6/135 ف 2/199. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 المشتري أولى، وعلى ذلك تدل أصول أحمد، كتصرف المشتري في الثمرة قبل جدها في أصح الروايتين وهي مضمونة على البائع، وكصحة تصرف المستأجر في العين المؤجرة بالإجارة وهي مضمونة على المؤجر. ويمنع التصرف في صبرة الطعام المشتراة جزافًا على إحدى الروايتين وهي اختيارات الخرقي مع أنها من ضمان المشتري، وهذه طريقة الأكثرين. وعلة النهي عن البيع قبل القبض ليست توالي الضمانين؛ بل عجز المشتري عن تسليمه؛ لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسلمه، لا سيما إذا رأى المشتري قد ربح فيسعى في رد المبيع إما بجحد أو احتيال في الفسخ. وعلى هذه العلة تجوز التولية في المبيع قبل قبضه، وهو مخرج من جواز بيع الدين. ويجوز التصرف فيه بغير البيع، ويجوز بيعه لبائعه، والشركة فيه. وكل ما ملك بعقد سوى البيع فإنه يجوز التصرف فيه قبل قبضه بالبيع وغيره؛ لعدم قصد الربح. وإذا تعين ملك إنسان في موروث أو وصية أو غنيمة لم يعتبر لصحة تصرفه قبضه بغير خلاف. وينقل الضمان إلى المشتري بتمكنه من القبض. وظاهر مذهب أحمد الفرق بين تمكن قبضه وغيره، ليس هو الفرق بين المقبوض وغيره (1) . وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه كبيع. وجوز شيخنا البيع وغيره لعدم قصد الربح، وما لا ينفسخ بهلاكه - كنكاح وخلع وعتق وصلح عن دم عمد- قيل: كبيع لكن يجب بتلفه مثله أو قيمته ولا   (1) اختيارات ص/ 127 هنا جزم باختياره وفيه زيادات ف2/199، 200. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 فسخ. واختار شيخنا لهما فسخ نكاح لفوات بعض المقصود كعيب مبيع (1) . باب الربا والصرف إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلاً بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلاً آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النسيئة بينهما - فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان. أحدهما: المنع وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق. والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا (2) . الثاني: هل تختص الرخصة بعرية النخل ... أو لا تختص فتجوز في سائر الثمار وهو قول القاضي إلحاقًا لذلك بعرية النخل بجامع الحاجة، أو يلحق العنب فقط وهو احتمال لأبي محمد لقوة شبهه بالرطب في الاقتيات والتفكه؟ على ثلاثة أقوال. وخرج أبو العباس على ذلك بيع الخبز باليابس في برية الحجاز ونحوها، وكذلك بيع الفضة الخالصة بالمغشوشة نظرًا للحاجة (3) . وجوزها [العرايا] شيخنا في الزرع (4) . ويحرم بيع حب بدقيقه، أو أحدهما بسويقه. وعنه يجوز وزنًا. وعلل أحمد المنع بأن أصله كيل. فيتوجه من الجواز بيع مكيل وزنًا   (1) الفروع ج4/139 ف 2/202. (2) تهذيب السنن ج5/ 118 ف 2/202. (3) الزركشي ج 3/ 485 ف 2/ 202. (4) الفروع ج 4/158 ف 2/202. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 وموزون كيلاً. اختاره شيخنا (1) . وما خرج عن القوت بالصنعة فليس بربوي ولا بجنس نفسه؛ فيباع خبز بهريسة وزيت بزيتون وسمسم بشيرج (2) . ويجوز بيع الموزونات الربوية بالتحري، وقاله مالك (3) . وما لا يختلف فيه الكيل والوزن مثل الأدهان يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً ووزنًا، وعن أحمد ما يدل عليه (4) . وظاهر مذهب أحمد جواز بيع السيف المحلى بجنس حليته، لأن الحلية ليست بمقصودة (5) . ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل. ويجعل الزائد في مقابلة الصنعة، سواء كان البيع حالاً أو مؤجلاً ما لم يقصد كونها ثمنًا (6) . ويحرم بيع اللحم بحيوان من جنسه إذا كان المقصود اللحم (7) . وما جاز فيه التفاضل كالثياب والحيوان يجوز النسأ فيه إن كان متساويًا وإلا فلا. وهو رواية عن أحمد (8) . التحقيق في عقود الربا أنه إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد.   (1) فروع ج4/157 ف 2/202. (2) اختيارات ص127 ف 2/202. (3) اختيارات ص 128 ف 2/ 202. (4) اختيارات ص 128 ف 2/ 202. (5) اختيارات ص 128 ف 2/ 202. (6) اختيارات ص 127 وفروع 4/ 149 ف 2/ 203. (7) اختيارات ص 128 ف 2/ 204. (8) اختيارات ص 128 ف 2/ 204. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وإن كان بعض الفقهاء يقول: بطل العقد فهو بطلان مالم يتم ببطلان ما تم (1) . الصرف .... وكذلك تبعه أبو العباس حتى إنه وهم جده في قوله: وعنه أنها تتعين فلا تبدل مع الغصب والعيب. (بكل حال) (2) . ولا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقدين، وهو رواية عن أحمد نقله ابن منصور، واختارها ابن عقيل (3) . وإذا اصطرفا دينًا في ذمتهما جاز. وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة ومالك خلافًا لما نص عليه أحمد (4) . وفي الموجز رواية: لا يحرم (الربا) في دار حرب. وأقرها شيخنا على ظاهرها (5) . باب بيع الأصول والثمار ولا يجوز بيع مزارع لغير رب المال، وكذا له من غير شرط القطع. وسأله ابن منصور: يبيع الزرع قال: لا يجوز حتى يبدو صلاحه، وكذا نقل: لا يبيع عمله قبل ظهور زرع لم يجب له شيء. وقال القاضي: قياس المذهب جوازه ويكون شريكًا بعمارته. قال شيخنا: لو تقايلا الإجارة أو فسخاها بحق فله قيمة حرثه،   (1) اختيارات ص 128 ف 2/ 204. (2) الزركشي ج 3/ 464 ف 2/204. (3) اختيارات ص 128 ف 2/ 204. (4) اختيارات ص 128 ف 2/ 204. (5) الفروع ج 4/ 174 ف 2/ 204. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وإن أخر القطع مع شرطه حتى صلح الثمر وطالت الجزة واشتد الحب فسد العقد (1) . واختار شيخنا ثبوتها في زرع مستأجر وحانوت نقص نفعه عن العادة، وأنه خلاف ما رواه عن أحمد، وحكم به أبو الفضل بن حمزة في حمام. وقال شيخنا أيضًا: قياس نصوصه وأصوله: إذا عطل نفع الأرض بآفة انفسخت فيما بقي كانهدام الدار ونحوه، وأنه لا جائحة فيما تلف من زرعه، لأن المؤجر لم يبعه إياه، ولا ينازع في هذا من فهمه (2) . باب السلم ولو أسلم مقدارًا معلومًا إلى أجل معلوم في شيء، بحكم أنه إذا حل يأخذه بأنقص مما يساوي بقدر معلوم صح، كالبيع بالسعر. ويصح حالاً إن كان المسلم فيه موجودًا في ملكه، وإلا فلا (3) . ويصح تعليق البراءة على شرط وهو رواية عن أحمد. وما قبضه أحد الشريكين من دين مشترك بعقد أو إرث أو إتلاف أو ضريبة وسبب استحقاقها واحد فلشريكه الأخذ من الغريم، ويحاصه فيما قبضه، وهو مذهب الإمام أحمد، وكذا لو تلف. ولو تبارئآ ولأحدهما على الآخر دين مكتوب فادعى استثناءه بقلبه وأنه لم يبرئه منه قبل، ولخصمه تحليفه (4) . يصح بيع الدين المستقر من الغريم لا من غيره. وفي رهنه عند   (1) الفروع ج 4/ 74 ف 2/ 205. (2) الفروع ج 4/ 79 ف 2/ 206. (3) اختيارات 131 فروع 4/ 179 ف 2/ 207. (4) اختيارات 131 وانظر الفروع ج 4/ 195-197 ف 2/ 207. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 مدين بحق له روايتان في الانتصار. وعنه: يصح منهما. قال شيخنا: نص عليه في مواضع. وعنه: لا. اختاره الخلال وذكره في عيون المسائل عن صاحبه، كدين السلم. وفي المبهج وغيره رواية: يصح فيه، اختاره شيخنا وأنه قول ابن عباس. لكن بقدر القيمة فقط، لئلا يربح فيما لم يضمن. قال: وكذا ذكره أحمد في بدل القرض وغيره، ولأنه مبيع، وجواز التصرف ليس ملازمًا للضمان في ظاهر مذهب أحمد، وكالثمن؛ لكن منعه أحمد في مكيل أو موزون، ولم يفرق ابن عباس، وأحمد تبعه، فيحمل كلامه على التنزيه (1) . باب القرض ويجوز قرض المنافع مثل أن يحصد معه يومًا ويحصد معه الآخر يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها؛ لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب على المشهور في الأخرى القيمة. ويتوجه في المتقوم أنه يجوز رد المثل بتراضيهما. وإن ظهر المقترض مفلسًا ووجد المقرض عين ماله فله الرجوع بعين ماله بلا ريب، والدين الحالي يتأجل بتأجيله، سواء كان الدين قرضًا أو غيره، وهو قول مالك ووجه في مذهب أحمد، ويتخرج رواية عن أحمد من إحدى الروايتين في تأجيل العارية، وفي إحدى الروايتين في صحة إلحاق الأجل والخيار بعد لزوم العقد. ولو أقرض أكاره بذرًا أو أمره ببذره وأنه في ذمته كما يفعله الناس فهو فاسد، وله نصف المثل، ولو تلف لم يضمنه لأنه أمانة. ولو اقترض من رجل قروضًا متفرقة ووكل المقرض في ضبطها أو ابتاع منه شيئًا ووكل البائع في ضبط المبيع حفظًا أو كتابة فينبغي أن يكون قول هذا المؤتمن ههنا مقبولاً (2) .   (1) الفروع ج4/185 ف 2/ 207. (2) اختيارات ص 132 ف 2/ 208. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 باب الرهن ويجوز رهن العبد المسلم من كافر بشرط كونه في يد مسلم، واختاره طائفة من أصحابنا. ويجوز للإنسان أن يرهن مال نفسه على دين غيره، كما يجوز أن يضمنه وأولى، وهو نظير ظاهر إعارته للرهن. وإذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين فالقول قول المرتهن ما لم يدع أكثر من قيمة الرهن، وهو مذهب مالك. وإذا لم يكن للمديون وفاء غير الرهن وجب على رب المال إمهاله حتى يبيعه، فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه من الحبس وكان في بيعه وهو في الحبس ضرر عليه وجب إخراجه. ويضمن عليه أو يمشي معه هو أو وكيله (1) . لو أذن الراهن للمرتهن في البيع ثم رجع جاز؛ لكن لو ادعى أنه رجع قبل البيع ... لم يقبل؛ لأن الأصل عدمه، ولو تعلق به حق ثالث. ثم وجدت الشيخ تقي الدين اختار مثل ذلك ذكره المصنف عنه في الوكالة فقال: قال شيخنا: لو باع أو تصرف فادعى أنه عزله قبله لم يقبل. انتهى (2) . باب الضمان وقياس المذهب أنه يصح بكل لفظ يفهم منه الضمان عرفًا: مثل زوجه وأنا أؤدي الصداق، أو بعه وأنا أعطيك الثمن، واتركه لا تطالبه وأنا أعطيك الثمن (3) . ويصح ضمان حارس ونحوه، وتجار حرب بما يذهب من البلد أو   (1) اختيارات ص133، 134 ف 2/ 209. (2) تصحيح الفروع ج 4/ 218 ف 2/ 209. (3) اختيارات ص 132 ف 2/ 210. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 البحر، وغايته ضمان مجهول وما لم يجب، وهو جائز عند أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة وأحمد (1) . واختار شيخنا صحة ضمان حارس ونحوه وتجار حرب ما يذهب من البلد أو البحر وأن غايته ضمان ما لم يجب، وضمان المجهول كضمان السوق، وهو أن يضمن الضامن ما يجب على التجار للناس من الديون وهو جائز عند أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [72/12] ولأن الطائفة الواحدة الممتنعة من أهل الحرب التي ينصر بعضها بعضًا تجري مجرى الشخص الواحد في معاهدتهم؛ فإذا شورطوا على أن تجارهم يدخلون دار الإسلام بشرط ألا يأخذوا للمسلمين شيئًا وما أخذوه كانوا ضامنين له، والمضمون يؤخذ من أموال التجار جاز ذلك، كما يجوز نظائره؛ لهذا قال الأسير العقيلي للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا محمد علام أخذتني وسابقة الحاج - يعني ناقته؟ - قال: «بجريرة حلفائك من ثقيف» فأسر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا العقيلي وحبسه لينال بذلك من حلفائه مقصوده. قال: ويجب على ولي الأمر إذا أخذوا مالاً لتجار المسلمين أن يطالبهم بما ضمنوه ويحبسهم على ذلك كالحقوق الواجبة (2) . الكفالة ومن كفل إنسانًا فسلمه إلى مكفوله -ولا ضرر في تسليمه- برئ. ولو في حبس الشرع. ولا يلزمه إحضاره منه إليه عند أحد من الأئمة (3) .   (1) اختيارات 132، 133 ف 2/ 210. (2) الفروع ج 4/243 فيه زيادة عما في الاختيارات. وتقدم في الجهاد في عقد الذمة وهنا له مناسبة فلذلك ذكرته. ف 2/ 210. (3) اختيارات 133 فيه زيادة ف 2/ 211. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 باب الحوالة والحوالة على ماله في الديوان إذن في الاستيفاء فقط. وله اختيار الرجوع ومطالبته. وليس للابن أن يحيل على الأب. ولا يبيع دينه إذا جوزنا بيع ما على الغريم إلا برضاء الأب. وكره أحمد أن يتزوج الرجل أو يقترض أو يشتري إذا لم يعلم الآخر بعسرته. فلأن يكره أن يحيل على معسر ولم يعلم أولى؛ لأن ظاهر الحال أن الرجل إنما يعامل من كان قادرًا على الوفاء، فإذا كتم ذلك كان غارًا (1) . باب الصلح ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً، وهو رواية عن أحمد، وحكي قولاً للشافعي. ويصح عن دية الخطأ وعن قيمة المتلف غير المثل بأكثر منها من جنسها، وهو قياس قول أحمد. والعين والمنفعة التي لا قيمة لها عادة كالاستظلال بجدار الغير والنظر في سراجه لا يصح أن يرد عليها عقد بيع أو إجارة اتفاقًا. ولو اتفقا على بناء حائط بستان فبنى أحدهما فما تلف من الثمرة بسبب إهمال الآخر ضمن لشريكه نصيبه (2) . وإذا احتاج الملك المشترك إلى عمارة لا بد منها فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه في أصح قولي العلماء (3) . ويلزم الأعلى التستر بما يمنع مشارفته على الأسفل. وإن استويا   (1) اختيارات ص 133 ف 2/ 211. (2) اختيارات ص 134 فروع ج 4/ 283 ف 2/ 212. (3) اختيارات ص 134 ف 2/ 212. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وطلب أحدهما بناء السترة أجبر الآخر مع الحاجة إلى السترة وهو مذهب أحمد (1) . وليس للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يؤذي جاره: من بناء حمام، وحانوت طباخ، ودقاق، وهو مذهب أحمد (2) . ومن لم يسد بئره سدًا يمنع من التضرر بها ضمن ما تلف بها. وله تعلية بنائه ولو أفضى إلى سد الهواء عن جاره، وليس له منعه خوفًا من نقص أجرة ملكه بلا نزاع (3) . قال شيخنا: الضرار محرم بالكتاب، والسنة، ومعلوم أن المشاقة والمضارة مبناها على القصد والإرادة، أو على فعل ضرر لا يحتاج إليه. فمتى قصد الإضرار ولو بالمباح أو فعل الإضرار من غير استحقاق فهو مضار. وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الإضرار فليس بمضار ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث النخلة التي كانت تضر صاحب الحديقة لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة طرق فلم يفعل فقال: «إنما أنت مضار ثم أمر بقلعها» فدل على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه. ومن كانت له ساحة تلقى فيها الأتربة والزبالة وفضلات الحيوانات ويتضرر الجيران بذلك فإنه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران: إما بعمارتها أو إعطائها لمن يعمرها، أو يمنع أن يلقى فيها ما يضر بالجيران (4) .   (1) اختيارات ص133 فيه عموم ف 2/ 212. (2) اختيارات ص133 فيه زيادة ف 2/ 212. (3) اختيارات ص 135 ف 2/ 212. (4) اختيارات ص135، والفروع في أول الكلام على المضارة ج4/ 286 ف 2/ 212. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وليس لأحد أن يبني فوق الوقف ما يضر به اتفاقًا. وكذا إن لم يضر به عند الجمهور (1) . ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح القولين في مذهب أحمد. وحكم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه (2) . فالساباط الذي يضر بالمارة: مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك وإن غفل عن رأسه رمى عمامته أو شج رأسه، ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال إلا كسر قتبه، والجمل المحمل لا يمر هناك؛ فمثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين؛ بل يجب على صاحبه إزالته، فإن لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر، حتى لو كان الطريق منخفضًا ثم ارتفع على طول الزمان وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر (3) . باب الحجر ومن ضاق ماله عن ديونه صار محجورًا عليه بغير حكم حاكم بالحجر، وهو رواية عن أحمد (4) . وإذا لزم الإنسان الدين بغير معاوضة كالضمان ونحوه ولم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه في الإعسار. وهو مذهب أحمد وغيره (5) . ومن طولب بأداء دين عليه فطلب إمهالاً أمهل بقدر ذلك اتفاقًا. لكن إن خاف غريمه منه احتاط عليه بملازمته، أو بكفيل، أو بترسيم عليه (6) .   (1) اختيارات ص 135 فيه توضيح ف 2/ 212. (2) اختيارات ص 135، 136، ف 2/ 212. (3) اختيارات ص 137 ف 2/ 213 فيه زيادة أمثلة. (4) اختيارات ص 137 ف 2/ 213 فيه زيادة أمثلة. (5) اختيارات ص 136 فيه زيادة. (6) اختيارات ص 136 فيه زيادة ف 2/ 213. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 ومن كان قادرًا على وفاء دينه وامتنع أجبر على وفائه بالضرب والحبس نص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقال أبو العباس: ولا أعلم فيه نزاعًا؛ لكن لا يزاد كل يوم على أكثر من التعزير إن قيل يتقدر، وللحاكم أن يبيع عليه ماله، ويقضي دينه، ولا يلزمه إحضاره (1) . وقال شيخنا: وله منع عاجز حتى يقيم كفيلاً ببدنه (2) . ومن عرف بالقدرة وادعى إعسارًا وأمكن عادة قبل. وليس له إثبات إعساره عند غير من حبسه بلا إذنه. ويقضي دينه من مال له فيه شبهة، لأنه لا تبقى شبهة بترك واجب (3) . ولو كان قادرًا على وفاء الدين وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح فله ذلك؛ إذ التعزير لا يختص بنوع معين وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله. ومن عليه نفقة واجبة فلا يملك التبرع بما يخل بالنفقة الواجبة. وكلام أحمد يدل عليه (4) . ولو ادعت امرأة على زوجها بحقها وحبسته لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس؛ بل يستحقها عليها بعد الحبس، كحبسه في دين غيرها؛ فله إلزامها بملازمة بيته، ولا يدخل عليها أحد إلا بإذنه. ولو خاف خروجها من منزله بلا إذنه أسكنها حيث شاء. ولا يجب حبسه بمكان معين، فيجوز حبسه في دار ولو في دار نفسه بحيث لا يمكن من   (1) اختيارات ص 136 فيه زيادة ف 2/ 213. (2) الفروع ج 4/ 288 ف 2/ 214. (3) اختيارات ص 136 ف 2/ 74. (4) اختيارات ص137 ف 2/ 214. وعبارة الفروع بعدما تقدم في الاختبارات وهذا أشبه إلخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 الخروج، ويجوز أن يحبس ويرسم عليه إذا حصل المقصود بذلك بحيث يمنعه من الخروج (1) . وهذا أشبه بالسنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الغريم بملازمة غريمه وقال له: «ما فعل أسيرك» ؟ وإنما المرسم وكيل الغريم في الملازمة. فإن لم يكن للزوج من يحفظ امرأته غير نفسه وأمكن أن يحبسهما في بيت واحد فتمنعه هي من الخروج ويمنعها هو من الخروج فعل ذلك؛ فإن له عليها حبسها في منزله، ولها عليه حبسه في دينها، وحقه عليها أوكد، فإن حق نفسه في المبيت ثابت ظاهرًا وباطنًا، بخلاف حبسها له فإنه بتقدير إعساره لا يكون حبسه مستحقًا في نفس الأمر، إذ حبس العاجز لا يجوز، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [280/2] ولأن حبسها له عقوبة حتى يؤدي الواجب عليه وحبسه لها حق يثبت له بموجب العقد وليس بعقوبة، بل حقه عليها كحق المالك على المملوك؛ ولهذا كان النكاح بمنزلة الرق والأسر للمرأة، قال عمر رضي الله عنه: النكاح رق، فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته. وقال زيد بن ثابت: الزوج سيد في كتاب الله وقرأ: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [25/12] ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» والعاني الأسير. وإذا كان كذلك ظهر أن ما يستحقه عليها من الحبس أعظم مما تستحقه عليه؛ إذ غاية الغريم أن يكون كالأسير، ولأنه يملك من حبسها في منزله الاستمتاع بها متى شاء فحبسه لها دائمًا يستوفي في حبسها ما يستحقه عليها، وحبسها له عارض إلى أن يوفيها حقها، والحبس الذي يصلح لتوفية الحق مثل المالك لأمته، بخلاف الحبس إلى أن يستوفى الحق فإنه من جنس حبس الحر للحر، ولهذا لا يملك الغريم منع المحبوس من تصرف يوفي به الحق، ولا يمنعه من حوائجه إذا احتاج   (1) اختيارات 137 ف 2/ 214. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 الخروج من الحبس مع ملازمته له، وليس على المحبوس أن يقبل ما يبذله له الغريم مما عليه منة فيه. ويملك الرجل منع امرأته من الخروج مطلقًا إذا قام بما لها عليه، وليس لها أن تمتنع من قبول ذلك. وبهذا وغيره يتبين أن له أن يلزمها ويمنعها من الخروج أكثر مما لها أن تلزمه وتمنعه من الخروج من حبسه، فإذا لم يكن له من يقوم مقامه في ذلك لم يجز أن يمنع من ملازمتها وهذا حرام بلا ريب. ولا ينازع أحد من أهل العلم أن حبس الرجل إذا توجه تتمكن معه امرأته من الخروج من منزله. وإسقاط حقه عليها حرام لا يحل لأحد من ولاة الأمور والحكام فعل ذلك حرة عفيفة كانت أو فاجرة، فإن ما يفضي إلى تمكينها من الخروج إسقاط لحقه، وذلك لا يجوز، لا سيما وذلك مظنة لمضارتها له أو فعلها للفواحش ... إلى أن قال: فرعاية مثل هذا من أعظم المصالح التي لا يجوز إهمالها. قال: وهي إنما تملك ملازمته، وملازمته تحصل بأن تكون هي وهو في مكان واحد، ولو طلب منها الاستمتاع في الحبس فعليها أن توفيه ذلك؛ لأنه حق عليها، وإنما المقصود بالحبس أو الملازمة أن الغريم يلازمه حتى يوفيه حقه، ولو لازمه في داره جاز. فإن قيل: فهذا يفضي إلى أن يمطلها ولا يوفي. فالجواب: أن تعويقه عن التصرف هو الحبس، وهو كاف في المقصود إذا لم يظهر امتناعه عن أداء الواجبات، فإن ظهر أنه قادر وامتنع ظلمًا عوقب بأعظم من الحبس بضرب مرة بعد مرة حتى يؤدي، كما نص على ذلك أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مطل الغني ظلم» والظالم يستحق العقوبة، فإن العقوبة تستحق على ترك واجب أو فعل محرم، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته» ومع هذا لا يسقط حقه على امرأته؛ بل يملك حبسها في منزله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وأما تمكين مثل هذا يعني الممتنع عن الوفاء ظلمًا من فضل الأكل والنكاح فهذا محل اجتهاد؛ فإنه من نوع التعزير؛ فإذا رأى الحاكم أن يعزره به كان له ذلك؛ إذ التعزير لا يختص بنوع معين، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد ولي الأمر في تنوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله ولكن المحبوسون على حقوق النساء ليسوا من هذا الضرب، فإن لم يحصل المقصود بحبسهما جميعًا إما لعجز أحدهما عن حفظ الآخر أو لشر يحدث بينهما ونحو ذلك وأمكن أن تسكن في موضع لا تخرج منه، وهو ينفق عليها، مثل أن يسكنها في رباط نساء أو بين نسوة مأمونات فعل ذلك. ففي الجملة لا يجوز حبسها له وتذهب حيث شاءت باتفاق العلماء؛ بل لا بد من الجمع بين الحقين ورعاية المصلحتين؛ لا سيما إذا كان ذهابها مظنة للفاحشة؛ فإن ذلك يصير حقًا لله يجب على ولي الأمر رعايته وإن لم يطلبه الزوج (1) . ولا يبطل إبراء الزوجة الزوج بدعواها السفه ولو مع بينة أنها سفيهة ليست تحت الحجر. ولو أبرأته وولدت عنده ومالها بيدها تتصرف فيه لم يصدق أبوها أنها كانت سفيهة يجب الحجر عليها بلا بينة. والله أعلم (2) . فصل وعنه يصح تصرف مميز ويقف على إجازة وليه، نقل حنبل: إن تزوج الصغير فبلغ أباه فأجازه جاز. قال جماعة: ولو أجازه هو بعد رشده. لم يجز. وقال شيخنا: رضاه بقسمه هو قسمة تراض وليس   (1) الفروع ج 4/ 293-297. ويأتي بعضها في باب آداب القاضي أيضًا، وانظر الإنصاف ج 8/360. لكنها مختصرة ف 2/ 214. (2) اختيارات 188 ف 2/ 214. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 إجازة بعقد فضولي. وقال: إن نفذ عتقه المتقدم أو دل على رضاه به عتق، كمن يعلم أنه يتصرف كالأحرار (1) . وإن نوزع المحجور عليه لحظه في الرشد فشهد شاهدان برشده قبل؛ لأنه قد يعلم بالاستفاضة. ومع عدم البينة له اليمين على وليه أنه لا يعلم رشده. والإسراف ما صرفه في الحرام، أو كان صرفه في المباح يضر بعياله، أو كان وحده ولم يثق بإيمانه، أو صرف في مباح قدرًا زائدًا على المصلحة (2) . قال شيخنا: الإسراف في المباح هو مجاوزة الحد، وهو من العدوان المحرم، وترك فضولها من الزهد المباح، والامتناع عنه مطلقًا كمن يمتنع من اللحم أو الخبز أو الماء أو لبس الكتان والقطن أو النساء فهذا جهل وضلال، والله أمر بأكل الطيب والشكر له، والطيب ما ينفع ويعين على الخير، وحرم الخبيث وهو ما يضر في دينه (3) . ولو وصى من فسقه ظاهر إلى عدل وجب إنفاذه كحاكم فاسق حكم بالعدل. والولاية على الصبي والمجنون والسفيه تكون لسائر الأقارب. ومع الاستقامة لا يحتاج إلى الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي. وتكون الولاية لغير الأب والجد والحاكم على اليتيم وغيره وهو مذهب أبي حنيفة ومنصوص أحمد في الأم. وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم فضعيف جدًا. والحاكم العاجز كالعدم.   (1) الفروع ج 4/ 6 ف2/ 215. (2) اختيارات ص 138 ف 2/ 216. (3) الفروع ج4/ 618 موجود مفرق ف 1/ 202 وله مناسبة هنا ف 2/216. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 ولو مات من يتجر لنفسه وليتيمه بماله وقد اشترى شيئًا لم يعرف لمن هو لم يقسم، لم يوقف الأمر حتى يصطلحا كما يقوله الشافعي، بل مذهب أحمد أنه يقرع، فمن قرع حلف وأخذ. ولو مات الوصي وجهل بقاء مال وليه كان دينًا في تركته. ولا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قويًا، خبيرًا بما ولي عليه، أمينًا عليه. والواجب إذا لم يكن بهذه الصفة أن يستبدل به غيره (1) . ولا يقبل من السيد دعوى عدم الإذن لعبده مع علمه بتصرفه، ولو قدر صدقه فتسليطه عليه عدوان. وتردد أبو العباس فيما إذا لم يكن للولي خلاص حق موليه إلا برفع من هو عليه إلى وال يظلمه (2) . باب الوكالة يجوز أن يوكل من يقبض له شيئًا من الزكاة ما تيسر وإن كان مجهولاً ولا محذور فيه (3) . قال شيخنا: لو باع أو تصرف فادعى أنه عزله قبله لم يقبل. فلو أقام به بينة ببلد آخر وحكم به حاكم فإن لم ينعزل قبل العلم صح تصرفه وإلا كان حكمًا على الغائب. ولو حكم قبل هذا الحكم بالصحة حاكم لا يرى عزله قبل العلم فإن كان قد بلغه ذلك نفذ والحكم الناقض له مردود، وإلا وجوده كعدمه. والحاكم الثاني إذا لم يعلم بأن العزل قبل العلم أو علم ولم يره أو رآه ولم ير نقض الحكم المتقدم فحكمه كعدمه. وقبض الثمن من وكيله دليل بقاء وكالته، وأنه قول أكثر العلماء (4) .   (1) اختيارات ص138 ف 2/ 216. (2) اختيارات 137، 138 ف 2/ 217، 218. (3) مختصر الفتاوى 275 ف 2/ 217. (4) فروع 6/ 34 ف 2/ 216. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 قال القاضي في مسألة عزل الوكيل بموت الموكل: فأما إن أخرج الموكل عن ملكه مثل إعتاقه العبد وبيعه فإنه تنفسخ الوكالة بذلك. ففرق بين الموت وبين العتق والمبيع بأنه حكم الملك هنا قد زال وهناك السلعة بعد الموت باقية على حكم مالكها. وما قاله القاضي فيه نظر؛ فإن الانتقال بالموت أقوى منه بالبيع والعتق، فإن هذا يمكن الاحتراز عنه فيكون بمنزلة عزله بالقول وذلك قد زال الملك فيه بفعل الله تعالى. وإذا تصرف بلا إذن ولا ملك ثم تبين أنه كان وكيلاً أو مالكًا ففي صحة تصرفه وجهان، كما لو تصرف بعد العزل ولم يعلم، فلو تصرف بإذن ثم تبين أن الإذن كان من غير المالك أو المالك أذن له ولم يعلم أو أذن بناءً على جهة، ثم تبين أنه لم يكن يملك الإذن بها بل بغيرها أو بناءً على أنه ملك بشراء ثم تبين له أنه كان وارثًا. فإن قلنا يصح التصرف في الأول فههنا أولى. وإن قلنا لا يصح هناك فقد يقال يصح هنا. لأنه كان مباحًا له في الظاهر والباطن؛ لكن الذي اعتقده ظاهرًا ليس هو الباطن. فنظيره إذا اعتقد أنه محدث فتطهر ثم تبين فساد طهارته وأنه كان متطهرًا قبل هذا (1) . ولو وكل شخص شخصًا أن يوكل له فلانًا في بيع ونحوه - فقال الوكيل الأول للوكيل الثاني: بع هذا ولم يشعره أنه وكيل الموكل. قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة فقلت: نسبة أنواع التوكيل والموكلين إلى الوكيل كنسبة أنواع التمليك والمملكين إلى الملك. ثم لو ملكه شيئًا لم يحتج أن يبين هل هو من جهته أو من جهة غيره؟ ولا هل هو هبة أو زكاة؟ كما نص عليه أحمد. فذلك لا يحتاج   (1) اختيارات 138، 139 ف 2/ 217. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 أن يبين هل هو وكيله أو وكيل فلان؟ وإن كان الحكم فيهما مختلفًا بالنسبة إلى الموكل والمملك (1) . نقل مهنا في رجل دفع إلى رجل ثوبًا يبيعه فباعه وأخذ الثمن فوهبه المشتري ثوبًا أو منديلاً فنص أنه يكون لصاحب الثوب، ولو نقص المشتري من الثمن درهمًا فإن الضمان على الذي باع الثوب. فقد نص أحمد على أن ما حصل للوكيل من زيادة فهي للبائع وما نقص فهو عليه ولم يفرق بين أن يكون النقص قبل لزوم العقد أو بعده. وينبغي أن يفصل إذالم يلزمه (2) . والوكيل في الضبط والمعرفة مثل من وكل رجلاً في كتابة ما له وما عليه كأهل الديوان فقوله أولى بالقبول من وكيل التصرف، لأنه مؤتمن على نفس الإخبار بما له وما عليه. وهذه مسألة نافعة. ونظيرها إقرار كتاب الأمراء وأهل ديوانهم بما عليهم من الحقوق بعد موتهم، وإقرار كتاب السلطان وبيت المال وسائر أهل الديوان بما على جهاتهم من الحقوق، ومن ناظر الوقف وعامل الصدقة بما على الخراج ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يخرجون عن ولاية أو وكالة. وإن استعمل الأمير كاتبًا خائنًا أو عاجزًا أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه. ومن استأمنه أمير على ماله فخشي من حاشيته إن منعهم من عادتهم المتقدمة لزمه فعل ما يمكنه وهو أصلح للأمير من تولية غيره فيرتع معهم، لا سيما وللأخذ شبهة (3) .   (1) اختيارات 139 ف 2/ 218. (2) اختيارات 139 ف 2/ 218. (3) اختيارات 140 فيه زيادات ف 2/ 218. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 قال في المحرر: وإذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل أو باع بدونه صح ولزمه النقص والزيادة ونص عليه. قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك. وقال: هذا ظاهر فيما إذا فرط. وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل. وأبين من هذا الناظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أجر أو زارع أو ضارب ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفًا ثم تبين الخطأ فيه: مثل أن يأمره بعمارة أو غرس ونحو ذلك ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه. وهذا باب واسع. وكذلك المضارب والشريك؛ فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة فلا لوم عليه فيهما، وتضمين مثل هذا فيه نظر، وهو شبيه بما إذا قتل في دار الحرب من يظنه حربيًا فبان مسلمًا؛ فإن جماع هذا أنه مجتهد مأمور بعمل اجتهد فيه. وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان؟ هذا الضرب هو خطأ في الاعتقاد والقصد لا في العمل، وأصول المذهب تشهد له بروايتين: قال أبو حفص في المجموع: وإذا سمي له ثمن فنقص منه - نص الإمام أحمد في رواية ابن منصور: إذا أمر رجلاً أن يبيع له شيئًا فباعه بأقل فالبيع جائز وهو ضامن لما نقص. قال أبو العباس: لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن؛ لأنهما يدعيان فساد العقد وهو يدعي صحته، فكان القول قوله، ويضمن الوكيل النقص (1) .   (1) اختيارات 141 ف 2/ 218. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وإذا وكله أو أوصى إليه أن يتصدق بمال ذكره فإنه يصح، وتعيين المعطى إلى الوكيل أو الوصي. هذا هو الذي ذكره في الوصية، والوكالة مثلها. وكذلك لو وكله أو أوصى إليه بإخراج حجة عنه. وإن وكله أو أوصى إليه أن يقف عنه شيئًا ولم يعين مصرفًا فينبغي أن يكون كالصدقة؛ فإن المصرف للوقف كالمصرف للصدقة، ويبقى إلى الوكيل والوصي تعيين المصرف. وإن عين مصرفًا منقطعًا فينبغي أن يكون إلى الوصي تتميمه بذكر مصرف مؤبد. إلا أن يقال: الصدقة لها جهة معلومة بالشرع والعرف وهم الفقراء، وإنما النظر إلى الوصي في تعيين أفراد الجهة، بخلاف الوقف فإنه لا يتبين له جهة معينة شرعًا ولا عرفًا. فالكلام في هذا ينبغي أن يكون كما لو نذر أن يقف أو يتصدق به. وحديث أبي طلحة يقتضي أن من نذر الصدقة بمال فإن الأفضل أن يصرفه في أقربيه وإن كان منهم غني، وهذا يقتضي أن الصدقة المطلقة في النذر ليست محمولة على الصدقة الواجبة في الشرع؛ لكن على جنس المستحبة شرعًا. ويتوجه في الوكالة والوصية مثل ذلك. وشبيه هذا من أصلنا: لو نذر أن يصلي: هل يحمل على أدنى الواجب، أو أدنى التطوع؟ فإن الوكالة والأيمان متشابهات (1) . والوكيل أمين لا ضمان عليه ولو عزل قبل علمه بالعزل وقلنا ينعزل لعدم تفريطه، وكذلك لا يضمن مشتر منه الأجرة إذا لم يعلم وهو أحد القولين (2) . ومن وكل في بيع أو استئجار أو شراء فإن لم يسم الموكل في العقد فضامن، وإلا فروايتان. وظاهر المذهب تضمينه (3) .   (1) اختيارات 141، 142 ف 2/ 217. (2) اختيارات ص142 ف 2/ 217. (3) اختيارات 142 ف 2/ 218. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 قال: ومثله الوكيل في الإقراض (1) . قال القاضي: في المجرد وابن عقيل في الفصول: ولو جاء رجل إلى امرأة فقال: وكلني فلان أن أزوجك له، فرغبت في ذلك وأذنت لوليها في تزويجها. ثم إن ذلك الموكل أنكر أن يكون وكله في التزويج له. فالقول قوله، ولا يلزمه النكاح. ولا تلزم الوكيل؛ بل يحكم ببطلانه. ويتفرع على هذا أن الرجل إذا وكل وكيلاً في أن يتزوج له امرأة فتزوجها فلا بد أن يذكر حال العقد أنه تزوجها لفلان، فإن أطلق ولم يسم الموكل لم يلزمه النكاح في حقه ولا في حق الموكل؛ لأن الظاهر أنه عقد العقد لنفسه ونيته أن يعقد لغيره. وإذا لم يذكر اسم ذلك الغير فقد أخل بالمقصود. ولو وكله أن يشتري له سلعة فاشتراها لم يشترط في صحة العقد ذكر فلان؛ بل إذا أطلق ونوى الشراء له صح؛ لأن القصد منه حصول الثمن وقد وجد. وإذا بطل عقد النكاح في حقهما فهل يلزم الوكيل نصف الصداق؟ على روايتين. قال أبو العباس: فقد جعلا فيما إذا لم يسم الوكيل الموكل في العقد روايتين. وهذا فيه نظر؛ بل إذا قال: زوجتك فلانة. فقال: قبلت، فقد انعقد النكاح في الظاهر للوكيل. فإذا قال: نويت أن النكاح لموكلي. فهو يدعي فساد العقد وأن الزوج غيره فلا يقبل قوله على المرأة إلا أن تصدقه، ولو صدقته لم يلزمه شيء قولاً واحدًا. إلا أن هذا الإنكار من الزوج بخلاف مسألة إنكار الوكالة.   (1) فروع 4/ 353 ف 2/ 218. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 ولو قيل: إن النكاح هنا لا يحتمل إلا أن يكون له لكان له وجها (1) . وقال الأصحاب: ومن ادعى الوكالة في استيفاء حق فصدقه الغريم لم يلزمه الدفع إليه إن صدقه، ولا اليمين إن كذبه. والذي يجب أن يقال: إن الغريم متى غلب على ظنه أن الموكل لا ينكر وجب عليه التسليم فيما بينه وبين الله، كالذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى وكيله وعلم له علامة فهل يقول أحد: إن ذلك الوكيل لم يكن يجب عليه الدفع؟ وأما في القضاء فإن كان الموكل عدلاً وجب الحكم، لأن العدل لا يجحد. والظاهر أنه لا يستثنى، فإن دفع من عنده الحق إلى الوكيل ذلك الحق ولم يصدقه بأنه وكيل وأنكر صاحب الحق الوكالة رجع عليه وفاقًا ومجرد التسليم ليس تصديقًا. وكذا إن صدقه في أحد قولي أصحابنا؛ بل نص إمامنا، وهو قول مالك؛ لأنه متى لم يتبين صدقه فقد غره. وكل إقرار كذب فيه ليحصل بما يمكن انتفاؤه فهل يجعل إنشاء: مثل أن تقول: وكلت فلانًا ولم توكله؟ فهو نظير أن يجحد الوصية فهل يكون جحده رجوعًا؟ فيه وجهان (2) . وإذا اشترى شيئًا من موكله أو موليه كان الملك للموكل والمولى عليه. ولو نوى شراءه لنفسه؛ لأن له ولاية الشراء وليس كالغصب؛ لكن لو نوى أن يقع الملك له وهذه نية محرمة فتقع باطلة، ويصير كأن العقد عري عنها إذا كان يريد النقد من مال المولى عليه والموكل. قال أبو العباس في تعاليقه القديمة: حديث عروة بن الجعد في شراء الشاة يدل على أن الوكيل في شراء معلوم بثمن معلوم إذا اشترى به أكثر من المقدر جاز له بيع الفاضل. وكذا ينبغي أن يكون الحكم.   (1) اختيارات ص143 ف 2/ 217. (2) اختيارات ص143-144 ف 2/ 218. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 ويغلب على ظني أنه منقول كذا حسبه في كفالة الكافي. قلت: ما قاله أبو العباس من النقل فصحيح. قال صاحب الكافي: ظاهر كلام أحمد صحة ذلك الحديث عن عروة، ولكن ذكره في وكالة الكافي. فسبق القلم من أبي العباس فكتب كفالة الكافي. والله أعلم (1) . ومن قصد تعليق الحكم بالوصف رتبه عليه ولم يتعرض لجميع شروطه ومواثقه؛ لأنه عسر؛ إذ القصد بيان اقتضاء السبب للحكم؛ فلو قال: أعط هذا للفقراء أو نحوهم استأذنه في عدوه وفاسق. ولو قال: إلا أن يكون أحدهم كذا وكذا عد لُكْنة وعِيًّا. ولو قال: من سرق منهم فاقطعه حسن أن يراجعه فيمن سعى له في مصلحة عظيمة وإن لم يحسن التقييد منه. وكذا قول الطبيب: اشربه للإسهال فعرض ضعف شديد أو إسهال. ذكر ذلك شيخنا (2) . باب الشركة الاشتراك في مجرد الملك بالعقد: مثل أن يكون بينهما عقار فيشيعانه، أو يتعاقدان على أن المال الذي لهما المعروف بهما يكون بينهما نصفين، ونحو ذلك، مع تساوي ملكهما فيه، فجوازه متوجه؛ لكن هل يكون بيعًا؟ قياس ما ذكروه في الشركة أنه ليس بيعًا. كما أن القسمة ليست بيعًا (3) . قال أحمد: ما أنفق على المال فعلى المال. وقاله شيخنا في البذل لمحارب ونحوه (4) .   (1) اختيارات 144، 145، ف 2/ 218. (2) الفروع ج 4/ 376 ف 2/218. (3) اختيارات ص145 ف 2/218. (4) فروع ج4 / 384 ف 2/ 220. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 ولا نفقة لمضارب إلا بشرط أو عادة؛ فإن شرطت مطلقًا فله نفقة مثله طعامًا وكسوة. وقد يخرج لنا أن للمضارب في السفر الزيادة على نفقة الحضر، كما قلنا في الولي إذا جحد الصبي؛ لأن الزيادة إنما احتاج إليها لأجل المال. وقال أبو العباس أيضًا: يتوجه فيها ما قلناه في نفقة الصبي إذا جحد الولي هل يكون الزائد فيها من مال الصبي أو مال الولي؟ على القولين، كذلك هنا. وقد ثبت من أصلنا صحة الاشتراك في العقود وأن تختلط الأعيان، كما تصح القسمة بالمحاسبة وإن لم تتميز الأعيان. ولو دفع دابته أو نخله إلى من يقوم به وله جزء من ثمانية صح. وهو رواية عن أحمد (1) . ويجوز قسمة الدين في ذمة أو ذمم، وهو رواية عن أحمد، فإن تكافأت الذمم فقياس المذهب في الحوالة على ولي اليتيم ونحوه وجوبها. ولو كتب رب المال للجابي والسمسار ورقة ليسلمها إلى الصبي في المتسلم ماله، وأمره أن لا يسلمه حتى يقتص منه فخالف ضمن لتفريطه. ويصدق الصبي مع يمينه، والورقة شاهدة له؛ لأن العادة جارية بذلك (2) . وتصح شركة الشهود، وللشاهد أن يقيم مقامه غيره إن كان الجعل   (1) اختيارات 145، 146 ف 2/ 220. (2) اختيارات ص 146، 147. فيها زيادات ف 2/ 222. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 على عمل في الذمة، وإن كان على شهادته بعينه فالأصح جوازه، وللحاكم أن يكرههم؛ لأن له النظر في العدالة وغيرها. وإن اشتركوا على أن كل ما حصله كل واحد منهم بينهم بحيث إذا كتب أحدهم وشهد شاركه الآخر وإن لم يعمل. فهي شركة الأبدان. تجوز فيما تجوز فيه الوكالة. وأما حيث لا تجوز ففيه وجهان كشركة الدلالين، وقد نص أحمد على جوازها فقال في رواية أبي داود وقد سئل عن الرجل يأخذ الثوب ليبيعه فيدفعه إلى الآخر: يبيعه ويناصفه فيما يأخذ من الكراء. قال: الكراء للذي باعه؛ إلا أن يكونا شريكين فيما أصابا. ووجه صحتها أن بيع الدلال وشراءه بمنزلة خياطة الخياط ونجارة النجار وسائر الأجراء المشتركين. ولكل منهم أن يستنيب وإن لم يكن للوكيل أن يوكل. ومأخذ من منع من ذلك: أن الدلالة في باب الوكالة سائر الصناعات من باب الإجارة، وليس الأمر كذلك. ومحل الخلاف هو في شركة الدلالين التي فيها عقد. فأما مجرد النداء والعرض وإحضار الديون فلا خلاف في جوازه. وتسليم الأموال إلى الدلالين مع العلم باشتراكهم إذن لهم ببيعها. ولو باع كل واحد ما أخذه ولم يعط غيره واشتركا في الكسب جاز في أظهر الوجهين. وموجب العقد المطلق التساوي في العمل والأجر. وإن عمل واحد أكثر ولم يشترط طالبهم إما بما زاده من العمل وإما بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زيادة جاز. وليس لولي الأمر المنع بمقتضى مذهبه في شركة الأبدان والوجوه والمساقاة والمزارعة ونحوها مما يسوغ فيه الاجتهاد (1) . والربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة فيه؟ فقيل: هو للمالك فقط، كنماء الأعيان. وقيل: للعامل فقط؛ لأن عليه الضمان. وقيل: يتصدقان به، لأنه ربح خبيث. وقيل: يكون بينهما على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة، وهو أصحهما، وبه حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إلا أن يتجر به في غير وجه العدوان مثل أن يعتقد أنه مال نفسه فيتبين أنه مال غيره فهنا يقتسمان الربح بلا ريب. وذكر أبو العباس في موضع آخر: أنه إذا كان عالمًا بأنه مال الغير فهنا يتوجه قول من لا يعطيه شيئًا؛ لأنه حصل بفعل محرم فلا يكون سببًا للإباحة. فإذا تاب سقط حق الله بالتوبة وأبيح له حينئذ بالقسمة. فأما إذا لم يتب ففي حله نظر. وكذلك المتوجه فيما إذا غصب شيئًا كفرس وكسب به مالاً كالصيد أن يجعل المكسوب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما؛ بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما. وأما إذا كسب العبد فالواجب أن يعطى المالك أكثر الأمرين من كسبه أو قيمة نفعه. ومن كانت بينهما أعيان مشتركة فيما يكال أو يوزن فأخذ أحدهما قدر حقه بإذن حاكم جاز قولاً واحدًا، وكذلك بدون إذنه على الصحيح (2) .   (1) اختيارات ص146/ 147. فيها زيادات ف 2/222. (2) اختيارات 147، 148 ف 2/222، 239. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 باب المساقاة والمزارعة ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة، واختاره أبو حفص العكبري، والقاضي في تعليقه وهو ظاهر مذهب أحمد. ولو كانت الأرض مغروسة فعامله بجزء من غراسها صح، وهو مقتضى ما ذكره أبو حفص. ولا فرق بين أن يكون الغارس ناظر وقف أو غيره. ولا يجوز لناظر بعده بيع نصيب الوقف من الشجر بدون حاجة. وللحاكم الحكم بلزومها في محل النزاع فقط، والحكم له من جهة عوض المثل ولو لم تقم به بينة؛ لأنه الأصل. ويجوز للإنسان أن يتصرف فيما في يده بوقف وغيره حتى تقوم حجة شرعية بأنه ليس ملكًا له؛ لكن لا يحكم بالوقف حتى يثبت الملك. ومقتضى قول أبي حفص أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض، كما جاز النسج بجزء من غزل نفسه. فإن اشترطا في المغارسة أن يكون على الغارس الماء أو بعضه فالمتوجه أن الماء كالغرس والبذر، كما سيجيء مثله في المزارعات؛ لأن الماء أصل يفنى. ومتى كان من العامل أصل فإن فيه روايتين. وإن غارسه على أن رب الأرض تكون له دراهم مسماة إلى حين إثمار الشجر فإذا أثمر كانا شريكين في الثمر -قال أبو العباس: فهذه لا أعرفها منقولة. وقد يقال: هذا لا يجوز، كما لو اشترط في المزارعة والمساقاة شيئًا مقدرًا؛ فإنه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط فيبقى الآخر لا شيء له؛ لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم. والمناصب على أن عليه سقي الشجر والقيام عليها إذا باع نصيبه من ذلك لمن يقوم مقامه في العمل جاز وصح شرطه، كالمكاتب إذا بيع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 على كتابته. هذا قياس المذهب (1) . وإذا ترك العامل العمل حتى فسد الثمر فينبغي أن يجب عليه نصيب المالك، وينظر كم يجيء لو عمل بطريق الاجتهاد، كما يضمن لو يبس الشجر. وهذا لأن تركه العمل من غير فسخ العقد حرام وغرر، وهو سبب في عدم هذا الثمر، فيكون كما لو تلفت الثمرة تحت اليد العادية، كالضمان بالتسبب في الإتلاف، لا سيما إذا انضم إليه اليد العادية. واستيلاؤه على الشجر مع عدم الوفاء بما شرطه: هل هو يد عادية؟ فيه نظر؛ لكنه سبب في الإتلاف. وهذا في الفوائد نظير المنافع، فإن المنافع لم توجد، وإنما الغاصب منع من استيفائها. وحاصله: أن الإتلاف نوعان: إعدام موجود، وتفويت لمعدوم انعقد سبب وجوده، وهذا تفويت. وعلى هذا فالعامل في المزارعة إذا ترك العمل فقد استولى على الأرض وفوت نفعها فينبغي ألا يضمن ضمان إتلاف أو ضمان إتلاف ويد. لكن هل يضمن أجرة المثل أو يضمن ما جرت به العادة مثل تلك الأرض؟ مثل أن يكون الزرع في مثلها معروفًا فيقاس بمثلها. وأما على ما ذكره أصحابنا فينبغي أن يضمن بأجرة المثل. والأصوب والأقيس بالمذهب أن يضمن بمثل ما يثبت. وعلى هذا فلا يكون ضمان يد، وإنما هو ضمان تغرير (2) . ولو كان من إنسان الأرض، ومن ثان العمل، ومن ثالث البذر، ومن رابع البقر. صح وهو رواية عن أحمد (3) .   (1) اختيارات 148، 149 ف 2/222. (2) اختيارات ص149، 150 فيه زيادة ف 2/ 223. (3) اختيارات 150 ف 2/223. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 وإذا شرط صاحب البذر أن يأخذ مثل بذره ويقتسمان الباقي جاز، كالمضاربة وكاقتسامهما ما يبقى بعد الكلف (1) . وجوز شيخنا أخذه أو بعضه بطريق القرض. قال: يلزم من اعتبر البذر من رب الأرض وإلا فقوله فاسد (2) . وجوز شيخنا إجارة الشجر مطلقًا ويقوم عليها المستأجر كأرض الزرع [وأن ما استوفاه الموقوف عليه والمستعير بلا عوض يستوفيه المستأجر بالعوض] بخلاف بيع السنين؛ فإن تلفت الثمرة فلا أجرة، وإن نقصت عن العادة فالفسخ أو الأرش لعدم المنفعة المقصودة بالعقد، وهو كجائحة (واشتراط عمل الآخر حتى يثمر بعضه) قال شيخنا: والسياج على المالك، ويتبع في الكلف السلطانية العرف ما لم يكن شرط، قال: وما طلب من قرية من وظائف سلطانية ونحوها فعلى قدر الأموال، وإن وضعت على الزرع فعلى ربه ما لم يشرطه على مستأجر، وإن وضع مطلقًا فالعادة. ومتى فسد العقد فالثمرة والبذر لربه وعليه الأجرة، وكذا العشر. وإن صحت لزم المقطع عشر نصيبه. ومن قال: العشر كله على الفلاح فخلاف الإجماع. قاله شيخنا. وإن ألزموا الفلاح به فمسألة الظفر. وقال شيخنا: الحق ظاهر فيأخذه (3) . وإذا صحت المزارعة فيلزم المقطع عشر نصيبه. ومن قال: العشر كله على الفلاح فقد خالف الإجماع. وإذا ألزموا الفلاح به فمسألة الظفر، والحق ظاهر، فيجوز له قدر ما ظلم به. والسياج على المالك (4) .   (1) اختيارات 150 هنا جزم بالحكم ف 2/223. (2) الفروع ج 4/ 415 ف 2/ 223. (3) الفروع ج 4/ 417 ف 2/ 224 وما بين المعقوفين ساقط من نسخة. (4) عبارة الاختيارات ص150 ف 2/224. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 باب الإجارة ويجوز البيع والإجارة في عقد واحد في أظهر قوليهم (1) . قال أصحابنا: يستحب أن يعطي الظئر عند الفطام عبدًا أو أمة إذا أمكن؛ للخبر. ولعل هذا للمتبرعة بالرضاع. وأما في الإجارة فلا يفتقر إلى تقدير عوض ولا إلى صيغة؛ بل ما جرت العادة بأنه إجارة تستحق فيه أجرة المثل في أظهر قولي العلماء (2) . قال ابن منصور: قلت لأحمد: الرجل يستأجر البيت إذا شاء أخرج المستأجر وإذا شاء خرج هو؟ قال: قد وجب فيهما إلى أجله؛ إلا أن يهدم البيت، أو يغرق الدار، أو يموت البعير فلا ينتفع المستأجر بما استأجر فيكون عليه من الأجرة بقدر ما سكن أو ركب، قال القاضي ظاهر هذا أن الشرط الفاسد لا يبطل الإجارة. وقال أبو العباس: هذا اشتراط للخيار، لكنه في جميع المدة مع الإذن في الانتفاع. فإذا ترك الأجير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه (3) . وتصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها. وهو ظاهر المذهب وقول الجمهور (4) . ونصوص الإمام أحمد كثيرة في المنع من إجارة المسلم داره من أهل الذمة وبيعها لهم،. واختلف الأصحاب في هذا المنع: هل هو كراهة تنزيه أو تحريم؟ فأطلق أبو علي بن أبي موسى والآمدي الكراهة. وأما الخلال وصاحبه فمقتضى كلامهما وكلام القاضي تحريم ذلك. وكلام أحمد يحتمل الأمرين. وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة إنما محله   (1) اختيارات ص155 ف 2/228. (2) اختيارات ص156 ف 2/228. (3) اختيارات ص157 ف 2/228. (4) اختيارات ص157 ف 2/228. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة، فأما إذا أجره إياها لأجل بيع الخمر أو اتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولاً واحدًا (1) . فصل قال ابن القيم رحمه الله: فإن قيل: فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها أم تتصدق به؟ إلى أن قال: وقال توقف شيخنا في وجوب رد هذه المنفعة المحرمة على باذله والصدقة به في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم» وقال: الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم فاستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر. فإن تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعًا منه؛ بخلاف ما إذا كان العوض خمرًا أو ميتة فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية أتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها. ثم أورد على نفسه سؤالاً فقال: فيقال على هذا فينبغي أن يقضوا بها إذا طالب بقبضها. وأجاب عنه بأن قال: نحن لا نأمر بدفعها ولا ردها كعقود الكفار   (1) اختيارات ص156 ف 2/229. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 المحرمة؛ فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم بالقبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة لأنه كان معتقدًا لتحريمها بخلاف الكافر؛ وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم فلا يقضى لك بالأجرة. فإذا قبضها وقال الدافع هنا المال اقضوا له برده فإني أقبضته إياه عوضًا عن منفعة محرمة. قلنا له: دفعته معاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت إذا كان له في بقائه معه منفعة. فهذا محتمل. قال: وإن كان ظاهر القياس ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد. انتهى. إلى أن قال ابن القيم رحمه الله: فأما إذا استأجره لحمل الخمر ليريقها أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذى بها فإن الإجارة تجوز حينئذ؛ لأنه عمل مباح؛ لكن إذا كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه. هذا قول شيخنا. قال ابن القيم: وقد نص أحمد رحمه الله نفي رواية أبي النضر فيمن حمل خمرًا أو خنزيرًا لنصراني أكره أكل كرائه ولكن نقضي للحمال بالكراء، وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة، فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق. أحدها: إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة، قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير لنصراني، فإن فعل قضي له بالكراء. وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين: إلى أن قال: قال شيخنا رضي الله عنه: والأشبه طريقة ابن أبي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 موسى - يعني أنه يقضى له بالأجرة وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيب له أكلها. قال: فإنها أقرب إلى مقصود أحمد رحمه الله وأقرب إلى القياس، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضًا، وهي ليست محرمة في نفسها وإنما حرمت بقصد المعتصر والمحتمل، فهو كما لو باع عنبًا وعصيرًا لمن يتخذه خمرًا، وفات العصير والخمر في يد المشتري فإن مال البائع لا يذهب مجانًا؛ بل يقضي له بعوضه، كذلك هنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانًا بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر؛ فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء، خشية التأذي بها جاز. ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنا أو للتلوط أو القتل أو السرقة؛ فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمرًا فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة. قال شيخنا: ومثل هذه الإجارة الجعالة - يعني الإجارة على حمل الخمر والميتة - لا توصف بالصحة مطلقًا؛ بل يقال: هي صحيحة بالنسبة إلى المستأجر بمعنى أنه يجب عليه العوض. وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة، ولهذا في الشريعة نظائر. قال: ولا ينافي هذا نص أحمد رحمه الله على كراهة نظارة كرم النصراني فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه ثم نقضي له بكرائه. قال: ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه فإذا لم يعطوه شيئًا ووجب أن يرد عليهم ما أخذ منهم كان ذلك أعظم العون لهم، وليسوا أهلاً بأن يعانوا على ذلك، بخلاف من أسلم لهم عملاً لا قيمة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 له بحال - يعني كالزانية والمغني والنائحة- فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة. ولو قبضوا منهم المال فهل يلزمهم رده عليهم أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك، وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيب لهم أكله، والله الموفق للصواب (1) . شروط الإجارة ويجوز إجارة ماء قناة مدة وماء فائض بركة رأياه (2) ولو استأجر تفاحة للشم يحتمل الجواز (3) . وشمع ليشعله، وجعله شيخنا مثل كل شهر بدرهم، فمثله في الأعيان نظير هذه المسألة في المنافع، ومثله كلما أعتقت عبدًا من عبيدك فعلي ثمنه فإنه يصح وإن لم يبين العدد والثمن، وهو إذن في الانتفاع بعوض، واختار جوازه، وأنه ليس بلازم بل جائز كالجعالة وكقوله: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فإنه جائز، أو: من لقي كذا فله كذا (4) . ويجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة، ويقوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجرة من المستأجر الأول. وغلط بعض الفقهاء فأفتى في نحو ذلك بفساد الإجارة الثانية ظنًا منه أن هذا كبيع المبيع وأنه تصرف فيما لا يملك، وليس كذلك، وهو تصرف فيما استحقه على المستأجر (5) . ويجوز للمستأجر إجارة العين المؤجرة لمن يقوم مقامه بمثل الأجرة وزيادة، وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي. فإن شرط المؤجر   (1) زاد المعاد ج4/252-254 ف 2/ 229. (2) اختيارات ص151 والإنصاف ج6/ 30 فيه زيادة ف 2/ 229. (3) اختيارات ص155 ف 2/ 230. (4) فروع ج 4/ 228، 229 فيه زيادة ف 2/ 230. (5) اختيارات 151، 152 ف 2/ 230. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 على المستأجر ألا يستوفي المنفعة إلا بنفسه أو ألا يؤجرها إلا لعدل أو لا يؤجرها من زيد قال أبو العباس: فقياس المذهب فيما أراه أنها شروط صحيحة؛ لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه لمرض أو تلف مال أو إرادة سفر ونحو ذلك فينبغي أن يثبت له الفسخ، كما لو تعذر تسليم المنفعة (1) . وليس للوكيل أن يطلق في الإجارة مدة طويلة بل العرف كسنتين ونحوهما. وإذا شرط الواقف أن النظر للموقوف عليه أو أتى بلفظ يدل على ذلك فأفتى بعض أصحابنا أن إجارته كإجارة الظئر. وعلى ما ذكره ابن حمدان ليس كذلك وهو الأشبه (2) . وقال: ابن رجب: أما إذا شرطه للموقوف عليه أو أتى بلفظ يدل على ذلك فأفتى بعض المتأخرين بإلحاقه بالحاكم ونحوه وأنه لا ينفسخ قولاً واحدًا، وأدخله ابن حمدان في الخلاف. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وهو الأشبه (3) . وقال وتنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين (4) . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إن كان قبضها المؤجر رجع بذلك في تركته، فإن لم تكن تركة فأفتى بعض أصحابنا بأنه إذا كان الموقوف عليه هو الناظر فمات فللبطن الثاني فسخ الإجارة والرجوع بالأجرة على من هو في يده، اهـ   (1) اختيارات ص 152 فيه زيادة ف 2/230. (2) اختيارات ص 154 ف 2/230. (3) الإنصاف ج 6/ 37 ف 2/ 231. (4) اختيارات ص154 والإنصاف 6/ 36 ف 2/ 231. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 وقال أيضًا: والذي يتوجه أولاً أنه لا يجوز سلف الأجرة للموقوف عليه، لأنه لا يستحق المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها فالتسليف لهم قبض ما لا يستحقونه، بخلاف المالك. وعلى هذا فللبطن الثاني أن يطالبوا بالأجرة المستأجر، لأنه لم يكن له التسليف، ولهم أن يطالبوا الناظر (1) . والاستئجار على نفس تلاوة القرآن غير جائز، وإنما النزاع في التعليم ونحوه مما فيه مصلحة تصل إلى الغير. والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله وما وقع بالأجر من النقود ونحوها فلا ثواب فيه وإن قيل: يصح الاستئجار عليه. فإذا أوصى الميت أن يعمل له ختمة فينبغي أن يتصدق بذلك على المحاويج من أهل القرآن أو غيره فذلك أفضل وأحسن (2) . وإذا كان المعلم يقرئ فأعطي شيئًا جاز له أخذه عند أكثر العلماء (3) . ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت؛ لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة الإذن في ذلك. وقد قال العلماء: إن القارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب له، فأي شيء يهدى للميت؟ وإنما يصل إلى الميت العمل الصالح. والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة؛ وإنما تنازعوا في الاستئجار على التعليم. ولا بأس بجواز أخذ الأجرة على الرقية نص عليه أحمد.   (1) الإنصاف ج 6/ 37، 38 ف 2/ 231. (2) مختصر الفتاوى 170 ف 2/ 231، 232. (3) مختصر الفتاوى 64 ف 2/ 231، 96. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 والمستحب أن يأخذ الحاج عن غيره ليحج؛ لا أن يحج ليأخذ. فمن أحب إبراء ذمة الميت أو رؤية المشاعر يأخذ ليحج. ومثله كل رزق أخذ على عمل صالح. ففرق بين من يقصد الدين والدنيا وسيلة، وعكسه. فالأشبه أن عكسه ليس له في الآخرة من خلاق. والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربة هل يجوز إيقاعها على غير وجه القربة؟ فمن قال: لا يجوز ذلك لم يجز الإجارة عليها؛ لأنها بالعوض تقع غير قربة «إنما الأعمال بالنيات» والله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه. ومن جوز الإجارة جوز إيقاعها على غير وجه القربة، وقال: تجوز الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر. وأما ما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا وأجرة؛ بل رزق للإعانة على الطاعة. فمن عمل منهم لله أثيب، وما يأخذه فهو رزق للمعونة على الطاعة، وكذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به كذلك، والمنذور كذلك، ليس كالأجرة والجعل في الإجارة والجعالة الخاصة (1) . قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الرجل يغسل الميت بكراء؟ قال: بكراء؟! واستعظم ذلك. قلت: يقول: أنا فقير. قال: هذا كسب سوء. ووجه هذا أن تغسيل الموتى من أعمال البر، والتكسب بذلك يورث تمني موت المسلمين فيشبه الاحتكار (2) . واتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها هو مما نهي عنه عند إمكان الاستغناء عنه؛ فإنه يفضي إلى كثرة مباشرة النجاسات والاعتناء بها؛ لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه، وإلا فلا يجمع عليه استعماله في مباشرة النجاسة وحرمانه أجرته. ونهي عن أكله مع الاستغناء عنه مع أنه   (1) اختيارات ص152، 153 ولها نظائر لا من كل وجه ف 2/30، 231. (2) اختيارات ص 156 ف 2/ 232. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 ملكه. وإذا كانت عليه نفقة رقيق أو بهائم يحتاج إلى نفقتها أنفق عليها من ذلك لئلا يفسد ماله. وإذا كان الرجل محتاجًا على هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا مسألة الناس فهو خير له من مسألة الناس، كما قال بعض السلف: كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس (1) . وإذا كان اليهودي أو النصراني خبيرًا بالطب ثقة عند الإنسان جاز له أن يستطبه كما يجوز له أن يودعه المال وأن يعامله، وقد استأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً مشركًا لما هاجر وكان هاديًا خريتًا ماهرًا بالهداية إلى الطريق من مكة إلى المدينة وائتمنه على نفسه وماله، وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلمهم وكافرهم. وقد روي أن الحارث بن كلدة - وكان كافرًا- أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستطبوه. وإذا وجد طبيبًا مسلمًا فهو أولى، وأما إذا لم يجد إلا كافرًا فله ذلك. وإذا خاطبه بالتي هي أحسن كان حسنًا (2) . وإن أكراه كل شهر بدرهم، وكلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة ... ظاهر قوله: ولكل واحد منهما الفسخ عند تقضي كل شهر، أن الفسخ يكون قبل دخول الشهر الثاني، وهو اختيار أبي الخطاب والشارح والشيخ تفي الدين رحمه الله (3) . وإن أجره في أثناء شهر سنة استوفى شهرًا بالعدد، وسائرها بالأهلة. وعنه يستوفي الجميع بالعدد. وعند الشيخ تقي الدين رحمه الله إلى مثل تلك الساعة (4) . قوله: استوفى شهرًا بالعدد يعني ثلاثين يومًا. وقال الشيخ تقي   (1) إنصاف 6/ 21 ف 2/232. (2) اختيارات ص158 ف 2/ 232. (3) إنصاف 6/ 21 ف 2/232. (4) إنصاف 6/ 44 ف 2/232. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 الدين رحمه الله: إنما يعتبر الشهر الأول بحسب تمامه ونقصانه، فإن كان تامًا كمل تامًا وإن كان ناقصًا كمل ناقصًا (1) . قال القاضي في التعليق: إذا دفع إلى دلال ثوبًا أو دارًا وقال له: بع هذا فمضى وعرض ذلك على جماعة مشترين وعرف ذلك صاحب المبيع فامتنع من البيع وأخذ السلعة ثم باعها هو من ذلك المشتري أو من غيره لم تلزمه أجرة الدلال للمبيع؛ لأن الأجرة إنما جعلها في مقابلة العقد ولم يحصل ذلك. قال أبو العباس: الواجب أن يستحق من الأجرة بقدر ما عمل، وهذه من مسائل الجعالات (2) . ولو اضطر ناس إلى السكن في بيت إنسان لا يجدون سواه أو النزول في خان مملوك أو رحى للطحن أو لغير ذلك من المنافع وجب بذله بأجرة المثل بلا نزاع، والأظهر أنه يجب بذله مجانًا، وهو ظاهر المذهب (3) . وترك القابلة ونحوها الأجرة لحاجة المقبولة أفضل من أخذها منها والصدقة بها (4) . وقال الشيخ تقي الدين فيمن احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا أو بناء وقفه عليه: متى فرغت المدة وانهدم البناء زال حكم الوقف وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائمًا فيها فعليه أجرة المثل كوقف علو دار أو دار مسجدًا؛ فإن وقف علو ذلك لا يسقط حق ملاك السفل، كذلك وقف البناء لا يسقط حق ملاك الأرض (5) .   (1) إنصاف 6/ 44 ف 2/ 232. (2) اختيارات ص 157 ف 2/ 232. (3) اختيارات ص 152 فيه زيادة ف 2/ 233. (4) اختيارات ص 156 ف 2/ 233. (5) إنصاف 6/ 84 ف 2/ 233. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وإن ركن المؤجر إلى شخص ليؤجره لم يجز لغيره الزيادة عليه. فكيف إذا كان المستأجر ساكنًا في الدار؟ فإنه لا يجوز الزيادة على ساكن الدار. وإذا وقعت الإجارة صحيحة فهي لازمة من الطرفين ليس للمؤجر الفسخ لأجل زيادة حصلت باتفاق الأئمة. وما ذكره بعض متأخري الفقهاء من التفريق بين أن تكون الزيادة بقدر الثلث فتقبل الزيادة أو أقل فلا تقبل فهو قول مبتدع لا أصل له عن أحد من الأئمة لا في الوقف ولا في غيره. وإذا التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور لم تلزمه اتفاقًا. ولو التزمها بطيب نفس منه ففي لزومها قولان. فعند الشافعي وأحمد لا تلزمه أيضًا؛ بناء على أن إلحاق الزيادة والشروط بالعقود اللازمة لا تلحق. وتلزمه إذا فعلها بطيب نفس منه متبرعًا بذلك في القول الآخر، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في القول الآخر، بناءً على أنه تلحقه الزيادة بالعقود اللازمة. لكن إذا كان قد علم أن العادة لم تجر بأن أحد هؤلاء يقبلها بطيب نفسه ولكن خوفًا من الإخراج فحينئذ لا تلزمهم بالاتفاق؛ بل لهم استرجاعها ممن قبضها منهم (1) . وإن استأجر أرضًا فعند انعقاد الحب أمطرت السماء حجارة أهلكت زرعه قبل حصاده سقط العشر. وفي وجوب الأجرة نزاع. والأظهر أنه إن لم يكن تمكن من استيفاء المنفعة المقصودة بالعقد فلا أجرة (2) . وإن وجد العين معيبة أو حدث بها عيب فله الفسخ. قال الشيخ   (1) اختيارات ص 154، 155 ف 2/ 233. (2) مختصر الفتاوى ص 275 ف 2/ 233. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 تقي الدين رحمه الله: إن لم نقل بالأرش فورود ضعفه على أصل الإمام أحمد رحمه الله بين (1) . وإن تعذر زرعها فله الخيار، وكذا لقلة ماء قبل زرعها أو بعده، أو عابت بغرق تعيب به بعض الزرع. واختار شيخنا أو برد أو فأر أو عذر، قال: فإن أمضى فله الأرض كعيب الأعيان، وإن فسخ فعليه القسط قبل القبض، ثم أجرة المثل إلى كماله، قال: وما لم يرو من الأرض فلا أجرة له اتفاقًا (2) . وأجرة المثل ليست شيئًا محدودًا، وإنما هو ما يساوي الشيء في نفوس أهل الرغبة. ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة من ارتفاع الكراء أو انخفاضه (3) . قال شيخنا: ولو أنزاه على فرسه فنقص ضمن نقصه (4) . وإذا بيعت العين المؤجرة أو المرهونة ونحوهما مما تعلق به حق لغير البائع وهو عالم بالعيب فلم يتكلم فينبغي أن يقال: لا يملك المطالبة بفساد البيع بعد هذا؛ لأن إخباره بالعيب واجب عليه بالسنة بقوله: «ولا يحل لمن علم ذلك إلا أن يبينه» فكتمانه تغرير، والغار ضامن. وكذا ينبغي أن يقال فيما إذا رأى عبده يبيع فلم ينهه. وفي جميع المواضع فإن المذهب أن السكوت لا يكون إذنًا. فلا يصح التصرف؛ لكن إذا لم يصح يكون تغريرًا فيكون ضامنًا بحيث أنه ليس له أن يطالب المشتري بالضمان؛ فإن ترك الواجب عندنا كفعل المحرم، كما يقال فيمن قدر على إنجاء إنسان من هلاكه؛ بل الضمان هنا أقوى.   (1) إنصاف ج 6/ 66، 67 ف 2/ 234. (2) فروع ج 4/ 448، فيه زيادة ف 2/ 235. (3) اختيارات ص155 ف 2/ 235. (4) فروع 4/ 428، ف 2/ 234. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني: أن من باع العين المؤجرة ولم يتبين للمشتري أنها مستأجرة أنه لا يصح البيع. ووجهه أنه باع ملكه وملك غيره؛ فهي مسألة تفريق الصفقة (1) . وإجارة المضاف يفسر بشيئين. أحدهما: أن يؤجره سنة أو سنتين. والثاني: أن يؤجره مدة لا يمكن الانتفاع بالمأجور لما استؤجر له في ثاني المدة. فمن الحكام من يرى أن الإجارة لا تجوز إلا إذا أمكن الانتفاع بالعين عقب العقد. فإذا أراد أن يستأجر الأرض للإزدراع ونحوه كتب فيها: أنه استأجرها مقيلاً ومراحًا ومزدرعًا ونحو ذلك لتكون المنفعة ممكنة حال العقد (2) . باب السبق وظاهر كلام أبي العباس: لا يجوز اللعب المعروف بـ «الطاب والمنقلة» (3) وكل ما أفضى كثيره إلى حرمة إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة؛ لأنه يكون سببًا للشر والفساد. وما ألهى وشغل عما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة وسائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به على حق شرعي فكله حرام. وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم: «أن عائشة رضي الله عنها وجوارٍ كن يلعبن معها يلعبن بالبنات -وهن اللعب- والنبي - صلى الله عليه وسلم - يراهن» فيرخص فيه للصغار ما لا يرخص فيه للكبار.   (1) اختيارات ص158 ف 2/ 235. (2) اختيارات ص156 ف 2/ 235. (3) وفي الإنصاف: والنقيلة انظر ج 6/90. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 والصراع والسبق بالأقدام ونحوهما طاعة إذا قصد به (1) نصر الإسلام وأخذ السبق عليه أخذ بالحق. فالمغالبة الجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما ينتفع به في الدين، كما في مراهنة أبي بكر رضي الله عنه، وهو أحد الوجهين في المذهب. ويجوز المسابقة بلا محلل، ولو أخرجه المتسابقان. ويصح شرط السبق للإنشاد وشراء قوس وكراء حانوت وإطعام الجماعة لأنه مما يعين على الرمي (2) . ويصح تناضلهما على أن السبق لأبعدهما رميًا على الصحيح من المذهب. زاد في الترغيب من غير تقدير. وقيل: يصح اختاره الشيخ تقي الدين. قاله في الفائق (3) . ولعب «الكرة» (4) إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال بحيث يستعان بها على الكر والفر والدخول والخروج ونحوه في الجهاد، وغرضه الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو حسن. وإن كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال فإنه ينهى عنه (5) . ومسابقة الرمي بالحجارة إن كان فيها منفعة للجهاد وإلا فهي باطل (6) . وأما الرهان على ما فيه ظهور الإسلام وأدلته وبراهينه كما راهن عليه الصديق فهو أحق الحق وأولى بالجواز من الرهان على النضال،   (1) وفي الإنصاف إذا قصد بهما نصر الإسلام وأخذ العوض. (2) اختيارات ص160 ف 2/ 236. (3) الإنصاف: 6/ 93 ف 2/ 236. (4) الكرة بالتشديد يوضحها السياق وهي «الكورة» المسماة بالطاب والمنقلة كما تقدم. (5) مختصر الفتاوى ص521 ف 2/ 236. (6) مختصر الفتاوى ص 600 ف 2/ 236. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وسباق الخيل والإبل أولى من هذا في الدين وأقوى؛ لأن الدين قام بالحجة والبرهان، وبالسيف. والقصد الأول إقامة الحجة، والسيف منفذ. قالوا: وإذا كان الشارع قد أباح الرهان في الرمي والمسابقة بالخيل والإبل لما في ذلك من التحريض على تعلم الفروسية وإعداد القوة للجهاد فجواز ذلك في المسابقة والمبادرة إلى العلم والحجة الذي به تفتح القلوب ويظهر الإسلام وتظهر أعلامه أولى وأحرى. وإلى هذا ذهب أصحاب أبي حنيفة وشيخ الإسلام ابن تيمية. قال أرباب هذا القول: والقمار المحرم هو أكل المال بالباطل فكيف يلحق به أكله بالحق. قالوا: والصديق لم يقامر قط في جاهلية ولا إسلام، ولا أقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قمار، فضلاً عن أن يأذن فيه (1) . قال ابن القيم رحمه الله: «المسألة الحادية عشرة» : المسابقة على حفظ القرآن والحديث والفقه وغيره من العلوم النافعة والإصابة في المسائل: هل تجوز بعوض؟ منعه أصحاب مالك والشافعي وأحمد، وجوزه أصحاب أبي حنيفة وشيخنا. إلى أن قال: وفرقة جوزته بغير محلل، قال شيخ الإسلام: وهو مقتضى المنقول عن أبي عبيدة بن الجراح. قال: وما علمت في الصحابة من اشترط المحلل، وإنما هو معروف عن سعيد بن المسيب وعنه تلقاه عنه الناس؛ ولهذا قال مالك بن أنس: لا تأخذ بقول سعيد بن المسيب في المحلل، ولا يجب المحلل (2) .   (1) الفروسية ص5، 6 ف 2/ 238. (2) الفروسية ص64 ف 2/ 238. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 «ومن أدخل فرسًا بين فرسين» الحديث. وسمعت شيخ الإسلام يقول: رفع هذا الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأ، وإنما هو من كلام سعيد بن المسيب نفسه. وهكذا رواه الثقات الأثبات من أصحاب الزهري عنه، عن سعيد بن المسيب مثل الليث بن سعد وعقيل ويونس ومالك بن أنس، وذكره في الموطأ عن سعيد بن المسيب نفسه. ورفعه سفيان بن حسين الواسطي وهو ضعيف لا يحتج بمجرد روايته عن الزهري لغلطه في ذلك (1) . فصل الأعمال التي تكون بين اثنين فصاعدًا يطلب كل منهما أن يغلب الآخر - ثلاثة أصناف: «صنف» أمر الله به ورسوله كالسباق بالخيل والرمي بالنبل ونحوه من آلات الحرب، لأنه مما يعين على الجهاد في سبيل الله. «والصنف الثاني» ما نهى الله ورسوله عنه بقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى آخر الآية [90/5] . مسألة: فالميسر محرم بالنص والإجماع، ومنه اللعب بالنرد والشطرنج وما أشبهه مما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء، فإن كان بعوض حرم إجماعًا. وإن لم يكن بعوض ففيه نزاع عند الصحابة وجمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد. ونص الشافعي على تحريم النرد وإن كان بلا عوض، وتوقف في الشطرنج. ومنهم من أباح النرد الخالي عن   (1) الفروسية ص41 بعضه غير موجود في ج 18 وفي ج 28 والأصل هناك فيه بياض، ف 2/ 238. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 العوض، لما ظنوا أن الله حرم الميسر لأجل ما فيه من المخاطرة المتضمنة أكل المال بالباطل. فقالوا: إذا لم يكن فيه أكل مال بالباطل زال سبب التحريم. وأما الجمهور فقالوا: إن تحريم الميسر مثل تحريم الخمر؛ لاشتماله على الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولإلقائه العداوة والبغضاء، ومنعه عن صلاح [ذات] البين الذي يحبه الله ورسوله، وإيقاعه اللاعبين في الفساد الذي يبغضه الله ورسوله، واللعب بذلك يلهي القلب ويشغله ويغيب اللاعب به عن مصالحه أكثر مما يفعله الخمر؛ ففيها ما في الخمر وزيادة، ويبقى صاحبها عاكفًا عكوف شارب الخمر عن خمره وأشد، وكلاهما مشبه بالعكوف على الأصنام، كما في المسند أنه قال: «شارب الخمر كعابد الوثن» وثبت عن أمير المؤمنين رضي الله عنه: أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) وقلب الرقعة. وإذا كان ثم مال تضمن أيضًا أكل المال بالباطل، فيكون حرامًا من وجهين. والله حرم الربا لما فيه من أكل المال باطلاً. وما نهي عنه من بيع الغرر كبيع حبل الحبلة وبيع الثمار قبل بدو الصلاح والملامسة والمنابذة إنما حرمه لما فيه من أكل المال بالباطل. «النوع الثالث» من المغالبات: ما هو مباح لعدم المضرة الراجحة، وليس مأمورًا به على الإطلاق لعدم احتياج الدين إليه، ولكن قد يقع أحيانًا كالمصارعة والمسابقة على الأقدام ونحوه. فهذا مباح باتفاق المسلمين إذا خلا عن مفسدة راجحة. وقد صارع النبي - صلى الله عليه وسلم - ركانة بن يزيد، وسابق عائشة، وكان أصحابه رضي الله عنهم يتسابقون على أقدامهم بحضرته. لكن أكثر العلماء لا يجوزون في هذا سبقًا وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل» ولأن السبق إنما أبيح إعانة على ما أوجبه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 ورسوله من الجهاد. وأبو حنيفة أباح السبق بالمحلل، كما يبيحه في سباق الخيل بناء على أن العمل بنفسه مباح، والسبق عنده من الجعالة، والجعالة تجوز على العمل المباح. والذي قاله هو القياس، ولو كان السبق من جنس الجعالة فإن الناس قد تنازعوا في جواز الجعالة، وأبطلها طائفة من الظاهرية. والصواب الذي عليه الجمهور جوازها، وليست عقدًا لازمًا؛ لأن العمل فيها معلوم. ولهذا يجوز أن يجعل للطبيب جعلاً على الشفاء، كما جعل سيد الحي اللديغ لأصحاب - النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رقاه أبو سعيد الخدري. ولا يجوز أن يستأجر الطبيب على الشفاء، لأنه غير مقدور عليه. ومن هنا يظهر فقه «باب السبق» فإن كثيرًا من العلماء اعتقدوا أن السبق إذا كان من الجانبين وليس بينهما محلل كان هذا من الميسر المحرم، وأنه قمار؛ لأن كلاً منهما متردد بين أن يغرم أو يغنم، وما كان كذلك فهو قمار. واعتقدوا أن القمار المحرم إنما حرم لما فيه من المخاطرة والتغرير، وظنوا أن الله حرم الميسر لذلك، وهذا موجود في المتسابقين إذا أخرج كل منهما السبق، فحرموا ذلك. وروي في ذلك حديث ظنه بعضهم صحيحًا؛ وهو قوله: «من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار» ومعلوم أن هذا الحديث ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من كلام سعيد بن المسيب، هكذا رواه الثقاة، ورفعه سفيان بن حسين الواسطي وهو ضعيف. ثم الذين اعتقدوا أن هذه المسابقة بلا محلل قمار تنازعوا بعد ذلك فمنهم من لم يجوز العوض بحال. ومنهم من جوزه من أحدهما بشرط ألا يرجع إليه بل يعطيه الجماعة إن غلب. وروي ذلك عن مالك وغيره، وهو أصح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 والقياس: لو كانت المسابقة من الطرفين قمارًا محرمًا فإنهم رأوا أن هذه ليست جعالة يقصد الجاعل فيها بدل الجعل في عمل ينتفع به؛ إنما قصد أن يغلب صاحبه فحرموها، وقالوا: دخول المحلل فيها يزيدها شرًا، وأن المقامرة حرمت لما فيها من أكل المال بالباطل، والمحلل يزيدها شرًا؛ فإن المتسابقين إذا غلب أحدهما صاحبه فأخذ ماله كان هذا في مقابلة أن الآخر إذا غلبه أخذ ماله. فكان مبناها على العدل؛ بخلاف المحلل فإنه ظلم محض؛ فإنه بعرضة أن يغنم أو يسلم، والآخران قد يغرمان فلا يستوون في المغنم والمغرم والسلامة؛ بخلاف إذا لم يكن بينهما محلل فكلاهما قد يغنم وقد يغرم وقد يسلم فيما إذا تساويا وجاءا معًا. فهذا أقرب إلى العدل؛ فإذا حرم الأقرب إلى العدل فلأن يحرم الأبعد عنه بطريق الأولى. وأيضًا فإذا قيل: هذا محرم لما فيه من المخاطرة وأكل المال بالباطل كان بالمحلل أشد تحريمًا؛ لأنها أشد مخاطرة وأشد أكلاً للمال بالباطل؛ لأنها عند عدمه إنما أن يغنم أو يغرم أحدهما، وهنا المخاطرة باقية كل منهما قد يغنم أو قد يغرم، وانضم إلى ذلك مخاطرة ثالثة وهي أنه هناك يغرم إذا غلبه صاحبه، وهنا يغرم إذا غلبه، وإذا غلبه المحلل فكان المحلل زيادة في المخاطرة. وأيضًا: فإن كلا يحتمل أن يغلب ويغنم أو يغرم. وأما المحلل فلا يحتمل أن يغلب أو يغرم؛ بل هو يغنم لا محالة أو يسلم. فمن تدبر هذه الأمور علم أن الشريعة منزهة عن مثل هذا أن تحرم الشر لمجرد مفسدة قليلة وتبيحها بالمفسدة عينها إذا كثرت، ولكن أصحاب الحيل كثيرًا ما يقعون في هذا فيحرمون على الرجل بعض أنواع الزيادة دفعًا لأكل المال بالباطل لئلا يتضرر، ويفتحون له حيلة يؤكل فيها ماله بالباطل أكثر، ويكون فيها ظلمه وضرره أعظم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 ومن العلماء من أباح السبق بالمحلل، كقول أبي حنيفة والشافعي وأحمد وإحدى الروايتين عن مالك. وهذا مبني على أصلين. أحدهما: أن هذه جعالة. والثاني: أن القمار هو المخاطرة الدائرة بين أن يغنم باذل المال أو يغرم أو يسلم، وهذا المعنى ينتفي بالمحلل، فإنه حينئذ يدور على أمرين: أن يغنم، أو يغرم، أو يسلم. وقد تقدم التنبيه على بعض ما في كل من الأصلين. والمقصود الأعظم بيان فساد ظن الظان أنه بدون المحلل قمار وبالمحلل يزول القمار. فيقال: أولاً: إن الدليل الشرعي قد دل على أن القمار هو هذا دون هذا. ويقال ثانيًا: المتسابقان كل منهما متردد بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم؛ فإنهما لو جاءا معًا لم يأخذ أحدهما سبق الآخر. فقولهم: إن القمار هو المتردد بين أن يغنم أو يغرم فقط ليس بمستقيم؛ بل عندهم وإن تردد بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم فهو أيضًا قمار وهذا موجود مع المحلل؛ فإن كلاً منهما يتردد بين أن يغنم إن غلب وبين أن يغرم إن غلب، وبين أن يسلم إن جاءا معًا، أو جاء هو ورفيقه معًا، فالمخاطرة فيها موجودة مع المحلل؛ وبدون المحلل، بل زادت بدخوله فتبين أن المعنى لم يزل بدخول المحلل. بل ازداد مفسدة؛ فإنه على بر السلامة ولا عدل فيه؛ بخلاف ما لو كانوا بلا محلل. فكان كل منهما مساويًا للآخر في الاحتمال، وهذا عدل، وهو على الميزان بينهما؛ بل الذي بذلك الجعل ليجعل الرغبة فيما يحبه لا ينظر في مصلحته، بل معرضًا للخسارة، ويجعل الدخيل الذي جاء تابعًا للغرض لا يخسر شيئًا من ماله، والذي يتقرب إلى الله بما يحبه يخسر، والذي لم يقصد لم يعط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 شيئًا ولا يخسر؛ بل إما سالمًا وإما غانمًا، فهل يحسن هذا في شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! وإن كان القائلون علماء فضلاء أئمة. فإنما وقعت الشبهة من حيث ظنوا أن الميسر المحرم الذي هو القمار حرم لما فيه من المخاطرة، ثم منهم من رأى المخاطرة كلها محرمة من المحلل وعدمه، وهذا أقرب إلى الأصل الذي ظنوا لو كان صحيحًا. ومنهم من رأى الحاجة إلى السبق، وقد جاء الشرع بها، فجمع بين ما أمر الله به وبين ما أبطله من القمار، فأباحه مع المحلل فقط. والمقصود هنا بالجعل أن يظهر أنه قوي؛ لأن صاحبه يغلبه ويأخذ ماله، بخلاف الجعالة فإن الغرض بها العمل من العامل الذي يأخذ الجعل، فليست هذه جعالة، والجاعل قصده وجود الشرط، والمسابق الذي أظهر المال قصده ألا يوجد الشرط الذي هو سبق صاحبه له؛ بل قصده عدمه. فأين هذا من هذا؟! هذا يكره أن يغلب، وذاك يجب أن يحصل قصده الذي هو رد آبقه أو بناء حائطه، كما يقول الحالف: إن فعلت كذا فمالي صدقة، أو علي الحج. ومقصده أنه لا يفعله؛ بخلاف الناذر الذي يقول: أن شفى الله مريضي فعلي أن أصوم شهرًا، وكالمخالع الذي يقول: إن أبرأتيني من صداقك فأنت طالق. ومن تبين حقيقة هذه المسألة تبين له أن من رأى أنه حرام ولو مع المحلل فقوله أصح على ما ظنوه. وأما إذا تقرر أن تحريم الميسر لما نص الله تعالى على أنه يوقع العداوة والبغضاء ويصد عن ذكر الله عز وجل وعن الصلاة، وقد يشتد تحريمه لما فيه من أكل المال بالباطل. والمسابقة التي أمر الله بها ورسوله لا تشتمل لا على هذا الفساد ولا على هذا فليست من الميسر، وليس إخراج السبق فيها مما حرمه الله ورسوله، ولا من القمار الداخل في الميسر؛ فإن لفظ القمار المحرم ليس في القرآن، إنما فيه لفظ الميسر، والقمار داخل في هذا الاسم، والأحكام الشرعية يجب أن تتعلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 بكلام الله ورسوله ومعناه -فلينظر في دلالة ألفاظ القرآن والحديث، وفي المعاني والعلل، والحكم والأسباب التي علق الشارع بها الأحكام، فيكون الاستدلال بما أنزل الله من الكتاب والميزان. والقياس الصحيح الذي يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين هو العدل وهو الميزان. وذلك أن المسابقة والمناضلة عمل صالح يحبه الله ورسوله، وقد سابق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الخيل، وكان أصحابه يتناضلون، ويقول لهم: «ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا» وكان قد صار مع أحد الحزبين ثم قال: «ارموا وأنا معكم كلكم» تعديلاً بين الطائفتين. والرمي والركوب قد يكون واجبًا، وقد يكون فرضًا على الكفاية، وقد يكون مستحبًا، وقد نص أحمد وغيره على أن العمل بالرمح أفضل من صلاة الجنازة في الأمكنة التي يحتاج فيها إلى الجهاد كالثغور، فكيف برمي النشاب؟ وروي «أن الملائكة لم تحضر شيئًا من لهوكم إلا الرمي» وروي أن قومًا كانوا يتناضلون فحضرت الصلاة، فقالوا: يا رسول الله قد حضرت الصلاة، فقال: «هم في صلاة» وما كان كذلك فليس من الميسر الذي حرمه الله؛ بل هو من الحق، كما قال: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته لامرأته فإنهن من الحق» . وحينئذ فأكل المال بهذه الأعمال أكل بالحق لا بالباطل، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الرقية: «لعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلتم برقية حق» فجعل كون العمل نافعًا لا ينهى عنه، بل إذا أكل به المال فقد أكل بحق، وهنا هذا العمل نافع للمسلمين مأمور به لم ينه عنه، فالمعنى الذي لأجله حرم الله الميسر أكل المال بالقمار، وهو أن يأكل بالباطل، وهذا أكل بالحق. وأما المخاطرة فليس في الأدلة الشرعية ما يوجب تحريم كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 مخاطرة؛ بل قد علم أن الله ورسوله لم يحرما كل مخاطرة، ولا كل ما كان مترددًا بين أن يغنم أو يغرم أو يسلم، وليس في أدلة الشرع ما يوجب تحريم جميع هذه الأنواع لا نصًا ولا قياسًا؛ ولكن يحرم من هذه الأنواع ما يشتمل على أكل المال بالباطل، والموجب للتحريم عند الشارع أنه أكل مال بالباطل، كما يحرم أكل المال بالباطل وإن لم يكن مخاطرة؛ لا أن مجرد المخاطرة محرم، مثل المخاطرة على اللعب بالنرد والشطرنج لما فيه من أكل المال بالباطل، وهو ما لا نفع فيه له ولا للمسلمين؛ فلو جعل السلطان أو أجنبي مالاً لمن يغلب بذلك جاز وإن لم يكن هناك مخاطرة، وكذلك لو جعل أحدهما جعلاً، وكذلك لو أدخلا محللاً، فعلم أن ذلك لم يحرم لأجل المخاطرة؛ لا سيما وجمهور العلماء يحرمون هذا العمل، وإن خلا عن عوض. وأما أخذ العوض في المسابقة والمصارعة فهذه الأعمال لم تجعل في الأصل لعبادة الله تعالى وطاعته وطاعة رسوله، فلهذا لم يحض الشارع عليها ولا رغب فيها, وإنما يقصد بها في الغالب راحة النفوس، أو الاستعانة على المباحات، فأباحها الشارع لعدم الضرر الراجح، ولم يأمر بها ولا رغب فيها لأنها ليست مما يحتاجه المسلمون، ولا يتوقف قيام الدين عليها، كالرمي والركوب، ولو خلي المسلمون عن مصارع ومسابق على الأقدام لم يضرهم لا في دينهم ولا في دنياهم، بخلاف ما لو خلوا عن الرمي والركوب لغلب الكفار على المسلمين؛ ولهذا لم يدخل فيها السبق. ألا ترى أن للإمام أن يخرج جعلاً لمن يرمي، ولا يحل له أن يخرجه لمن يصارع؟ وإذا عرف هذا عرف أن مجرد المخاطرة ليس مقتضيًا لتحريم المسألة، وانكشفت، وظهرت، وعرف أن الصواب: أن يعرف مراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وحكمه وعلله التي علق بها الأحكام؛ فإن الغلط إنما ينشأ عن عدم المعرفة بمراده - صلى الله عليه وسلم -. والمخاطرة مشتركة بين كل من المتسابقين؛ فإن كلا يرجو أن يغلب الآخر ويخاف أن يغلبه، فكان ذلك عدلاً وإنصافًا بينهما كما تقدم. وكذلك كل من المتبايعين لسلعة، فإن كلا يرجو أن يربح فيها ويخاف أن يخسر. فمثل هذه المخاطرة جائزة بالكتاب والسنة والإجماع. والتاجر مخاطر وكذلك الأجير المجعول له جعل على رد آبق، وعلى بناء حائط؛ فإنه قد يحتاج إلى بذل مال فيكون مترددًا بين أن يغرم أو يغنم، ومع هذا فهو جائز. والمخاطرة إذا كانت من الجانبين كانت أقرب إلى العدل والإنصاف، مثل المضاربة، والمساقاة، والمزارعة؛ فإن أحدهما مخاطر قد يحصل له ربح وقد لا يحصل. وما علمت أحدًا من الصحابة شرط في السباق محللاً ولا حرمه إذا كان كل منهما يخرج، وإنما علمت المنع في ذلك عن بعض التابعين، وقد روينا عن أبي عبيدة بن الجراح: أنه راهن رجلان في سباق الخيل ولم يكن بينهما محلل. وثبت في المسند والترمذي وغيرهما: «أنه لما اقتتلت فارس والروم فغلبت فارس الروم وبلغ ذلك أهل مكة وكان ذلك في أول الإسلام ففرح بذلك المشركون؛ لأن المجوس أقرب إليهم من أهل الكتاب، وساء ذلك المسلمين لأن أهل الكتاب أقرب إليهم من المجوس، فأخبر أبو بكر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} فخرج أبو بكر رضي الله عنه فراهن المشركين على أنه إن غلبت الروم في بضع سنين أخذ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 الرهان، وإن لم تغلب الروم أخذوا الرهان» وهذه المراهنة هي مثل المراهنة في سباق الخيل والرمي بالنشاب، وكانت جائزة لأنها مصلحة للإسلام؛ لأن فيها مصلحة بيان صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر به من أن الروم سيغلبون بعد ذلك، وفيها ظهور أقرب الطائفتين إلى المسلمين على أبعدهما. وهذا فعله الصديق رضي الله عنه وأقره عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره عليه، ولا قال: هذا ميسر وقمار. والصديق أجل قدرًا من أن يقامر؛ فإنه لم يشرب الخمر في جاهلية ولا إسلام وهي أشهى إلى النفوس من القمار. وقد ظن بعضهم أن هذا قمار لكن فعله هذا كان قبل تحريم القمار، وهذا إنما يقبل إذا ثبت أن مثل هذا ثابت فيما حرمه الله من الميسر، وليس عليه دليل شرعي أصلاً. بل هي مجرد أقوال لا دليل عليها وأقيسة فاسدة يظهر تناقضها لمن كان خبيرًا بالشرع، وحل ذلك ثابت بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أقر صديقه على ذلك؛ فهذا العمل معدود من فضائل الصديق رضي الله عنه وكمال يقينه حيث أيقن بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحب ظهور أقرب الطائفتين إلى الحق، وراهن على ذلك رغبة في إعلاء كلمة الله ودينه بحسب الإمكان. وبالجملة إذا ثبتت الإباحة فمدعي النسخ يحتاج إلى دليل. والكلام على هذه المسألة مبسوط في مواضع، وإنما كتبت ذلك في جلسة واحدة. و «السبق» بالفتح هو العوض. وبالسكون هو الفعل. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» مطلقًا لم يشترط محللاً لا هو ولا أصحابه، بل ثبت عنهم مثل ذلك بلا محلل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 ومما يوضح الأمر في ذلك أن السبق في غير هذه الثلاثة لم يحرم لأنه قمار. فلو بذل أحدهما عوضًا في النرد والشطرنج حرم اتفاقًا مع أن العوض ليس من الجانبين. ولو كان بينهما محلل في النرد حرم اتفاقًا أيضًا. فالعوض في النرد والشطرنج حرام سواء كان منهما أو من أحدهما أو من غيرهما بمحلل أو غير محلل. فلم يحرم لأجل المخاطرة. فلو كان الميسر المجمع على تحريمه والنرد والشطرنج لأجل المخاطرة لأبيح مع عدمها. فلما ثبت أنه محرم على كل تقدير علم بطلان تعليل تحريمه بذلك. وأكثر العلماء يحرمون العوض من الجانبين في المصارعة وإن كان بينهما محلل يرفع المخاطرة عند من يقول بذلك، فعلم أن المؤثر هو أكل المال بالباطل، أو كون العمل يصد عن الصلاة وعن ذكر الله عز وجل ويوقع العداوة والبغضاء كما دل عليه القرآن، كما أن بذل المال لما فيه من إعلاء كلمة الله ودين الله هو من الجهاد الذي أمر الله سبحانه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - به، سواء كان فيه مخاطرة أو لم يكن؛ فإن المجاهدة في سبيل الله عز وجل فيها مخاطرة قد يغلب وقد يغلب، وكذلك سائر الأمور من الجعالة والمزارعة والمساقاة والتجارة والسفر وغيرهما كما تقدم بيانه. وفي هذا كفاية والله أعلم (1) . وإذا كان السبق من أحد الحزبين أو من غيرهما لم يحتج إلى محلل. ويمكنهم مع هذا أن يكون الحزب الأول يخرج السبق أول مرة والآخر يخرجه في المرة الثانية والأول في المرة الثانية، ولم يحتج إلى محلل. وعليهم مع هذا أن يكرروا الرمي (2) .   (1) مختصر الفتاوى ص525-535 هذه فتوى مطولة وفيها زيادات عما في المجموع وتسديد للبياض هناك، وتصحيح للموجود ف 2/ 238. (2) مختصر الفتاوى ص520 ف 2/ 238. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 باب العارية والعارية تجب مع غناء المالك، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، وهي مضمونة وإن لم يشترط ضمانها، وهي رواية عن أحمد (1) . وعنه يضمن إن شرطه وإلا فلا. اختاره الشيخ تقي الدين (2) . ولو سلم شريك شريكه دابة فتلفت بلا تعد ولا تفريط (3) لم يضمن. وقياس المذهب إذا قال: أعرتك دابتي لتعلفها أن هذا يصح؛ لأن أكثر ما فيه أنه بمنزلة استئجار العبد بطعامه وكسوته، لكن دخول العوض فيه يلحقه بالإجابة إلا أن يكون ذلك يسيرًا لا يبلغ أجرة المثل بلا تعد فيكون حكم العارية باقيًا. وهذا في المنافع نظير الهبة المشروط فيها فيكون حكم العارية باقيًا. وهذا في المنافع نظير الهبة المشروط فيها الثواب في الأعيان. قال أبو العباس في قديم خطه: نفقة العين المعارة هل تجب على المالك، أو على المستعير؟ لا أعرف فيها نقلاً؛ إلا أن قياس المذهب على ما يظهر لي أنها تجب على المستعير؛ لأنهم قالوا: إنه يجب عليه مؤنة ردها وضمانها إذا تلفت وهذا دليل على أنه يجب عليه ردها إلى صاحبها كما أخذها منه سوى نقص المنافع المأذون له فيها. ثم إنه خطر لي أنها تخرج على الأوجه في نفقة الجارية الموصى بعتقها فقط. أحدها: أنه يجب على المالك؛ لكن فيه نظر. وثانيها: على المالك للنفع. وثالثها: نفقتها في كسبها. فإن قيل: هناك المنفعة مستحقة وليس ذلك هنا؛ فإن مالك الرقبة هو مالك المنفعة، غير أن المستعير ينتفع بها بطريق الإباحة وهذا يقوي وجوبها على المعير. والأصل الأول يقوي وجوبها على المستعير.   (1) الاختيارات ص 158 ف 2/ 239. (2) إنصاف 6/ 13 ف 2/ 239. (3) في الإنصاف بأن ساقها فوق العادة ونحوه ج6/117 والفروع ج 4/ 239. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 ثم أقول: هذا لا تأثير له في مسألتنا؛ فإن المنفعة حاصلة في الأصل والفرع. ثم كونه يملك انتزاع المنفعة من يده غير مؤثر، بدليل ما لو كان واهب المنفعة أبا وكان المثيب ابنه وهذا في غير صورة الوصية (1) . العارية المقبوضة مضمونة، نص عليه؛ لأن النفع غير مستحق؛ بخلاف عبد موصى بنفعه. وقاسها جماعة على المقبوض على وجه السوم، فدل على رواية مخرجة، وهو متجه. وذكر الحارثي خلافًا لا يضمن، وذكره شيخنا عن بعض أصحابنا، واختاره صاحب الهدي فيه. وعنه بلى إن شرطه اختاره أبو حفص وشيخنا (2) (3) . باب الغصب قال في المحرر: وهو الاستيلاء على مال الغير ظلمًا. قوله: «على مال الغير» يدخل فيه مال المسلم والمعاهد، وهو المال المعصوم. ويخرج منه استيلاء المسلمين على أموال أهل الحرب فإنه ليس بظلم. ويدخل فيه استيلاء (4) المحاربين على مال المسلمين. وليس بجيد؛ فإنه ليس من الغصب المذكور حكمه هنا (5) بإجماع المسلمين، إذ لا خلاف أنه لا يضمن بالإتلاف ولا بالتلف؛ وإنما الخلاف في وجوب   (1) اختيارات ص158، 159 ف 2/ 239. (2) فروع ج 4/ 474 فيه ذكر اختياره ف 2/ 239. (3) وانظر حكم إعارة السلاح والخيل لمن يقرض فيها ... وإذا كان الغازي معذورًا أو معدمًا أو مظلومًا -في كتاب الجهاد- وتقدم. (4) في الإنصاف أهل الحرب. (5) في الإنصاف (هذا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 رد عينه (1) . وأما أموال أهل البغي وأهل العدل فقد لا يرد؛ لأن هناك لا يجوز الاستيلاء على عينها. ومتى أتلفت بعد الاستيلاء على عينها ضمنت. وإنما الخلاف في ضمانها بالإتلاف وقت الحرب. ويدخل فيه ما أخذه الملوك والقطاع من أموال الناس بغير حق من المكوس وغيرها. فأما استيلاء أهل الحرب بعضهم على بعض فيدخل فيه. وليس بجيد؛ لأنه ظلم، فيحرم عليهم قتل النفوس وأخذ الأموال إلا بأمر الله؛ لكن يقال: لما كان المأخوذ مباحًا بالنسبة إلينا لم يصر ظلمًا في حقنا، ولا في حق من أسلم منهم. فأما ما أخذ من الأموال والنفوس أو أتلف منها في حال الجاهلية (2) أقر قراره؛ لأنه كان مباحًا؛ لكن لما كان الإسلام عفا عنه فهو عفو بشرط الإسلام، وكذلك شرط الأمان. فلو تحاكم إلينا مستأمنان حكمنا بالاستقرار (3) . قال الشيخ تقي الدين: ويتوجه فيما إذا غصب فرسًا وكسب عليه مالاً إن جعل الكسب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما (4) . ويضمن المغصوب بما نقص رقيقًا كان أو غيره، وهو رواية عن أحمد واختارها طائفة من أصحابه (5) . إذا خلف مُوَرِّثٌ مالاً من إبل أو غنم أو غيرها فيه شيء حرام من   (1) في الإنصاف زيادة (إذا قدرنا على أخذه) . (2) في الإنصاف زيادة (فقد) . (3) الاختيارات ص161 والإنصاف 6/ 122، ف 2/ 239. (4) الإنصاف ج6/ 144 ف 2/ 240. (5) اختيارات ص 163 ف 2/240. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 غصب أو غيره لا يعرفه الوارث عينًا، يعرف مالكه أو لا يعرفه، وقدر نصيب الحرام غير معروف فإنه ينصفه نصفين: نصف لهذه الجهة، ونصف لهذه الجهة، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مشاطرة العمال أموالهم لما تبين له أن في مالهم شيئًا من بيت المال وما هو خالص لهم ولم يتبين القدر فجعل عمر أموالهم نصفين؛ ولأنه مال مشترك والشركة المطلقة تقتضي التسوية. ولا تجوز القرعة، ووقف الأمر إضاعة للحقوق. والقول في هذه المسألة بالقسمة تارة والقرعة تارة خير من حبسها بلا فائدة (1) . ومن زرع بغير إذن شريكه والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم ولربها نصيب قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك. ولو طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه فأبى فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة (2) وقد اعتبر أبو العباس في موضع آخر إذن ولي الأمر (3) . قال في المحرر: ومن قبض مغصوبًا من غاصبه ولم يعلم فهو بمنزلة في جواز تضمينه العين والمنفعة، لكنه يرجع إذا غرم على غاصبه بما لم يلزمه ضمانه خاصة. قال أبو العباس: يتخرج ألا يضمن الغاصب ما لم يلتزمه على قولنا إنه لا يقلع غرسه وبناءه حتى يضمن بعضه ويرجع به على البائع. وعلى ظاهر كلامه في المنع من تضمين مودع المودع إذا لم يعلم. وعلى إحدى الروايتين فإن المغرور لا يضمن الأولاد؛ بل يضمنهم الغار ابتداء.   (1) مختصر الفتاوى ص271 ف 2/ 240. (2) وفي الإنصاف زيادة (كدار بينهما فيها بيتان سكن أحدهما عند امتناعه عما يلزمه اهـ) . (3) اختيارات ص 163 ف 2/ 241. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 وإذا مات الحيوان المغصوب فضمنه الغاصب فجلده -إذا قلنا يطهر بالدباغ- للمالك، وقياس المذهب ويتخرج أنه للغاصب (1) . ولو حبس الغاصب المغصوب وقت حاجة مالكه إليه كمدة شبابه ثم رده في مشيبه فتفويت تلك المدة ظلم يفتقر إلى جزاء (2) . وإن وقف الرجل وقفًا على أولاده -مثلاً- ثم باعه وهم يعلمون أنه قد وقفه فهل يكون سكوتهم عن الإعلام تغريرًا مع أنهم هم المستحقون؟ فهذا يستمد من السكوت: هل هو إذن؟ وهو ما إذا رأى عبده أو ولده يتصرف. فقال أصحابنا: لا يكون إذنًا؛ لكن هل يكون تغريرًا؟ فإن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في السلعة المبيعة: «لا يحل لمن يعلم ذلك إلا أن يبينه» يقتضي وجوب الضمان وتحريم السكوت، فيكون قد فعل محرمًا تلف به مال معصوم فهذا قوي جدًا. لكن قد يقال: فطرده أن من علم بالعيب -غير البائع- فلم يبينه فقد غر المشتري فيضمن. فيقال: هذا يبنى على أن الغرور من الأجنبي (3) ولو لم يكن الأولاد أو غيرهم قد عرف فإذا وجب الرجوع على الواقف بما قبضه من الثمن وبما ضمنه المشتري من الأجرة ونقص قيمة البناء والغرس ونحو ذلك، ولو كان قد مات معسرًا أو هو كان معسرًا في حياته فهل يؤخذ من ريع الوقف الثمن الذي غرمه المشتري؟ لا شك أن هذا بعيد في الظاهر؛ لأن ريع الوقف للموقوف عليه، ولم يقر. فلا يؤخذ من ماله ما يقضي به دين غيره. لكن باعتبار هذا الدين على الواقف بسبب تغريره بالوقف فكأن الواقف هو الآكل لريع وقفه. وقد يتوجه ذلك إذا كان الواقف قد احتال بأن وقف ثم باع؛ فإن قصد   (1) اختيارات ص163 ف 2/ 241. (2) اختيارات ص 166 ف 2/ 241. (3) بياض بالأصل مقدار سطر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 الحيلة إذا كان متقدمًا على الوقف لم يكن الوقف لازمًا في المحتال عليه الذي هو أكل مال المشتري المظلوم. ولو واطأ المالك رجلاً على أن يبيع داره ويظهر أنها للبائع لا أنه يبيعها بطريق الوكالة فهل تجعل هذه المواطأة وكالة وإن لم يأذن في بيعها لنفسه، أم يجعل غررًا؟ فإنه ما أذن في بيع فاسد؛ لكن قصد التغرير. فهل يعاقب بجعل البيع صحيحًا، أم بضمان التغرير؟ (1) قال الشيخ في فتاويه: وإن أنفق على أطفال غاصب وصيه مع علمه لم يرجع، وإلا رجع؛ لأن الموصي غره (2) . وإن غصب ثوبًا فقصره أو غزلاً فنسجه أو فضة ... رد ذلك بزيادته وأرش نقصه ولا شيء له. وعنه: يكون شريكًا بالزيادة، اختاره الشيخ تقي الدين، قاله في الفائق (3) . وإن نقصت لتغير الأسعار لم يضمن. وعنه يضمن، اختاره ابن أبي موسى والشيخ تقي الدين، قاله في الفائق (4) . وإن وطئ الجارية فعليه الحد والمهر وإن كانت مطاوعة وأرش البكارة. وعنه: لا يلزمه مهر للثيب، اختاره الشيخ تقي الدين، ولم يوجب عليه سوى أرش البكارة نقله عنه في الفائق (5) . وإن تلفت فعليه قيمتها ولا يرجع بها إن كان مشتريًا، ويرجع بها المتهب ... وعلى المذهب يأخذ من الغاصب ثمنها ويأخذ أيضًا نفقته   (1) بياض بالأصل اختيارات ص163 ف 2/241. (2) فروع 4/ 511 ف 2/ 239. (3) الإنصاف ج6/ 145، 146. (4) الإنصاف 6/ 155 ف 2. (5) الإنصاف ج 6/ 168 ف 2/ 241. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وعمله من البائع الغار. قاله الشيخ تقي الدين (1) . قال الشيخ تقي الدين: لا يسقط حق المظلوم الذي أخذ ماله وأعيد إلى ورثته؛ بل له أن يطالب الظالم بما حرمه من الانتفاع به في حياته (2) . ولو بايع الرجل مبايعات يعتقد حلها ثم صار المال إلى وارث أو منتهب أو مشتر يعتقد تلك العقود محرمة. فالمثال الأصلي لهذا اقتداء المأموم بصلاة إمام أخل بما هو فرض عند المأموم دونه، والصحيح الصحة. وما قبضه الإنسان بعقد مختلف فيه يعتقد صحته لم يجب عليه رده في أصح القولين. ومن كسب مالاً حرامًا برضاء الدافع ثم تاب: كثمن خمر ومهر البغي وحلوان الكاهن فالذي يتلخص من كلام أبي العباس أن القابض إذا لم يعلم التحريم ثم علم جاز له أكله. وإن علم التحريم أولاً ثم تاب فإنه يتصدق به. كما نص عليه أحمد في حامل الخمر. وللفقير أكله، ولولي الأمر أن يعطيه أعوانه. وإن كان فقيرًا أخذ هو كفايته له. وفيما عرف ربه: هل يلزمه رده إليه، أم لا؟ قولان. وظاهر كلام أبي العباس أن نفس المصيبة لا يؤجر عليها. وقال أبو عبيدة: بلى، إن صبر أثيب على صبره. قال: وكثيرًا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب فيكون فيها أجر بهذا الاعتبار (3) . وقد احتج بعض الفقهاء بقصة يوسف على أنه يجوز للإنسان   (1) الإنصاف 6/ 173 ف 2/ 241. (2) الآداب ج1/ 96 ف 2/ 242. (3) اختيارات ص 167 ف 2/ 241. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 التوصل إلى أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق. قال شيخنا: وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف عليه السلام لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظلم يوسف حتى يقال: قد اقتص منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا فعلوا ذلك. نعم كان تخلفه عنهم مما يؤذيهم لتأذي أبيهم وللميثاق الذي أخذه عليهم، وقد استثنى في الميثاق بقوله: {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} وقد أحيط بهم. ويوسف عليه السلام لم يكن قصده باحتباس أخيه الانتقام من إخوته فإنه كان أكرم من هذا، وإن كان من ضمن ما فعل من تأذى أبيه أعظم من أذى إخوته فإنما ذلك أمر أمره الله به ليبلغ الكتاب أجله، ويتم البلاء الذي استحق به يوسف ويعقوب عليهما السلام كمال الجزاء وعلو المنزلة، وتبلغ حكمة الله تعالى -التي قدرها وقضاها- نهايتها. ولو فرض أن يوسف عليه السلام قصد الاقتصاص منهم بما فعل فليس هذا بموضع خلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به، وإنما موضع الخلاف هل له أن يخونه كما خانه أو يسرقه كما سرقه؟ ولم تكن قضية يوسف عليه السلام من هذا النوع. نعم لو كان يوسف عليه السلام أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا شبهة له أيضًا على هذا التقدير فإن هذا لا يجوز في مثل شرعنا بالاتفاق، ولو كان يوسف قد أخذ أخاه واعتقله بغير رضاه كان في هذا ابتلاء من الله تعالى لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم بذبح ابنه، وتكون حكمته في حق الأخ امتحانه وابتلاءه لينال درجة الصبر على حكم الله والرضا بقضائه، ويكون حاله في هذا كحال أبيه يعقوب عليه السلام في احتباس يوسف عليه السلام عنه (1) .   (1) إغاثة ج2/ 113 وتقدم في التفسير ف 2/ 242. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 وأما إذا كان الرجل غصب مال الرجل مجاهرة فغصب من ماله مجاهرة بقدر ماله فليس هذا من هذا الباب؛ فإن الأول يؤدي إلى التأويلات الفاسدة، وأن يحلل لنفسه ما لا يحل له أخذه. وهذا يعرف ما أخذه فلا يأخذ إلا قدر حقه أو أكثر، ويكون معلومًا لا يمكن إنكاره (1) . ويضمن المغصوب بمثله مكيلاً أو موزونًا أو غيرهما حيث أمكن، وإلا فالقيمة. وهو المذهب عند ابن أبي موسى، وقاله طائفة من العلماء. وإذا تغير السعر وفقد المثل فينتقل إلى القيمة وقت الغصب وهو أرجح الأقوال (2) . ومن كانت عنده غصوب وودائع وغيرها لا يعرف أربابها صرفت في المصالح. وقال العلماء ولو تصدق بها جاز. وله الأكل منها ولو كان عاصيًا إذا تاب وكان فقيرًا (3) . ولا يجوز لوكيل بيت المال ولا غيره بيع شيء من طريق المسلمين النافذ. وليس للحاكم أن يحكم بصحته. وما لبيت المال من المقاسمة أو الأرض الخراجية لا يباع لما فيه من إضاعة حقوق المسلمين (4) . ومن غرم بسبب كذب عليه عند ولي الأمر فله تضمين الكذاب عليه بما غرمه (5) . وقدر المتلف إذا لم يمكن تحديده عمل فيه بالاجتهاد، كما يفعل في قدر قيمته بالاجتهاد، إذ الخرص والتقويم واحد؛ فإن الخرص هو الاجتهاد في معرفة مقدار   (1) مختصر الفتاوى ص 609 ف 2/ 242. (2) اختيارات ص 165 فيه زيادة ف 2/ 243. (3) اختيارات ص 165 والإنصاف 6/ 213 فيه زيادة ف 2/ 243. (4) اختيارات ص 165 ف 2/ 243. (5) اختيارات ص 165 ف 2/ 243. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 الشيء، والتقويم هو الاجتهاد في معرفة مقدار ثمنه؛ بل قد يكون الخرص أسهل. وكلاهما يجوز مع الحاجة (1) . وعمل شيخنا بالاجتهاد في قيمة المتلف فخرص الصبرة واعتبر في مزارع أتلف مغل سنتين بالسنين المعتدلة، وفي ربح مضارب بشراء رفقته من نوع متاعه وبيعهم في مثل سفره (2) . ولو اشترى مغصوبًا من غاصبه ولا يعلم به رجع بنفقته وعمله على بائع غار له (3) . وقال تقي الدين فيمن اشترى مال مسلم من التتار لما دخلوا الشام: إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح وأعطي مشتريه ما اشتراه به؛ لأنه لم يصر لها إلا بنفقته وإن لم يقصد ذلك، كما رجحه فيمن اتجر بمال غيره وربح (4) . ومن تصرف بولاية شرعية ولم يضمن، كمن مات ولا ولي له ولا حاكم، وليس لصاحبه إذا علم رد المعاوضة لثبوت الولاية عليها شرعًا (5) . وإذا كان المتلف مما لا يباع مثل الثمر والزرع قبل بدو صلاحه فههنا لا يجوز تقويمه بشرط القطع؛ لأنه مستحق للبقاء وإن لم يجز بيعه كذلك. وإما أن يقوم مع الأصل ثم يقوم الأصل بدونه، وأما أن ينظر إلى حالة كماله فيقوم بدون نفقة الإبقاء ففيه نظر لإمكان تلفه قبل ذلك. وأما إذا جاز بيعه مستحق الإبقاء فيقوم مستحق الإبقاء، كما تقوم المنقولات مع جواز الآفات عليها جميعًا (6) .   (1) اختيارات 166، 167 ف 2/ 243. (2) الفروع ج 4/ 126 زيادة إيضاح ف 2/ 243. (3) اختيارات ص 164 ف 2/ 243. (4) إنصاف 6/ 215 ف 2/ 243. (5) اختيارات ص 165 ف 2/ 242. (6) اختيارات ص 161 ف 2/ 244. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 وإذا كان للناس على إنسان ديون أو مظالم بقدر ما له على الناس من الديون والمظالم كان يسوغ أن يقال: يحاسب بذلك فيه بقدر حقه من هذا أو يصرف إلى غريمه، كما يفعل في الدنيا بالمدين الذي له وعليه يستوفي ما له ويوفي ما عليه (1) . وأما إذا مات الميت وله غرماء مديونون لم يستوف مما عليهم شيئًا فهل مطالبتهم للميت أو للورثة؟ اضطرب فيه الناس. والصواب: إن كان الحق مظالم لم يتمكن هو ولا ورثته من استيفائها: من قود، أو قذف، أو غصب - فهو المطالب. وإن كان دينًا ثبت باختياره وتمكن من استيفائه فلم يستوفه حتى مات فورثته تطالب به إلى يوم القيامة. وإن كان دينًا عجز عن استيفائه هو وورثته، فالأشبه أنه هو الذي يطالب به. فإن العجز إذا كان ثابتًا فيه وفي الوارث ولم يتمكن أحدهما من الانتفاع بذلك في الدنيا لم يدخل في الميراث، فيكون المستحق أحق بحقه في الآخرة، كما في المظالم. والإرث مشروط بالتمكن من الاستيفاء، كما أنه مشروط بالعلم بالوارث. فلو مات وله عصبة بعيدة لا يعرف نسبهم لم يرثوه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا عام في جميع الحقوق التي لله ولعباده هي مشروطة بالتمكن من العلم والقدرة. والمجهول والمعجوز عنه كالمعدوم. ولهذا قال العلماء: إن ما يجهل مالكه من الأموال التي قبضت بغير حق كالمكوس أو قبضت بحق كالوديعة والعارية وجهل صاحبها بحيث تعذر ردها إليه فإنها تصرف في مصالح المسلمين، وتكون حلالاً   (1) اختيارات ص 161، 162 ف 2/ 244. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 لمن أخذها بحق كأهل الحاجة والاستعانة بها على مصالح المسلمين دون من أخذها بباطل، كمن يأخذ فوق حقه. ثم المظلوم إذا طالب بها يوم القيامة وعليه زكاة فلا تقوم هذه بالزكاة؛ بل عقوبة الزكاة أعظم من حسنة المظالم، والوعيد بترك الزكاة عظيم. ولكن الذي ورد: أن الفرائض تجبر بالنوافل. فهذا إذا تصدق باختياره صدقة تطوع لا يكون شيئًا خرج بغير اختياره فإنه يرجى له أن يحاسب بما تركه من الزكاة إذا كان من أهلها العازمين على فعلها. «وأول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن أكملها وإلا قيل انظروا إن كان لعبدي تطوع فيكمل بها فريضته، ثم الزكاة كذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حساب ذلك» روى ذلك أحمد في المسند. وهذا لأن التطوع من جنس الفريضة فأمكن الجبران به عند التعذر، كما قال الصديق رضي الله عنه: إن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة. فيكون من رحمة الله به أن يجعل النفل مثل الفرض، بمنزلة من أحرم بالحج تطوعًا وعليه فرضه فإنه يقع عن فرضه عند طائفة كالشافعي وأحمد في المشهور. وكذلك في رمضان عند أبي حنيفة وقول في مذهب أحمد. وكذلك من شك هل وجب عليه غسل أو وضوء بحدث، أم لا؟ فإنه لا يجب عليه غسل. وكذلك الوضوء عند جمهور العلماء؛ لكن يستحب له التطهر احتياطًا، وإذا فعل ذلك وكان واجبًا عليه في نفس الأمر أجزأ عنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [286/2] . وكذلك الشارع جعل عمل الغير عنه يقوم مقام فعله فيما عجز عنه: مثل من وجب عليه الحج وهو معضوب، أو مات ولم يحج، أو نذر صومًا أو غيره ومات قبل فعله، فعله عنه وليه. فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «دين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 الله أحق بالقضاء» أي أحق أن يستوفى من وارث الغريم؛ لأنه أرحم من العباد، فهذا تشهد له الأصول. أما أن يعتد له بالدين على الناس مع كونه لم يخرج الزكاة. فلا يصح. نعم لو كان للناس عليه مظالم أو ديون بقدر ما له عند الناس كان يسوغ أن يقال: يحاسب بذلك فيؤخذ حقه من هذا ويصرف إلى هذا كما يفعل في الدنيا بالمدين الذي له وعليه. وكل هذا من حكم العدل بين العباد ولا يظلم ربك أحدًا (1) . ومن ندم ورد الغصوب بعد موت المغصوب منه كان للمغصوب منه مطالبته في الآخرة لتفويته عليه الانتفاع به في حياته، كما لو مات الغاصب فرده وارثه (2) . ومن مات معدمًا يرجى أن الله يقضي عنه ما عليه (3) . وللمظلوم الاستعانة بمخلوق. فإذا خافه فالأولى له الدعاء على من ظلمه. ويجوز الدعاء بقدر ما يوجبه ألم ظلمه، لا على من شتمه أو أخذ ماله: بالكفر. ولو كذب عليه لم يفتر عليه، بل يدعو إليه بمن يفتري عليه نظيره. وكذا إن أفسد عليه دينه (4) . ومن ترك دينه باختياره وقد تمكن من استيفائه فلم يستوفه حتى   (1) مختصر الفتاوى 278-280 فيه زيادات كثيرة ف 2/ 244. (2) اختيارات ص166 ف 2/ 244. (3) اختيارات ص166 ف 2/ 244. (4) اختيارات ص166 ف 2/ 244. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 مات. طلب به ورثته. وإن عجز هو وورثته فالمطالبة في الأشبه كما في المظالم للخبر (1) . ومن أمر رجلاً بإمساك دابة ضارية فجنت عليه ضمنه إن لم يعلمه بها. ويضمن جناية ولد الدابة إن فرط نحو أن يعرفه شموسًا وإلا فلا (2) . والدابة إذا أرسلها صاحبها بالليل كان مفرطًا، فهو كما إذا أرسلها قرب زرع. ولو كان معها راكب أو قائد أو سائق فما أفسدت بفمها أو يدها فهو عليه؛ لأنه تفريط، وهو مذهب أحمد (3) . لو ادعى صاحب الزرع أن غنم فلان نفشت ليلاً ووجد أثر في الزرع أثر غنم قضي بالضمان على صاحب الغنم. وجعل الشيخ تقي الدين هذا من القيافة في الأموال، وجعلها معتبرة كالقيافة في الأنساب (4) . وقال الشيخ تقي الدين: ومن لم يسد بئره سدًا يمنع من الضرر ضمن ما تلف بها (5) . ومن العقوبة الثانية: إتلاف الثوبين المعصفرين، كما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو، وإراقة عمر اللبن الذي شيب بالماء للبيع. والصدقة بالمغشوش أولى من إتلافه (6) .   (1) اختيارات ص 166 ف 2/ 244. (2) اختيارات ص 165 وإنصاف 6/ 238 ف 2/ 244. (3) اختيارات ص 166 ف 2/ 244. (4) إنصاف ج 6/ 241 ف 2/ 244. (5) إنصاف ج 6/ 236 ف 2/ 244. (6) اختيارات ص 166 ف 2/ 245. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 باب الشفعة وإنما تجب في عقار تجب قسمته. وعنه: أولاً- اختاره ابن عقيل وأبو محمد الجوزي وشيخنا (1) . وتثبت شفعة الجوار مع الشركة في حق من حقوق الملك: من طريق أو ماء أو نحو ذلك نص عليه أحمد في رواية أبي طالب في الطريق (2) . وإذا حابى البائع المشتري بالثمن محاباة خارجة عن العادة يتوجه ألا يكون للمشتري أخذه إلا بالقيمة، أو أن لا شفعة له. فإن المحاباة بمنزلة الهبة من بعض الوجوه (3) ولا شفعة في بيع الخيار ما لم ينقض. نص عليه أحمد في رواية حنبل. قال القاضي: لأن أخذ الشفيع بالشفعة يسقط حق البائع من الخيار فلم يجز له المطالبة بالشفعة. وهذا التعليل من القاضي يقتضي أن الخيار إذا كان للمشتري وحده فللشفيع الأخذ، كما يجوز للمشتري أن يتصرف فيه في هذا الموضع (4) . وأولى الروايات في مذهب الإمام أحمد أنه لا شفعة لكافر على مسلم. وقد يفرق بين أن يكون الشقص لمسلم فلا تجب الشفعة، أو لذمي فتجب. وحينئذ فهل العبرة بالبائع أو المشتري أو كليهما أو أحدهما؟ أربع احتمالات (5) . وذكر شيخنا وجهًا فيمن اكترى نصف حانوت جاره للمكتري الأول الشفعة من الثاني (6) . ولو ترك الولي شفعة موليه فنصه لا يسقط، وقيل: بلى. وقيل مع عدم الحظ. قلت: قال في تصحيح الفروع بعد أن ذكر وجهين ...   (1) فروع 4/ 529 ف 2/ 244. (2) اختيارات ص 167 فيه زيادة ف 2/ 245. (3) اختيارات ص168 ف 2/ 245. (4) اختيارات ص168 ف 2/ 245. (5) اختيارات ص168 ف 2/ 245. (6) فروع 4/ 529 ف 2/ 245. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 والوجه الثالث: إن كان فيها حظ لم تسقط، وإلا سقطت، وعليه أكثر الأصحاب قال الزركشي: اختاره ابن حامد وتبعه القاضي وعامة أصحابه. قال الحارثي: هذا ما قاله الأصحاب انتهى. واختاره الشيخ تقي الدين (1) . وإن أسقط الشفعة قبل البيع لم تسقط. ويحتمل أن تسقط وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها أبو بكر في الشافي، واختاره الشيخ تقي الدين (2) . باب الوديعة ولو أودع المودع بلا عذر ضمن. والمودع الثاني لا يضمن إن جهل، وهو رواية عن أحمد. وكذا المرتهن منه. وهو وجه في المذهب. ولو قال المودع أودعتها الميت، وقال: هي لفلان وقال ورثته بل هي له وليست لفلان ولم يقم بينة أنها كانت للميت ولا على الإيداع؟ قال أبو العباس: أفتيت أن القول قول المودع مع يمينه لأنه قد ثبتت له اليد. وإذا تلفت الوديعة فللمودع قبض البدل؛ لأن من يملك قبض العين يملك قبض البدل، كالوكيل وأولى (3) . وإذا استعمل كاتبًا خائنًا أو عاجزًا أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه. ذكره شيخنا (4) . ومن استأمنه أمين على ماله فخشي من حاشيته إن منعهم من   (1) تصحيح الفروع ج 4/ 544 ف 2/ 245. (2) إنصاف 6/ 271، 272 ف 2/ 245. (3) اختيارات 168 ف 2/ 246. (4) فروع 4/ 487 ف 2/ 246 وتقدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 عادتهم المتقدمة لزمه فعل ما يمكنه، وهو أصلح للأمير من تولية غيره فيرتع معهم، لا سيما وللأخذ شبهة ذكره شيخنا (1) . وإن دفعها إلى أجنبي أو حاكم ضمن، وليس للمالك مطالبة الأجنبي. وقال القاضي: له ذلك. وقال في المذهب ومسبوك الذهب: ليس للمالك مطالبة الأجنبي على المنصوص ... واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله (2) . وإن أودعها بلا عذر ضمنا وقراره عليه. فإن علم الثاني فعليه. وعنه: لا يضمن الثاني إن جهل اختاره شيخنا، كمرتهن في وجه واختاره شيخنا (3) . باب إحياء الموات وحريم البئر العادية -وهي التي أعيدت- خمسون ذراعًا (4) . ولو ترك جمدًا في حر شديد حتى ذاب وتقاطر ماؤه فقصد إنسان إلى ذلك القطر وتلقاه في إناء وجمعه وشربه كان مضمونًا عليه، وإن كان لو تركه لضاع ذكره أبو طالب في الانتصار. وفيه نظر (5) . باب الجعالة ومن استنقذ مال غيره من الهلكة ورده استحق أجرة المثل ولو بغير شرط في أصح القولين، وهو منصوص أحمد وغيره (6) .   (1) فروع 4/ 491 ف 2/ 246. (2) فروع 4/ 487 وتقدم ف 2/ 246. (3) الإنصاف 6/ 325، 326 ف 2/ 246. (4) الإنصاف 6/ 326 ف 2/ 246. (5) اختيارات ص 169 والفروع ج 4/ 555 ف 2/ 247. (6) اختيارات ص 169 ف 2/ 247. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 باب اللقطة ولا تملك لقطة الحرم بحال ويجب تعريفها أبدًا، وهو رواية عن أحمد، واختارها طائفة من العلماء. وتضمن اللقطة بالمثل، كبدل القرض. وإذا قلنا بالقيمة فالقيمة يوم ملكها الملتقط قطع به ابن أبي موسى وغيره. خلافًا للقاضي وأبي البركات (1) . باع الملتقط اللقطة بعد الحول ثم جاء ربها فالأشبه أن المالك لا يملك انتزاعها من المشتري (2) . ولو وجد لقطة في غير طريق مأتي فهي لقطة على الصحيح من المذهب قدمه في الفائق. واختار الشيخ تقي الدين أنها كالركاز (3) . ومن استنقذ فرسًا من أيدي العرب ثم مرض الفرس ولم يقدر على المشي جاز له بيعه، بل يجب في هذه الحال أن يبيعه لذمة صاحبه وإن لم يكن وكيله نص عليه الأئمة ويحفظ الثمن (4) . باب اللقيط وذكر ابن أبي موسى في «الإرشاد» أن بعض شيوخه حكى رواية عن الإمام أحمد أن الملتقط يرثه (يرث اللقيط) واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله ونصره (5) .   (1) اختيارات ص 169 ف 2/ 247. (2) اختيارات ص 169 ف 2/ 248. (3) اختيارات ص 169 مختصر الفتاوى 416 ف 2/ 248. (4) إنصاف 6/ 429 ف 2/ 248. (5) إنصاف 6/ 446 ف 2/ 248. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 كتاب الوقف تعريفه: قال شيخنا: وأقرب الحدود في الوقف أنه كل عين تجوز عاريتها (1) . ويصح بالقول وبالفعل الدال عليه عرفًا، كجعل أرضه مسجدًا، أو الإذن للناس بالصلاة فيه، أو أذن فيه وأقام (2) ونقله أبو طالب وجعفر وجماعة عن أحمد. أو جعل أرضه مقبرة وأذن للناس بالدفن فيها، ونص عليه أحمد أيضًا. ومن قال: قريتي التي بالثغر لموالي الذين بها أولادهم صح وقفًا. ونقله يعقوب بن إسحاق بن بختان عن أحمد. وإذا قال واحد أو جماعة: جعلنا هذا المكان مسجدًا أو وقفًا صار مسجدًا ووقفًا بذلك وإن لم يكملوا عمارته. وإذا قال كل منهم: جعلت ملكي للمسجد أو في المسجد ونحو ذلك صار بذلك حقًا للمسجد. ولو قال الإنسان تصدقت بهذا الدهن على هذا المسجد ليوقد فيه جاز. وهو من باب الوقف وتسميته وقفًا بمعنى أنه وقف على تلك الجهة لا ينتفع به في غيرها لا تأباه اللغة، وهو جائز في الشرع (3) .   (1) إنصاف 7/ 3 وفي الاختيارات الموقوف كما يأتي ف 2/ 249. (2) هذه الجملة أو أذن فيه وأقام في الفروع وحدها. (3) هذا في الإنصاف ج 7/ 12. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 ووقف الهازل ووقف التلجئة إن غلب على الوقف شبه التحرير من جهة أنه لا يقبل الفسخ فينبغي أن يصح كالعتق والإتلاف. وإن غلب عليه شبه التمليك فيشبه الهبة والتمليك. وذلك لا يصح من الهازل على الصحيح (1) . ونقل جماعة عن الإمام أحمد فيمن وقف دارًا وإن لم يحدها. قال: يصح وإن لم يحدها إذا كانت معروفة اختاره الشيخ تقي الدين. وعند الشيخ تقي الدين: لا يصح وقف منافع أم الولد في حياته (2) . قال في المحرر: ولا يصح وقف المجهول. قال أبو العباس: المجهول نوعان: مبهم، ومعين. مثل دار لم يرها. فمنع هذا بعيد. وكذلك هبته. فأما الوقف على المبهم فهو شبيه بالوصية له. وفي الوصية روايتان منصوصتان مثل أن يوصي لأحد هذين أو لجاره محمد وله جاران بهذا الاسم. وقف المبهم مفرع على هبته وبيعه وليس عن أحمد في هذا منع (3) . وينبغي أن يشترط في الواقف أن يكون ممن يمكن من تلك القربة. فلو أراد الكافر أن يقف مسجدًا منع منه (4) .   (1) اختيارات ص 171 ف 2/ 249. (2) إنصاف 7/ 9 ف 2/ 249. (3) اختيارات ص 172 ف 2/ 249. (4) اختيارات ص 172 ف 2/ 249. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 شروطه: 1- المنفعة: ولو قال الواقف: وقفت هذه الدراهم على قرض المحتاجين لم يكن جواز هذا بعيدًا. وإذا أطلق وقفًا لنقدين ونحوهما مما يمكن الانتفاع ببذله فإن منع صحة هذا الوقف فيه نظر، خصوصًا على أصلنا فإنه يجوز عندنا بيع الوقف إذا تعطلت منفعته. وقد نص أحمد في الذي حبس فرسًا عليها حلية محرمة أن الحلية تباع وينفق منها عليها وهذا تصريح بجواز مثل هذا. ولو وقف منفعة يملكها كالعبد الموصى بخدمته أو منفعة أمه في حياته أو منفعة العين المستأجرة فعلى ما ذكره أصحابنا لا يصح. قال أبو العباس: وعندي ليس في هذا فقه؛ فإنه لا فرق بين وقف هذا ووقف البناء والغراس، ولا فرق بين وقف ثوب على الفقراء يلبسونه أو فرس يركبونه أو ريحان يشمه أهل المسجد (1) . وطيب الكعبة حكمه حكم كسوتها، فعلم أن التطيب منفعة مقصودة؛ لكن قد يطول بقاء مدة الطيب وقد يقصر ولا أثر لذلك. ويصح وقف الكلب المعلم والجوارح المعلمة وما لا يقدر على تسليمه. وأقرب الحدود في الموقوف أنه كل عين تجوز إعارتها. قال في الرعاية: وإن وقف نصف عبد صح وإن لم يسر إلى بقيته وإن كان لغيره.   (1) الريحان وطيب الكعبة موجود في الإنصاف ج 7/ 12. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وإن أعتق ما وقفه منه أو أعتقه الموقوف عليه لم يصح عتقه ولم يسر. وإن أعتق الواقف باقيه أو أعتقه شريكه فقد صح عتق نفسه ولم يسر إلى الموقوف. قال أبو العباس: هذا ضعيف (1) . وما يأخذه الفقهاء من الوقف: هل هو إجارة، أو جعالة، أو كرزق من بيت المال؟ فيه أقوال: ثالثها المختار (2) . وما يؤخذ من بيت المال فليس عوضًا أو أجرة؛ بل رزق للإعانة على الطاعة، وذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به والمنذور ليس كالإجارة والجعل. اهـ (3) . قال ابن القيم رحمه الله: وقع لبعض من نصب نفسه للفتوى من أهل عصرنا: ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف وقفًا على أهل الذمة: هل يصح ويتقيد الاستحقاق بكونه منهم؟ فأجاب بصحة الوقف، وتقييده الاستحقاق بذلك الوصف. وقال: هكذا قال أصحابنا: ويصح الوقف على أهل الذمة. فأنكر ذلك شيخنا غاية الإنكار، وقال: مقصود الفقهاء بذلك أن كونه من أهل الذمة ليس مانعًا من صحة الوقف عليه بالقرابة أو بالتعيين؛ وليس مقصودهم أن الكفر بالله ورسوله أو عبادة الصليب وقولهم إن المسيح ابن الله شرط لاستحقاق الوقف، حتى إن من آمن بالله ورسوله واتبع دين الإسلام لم يحل له أن يتناول بعد ذلك من الوقف، فيكون   (1) الاختيارات ص 170-172 ف 2/ 249. (2) اختيارات ص 177 وفيه زيادة ف 2 /249. (3) إنصاف 7/ 68 فيه زيادة ف 2/ 249. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 حله مشروطًا بتكذيب الله ورسوله والكفر بدين الإسلام (1) . وأما الوقف على قبور الأنبياء. فإن كان وقفًا على بناء المساجد عليها وإيقاد المصابيح فقد تقدم حكمه وأنه معصية لا يحل الوفاء به، وأنه من عمل المشركين. والذين يقولون: إن من العلماء من وقف على مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -. يريدون بذلك أنه وقف على قبر. فهو خطأ منهم في فهم العبارة؛ فإن هذا إنما هو وقف على من بالمدينة النبوية، وليس لذلك اختصاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ جميع ما يصرفه المسلمون من الأموال في أنواع الوقف وغيره إنما هو بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (2) [7/59] . وقال الشيخ تقي الدين: لو وقف قنديل نقد للنبي - صلى الله عليه وسلم - صرف لجيرانه قيمته. وقال في موضع آخر: النذر للقبور هو للمصالح ما لم يعلم ربه (3) . وأما هذه الأوقاف على الترب ففيها من المصلحة بقاء حفظ القرآن وتلاوته وكون هذه الأموال معونة على ذلك وحاضة عليه؛ إذ قد لا يدرس حفظ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاضة عليه. وفيها مفاسد أخر من حصول القراءة لغير الله، ومن التأكل بالقرآن، وقرائته على غير الوجه المشروع، وإشغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة. فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك الفساد جاز. فالواجب النهي عن ذلك والمنع منه وإبطاله.   (1) إعلام ج4/ 184 موجود بعض معناه ف 2/ 249. (2) مختصر الفتاوى ص 551 ف 2/ 249. (3) إنصاف 6/ 11 ف 2/ 249. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 وإن ظن حصول مفسدة أكثر من ذلك لم يدفع أدنى المفسدتين باحتمال أعلاهما (1) . ويصح الوقف على النفس، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختارها جماعة من أصحابه (2) . قال شيخنا: ومن الحيل الجديدة التي لا أعلم بين فقهاء الطوائف خلافًا في تحريمها: أن يريد الرجل أن يقف على نفسه بعد موته على جهات متصلة، فيقول له أرباب الحيل: أقر أن هذا المكان الذي بيدك وقف عليك من غيرك، ويعلمونه الشروط التي يريد إنشاءها فيجعلها إقرارًا، فيعلمونه الكذب في الإقرار، ويشهدون على الكذب وهم يعلمون، ويحكمون بصحته. ولا يستريب مسلم أن هذا حرام؛ فإن الإقرار شهادة من الإنسان على نفسه، فكيف يلقن شهادة الزور ويشهد عليه بصحتها؟! ثم إذا كان وقف الإنسان على نفسه باطلاً في دين الله فقد علمتموه حقيقة الباطل؛ فإن الله تعالى قد علم أن هذا لم يكن وقفًا قبل الإقرار، ولا صار وقفًا بالإقرار الكاذب، فيصير المال حرامًا على من يتناوله إلى يوم القيامة. وإن كان وقف الإنسان على نفسه صحيحًا فقد أغنى الله تعالى عن تكلف الكذب (3) . ويصح الوقف على أم ولده بعد موته، وإن وقف على غيرها على أن ينفق عليها مدة حياته أو يكون الريع لها مدة حياته صح؛ فإن استثناء الغلة لأم ولده كاستثنائها لنفسه. وإن وقف عليها مطلقًا فينبغي في الحال أنا إذا صححنا وقف   (1) اختيارات ص 92 ف 2/ 249. (2) اختيارات 170/249. (3) إعلام 3/ 302 ف 2/ 249. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 الإنسان على نفسه صح؛ لأن ملك أم ولده أكثر ما يكون بمنزلة ملكه. وإن لم نصححه فيتوجه أن يقال: هو كالوقف على العبد القن، ويتوجه الفرق بأن أم الولد لا تملك بحال. وفيها نظر. وقد تخرج على ملك العبد بالتمليك، فإن هذا نوع تمليك لأم ولده؛ بخلاف العبد القن. فإنه قد يخرج عن ملكه فيكون ملكًا لعبد الغير. وإذا مات السيد فقد تخرج هذه المسألة عن مسألة تفريق الصفقة؛ لأن الوقف على أم الولد يعم حال رقها وعتقها، فإذا لم يصح في أحد الحالين خرج في الحال الأخرى وجهان. وإذا قلنا: إن الوقف المنقطع الابتداء يصح فيجب أن يقال ذلك هنا. وإن قلنا لا يصح فهذا كذلك (1) . وإذا اشترط القبول في الوقف على المعين فلا ينبغي أن يشترط المجلس؛ بل يلحق بالوصية والوكالة. فيصح معجلاً أو مؤجلاً بالقول والفعل (2) فأخذ ريعه قبول، وينبغي أنه لورده بعد قبوله كان له ذلك. أن يقف ناجزًا، فإن علقه على شرط لم يصح. وقيل: يصح واختاره الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق والحارثي وقال: الصحة أظهر وأحرى (3) . والصواب الذي عليه محققو الفقهاء في مسألة الوقف على المعين إذا لم يقبل أورده أن ذلك ليس كالوقف المنقطع الابتداء، بل الوقف هنا صحيح قولاً واحدًا. ثم إن قبل الموقوف عليه وإلا انتقل إلى من بعده،   (1) اختيارات ص 172 ف 2/ 250. (2) نسخة بدون (أو) . (3) الإنصاف 7/ 23 ف 2/ 251. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 كما لو مات أو تعذر استحقاقه لفوات وصف فيه؛ إذ الطبقة الثانية تتلقى من الواقف لا من الموقوف عليه (1) . شروط الواقف: ولا يلزم الوفاء بشرط الواقف إلا إذا كان مستحبًا خاصة، وهو ظاهر المذهب، أخذًا من قول أحمد في اعتبار القربة في أصل الجهة الموقوف عليها (2) . وقال الشيخ تقي الدين: يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد صرف للجند (3) . قال شيخنا: كل متصرف بولاية إذا قيل: يفعل ما يشاء فإنما هو لمصلحة شرعية، حتى لو صرح الواقف بفعل ما يهواه وما يراه مطلقًا فشرط باطل بمخالفته الشرع، وغايته أن يكون شرطًا مباحًا وهو باطل على الصحيح المشهور، حتى لو تساوى فعلان عمل بالقرعة، وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجه (4) . إذا شرط الواقف لناظره أجرة فكلفته عليه حتى تبقى أجرة مثله. وقال المصنف ومن تبعه: كلفته من غلة الوقف. قيل للشيخ تقي الدين: فله العادة بلا شرط، فقال: ليس له إلا ما يقابل عمله (5) .   (1) اختيارات ص 173 فروع 4/ 589 وانظر الإنصاف 7/ 26-28 هذا جزم فيه بالحكم ف 2/ 251. (2) اختيارات 175، 176 ف 2/ 251. (3) إنصاف 7/ 57 ف 2/ 251. (4) فروع ج 4/ 602 ف 2/ 251. (5) إنصاف 7/ 58 ف 2/ 251. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 ولو وقف على آل جعفر وآل علي فهل يسوى بين أفرادهم، أو يقسم بينهم نصفين؟ قال أبو العباس: أفتيت أنا وطائفة من الفقهاء أنه يقسم بين أعيان الطائفتين. وأفتى طائفة أنه يقسم نصفين فيأخذ آل جعفر النصف وإن كانوا واحدًا وهو مقتضى أحد قولي العلماء (1) . لو وقف على ابني أخيه يوسف وأيوب. ثم ظهر أن أيوب اسمه صالح، فشك فيه. فإن لم يكن لأخيه ابنان سواهما فحق أيوب ثابت ولا يضر الغلط في اسمه. وإن كانوا ثلاثة بنين ووقع الشك في عين الثالث أخرج بالقرعة في رواية عن أحمد (2) . وما حصل للأسير من ريع الوقف فإنه يتسلمه ويحفظه وكيله ومن يتنقل بعده جميعًا (3) . وأفتى تقي الدين باستحقاق الحمل من الوقف أيضًا (4) . الثمرة للموجود عند التأبير أو بدو الصلاح. قال ابن عبد القوي: ولقائل أن يقول: .... ليس كذلك، لأن واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السنة كالجعل على اشتغال من هو في المدرسة عامًا فينبغي أن يستحق بقدر عمله من السنة من ريع الوقف لئلا يفضي إلى أن يحضر الإنسان شهرًا مثلاً فيأخذ مغل جميع الوقف ويحضر غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة (5) فلا يستحق شيئًا وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها. قال الشيخ تقي الدين: يستحق   (1) اختيارات ص 181 ف 2/ 251. (2) اختيارات ص 181 ف 2/ 252. (3) اختيارات ص 182 وإنصاف 7/ 340. (4) الإنصاف 7/ 22 ف 2/ 252. (5) في الإنصاف العشر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 بحصته من مغله. وقال: من جعله كالولد فقد أخطأ (1) . ولو أقر الموقوف عليه أنه لا يستحق في هذا الوقف إلا مقدارًا معلومًا ثم ظهر شرط الواقف أنه يستحق أكثر حكم له بمقتضى شرط الواقف، ولا يمنع من ذلك إقراره المتقدم (2) . ومن زور ولاية لنفسه بإمامة وباشر فيتوجه إن كانت ولايته شرطًا لاستحقاقه لم يستحق، وإلا خرج على صحة إمامته. وقال شيخنا: له أجر مثله، وأطلق، كمن ولايته فاسدة بغير كذبه لا ما يستحقه عدل بولاية شرعية (3) . ومن أكل المال بالباطل قوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم، وقوم لهم جهات معلومها كثير يأخذونه ويستنيبون بيسير (4) . وإذا مات شخص من مستحقي الوقف وجهل شرط الواقف صرف إلى جميع المستحقين بالسوية (5) . وقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة والمجتهد ليس منهم. فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له (6) . واختار الشيخ تقي الدين فيما إذا وقف على أقرب قرابته استواء الأخ من الأب والأخ من الأبوين (7) .   (1) إنصاف 7/ 84 ف 2/ 252. (2) اختيارات ص 181 ف 2/ 252. (3) الفروع ج 2/ 17 ف 2/ 252. (4) اختيارات 178 ف 2/ 252. (5) اختيارات ص 181 ف 2/ 252. (6) إعلام ج 2/ 222، 223 ف 2/ 253. (7) إنصاف 6/ 99 ف 2/ 253. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 قال: ومن شرط في القربات أن يقدم فيها الصنف المفضول فقد شرط خلاف شرط الله كشرطه في الإمامة تقديم غير الأعلم. والناظر منفذ لما شرطه الواقف (1) . وإذا شرط في استحقاق ريع الوقف العزوبة فالمتأهل أحق من العزب إذا استويا في سائر الصفات (2) . قال شيخنا: ليس له أن يستأجر الوقف زيادة على شرط الواقف ولا يغيره لمصلحة نفسه؛ بل إذا غيره لمصلحة نفسه ألزم بإعادته إلى مثل ما كان وبضمان ما فوته من غير منفعة، وعلى ولاة الأمور إلزامه بما يجب عليه، فإن أبي عوقب بحبس وضرب ونحوه؛ فإن المدين يعاقب بذلك فكيف بمن امتنع من فعل واجب مع تقدم ظلم؟ (3) . ومن عمر وقفًا بالمعروف ليأخذ عوضه فله أخذه من غلته (4) . وقال شيخنا فيمن نزل عن وظيفة الإمام: لا يتعين المنزول له، ويولي من له الولاية من يستحق التولية شرعًا (5) . ومن وقف مدرسة على مدرس وفقهاء فلناظر ثم الحاكم تقدير أعطيتهم. فلو زاد النماء فهو لهم. والحكم بتقديم مدرس أو غيره باطل ولو نفذه حكام. وإن قيل: إن المدرس لا يزيد ولا ينقص بزيادة النماء ونقصه كان باطلاً؛ لأنه لهم والقياس أن يسوى بينهم ولو تفاوتوا في المنفعة كالإمام   (1) إنصاف 7/ 56 ف 253. (2) اختيارات ص 176 فيه التصريح بأنه أحق زائد عما في المجموع. (3) فروع 4/ 581، 583 ف 2/ 154. (4) اختيارات 181 ف 2/ 254. (5) فروع 4/ 588، ف 2/ 254. وإنصاف 6/ 376 ف 2/ 254. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 والجيش في المغنم؛ لكن دل العرف على التفضيل، وإنما قدم القيم لأن ما يأخذه أجرة؛ ولهذا يحرم أخذه فوق أجرة مثله بلا شرط (1) . وفي الإنصاف بعد قوله باطل ولو نفذه حكام: إذ لم نعلم أحدًا ممن يعتد به قال به ولا بما يشابهه. وفيه أيضًا: وبطلانه لمخالفته مقتضى الشرط والعرف أيضًا. وليس تقدير الناظر أمرًا كتقدير الحاكم بحيث لا يجوز له ولا لغيره زيادته ونقصه للمصلحة (2) . والإمام والمؤذن كالقيم؛ بخلاف المدرس والمتعبد والفقهاء فإنهم من جنس واحد (3) . إذا جهل شرط الواقف وتعذر العثور عليه قسم على أربابه بالسوية. واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله أنه يرجع في ذلك إلى العرف والعادة وهو الصواب (4) . ومن شرط لغيره النظر إن مات فعزل نفسه أو فسق فكموته؛ لأنه تخصيصه للغالب ذكره شيخنا (5) . ثم إن صار هو أو الوصي أهلاً عاد كما لو صرح به وكالموصوف ذكره شيخنا (6) . ومن قدر له الواقف شيئًا أكثر منه أخذه إن استحقه بموجب الشرع. ولو عطل مغل وقف مسجد سنة تقسط الأجرة المستقبلة عليها   (1) اختيارات ص 174 والإنصاف 7/ 65، 2/ 255. (2) الإنصاف 7/ 65 ف 2/ 255. (3) اختيارات ص 174 ف 2/ 255. (4) إنصاف 7/ 87 ف 2/ 255. (5) فروع 4/ 593 ف 2/ 255. (6) فروع 4/ 595 ف 2/ 255. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 وعلى السنة الأخرى، لأنه خير من التعطيل ولا ينقص الإمام بسبب تعطيل الزرع العام (1) . والناظر إن لم يشترط له شيء ليس له إلا ما يقابل عمله، لا العادة. واعتبر أبو العباس في موضع جواز أخذ الناظر أجرة عمله مع فقره، كوصي اليتيم. ولا يقدم الناظر بمعلومه بلا شرط (2) . قال: ومتى فرط سقط مما له بقدر ما فوته من الواجب (الفروع ج 4/ 595 إنصاف ج 7/ 63) . ولا يجوز أن يولي فاسقًا في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقًا؛ لأنه يجب الإنكار عليه وعقوبته فكيف يولى (3) . وإن نزل مستحق تنزيلا شرعيًا لم يجز صرفه بلا موجب شرعي (4) . وقال أيضًا: لا يجوز أن ينزل فاسق في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقًا؛ لأنه يجب الإنكار عليه وعقوبته فكيف ينزل (5) . وقال شيخنا: قد تجوز الصلاة خلف من لا يجوز توليته. وليس للناس أن يولوا عليهم الفساق، وإن نفذ حكمه أو صحت الصلاة خلفه. وقال أيضًا: اتفقت الأئمة على كراهة الصلاة خلفه، واختلفوا في صحتها، ولم يتنازعوا في أنه لا ينبغي توليته.   (1) اختيارات ص 177 فيه زيادة. (2) اختيارات ص 175 وفي الإنصاف ج 7/ 61 بعد قوله السنة الأخرى (لتقدم الوظيفة فيهما. وفيه أيضًا بسبب تعطل الزرع بعض العام ج7/ 65. (3) اختيارات ص 175 ف 2/ 255. (4) اختيارات ص 175 ف 2/ 255. (5) فروع ج 4/ 601 ف 2/ 255. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وما بناه أهل الشوارع والقبائل من المساجد فالإمامة لمن رضوه لا اعتراض للسلطان عليهم، وليس لهم صرفه ما لم يتغير حاله، وليس له أن يستنيب إن غاب، ولهم انتساخ كتاب الوقف والسؤال عن حاله. واحتج شيخنا بمحاسبة النبي - صلى الله عليه وسلم - عامله على الصدقة مع أن له ولاية صرفها والمستحق غير معين فهنا أولى. ونصه: إذا كان متهمًا ولم يرضوا به. ونصب المستوفي الجامع للعمال المتفرقين هو بحسب الحاجة والمصلحة؛ فإن لم تتم مصلحة قبض المال وصرفه إلا به وجب. وقد يستغنى عنه لقلة العمال ومباشرة الإمام والمحاسبة بنفسه، كنصب الإمام للحاكم؛ ولهذا كان عليه الصلاة والسلام في المدينة يباشر الحكم واستيفاء الحساب بنفسه، ويولي مع البعد. ذكره شيخنا. وسجل كتاب الوقف من الوقف كالعادة. ذكره شيخنا (1) . وقال أيضًا: من ثبت فسقه أو أقر متصرفًا بخلاف الشرط الصحيح عالمًا بتحريمه قدح فيه، فإما أن ينعزل أو يضم إليه أمين على الخلاف المشهور. ثم إن صار هو أو الوصي أهلاً عاد، كما لو صرح به وكالموصوف (2) . وله الأجرة من وقت النظر فيه (3) . ومن لم يقم بوظيفته عزله من له الولاية بمن يقوم بها إذا لم يتب الأول ويلتزم بالواجب (4) . وإذا رحل وخلى وظيفته شاغرة فتولاها أحد ولاية شرعية ثم عاد الأول بعد مدة فليس له أن ينازعه. وإذا ذكر أن ولي الأمر أذن له أن   (1) الفروع 4/ 599 فيه زيادات ف 2/ 255. (2) إنصاف 7/ 63 وتقدم بعض هذه العبارة ف 2/ 255. (3) إنصاف 7/ 64 ف 2/ 255. (4) إنصاف 7/ 66 ف 2/ 255. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 يستنيب فإنه إن كان جائزًا فهو لم يفعله، وإن لم يكن جائزًا لم ينفعه. وإذا أصر على منازعته مع علمه بالتحريم قدح في عدالته (1) . والذي يتوجه أنه لا يجوز للموقوف عليهم أن يتسلفوا الأجرة؛ لأنهم لم يملكوا المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها. وعلى هذا فلهم أن يطلبوا الأجرة من المستأجر لأنه فرط. ولهم أن يطالبوا الناظر (2) . ومأخذ الوقف المنقطع: أن الوقف هل يصح توقيته بغاية مجهولة أو غير مجهولة؟ فعلى قول من قال: لا يزال وقفًا لا يصح توقيته. وعلى قول من قال: يعود ملكًا يصح توقيته، فإن غلب جانب التحريم فالتحريم لا يتوقت؛ لأنه ليس له شريك. وإن غلب جانب التمليك فتوقيت جميعه قريب من توقيته على بعض البطون، كما لو قال: هذا وقف على زيد سنة ثم على عمرو سنة ثم على بكر سنة. وضابط الأقوال في الوقف المنقطع: إما على جميع الورثة، وإما على العصبة، وإما على المصالح، وإما على الفقراء والمساكين منهم. وعلى الأقوال الأربعة؛ فإما وقف، وإما ملك. فهذه ثمانية. ومنها أربعة في الأقارب. وهل يختص به فقراؤهم؟ فيصير فيهم ثمانية. والثالث عشر تفصيل ابن موسى أنه إذا رجع إلى جميع الورثة يكون ملكًا بينهم على فرائض الله؛ بخلاف رجوعه إلى العصاة قال أبو العباس: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد (3) . وتجب عمارته بحسب البطون ذكره شيخنا. وذكر غيره: لا تجب   (1) مختصر الفتاوى 606 ف 2/ 256. (2) اختيارات 178 ف 2/ 256 وتقدم. (3) اختيارات ص 273 ف 2/ 256. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 كالطلق. وتقدم عمارته على أرباب الوظائف. وقال شيخنا الجمع بينهما بحسب الإمكان أولى؛ بل قد يجب (1) . وذكر في القاعدة الثالثة والخمسين بعد المائة: أن الشيخ تقي الدين اختار فيما إذا وقف على ولده دخول ولد الولد في الوقف دون الوصية، وفرق بينهما (2) . وإن وقف على عقبه أو ولد ولده أو ذريته دخل فيه ولد البنين. ونقل عنه لا يدخل فيه ولد البنات، قال في الفائق: اختاره الخرقي والقاضي وابن عقيل والشيخان يعني بهما المصنف والشيخ تقي الدين (3) . وقال الشيخ تقي الدين: ذوو طبقته إخوته وبنو عمه ونحوهم، ومن هو أعلى منه عمومته ونحوهم، ومن هو أسفل منهم ولده وولد إخوته وطبقتهم (4) . ولو قال: وقفت على أولادي ثم أولادهم الذكور والإناث ثم أولادهم الذكور وإن سفلوا فإن أحد الطبقة الأولى لو كانت بنتًا فماتت ولها أولاد فما استحقته قبل موتها فلهم. ولو قال: ومن مات عن غير ولد فنصيبه لأخويه ثم نسلهم وعقبهم ممن لم يعقب ومن أعقب ثم انقطع عقبه. وقول الواقف: «ومن مات من غير نسل» يعود ما كان جاريًا عليه على من هو في درجته وذي طبقته -يقدم الأقرب إلى المتوفى فالأقرب- وهو حرمان الطبقة السفلى فقط لا حرمان العليا (5) .   (1) فروع 4/ 499 فيه زيادة ف 2/ 256. (2) إنصاف 7/ 100/ 256. (3) إنصاف 7/ 79 زيادة إيضاح. (4) إنصاف 7/ 50 ف 2/ 256. (5) اختيارات 180 ف 2/ 257. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وعنه: أزواجه من أهله ومن أهل بيته، ذكرها شيخنا. وقال: في دخولهن في آله وأهل بيته روايتان، واختار الدخول، وأنه قول الشريف (1) . وقال الشيخ تقي الدين: فيما إذا قال: بطنًا بعد بطن ولم يزد شيئًا. هذه المسألة فيها نزاع والأظهر أن نصيب كل واحد ينتقل إلى ولده ثم إلى ولد ولده ولا مشاركة اهـ (2) . لو وجد في كتاب الوقف أن رجلاً وقف على فلان وعلى بني بنيه واشتبه: هل المراد بني بنيه جمع أو بني بنته واحدة البنات، فقال ابن عقيل في الفنون: يكون بينهما عندنا لتساويهما كما في تعارض البينات. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس هذا من تعارض البينتين؛ بل هو بمنزلة تردد البينة الواحدة. ولو كان من تعارض البينتين فالقسمة عند التعارض رواية مرجوحة وإلا فالصحيح إما التساقط، وإما القرعة. فيحتمل أن يقرع هنا. ويحتمل أن يرجح بنو البنين لأن العادة أن الإنسان إذا وقف على ولد بنته لا يخص منهما الذكور بل يعم أولادهما؛ بخلاف الوقف على ولد الذكور فإنه يخص ذكورهم كثيرًا كآبائهم، ولأنه لو أراد ولد البنت سماها باسمها أو أشرك بين ولدها وولد سائر بناته. قال: وهذا أقرب إلى الصواب (3) . وأفتى أيضًا رحمه الله فيمن وقف على أحد أولاده وله عدة أولاد وجهل اسمه أنه يميز بالقرعة (4) .   (1) فروع ج 4/ 615 ف 2/ 257. (2) إنصاف 7/ 47 ف 2/ 257. (3) إنصاف 7/ 52 ف 2/ 258. (4) إنصاف 7/ 53 ف 2/ 258. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وقال الشيخ تقي الدين: يعطي من ليس له أب يعرف ببلاد الإسلام. قال: ولا يعطي كافرًا (1) . وإذا زرع البطن الأول من أهل الوقف في الأرض الموقوفة ثم ماتوا وانتقل إلى البطن الثاني كان مبقي إلى أوان جذاذه بأجرة. وقال أبو العباس في موضع آخر: تجعل مزارعة بين الزارع ورب الأرض لنموه من بذر أحدهما وبذر الآخر. وكذا الحكم في أرض الإقطاع المزروعة إذا انتقل إلى مقطع آخر والزرع قائم فيها. وشجر الجوز الموقوف إن أدرك وإن قطعه في حياة البطن الأول فهو له. فإن مات وبقي في الأرض مدة حتى زاد كانت الزيادة حادثة من منفعة الأرض التي للبطن الثاني والأصل الذي ورث الأول، فإما أن يقسم الزيادة على قدر القسمين، وإما أن يعطي الورثة أجرة الأرض للبطن الثاني. وإن غرسه البطن الأول من مال الوقف ولم يدرك إلا بعد انتقاله إلى البطن الثاني فهو لهم. وليس لورثة الأول فيه شيء (2) . ومن وقف وقفًا مستقلاً ثم ظهر عليه دين ولم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف وهو في مرض الموت بيع باتفاق العلماء. وإن كان الوقف في الصحة فهل يباع لوفاء الدين؟ فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره، ومنعه قوي. قال: وليس هذا بأبلغ من التدبير وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع المدبر في الدين. والله أعلم.   (1) إنصاف 7/ 94 ف 2/ 258. (2) اختيارات 178 ف 2/ 258. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وإذا وقف الواقف وعليه دين مستغرق وأثبت عند الحاكم ولم يتعرض لصحة الوقف ولم يعلم الموقوف عليهم ثم مات الواقف فرد الموقوف إلى الموقوف عليهم وطلب أرباب الديون ديونهم ورفعت القضية إلى حاكم يرى بطلان هذا الوقف من جهة شرط النظر لنفسه وكونه يستغرق الذمة بالدين وكونه لم يخرجه من يده فهل يجوز نقضه؟ فيقال حكم الحاكم بما قامت به البينة والقضاء بموجبه والإلزام بمقتضاه لا يمنع الحاكم الثاني الذي عنده أن الواقف كانت ذمته مشغولة بالديون حين الوقف أن يحكم بمذهبه في بطلان هذا الوقف، ويصرف المال إلى الغرماء المستحقين للوفاء. فإن الحاكم الأول في وجوه هؤلاء الخصوم ونوابهم لا يتضمن حكمه عمله بهذا الفصل المختلف فيه. وإذا صادف حكمه مختلفًا فيه لم يعلمه ولم يحكم فيه جاز نقضه (1) . لو شرط في الوقف أن يبيعه بطلا. وقيل: يبطل الشرط. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: يصح في الكل نقله عنه في الفائق (2) . قال الشيخ تقي الدين: يجب بيعه بمثله مع الحاجة، وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة. ولا يجوز بمثله لفوات التعيين بلا حاجة (3) . وجوز جمهور العلماء تغيير صورة الوقف للمصلحة كجعل الدور حوانيت والحكورة المشهورة. ولا فرق بين بناء وبناء وعرصة بعرصة (4) .   (1) اختيارات ص 179 فيه زيادة ف 2/ 258، 259. (2) الإنصاف 7/ 25 واختيارات ص 182 ف 2/ 259. (3) إنصاف 7/ 104 فيه زيادة ف 2/ 259، 260. (4) اختيارات ص 181، 182 ف 2/ 262. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 وإن علم أن وقفه لا يبقى دائمًا وجب صرفه؛ لأن بقاءه فساد (1) . ولو جمع كفن ميت فكفن وفضل من ثمنه شيء صرف في تكفين الموتى أو رد إلى المعطي، وكلام أحمد يقتضيه (2) . وما فضل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر؛ لأن الواقف له غرض في الجنس، والجنس واحد. وقد روى الإمام أحمد عن علي أنه حض الناس على إعطاء مكاتب في كتابته ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين. وقال أبو العباس في موضع آخر: ويجوز صرفه في سائر المصالح وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه (3) . ولو وقف مسجدًا وشرط إمامًا وستة قراء وقيمًا ومؤذنًا وعجز الوقف عن تكميل حق الجميع ولم يرض الإمام والمؤذن والقيم إلا بأخذ جامكية مثلهم صرف إلى الإمام والمؤذن والقيم جامكية مثلهم مقدمة على القراء؛ فإن هذا هو المقصود الأصلي (4) . ولورثة إمام مسجد أجرة عمله في أرض المسجد كما لو كان الفلاح غيره، ولهم من مغله بقدر ما باشر مورثهم (5) . باب الهبة والعطية وإعطاء المرء المال ليمدح به ويثني عليه مذموم. وإعطاؤه لكف الظلم والشر عنه ولئلا ينسب إلى البخل مشروع؛ بل هو محمود مع النية الصالحة.   (1) اختيارات ص 181 ف 2/ 262. (2) اختيارات ص 191 ف 2/ 262. (3) اختيارات ص 182 ف 2/ 262. (4) اختيارات ص 181 ف 2/ 263. (5) اختيارات ص 191 ف 2/ 263. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 والإخلاص في الصدقة ألا يسأل عوضها دعاء من المعطي، ولا يرجو بركته وخاطره ولا غير ذلك من الأقوال، قال الله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (1) . وحكى أحمد في رواية مثنى عن وهب قال: ترك المكافأة من التطفيف، وقاله مقاتل، وكذا اختار شيخنا في رده على الرافضي أن من العدل الواجب مكافأة من له يد أو نعمة ليجزيه بها (2) . وجوز الحارثي تجويزها على شرط واختاره الشيخ تقي الدين. ذكره عنه في الفائق (3) . ولا توقيتها. وذكر الحارثي الجواز، واختاره الشيخ تقي الدين (4) . وأن شرط رجوعها إلى المعمر بكسر الميم عند موته، أو قال هي لآخرنا موتًا صح الشرط. هذه إحدى الروايتين اختاره الشيخ تقي الدين (5) . وإن شرط ثوابًا مجهولاً لم تصح. وعنه أنه إذا قال: يرضيه بشيء فيصح، وذكره الشيخ تقي الدين ظاهر المذهب (6) . لا يصح الإبراء من الدين قبل وجوبه. وجزم جماعة بأنه تمليك، ومنع بعضهم أنه إسقاط وأنه لا يصح بلفظ الإسقاط، ومنع أيضًا أنه لا يعتبر قبوله، وقال: العفو عن دم العمد تمليك أيضًا. إن وجدت قضاء   (1) اختيارات ص 183 فيه زيادة ف 2/ 264. (2) فروع 4/ 638 ف 2/ 264. (3) إنصاف 7/ 133 ف 2/ 264. (4) الإنصاف 7/ 134 ف 2/ 264. (5) إنصاف 7/ 133، 134، ف 2/ 264. (6) إنصاف 7/ 117 ف 2/ 264. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 فاقض وإلا فأنت في حل. قال في الفروع: وهذا متجه واختاره شيخنا (1) . واشتراط القدرة على التسليم هنا فيه نظر. بخلاف البيع. وتصح هبة المجهول كقوله: ما أخذت من مالي فهو لك، أو من وجد شيئًا من مالي فهو له. وفي جميع هذه الصور يحصل الملك بالقبض ونحوه. وللمبيح أن يرجع فيما قال قبل التمليك. وهذا نوع من الهبة يتأخر القبول فيه عن الإيجاب كثيرًا وليس بإباحة (2) . قال أبو العباس: ويظهر لي صحة هبة الصوف على الظهر قولاً واحدًا. وقاسه أبو الخطاب على البيع (3) . وإن حملوا الجهاز مع البنت إلى بيتها على الوجه المعروف فهو تمليك لها. فلا تقبل دعوى أمها أن الجهاز ملكها. وليس للأم الرجوع به، ولا للأب أيضًا بعد أن تعلقت رغبة الزوج وزوجت على ذلك (4) . ومن وهب لابنه هبة ثم تصرف فيها فادعى أنه ملكه تضمن ذلك الرجوع؛ لأنه أقر إقرارًا لا يملك إنشاءه (5) . ومن اشترى عبدًا فوهبه شيئًا حتى أثرى، ثم ظهر أنه كان حرًا فله أن يأخذ منه ما وهبه لما كان ظانًا أنه عبده (6) .   (1) إنصاف 7/130 ف 2/264. (2) اختيارات 183 ف 2/ 264. (3) اختيارات ص 183 وإنصاف 7/131 ف 2/265. (4) مختصر الفتاوى ص 609 فيه زيادة ف 2/265. (5) مختصر الفتاوى 462 ف 2/265. (6) مختصر الفتاوى 440 ف 2/265. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 لو تباريا وكان لأحدهما دين مكتوب فادعى استثناءه بقلبه ولم يبرئه منه قبل قوله. ولخصمه تحليفه. ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله (1) . فصل ويجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم، وهو مذهب أحمد، مسلمًا كان الولد أو ذميًا. ولا يجب على المسلم التسوية بين أولاده من أهل الذمة، ولا يجب التسوية بين سائر الأقارب الذين لا يرثون كالأعمام والإخوة مع وجود الأب. ويتوجه في ولد البنين التسوية كآبائهم. فإن فَضَّل - حيث منعناه- فعليه التسوية أو الرد، وينبغي أن يكون على الفور. وإذا سوى بين أولاده في العطاء فليس له أن يرجع في عطية بعضهم. والأحاديث والآثار تدل على وجوب التعديل بينهم في غير التمليك أيضًا، وهو في ماله، ومنفعته التي ملكهم، والذي أباحهم كالمسكن، والطعام. ثم هنا نوعان: نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك. فتعديله بينهم فيه أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه. ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير. ونوع يشتركون في حاجتهم إليه: من عطية أو نفقة أو تزويج فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه. وينشأ بينهما نوع ثالث، وهو أن ينفرد أحدهم بحاجة غير معتادة: مثل أن يقضي عن أحدهم دينًا وجب عليه   (1) إنصاف 7/ 130 ف 2/ 265، 264 وتقدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 من أرش جناية، أو يعطي عنه المهر، أو يعطيه نفقة الزوجة ونحو ذلك ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر. وتجهيز البنات بالنحل أشبه، وقد يلحق بهذا. والأشبه أن يقال في هذا: أنه يكون بالمعروف فإن زاد على المعروف فهو من باب النحل. ولو كان أحدهما محتاجًا دون الآخر أنفق عليه قدر كفايته. وأما الزيادة فمن النحل. فلو كان أحد الأولاد فاسقًا فقال والده لا أعطيك نظير إخوتك حتى تتوب فهذا حسن يتعين استتابته. وإذا امتنع من التوبة فهو الظالم لنفسه، فإن تاب وجب عليه أن يعطيه. وأما إن امتنع من زيادة الدين لم يجز منعه. فلو مات الوالد قبل التسوية الواجبة فللباقين الرجوع، وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن بطة وأبي حفص. وأما الولد المفضل فينبغي له الرد بعد الموت قولاً واحدًا. وهل يطيب له الإمساك؟ إذا قلنا لا يجبر على الرد فكلام أحمد يقتضي روايتين، فقال في رواية ابن الحكم: وإذا مات الذي فُضِّل لم أطيبه له، ولم أجبره على رده. وظاهره التحريم، ونقل عنه أيضًا. قلت: فترى على الذي فضل أن يرده؟ قال: إن فعل فهو أجود وإن لم يفعل ذلك لم أجيره. وظاهره الاستحباب. وإذا قلنا برده بعد الموت فالوصي يفعل ذلك. فلو مات الثاني قبل الرد والمال بحاله رد أيضًا. لكن لو قسمت تركة الثاني قبل الرد أو بيعت أو وهبت فههنا فيه نظر؛ لأن القسمة والقبض تقرر العقود الجاهلية، وهذا فيه تأويل، وكذلك لو تصرف المفضل في حياة أبيه ببيع أو هبة واتصل بهما القبض ففي الرد نظر، إلا أن هذا متصل بالقبض في العقود الفاسدة (1) .   (1) اختيارات ص 184-186 فيها زيادات كثيرة. 2/ 266. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 وللأب الرجوع فيما وهبه لولده ما لم يتعلق به حق أو رغبة، فلا يرجع بقدر الدين وقدر الرغبة، ويرجع فيما زاد. وعن الإمام أحمد فيما إذا تصدق على ولده: هل له أن يرجع؟ فيه روايتان؛ بناء على أن الصدقة نوع من الهبة، أو نوع مستقل. وعلى ذلك ينبني ما لو حلف لا يهب فتصدق: هل يحنث؟ على وجهين (1) . ويرجع الأب فيما أبرأ منه ابنه من الديون على قياس المذهب، كما للمرأة على إحدى الروايتين الرجوع على زوجها فيما أبرأته به من الصداق. ويملك الأب إسقاط دين الابن عن نفسه (2) . ولو قتل ابنه عمدًا لزمته الدية في ماله، نص عليه الإمام أحمد وكذا لو جنى على طرفه لزمته ديته (3) . وإذا أخذ من مال ولده شيئًا ثم انفسخ سبب استحقاقه بحيث وجب رده إلى الذي كان مالكه مثل أن يأخذ صداقها فتطلق أو يأخذ الثمن ثم ترد السلعة بعيب أو يأخذ المبيع ثم يفلس الولد بالثمن ونحو ذلك فالأقوى في جميع الصور أن للمالك الأول الرجوع على الأب. وللأب أن يتملك من مال ولده ما شاء ما لم يتعلق به حق كالرهن والفلس. وإن تعلق به رغبة كالمداينة والمناكحة وقلنا يجوز الرجوع في الهبة ففي التمليك نظر. وليس للأب الكافر تملك مال ولده المسلم، لا سيما إذا كان الولد   (1) اختيارات 186 فيه زيادة ف 2/ 266. (2) اختيارات ص 187 ف 2/ 266. (3) اختيارات ص 187 ف 2/ 266. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 كافرًا فأسلم، وليس له أن يرجع في عطيته إذا كان وهبه إياها في حال الكفر فأسلم الولد. فأما إذا وهبه في حال إسلام الولد ففيه نظر. وقال أبو العباس في موضع آخر: فأما الأب والأم الكافران فهل لهما أن يتملكا من مال الولد المسلم أو يرجعا في الهبة؟ يتوجه أن يخرج فيه وجهان على الروايتين في وجوب النفقة مع اختلاف الدين؛ بل يقال: إن قلنا لا تجب النفقة مع اختلاف الدين فالتملك أبعد. وإن قلنا تجب النفقة فالأشبه ليس لهما التملك. والأشبه أنه ليس للأب المسلم أن يأخذ من مال ولده الكافر شيئًا؛ فإن أحمد علل الفرق بين الأب وغيره بأن الأب يجوز أخذه من مال ابنه، ومع اختلاف الدين لا يجوز (1) . والأشبه في زكاة دين الابن على الأب أن يكون بمنزلة المال التاوي كالضال فيخرج فيه ما خرج في ذلك. وهل يمنع دين الأب وجوب الزكاة والحج وصدقة الفطر والكفارة المالية وشراؤه العبد ليعتقه؟ يتوجه ألا يمنع ذلك لقدرته على إسقاطه. ويتوجه أن يمنع لأن وفاءه قد يكون خيرًا له ولولده. وعقوبة الأم والجد على مال الولد قياس قولهم أنه لا يعاقب على الدم والعرض ألا يكون عليهما حبس ولا ضرب للامتناع من الأداء. وقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك» يقتضي إباحة نفسه كإباحة ماله، وهو نظير قول موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [25/5] وهو يقتضي جواز استخدامه، وأنه يجب على الولد خدمة أبيه. ويقويه منعه من الجهاد والسفر ونحو ذلك فيما   (1) اختيارات ص 187، 188، والإنصاف ص 7/ 156 وفيه زيادة توضيح لما في الاختيارات ف 2/ 267. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 يفوت انتفاعه به؛ لكن هذا يشترك فيه الأبوان. فيحتمل أن يقال: خص الأب بالمال. وأما منفعة البدن فيشتركان فيها. وقياس المذهب جواز أن يؤجر ولده لنفسه مع فائدة فيشتركان فيها. وقياس المذهب جواز أن يؤجره لنفسه مع فائدة الولد مثل أن يتعلم صنعة أو حاجة للأب، وإلا فلا. ويستثنى ما للأب أن يأخذه من سرية الابن إن لم تكن أم ولد (1) فإنها تلحق بالزوجة ونص عليه الإمام أحمد في أكثر الروايات. وعنه ألحقنا سرية العبد بزوجته في إحدى الروايتين في أن السيد لا ينتزعها (2) . وسأله ابن منصور وغيره: يأكل من مال ابنه؟ قال: نعم، إلا أن يفسده فله القوت، ولا يصح تصرفه فيه قبل تملكه على الأصح. وقال شيخنا: ويقدح في أهليته لأجل الأذى سيما بالحبس (3) . فصل في تبرعات المريض ليس معنى المرض المخوف الذي يغلب على القلب الموت منه، أو يتساوى في الظن جانب البقاء والموت؛ لأن أصحابنا جعلوا ضرب المخاض من الأمراض المخوفة. وليس الهلاك فيه غالبًا ولا مساويًا للسلامة. وإنما الغرض أن يكون سببًا صالحًا للموت فيضاف إليه ويجوز حدوثه عنده. وأقرب ما يقال: ما يكثر الموت منه، فلا عبرة بما يندر   (1) وفي الإنصاف أن يأخذه من مال ولده سرية للابن وإن لم تكن أم ولد. (2) اختيارات 188، 189 ف 2/ 267. (3) فروع 4/ 652 وإنصاف 7/ 176 ف 2/ 267. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 الموت منه. ولا يجب أن يكون الموت منه أكثر من السلامة؛ لكن يبقى ما ليس مخوفًا عند أكثر الناس والمريض قد يخاف منه، أو هو مخوف والرجل لم يلتفت إلى ذلك فيخلط (1) ما هو مخوف للمتبرع وإن لم يكن مخوفًا عند جمهور الناس (2) . ذكر القاضي: أن الموهوب له لا يقبض الهبة ويتصرف فيها مع كونها موقوفة على الإجازة. وهذا ضعيف. والذي ينبغي: أن تسليم الموهوب إلى الموهوب له لم يذهب لعلة حيث شاء. وإرسال العبد المعتق أو إرسال المحابي لا يجوز؛ بل لا بد أن يوقف أمر التبرعات. ويملك الورثة أن يحجروا على المريض إذا اتهموه بأنه تبرع بما زاد على الثلث: مثل أن يهب ويتصدق ويهب ويحابي ولا يحسب ذلك، أو يخافون أن يعطي بعض المال لإنسان تمتنع عطيته، ونحو ذلك. كذلك لو كان المال بيد وكيل أو شريك أو مضارب وأرادوا الاحتياط على ما بيده بأن يجعلوا معه يدًا أخرى لهم فالأظهر أنهم يملكون ذلك أيضًا. وهكذا يقال في كل عين تعلق بها حق الغير كالعبد الجاني والتركة. فأما المكاتب فللسيد أن يثبت يده على ماله. فيمكن الفرق بينه وبين هذا بأن العبد قد ائتمنه بدخوله معه في الكتابة؛ بخلاف المريض. وأما وكيله فإن الورثة لم يأتمنوه. ودعوى المريض فيما خرج عن العادة ينبغي أن تعتبر من الثلث. ومنافعه لا تحسب من الثلث.   (1) في نسخة: فيخلص له. (2) اختيارات 192 ف 2/ 267. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 وإسراف المريض في الملاذ والشهوات: ذكره القاضي وجوازه محل وفاق. وقال أبو العباس: يحتمل وجهين، ولو قال لعبده يا سالم: إذا أعتقت غانمًا فأنت حر، وقال أنت حر في حال إعتاقي إياه، ثم أعتق غانمًا في مرضه ولم يحتملهما الثلث -قياس المذهب- وهو الأوجه أن يقرع بينهما فإذا خرجت القرعة لسالم عتق دون غانم. نعم لو قال: إذا أعتقت سالمًا فغانم حر، أو قال: إذا أعتقت سالمًا فغانم حر بعد حريته. فبهذا يعتق سالم وحده؛ لأن عتق غانم معلق بوجود عتقه لا بوجود إعتاقه (1) . ولو أوصى لوارث أو لأجنبي بزائد على الثلث فأجاز الورثة الوصية بعد موت الموصي صحت الإجازة بلا نزاع. وكذلك قبله في مرض الموت. وخرجه طائفة من الأصحاب رواية من سقوط الشفعة بإسقاطها قبل البيع. وإن أجاز الوارث الوصية وقال: ظننت قيمته ألفًا فبانت أكثر قبل وكذا لو أجاز، وقال: أردت أصل الوصية (2) . ولا تصح إجازتهم ولا ردهم إلا بعد موت الموصي. وعنه تصح إجازتهم قبل الموت في مرضه. قال في القاعدة الرابعة: الإمام أحمد شبهه بالعفو عن الشفعة فخرجه المجد في شرحه على روايتين، واختارها صاحب الرعاية والشيخ تقي الدين (3) . قال الشيخ تقي الدين: قياس المذهب: أنه ليس للإنسان يتملك من مال ابنه في مرض موت الأب ما يخلف تركة؛ لأنه بمرضه قد   (1) اختيارات 191، 192 ف 2/ 267. (2) اختيارات 193 فيه زيادة ف 2/ 267. (3) الإنصاف 7/ 201 فيه زيادة إيضاح ف 2/ 267. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 انقطع السبب القاطع لتملكه، فهو كما لو تملك في مرض موت الابن (1) . ويصح معاوضة مريض بثمن مثله. وعنه مع وارث بإجازة اختاره في الانتصار؛ لفوات حقه من المعين. وقال الشيخ تقي الدين: فيمن أجر الموقوف لأجنبي كفضولي (2) .   (1) إنصاف 7/ 156 ف 2/ 267. (2) فروع 4/ 668 ف 2/ 268. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 كتاب الوصايا فإن جرح جرحًا موصيًا صحت توبته، والمراد مع ثبات عقله لصحة وصية عمر وعلي ... وذكر الشيخ وغيره: أن حكم من ذبح أو أبينت حشوته وهي أمعاؤه لا خرقها وقطعها فقط فهو كميت (1) . ولا يجوز لوارثه بثلثه ولا بأكثر منه لغيره نص عليه. وفي التبصرة: يكره. وعنه: في صحته من كل ماله. نقله حنبل. ويصح على الأصح بإجازة الورثة لهما بعد موت الموصي كالرد. وعنه وقبله في مرضه خرجها القاضي أبو حازم من إذن الشفيع في الشراء، ذكره في النوادر واختاره صاحب الرعاية وشيخنا (2) . ومن أجازها بجزء مشاع وقال: ظننت قلة المال قبل ... قال شيخنا: وإن قال: ظننت قيمته ألفًا فبان أكثر قبل، وليس نقضًا للحكم ببينة أو إقرار. قال: وإن أجاز وقال: أردت أصل الوصية قبل (3) . ونقل حرب فيمن وصى لأجنبي وله قرابة لا يرثه محتاج يرد إلى قرابته. وذكر شيخنا رواية: له ثلثاها وللموصى له ثلثها (4) .   (1) الآداب 1/ 128 ف 2/ 268، 272. (2) فروع 4/ 661 فيه زيادة ف 2/ 269. (3) فروع 4/ 662 ف 2/ 269. وتقدم في وصية المريض بما زاد. (4) فروع 4/ 621 ف 2/ 269. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 باب الموصى له وتصح الوصية للحمل. وقياس المنصوص في الطلاق: أنها إذا وضعته لتسعة أشهر استحق الوصية إذا كانت ذات زوج أو سيد يطأ. ولأكثر من أربع سنين إن اعتزلها وهو الصواب (1) . وإن وصف الموصى له أو الموقوف عليه بخلاف صفته مثل أن يقول: على أولادي السود وهم بيض أو العشرة وهم اثنا عشر. فههنا: الأوجه إذا علم ذلك أن يعتبر الموصوف دون الصفة. وقد يقال ببطلان الوقف والوصية كمسألة الإبهام، وقد يقال: يصح في مسألة القدر ويعطى العشرة إما بتعيين في الوصية بالقرعة في الوقف. والذي يقتضيه المذهب أن الغلط في الصفة لا يمنع الورثة صحة العقد (2) . إذا أوصى لولده في دخول ولد بنيه حكم الوقف قاله في الفروع وغيره. وأشار الشيخ تقي الدين إلى دخولهم في الوقف دون الوصية؛ لأن الوقف يتأبد والوصية تمليك للموجودين فيختص بالطبقة العليا الموجودة (3) . إذا أوصى أن يحج عنه بألف فقال رجل: أنا أحج بأربعمائة وجب إخراج جميع ما أوصى به إن خرج من ثلثه، وإن لم يخرج لم يجب على الورثة إخراج الزائد على الثلث؛ إلا أن يكون واجبًا بحيث لا يحصل حجة الإسلام إلا به (4) . وإذا أوصى لأخته كل يوم بدرهم واتسع ماله كل يوم لدرهم أعطيت إن كان ثلث ماله يتسع أو أجازه الورثة. ولو لم يخلف إلا عقارًا   (1) اختيارات ص 193 ف 2/ 269. (2) اختيارات ص 193 ف 2/ 269. (3) الإنصاف 7/ 176 ف 2/ 269 وتقدم. (4) مختصر الفتاوى ص 417 ف 2/ 270. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 أعطيت من مغله أقل الأمرين من ثلث المغل أو من الدراهم الموصى بها (1) . ولو وصى بفكاك الأسرى أو وقف مالاً على فكاكهم صرف من يد الموصي ووكيله، ولوليه أن يقترض عليه ثم يوفيه منه. وكذلك في سائر الجهات. ومن افتك أسيرًا غير متبرع جاز صرف المال إليه. وكذا لو اقترض غير الوصي ما لا فك به أسيرًا جازت توفيته منه. وما احتاج إليه الوصي في افتكاكهم من أجرة صرف من المال. ولو تبرع بعض أهل الثغور بفدائه واحتاج الأسير إلى نفقة الإياب صرف من مال الأسرى. وكذلك لو اشترى من المال الموقوف على افتكاكهم أنفق منه عليه إلى بلوغ محله (2) . قال أبو بكر الخلال: لو قال الموصي: أعتق عبدًا نصرانيًا فأعتق مسلمًا أو ادفع ثلثي إلى نصراني فدفعه إلى مسلم ضمن. قال أبو العباس: وفيه نظر (3) . والأخ من الأب والأخ من الأم سواء. والأخ من الأبوين أحق منهما. وقال في الفروع: ويتوجه رواية أنه كأخيه لأبيه لسقوط الأمومة كالنكاح. قلت: واختاره الشيخ تقي الدين (4) . قال الشيخ تقي الدين: لو جعل الكفر أو الجهل شرطًا في الاستحقاق لم يصح؛ فلو وصى لأجهل الناس لم يصح (5) .   (1) مختصر الفتاوى ص 418 ف 2/ 270. (2) اختيارات ص 193 ف 2/ 270. (3) اختيارات ص 194 ف 2/ 270. (4) إنصاف 7/ 244، 245 ف 2/ 270. (5) إنصاف 7/ 237 ف 2/ 270. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 باب الموصى به قال أبو العباس في تعاليقه القديمة: ويظهر لي أنه لا تصح الوصية بالحمل، نظرًا إلى علة التفريق؛ إذ ليس النهي عن التفريق يختص بالبيع؛ بل هو عام في كل تفريق؛ إلا العتق وافتداء الأسرى (1) . وتصح الوصية بالمنفعة أبدًا. ويكون تمليكًا للرقبة، ولا يستحق الورثة منه شيئًا. وإن قصد مع ذلك إبقاء الرقبة للورثة والإيصاء بها لآخر بطلت؛ لامتناع أن تكون المنافع كلها لشخص والرقبة لآخر ولا سبيل لترجيح أحد الأمرين فيبطلان. أما إن وصى في وقت بالرقبة لشخص وفي وقت بالمنافع لغيره فهو كما لو وصى بعين لاثنين في وقتين (2) . إذا نمى الموصى به بوقفه بعد الموت وقبل إيقافه فأفتى الشيخ تقي الدين بأن يصرف مصرف الوقف؛ لأن نماءه قبل الوقف كنمائه بعده (3) . إذا نقص الموصى به في سعر أو صفات فقال في «المحرر» : إن قلنا بملكه بعد الموت اعتبرت قيمته من التركة بسعره يوم الموت على أدنى صفاته من يوم الموت إلى القبول. وإن قلنا بملكه من حين القبول اعتبرت قيمته يوم القبول سعرًا وصفة. اهـ قال في القواعد: والمنصوص عن الإمام أحمد في رواية ابن منصور وذكره الخرقي أنه تعتبر قيمته يوم الوصية ولم يحك في المغني فيه خلافًا، فظاهره أنه تعتبر قيمته بيوم الموت على الوجوه كلها. قال الشيخ تقي الدين: هذا قول الخرقي وقدماء الأصحاب. قال: وهذا أوجه من كلام المجد (4) .   (1) اختيارات ص 194 ف 2/ 270. (2) اختيارات ص 194 ف 2/ 270. (3) إنصاف 7/ 208 ف 2/ 270. (4) إنصاف 7/ 209 ف 2/ 270. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وفي دخول المتجدد بعد الوصية وقبل موت الموصي روايتان. وذكر القاضي فيمن وصى لمواليه وله مدبرون وأمهات أولاد أنهم يدخلون، وعلل بأنهم أموال حال الموت، والوصية تعتبر بحال الموت وخرج الشيخ تقي الدين على الخلاف في المتجدد بين الوصية والموت قال: بل هنا متجدد بعد الموت فمنعه أولى (1) . الموصى إليه قال الشيخ تقي الدين رحمه الله فيمن أوصى إليه بإخراج حجة أو ولاية إخراجها والتعيين للناظر الخاص إجماعًا. وأن للولي العام الاعتراض لعدم أهليته أو فعله محرمًا (2) . ويجب على الوصي تقديم الواجب على المتبرع به، فلو وصى بتبرعات لمعين أو غير معين فمنع الورثة أو جحدوا الدين. قال أبو العباس: أفتيت بأن الوصي يخرج الدين مما قدر عليه مقدمًا على الوصية. وإن اعتقد الورثة أنه نصيب الوصية. وليس هذا مثل غصب المشاع. وإذا قال: اصنع في مالي ما شئت أو هو بحكمك افعل فيه ما شئت ونحو ذلك من ألفاظ الإباحة لا الأمر. قال أبو العباس: له أن يخرج ثلثه وله ألا يخرجه فلا يكون الإخراج واجبًا ولا محرمًا، بل هو موقوف على اختيار الوصي. ولو قال: يدفع هذا إلى يتامى فلان فإقرار بقرينة، وإلا فوصية. ويجوز للوصي صرف الوصية فيما هو أصلح من الجهة التي عينها الموصي (3) .   (1) إنصاف 7/ 231 ف 2/ 270. (2) إنصاف 7/ 387 ف 2/ 271. (3) اختيارات ص 193 ف 2/ 271. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 كتاب الفرائض أركان الإرث، وأسبابه، وموانعه وذكر الشيخ في فتاويه: إن خرجت حشوته ولم تبن ثم مات ولده ورثه. وإن أبينت فالظاهر يرثه؛ لأن الموت زهوق النفس وخروج الروح ولم يوجد. ولأن الطفل يرث ويورث بمجرد استهلاله وإن كان لا يدل على حياة أثبت من حياة هذا. وقد ذكر الشيخ في ميراث الحمل أن الحيوان يتحرك بعد ذبحه شديدًا وهو كميت (1) . أسباب التوارث: رحم، ونكاح، وولاء عتق إجماعًا. وقد ذكر عند عدم ذلك كله موالاته، ومعاقدته، وإسلامه على يديه، والتقاطه، وكونهما من أهل الديوان. وهو رواية عن أحمد (2) . وقيل يرث عبد سيده عند عدم الورثة واختاره الشيخ تقي الدين (3) . ولو قال السيد لعبده: أنت حر مع موت أبيك ورثه لسبق الحرية الإرث.   (1) الآداب ج 1/ 128 ف 2/ 272. (2) اختيارات 195 فروع ج 5/ 3 وقال: اختاره شيخنا ف 2/ 272. (3) إنصاف 7/ 303 ف 2/ 272. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 وإن قال: أنت حر عقب موته أو إذا مات أبوك فأنت حر فهذا يتخرج على وجهين؛ بناء على أن الأهلية إذا حدثت مع الحكم هل يكفي ذلك، أم لا بد من تقدمها (1) ؟ وعنه: أنها عصبة ولد الزنا والمنفي بلعان: اختاره أبو بكر والشيخ تقي الدين وصاحب الفائق (2) . والآمر بقتل مورثه لا يرثه ولو انتفى الضمان (3) . وفي رد شيخنا على الرافضي: أن آية المواريث لم تشمله - صلى الله عليه وسلم -، واحتج بالسياق قبلها وبعدها. فقيل له: فلو مات أحد من أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورثه كما ماتت بناته الثلاث في حياته ومات ابنه إبراهيم؟ فقال: الخطاب في الآية للموروث دون الوارث فلا يلزم إذا دخل أولاده في كاف الخطاب لكونهم مورثين أن يدخلوا إذا كانوا وارثين. فقيل له: ففي آية الزوجين قال: {وَلَكُمْ} {وَلَهُنَّ} فقال: لم تمت إلا خديجة بمكة قبل نزولها وزينب الهلالية بالمدينة، ومن أين يعلم أنها كانت نزلت وأنها خلفت مالاً. ثم لا يلزم من شمول أحد الكافين له شمول الأخرى (4) .   (1) عبارة الإنصاف: ولو وجدت الحرية عقب موت الموروث أو معه كتعليق العتق على ذلك أو دين ابن عمه ثم مات لم يرث ذكره القاضي وصاحب المغني. وقال الشيخ تقي الدين: ينبغي أن يخرج على الوجهين فيما إذا حدثت الأهلية مع الحكم هل يكتفى بها أو يشترط تقدمها. (إنصاف 7/ 345 ف 272) . (2) إنصاف 7/ 309 ف 2/ 272. (3) اختيارات 196 فيه زيادة ف 2/ 272، 276. (4) فروع 5/ 163، 164 ف 2/272. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 الجد والإخوة والجد يسقط الإخوة من الأم إجماعًا، وكذا من الأبوين أو الأب، وهي رواية عن الإمام أحمد، واختارها بعض أصحابه، وهو مذهب الصديق وغيره من الصحابة رضي الله عنهم (1) . أحوال الأم والإخوة لا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس إلا إذا كانوا وارثين غير محجوبين بالأب، فللأم في مثل أبوين وأخوين الثلث (2) . الجدات ولا يرث غير ثلاث جدات: أم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب، وإن علون أمومة وأبوة. إلا المدلية بغير وارث كأم أبي الأم (3) . التعصيب ويرث مولى من أسفل عند عدم الورثة، وقاله بعض العلماء: فيتوجه من ذلك أنه ينفق على المنعم ومنقطع السبب عصبة عصبة أمه، وإن عدمته فعصبتها، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختيار أبي بكر، وقول ابن مسعود وغيره (4) . باب الرد ولو خلفت المرأة زوجًا وبنتًا وأمًا. فهذه الفريضة تقسم على أحد   (1) الاختيارات 197 والإنصاف 7/ 305، 306 ف 2/ 272. (2) الاختيارات ص 197 ف 2/ 273. (3) الاختيارات ص 195 فيه زيادة إيضاح ومثال ف 2/ 273. (4) الاختيارات ص 195 والإنصاف 7/ 303 ف 2/ 274. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 عشر للبنت ستة أسهم، وللزوج ثلاثة أسهم، وللأم سهمان. وهذا على قول من يقول بالرد كأبي حنيفة وأحمد. وعلى قول من لا يقول بالرد كمالك والشافعي فيقسم عندهم على اثني عشر سهمًا: للبنت ستة أسهم، وللزوج ثلاثة، وللأم سهمان والباقي لبيت المال (1) . ميراث ذوي الأرحام يورث ذوي الأرحام جمهور السلف وأحمد في المشهور عنه وأبو حنيفة وطوائف من أصحاب الشافعي. وقول مالك إذا فسد بيت المال. والقول الثاني: يرث بيت المال، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد في رواية (2) . الغرقى ومن عمي موتهم وخرج أبو بكر ومن بعده منع توارث بعضهم من بعض. وهذا التخريج من المصنف عن الإمام أحمد رحمه الله فيما إذا اختلف ورثة كل ميت في السابق منهما ولا بينة، واختاره المصنف والمجد وحفيده الشيخ تقي الدين (3) . ميراث أهل الملل قال ابن القيم رحمه الله: (فصل) وأما توريث المسلم من الكافر فاختلف فيه السلف، فذهب كثير منهم إلى أنه لا يرث، كما لا يرث الكافر المسلم، وهذا هو المعروف عن الأئمة الأربعة وأتباعهم. وقالت   (1) اختيارات 197 ف 275 وهي موجودة في ج 31 ص 338 لكن لم تفهرس هناك. (2) مختصر الفتاوى 421 وهذا اللفظ غير موجود فيه. (3) الإنصاف 7/ 345 ف 2/ 275 فيه زيادة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 طائفة منهم: بل يرث المسلم الكافر دون العكس. وهذا قول معاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، ومحمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، ومسروق بن الأجدع، وعبد الله بن مغفل، ويحيى بن يعمر، وإسحاق بن راهويه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، قالوا: نرثهم ولا يرثوننا، كما ننكح نساءهم ولا ينكحون نسائنا. قال شيخنا: وقد ثبت بالسنة المتواترة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجري الزنادقة المنافقين في الأحكام الظاهرة مجرى المسلمين فيرثون ويورثون (1) . وأما أهل الذمة فمن قال بقول معاذ ومعاوية ومن وافقهما يقول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر» المراد به الحربي؛ لا المنافق ولا المرتد ولا الذمي، إلى أن قال: قال شيخنا: ومما يؤيد القول بأن المسلم يرث الذمي ولا يرثه الذمي أن الاعتبار في الإرث بالمناصرة، والمانع هو المحاربة. إلى أن قال: فلما دخل مكة في حجة الوداع قيل له: ألا تنزل في دارك؟ فقال: «وهل ترك عقيل لنا من دار» . قال الشيخ: وهذا الحديث قد استدل به طوائف على مسائل فالشافعي احتج به على جواز بيع رباع مكة، وليس في الحديث أنه باعها. إلى أن قال ابن القيم: وهذه المسائل الثلاث من محاسن الشريعة: وهي توريث من أسلم على ميراث قبل قسمته، وتوريث المعتق عبده بالولاء، وتوريث المسلم قريبه الذمي، وهي مسألة نزاع بين الصحابة   (1) ويأتي في الاختيارات زيادة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 والتابعين. وأما المسألتان الأخيرتان فلم يعلم عن الصحابة فيهما نزاع؛ بل المنقول عنهم التوريث. قال شيخنا: والتوريث في هذه المسائل على وفق أصول الشرع؛ فإن المسلمين لهم إنعام وحق على أهل الذمة: بحقن دمائهم، والقتال عنهم، وحفظ دمائهم، وأموالهم، وفداء أسراهم (1) . وقال الشيخ تقي الدين: يرث المسلم من قريبه الكافر الذمي؛ لئلا يمتنع قريبه من الإسلام، ولوجوب نصرتهم ولا ينصروننا (2) . وعند شيخنا يرث (المنافق) ويورث؛ لأنه عليه السلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا ولا جعله فيئًا، فعلم أن الميراث مداره على النظرة الظاهرة. قال: واسم الإسلام يجري عليهم في الظاهر (ع) وعند شيخنا وغيره قد يسمى من فعل بعض المعاصي منافقًا (3) . والمرتد إذ قتل في ردته أو مات عليها فماله لوارثه المسلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو المعروف عن الصحابة، ولأن ردته كمرض موته. والزنديق منافق يرث ويورث، لأنه عليه السلام لم يأخذ من تركة منافق شيئًا ... (4) . ميراث المطلقة ومن طلق امرأته في مرض موته بقصد حرمانها من الميراث ورثته إذا كان الطلاق رجعيًا إجماعًا. وكذا إن كان بائنًا عند جمهور أئمة   (1) أحكام أهل الذمة ص462، 463، 465، 467، 474 ف 2/ 275. (2) الإنصاف 7/345، والاختيارات 196 ف 2/ 275. (3) فروع 5/ 53 ف 2/ 275. (4) الاختيارات 196 ف 2/ 275 والإنصاف 7 / 527. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 الإسلام، وقضى به عمر رضي الله عنه ولم يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك خلافًا، وإنما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير. وعلى قول الجمهور فهل تعتد عدة طلاق أو وفاة أو أطولهما؟ فيها أقوال: أظهرها الثالث. وهل يكمل لها المهر، فيه قولان أظهرهما أنه يكمل (1) . ولو تزوج في مرض موته مضارة لتنقيص إرث غيرها وأقر به ورثته، لأن له أن يوصي بالثلث (2) . ولو وصى بوصايا أخر أو تزوجت المرأة بزوج ليأخذ النصف فهذا الموضع فيه نظر؛ فإن المفسدة هي في هذا (3) . الإقرار بمشارك في الميراث ولو أخبر واحد من الورثة بالفراش أو النسب والباقون لم يصدقوه ولم يكذبوه ثبت النسب، وهذا ظاهر قول الإمام أحمد، وظاهر الحديث؛ فإن الإمام أحمد قال: إذا أقر وحده ولم يكن أحد يدفع قوله. وعلى هذا، فلو رد هذا النسب من له فيه حق قبل منه وارثًا كان أو غير وارث على ظاهر كلامه (4) . ميراث القاتل والمبعض والآمر بقتل مورثه لا يرثه ولو انتفى عنه الضمان (5) .   (1) اختيارات 197 فيه زيادة ف 2/ 275. (2) فروع 5/ 48، اختيارات 196 ف 2/ 275. (3) اختيارات 196 والفروع 5/ 48 وعبارته: فإن المفسدة إنما هي في هذا ف 2/ 275. (4) اختيارات ص 198 ف 2/ 276. (5) اختيارات ص 196 فيه زيادة ف 2/ 276 وتقدم في الموانع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 ظاهر كلام المصنف أن إرث المعتق له خاصة وهو صحيح، وهو المذهب وعليه جماهير الأصحاب قاله الشيخ تقي الدين (1) . باب العتق لو قال: أنت حر بمائة أو بعتك نفسك بمائة. فقبل: عتق ولزمته المائة وإلا فلا. وإن لم يقبل لم يعتق عند الأصحاب وقطعوا به. وخرج الشيخ تقي الدين وجهًا أنه يعتق بغير شيء، كما لو قال لها: أنت طالق بألف (2) . ولو وصى بعبده ثم دبره، ففيه وجهان: أشهرهما أنه رجوع عن الوصية. والثاني: ليس برجوع. فعلى هذا فائدة الوصية به أنه لو أبطل تدبيره بالقول لا يستحقه الموصى له. ذكره في «المغني» . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ينبني على أن التدبير هل هو عتق بصفة أو وصية. فإن قلنا هو عتق بصفة قدم على الموصى به وإن قلنا: هو وصية فقد ازدحمت وصيتان في هذا العبد فينبني على الوصايا المزدحمة إذا كان بعضها عتق هل تقدم أم يتحاص العتق وغيره على روايتين: فإن قلنا بالمحاصة فهو كما لو دبر نصفه ووصى بنصفه، ويصح ذلك على المنصوص. اهـ (3) « ... فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة» ، قال شيخنا: وتزويجه بها، وعتقه من انعقد سبب حريتها أفضل، ويتوجه في الثانية عكسه (4) .   (1) الإنصاف 7/ 437 ف 2/ 276. (2) الإنصاف 7/ 437 ف 2/ 276. (3) الإنصاف 7/ 437 ف 2/ 276. (4) فروع ج 5/ 77 ف 2/ 276. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 وإذا أعتقت جاريتها ونيتها أن تعتقها إذا كانت مستقيمة فبانت زانية جاز لها بيعها، وإن أعتقتها مطلقًا لزمها (1) . قال شيخنا فيمن عتق برحم: لا يملك بائعه استرجاعه لفلس مشتر (2) . وإذا أعتق أحد الشريكين نصيبه وهو موسر عتق نصيبه، ويعتق نصيب شريكه بدفع القيمة، وهو قول طائفة من العلماء. وإن كان معسرًا عتق كله واستسعى العبد في باقي قيمته، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض أصحابه. والمالك إذا استكره عبده على الفاحشة عتق عليه، وهو أحد القولين في المذهب. وقال بعض السلف: يبنى على القول بالعتق بالمثلة (3) . وإذا استكره أمة امرأته على الفاحشة عتقت وغرم مثلها لسيدتها، وقاله الإمام أحمد في رواية إسحاق؛ بخبر سلمة بن المحبق. وكذا أمة غير امرأته، وإلا أن يفرق بين أمة امرأته وغيرها بفرق شرعي، وإلا فموجب القياس التسوية. وإن لم يكرهها لم تعتق وضمنها لسيدتها. ومن مثل بعبد غيره يتوجه أن يعتق عليه، ويضمن قيمته لسيده، كما دل عليه حديث المستكره لأمة امرأته؛ فإنه يدل على أن الاستكراه تمثيل، وأن التمثيل يوجب العتق ولو بعبد الغير. ويدل أيضًا على أن من تصرف بملك الغير على وجه يمنعه من الانتفاع به فإن له المطالبة بقيمته. قال أبو العباس: ما أعرف للحديث وجهًا إلا هذا (4) .   (1) مختصر الفتاوى 552 ف 2/ 276. (2) فروع 5/ 81 ف 2/ 277. (3) قوله: والمالك إلى قوله بالمثلة. هذان السطران من الإنصاف ج7/ 407. (4) اختيارات ص198، 199 فيه زيادة واختصار ف 2/ 276. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 قال شيخنا في مسلم بجيش ببلاد التتار أبى بيع عبده وعتقه ويأمره بترك المأمور وفعل المنهي فهروبه منه إلى بلاد الإسلام واجب؛ فإنه لا حرمة لهذا ولو كان في طاعة المسلمين، والعبد إذا هاجر من أرض الحرب فهو حر. وقال: ولو لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده لزمه إخراجه من ملكه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فما لا يلائمكم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله» (1) . وأطلق الخرقي وكثير من الأصحاب أن الولاء للمعتق. قال أبو العباس: بناء على أنه يشترط دخول الكفارة ونحوها في ملك من ذلك عليه (2) . والعبد الذي يعتق من مال الفيء والمصالح يحتمل أن يقال: لا ولاء عليه لأحد، بمنزلة عبد الكافر إذا أسلم وهاجر. ويحتمل أن يقال: الولاء عليه للمسلمين. وعلى هذا فإذا اشترى السلطان رقيقًا ونقد ثمنه من بيت المال ثم أعتقه كان الملك فيه ثابتًا للمسلمين، ولا يكون لأحد عليه ولاية، مع عدم نسب لهم في بيت المال؛ لأن ولاءه إما لبيت المال استحقاقًا أو لكونه لا وارث له فيوضع ماله في بيت المال، وليس ميراثه لورثة السلطان؛ لأنه اشتراه بحكم الوكالة، لا بحكم المالك. ولو احتمل أن يكون اشتراه لنفسه وأن يكون اشتراه للمسلمين حمل تصرفه على الجائز وهو شراؤه للمسلمين دون الحرام وهو شراؤه لنفسه من بيت المال وهو ممتنع. ولو عرف أنه اشتراه لنفسه من بيت مال المسلمين حكم بأن الملك للمسلمين، لا له؛ لأن له ولاية الشراء للمسلمين من بيت مالهم   (1) فروع 5/ 704 ف 2/ 276. (2) الزركشي ج 4/ 552 ف 2/ 276. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 فإذا اشترى بمالهم شيئًا كان لهم دونه، ونية الشراء لنفسه بمالهم محرمة فتلغى ويصير كأن العقد عري عنها (1) . المكاتب والأشبه بالمذهب صحة الخيار والكتابة. ولو قيل بصحة شرط الخيار في الكتابة لم يبعد. وأما شرط الخيار في التعليقات فلا. ويجوز شرط وطء المكاتبة، ونص عليه الإمام أحمد. ويتوجه على هذا جواز وطئها بلا شرط بإذنها. وعلى قياس هذا يجوز أن يشترط الراهن وطء المرتهنة (2) . وذكر القاضي أن العبد المكاتب له الخيار على التأبيد، بخلاف سيده. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وفي هذا نظر (3) . وقال في الفائق: ولو أدى ثلاثة أرباعه وعجز عن ربعه لم يعتق في أحد الوجهين، واختاره الشيخ تقي الدين (4) . أم الولد ولا تعتق أم الولد إلا بموت سيدها. ويجوز لسيدها بيعها، وهو رواية عن الإمام أحمد. وهل للخلاف في جواز بيعها شبهة؟ فيه نزاع، والأقوى أن له شبهة. وينبني عليه ما لو وطئ الجارية معتقدًا تحريمه: هل يلحقه النسب، أو يرجم رجم المحصن؟ أما التعزير فواجب (5) .   (1) اختيارات 199، 200 ف 2/ 276 وتقدم الحكم فيها إذا وصى بعبده ثم دبره. (2) اختيارات ص 199 ف 2/ 277. (3) الإنصاف 7/ 475 ف 2/ 277. (4) الإنصاف 7/ 479 ف 2/ 277. (5) اختيارات ص 200 والإنصاف ف 7/ 495 ف 2/ 277. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 نص الإمام أحمد فيمن اشترى جارية حاملاً من غيره فوطئها أن الولد لا يلحق بالواطئ ولكن يعتق عليه؛ لأن الماء يزيد في الولد، ونقل صالح وغيره يلزمه عتقه، قال الشيخ تقي الدين: يستحب ذلك، وفي وجوبه خلاف في مذهب أحمد وغيره. وقال أيضًا: يعتق ويحكم بإسلامه، وأنه يسري كالعتق، ولا يثبت نسبه. قلت: قال في «الفنون» : يجوز بيعها؛ لأنه قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة وإجماع التابعين لا يرفعه، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله. قال في الفائق: وهو الأظهر (1) . وإذا اشترى أم ولد ثم وطئها فهل هذا البيع شبهة في الوطء؟ فيه نزاع والأقوى أنه شبهة فيلحقه الولد، وترد إلى سيدها، لأن عند الأئمة الأربعة لا يجوز بيعها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: الرجل يؤم القوم وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دبارًا، ورجل استعبد محررًا» فالرجل الأول يؤم القوم وهم يكرهونه لفسقه أو بدعته فليس له أن يؤمهم، ولو كان بين الإمام والمأمومين معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء والمذاهب لم يسغ له أن يؤمهم، لأن في ذلك منافاة لمقصود الصلاة جماعة. وأما الرجل الذي يأتي الصلاة دبارًا: فهو الذي يفوته الوقت. والذي استعبد محررًا: هو الذي يستعبد الحر مثل أن يعتق عبدًا ويجحده، أو يقهره على العبودية فلا تقبل صلاة هؤلاء؛ لأنهم أتوا بذنب يقاوم فعل الصلاة فصار عقاب هذا يقاوم ثواب هذا؛ لأن الأول أدخل عليهم في الصلاة ما يقاوم صلاته. والثاني أخرج الصلاة عن وقتها فعليه إثم التأخير فدخل في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [5/107] .   (1) الإنصاف 7/ 494، والفروع فيه زيادة ف 2/ 277. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 والثالث: يمنع عبد لله أن يجعل نفسه عبد الله، وجعله عبدًا لنفسه، فأي ذنب مثل هذا؟ فلا يقبل لهم صلاة؛ إذ الصلاة المقبولة هي التي يقبلها الله من عبده ويثيب عليها. ومن وطئ جارية امرأته وتعلق بالحديث الذي فيه عن الحسن، عن عوف، عن أبي الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: في رجل وقع على جارية امرأته؟ فقال: «إن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فهي جاريته وعليه مثلها» فهذا الحديث في «السنن» ، وليس من الأحاديث الواهية. وبعض الناس ضعفه لأن رواته غير مشهورين بالحديث، ولأنه يخالف الأصول من جهة عتق الموطوءة وجعلها للواطئ. وبعضهم رآه حديثًا حسنًا وحكي ذلك عن أحمد وإسحاق، وقالوا: إنه موافق للأصول؛ لأنه يجري مجرى إفسادها على سيدها؛ فإنها إذا طاوعته فقد عطل عليها بذلك نفعها واستخدامها، وإذا أتلف مال غيره ومنع مالكه من التصرف فيه عادة مثل أن يجوع مركوب الحاكم ونحوه مما لا يكون مركوبه عادة، فإنه في مذهب مالك ومن تبعه يصير له وعليه القيمة لمالكه، فوطء الأمة من هذا الباب. وإذا استكرهها فهو مثل التمثيل بها، ومن مثل بعبده عتق عليه عند مالك وأحمد. وكذا من جعل استكراه المملوك على التلوط به من هذا الباب؛ فإذا وطئها فقد أتلفها ولزمته القيمة وتصير له، ولأجل أن في استكراهها شبهة تمثيله بها عتقت عليه. وقوله: «وعليه مثلها» في الموضعين فهو مبني على أن الحيوان هل يضمن بالمثل، أو بالقيمة؟ على قولين للفقهاء الشافعية والحنبلية. فهذا الحديث جار على هذه الأصول. ولا يملك السيد نقل الملك في أم الولد لا في حياته ولا بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 موته، ولا يجوز وقفها ولا هبتها ولا غيره. ولا نزاع أنه يجوز له استخدامها ووطئها. وفي جواز إجارتها وتزويجها نزاع: يجوز عند أحمد وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي. والآخر لا يجوز التزويج. وله قول ثالث: يجوز برضاها، ومالك لا يجوز إجارتها ولا تزويجها. وإذا سأل فقال: إذا وقفها فهل تكون الدية إذا قتلت وقفًا؟ فيه مغالطة للمفتي لأنه كان ينبغي أن يقال: فهل يصح وقفها، أم لا؟ وعلى التقديرين: ما يكون حكمها؟ فينبغي أن يعزر هذا المستفتي تعزيرًا يردعه فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أغلوطات المسائل. والله أعلم (1) .   (1) مختصر الفتاوى 611، 612 فيها زيادات 611، 612، وآخرها في الفروع أيضًا ج6/ 429 ف 2/ 277. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 كتاب النكاح قال الشيخ تقي الدين: معناه في اللغة الجمع والضم على أكمل الوجوه، فإن كان اجتماعًا بالأبدان فهو الإيلاج الذي ليس بعده غاية في اجتماع البدنين. وإن كان اجتماعًا بالعقود فهو الجمع بينهما على الدوام واللزوم؛ ولهذا يقال: استنكحه المذي إذا لازمه وداومه. اهـ (1) . هل المعقود عليه الملك، أو الاستباحة، وهل هو ملك منفعة البضع، أو ملك الانتفاع بها؟ وقيل: بل هو الحل لا الملك؛ ولهذا يقع الاستمتاع من جهة الزوجة مع أنه لا ملك لها. وقيل: المعقود عليه الازدواج كالمشاركة؛ ولهذا فرق سبحانه بين الازدواج وملك اليمين، وإليه ميل الشيخ تقي الدين؛ فيكون من باب المشاركات لا المعاوضات (2) . والنكاح في الآيات حقيقة في العقد والوطء، وفي النهي لكل منهما (3) . وقال شيخنا: في الإثبات لهما، وفي النهي لكل منهما، بناء على أنه إذا نهي عن شيء نهي عن بعضه، والأمر به أمر بكله في الكتاب والسنة والكلام (4) .   (1) الإنصاف 8/ 3، 4 ف 2/ 227. (2) الإنصاف 8/ 4 ف 2/ 277. (3) اختيارات 200 ف 2/ 277. (4) فروع 5/ 145 ف 2/ 277. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 فإذا قيل مثلاً: انكح ابنة عمك كان المراد العقد والوطء، وإذا قيل: لا تنكحها تناول كل واحد منهما (1) . والإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو دين الأنبياء قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [38/13] (2) . قال أحمد في رواية أبي داود: إذا خاف العنت أمرته أن يتزوج، وإذا أمره والده أمرته أن يتزوج. وقال في رواية جعفر: والذي يحلف بالطلاق أنه لا يتزوج أبدًا؟ قال: إن أمره أبوه تزوج. قال الشيخ تقي الدين: كأنه أراد الطلاق المضاف إلى النكاح. أو أنه كان مزوجًا فحلف ألا يتزوج أبدًا سوى امرأته. وقال في رواية المروذي: إن كان الرجل يخاف على نفسه ووالداه يمنعانه من التزوج فليس لهم ذلك (3) . وإن احتاج الإنسان إلى النكاح وخشي العنت بتركه قدمه على الحج الواجب، وإن لم يخف قدم الحج، ونص الإمام أحمد عليه في رواية صالح وغيره، واختاره أبو بكر. وإن كانت العبادات فرض كفاية كالعلم والجهاد قدمت على النكاح إن لم يخش العنت (4) . وإذا طلب العبد النكاح أجبر السيد في مذهب أحمد والشافعي في أحد قوليه على تزويجه؛ لأنه كالإنفاق عليه. وتزويج الأمة إذا طلبت النكاح من كفء واجب باتفاق العلماء، وصح قوله عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» واستطاعة النكاح هي القدرة على المؤونة ليس القدرة على الوطء؛ فإن الحديث   (1) الإنصاف 8/ 655 ف 2/ 277. (2) اختيارات 200 ف 2/ 277. (3) الآداب ج504 ف 2/ 277. (4) اختيارات 201 ف 2/ 277. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 إنما هو خطاب للقادر على فعل الوطء، ولهذا أمر من لم يستطع الباءة بالصوم فإنه له وجاء (1) . القسم الثاني من لا شهوة له ... وحكي عنه: يجب. قال الشيخ تقي الدين: كلام صاحب المحرر يدل على أن رواية وجوب النكاح منفية في حق من لا شهوة له (2) . قال الشيخ تقي الدين: وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز (3) . ولا يجوز للمرأة أن تظهر على أجنبي ولا رقيق غير ملكها، ولو كان خصيًا -وهو الخادم- فليس له النظر إليها؛ لأنه يفعل مقدمات الجماع، ويذكر بالرجال وله شهوة وإن كان لا يحبل. وأما مملوكها ففيه قولان: أحدهما: أنها معه كالأجنبي وهو قول أبي حنيفة والمشهور عن أحمد. والثاني: أنه محرم وهو قول الشافعي وقول لأحمد (4) . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ظاهر كلام الإمام أحمد والقاضي كراهة نظرها إلى وجهه ويديه وقدميه، واختار الكراهة (5) . ويحرم النظر بشهوة إلى النساء والمردان، ومن استحله كفر إجماعًا. ويحرم النظر مع خوف ثوران الشهوة وهو منصوص عن الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله. ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وقال: لا أنظر بشهوة كذب في دعواه، وقاله ابن عقيل.   (1) مختصر الفتاوى ص432 ف 2/ 277. (2) الإنصاف 8/ 8 ف 2/ 277. (3) الآداب ج 1/ 316 ف 2/ 278. (4) مختصر الفتاوى 32 ف 2/ 278. (5) الإنصاف 8/ 26 ف 2/ 278. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 وكل قسم متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب سواء كانت شهوة تمتع بنظر أو نظر لشهوة الوطء. واللمس كالنظر وأولى (1) . فتصافح المرأة المرأة، والرجل الرجل، والعجوز والبرزة، غير الشابة فإنه تحرم مصافحتها للرجل ذكره في الفصول والرعاية. وقال ابن منصور لأبي عبد الله: تكره مصافحة النساء؟ قال: أكرهه. قال إسحاق بن راهويه كما قال. وقال محمد بن عبد الله بن مهران: إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يصافح المرأة؟ قال: لا، وشدد فيه جدًا قلت: فيصافحها بثوبه؟ قال: لا. قال رجل: فإذا كان ذا محرم؟ قال: لا. قلت: ابنته؟ قال: إذا كانت ابنته فلا بأس. فهاتان روايتان في تحريم المصافحة، وكراهتها للنساء، والتحريم اختيار الشيخ تقي الدين وعلل بأن الملامسة أبلغ من النظر (2) . وتحرم الخلوة بغير محرم ولو بحيوان يشتهي المرأة أو تشتهيه كالقرد وذكره ابن عقيل وابن الجوزي (3) . وتحرم الخلوة بأمرد حسن، ومضاجعته كالمرأة الأجنبية، ولو لمصلحة التعليم والتأديب، والمقر ليتيمه أو وليه عند من يعاشره لذلك فهو ملعون ديوث. ومن عرف بمحبتهم أو معاشرتهم منع من تعليمهم (4) . ولا تترك المرأة تذهب حيث شاءت (5) .   (1) اختيارات 200، 201 ف 2/ 278. (2) الإنصاف 8/ 8 ف 278. (3) الآداب ج 2/ 257، والفروع 5/ 157، ف 2/ 278. (4) اختيارات 201 والإنصاف 8/ 31 ف 2/ 278. (5) اختيارات 201 والإنصاف 8/ 31 ف 2/ 278. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 وقال الشيخ تقي الدين: وينبغي أن يكون النظر بعد العزم على نكاحها وقبل الخطبة (1) . نقل يعقوب بن بختان عن أحمد أنه قال: لا ينبغي للخاطب إذا خطب لقوم أن يقبل لهم هدية. قال أبو العباس: هذا خاطب الرجل؛ لأن المرأة لا تبذل وإنما الزوج هو الذي يبذل (2) . واختار شيخنا التحريم، قال: وهو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر. قال: ورخص فيه بعض المتأخرين (3) . ويباح التصريح والتعريض من صاحب العدة فيها إن كانت المعتدة ممن يحل له التزوج بها في العدة كالمختلعة، فأما إن كانت ممن لا يحل له إلا بعد انقضاء العدة كالمزني بها والموطوءة بشبهة فينبغي أن يكون كالأجنبي. والمعتدة باستبراء كأم الولد أو التي مات سيدها أو أعتقها فينبغي أن تكون في حق الأجنبي كالمتوفى عنها زوجها. والمطلقة ثلاثًا والمنفسخ نكاحها برضاع أو لعان فيجوز التعريض بخطبتها دون التصريح. والتعريض أنواع تارة: يذكر صفات نفسه، مثل ما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم سلمة رضي الله عنها. وتارة: يذكر لها صفات نفسها. وتارة: يذكر لها طلبًا بعينه كقوله: رب راغب فيك وطالب لك. وتارة: يذكر أنه   (1) انظر مختصر الفتاوى 607، 808 وتأتي في باب الدعاوى والبينات وتقدمت في باب الحجر. (2) الاختيارات 194 ف 2/ 279، 267. (3) الفروع 4/ 655 ف 2/ 279. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 طالب للنكاح ولا يعينها. وتارة: يطلب منها ما يحتمل النكاح وغيره كقوله: إذا قضى الله شيئًا كان (1) . ولو خطبت المرأة أو خطب وليها لها الرجل ابتداء فأجابهما فينبغي ألا يحل لرجل آخر خطبتها، إلا أنه أضعف من أن يكون الرجل هو الخاطب. وكذا لو خطبته أو وليها بعد أن خطب هو امرأة. فالأول إيذاء للخاطب. والثاني: إيذاء للمخطوب، وهذا بمنزلة البيع على بيع أخيه قبل انعقاد البيع (2) . ومن خطب تعريضًا في العدة أو بعدها فلا ينهى غيره عن الخطبة. ولو أذنت المرأة لوليها أن يزوجها من رجل بعينه احتمل أن يحرم على غيره خطبتها، كما لو خطبت فأجابت. واحتمل ألا يحرم؛ لأنها لم يخطبها أحد،. كذا قال القاضي أبو يعلى، وهذا دليل منه على أن سكوت المرأة عند الخطبة ليس بإجابة إليها (3) بحال (4) . ويحرم، وقيل: يكره خطبته على خطبة مسلم لا كافر، كما لا ينصحه نص عليهما إن أجيب صريحًا ... فإن رد أو أذن جاز. وأشد تحريمًا من فرض له ولي الأمر على الصدقات أو غيرها ما يستحقه فنحى من يزاحمه أو ينزعه منه. قاله شيخنا (5) . فصل أركانه وينعقد النكاح بما عده الناس نكاحًا بأي لغة ولفظ وفعل كان.   (1) اختيارات 202 ف 2/ 279. (2) وفي الإنصاف زيادة: وذلك كله ينبغي أن يكون حرامًا. (3) إليها زيادة في الإنصاف. (4) اختيارات ص 279 والإنصاف 8/ 37 ف 2/ 279. (5) فروع 5/ 195، 196 ف 2/ 279. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 ومثله كل عقد (1) . وقال في «الفائق» : وقال شيخنا: قياس المذهب صحته بما تعارفاه نكاحًا من هبة وتمليك ونحوهما أخذًا من قول الإمام أحمد: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك (2) . فالأسماء تعرف حدودها: تارة بالشرع، وتارة باللغة، وتارة بالعرف، وكذلك العقود (3) . نص الإمام أحمد في رواية أبي طالب في رجل مشى إليه قومه، فقالوا: زوج فلانًا. فقال: زوجته على ألف. فرجعوا إلى الزوج فأخبروه. فقال: قد قبلت: هل يكون هذا نكاحًا؟ قال: نعم. فأشكل هذا على الأصحاب. فقال القاضي: هذا حكم بصحته بعد التفرق عن مجلس العقد. قال: وهو محمول على أنه قد كان وكل من قبل العقد عنه ثم أخبر بذلك فأمضاه. ورده ابن عقيل، وقال: رواية أبي طالب تعطي أن النكاح صحيح. قال الشيخ تقي الدين: وقد أحسن ابن عقيل فيما قاله، وهي طريقة أبي بكر؛ فإن هذا ليس تراخيًا للقبول كما قاله القاضي، وإنما هو تراخ للإجازة. ومسألة أبي طالب وكلام أبي بكر فيما إذا لم يكن الزوج حاضرًا في مجلس الإيجاب. وهذا أحسن. وأما إذا تفرقا من مجلس الإيجاب فليس في كلام أحمد وأبي بكر ما يدل على ذلك. ويجوز أن يقال: إن العاقد الآخر إن كان حاضرًا اعتبر قبوله، وإن كان غائبًا جاز تراخي القبول عن الإيجاب كما قلنا في ولاية القضاء، مع   (1) اختيارات 203، زيادة إيضاح ف 2/ 279. (2) الإنصاف 8/ 46 ف 2/ 280. (3) الإنصاف 8/ 45 ف 2/ 280. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 أن أصحابنا قالوا في الوكالة: إنه يجوز قبولها على الفور والتراخي، وإنما الولاية نوع من الوكالة. وذكر القاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول في تتمة رواية أبي طالب: لو قال الزوج: قبلت. صح إذا حضر شاهدان. قال أبو العباس: وهو يقتضي بأن إجازة العقد الموقوف إذا قلنا بانعقاده تفتقر إلى شاهدين، وهو مستقيم حسن (1) . قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: قوله في «المحرر» : «ولا يصح تعليقه بشرط مستقبل» أظن قصد بذلك الاحتراز عن تعليقه بمشيئة الله تعالى. ودخل في ذلك قوله: إذا قال زوجتك هذا المولود إن كان أنثى، أو زوجتك بنتي إذا انقضت عدتها، أو إن لم تكن تزوجت، ونحو ذلك من الشروط الحاضرة والماضية. وكذا ذكر الجد الأعلى: أنه لا يجوز تعليقه على شرط مستقبل ولم أرها لغيره. اهـ (2) . وسئل الشيخ تقي الدين عن رجل لم يقدر أن يقول إلا قبلت (تجويزها) بتقديم الجيم فأجاب بالصحة بدليل قوله: جوزتي طالق. فإنها تطلق. اهـ (3) وصرح الأصحاب بصحة نكاح الأخرس إذا فهمت إشارته. قال في «المجرد والفصول» : يجوز تزويج الأخرس لنفسه إذا كانت له إشارة تفهم. ومفهوم هذا الكلام ألا يكون الأخرس وليًا ولا وكيلاً لغيره في النكاح، وهو مقتضى تعليل القاضي في الجامع؛ لأنه يستفاد من غيره. ويحتمل أن يكون وليًا لا وكيلاً وهو أقيس (4) .   (1) اختيارات 203، 204 والإنصاف في البعض منهما زيادة إيضاح. (2) الإنصاف 8/ 164 ف 2/ 280. (3) إنصاف 8/ 46 ف 2/ 280. (4) اختيارات 204 ف 2/ 280. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 شروطه رضاهما والشرط بين الناس ما عدوه شرطًا (1) . واختار أبو بكر والشيخ تقي الدين عدم إجبار بنت تسع سنين بكرًا كانت أو ثيبًا. قال في رواية عبد الله: إذا بلغت تسع سنين فلا يزوجها أبوها ولا غيره إلا بإذنهاٍ. قال بعض المتأخرين من الأصحاب: وهو الأقوى. وذكر أبو الخطاب وغيره رواية: لا إذن لها وصححه الناظم، وقال الشيخ تقي الدين: لا أعلم أحدًا ذكرها قبله، مع أنه لم يذكرها في رءوس المسائل (2) . فإن كانت صغيرة أو مجنونة فلها الخيار إذا بلغت. وقيل: لها الخيار إذا بلغت تسعًا. وقال ابن عقيل: إذا بلغت سبعًا. وقال الشيخ تقي الدين: اعتبار إذنها بالتسع أو السبع ضعيف؛ لأن هذا ولاية استقلال وولاية الاستقلال لا تثبت إلا بالبلوغ كالعفو عن القصاص والشفعة، وكالبيع؛ بخلاف ابتداء العقد فإنه يتولاه الوالي بإذنها فتجتمع الروايتان وبينهما فرق. اهـ (3) وإذن الثيب الكلام. وإذن البكر الصمات. قال أبو العباس بعد   (1) اختيارات ص 203 ف 2/ 280. (2) الإنصاف 8/ 55، 57 ف 2/ 280. (3) إنصاف 8/ 181 ف 2/ 281. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 ذكره لقول أبي حنيفة ومالك: تزوج المثابة بالزنا بالجبر كما تزوج البكر: هذا قول قوي (1) . روي عن الإمام أحمد ما يدل على أنه لا تجبر الأمة الكبيرة، قال الشيخ تقي الدين: ظاهر هذا أنه لا يجبر الأمة الكبيرة بناء على أن منفعة البضع ليس بمال (2) . حيث قلنا بإجبار المرأة ولها إذن أخذ بتعيينها كفوءًا على الصحيح من المذهب، قال الشيخ تقي الدين: هذا ظاهر المذهب (3) . قال الشيخ تقي الدين: يعتبر في الاستئذان تسمية الزوج على وجه تقع المعرفة به، ولا يشترط تسمية المهر على الصحيح. نقله الزركشي (4) . قال الشيخ تقي الدين: وفي المذهب خلاف شاذ يشترط الإشهاد على إذنها. اهـ (5) . والجد كالأب في الإجبار، وهو رواية عن الإمام أحمد (6) . الولي ويتخرج لنا مثل قول أبي حنيفة: أن الولي كل وارث بفرض أو تعصيب. ولغير العصبة من الأقارب التزويج عند عدم العصبة. ويتخرج على ذلك ما إذا قدمنا التوريث لذوي الأرحام على التوريث بالولاء.   (1) اختيارات 205 ف 2/ 280. (2) إنصاف 8/ 59 ف 2/ 280. (3) إنصاف 8/ 59 ف 2/ 280. (4) إنصاف 8/ 64 ف 2/ 280. (5) إنصاف 8/ 64 ف 2/ 280. (6) اختيارات 204 ف 2/ 280. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 وإذا كانت المرأة يهودية ووليها نصرانيًا أو بالعكس فينبغي أن يخرج على الروايتين في توارثهما وقبول شهادته عليها إذا قلنا تقبل من أهل الذمة بعضهم على بعض، وكذلك في ولاية المال والعقل. ويضم إلى الولي الفاسق أمين كالوصي في رواية. ولو قيل: إن الابن والأب سواء في ولاية النكاح، كما إذا أوصى لأقرب قرابته لكان متوجهًا. ويتخرج لنا أن الابن أولى من الأب إذا قلنا الأخ أولى من الجد. وقد حكى ذلك ابن المنيَّ في تعاليقه، فقال: يقدم الابن على الأب على قول عندنا (1) . وعنه: لها تزويج أمتها ومعتقتها واختاره الشيخ تقي الدين (2) . قال أبو العباس: وفرق القاضي وعامة الأصحاب على هذه الرواية بين تزويج أمتها وتزويج نفسها وغيرها بأن التزويج على الملك لا يحتاج إلى أهلية الولاية بدليل تزويج الفاسق مملوكته، وتبعهم هو أيضًا وجعل التخريج غلطًا (3) . وقيل يختص الجواز بما إذا زوج عبده أمته؛ لأنه يتصرف بحكم الملك، وجود أبو العباس هذا (4) . قال الإمام أحمد في رواية محمد بن الحسن في الأخوين الصغير والكبير ينبغي أن ينظر إلى العقل والرأي وكذلك قال في رواية الأثرم في   (1) اختيارات 205 ف 2/ 281. (2) إنصاف 8/ 68 وفروع 5/ 176 ف 2/ 281. (3) الزركشي 3/ 42 هذا أحسن مما في المجموع ف 2/ 281. (4) الزركشي 3/ 44 ف 2/ 281. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 الأخوين الصغير والكبير كلاهما سواء، إلا أنه ينبغي أن ينظر في ذلك إلى العقل والرأي. وظاهر كلام أحمد هذا يقتضي أنه لا أثر للسن هنا، وأصحابنا اعتبروه (1) . قال الإمام أحمد في رواية حنبل: لا يعقد نصراني ولا يهودي عقدة نكاح لمسلم ولا مسلمة، ولا يكونان وليين لمسلم ولا مسلمة؛ بل لا يكون الولي إلا مسلمًا. وهذا يقتضي أن الكافر لا يزوج مسلمة بولاية ولا وكالة. وظاهره يقتضي أن لا ولاية للكافر على بنته الكافرة في تزويجها لمسلم. قال أبو العباس في موضع آخر: لا ينبغي أن يكون متوليًا لنكاح مسلم؛ ولكن لا يظهر بطلان العقد؛ فإنه ليس على بطلانه دليل شرعي (2) . وإن تعذر من له ولاية النكاح انتقلت الولاية إلى أصلح من يوجد ممن له نوع ولاية في غير النكاح كرئيس القرية، وهو المراد بالدهقان، وأمير القافلة، ونحوه. قال الإمام أحمد، في رواية المروذي: البلد يكون فيه الوالي وليس فيه قاض يزوج إذا احتاط للمرأة في المهر والكفء أرجو ألا يكون به بأس. وهذا من الإمام أحمد يقتضي أن الولي ينظر في المهر وأن أمره ليس مفوضًا إليها وحدها، كما أن أمر الكفؤ ليس مفوضًا لها وحدها. وقال في رواية الأثرم وصالح وأبي الحارث عن المهر: لا نجد فيه   (1) الإنصاف 8/ 87 والاختيارات 206 وعبارة الإنصاف أوضح ف 2/ 282. (2) اختيارات ص 206 ف 2/ 282. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 حدًا هو ما تراضى عليه الأهلون. وهو في رواية المروذي: ما تراضى عليه الأهلون في النكاح جائز. وهو يقتضي أن للأهلين نظرًا في الصداق. ولو كان أمره إليها فقط لما كان لذكر الأهلين معنى. وتزويج الأيامى فرض كفاية إجماعًا. فإن أباه حاكم إلا بظلم كطلبه جعلاً لا يستحقه صار وجوده كعدمه (1) . قال الشيخ تقي الدين: ومن صور العضل إذا امتنع الخطاب من خطبتها لشدة الولي (2) . ويزوج ولي المال الصغير (3) . واشترط الجد في المحرر في الولي كونه رشيدًا. والرشد في الولي هنا هو المعرفة بالكفء ومصالح النكاح، ليس حفظ المال (4) . وإن لم يعلم وجود الأقرب في الكل حتى زوج الأبعد فقد يقال بطرد القاعدة والقياس أنه لا يصح النكاح، كالجهل الشرعي، مثل أن يعتقد صحة النكاح بلا ولي، أو بالولي الأبعد، أو بلا شهود. وقد يقال: يصح النكاح، كما أن المعتبر في الشهود والولي هو العدالة الظاهرة على الصحيح. فلو ظهر فيما بعد أنهم كانوا فاسقين وقت العقد ففيه وجهان ثابتان. ويؤيد هذا أن الولي الأقرب إنما يشترط إذا أمكن. فأما مع تعذره فيسقط، كما لو عضل أو غاب. وبهذا قيد ابن أبي موسى   (1) اختيارات 204، 205 فيه زيادات ف 2/ 282. (2) إنصاف 8/ 75 ف 2/ 283. (3) وفي الإنصاف ج 8/ 86 نقلاً عن صاحب الفروع: وظاهر كلام الكافي وصاحب المحرر: للوصي مطلقًا تزويجه يعني سواء كان وصيًا في التزويج أو في غيره وجزم به الشيخ تقي الدين رحمه الله وأنه قولهما أن وصي المال يزوج الصغير. (4) اختيارات 205 والإنصاف 8/ 74 ف 2/ 283. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 وغيره. وهذا معنى قول الجماعة: إذا زوج الأبعد مع القدرة على الأقرب لم يصح. ومن لم يعلم أنه نسيب فهو غير مقدور على استئذانه فيسقط بعدم العلم، كما يسقط بالبعد. وهذا إذا لم ينتسب في عدم العلم إلى تفريط. ومن هذا لو زوجت بنت الملاعن ثم استلحقها الأب فلو قلنا بالأول لكان يتعين ألا يصح النكاح وهو بعيد؛ بل الصواب أنه يصح (1) . وكذلك إذا علم أنه قريب ولكن لا يعلم مكانه، وهو حسن، مع أن كلام الخرقي لا يأباه. قال الشيخ تقي الدين: وكذلك لو كان الولي مجهولاً لا يعلم أنه عصبة ثم عرف بعد (2) . ولو زوج المراة وليان وجهل أسبق العقدين ففيه روايتان؛ إحداهما: يتميز الأسبق بالقرعة. والذي يجب أن يقال على هذه الرواية أن من خرجت له القرعة فهي زوجته بحيث يجب عليه نفقتها وسكناها. ولو مات ورثته؛ لكن لا يطؤها حتى يجدد العقد لحل الوطء فقط. هذا قياس المذهب. أو يقال: إنه لا يحكم بالزوجية إلا بالتجديد، ويكون التجديد واجبًا عليه وعليها. كما كان الطلاق واجبًا على الآخر. والرواية الثانية: يفسخ النكاحان. ومن أصحابنا من ذكر أنهما يطلقانها. فعلى هذا هل يكون الطلاق واقعًا بحيث تنقضي العدة. ولو تزوجها ينبغي ألا يكون كذلك؛ لأنه لا ينبغي وقوع الطلاق به. فإن ماتت المرأة قبل الفسخ والطلاق فذكر أبو محمد المقدسي   (1) اختيارات 205، 206 ف 2/ 283. (2) الإنصاف 8/ 77 ف 2/ 283. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 احتمالين أحدهما: لأحدهما نصف الميراث وربع النفقة حتى يصطلحا عليه. والثاني: يقرع بينهما، فمن قرع حلف أنه استحق وورث. وقال أبو العباس: وكلا الوجهين لا يخرج على المذهب. أما الأول فلأنه لا تتفق (1) الخصومات: وأما الثاني: فكيف يحلف من قال: لا أعرف الحال؟ وإنما المذهب (2) أيهما قرع فله الميراث بلا يمين. وأما على قولنا: لا يقرع فإذا قلنا أنها تأخذ من أحدهما نصف المهر بالقرعة فكذلك يرثها أحدهما بالقرعة. بطريق الأولى. وإن قلنا: لا مهر. فهذا قد يقال بالقرعة أيضًا (3) . وإن زوج اثنان ولم يعلم السابق قال الإمام أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور: ما أرى لواحد منهما نكاحًا. والرواية الثانية من أصل المسألة يقرع بينهما. وعنه هي للقارع من غير تجديد عقد واختاره الشيخ تقي الدين. فعلى القول بأنه يجدد نكاحه قال المصنف ينبغي ألا تجبر المرأة على نكاح من خرجت له القرعة، بل لها أن تتزوج من شاءت منهما ومن غيرهما. قال الشيخ تقي الدين: وليس هذا بالجيد؛ فإن على هذا القول إذا أمرنا المقروع بالقرعة وقلنا لها ألا تتزوج القارع خلت منهما فلا يبقى بين الروايتين فرق، ولا يبقى للقرعة أثر أصلاً؛ بل تكون لغوًا، وهذا تخليط. وإنما على هذا القول يجب أن يقال هي زوجة القارع بحيث يجب عليه نفقتها وسكناها ولو مات ورثته؛ لكن لا يطؤها حتى يجدد العقد فيكون تجديد العقد لحل الوطء فقط. هذا قياس المذهب: أو يقال إنه لا يحكم بالزوجية إلا بالتجديد ويكون التجديد واجبًا عليه   (1) عبارة الإنصاف لا نقف الخصومات فقط. (2) في الإنصاف زيادة على رواية القرع. (3) اختيارات ص 206، 207 وعبارة الإنصاف كما يأتي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 وعليها كما كان الطلاق واجبًا على الآخر. وليس في كلام الإمام أحمد رحمه الله تعرض للطلاق ولا لتجديد الآخر النكاح. ثم القرعة جعلها الشارع حجة وبينة تفيد الحل ظاهرًا كالشهادة والنكول ونحوهما. اهـ (1) . ولو قال السيد لأمته أعتقتك وجعلت عتقك صداقك صح. وعنه: لا يصح حتى يستأنف نكاحها بإذنها، فإن أبت ذلك فعليه قيمتها. وقال ابن أبي موسى: إحدى الروايتين أنه يستأنف العقد عليها بإذنه دون إذنها ورضاها؛ لأن العقد وقع على هذا الشرط فيوكل من يعقد له النكاح بأمره. قال الشيخ تقي الدين: وهذا حسن (2) . وإن قال: قد جعلت عتق أمتي صداقها، أو قال: أعتقتها وجعلت عتقها صداقها صح بذلك العتق والنكاح، وهو مذهب الإمام أحمد. ويتوجه ألا يصح العتق إذا قال قد جعلت عتقك صداقك فلم تقبل؛ لأن العتق لم يصر صداقًا وهو لم يوقع غير ذلك. ويتوجه ألا يصح وإن قبلت؛ لأن هذا القبول لا يصير به العتق صداقًا فلم يتحقق ما قال. ويتوجه في الصورة الثانية (3) أنها إن قبلت صارت زوجة، وإلا عتقت مجانًا، أو لم تعتق بحال. وإذا قلنا: إلحاق الشرط لا يغير الطلاق فإلحاق العتق في النكاح بطريق الأولى.   (1) الإنصاف 8/ 90 ف 2/ 283. (2) إنصاف 8/ 97، 98 ف 2/ 283. (3) في الإنصاف: ويتوجه في قوله: قد أعتقتها وجعلت عتقها صداقها وعبارة الإنصاف ج8/ 76، 77: «وإن عتقت الأمة وزوجها حر فلا خيار لها ... وعنه لها الخيار، واختار الشيخ تقي الدين وغيره أن لها الخيار في الفسخ تحت حر إن كان زوج بريرة عبدًا، لأنها ملكت رقبتها فلا يملك عليها إلا باختيارها» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 فعلى هذا إذا قال أعتقتك وجعلت عتقك صداقك فإنه يقع العتق ولا يلزمها النكاح ولا قيمة نفسها. ويتخرج ثبوت الخيار أو اعتبار إذنها من عتقها بجنب حر، فإن الخيار يثبت لها في رواية. وكذلك إذا عتقا معًا. فإذا كان حدوث الحرية بعد العتق يثبت الفسخ فالمقارنة أولى أن تثبت الفسخ. ولو أعتقها وزوجها من غيره وجعل عتقها صداقها فقياس المذهب صحته؛ لأنهم قالوا: الوقت الذي جعل فيه العتق صداقًا كان يملك إجبارها في حق الأجنبي فلم يبق إلا أنه جعل ملك بضعها وقت حريتها صداقًا، وهذا لا يؤثر، كما لو كان هو المتزوج. ويدل على ذلك أن أصحابنا قالوا: إذا قال: زوجتك هذه على أنها حرة صح وإن لم يعلمه أنه أعتقها قبل ذلك، ويكون هو المصدق لها عن الزوج. ويحتمل أن يقال: هو السيد خاصة؛ لأنه لا يمكنه أن يتزوجها وهي رقيقة. وعلى هذا فسواء قال: أعتقتها وزوجتها منك أو زوجتها منك وأعتقتها. ولو قال: أعتقت أمتي وزوجتكها على ألف درهم. فقياس المذهب جوازه. فهو مثل أن يقول: أعتقتها وأكريتها منك سنة بألف درهم. وهذا بمنزلة استثناء الخدمة، مثل أن يقول أعتقتك على خدمة سنة. ولو قال أعتقتك وتزوجتك على ألف درهم صح هذا النكاح بطريق الأولى؛ لأنه لم يجعل العتق صداقًا. ولو قال: وهبتك هذه الجارية وزوجتها من فلان أو هبتكها وأكريتها من فلان، أو بعتكها وزوجتها أو أكريتها من فلان فقياس المذهب صحته؛ لأنه في معنى استثناء المنفعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وحاصله: أنا نجوز (1) العتق والوقف والهبة والبيع مع استثناء منفعة الخدمة فقد جوزنا (2) أن الإعتاق والإنكاح في زمن واحد وجعلنا ذلك بمنزلة الإنكاح قبل الإعتاق؛ لأنها حين الإعتاق لم تخرج من ملكه (3) . وإن قال: أعتق عبدك عني على أن أزوجك ابنتي أو أمتي ففعل عتق ولزمته قيمته؛ لأن الأموال لا يستحق العقد عليها بالشرط. قال القاضي أبو الخطاب: لأنه سلف في النكاح. وقال الشيخ تقي الدين: يتوجه صحة السلف في العقود كما يصح في غيره ويصير العقد مستحقًا على المستسلف إن فعل وإلا قام الحاكم مقامه، ولأن هذا بمنزلة الهبة المشروط فيها الثواب (4) . وكذلك العبد إذا تزوج بغير إذن مواليه ثم أذنوا له بعد العتق فهو على النزاع، ويسمى نكاح الفضولي (5) . الشهادة وعنه: ينعقد بحضور فاسقين، ورجل وامرأتين، ومراهقين عاقلين. قال في الفروع: وأسقط رواية الفسق أكثرهم. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: هي ظاهر كلام الخرقي (6) . الكفاءة ولا يصح لأحد أن ينكح موليته رافضيًا ولا من يترك الصلاة.   (1) نسخة كما جوزنا. (2) بياض في الاختيارات. (3) الاختيارات 207- 209 ف 2/ 213. (4) إنصاف 8/ 100 ف 2/ 283. (5) مختصر الفتاوى 425 ف 2/ 284. (6) الإنصاف 8 ص 102 ف 2/ 283. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 ومتى زوجوه على أنه سني يصلي فبان أنه رافضي أو لا يصلي أو كان قد تاب ثم عاد إلى الرفض وترك الصلاة فإنهم يفسخون نكاحه إذا قيل إنه صحيح (1) . والذي يقتضيه كلام أحمد أن الرجل إذا تبين له أنه ليس بكفء فرق بينهما، وأنه ليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء، ولا للزوج أن يتزوج ولا للمرأة أن تفعل ذلك. وأن الكفاءة ليست بمنزلة الأمور المالية مثل مهر المرأة إن أحبت المرأة والأولياء طلبوه وإلا تركوه، ولكنه أمر ينبغي لهم اعتباره وإن كانت منفعته تتعلق بغيرهما. وفقد النسب والدين لا يقر معهما النكاح بغير خلاف عن أحمد. وفقد الحرية غير مبطل بغير خلاف عنه؛ بل يثبت به الخيار لمن يختار الفسخ. وفقد اليسار: هل يثبت به الخيار؟ روايتان: وحيث ثبت الخيار بفقد الكفاءة فللمرأة أو لوليها الفسخ. وهذا على التراخي في ظاهر الرواية (2) . فعلى هذا يسقط خيارها بما يحصل منهما مما يدل على الرضا من قول أو فعل. وأما خيار الأولياء فلا يسقط إلا بالقول. ويفتقر الفسخ به إلى حاكم في قياس المذهب كالفسخ بالعيوب للاختلاف فيه. ولو كان الزوج ناقصًا من وجه آخر مثل أن كان دونها في النسب فرضوا به، ثم بان فاسقًا وهي عدل. فههنا ينبغي ثبوت الخيار، كما لو رضيت به لعلة مثل الجذام فظهر به عيب آخر كالجنون والعنة. فأما إن رضوا بفسقه من وجه فبان فاسقًا من آخر مثل أن ظنوه يشرب الخمر   (1) مختصر الفتاوى 433. الموجودة هناك فيها نقص ف 2/ 284. (2) وفي الإنصاف: وعلى التراضي في ظاهر المذهب؛ لأنه خيار لنقص في المعقود عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 فظهر أنه يشرب الخمر ويلوط أو يشهد بالزور أو يقطع الطريق. وبيض لذلك أبو العباس. وإن حدثت له الكفاءة مقارنة بأن يقول سيد العبد بعد إيجاب النكاح له قبلت له النكاح وأعتقته فقياس المذهب صحة ذلك. وتخرج رواية أخرى على مسألة ما إذا أعتقهما معًا، وعلى مسألة ما إذا قال: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك (1) (2) . قال الشيخ تقي الدين: طريقة المجد في المحرر أن الصفات الخمس معتبرة في الكفاءة قولاً واحدًا. ثم هل يبطل النكاح فقدها، أو لا يبطله لكن يثبت الفسخ، أو يبطله فقد الدين والمنصب ويثبت الفسخ فقد الثلاثة على ثلاث روايات، وهي طريقته اهـ (3) . وقال الشيخ تقي الدين: لم أجد نصًا عن الإمام أحمد رحمه الله ببطلان النكاح لفقر أو رق ولم أجد عنه أيضًا نصًا بإقرار النكاح مع عدم الدين والمنصب خلافًا. واختار أن النسب لا اعتبار به في الكفاءة، واستدل الشيخ تقي الدين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [13/49] . وعنه: لا تزوج قرشية بغير قرشي ولا هاشمية بغير هاشمي، ورد الشيخ تقي الدين رحمه الله هذه الرواية، وقال: ليس في كلام الإمام أحمد رضي الله عنه ما يدل عليها، وإنما المنصوص عنه في رواية الجماعة: أن قريشًا بعضهم لبعض أكفاء.   (1) اختيارات 208-210 زيادة أحكام وإيضاح ف 2/ 284. (2) وفي الإنصاف ج 8/ 110 بعد قوله فلو وجدت الكفاءة في النكاح حال العقد بأن يقول الخ. «فقال الشيخ تقي الدين قياس المذهب صحته قال: ويتخرج فيه وجه آخر بمنعها» . (3) الإنصاف 8/ 107 ف 2/ 284. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 قال: وذكر ذلك ابن أبي موسى والقاضي في خلافه وروايتيه، وصححها فيه. قال الشيخ تقي الدين أيضًا: ومن قال إن الهاشمية لا تزوج بغير هاشمي بمعنى أنه لا يجوز ذلك فهذا مارق من دين الإسلام؛ إذ قصة تزويج الهاشميات من بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهن بغير الهاشميين ثابت في السنة ثبوتًا لا يخفى، فلا يجوز أن يحكى هذا خلافًا في مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه، وليس في لفظه ما يدل عليه (1) . باب المحرمات في النكاح وتحرم بنته من الزنا قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: في الرجل يزني بامرأة فتلد منه ابنة فيتزوجها فاستعظم ذلك، وقال: يتزوج ابنته عليه القتل بمنزلة المرتد. وحمل القاضي قوله: «يقتل» على أنه لم يقع له الخلاف، فاعتقد أن المسألة إجماع، أو على أن هذا فيمن عقد عليها غير متأول ولا مقلد فيجب عليه الحد. وقال أبو العباس: كلام أحمد يقتضي أنه أوجب عليه حد المرتد لاستحلال ذلك، لا حد الزاني، وذلك أنه استدل بحديث البراء، وهذا يدل على أن استحلال هذا كفر عنده، وقال القاضي في التعليق والشيخ أبو محمد المقدسي في المغني: يكفي في التحريم أنه يعلم أنها بنته. ظاهرًا وإن كان النسب لغيره. وقال أبو العباس: وظاهر كلام الإمام أحمد أن الشبهة تكفي في ذلك؛ لأنه قال: أليس أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة أن تحتجب من ابن زمعة وقال: «الولد للفراش» وقال: إنما حجبها للشبه الذي رأى بينه وبين عتبة (2) .   (1) إنصاف 8/ 109، 110 ف 2/ 284. (2) اختيارات 210 فيه زيادات ف 2/ 285. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 وحرم [الشيخ] بنته من الزنا، وقال: إن وطء بنته غلطًا لا ينشر، لكونه لم يتخذها زوجة، ولم يعلن نكاحها (1) . والمنصوص عن الإمام أحمد في مسألة التلوط إنما هو أن الفاعل لا يتزوج بنت المفعول به، وكذلك أمه، وهو قياس جيد. فأما تزوج المفعول به بأم الفاعل أو ابنته ففيه نظر، ولم ينص عليه، وذلك أن واحد منهما لم يتمتع بأصل الآخر وفرعه. والمنصوص والأصل أن يتمتع بالرجل أصل أو فرع أو يتمتع بالمرأة أصل أو فرع، وهذا المفعول به يتمتع في أحد الطرفين وهو يتمتع في الطرف الآخر، والوطء الحرام لا يؤثر تحريم المصاهرة. واعتبر أبو العباس في موضع آخر التوبة، حتى في اللواط (2) . وسحاق النساء قياس المذهب المنصوص أنه يخرج على الروايتين في مباشرة الرجل الرجل بشهوة (3) . وتحريم المصاهرة لا يثبت بالرضاع، فلا يحرم على الرجل نكاح أم زوجته وابنتها من الرضاع، ولا يحرم على المرأة نكاح أبي زوجها وأمه من الرضاع (4) . ومن وطئت بشبهة حرم نكاحها على غير الواطئ في عدتها منه، لا عليه فيها إن لم تكن لزمته عدة من غيره، وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها المقدسي (5) .   (1) الإنصاف 8/ 117 ف 2/ 285. (2) اختيارات 211 وفي الإنصاف ص8 بدل المفعول به المفعول فيه. لا يؤثر تحريم المصاهرة في الإنصاف لا ينشر ف 2/ 285. (3) الاختيارات 213 ف 2/ 285. (4) اختيارات 213 والفروع ج 5/ 193 ف 2/ 285. (5) الفروع 5/ 206، والاختيارات ج 213 والإنصاف 8/ 134 ف 2/ 286. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وتحرم بنت الربيبة، لأنها ربيبة، وبنت الربيب أيضًا، نص عليهما الإمام أحمد في رواية صالح. قال أبو العباس: ولا أعلم في ذلك نزاعًا. ولا تحرم زوجة الربيب نص عليه أحمد في رواية ابن مشيش، وكذا في الربيب يتزوج امرأة رابه؛ لأنه ليس من الأبناء (1) . وللأب تزويج ابنته في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه (2) . ولو قتل رجلٌ رجلاً ليتزوج امرأته حرمت على القاتل مع حلها لغيره (3) . ذكر الشيخ تقي الدين في كتابه التحليل أن الرجل إذا قتل رجلاً ليتزوج امرأته أنها لا تحل له أبدًا (4) . المحرمات إلى أمد وخالف الشيخ تقي الدين في الرضاع فلم يحرم الجمع مع الرضاع (5) . ويحرم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين، كقول جمهور العلماء. قيل لأحمد في رواية ابن منصور: الجمع بين المملوكتين أتقول إنه حرام؟ قال: لا أقول إنه حرام، ولكن ينهى عنه. قال القاضي: ظاهر هذا أنه لا يحرم الجمع وإنما يكره. قال أبو العباس: الإمام أحمد لم يقل ليس حرامًا، وإنما قال: لا أقول هو حرام. وكانوا يكرهون فيما لم   (1) اختيارات ص 211 فيه زيادة، وعبارة الإنصاف: يحرم عليه بنت ابن زوجته نقله صالح وغيره وذكر الشيخ تقي الدين إلخ. (2) اختيارات 213 ف 2/ 286. (3) اختيارات 215 ف 2/ 285. (4) الإنصاف 8/ 122 ف 2/ 285. (5) الإنصاف 8/ 122 ف 2/ 286. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 يرد فيه نص تحريم أن يقال: هو حرام، ويقولون: ينهى عنه ويكرهون أن يقولوا: هو فرض، ويقولون: يؤمر به. وهذا الأدب في الفتوى مأثور عن جماعة من السلف، وذلك إما لتوقف في التحريم، أو تهيب لهذه الكلمة، كما يهابون لفظ الفرض إلا فيما علم وجوبه. فإذا كان المفتي يمتنع أن يقول هو فرض إما لتوقفه أو لكون الفرض ما ثبت وجوبه بالقاطع، أو لأنه لم يبين وجوبه في الكتاب فكذلك الحرام. وأما أن يجعل عن أحمد أنه لا يحرم بل يكره فهذا غلط عليه، ومرجعه إلى الغفلة عن دلالة الألفاظ ومراتب الكلام (1) . وقد ذكر هذا القاضي في العدة بعينه في مسألة الفرض: هل هو أعلى من الواجب؟ وذكر لفظ الإمام أحمد في هذه الرواية، ولفظه في المتعة، فعلم أنه لم يجعل في المسألة خلافًا. فلو وطئ إحدى الأختين المملوكتين لم تحل له الأخرى حتى يحرم على نفسه الأولى بإخراج عن ملكه أو تزويج. قال ابن عقيل: ولا يكفي في إباحتها مجرد إزالة الملك حتى تمضي حيضة الاستبراءات وتنقضي فتكون الحيضة كالعدة. وقال أبو العباس: وليس هذا القيد في كلام أحمد وجماعة الأصحاب، وليس هو في كلام علي وابن عمر، مع أن عليًا لا يجوز وطء الأخت في عدة أختها، ولو زال ملكه عن بعضها كفى، وهو قياس قول أصحابنا. فإن حرم إحداهما بنقل الملك فيها على وجه لا يمكن استرجاعه   (1) وعبارة الإنصاف 8/ 125، وعنه ليس بحرام ولكن ينهى عنه، أثبتها القاضي وجماعة ومنع الشيخ تقي الدين رحمه الله أن يكون في المسألة رواية بالكراهة إلخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 مثل أن يهبها لولده أو يبيعها بشرط فقد ذكر الجد الأعلى في البيع والرهن بشرط الخيار وجهين. فإن أخرج الملك لازمًا ثم عرض له المبيح للفسخ مثل أن يبيعها سلعة فتبين أنها كانت معيبة أو يفلس المشتري بالثمن أو يظهر في العوض تدليس أو يكون مغبونًا فالذي يجب أن يقال في هذه المواضع: إنه يباح وطء الأخت بكل حال على عموم كلام الصحابة والفقهاء أحمد وغيره. والبيع والهبة يوجبان التفريق بين ذي الرحم المحرم وهو لا يجوز بين الصغار، وفي جوازه بين الكبار روايتان. وقد أطلق علي وابن عمر والفقهاء أحمد وغيره أن يبيعها أو يهبها، مع أن عليًا هو الذي روى النهي عن التفريق بين الأختين ولم يتعرضوا لهذا الأصل. فإن بني عليه لم يجز البيع والهبة رواية واحدة قبل البلوغ وإنما يجوز العتق أو التزويج، وفي جوازهما بعد البلوغ روايتان. أو يقال: يجوز له التفريق هنا لأجل الحاجة لأنه يحرم الجمع في نكاح ويحرم التفريق فلا بد من تقديم أحدهما وكلام الصحابة والفقهاء بعمومه يقتضي هذا. ولو أزال ملكه عنها بغير العتق مثل أن يبيعها أو يهبها فينبغي له ألا يتزوج أختها في مدة الاستبراء، كما لا يحل له وطؤها على ما تقدم، إلا أن هذا لا ينبغي أن يزيد على تزوجه بأختها مع بقاء الملك، لإمكان أن يدعي المشتري والمتهب ولدها، بخلاف المعتقة. وشبهة الملك حقيقة لا كالنكاح فعلى هذا إذا وطئ أمة بشبهة ملك ففي تزوج أختها في مدة استبرائها ما في تزوج أختها المستبرأة بعد زوال ملكه عنها (1) . قال أبو محمد المقدسي في «المغني» : إذا تزوج كافر أختين ودخل بهما ثم أسلم وأسلمتا معه فاختار إحداهما لم يطأها حتى تنقضي عدة   (1) اختيارات 211-213 فيها زيادات كثيرة ف 2/ 286. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 أختها، لئلا يكون واطئًا لإحدى الأختين في عدة الأخرى، وكذلك إذا أسلم وتحته أكثر من أربع قد دخل بهن فأسلمن معه وكن ثمانيًا فاختار أربعًا منهم وفارق أربعًا لم يطأ واحدة من المختارات حتى تنقضي عدة المفارقات لئلا يكون واطئًا لأكثر من أربع، فإن كن خمسًا فارق إحداهن فله وطء ثلاث من المختارات. قال: وهذا قياس المذهب. قال أبو العباس: وفي هذا نظر؛ فإن ظاهر السنة يخالف ذلك حيث لم يذكر فيها هذا الشرط، ويمكن الفرق بين هذه وغيرها. وتأملت كلام أحمد وعامة أصحابنا فوجدتهم قد ذكروا أنه يمسك منهن، أربعًا ولم يشترطوا في جواز وطئه انقضاء العدة لا في جمع العدد ولا في جمع الرحم ولو كان لهذا أصل عندهم لم يغفلوه؛ فإنهم دائمًا في مثل هذا ينبهون على اعتزال الزوجة كما ذكره الإمام أحمد فيما إذا وطئ أخت امرأته بنكاح فاسد أو زنى بها وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى؛ فإن العدة تابعة لنكاحها وقد عفا الله عن جميع نكاحها، فكذلك يعفو عن توابع ذلك النكاح. لكن قياس هذا القول أنه لو أسلم وتحته سريتان أختان فحرم واحدة على نفسه بعد الإسلام جاز وطء الأخرى قبل استبراء تلك. فأما لو طلق زوجته في الشرك ثم أراد أن يتزوج أختها في الإسلام قبل انقضاء عدة المطلقة فهذا يريد أن يبتدأ. وتحرير هذه المسائل: أن العدة إنما أن تكون من نكاح صحيح فلا يجوز تزوج أختها ولا وطؤها بملك اليمين. وإن كانت من ملك يمين لم يصح النكاح على المشهور، ولا توطأ بنكاح ولا بملك يمين حتى تنقضي العدة. ولا يجوز في عدة النكاح تزوج أربع سواها قولاً واحدًا، ولا يجوز ذلك في عدة ملك يمين. وإن كانت العدة من نكاح فاسد أو شبهة نكاح فهي كحقيقة النكاح في المشهور من المذهب. وإن كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 العدة من نكاح فاسد أو شبهة ملك فإنما الواجب الاستبراء وذلك لا يزيد على حقيقة الملك (1) . ولو تزوج الأمة في عدة الحرة جاز عند أصحابنا إذا كانت العدة من طلاق بائن. وإن كان خائفًا للعنت عاد ما لطول حرة بناء على أن علة المنع ليست هي الجمع بينها وبين الحرة. ويخرج المنع إذا منعنا من الجمع بينهما، وكذلك خرج الجد في الشرح (2) . ومن حرم نكاحها حرم وطؤها بملك اليمين، وجوزه شيخنا كأمة كتابية (3) . قال أبو العباس بعد أن حكى عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين رجل وامرأته وقد زنى بها قبل أن يدخل بها: وعن جابر بن عبد الله والحسن والنخعي أنه يفرق بينهما. ويؤيد هذا من أصلنا أن له أن يعضل الزانية حتى تختلع منه، وأن الكفاءة إذا زالت في أثناء العقد فإن لها الفسخ في أحد الوجهين (4) . ويمنع الزاني من تزوج العفيفة حتى يتوب (5) . ذكر أصحابنا: أن الزوج إذا اشترى زوجته انفسخ النكاح، وقال الحسن: إذا اشترى زوجته للعتق فأعتقها حين ملكها فهما على نكاحهما. وهذا قوي فيما إذا قال: إذا ملكتك فأنت حرة، وصححنا الصفة؛ لأنه إذا ملكها فالملك الذي يوجب بطلان النكاح يوجب الحرية. وإذا اجتمعا معًا لم يبطل النكاح؛ لأن الحرية لا تنافيه، وإنما   (1) اختيارات 214، 215 ف 2/ 286. (2) اختيارات 216 ف 2/ 286. (3) فروع 5/ 210 ف 2/ 286. (4) اختيارات 215 ف 2/ 287. (5) اختيارات 215 ف 2/ 288. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 المنافي أن تكون مملوكته زوجته، فإذا زال الملك عقب ثبوته لم يجامع النكاح فلا يبطله؛ لأنه حين زوال الملك كان ينبغي زوال النكاح، والملك في حال زواله لا ثبوت له، وهذا الذي لحظه الحسن؛ فإنه إذا اشتراها ليعتقها فأعتقها لم يكن للملك قوة تفسخ النكاح. ويؤيد هذا القول: أن حدوث الملك بمنزلة اختلاف الدين، وإذا لم يدم اختلاف الدين فهما على نكاحهما، فكذلك هنا؛ إذ النكاح يقع سابقًا، وهذا إنما يكون إذا كان العتق حصل بعد الملك، فههنا لم يتقدم الانفساخ على العتق (1) . ولو خبب امرأة على زوجها حتى طلقها ثم تزوجها وجب أن يعاقب هذا عقوبة بليغة، وهذا النكاح باطل في أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، ويجب التفريق بين هذا الظالم المعتدي وبين هذه المراة الظالمة (2) . ويكره نكاح الحرائر الكتابيات مع وجود الحرائر المسلمات قاله القاضي وأكثر العلماء، كما يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين مع كثرة ذباحين مسلمين؛ ولكن لا يحرم (3) . فإن كان أحد أبويها غير كتابي فهل تحل على روايتين. وحكى ابن رزين رواية ثالثة: إن كان أبوها كتابيًا أبيحت، وإلا فلا. قال الشيخ تقي الدين: وهو خطأ (4) . ولو كان أبويها غير كتابيين واختارت هي دين أهل الكتاب فظاهر كلام المصنف التحريم رواية واحدة، وهي المذهب قدمه في الفروع.   (1) اختيارات 217 ف 2/ 288. (2) اختيارات 217 ف 2/ 288. (3) اختيارات 217 والفروع 5/ 207 ف 2/ 288. (4) إنصاف 8/ 136، 137 ف 2/ 289. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وقيل عنه: لا تحرم وجزم به في «المغني» والشرح على الرواية الثانية، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله اعتبارًا بنفسه، وقال: هو المنصوص عن الإمام أحمد في عامة أجوبته (1) . وقال القاضي في «الجامع» : فإن كان الحر كتابيًا لم يجز له أن يتزوج الأمة الكتابية. وقال أبو العباس: مفهوم كلام الجد أنه يباح للكافر نكاح الأمة الكافرة. ولو خشي القادر على الطول على نفسه الزنا بأمة غيره لمحبته لها ولم يبذلها سيدها له بملك أبيح له نكاحها، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره من السلف. وبكل حال تباح الأمة لواجد الطول غير خائف العنت إذا شرط على السيد عتق كل من يولد منها، وهو مذهب الليث؛ لامتناع مفسدة إرقاق ولده. وكذا لو تزوج أمة كتابية شرط على سيدها عتق ولدها منه. والآية إنما دلت على تحريم غير المؤمنات بالمفهوم، ولا عموم له؛ بل يصدق بصورة (2) . وكلام الإمام أحمد عام يقتضي تحريم التزويج بالحربيات. وله فيما إذا خاف على نفسه العنت روايتان. والمنع من النكاح في أرض الحرب عام في المسلمة والكافرة (3) . وقيل: يحرم نكاح الحربية [من أهل الكتاب] مطلقًا. وقيل: يكره   (1) إنصاف 8/ 137 فيه زيادة توضيح وذكر الأبوين ف 289. (2) اختيارات 216 ف 2/ 289. (3) اختيارات 215 ف 2/ 288. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 واختاره القاضي والشيخ تقي الدين، وقال هو قول أكثر العلماء كذبائحهم بلا حاجة (1) . واختار الشيخ تقي الدين جواز وطء إماء غير أهل الكتاب، وذكره ابن أبي شيبة في كتابه عن سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار. فلا يصح ادعاء الإجماع مع مخالفة هؤلاء (2) . وإذا أحب امرأة في الدنيا ولم يتزوجها وتصدق بمهرها وطلب من الله تعالى أن تكون له زوجة في الآخرة رجي له ذلك من الله تعالى. ولا يحرم في الآخرة ما يحرم في الدنيا من التزوج بأكثر من أربع، والجمع بين الأختين، ولا يمنع من أن يجمع المرأة وبينها هناك (3) . وقال الشيخ تقي الدين: تحرر لأصحابنا في تزويج الأمة على الحرة ثلاثة طرق. أحدها: المنع رواية واحدة، ذكرها ابن أبي موسى والقاضي وابن عقيل وغيرهم. قال القاضي: هذا إذا كان يمكنه وطء الحرة، فإن لم يمكنه جاز. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: هذه الطريقة هي عندي مذهب الإمام أحمد رحمه الله وعليها يدل كلامه. الطريق الثاني: إذا لم تعفه فيه روايتان، وهي طريقة أبي الخطاب ومن حذا حذوه. الطريق الثالث: في الجمع روايتان كما ذكره الجد. اهـ (4) . قال الشيخ تقي الدين: تلخص لأصحابنا في تزوج الإماء ثلاثة طرق. أحدها طريق القاضي في الجامع والخلاف وهو أنه لا يتزوج أكثر من واحدة إلا إذا خشي العنت بأن لا يمكنه وطء التي تحته، ومتى أمكنه وطؤها لم يجز. الطريق الثاني إذا كان فيه الشرطان فله أن يتزوج   (1) إنصاف 8/ 135 ف 2/ 288. (2) الإنصاف 8/ 252 ف 2/ 289. (3) اختيارات 217 ف 2/ 289. (4) إنصاف 8/ 144 ف 2/ 289. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 أربعًا وإن كان متمكنًا من وطء الأولى، وهذا معنى خوف العنت وهي طريقة أبي محمد ولم يذكر الخرقي إلا ذلك. وكلام الإمام أحمد يقتضي الحل وإن كان قادرًا على الوطء. الطريق الثالث المسألة في مثل هذا على روايتين، وهي طريقة ابن أبي موسى (1) . ومن وطئ أمة بينه وبين آخر أدب. قال شيخنا: ويقدح في عدالته، ويلزمه نصف مهرها لشريكه (2) . باب الشروط والعيوب في النكاح ولو شرطت أنه يطؤها في وقت دون وقت -ذكر القاضي ذلك في الجامع- أنه من الشروط الفاسدة. ونص الإمام أحمد في الأمة: يجوز أن يشترط أهلها أن تخدمهم نهارًا ويرسلوها ليلاً يتوجه منه صحة هذا الشرط إن كان فيه غرض صحيح مثل أن يكون لها بالنهار عمل فتشترط ألا يستمتع بها إلا ليلاً ونحو ذلك. وشرط عدم النفقة فاسد. ويتوجه صحته، لا سيما إذا قلنا إنه إذا أعسر الزوج ورضيت الزوجة به لم تملك المطالبة بالنفقة بعد. وإذا اشترطت ألا تسلم نفسها إلا في وقت بعينه فهو نظير تأخير التسليم في البيع والإجارة، وقياس المذهب صحته. وذكر أصحابنا أنه لا يصح. ولو شرطت زيادة في النفقة فقياس المذهب وجوب الزيادة، وكذلك إذا اشترطت زيادة في المنفعة التي يستحقها بمطلق العقد مثل أن تشترط ألا يترك الوطء إلا شهرًا، أو ألا يسافر عنها أكثر من شهر. فإن أصحابنا القاضي وغيره قالوا في تعليل المسألة: لأنها شرطت عليه   (1) إنصاف 8/ 144 ف 2/ 289. (2) الفروع 5/ 123 ف 2/ 289. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 شرطًا لا يمنع المقصود بعقد النكاح ولها فيه منفعة فيلزم الزوج الوفاء به، كما لو شرطت من غير نقد البلد. وهذا التعليل يقتضي صحة كل شرط لها فيه منفعة ولا يمنع مقصود النكاح (1) . وفي مفردات ابن عقيل: ذكر أبو بكر فيما إذا شرط ألا يطأ ولا ينفق أو إن فارق رجع بما أنفق روايتين. يعني في صحة العقد، قال الشيخ تقي الدين: ويحتمل صحة شرط عدم النفقة ... واختار فيما إذا شرط أن لا مهر - فساد العقد، وأنه قول أكثر السلف. واختار أيضًا الصحة فيما إذا شرط عدم الوطء كشرط ترك ما تستحقه. ونقل الأثرم توقفه في الشرط. قال شيخنا: فيخرج على وجهين، واختار صحته، كشرطه ترك ما يستحقه. وفرق القاضي بأن له مخلصًا لملكه طلاقها. وأجاب شيخنا: بأن عليه المهر، وأن ابن عقيل سوى بينهما، فإن صح وطلبته فارقها وأخذ المهر وهو في معنى الخلع، فإن وجبت الفرقة ثم وجب هنا، وأن على الأول للفائت غرضه الجاهل بفساده الفسخ بلا أرش كالبيع وأولى (2) . وولد المغرور بأمه حر يفديه والده. وإن كان عبدًا تعلق برقبته وجهًا واحدًا؛ لأنه ضمان جناية محضة، ولو لم يكن ضمان جناية لم يلزمه الضمان بحال؛ لانتفاء كونه ضمان عقد أو ضمان يد. فيعتبر أن يكون ضمان إتلاف أو منع لما كان ينعقد ملكًا للسيد كضمان الجنين. وفارق ما لو استدان العبد فإنه حينئذٍ قبض المال بإذن صاحبه، وهنا قبض إليه الأولاد بدون إذن السيد فهي جناية محضة. ولو أذن له السيد   (1) اختيارات 219، 220 ف 2/ 289. (2) فروع 5/ 217 والإنصاف 8/ 165 ف 2/ 289. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 في نكاح حرة فالضمان عليه؛ لأنه إذن له في الإتلاف أو الاستدانة على رواية (1) . إذا شرط الزوج للزوجة في العقد أو اتفقا قبله ألا يخرجها من دارها أو بلدها أو لا يتزوج أو لا يتسرى عليها أو إن تزوج عليها فلها تطليقها (2) صح الشرط، وهو مذهب الإمام أحمد. ولو خدعها فسافر بها ثم كرهته (3) لم يكرهها. وإذا أراد أن يتزوج عليها أو يتسرى وقد شرط لها عدم ذلك فقد يفهم من إطلاق أصحابنا جوازه بدون إذنها، لكونهم إنما ذكروا أن لها الفسخ ولم يتعرضوا للمنع. قال أبو العباس: وما أظنهم قصدوا ذلك. وظاهر الأثر والقياس يقتضي منعه كسائر الشروط الصحيحة. وإذا فعل ذلك ثم قبل أن تفسخ طلق أو باع فقياس المذهب أنها لا تملك الفسخ. وأما إذا شرط إن كان له زوجة أو سرية فصداقها ألفان ثم طلق الزوجة أو أعتق السرية بعد العقد قبل أن تطالبه ففي إعطائها ذلك نظر (4) . وقال أيضًا: لو شرط ألا يخرجها من منزل أبويها فمات الأب فالظاهر أن الشرط باطل. ويحتمل ألا يخرجها من منزل أمها إلا أن تتزوج الأم، ولو تعذر سكن المنزل لخراب أو غيره فهل يسقط حقها من الفسخ بنقلها عنه؟ أفتيت بأنه إن نقلها إلى منزل ترتضيه هي فلا فسخ.   (1) اختيارات 220، 221 ف 2/ 289. (2) وفي الإنصاف: فلها أن تطلق نفسها. (3) وفي الإنصاف ثم كرهته لم يكن له أن يكرهها بعد ذلك. (4) الفروع ج 5/ 211 واختيارات 218 ف 2/ 289. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وإن نقلها إلى منزل لا ترتضيه فلها الفسخ، ولم أقف فيه على نقل (1) . وقال الشيخ تقي الدين: فيمن شرط لها أن يسكنها في منزل أبيه فسكنت ثم طلبت سكنى منفردة وهو عاجز لا يلزمه ما عجز عنه؛ بل لو كان قادرًا ليس لها على قول في مذهب الإمام أحمد غير ما شرط لها (2) . حيث قلنا بصحة شرط سكنى الدار والبلد ونحو ذلك لم يجب الوفاء به على الزوج صرح به الأصحاب؛ لكن يستحب الوفاء به، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. ومال الشيخ تقي الدين رحمه الله إلى وجوب الوفاء بهذه الشروط، ويجبره الحاكم على ذلك (3) قال: والظاهر أن مرادهم صحة الشرط في الجملة بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه؛ لا أنه يلزمها؛ لأنه شرط لحقها لمصلحتها لا لحقه لمصلحته حتى يلزم في حقها. ولهذا لو سلمت نفسها من شرطت دارها فيها أو في داره لزم. اهـ (4) فأما إن أراد نقلها وطلب منها ذلك فقال القاضي في «الجامع» : لها الفسخ بالعزم على الإخراج. وضعفه الشيخ تقي الدين، وقال: العزم المجرد لا يوجب الفسخ، إذ لا ضرر فيه (5) . وعليه بطلان نكاح الشغار من اشتراط عدم المهر. فإن سموا مهرًا صح. وقياس المذهب أنه شرط لازم؛ لأنه شرط استحل به الفرج، ولولا لزومه لم يكن قول المجيب والقابل مصححًا لنكاح الأول (6) .   (1) إنصاف 8/ 156 ف 2/ 290 هذا الجواب يتفق مع السؤال بخلاف ما في المجموع ج 31/ 168 ف 2/ 290. (2) إنصاف 8/ 156 ف 2/ 290 هذا الجواب يتفق مع السؤال بخلاف ما في المجموع ج 31/ 168 ف 2/ 290. (3) إنصاف 8/ 157، 158 ف 2/ 190. (4) إنصاف 8/ 156 ف 2/ 290. (5) الإنصاف 8/ 157، 158 ف 2/ 290. (6) اختيارات 218 زيادة إيضاح ف 2/ 290. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 نكاح المحلل حرام بإجماع الصحابة عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم، حتى قال عمر رضي الله عنه: والله لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وقال عثمان: لا نكاح إلا نكاح رغبة؛ لا نكاح دلسة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما قال له رجل: أرأيت إن تزوجتها ومطلقها لا يعلم أحلها له ثم أطلقها؟ فقال: من يخادع الله يخدعه لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم الله من قلبه أنه يريد أن يحلها. وقد «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له» قال الترمذي: حديث صحيح. وقد اتفق أئمة الفتوى على أنه إذا شرط التحليل في العقد كان باطلاً، وبعضهم لم يجعل للشرط المتقدم ولا للعرف المطرد تأثيرًا. وأما الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون وأئمة الفتوى فلا فرق عندهم بين الشرط المتقدم والعرف، وهذا قول أهل المدينة وأهل الحديث. والنصارى تعيب المسلمين بنكاح المحلل، يقولون: المسلمون قال لهم نبيهم: إذا طلق أحدكم زوجته لم تحل له حتى تزني. ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بريء من ذلك هو وأصحابه والتابعون لهم وجمهور أئمة المسلمين رضي الله عنهم (1) . ولا يصح نكاح المحلل، ونية ذلك كشرطه (2) . وإذا ادعى الزوج الثاني أنه نوى التحليل أو الاستمتاع فينبغي ألا يقبل منه في بطلان نكاح المرأة إلا أن تصدقه أو تقوم بينة إقرار على   (1) مختصر الفتاوى 425 وهو موجز في حكم نكاح المحلل ولأني لم أجد أثر عثمان وابن عباس وغيرهما فلذلك استحسنت استدراكها. ف 2/ 290. (2) اختيارات ص 219 والإنصاف 8/ 161 ف 2/ 290. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 التواطؤ قبل العقد. ولا ينبغي أن يقبل على الزوج الأول، فتحل في الظاهر بهذا النكاح إلا أن يصدق على إفساده. فأما إن كان الزوج الثاني ممن يعرف بالتحليل فينبغي أن يكون ذلك تقدم اشتراطه إلا أن يصرح قبل العقد بأنه نكاح رغبة. وأما الزوج الأول فإن غلب على ظنه صدق الزوج الثاني حرمت عليه فيما بينه وبين الله تعالى. ولو تقدم شرط عرفي أو لفظي بنكاح التحليل وادعى أنه قصد نكاح الرغبة قبل في حق المرأة إن صححنا هذا العقد، وإلا فلا. وإن ادعاه بعد المفارقة ففيه نظر. وينبغي ألا يقبل قوله؛ لأن الظاهر خلافه. ولو صدقت الزوجة أن النكاح الثاني كان فاسدًا فلا تحل للأول، لاعترافها بالتحريم عليه (1) . التحليل محرم لا يحلها، لكن من قلد فيه المجوز له أو فعله باجتهاد ثم يتبين له تحريم ذلك فتاب إلى الله فالأقوى أنه لا يجب فراقها؛ بل يمتنع عن ذلك في المستقبل، وقد عفا الله عما مضى (2) . وأما «نية الاستمتاع» وهو أن يتزوجها ومن نيته أن يطلقها في وقت أو عند سفره فلم يذكرها القاضي في المجرد ولا الجامع ولا ذكرها أبو الخطاب. وذكرها أبو محمد المقدسي، وقال: النكاح صحيح لا بأس به في قول عامة العلماء إلا الأوزاعي. قال أبو العباس: ولم أر أحدًا من أصحابنا ذكر أنه لا بأس به تصريحًا إلا أبا محمد. وأما القاضي في التعليق فسوى بين نيته على طلاقها في وقت بعينه وبين نية التحليل، وكذلك الجد وأصحاب الخلاف (3) .   (1) اختيارات 220 ف 2/ 290. (2) مختصر الفتاوى 433 هذا أوضح مما في المجموع ج 32/ 152 ف 2/ 292. (3) اختيارات 220 فيه زيادات ف 2/ 291 وانظر الإنصاف ج 8/ 163. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 وإن شرط الزوجان أو أحدهما فيه خيارًا صح العقد والشرط (1) . ولو شرط عليها أن تحافظ على الصلوات الخمس وتلزم الصدق والأمانة فيما بعد العقد فتركته فيما بعد ملك الفسخ، كما لو شرطت عليه ترك التسري فتسرى، فيكون فوات الصفة إما مقارنًا وإما حادثًا، كما أن عيب العنة إما مقارن أو حادث. وقد يتخرج في فوات الصفة في المستقبل قولان، كما في فوات الكفاءة في المستقبل وحدوث العنة؛ لكن المشروط هنا فعل يحدثه أو تركه فعلاً ليس هو صفة ثابتة لها (2) . وإن شرطها بكرًا أو جميلة فهل له الخيار؟ على وجهين: أحدهما: له الخيار واختاره الشيخ تقي الدين (3) . وفي الفنون في شرط بكر يحتمل فساد العقد؛ لأن لنا قولاً إذا تزوجها على صفة فبانت بخلافها بطل العقد. قال شيخنا: ويرجع على الغار، وإن غرته وقبضته وإلا سقط في ظاهر المذهب، ولا يلزمه أقل مهر (م) (4) . وإذا أعتقت الأمة تحت عبد ثبت الخيار لها اتفاقًا، وكذلك تحت حر، وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة. وإن كان زوج بريرة عبدًا لملكها رقبتها وبضعها. ولو شرط عليها سيدها دوام النكاح تحت حر أو عبد فرضيت لزمها ذلك، ومذهب الإمام أحمد يقتضيه؛ فإنه يجوز العتق بشرط (5) .   (1) الإنصاف 8/ 166 اختيارات 218 زيادة إيضاح ف 2/ 291. (2) اختيارات 219 ف 2/ 292. (3) الإنصاف 8/ 168 ف 2/ 292. (4) فروع 5/ 220 ف 2/ 292. (5) وانظر الإنصاف 8/ 180. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 ذكر أبو محمد المقدسي: إذا أسلمت الأمة أو ارتدت أو أرضعت من يفسخ نكاحها إرضاعه قبل الدخول سقط المهر. وجعله أصلاً وقاس عليه ما إذا أعتقت قبل الدخول واختارت الفراق معه أن المهر يسقط على رواية لنا. قال أبو العباس: والتنصيف في مسألة الإسلام ونظائرها أولى؛ فإنها إنما فسخت لإعتاقه لها، فالإعتاق سبب الفسخ. ومن أتلف حقه متسببًا سقط وإن كان المباشر غيره، بخلاف ما إذا كان السبب والمباشرة من الغير. فإن قيل: مسألة العتق بالتنصيف ففي الردة والإسلام والرضاع أولى بلا شك (1) . وإن تزوجت رجلاً على أنه حر أو تظنه حرًا فبان عبدًا، فلها الخيار. وفي «الجامع الكبير» وغيره: شرط حرية ونسب، واختاره الشيخ تقي الدين، كشروطه وأولى لملكه طلاقها (2) . العيوب في النكاح قال المجد: لا يثبت خيار العنة إلا بالقول فلا يسقط بالتمكين من الاستمتاع ونحوه. وقال الشيخ تقي الدين: لم نجد هذه التفرقة لغير المجد (3) . واستثنى من ذلك أبو البركات خيار العنة لا يسقط إلا بالقول لا يسقط بالتمكين. وقال أبو العباس أنه لم يجد هذه التفرقة لغيره، وجعل أنها متى أمكنته في حال لها الفسخ سقط خيارها، وحيث لم يثبت لها   (1) الفروع ج 5/ 225 والاختيارات 223 ف 2/ 292. (2) الإنصاف 8/ 281 ف 2/ 292. (3) الإنصاف 8/ 200 ف 2/ 292. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 الفسخ. وإن ثبت العيب لا عبرة بتمكينها، ولا فرق في ذلك بين العنة وغيرها (1) . وخرج الشيخ تقي الدين جواز الفسخ بلا حكم في الرضا بعاجز عن الوطء كعاجز عن النفقة، قال في القاعدة الثالثة والستين: ورجح الشيخ تقي الدين أن جميع الفسوخ لا تتوقف على حكم حاكم (2) . فإذا كان الزوج صغيرًا أو به جنون أو جذام أو برص فالمسألة التي في الرضاع تقتضي أن لها الفسخ في الحال، ولا ينتظر وقت إمكان الوطء. وعلى قياسه الزوجة إذا كانت صغيرة أو مجنونة أو عفلاء أو قرناء. ويتوجه أن لا فسخ إلا عند عدم إمكان الوطء في الحال (3) . وإن لم يقر بالعنة ولم ينكر، أو قال: لست أدري أعنين أنا، أم لا؟ فينبغي أن يكون كما لو أنكر العنة ونكل عن اليمين؛ فإن النكول عن الجواب كالنكول عن اليمين. فإن قلنا يحبس الناكل عن الجواب فالتأجيل أيسر من الحبس. ولو نكل عن اليمين فيما إذا ادعى الوطء وقبل التأجيل فينبغي أن يؤجل هنا، كما لو نكل عن اليمين في العنة. والسنة المعتبرة في التأجيل هي الهلالية، وهذا هو المفهوم من كلام العلماء؛ لكن تعليلهم بالفصول يوهم خلاف ذلك؛ لكن ما بينهما متقارب.   (1) هذه عبارة الزركشي في نقله عن الشيخ تقي الدين ج 5/ 266 ف 2/ 292. (2) الإنصاف 211 فيه زيادة ف 2/ 292. (3) اختيارات 221 ف 2/ 292. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 ويتخرج إذا علمت بعنته أو اختارت المقام معه على عسرته هل لها الفسخ؟ على روايتين. ولو خرج هذا في جميع العيوب لتوجه. وترد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع. ولو بان الزوج عقيمًا فقياس قولنا بثبوت الخيار للمرأة أن لها حقًا في الولد؛ ولهذا قلنا: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها، وعن الإمام أحمد ما يقتضيه، وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا. وتعليل أصحابنا توقف الفسخ على الحاكم باختلاف العلماء صحيح، فإنه إن أريد كل خيار مختلف في وقوعه، وهما لا يتوقفان على الحاكم. ثم خيار امرأة المجبوب متفق عليه. وهو من جملة العيوب التي قالوا لا تتوقف على الحاكم، ولا يعني الاعتذار. فإن أصل خيار العنة والشرط مختلف فيه، بخلاف أصل خيار العنة؛ لأن أصل خيار العيب متفق عليه وهو المجبوب. وأي فرق بين الاختلاف في جنس الخيار والاختلاف في الصورة المعيبة. ثم خيارات البيع لا تتوقف على الحاكم مع الاختلاف. والواجب أولاً التفريق بين النكاح والبيع، ثم لو علل بخفاء الفسخ وظهوره فإن العيوب وفوات الشرط قد تخفى، وقد يتنازع فيها؛ بخلاف إعتاق السيد لكان أولى من تعليله بالاختلاف. ولو قيل: إن الفسخ يثبت بتراضيهما تارة، وبحكم الحاكم أخرى، أو بمجرد فسخ المستحق، ثم الآخر إن أمضاه وإلا أمضاه الحاكم لتوجه، وهو الأقوى. ومتى أذن الحاكم أو حكم لأحد باستحقاق عقد أو فسخ مأذون له لم يحتج بعد ذلك إلى حكم بصحته بلا نزاع؛ لكن لو عقد الحاكم أو فسخ فهو فعله والأصح أنه حكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وإذا اعتبر تفريق الحاكم ولم يكن في الموضع حاكم يفرق فالأشبه أن لها الامتناع، وكذلك تملك الانتقال من منزله فإن من ملك الفسخ للعقد ملك الامتناع من التسليم، وينبغي أن تملك النفقة في هذه المدة لأن المانع منه (1) . وإذا دخل النقص على الزوج لعيب المرأة وفوات صفة أو شرط صحيح أو باطل فإنه ينقص من المسمى بنسبة ما نقص. وهذا النقص من مهر المثل. وإذا كان الذي نقص هو المرأة بأن يكون الزوج هو المعيب لا تكون قد اشترطت فيه صفة أو شرطًا صحيحًا أو فاسدًا فالواجب هنا أن ينسب ما نقص هذا الفائت من مهر المثل لا لوجوده فيزاد على المسمى بنسبته. فيقال: كم مهر المثل لو لم يسلم لها ما شرطته أو كان الزوج معيبًا؟ فيقال ألف درهم وإذا سلم لها ذلك أو كان الزوج سليمًا فيقال ثمانمائة درهم، فيكون فوات الصفة والعيب قد نقصها من مهر المثل الخمس، فينقصها من المسمى بحسب ذلك. فيكون بقيمته مال ذهب منه خمسه، فيزاد عليه مثل ربعه، فإذا كان ألفين استحق ألفين وخمسمائة، وهذا هو المهر الذي رضيت به لو كان الزوج معيبًا أو لم يشترط صفة، وهذا هو العدل، ويرجع الزوج المغرور بالصداق على من غره من المرأة أو الولي في أصح قولي العلماء (2) . وقيل في فسخ الزوج بعيب قديم وشرط: ينسب قدر نقص مهر المثل لأجل ذلك إلى مهر المثل كاملاً، فيسقط من المسمى بنسبته فسخ أو أمضى، وقاسه القاضي في الخلاف على المبيع المعيب، وحكاه ابن شاقلا في بعض تعاليقه عن أبي بكر، واختاره ابن عقيل، ويحتمله كلام الشيرازي، ورجحه الشيخ تقي الدين. وقال الشيخ تقي الدين أيضًا:   (1) اختيارات 221-223 ف 2/ 292 وانظر الفروع ج 5/ 238. (2) اختيارات 223، 224 ف 2/ 292 وعبارة الإنصاف ج 1/ 201 كما يلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وكذلك إذا ظهر الزوج معيبًا فللزوجة الرجوع عليه بنقص مهر المثل، وكذا في فوات شرطها (1) . قال شيخنا: وإن جهل فساد النكاح لتغرير غار كأخته من رضاع فالمهر على الغار (2) . باب نكاح الكفار والصواب أن أنكتحهم المحرمة في دين الإسلام حرام مطلقًا، إذا لم يسلموا عوقبوا عليها. وإن أسلموا عفي لهم عن ذلك لعدم اعتقادهم تحريمه (3) . واختلف في الصحة والفساد. والصواب أنها صحيحة من وجهين: فإن أريد بالصحة إباحة التصرف فإنما يباح لهم بشرط الإسلام. وإن أريد نفوذه وترتيب أحكام الزوجية عليه: من حصول الحل به للمطلق ثلاثًا، ووقع الطلاق فيه، وثبوت الإحصان به فصحيح. وهذا مما يقوي طريقة من فرق بين أن يكون التحريم لغير المرأة أو لوصف؛ لأن ترتيب هذه الأحكام على نكاح المحارم بعيد جدًا. وقد أطلق أبو بكر وابن أبي موسى وغيرهما صحة أنكحتهم مع تصريحهم بأنه لا يحصل الإحصان بنكاح ذوات المحارم. ولو قيل: إن من لم يعلم التحريم فهو في ملك المحرمات بمنزلة أهل الجاهلية، كما قلنا في إحدى الروايتين إن من لم يعلم الواجبات   (1) الإنصاف 8/ 201 ف 2/ 292. (2) فروع 5/ 224 ف 2/ 292. (3) اختيارات 224 والإنصاف 8/ 207 ف 2/ 293. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 فهو فيها كأهل الجاهلية فلا يجب عليهم القضاء، كذلك أولئك تكون عقودهم وأفعالهم بمنزلة عقود أهل الجاهلية، فإذا اعتقدوا أن النكاح بلا ولي ولا شهود وفي العدة صحيح كان بمنزلة نكاح أهل الجاهلية. ويحتمل ما نقل عن الصحابة على أن المعاقد لم يعذر لترك تعلمه العلم مع تقصيره، بخلاف أهل البوادي والحديثي العهد بالإسلام ومن قلد فقيهًا فيتوارثون بهذه الأنكحة. ولو تقاسموا ميراثًا جهلاً فهذا شبيه بقسم ميراث المفقود إذا ظهر حيًا لا يضمنون ما أتلفوا، لأنهم معذورون. وأما الباقي فيفرق بين المسلم والكافر، كما فرقنا في أموال القتال بينهما، فإن الكافر لا يرد باقيًا، ولا يضمن تالفًا والمسلم يرد الباقي، ويضمن التالف. وعلى قياسه كل متلف معذور في إتلافه بتأويل أو جهل (1) . وإذا أسلم الكافر وتحته معتدة فإن كان لم يدخل بها منع من وطئها حتى تنقضي العدة. وإن كان دخل بها لم يمنع من الوطء إلا أن تكون قبل وطئه (2) وعلى التقديرين فلا ينفسخ النكاح. ويحتمل أن يقال في أنكحة الكفار التي نقضي بفسادها: إن كان حصل بها دخول استقرت، وإن لم يكن حصل دخول فرق بينهما. وإن أسلم الكافر أو ترافعوا إلينا والمهر فاسد وقبضته الزوجة ودخل بها الزوج استقر. وإن لم يكن دخل وقبضته فرض لها مهر المثل، ونص عليه الإمام   (1) اختيارات 224، 225 زيادات وإيضاح ف 2/ 293. (2) كذا بالأصل المطبوع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 أحمد في رواية ابن منصور؛ لأنا إنما نقر تقابض الكفار في المشهور إذا كان من الطرفين. فإذا قبضت الخمر أو الخنزير قبل الدخول لم يحصل التقابض من الطرفين، فأشبه ما لو باع خمرًا بثمن وقبضها ثم أسلم فإنا لم نحكم له بالثمن. فكذا هنا، وإن لم تقبضه فرض لها مهر المثل؛ فإن كان من مثلها محرمًا مثل أن كان عادتهم التزويج على خمر أو خنزير يحتمل وجهين. أحدهما: أن يجعل وجود ذلك كعدمه، ويكون كمن لا أقارب لها فينظر في عادة أهل البلد، وإلا فأقرب البلاد. الثاني: أن تعتبر قيمة ذلك عندهم. وفرق أصحابنا في غير هذا الموضع بين الخمر والخنزير، فكذا ههنا، فيخرج أن لها في الخنزير مهر المثل، وفي الخمر القيمة. وحيث وجبت القيمة فإن اتفقا عليها فلا كلام. وإن اختلفا فإن قامت بنية للمسلمين بالقيمة عندهم بأن يكون ذلك المسلم يعرف سعر ذلك عندهم قضي به، وإلا فالقول قول الزوج مع يمينه. وإن لم يكن سمى لها صداقًا فرض لها مهر المثل. ويتوجه أن الإسلام والترافع إن كانا قبل الدخول فلها ذلك، كما لو كان على محرم وأولى. وإن كان بعد الدخول فإيجاب مهرها فيه نظر؛ فإن الذين أسلموا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض أنكحتهم شغار ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدًا منهم بإعطاء زوجه مهرًا. وإن أسلمت الزوجة والزوج كافر ثم أسلم قبل الدخول أو بعد الدخول فالنكاح باق ما لم تنكح غيره. والأمر إليها، ولا حكم له عليها، ولا حق لها عليه؛ لأن الشارع لم يفصل، وهو مصلحة محضة، وكذا إن أسلم قبلها، وليس له حبسها، فمتى أسلمت ولو قبل الدخول أو بعده فهي امرأته إن اختار (1) .   (1) والفروع 5/ 247، والإنصاف 8/ 213. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 ونقل عنه ابن منصور في نصراني تزوج نصرانية على قلة تمر ثم أسلما: فإن دخل بها فهو جائز، وإن لم يدخل بها فلها صداق مثلها. وظاهر هذا أنه قبل الدخول يجب مهر المثل بكل حال وإن قبضت المحرم. قال أبو العباس: وهو قوي؛ إذ تقابض الكفار إنما يمضي على المشهور إذا وجد عن الطرفين، وهنا البضع لم يقبض (1) . وكذا إن ارتد الزوجان أو أحدهما ثم أسلما أو أحدهما. وإن ادعا الزوجان سبق أحدهما بالإسلام ولم يعلم عينه فللزوجة نصف المهر، قاله أبو الخطاب تفريعًا على رواية أن لها نصف المهر إن كان هو المسلم. وقال القاضي: إن لم تكن قبضته لم يجز أن تطالبه بشيء. وإن كانت قبضته لم يرجع عليها فيما فوق النصف. وقياس المذهب هنا القرعة. قال أبو العباس: وقياس المذهب فيما أراه أن الزوجة إذا أسلمت قبل الزوج فلا نفقة لها؛ لأن الإسلام سبب يوجب البينونة. والأصل عدم إسلامه في العدة فإذا لم يسلم حتى انقضت العدة تبينا وقوع البينونة بالإسلام، ولا نفقة عندنا للبائن، وإن أسلم قبل انقضائها فههنا يخرج وجهًا له. وإن أسلم الكافر وله ولد صغير تبعه في الإسلام. فإن كان تحت الصغير أكثر من أربع نسوة، فقال القاضي: ليس لوليه الاختيار منهن؛ لأنه راجع إلى الشهوة والإرادة. ثم قال في «الجامع» : يوقف الأمر حتى يبلغ فيختار. وقال في المجرد: حتى يبلغ عشر سنين. وقال ابن عقيل: حتى يراهق ويبلغ أربع عشرة سنة.   (1) الزركشي 5/ 227 ف 2/ 293. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 وقال أبو العباس: الوقف هنا ضعيف؛ لأن الفسخ واجب فيقوم الولي مقامه في التعيين كما يقوم مقامه في تعيين الواجب عليه من المال في الزكاة وغيرها (1) . ولو أسلم وتحته أربع نسوة فأسلمن معه اختار منهن أربعًا وفارق سائرهن، وليس طلاق إحداهن اختيارًا لها في الأصح (2) . لو أسلم على أكثر من أربع أو على أختين فاختار أربعًا أو إحدى الأختين فقال المصنف والشارح: يعتزل المختارات ولا يطأ الرابعة حتى تنقضي عدة المفارقة فلو كن خمسًا ففارق إحداهن فله وطء ثلاث من المختارات ولا يطأ الرابعة حتى تنقضي عدة المفارقة وعلى ذلك فقس، وكذلك الأخت. قال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: وفي هذا نظر؛ فإن ظاهر السنة يخالف ذلك. قال: وقد تأملت كلام عامة أصحابنا فوجدتهم قد ذكروا أنه يمسك أربعًا ولم يشترطوا في وطئه انقضاء العدة، لا في جمع العدد، ولا في جمع الرحم، ولو كان هذا أصل عندهم لم يغفلوه؛ فإنهم دائمًا ينبهون في مثل هذا على اعتزال الزوجة؛ كما ذكره الإمام أحمد فيما إذا وطئ أخت امرأته بنكاح فاسد أو زنا بها. وقال هذا هو الصواب فإن هذه العدة تابعة لنكاحها وقد عفا الله عن جميع نكاحها، فكذلك يعفو عن توابع ذلك النكاح. وهذا بعد الإسلام لم يجمع عقدًا ولا وطئًا. انتهى (3) . وإن طلق الجميع ثلاثًا أقرع بينهن فأخرج بالقرعة أربعًا منهن وله نكاح البواقي ... واختار الشيخ تقي الدين أن الطلاق هنا فسخ ولا يحتسب به من الطلاق الثلاث وليس باختيار (4) .   (1) وإنصاف 8/ 217. (2) اختيارات 225-227 من قوله ويحتمل أن يقال ف 2/ 293. (3) إنصاف 8/ 218 ف 2/ 293. (4) إنصاف 8/ 221 ف 2/ 293. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 وإن ظاهر أو آلى من إحداهن فهل يكون اختيارًا لها؟ على وجهين. أحدهما: لا يكون اختيارًا وهو المذهب. قال الشيخ تقي الدين: وهو الذي ذكره القاضي في «الجامع» و «المجرد» وابن عقيل (1) . ولو تزوج المرتد كافرة مرتدة كانت أو غيرها، أو تزوج المرتدة كافر ثم أسلما فالذي ينبغي أن يقال هنا: إنا نقرهم على نكاحهم أو مناكحهم، كالحربي إذا نكح نكاحًا فاسدًا ثم أسلما فإن المعنى واحد. وهذا جيد في القياس إذا قلنا: إن المرتد لا يؤمر بقضاء ما تركه في الردة من العبادات؛ لكن طرده: أنه لا يحد على ما ارتكبه في الردة من المحرمات، وفيه خلاف في المذهب. وإن كان المنصوص أنه يحد. فأما إذا قلنا أنه يؤمر بقضاء ما تركه من الواجبات ويضمن ما أتلفه ويعاقب على ما فعله من المحرمات ففيه نظر. ومما يدخل في هذا كل عقود المرتدين إذا أسلموا قبل التقابض أو بعده. وهذا باب واسع يدخل فيه جميع أحكام أهل الشرك في النكاح وتوابعه والأموال وتوابعها لو استولوا على مال مسلم أو تقاسموا ميراثًا ثم أسلموا بعد ذلك والدماء وتوابعها (2) . قوله: وإن أسلم الزوجان معًا فهما على نكاحهما. قال الشيخ تقي الدين: يدخل في المعية لو شرع الثاني قبل أن يفرغ الأول (3) . وإن كانت الردة بعد الدخول فهل تتعجل الفرقة أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين. واختار الشيخ تقي الدين هنا مثل اختياره فيما إذا أسلم أحدهما بعد الدخول كما تقدم (4) .   (1) إنصاف 8/ 222 ف 2/ 293. (2) اختيارات 215، 216 ف 2/ 293. (3) إنصاف 8/ 110 ف 2/ 293. (4) إنصاف 8/ 216 ف 2/ 293. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 باب الصداق ولا يجوز كتابة الصداق على الحرير وقاله ابن عقيل (1) . ولا يبطل المهر بذلك، واختاره الشيخ تقي الدين وابن عقيل (2) . وكلام الإمام أحمد في رواية حنبل يقتضي أنه يستحب أن يكون الصداق أربعمائة درهم، وهذا هو الصواب مع القدرة واليسار. فيستحب بلوغه ولا يزاد عليه. وكلام القاضي وغيره يقتضي أنه لا يستحب؛ بل يكون بلوغًا مباحًا (3) . ولو قيل: إنه يكره جعل الصداق دينًا سواء كان مؤخر الوفاء وهو حال أو كان مؤجلاً لكان متوجهًا، لحديث الواهبة نفسها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. والصداق المقدم إذا كثر وهو قادر على ذلك لم يكره، إلا أن يقترن بذلك ما يوجب الكراهة من معنى المباهاة ونحو ذلك. فأما إن كان عاجزًا عن ذلك فيكره؛ بل يحرم إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة. فأما إن كثر وهو مؤخر في ذمته فينبغي أن يكره هذا كله؛ لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة (4) . ولو تزوجها على مائة مقدمة ومائة مؤجلة صح. ولا تستحق المطالبة بالمؤجلة إلا بموت أو فرقة (5) نص عليه الإمام أحمد في رواية جماعة، واختاره شيوخ المذهب كالقاضي وغيره. جاء عن ابن سيرين عن شريح «أن رجلاً تزوج امرأة على عاجل وآجل إلى الميسرة فقدمته إلى شريح فقال لنا على ميسرة فآخذه لك» .   (1) اختيارات 227 ف 2/ 293 وتقدم. (2) إنصاف 1/ 480 ف 2/ 293. (3) والإنصاف 8/ 229. (4) اختيارات 227 ف 2/ 293 فيه زيادة. (5) وفي الإنصاف 8/ 244 وقال الشيخ تقي الدين: الأظهر أنهم أرادوا بالفرقة البينونة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 وقياس المذهب أن هذا الشرط صحيح؛ لأن الجهالة فيه أقل من جهالة الفرقة، وكان هذا الشرط في الحقيقة مقتضى العقد. ولو قيل بصحته في جميع الآجال لكان متوجهًا. صرح الإمام أحمد والقاضي وأبو محمد وغيرهم بأنه إذا أطلق الصداق كان حالاً. قال أبو العباس: إن كان العرف جاريًا بين أهل تلك الأرض أن المعلق يكون مؤجلاً فينبغي أن يحمل كلامهم على ما يعرفونه. ولو كانوا يفرقون بين لفظ المهر والصداق فالمهر عندهم ما يعجل والصداق ما يؤجل كان حكمهم على مقتضى عرفهم، أو تزوج امرأة اتفق معها على صداق عشرة دنانير وأنه يظهر عشرين دينارًا وأشهد عليها بقبض عشرة فلا يحل لها أن تغدر به؛ بل يجب عليها الوفاء بالشرط، ولا يجوز تحليف الرجل على وجود القبض في مثل هذه الصورة؛ لأن الإشهاد في مثل هذا يتضمن الإبراء (1) . ولو تزوجها على أن يعطيها في كل سنة تبقى معه مائة درهم. فقد يؤخذ من كلام كثير من أصحابنا أن هذه تسمية فاسدة لجهالة المسمى، وتتوجه صحته، بل هو الأشبه بأصولنا، كما لو باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، أو أكراه الدار كل شهر بدرهم، ولأن تقدير المهر بمدة النكاح بمنزلة تأجيله بمدة النكاح، إذ لا فرق بين جهالة القدر وجهالة الأجل. وعلى هذا لو تزوجها على أن يخيط لها كل شهر ثوبًا صح أيضًا؛ إذ لا فرق بين الأعيان والمنافع (2) . وإن تزوجها على منفعة داره أو عبده ما دامت زوجته. فهنا قد تبطل المنفعة قبل زوال النكاح، فإن شرط لها مثل ذلك إذا تلفت فهنا ينبغي أن يصح. وإن لم يشترط ففيه نظر (3) .   (1) اختيارات 230، 231 هذه فتوى مطولة الموجود هناك ثلاثة أسطر. (2) اختيارات 231 ف 2/ 294. (3) اختيارات 231 ف 2/ 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وإن تزوجها على أن يعلمها أو يعلم غلامها صنعة صح ذكره القاضي، والأشبه جوازه أيضًا. ولو كان المعلم أخاها أو ابنها أو أجنبيًا (1) . ولو علم السورة أو القصيدة غير الزوج ينوي بالتعليم أنه عن الزوج من غير أن يعلم الزوجة فهل يقع عن الزوج؟ فيتوجه أن يقال: إذا قلنا لا يجبر الغريم على استيفاء الدين من غير المدين لم يلتفت إلى نيته إذ لم يظهرها؛ لأن هذا الاستيفاء شرط بالرضا، والغريم المستحق لم يرض أن يستوفي دينه من غير المدين. وإن قلنا يجبر المستحق على الاستيفاء من غير الغريم فيتوجه أن يؤثر مجرد دينه الموفى. ويقبل قوله فيما بعد (2) . قال في «المحرر» : كل ما صح عوضًا في بيع أو إجارة صح مهرًا إلا منافع الزوج الحر المقدرة بالزمان فإنها على روايتين. وأما القاضي في التعليق فأطلق الخلاف في منافع الحر من غير تقييد بزوج، وكذلك ابن عقيل. وأما أبو الخطاب والشيخ أبو محمد في «المقنع» فلفظهما: إذا تزوجها على منافعه مدة معلومة فعلى روايتين. فاعتبر صاحب «المحرر» القيدين الزوجية والحرية. ولعل مأخذ المنع أنها ليست بمال كقول أبي حنيفة. وسلمه القاضي ولم يمنعه في غير موضع. وقال أبو محمد: هذا ممنوع؛ بل هي مال وتجوز المعاوضة عليها. قال أبو العباس: والذي يظهر في تعليل رواية المنع أنه لما فيه من كون كل من الزوجين يصير ملكًا للآخر؛ فكأنه يفضي إلى تنافي الأحكام، كما لو تزوجت عبدها. وعلى هذا التعليل إذا كانت المنفعة لغيرها أن تصح. وعلى   (1) اختيارات 228 ف 2/ 294. (2) اختيارات 230 ف 2/ 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 هذا تخرج قصة موسى مع شعيب. موجب هذا التعليل: أن المرأة لا تستأجر إجارة معينة مقدرة بالزمان، وإن كل واحد من الزوجين لا يستأجر الآخر. ويجوز أن يكون المنع مختصًا بمنفعة الخدمة خاصة لما فيه من المهنة والمنافاة وإذا لم تصح المنافع (1) صداقًا فقياس المذهب أنه تجب قيمة المنفعة المشروطة إلا إذا علما أن هذه المنفعة لا تكون صداقًا فيشبه ما لو أصدقها مالاً مغصوبًا في أن الواجب مهر المثل في أحد الوجهين (2) . ولو تزوجها على عبد فبان نصفه مستحقًا خيرت بين أخذه وقيمة التالف وبين قيمة الكل. وتقدم اختيار الشيخ تقي الدين أنه لا يلزمه شيء (3) . ذكر الزركشي عن الشيخ تقي الدين في بعض قواعده جواز فسخ المرأة النكاح إذا ظهر المعقود عليه حرًا أو مغصوبًا أو معيبًا (4) . والأوجه أنه إذا تزوج بنية أن يعطيها صداقًا محرمًا، أو لا يوفيها الصداق أن الفرج لا يحل له، فإن هذا لم يستحل الفرج بماله. فلو تاب من هذه النية ينبغي أن يقال: حكمه حكم ما لو تزوجها بعين محرمة والمرأة لا تعلم تحريمها (5) . لو شرط [الأب] جميع المهر له صح كشعيب عليه السلام، وشرط عدم الإجحاف القاضي في المجرد ... قال الشيخ تقي الدين: وهذا ضعيف ولا يتصور الإجحاف لعدم ملكها له (6) .   (1) وفي الإنصاف الخدمة. (2) الإنصاف 8/ 229، 230 والاختيارات 228 ف 2/ 294. (3) إنصاف 8/ 247 ف 2/ 294. (4) إنصاف 8/ 248 ف 2/ 294. (5) اختيارات 227 ف 2/ 294. (6) إنصاف 8/ 249 ف 2/ 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 وإن لم يحصل للمرأة ما أصدقها لم يكن النكاح لازمًا ولو أعطيت بدله كالبيع، وإنما يلزم ما ألزم به الشارع أو التزمه المكلف، وما خالف هذا القول فضعيف مخالف للأصول. فإذا لم نقل بامتناع العقد بتعذر تسليم المعقود عليه فلا أقل من أن يملك المرأة الفسخ. فإن أصدقها شيئًا معينًا وتلف قبل قبضه ثبت للزوجة فسخ النكاح، وإن كان الشرط باطلاً ولم يعلم المشترط ببطلانه لم يكن العقد لازمًا؛ بل إن رضي بدون الشرط وإلا فله الفسخ. وإن تزوجها على أن يشتري عبد زيد فامتنع زيد من بيعه فأعطاها قيمته ثم باعه زيد العبد فهل تملك رد البدل وأخذ العبد؟ تردد فيه أبو العباس. ولو أصدقها عبدًا بشرط أن تعتقه فقياس المشهور من المذهب أنه يصح كالبيع (1) . والذي ينبغي في سائر أصناف المال كالعبد والشاة والبقرة والثياب ونحوها أنه إذا أصدقها شيئًا من ذلك أن يرجع فيه إلى مسمى ذلك اللفظ في عرفها، كما نقول في الدراهم والدنانير المطلقة في العقد. وإن كان بعض ذلك غالبًا أخذته كالبيع، أو كانت عادتها اقتناؤه أو لبسه (2) فهو كالملفوظ به. ونص الإمام أحمد في رواية جعفر النسائي: أنه إذا أصدقها عبدًا غير معين من عبيده أنه يصح، ولها الوسط على قدر ما يخدم مثلها (3) . ونقلها دليل على أنه لم يعتبر الخادم مطلقًا وإنما اعتبر ما يناسبها. قال أبو العباس في الخلع: ولو خالعها على عبد مطلق لو قيل   (1) اختيارات 228، 229 ف 2/ 294. (2) الإنصاف «أو كان من عادتها» . (3) عبارة الإنصاف: «وهذا تقييد للوسط مما يخدم مثلها» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 يجب ما يجزئ عتقه في الكفارة وما يجب في النذر المطلق لكان أقرب إلى القياس، إلا أنه لا يعتبر فيه الإيمان. أطلق القاضي أنه إذا تزوجها على بيت أنه لا يصح، واستدل بمسألة مثنى في الحضرية ومفهومها أن البدوية ليست كذلك، وهذا أشبه؛ لأن بيوت البادية من جنس واحد كالخادم؛ بخلاف الحضر فإن بيوتهم تختلف جنسًا وقدرًا وصفة اختلافًا متفاوتًا (1) . ولو أراد أن يغير المهر مثل تبديل نقد بنقد أو تأجيل الحال أو إحلال المؤجل ونحو ذلك فموجب تعليل أصحابنا في الفرق بين النكاح والبيع والإجارة أن هذا لا يصح؛ لأن هذا ليس تبديل فرض بفرض وإنما هو تغيير لذلك الفرض (2) . وإذا أعتق أمته على أن تزوجه نفسها ويكون عتقها صداقها؟ قال القاضي: هي بالخيار إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تتزوجه، وتابعه أبو محمد وأبو الخطاب وغيرهما؛ لأنه سلف في النكاح فلا يلزم الوفاء به. ويتوجه صحة السلف في العقود كلها كما يصح في العتق، ويصير العتق مستحقًا على المسلف إن فعله وإلا قام الحاكم مقامه في توفية العقد المستحق، كما يقوم مقامه في توفية الأعيان والمنافع؛ لأن العقد منفعة من المنافع فجاز السلم فيه كالصناعات، وهذا بمنزلة الهبة المشروط فيها الثواب. والمنصوص عن الإمام أحمد في اشتراط التزويج على الأمة إذا أعتقها لزم هذا الشرط قبلت أم لم تقبل، كاشتراط الخدمة. قال أحمد بن القاسم: سئل أحمد عن الرجل يعتق الجارية على أن يتزوجها يقول: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك، أو يقول أعتقتك على أن   (1) اختيارات 229، 230 ف 2/ 294. (2) اختيارات 232 ف 2/ 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 أتزوجك؟ قال: هو جائز، وهو سواء: أعتقتك وتزوجتك وعلى أن أتزوجك إذا كان كلامًا واحدًا إذا تكلم به فهو جائز. وهذا نص من الإمام أحمد على أن قوله «على أن أتزوجك» بمنزلة قوله: «وتزوجتك» وكلامه يقتضي أنها تصير زوجة بنفس هذا الكلام. وعلى قول الأولين إذا لم يتزوجها ذكروا أنه يلزمها قيمة نفسها، سواء كان الامتناع منه أو منها. وهذا فيه نظر إذا كان الامتناع منه. ويتخرج على قولهم أنها تعتق مجانًا. ويتخرج إلى أنه يرجع إلى بدل العوض لا إلى بدل العتق، وهو قياس المذهب وأقرب إلى العدل؛ إذ الرجل طابت نفسه بالعتق إذا أخذ هو العوض، وأخذ بدله قائم مقامه (1) . ومن أعتقت عبدها على أن يتزوج بها أو بسواها أو بدونه عتق ولم يلزمه شيء ذكره أصحابنا. وعلله ابن عقيل بأنها اشترطت عليه تمليك البضع وهو لا قيمة له، وعلله القاضي بأنه سلف في النكاح، والحظ في النكاح للزوج. وهذا الكلام فيه نظر؛ فإن الحظ في النكاح للمرأة؛ ولهذا ملك الأولياء أن يجبروها عليه دون الرجل. وملك الولي في الجملة أن يطلق على الصغير والمجنون ولم يملك ذلك من الصغيرة ولو أراد أن يفسخ نكاحها. ومعلوم أنها اشترطت نفقة ومهرًا أو استمتاعًا وهذا مقصود، كما أنه إذا أعتقها على أن يتزوجها شرط عليه استمتاعًا تجب عليه بإزائه النفقة. وأما إذا خير بين الزواج وعدمه فيتوجه أن عليه قيمة نفسه. وإذا قبل التزويج فليس عليه إلا مهر المثل، فإنه مقتضى النكاح المطلق. وإنما أوجبنا عليه بالمفارقة قيمة نفسه لأن العوض المشروط في   (1) اختيارات 233، 234 ف 2/ 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 العقد هو تزوجه بها ولا قيمة له في الشرع فيكون كما لو أعتقته على عوض لم يسلم لها. ويتوجه أنه إذا لم يتزوجها يعطيها مهر المثل أو نصفه؛ لأنه هو الذي تستحقه عليه إذا تزوجها؛ فإنه يملك الطلاق بعد ذلك، وإنما يجب لها بالعقد مهر المثل. وهذا البحث يجري فيما إذا أعتق عبده على أن يزوجه أخته أو يعتقها. وإذا لم نصحح الطلاق مهرًا فذكر القاضي في الجامع وأبو الخطاب وغيرهما أنها تستحق مهر المثل لفساده. والمحكي في المجرد عن أبي بكر أنها تستحق مهرًا بضده. وقاله ابن عقيل وهو أجود. فإن الصداق وإن كان له بدل عند تعذره فله بدل عند فساد تسميته. هذا قياس المذهب. ولو قيل ببطلان النكاح هنا لم يبعد؛ لأن المسمى فاسد لا بدل له، فهو كالخمر، وكنكاح السفاح (1) وإذا صححنا إصداق الطلاق فماتت الضرة قبل الطلاق فقد يقال: حصل مقصودها من الفرقة فأبلغ الطرق فيكون كما لو أوفى عنه المهر أجنبي. وفيه نظر. والذي ينبغي في الطلاق أنه إذا كان السائل له ليخلص المرأة جاز له بذل عوضه سواء كان نكاحًا أو مالاً كإن كانت له امرأة يضربها ويؤذيها فقال: طلق امرأتك على أن أزوجك بنتي فهذا سلف في النكاح. أو قال: زوجتك بنتي على طلاق امرأتك. فهذه مسألة إصداق الطلاق. والأشبه أن يقال في مثل هذا: إن الطلاق يصير مستحقًا عليه، كما لو قال خذ هذا الألف على أن تطلق امرأتك، وهذا سلف في الطلاق وليس يمتنع كما تقدم.   (1) في الإنصاف كنكاح الشغار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 وأما إن كان باذل العوض لغرض ضرر المرأة فههنا لا يجوز، للحديث فعلى هذا لو خالعت الضرة عن ضرتها بمال أو خالع أبوها فهنا ينبغي ألا يجوز هذا، كما لا يجوز أن يخالع الرجل لو كان مقصوده التزوج بالمرأة. فلو كان مقصوده تزويج المرأة بالأجنبي ينظر في مسألة الطلاق إن كانت محرمة فله حكم، وإن كانت مباحة أو مستحقة فله حكم. وإذا كان الأجنبي قد حرم عليه أن يسأل الطلاق فهل يحل للزوج أن يجيبه ويأخذ العوض وهذا نظير بيعه إياه على بيع أخيه (1) . ولو ادعى الزوج أن الصداق تكرر في عقد واحد، وقالت: بل هما عقدان بينهما فرقة. فالقول قولهما، ولهما المهران. هذا قول أبي الخطاب والجد. وينبغي أن يكون القول قوله؛ لأن الأصل عدم الفرقة بينهما. والأصل براءة ذمته مما زاد على المهر الثاني، ولا تستحق إلا نصفه؛ لأن الأصل عدم الدخول، ولم يثبت ببينة ولا إقرار قاله القاضي. وقال أبو محمد: إن أنكر الدخول فالقول قوله، وإن لم ينكره ولم يعترف به فالقول قولها في وجود الدخول. قال أبو العباس: وهكذا يجيء في كل صورة ادعت عليه صداقًا في نكاح فأنكر الزوج وقامت البينة ووقع منه الطلاق هل يحكم عليه بجميع المسمى، أو بنصفه، أو يفرق بين ادعائه المسقط وعدمه؟ على الأوجه. ومأخذ المسألة أن الصداق إذا ثبت بالعقد وحصلت الفرقة فهل يحكم عليه ما لم يدع عدم الدخول (2) . والزيادة في المهر هل يفتقر لزومها إلى قبول الزوجة؟ ينبغي أن يكون كابتداء الفرض بعد الفرض. فلو فرض لها أكثر من مهر المثل   (1) اختيارات 233-235 ف 2/ 294. (2) اختيارات 232، 233 ف 2/ 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 فهل يلزم بمجرد فرضه؟ كلام أحمد «زادها في فرضها» مطلق لم يفصل بين أن تكون قبلتها أم لا (1) . ولو زوج موليته بدون مهر مثلها ولم يكن أبا لزم الزوج المسمى والتمام على الولي، وهو رواية عن الإمام أحمد كالوكيل في البيع. ويتحرر لأصحابنا فيما إذا زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أزيد روايات: إحداهن: أنه على الابن مطلقًا، إلا أن يضمنه الأب فيكون عليهما. الثانية: انه يضمنه فيكون عليه وحده. الثالثة: أنه على الأب ضمانًا. الرابعة: أنه عليه أصالة. الخامسة: أنه إذا كان الابن مقرًا فهو على الأب أصالة. السادسة: الفرق بين رضا الابن وعدم رضاه. وضمان الأب المهر والنفقة على الابن قد يكون بلفظ الضمان، وقد يكون بلفظ آخر: مثل أن يقول: الذي لي لابني، أو أنا وابني شيء واحد، وهل يترك والد ولده؟ ونحو ذلك من الألفاظ التي تغريهم حتى يزوجوا ابنه. وقد يكون بدلالة الكلام، وقد يذكر الأب ما يقتضي أنه قد ملك ابنه مالاً، أو يخبرهم بذلك فيزوجوه على ذلك، مثل أن يقول: أنا أعطيته عشرة آلاف درهم، أو له عشرة آلاف درهم، ونحو ذلك؛ فهنا ينبغي أن يتعلق حقهم بهذا القدر من مال الأب.   (1) اختيارات 232 ف 2/ 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 ونفقة الزوجة قبل بلوغ الزوج أو قبل رضاه ينبغي أن تكون كالمهر. قال القاضي في «الجامع» : إذا مات الأب الذي عليه مهر ابنه فأخذ من تركته فإنه يرجع به على الابن نص عليه في رواية ابن منصور والبرزالي. قال القاضي: يحتمل أن يكون أثبت له ذلك بناء على الرواية التي تقول: إن من ضمن عن غيره بغير إذنه يرجع. ويحتمل أن يحمل على الرواية الأخرى، وأنه تطوع بذلك؛ لكن على أن يحصل القبض منه. وعلى هذا حمله أبو حفص. قال أبو العباس: ولا يتم الجواب إلا بالمأخذين جميعًا. وذلك أن الأب قائم مقام ابنه، فلو ضمنه أجنبي بإذنه صح، فإذا ضمنه هو فأولى أن يكون ضمانًا لازمًا للابن. وإذا كان له أن يثبت المال في ذمته بدون ضمانه فضمانه وقضاؤه أولى. قال القاضي في «الجامع» : إذا ضمنه الأب لزمه كما لو ضمنه أجنبي. وإذا أقبضه إياه فهل يملك الرجوع به على الأب؟ على روايتين. أصلهما ضمان الأجنبي عن غيره بغير إذنه. قال أبو العباس: بل يرجع قولاً واحدًا؛ لأنه قائم مقام ابنه في الإذن لنفسه، كما لو ضمن أجنبي بإذن نفسه. ولو وفى الإنسان عن غيره دينًا من صداق أو غيره كان للمستوفي أخذه له وفاء عن دينه وبدلاً عنه. وأما الموفى عنه إذا لم يرجع به عليه فهو متبرع عليه. ثم هل ملكه الموفى عنه ثم انتقل إلى الموفي بحيث يقال: لو انفسخ يثبت الاستحقاق أو بعضه كالطلاق قبل الدخول وفسخ البيع كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 للموفى عنه، أو لم يملك فيعود إلى الموفي؟ الراجح أنه لا يجب انتقاله (1) . ولو قيل في كل موضع تبرعت المرأة بالصداق ثم وقع الطلاق وهو باق بعينه أنه يرجع بالنصف على من هو في يده، وكذلك في جميع الفسوخ لم يبعد، بخلاف ما لو خرج بمعاوضة (2) . وللمرأة منع نفسها حتى تقبض مهرها. قال الشيخ تقي الدين: الأشبه عندي أن الصغيرة تستحق المطالبة لها بنصف الصداق؛ لأن النصف يستحق بإزاء الحبس وهو حاصل بالعقد، والنصف الآخر بإزاء الدخول فلا يستحق إلا بالتمكين (3) . والنقد المتقدم محسوب من الصداق وإن لم يكتب في الصداق إذا تواطئوا عليه، ويطالب بنصفه عند الفرقة قبل الدخول لأن الشرط المتقدم كالمقارن إلا أن يفتوا بخلاف ذلك (4) . مسألة: وإذا أبرأت المرأة زوجها من صداقها ثم طلقها فهل لها الرجوع إذا كان يمكنها، لكون مثل هذا الإبراء لا يصدر في العادة إلا على أن يمسكها أو خوفًا من أن يطلقها أو يتزوج عليها أو نحو ذلك؟ فيه قولان هما روايتان عن أحمد. وأما إذا كانت نفسها قد طابت بالإبراء مطلقًا وهو أن يكون ابتداء منها لا بسبب منه ولا عوض فهنا لا ترجع بلا ريب. والله أعلم (5) .   (1) اختيارات ص 236، 237 ف 2/ 294. (2) اختيارات 231 ف 2/ 295. (3) إنصاف 8/ 301 ف 2/ 294. (4) اختيارات 233 ف 2/ 294. (5) مختصر الفتاوى 462 ف 2/ 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 وإذا ادعى الابن على أبيه بصداق أمه وكسوتها الماضية قبل موتها فعلى الأب أن يوفيه ما يستحقه من ذلك (1) . ومن أعطى قومًا شيئًا واتفقوا على أن يزوجوه بنتهم فماتت البنت لم يكن له أن يرجع عليهم بشيء مما أعطاهم، وإن كانوا لم يفوا له بما طلبه منهم فله الرجوع (2) . وقال ابن العباس: وقد كتبت عن الإمام أحمد فيما إذا أهدى لها هدية بعد العقد فإنها ترد ذلك إليه إذا زال العقد الفاسد. فهذا يقتضي أن ما وهبه لها بسبب النكاح فإنه يبطل إذا زال النكاح، وهو خلاف ما ذكره أبو محمد وغيره. وهذا المنصوص جار على أصول المذهب الموافق لأصول الشريعة، وهو أن كل من أهدي له شيء أو وهب له شيء بسبب يثبت بثبوته ويزول بزواله، ويحرم بحرمته ويحل بحله حيث جاز في تولي الهدية مثل من أهدي له للقرض فإنه يثبت له فيه حكم بدل القرض، وكذلك من أهدي له لولاية مشتركة بينه وبين غيره كالإمام وأمير الجيش وساعي الصدقات فإنه يثبت في الهدية حكم ذلك الاشتراك. ولو كانت الهدية قبل العقد وقد وعدوه بالنكاح فزوجوا غيره رجع بها (3) . وقال الشيخ تقي الدين: ما قبض بسبب النكاح فكمهر. وقال أيضًا: ما كتب فيه المهر لا يخرج بطلاقها (4) . وإذا اختلف الزوجان في قدر الصداق فالقول قول الزوج مع يمينه. وقال الشيخ تقي الدين: يتخرج لنا قول كقول مالك إن كان   (1) مختصر الفتاوى 455 ف 2/ 294. (2) مختصر الفتاوى 433 ف 2/ 294. (3) اختيارات 232 ف 2/ 294. (4) إنصاف 8/ 289 ف 2/ 294. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 الاختلاف قبل الدخول تحالفًا. وإن كان بعده فالقول قول الزوج (1) . تنبيه: إذا قلنا يتعلق المهر بذمة السيد ضمانًا فقضاه عن عبده فهل يرجع إليه إذا عتق؟ قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ينبغي أن يخرج هنا على الخلاف في مهر زوجته إذا كانت أمة للسيد فحيث رجع هناك رجع هنا (2) . ... ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله إنما صار إلى الواجب خمسا المسمى توقيفًا؛ لأنه نقل عن عثمان. ووجهها الشيخ تقي الدين فقال: المهر في نكاح العبد ويجب بخمسة أشياء: النكاح، وعقد الصداق، وإذن السيد في النكاح، وإذنه في الصداق، والدخول. فإذا نكح بلا إذنه فالنكاح باطل ولم يوجد إلا التسمية من العبد والدخول فيجب الخمسان (3) . ولو صالحت عن صداقها المسمى بأقل جاز؛ لأنه إسقاط لبعض حقها. ولو صالحته على أكثر من ذلك بطل الفضل؛ لأن في ذلك ربا؛ لأنه زيادة على حقها. وقياس المذهب جوازه لأنه زيادة على المهر بعد العقد وذلك جائز، وصححنا أنه يصح أن يصطلحا على مهر المثل بأقل منه وأكثر مع أنه واجب بالعقد (4) . ويتقرر المهر بالخلوة وإن منعته الوطء، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب. وقيل له: فإن أخذها وعندها نسوة وقبض عليها ونحو ذلك من غير أن يخلو بها؟ قال: إذا نال منها شيئًا لا يحل لغيره فعليه المهر. وإن قلنا لا مهر بالخلوة في النكاح الفاسد على قولنا بوجوب   (1) إنصاف 8/ 289 ف 2/ 294. (2) إنصاف 8/ 255 ف 2/ 294. (3) إنصاف 8/ 258 ف 2/ 294. (4) اختيارات 232 ف 2/ 296. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 العدة فيه والفسخ لاعتبار الزوج بالمهر أو النفقة نظير الفسخ لعنة بالزوج، فيتخرج منه التنصيف على الرواية المنصوصة عنه فيه، فإن لها نصف المهر، لكونها معذورة في الفسخ. ويتخرج ويلزم على قول من قال: إن خروج البضع من ملك الزوج يتقوم (1) . ولا تقبل دعوى عدم علمه بها، والمنصوص ولو أنه أعمى؛ لأن العادة أنه لا يخفى عليه ذلك، فقد قدم أصحابنا هنا العادة على الأصل، فكذا دعوى إنفاقه؛ فإن العادة هناك أقوى قاله شيخنا (2) . ولا بد من اعتبار العصر في مهر المثل؛ فإن الزمان إن كان زمان رخص رخص وإن زادت المهور. وإن كان زمن غلاء وخوف نقص. وقد تعتبر عادة البلد والقبيلة في زيادة المهر ونقصه. وينبغي أيضًا اعتبار الصفات المعتبرة في الكفاءة. فإن كان أبوها موسرًا ثم افتقر أو ذا صنعة جيدة ثم تحول إلى دونها، أو كانت له رئاسة وملك ثم زالت عنه تلك الرئاسة والملك فيجب اعتبار مثل هذا. وكذلك لو كان أهلها لهم عز في أوطانهم ورئاسة فانقلبوا إلى بلد ليس لهم فيه عز ولا رئاسة، فإن المهر يختلف بذلك في العادة. وإن كانت عادتهم يسمون مهرًا ولكن لا يستوفونه قط مثل عادة أهل الجفاء مثل الأكراد وغيرهم فوجوده كعدمه. والشرط المتقدم كالمقارن. والإطراد العرفي كالمقتضي. قال أبو العباس: وقد سئلت عن مسألة من هذا وقيل لي: ما مهر مثل هذه؟ فقلت: ما جرت العادة بأنه يؤخذ من الزوج. فقالوا: إنما يؤخذ المعجل قبل الدخول. فقلت: هو مهر مثلها (3) .   (1) اختيارات 237 ف 2/ 295. (2) فروع 5/ 272 وإنصاف 8/ 284 ف 2/ 295. (3) اختيارات 238 ف 2/ 295. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 وإن اختلفا في قبض المهر فالمتوجه إن كانت العادة الغالبة جارية بحصول القبض في هذه الديون أو الأعيان فالقول قول من يوافق العادة، وهو جار على أصولنا وأصول مالك في تعارض الأصل والعادة، والظاهر أنه يرجح. وفرق بين دلالة الحال المطلقة العامة وبين دلالة الحال المقيدة المخصوصة. فأما إن كانت الزوجة وقت العقد فقيرة ثم وجد معها ألف درهم فقال هذا هو الصداق، وقالت أخذته من غيره ولم تعين ولم يحدث لها قبض مثله فهو نظير تعليم السورة المشروطة وفيها وجهان. ونظيره الإنفاق عليها والكسوة. وفي هذه المواضع كلها إذا أظهرت جهة القبض الممكن منها كالممكن من الزوج فينبغي أن يكون القول قولها. وإلا فلا (1) . ومن عرفت أنها زوجة فلان وأنه تزوجها ولم يسم لها صداقًا. فمات. فلها المطالبة بمهر المثل ولو لم يكن لها بينة بمقدار الصداق. وعليها اليمين أنها لم تبرؤه ولم تقبض صداقها (2) . والأب هو الذي بيده عقدة النكاح، وهو رواية عن الإمام أحمد، وقاله طائفة من العلماء. وليس في كلام الإمام أحمد أن عفوه صحيح لأن بيده عقدة النكاح، بل لأن له أن يأخذ من مالها ما شاء. وتعليل الإمام أحمد بالأخذ من مالها ما شاء يقتضي جواز العفو بعد الدخول على الصداق كله. وكذلك سائر الديون. والأشبه في مسألة الزوجة الصغيرة أنه يستحق وليها المطالبة لها   (1) اختيارات 239، 240 ف 2/ 295. (2) مختصر الفتاوى 606 ف 2/ 295. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 بنصف الصداق والنصف الآخر لا يطالب به إلا إذا مكنت من نفسها؛ لأن النصف مستحق بإزاء الحبس وهو حاصل بالعقد، والنصف الآخر بإزاء الدخول فلا تستحقه إلا ببذل نفسها (1) . إذا دخل بها وكان قد سمى لها صداقًا ثم طلقها فلا متعة لها. وعنه لها المتعة، وعنه تجب لكل مطلقة. وعنه تجب للكل إلا لمن دخل بها وسمى لها مهرًا. قال الشيخ تقي الدين عن هذه الرواية الثالثة صوابه إلا من سمي مهرها ولم يدخل بها. قال: وإنما هذا زيغ حصل من قلم صاحب «المحرر» (2) . وتجب المتعة لكل مطلقة وهو رواية عن الإمام أحمد نقلها حنبل، وهو ظاهر دلالة القرآن. واختار أبو العباس في الاعتصام بالكتاب والسنة أن لكل مطلقة متعة إلا التي لم يدخل بها وقد فرض لها وهو رواية عن الإمام أحمد وقاله عمر. وإذا أوجبنا المتعة للمدخول بها وكان الطلاق بائنًا أو رجعيًا فينبغي أن تجب لها أيضًا مع نفقة العدة حيث أوجبناها، وتكون نفقته الرجعية مغنية عن متاع آخر بحيث لا يجب لها كسوتان (3) . وإن مات أحدهما ورثه صاحبه، ولها مهر نسائها. وقيل عنه: لا مهر لها. قال الشيخ تقي الدين: في القلب حزازة من هذه الرواية، والمنصوص عنه في رواية الجماعة أن لها مهر المثل على حديث بروع بنت واشق نص عليه في رواية علي بن سعيد وصالح ومحمد بن الحكم والميموني وابن منصور وحمدان بن علي وحنبل. قال: ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله رواية تخالف السنة وإجماع الصحابة بل الأمة؛ فإن   (1) اختيارات 238 فيه زيادة ف 2/ 295. (2) إنصاف 8/ 302، 303 ف 2/ 295. (3) اختيارات 237، 238 ف 2/ 295. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 القائل قائلان: قائل بوجوب مهر المثل وقائل بسقوطه، فعلمنا أن ناقل ذلك غالط عليه. والغلط إما في النقل (1) وإما ممن دونه: في السمع، أو في الحفظ، أو في الكتاب؛ إذ من أصل الإمام أحمد الذي لا خلاف عنه فيه أنه لا يجوز الخروج عن أقوال الصحابة ولا يجوز ترك الحديث الصحيح من غير معارض له من جنسه، وكان رحمه الله شديد الإنكار على من يخالف ذلك فكيف يفعله هو -مع أمانته- من غير موافقة لأحد؟ ومع أن هذا القول لا حظ له في الآية، ولا له نظير. هذا مما يعلم قطعًا أنه باطل (2) . قال أصحابنا وغيرهم: يجب مهر المثل للموطوءة بشبهة. وينبغي أنه إذا أمكن أن يكون في وطء الشبهة مسمى فيكون هو الواجب؛ فإن الشبهة ثلاثة أقسام: شبهة عقد، وشبهة اعتقاد، وشبهة ملك. فأما عقد النكاح فلا ريب فيه. وأما عقد البيع فإنه إذا وطئ الجارية المشتراة شراء فاسدًا فالأشبه ألا مهر ولا أجرة لمنافعها. وأما شبهة الاعتقاد فإن كان الاشتباه عليه فقط فينبغي ألا يجب لها مهر. وإن كان عليها فقط فإن اعتقدت أنه زوجها فلا يبعد أن يجب لها المهر المسمى. وأما شبهة الملك: مثل مكاتبته وأمة مكاتبته والأمة المشتركة فإن كان قد اتفق مع مستحق المهر على شيء فينبغي أن لا يجب سواه.   (1) لعله الناقل. (2) إنصاف 8/ 298 ف 2/ 295. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وهذا قياس ضمان الأعيان والمنافع فإنها تضمن بالقيمة، إلا أن يكون المالك قد اتفق مع المتلف على غير ذلك، سواء كان الإتلاف حلالاً أو حرامًا. وإذا تكرر الوطء في نكاح الشبهة فلا ريب أن الواجب مهر واحد، كما تجب عدة واحدة (1) . وقوله: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة. وظاهر كلام الشيخ تقي الدين. أنه لا يجب لها مهر، لأنه قال: البضع إنما يتقوم على زوج أو شبهه فيملكه (2) . «والمكرهة على الزنا» وعنه: يجب للبكر خاصة، وعنه لا يجب مطلقًا، ذكرها واختارها الشيخ تقي الدين، وقال: هو خبيث (3) . ولا يجب المهر للمكرهة على الزنا. وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة واختيار أبي البركات. وذكر أبو العباس في موضع آخر عن أبي بكر التفرقة فأوجبه للبكر دون الثيب، ورواه ابن منصور عن الإمام أحمد. لكن الأمة البكر إذا وطئت مكرهة أو بشبهة أو مطاوعة فلا ينبغي أن يختلف في وجوب أرش البكارة، وهو ما نقص من قيمتها بالثيوبة. وقد يكون بعض القيمة أضعاف مهر مثل الأمة. ومتى خرجت منه زوجته بغير اختياره بإفسادها أو بإفساد غيرها أو بيمينه لا تفعلي شيئًا ففعلته: فله مهرها. وهو رواية عن الإمام أحمد كالمفقود؛ بناء على الصحيح أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم، وهو رواية عن الإمام أحمد.   (1) اختيارات 239، 240 ف 2/ 296. (2) إنصاف 8/ 306 ف 2/ 296. (3) إنصاف 8/ 304 ف 2/ 296. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 والفرقة إن كانت من جهتها فهي كإتلاف البائع. فيخير على المشهور بين مطالبتها بمهر المثل وضمان المسمى لها وبين إسقاط المسمى (1) . باب وليمة العرس الوليمة تختص بطعام العرس في مقتضى كلام أحمد في رواية المروذي. وقيل: تطلق على كل طعام لسرور حادث، وقاله القاضي في «الجامع» . وقيل: تطلق على ذلك إلا أنه في العرس أظهر (2) . تستحب الوليمة بالعقد ... وقال الشيخ تقي الدين: تستحب بالدخول (3) . ووقت الوليمة في حديث زينب وصفته تدل على أنه عقب الدخول (4) . والإجابة إليها واجبة. وقيل: مستحبة، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله (5) . قال في الترغيب والبلغة: إن علم حضور الأرذال ومَنْ مجالستهم تزري بمثله لم تجب إجابته. قال الشيخ تقي الدين على هذا القول: لم أره لغيره من أصحابنا. قال: وقد أطلق الإمام أحمد رحمه الله الوجوب واشتراط الحل وعدم المنكر. فأما هذا الشرط فلا أصل له، كما أن   (1) اختيارات 240 ف 2/ 296. (2) اختيارات 240، 241 ف 2/ 296. (3) إنصاف 8/ 317 ف 2/ 296. (4) اختيارات 240 ف 2/ 296. (5) إنصاف 8/ 318 ف 2/ 296. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 مخالطة هؤلاء في صفوف الصلاة لا تسقط الجماعة، وفي الجنازة لا تسقط حق الحضور، فكذلك ههنا. وهذه شبهة الحجاج بن أرطاة، وهو نوع من التكبر فلا يلتفت إليه. نعم إن كانوا يتكلمون بكلام محرم فقد اشتملت الدعوة على محرم، وإن كان مكروهًا فقد اشتملت على مكروه، وأما إن كانوا فساقًا لكن لا يأتون بمحرم ولا مكروه لهيبته في المجلس فيتوجه أن يحضر إذا لم يكونوا ممن يهجرون مثل المستترين. أما إن كان في المجلس من يهجر ففيه نظر. والأشبه جواز الإجابة لا وجوبها. اهـ (1) . وقال أبو داود: قيل لأحمد تجيب دعوة الذمي؟ قال: نعم. قال الشيخ تقي الدين: قد يحمل كلامه على الوجوب (2) . والدعاء إلى الوليمة إذن في الأكل والدخول، قاله في المغني. وقال في المحرر: لا يباح الأكل إلا بصريح إذن أو عرف، وكلام الشيخ عبد القادر يوافقه، وما قالاه مخالف لما عليه عامة الأصحاب (3) . وأعدل الأقوال إنه إذا حضر الوليمة، وهو صائم إن كان ينكسر قلب الداعي بترك الأكل فالأكل أفضل. وإن لم ينكسر قلبه فإتمام الصوم أفضل. ولا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في تناول الطعام للمدعو إذا امتنع، فإن كلا الأمرين جائز. ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع، فإن فطره جائز. فإن كان ترك الجائز مستلزما لأمور محذورة ينبغي أن يفعل ذلك الجائز، وربما يصير واجبا (4)   (1) الإنصاف 8/319 ف 2/296. (2) إنصاف 8/320 ف 2/296. (3) اختيارات 242 ف 2/296. (4) اختيارات 240 ف 2/296. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 والأشبه جواز الأجابة لا وجوبها إذا كان في مجلس الوليمة من يهجره (1) . والحضور مع الإنكار المزيل على قول عبد القادر هو حرام، وعلى قول القاضي والشيخ أبي محمد هو واجب. والأقيس بكلام الإمام أحمد في التخيير عند المنكر المعلوم غير المحسوس أن يخير بينهما أيضا، وإن كان الترك أشبه بكلامه لزوال المفسدة بالحضور والإنكار؛ لكن لا يجب لما فيه من تكليف الإنكار. ولأن الداعي أسقط حرمته باتخاذه المنكر. ونظر هذا إذا مر بمتلبس بمعصية هل يسلم عليه، أو يترك التسليم؟ وإن خافا أن يأتوا بالمحرم ولم يغلب على ظنهم أحد الطرفين فقد تعارض الواجب وهو الدعوة والمبيح وهو خوف شهود الخطيئة فينبغي ألا يجب؛ لأن الموجب لم يسلم من المعارض المساوي، ولا يحرم؛ لأن المحرم كذلك؛ فينتفي الوجوب والتحريم وينبغي الجواز. ونصوص الإمام أحمد كلها تدل على المنع من اللبث في المكان المضر. وقاله القاضي، وهو لازم للشيخ أبي محمد حيث جزم بمنع اللبث في مكان فيه الخمر وآنية الذهب والفضة، ولذلك مأخذان. أحدهما: أن إقرار ذلك في المنزل منكر فلا يدخل إلى مكان فيه ذلك. وعلى هذا فيجوز الدخول إلى دور أهل الذمة وكنائسهم وإن كانت فيها صور؛ لأنهم يقرون على ذلك فإنهم لا ينهون عن ذلك كما ينهون عن إظهار الخمر. وبهذا يخرج الجواب عما احتج به أبو محمد. ويكون منع الملائكة سببًا لمنع كونها في المنزل.   (1) اختيارات 241 ف 2/297. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 وعلى هذا فلو كان في الدعوة كلب لا يجوز اقتناؤه لم تدخل الملائكة أيضا بخلاف الجنب، فإن الجنب لا يطول بقاؤه جنبا فإنما تمتنع الملائكة من الدخول إذا كان الجنب هناك زمنا يسيرا. والثاني أن يكون نفس اللبث محرما أو مكروها. ويستثنى من ذلك أوقات الحاجة، كما في حديث عمر وغيره، تكون العلة ما يكتسبه المنزل من الصورة المحرمة حتى إنه لا يدخل منازل أهل الذمة. ورجح أبو العباس في موضع آخر عدم الدخول في بيعة فيها صور، وأنها كالمسجد على القبر (1) . وله دخول بيعة وكنيسة والصلاة فيهما. وعنه يكره. وعنه مع صورة. وظاهر كلام جماعة تحريم دخوله معهما، وقاله شيخنا، وأنه كالمسجد على القبر. وقال: وليست ملكًا لأحد، وليس لهم منع من يعبد الله، لأنا صالحناهم عليه، والعابد بينهم وبين الغافلين أعظم أجرًا. ويحرم شهود عيد ليهود أو نصارى لقوله تعالى: {والذين لا يشهدون الزور} نقله مهنا، وقاله الآمدي، وترجمه الخلال بالكراهة، وفيه تنيبه على المنع أن يفعل كفعلهم قاله شيخنا؛ لا البيع لهم فيها نقله مهنا، وحرمه شيخنا، وخرجه على ما ذكره من روايتين منصوصتين في حمل التجارة إلى دار حرب، وأن مثلها مهاداتهم لعيدهم، وجزم غيره بكراهة التجارة والسفر إلى أرض كفر ونحوه. وقال شيخنا أيضا: لا يمنع منه إذا لم يلزموه بفعل محرم أو ترك واجب وينكر ما يشاهده من المنكر بحسبه قال: ويحرم بيع ما يعملونه كنيسة أو تمثالاً ونحوه. قال: ولك ما فهي تخصيص لعيدهم وتمييز له فلا أعلم خلافا أنه من التشبه والتشبه بالكفار منهي عنه. (ع) قال: ولا ينبغي إجابة هذه الوليمة. قال: ولما صارت العمامة الصفراء والزرقاء من شعارهم لم يجز   (1) اختيارات 242 ف 2/297. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 لبسها فكيف بمن يشاركهم في عباداتهم وشرائع دينهم؟ بل ليس لمسلم أن يحضر مواسمهم بشيء مما يخصونها به، وليس لمسلم أن يجيب دعوة مسلم في ذلك، ويحرم الأكل والذبح ولو أنه فعله ولأنه اعتاده وليفرح أهله، ويعزر إن عاد (1) . وقد نص الإمام أحمد على أن الرجل إذا شهد الجنازة فرأى فيها منكرًا يقدر على إزالته أنه لا يرجع، ونص على أنه إذا دعي إلى وليمة عرس فرأى فيها منكرًا لا يقدر على إزالته أنه يرجع. فسألت شيخنا عن الفرق، فقال: لأن الحق في الجنازة للميت، فلا يترك حقه لما فعله الحي من المنكر. والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتى فيها بالمنكر فقد أسقط حقه من الإجابة (2) . قال المروذي: سألت أبا عبد الله عن الجوز ينثر؟ فكرهه. وقال: يعطون أو يقسم عليهم. وقال في رواية إسحاق بن هانئ: لا يعجبني انتهاب الجوز وأن يؤكل منه والسكر كذلك. قال القاضي: يكره الأكل مما التقطه من النِّثار سواء أخذه هو أو أخذه ممن أخذه. وقول الإمام أحمد: هذه نهبة، يقتضي التحريم، وهو قوي. وأما الرخصة المحضة فتبعد جدًا (3) . وكسب المغني خبيث باتفاق الأئمة. والمغني خارج عن العدالة (4) . وذكر الشيخ تقي الدين في الكلام على حديث ابن عمر: «أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع زمارة راع وسد أذنيه» قال: لم يعلم أن الرقيق كان   (1) فروع 5/ 308 فيه زيادات حتى عما في الاختيارات ف 2/ 297. (2) أعلام الموقعين 4/ 209 ف 2/ 297. (3) اختيارات 244 ف 2/ 297. (4) مختصر الفتاوى 606 ف2/ 297. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 بالغًا فلعله كان صغيرًا دون البلوغ، والصبيان رخص لهم في اللعب ما لم يرخص فيه للبالغ. انتهى كلامه. وذكر الأصحاب وغيرهم أن سماع المحرم بدون استماعه -وهو قصد السماع- لا يحرم وذكر الشيخ تقي الدين أيضًا وزاد باتفاق المسلمين. قال: وإنما سد النبي - صلى الله عليه وسلم - أذنيه مبالغة في التحفظ، فبين بذلك الامتناع من أن يسمع ذلك خير من السماع (1) . آداب الأكل والشرب وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ مِنَ الْخَلاَءِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ. فَقَالُوا: أَلاَ نَأْتِيْكَ بوضُوْء؟ قالَ: إنَّما أمُرْتُ بِالوُضُوْءِ إِذَا قُمْتُ إلى الصَّلاةِ» رواه جماعة منهم الترمذي وحسنه والبيهقي وصححه. وذكر الشيخ تقي الدين أن هذا ينفي وجوب الوضوء عند كل حدث، وأن قوله - صلى الله عليه وسلم - «مَا دَخَلْتُ الجنَّةَ إلاَّ سَمِعْتُ خَشْخَشَتَهُ أَمَامِيْ» الحديث يقتضي استحباب الوضوء عند كل حدث. وقال البيهقي: الحديث في غسل اليدين بعد الطعام حسن، ولم يثبت في غسل اليدين قبل الطعام حديث. قال جماعة من العلماء: المراد بالوضوء في هذه الأحاديث غسل اليدين لا الوضوء الشرعي. وقال الشيخ تقي الدين: ولم نعلم أحدًا استحب الوضوء للأكل إلا إذا كان الرجل جنبًا. انتهى كلامه (2) . وأكل النساء الأجانب مع الرجل لا يفعل إلا لحاجة: من ضيق المكان، أو قلة الطعام، ومع ذلك فلا تكشف وجهها للأجانب، ولا يلقمها الأجنبي، ولا تلقمه. ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحمو؟ قال:   (1) الآداب 1/ 206 فيه زيادة ف 2/ 298. (2) الآداب 3/ 222 ف 2/ 298. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 «الْحَمُو المَوْتُ» والحمو أخو الزوج ونحوه، دون أبيه فإنه محرم. وفي الحديث: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ دَيُّوْثٌ» ، وهو الذي لا غيرة له، بل إذا رأى في أهله شيئًا لم ينكره (1) . ويقول عند الأكل: باسم الله. فإن زاد «الرحمن الرحيم» كان حسنًا؛ فإنه أكمل؛ بخلاف الذبح فإنه قد قيل إن ذلك لا يناسب (2) . وقال ابن أبي موسى: وإذا أكلت أو شربت فواجب عليك أن تقول: باسم الله، وتتناول بيمينك. قال الشيخ تقي الدين: كلام ابن أبي موسى فيه وجوب التسمية، والتناول باليمين. فينبغي أن يقول: يجب الاستنجاء باليسرى ومس الفرج بها دون اليمنى. ربما لين النهي في كليهما (3) . قال الشيخ عبد القادر وغيره: يكره الأكل على الطريق. قال: ويستحب أن يبدأ بالملح، ويختم به. قال الشيخ تقي الدين فقد زاد الملح (4) . هل يستحب تقبيل الخبز كما يفعله بعض الناس؟ كلام الإمام أحمد رحمه الله في مسألة تقبيل المصحف يدل على عدم التقبيل، وهو ظاهر كلام الشيخ تقي الدين؛ فإنه ذكر أنه لا يشرع تقبيل الجمادات إلا ما استثناه الشرع (5) . ويكره القران في التمر. وقيل: مع الشركاء فيه لا وحده ولا مع أهله ولا مع من أطعمهم ذلك.   (1) مختصر الفتاوى 32 ف 2/ 298. (2) فروع 5/ 300 واختيارات 245 ف 2/ 298. (3) الآداب 3/ 168 وتقدم بعضه في الاستنجاء ف 2/ 298. (4) الآداب 3/ 210 والإنصاف 8/ 332 ف 2/ 299. (5) الآداب 3/ 231 ف 2/ 299. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 قال الشيخ تقي الدين: وعلى قياسه قران كل ما العادة جارية بتناوله أفرادًا (1) . قال ابن الجوزي: ولا يكثر النظر إلى المكان الذي يخرج منه الطعام؛ فإنه دليل منه على الشره. وهذا منه يدل على أنه لا ينبغي فعل ما يدل على الشره، ومنه الأكل الكثير الذي يخرج به عن العادة في ذلك الوقت. ولهذا كان الشيخ تقي الدين رحمه الله إذا دعي أكل ما يكسر نهمته قبل ذهابه (2) . ويسن أن يصغر اللقم، ويجيد المضغ. قال الشيخ تقي الدين: إلا أن يكون هناك ما هو أهم من إطالة الأكل. وقال أيضًا: هو نظير ما ذكره الإمام أحمد من استحباب تصغير الأرغفة (3) . وكره شيخنا أكله حتى يتخم، وحرمه أيضًا، وحرم أيضًا الإسراف، وهو مجاوزة الحد (4) . واختلف كلام أبي العباس في أكل الإنسان حتى يتخم: هل يكره، أو يحرم؟ وجزم أبو العباس في موضع آخر بتحريم الإسراف وفسره بمجاوزة الحد (5) . وعن سمرة بن جندب أنه قيل له: إن ابنك بات البارحة بشمًا. قال: أما لو مات لم أصل عليه. قال الشيخ تقي الدين: يعني أنه أعان على قتل نفسه، فيكون كقاتل نفسه. وقال في موضع آخر: يكره أن يأكل حتى يتخم ثم ذكره ما سبق عن سمرة (6) .   (1) الآداب 3/ 172 واختيارات 245 والإنصاف 8/ 326 ف 2/ 298. (2) الآداب 3/ 208 والإنصاف 8/ 333 ف 2/ 298. (3) الآداب 3/ 176 ف 2/ 298. (4) فروع 5/ 302 والإنصاف 8/ 330 ف 2/ 298. (5) اختيارات 243 ف 2/ 298. (6) إنصاف 8/ 340 ف 2/ 298. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 ويأكل الإنسان من بيت صديقه وقريبه بغير إذنه إذا لم يحرزه عنه (1) . قال الشيخ عبد القادر: والشيخ تقي الدين أيضًا: يأكل الضيف على ملك صاحب الطعام على وجه الإباحة، وليس ذلك بتمليك (2) . وقال غير واحد: يكره غسل اليد بشيء من المطعوم، ولا بأس بالنخالة. قال في المغني: واستدل الخطابي على ذلك بحديث «الملح والملح طعام» ففي معناه ما أشبهه. قال الشيخ تقي الدين: وهذا من أبي محمد يقتضي جواز غسلهما بالمطعوم. وهذا خلاف المشهور (3) . قال الشيخ تقي الدين: يستدل على كراهة الاغتسال بالأقوات بأن ذلك يفضي إلى خلطها بالأدناس والأنجاس فنهي عنه كما ينهى عن إزالة النجاسة بها، والملح ليست قوتًا وإنما يصلح به القوت. نعم ينهى في الاستنجاء عن قوت الآدميين والبهائم للإنس والجن. هذا لا يستنجي بالنخالة وإن غسل يده بها، فأما إن دعت الحاجة إلى استعمال القوت مثل الدبغ بدقيق الشعير أو التطبب للجرب باللبن والدقيق ونحو ذلك فينبغي أن يرخص فيه، كما رخص في قتل دود القز بالتشميس لأجل الحاجة؛ إذ لا يكون حرمة القوت أعظم من حرمة الحيوان، وبهذا قد يجاب عن الملح أنها استعملت لأجل الحاجة. وعلى هذا فيستدل بهذا الأصل الشرعي على المنع من إهانتها بوضع الإدام فوقها كما ذكره الشيخ عبد القادر. ودليل آخر وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بلعق الأصابع والصحفة وأخذ اللقمة الساقطة وإماطة الأذى عنها كل ذلك يضيع شيء من القوت. والتدلك به إضاعة له لقيام غيره مقامه، وهو من أنواع التبذير الذي هو من فعل الشيطان.   (1) إنصاف 8/ 388 واختيارات 245 ف 2/ 298. (2) إنصاف 8/ 340 ف 2/ 298. (3) الآداب 3/ 196 ف 2/ 298. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 وسئلت عن مثل هذه: وهو غسل الأيدي بالمسك؟ فقلت: إنه إسراف؛ بخلاف تتبع الدم بالقرصة الممسكة فإنه يسير لحاجة، وهذا كثير لغير حاجة. فاستعمال الطيب في غير التطيب وغير حاجة كاستعمال القوت في غير التقوت وغير حاجة. وحديث البقرة أنها لم تخلق لهذا يستأنس به في مثل هذا. ويستدل على ما فعله أحمد من مسح اليد عند كل لقمة بأن وضع اليد في الطعام يخلط أجزاء من الريق في الطعام فهو في معنى ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التنفس في الإناء؛ لكن يسوغ فيه لمشقة المسح عند كل لقمة، فمن يحشم المسح فذلك حسن منه. انتهى كلامه (1) . قال في «اقتضاء الصراط المستقيم» قال أصحاب أحمد وغيرهم منهم أبو الحسن الآمدي وأظنه نقله أيضًا عن عبد الله بن حامد: ولا يكره غسل اليدين في الإناء الذي أكل فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. وقد نص احمد على ذلك قال: ولم يزل العلماء يفعلون ذلك ونحن نفعله وإنما ينكره العامة. وغسل اليدين بعد الطعام مسنون رواية واحدة. وإذا قدم ما يغسل فيه اليد فلا يرفع حتى يغسل الجماعة أيديهم، لأن الرفع من زي الأعاجم (2) . وعن أنس رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلاَئِكَةُ» . وكلامه في الترغيب يقتضي أنه جعل هذا الكلام دعاء واستحب الدعاء به لكل من أكل طعامه. وعلى قول الشيخ عبد القادر إنما يقال هذا إذا أفطر عنده فيكون خبرًا. قال الشيخ تقي الدين: وهو الأظهر. انتهى كلامه (3) .   (1) الآداب 3/ 211، ف 2/ 299. (2) الآداب 3/ 223، ف 2/ 299. (3) الآداب 3/ 223، ف 2/ 299. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 باب العشرة وكلام القاضي في التعليق يقتضي أن التمكين من القبلة ليس بواجب على الزوجة. قال أبو العباس: وما أراه صحيحًا؛ بل تجبر على تمكينه من جميع أنواع الاستمتاع المباحة (1) . قال ابن القيم رحمه الله: وقد اختلف الفقهاء: هل يجب على الزوج مجامعة امرأته؟ فقالت طائفة: لا يجب عليه ذلك. إلى أن قال: وقال طائفة: يجب عليه وطؤها في العمر مرة واحدة ليستقر لها بذلك الصداق. وقال طائفة ثالثة: بل يجب عليه أن يطأها بالمعروف، كما ينفق عليها ويكسوها ويعاشرها بالمعروف؛ بل هذا عمدة المعاشرة ومقصودها، وقد أمر الله سبحانه وتعالى أن يعاشرها بالمعروف، فالوطء داخل في هذه المعاشرة ولا بد. قالوا: وعليه أن يشبعها وطأ إذا أمكنه ذلك، كما عليه أن يشبعها قوتًا. وكان شيخنا رحمه الله تعالى يرجح هذا القول ويختاره (2) . ويجب على الزوج وطء امرأته بقدر كفايتها ما لم ينهك بدنه أو يشغله عن معيشته من غير مقدر (3) بأربعة أشهر كالأمة. فإن تنازعا فينبغي أن يفرضه الحاكم كالنفقة، وكوطئه إذا زاد (4) .   (1) إنصاف 8/ 362 ف 2/ 299. (2) روضة المحبين ص 215 هذا أبسط مما في المجموع ف 2/ 299. (3) وفي الإنصاف من غير تقدير بمدة. (4) اختيارات 246 فيه زيادة ف 2/ 299، 300. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وإذا احتاجت أمته إلى النكاح فإما أن يطأها أو يزوجها (1) . ويتخرج من نص الإمام احمد أنه يجوز أن يتزوج الأمة لحاجته إلى الخدمة؛ لا إلى الاستمتاع (2) . ولو شرط الزوج أن يتسلم الزوجة وهي صغيرة ليحصنها فقياس المذهب على إحدى الروايتين اللتين خرجهما أبو بكر أنها إذا استثنت بعض منفعتها المستحقة عليها بمطلق العقد أو اشترطت عليه زيادة على ما تستحقه بمطلق العقد أنه يصح هذا الشرط، كما لو اشترط في الأمة أن تكون نهارًا عند السيد وقلنا إن ذلك موجب العقد المطلق أو لم نقل فأحد الوجهين أن هذا الشرط للسيد لا عليه، كاشتراط دارها، وهو شرط له وعليه، ولو خرج هذا على اشتراط دارها وهو انه إذا اشترطت دارها لم يكن عليه أجرة تلك الدار لكان متوجهًا. وإذا كان موجب العقد من التقابض مرده إلى العرف فليس العرف أن المرأة تسلم إليه صغيرة، ولا يستحق ذلك لعدم التمكن من الانتفاع، ولا تجب عليه النفقة، فإنه إذا لم يكن عليه حق في بدنها لعدم تمكنه فلا نفقة لها، إذ النفقة تتبع الحق البدني (3) . ويحرم وطء الحائض. وإذا تكرر من الزوج الوطء في الفرج لم ينزجر فرق بينهما كما قلنا إذا وطئها في الدبر ولم ينزجر (4) . ولو تطاوع الزوجان على الوطء في الدبر فرق بينهما. وقاله أصحابنا. وعلى قياسه المطاوعة على الوطء في الحيض (5) .   (1) مختصر الفتاوى 427 ف 2/ 299. (2) اختيارات ص 246 ف 299. (3) اختيارات 245 ف 2/ 299. (4) اختيارات ص27 ف 2/ 299. (5) اختيارات 246 فيه زيادة ف 2/ 300. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 فصل المبيت، والقسم قال أصحابنا: لا يجوز أن تأخذ الزوجة عوضًا عن حقها من المبيت. وكذا الوطء. ووقع في كلام القاضي ما يقتضي جوازه. قال أبو العباس: وقياس المذهب عندي جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره؛ لأنه إذا جاز للزوج أن يأخذ العوض عن حقه منها جاز لها أن تأخذ العوض عن حقها منه؛ لأن كلاً منهما منفعة بدنية. وقد نص الإمام أحمد في غير موضع أنه يجوز أن تبذل المرأة العوض ليصير أمرها بيدها. ولأنها تستحق حبس الزوج كما يستحق الزوج حبسها، وهو نوع من الرق فيجوز أخذ العوض عنه. وقد تشبه هذه المسألة الصلح عن الشفعة وحد القذف (1) . ويتوجه أن لا يتقدر قسم الابتداء الواجب، كما لا يتقدر الوطء؛ بل يكون بحسب الحاجة. فإنه قد يقال: جواز التزوج بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة يكون لها حال الانفراد ما لها حال الاجتماع. وعلى هذا فتحمل قصة كعب بن سوار على أنه تقدير شخص لا يراعي، كما لو فرض النفقة. وقول أصحابنا: يجب على الرجل المبيت عند امرأته ليلة من أربع. فهذا المبيت يتضمن شيئين. أحدهما: المجامعة في المنزل. والثانية في المضجع وقوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} [34/4] مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تهجر إلا في المضجع» دليل على وجوب المبيت في المضجع، ودليل على أنه لا يهجر المنزل. ونص أحمد في الذي يصوم النهار ويقوم الليل يدل على وجوب المبيت في المضجع، وكذا ما   (1) اختيارات 246 ف 2/ 300. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 ذكروه في النشوز إذا نشزت هجرها في المضجع. دليل على أنه لا يفعله بدون ذلك. وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتضي للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد ولو مع قدرته وعجزه كالنفقة وأولى. للفسخ بتعذره في الإيلاء إجماعًا. وعلى هذا فالقول في امرأة الأسير والمحبوس ونحوهما ممن تعذر انتفاع امرأته به إذا طلبت فرقته كالقول في امرأة المفقود بالإجماع كما قاله أبو محمد المقدسي. قال أصحابنا: ويجب على الزوج أن يبيت عند زوجته الحرة ليلة من أربع وعند الأمة ليلة من سبع أو ثمان على اختلاف الوجهين. ويتوجه على قولهم: إنه يجب للأمة ليلة من أربع؛ لأن التنصيف إنما هو في قسم الابتداء، فلا يملك الزوج بأكثر من أربع. وذلك أنه إذا تزوج بأربع إماء فهن في غاية عدده. فتكون الأمة كالحرة في قسم الابتداء. وأما في قسم التسوية فيختلفان إذا جوزنا للحر أن يجمع بين ثلاث حرائر وأمة في رواية. وأما على الرواية الأخرى فلا يتصور ذلك. وأما العبد فقياس قولهم أنه يقسم للحرة ليلة من ليلتين، وللأمة ليلة من ثلاث أو أربع، ولا يتصور أن يجمع عنده أربعًا على قولنا وقول الجمهور. وعلى قول مالك يتصور. قال أصحابنا: ويجب وطء المعيبة كالبرصاء والجذماء إذا لم يجز الفسخ، وكذلك يجب عليها تمكين الأبرس والأجذم. والقياس وجوب ذلك. وفيه نظر؛ إذ من الممكن أن يقال عليها وعليه في ذلك ضرر؛ لكن إذا لم تمكنه فلا نفقة لها. وإذا لم يستمتع بها فلها الفسخ، ويكون المثبت للفسخ هنا عدم وطئه، فهذا يعود إلى وجوبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 وينفق على المجنون المأمون وليه. والأشبه أنه من يملك الولاية على بدنه؛ لأنه يملك الحضانة. فالذي يملك تعليمه وتأديبه الأب ثم الوصي. قال أصحابنا: ويأثم إن طلق إحدى زوجتيه وقت قسمها. وتعليلهم يقتضي أنه إذا طلقها قبل مجيء نوبتها كان له ذلك. ويتوجه أن له الطلاق مطلقًا؛ لأن القسم إنما يجب ما دامت زوجة كالنفقة. وليس هو شيء مستقر في الذمة قبل مضي وقته حتى يقال هو دين. نعم: لو لم يقسم لها حتى خرجت الليلة التي لها وجب عليها القضاء، فلو طلقها قبله كان عاصيًا. ولو أراد أن يقضيها عن ليلة من ليالي الشتاء ليلة من ليالي الصيف كان لها الامتناع لأجل تفاوت ما بين الزمانين (1) . وقال شيخنا: خرج ابن عقيل قولاً: لها الفسخ بالغيبة المضرة بها ولو لم يكن مفقودًا، كما لو كوتب فلم يحضر بلا عذر. وفي المغني: في امرأة من علم خبره كأسير ومحبوس لها الفسخ بتعذر النفقة من ماله وإلا فلا إجماعًا. قال شيخنا: لا إجماع. وإن تعذر الوطء لعجز كالنفقة وأولى. للفسخ بتعذره (ع) في الإيلاء، وقاله أبو يعلى الصغير. وقال أيضًا: حكمه كعنين (2) . وللزوج منع الزوجة من الخروج من منزله. فإذا نهاها لم تخرج لعيادة مريض محرم لها أو شهود جنازته. فأما عند الإطلاق فهل لها أن تخرج لذلك إذا لم يأذن ولم يمنع كعمل الصناعة. أو لا تفعل إلا بإذن كالصيام؟ تردد فيه أبو العباس (3) .   (1) اختيارات 247، 248 ف 2/ 300، 301. (2) فروع 5/ 322 فيه زيادة عما في الاختيارات ف 2/ 300، 301. (3) اختيارات 246 ف 2/ 300. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 وكلام الإمام أحمد يدل على أنه ينهى عن الإذن للذمية بالخروج إلى الكنيسة والبيعة؛ بخلاف الإذن للمسلمة إلى المسجد، فإنه مأمور بذلك. وكذا قال في المغني: إن كانت زوجته ذمية فله منعها من الخروج إلى الكنيسة وإن كانت مسلمة فقال القاضي: له منعها من الخروج إلى المسجد، وظاهر الحديث يمنعه من منعها (1) . قال شيخنا فيمن حبسته بحقها: إن خاف خروجها بلا إذنه أسكنها حيث لا يمكنها، فإن لم يكن له ما يحفظها غير نفسه حبست معه. فإن عجز عن حفظها أو خيف حدوث شر أسكنت في رباط ونحوه. ومتى كان خروجها مظنة للفاحشة صار حقًا لله تعالى يجب على ولي الأمر رعايته (2) . ولو سافر بإحداهن بغير قرعة. قال أصحابنا: يأثم ويقضي. والأقوى: أنه لا يقضي، وهو قول الحنفية والمالكية (3) . وعليه أن يسوي بين نسائه في القسم. وقال الشيخ تقي الدين: يجب عليه التسوية فيهما أيضًا (النفقة والكسوة) وقال: كما علل القاضي عدم الوجوب بقوله: لأن حقهن في النفقة والكسوة والقسم وقد سوى بينهما وما زاد على ذلك فهو تطوع فله أن يفعله إلى من شاء. قال: موجب هذه العلة أن له أن يقسم للواحدة ليلة من أربع لأنه الواجب ويبيت الباقي عند الأخرى. اهـ (4) . وذكر القاضي أنه إذا وفى الثانية من حقها ونصفها من حق الأخرى فيثبت للجديدة في مقابلة ذلك نصف ليلة بإزاء ما حصل لكل واحدة من   (1) اختيارات 246 ف 2/ 300. (2) فروع 5/ 328 وتقدم ف 2/ 300. (3) اختيارات 249 وبعضه في الإنصاف 8/ 371 ف 2/ 301. (4) الإنصاف 8/ 364 ف 2/ 301. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 ضرتيها ... قال في الفروع بعد أن قدم قول القاضي: واختار الشيخ تقي الدين لا يبيت نصفها بل ليلة كاملة لأنه حرج (1) . وقال الشيخ تقي الدين: يجب عليها المعروف من مثلها لمثله، وخرج الشيخ تقي الدين الوجوب من نصه على نكاح الأمة للخدمة (2) . فصل: النشوز وقال ثعلب: العرب تقول: صبرك على أذى من تعرفه خير لك من استحداث من لا تعرفه. وكان شيخنا يقول هذا المعنى (3) . وتهجر المرأة زوجها في المضجع لحق الله، بدليل قصة الذين خلفوا في غزوة تبوك. وينبغي أن تملك النفقة في هذه الحال؛ لأن المنع منه، كما لو امتنع من أداء الصداق (4) . وإذا ادعت الزوجة أو وليها أن الزوج يظلمها، وكان الحاكم وليها، وخاف ذلك نصب الحاكم مشرفًا. وقال القاضي: متى ظهر للحاكم أنه يظلمها نصب مشرفًا. وفيه نظر. ومسألة نصب المشرف لم يذكرها الخرقي والقدماء. ومقتضى كلامه إذا وقعت العداوة وخيف الشقاق بعث الحكمان من غير احتياج إلى مشرف. قال أصحابنا: ويجوز أن يكون الحكمان أجنبيين، ويستحب أن يكونا من أهلهما. ووجوب كونهما من أهلهما هو مقتضى قول الخرقي،   (1) إنصاف 8/ 364 ف 2/ 300. (2) الإنصاف 8/ 362 ف 2/ 301. (3) فروع 5/ 329 ف 2/ 301. (4) اختيارات 246 ف 2/ 302. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 فإنه اشترطه كما اشترط الأمانة. وهذا أصح؛ فإنه نص القرآن، ولأن الأقارب أخبر بالعلل الباطنة وأقرب إلى الأمانة والنظر في المصلحة. وأيضًا فإنه نظر في الجمع والتفريق، وهو أولى من ولاية عقد النكاح، لا سيما إن جعلناهما حاكمين كما هو الصواب، ونص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما، وهو مذهب مالك. وهل للحكمين -إذا قلنا هما حكمان لا وكيلان- أن يطلقا ثلاثًا، أو يفسخا كما في المولي؟ أقوال هناك. لما قام الوكيل مقام الزوج في الطلاق ملك ما يملكه من واحدة وثلاث فيتوجه هنا كذلك إذا قلنا هما حاكمان. وإن قلنا وكيلان لم يملكا إلا ما وكلا فيه. وأما الفسخ هنا فلا يتوجه؛ لأن الحكم ليس حاكمًا أصليًا (1) . باب الخلع والتحقيق أنه يصح ممن يصح طلاقه بالملك أو الوكالة أو الولاية كالحاكم في الشقاق. وكذا لو فعله الحاكم في الإيلاء أو العنة أو الإعسار أو غيرها من المواضع التي يملك الحاكم فيها الفرقة. ولأن العبد والسفيه يصح طلاقهما بلا عوض فبالعوض أولى. لكن قد يقال في قبولهما للوصية والهبة بلا إذن الولي وجهان. فإن لم يكن بينهما فرق صحيح فلا يخرج الخلاف (2) . والذي يقتضيه القياس أنهما إذا أطلقا الخلع صح بالصداق، كما لو أطلقا النكاح ثبت صداق المثل، فكذا الخلع وأولى. وقال أبو العباس في موضع آخر: هل للزوج إبانة امرأته بلا   (1) اختيارات 249، 250 ف 2/ 302. (2) اختيارات 302 ف 2/ 302. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 عوض؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ليس له أن يبينها إلا بعوض، وإن كان طلاق وقع بعد الدخول بلا عوض فرجعي. وهذا مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد. والقول الثاني: له إبانتها بغير عوض مطلقًا باختيارها وغير اختيارها. وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد. والقول الثالث: له إبانتها بغير عوض في بعض المواضع دون بعض؛ فإذا اختارت الإبانة بغير عوض فله أن يبينها. ويصح الخلع بغير عوض، وتقع به البينونة إما طلاقًا وإما فسخًا على إحدى القولين. وهذا مذهب مالك المشهور عنه في رواية ابن القاسم، وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، اختارها الخرقي. وهذا القول له مأخذان. أحدهما: أن الرجعة حق للزوجين، فإذا تراضيا على إسقاطها سقطت. والثاني: أن ذلك فرقة بعوض؛ لأنها رضيت بترك النفقة والسكن ورضي هو بترك استرجاعها. وكما أن له أن يجعل العوض إسقاط ما كان ثابتًا لها من الحقوق كالدين فله أن يجعله إسقاط ما ثبت لها بالطلاق، كما لو خالفها على نفقة الولد. وهذا قول قوي وهو داخل في النفقة من غيره (1) . ولا يصح الخلع إلا بعوض في إحدى الروايتين، والأخرى يصح بغير عوض، وجعله الشيخ تقي الدين كعقد البيع حتى في الإقالة، وأنه لا يجوز إن كان فسخًا بلا عوض إجماعًا (2) . وإن خالعها بمحرم كالخمر.. فهو كالخلع بغير عوض. وعند   (1) اختيارات 252، 253 ف 2/ 302. (2) إنصاف 8/ 395 ف 2/ 302. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 الشيخ تقي الدين يرجع إلى المهر كالنكاح (1) . واختلف كلام الشيخ تقي الدين في وجوب الإجابة إليه. وألزم به بعض حكام الشام المقادسة الفضلاء (2) . اختلف كلام أبي العباس في وجوب الخلع لسوء العشرة بين الزوجين. وإن كانت مبغضة له لخلقه أو لغير ذلك من صفاته وهو يحبها فكراهة الخلع في حقه تتوجه (3) . قال الشيخ تقي الدين: عبارة الخرقي ومن تابعه أجود من عبارة صاحب المحرر ومن تابعه فإن صاحب المحرر وغيره قال: الخلع لسوء العشرة بين الزوجين جائز. فإن قولهم: لسوء العشرة بين الزوجين فيه نظر؛ فإن النشوز قد يكون من الرجل فتحتاج هي أن تقابله. اهـ (4) . ولو عضلها لتفتدي نفسها منه ولم تكن تزني حرمت عليه. قال ابن عقيل: العوض مردود والمرأة بائن. قال أبو العباس: وله وجه حسن، ووجه قوي إذا قلنا الخلع يصح بلا عوض؛ فإنه بمنزلة من خالع على مال مغصوب أو خنزير ونحوه. وتخريج الروايتين هنا قوي جدًا (5) . واعتبر الشيخ تقي الدين خوف قادر على القيام بالواجب أن لا يقيما حدود الله فلا يجوز انفرادها به. للمختلعة مع زوجها أحد عشر حالاً.   (1) إنصاف 8/ 398 ف 2/ 302. (2) إنصاف 8/ 381 ف 2/ 302. (3) اختيارات 250 ف 2/ 302. (4) إنصاف 8/ 382 ف 2/ 302. (5) اختيارات 250 فيه زيادة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 الأول: أن تكون كارهة له مبغضة لخلقه وخلقه أو لغير ذلك من صفاته وتخشى ألا تقوم حدود الله في حقوقه الواجبة عليها، فالخلع في هذه الحال مباح أو مستحب. الثالثة: كالأولى ولكن للرجل ميل إليها ومحبة، فهذه أدخلها القاضي في المباح كما تقدم، وقال الشيخ تقي الدين: وكراهة الخلع في حق هذه متوجهة. السادس: أن يظلمها أو يعضلها لتفتدي فتفدي فأكثر الأصحاب على صحة الخلع. وقال الشيخ تقي الدين: لا يحل له ولا يجوز. التاسع: أن يضربها ويؤذيها لتركها فرضًا أو لنشوز فتخالعه كذلك. فقال في الكافي: يجوز. قال الشيخ تقي الدين: تعليل القاضي وأبي محمد -يعني المصنف- يقتضي أنها لو نشزت عليه جاز له أن يضربها لتفتدي نفسها منه. وهذا صحيح (1) . فصل وخلع الحبلى لا يصح على الأصح، كما لا يصح نكاح المحلل؛ لأنه ليس المقصود به الفرقة وإنما يقصد به بقاء المرأة تبع زوجها، كما يقصد بنكاح المحلل أن يطلقها لتعود إلى الأول، والعقد لا يقصد به نقض مقصوده، وإذا لم تبن به الزوجة (2) . قال القاضي في الخلع: ولو طلقها فشرعت في العدة ثم بذلت له مالاً ليزيل عنها الرجعة لم تزل. ذكره القاضي بما يقتضي أنه محل وفاق. وفيه نظر.   (1) الإنصاف 8/ 383 ف 2/ 302. (2) اختيارات 251 ف 2/ 302. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 وإذا خالعته على ما يعتقدان وجوبه باجتهاد أو تقليد مثل أن يخالعها على قيمة كلب أتلفته معتقدين وجوب القيمة فينبغي أن يصح. ولو تزوجها على قيمة كلب له في ذمتها فينبغي أن تصح التسمية؛ لأن وجوب هذا نوع غرر، والخلع يصح على الغرر، بخلاف الصداق. نقل مهنا عن الإمام أحمد في رجل خلع امرأته على ألف درهم لها على أبيه أنه جائز، فإن لم يعطه أبوه شيئًا رجع على المرأة، وترجع المراة على الأب. وكلام الإمام أحمد صحيح على ظاهره، وهو خلع على الدين، والدين من الغرر، فهو بمنزلة الخلع على البيع قبل القبض، فلما لم يحصل العوض بعينه رجع في بدله، كما قلنا فيمن اشترى مغصوبًا يقدر على تخليصه فلم يقدر. ولو خالعته على مال في ذمتها ثم أحالته به على أبيه لكان تأويل القاضي متوجهًا. وهو أن القاضي تأول المسألة على أنها حوالة، وأن الزوج لما قبل الحوالة لم يحصل من الأب اعتراف بالدين فلهذا ملك الرجوع عليها بمال الخلع، وكان لها مخاصمة الأب فيما تدعيه. فأما إن كان قد حصل من جهته اعتراف بالدين ثم جحد بعد ذلك لم يكن للزوج الرجوع عليها؛ لأن الحق قد انتقل، وجحوده لا يثبت له الرجوع (1) . نقل الجراحي في حاشيته على الفروع أن ابن أبي المجد يوسف نقل عن الشيخ تقي الدين أنه قال: تصح الإقالة في الخلع، وفي عوضه كالبيع وثمنه؛ لانهماكهما في غالب أحكامهما من عدم تعليقهما واشتراط العوض والمجلس ونحو ذلك (2) .   (1) اختيارات 253، 254 ف 2/ 302. (2) إنصاف 8/ 395 ف 2، وانظر حاشية الفروع جـ 4/ 124. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 فصل ومن قال: إن أبرأتيني طلقتك. فقالت: أبرأتك، فلم يطلقها لم يصح الإبراء؛ فإن هذا إيجاب وقبول لما تقدم من الشروط، ودلالة الحال تدل على أن التقدير أبرأتك إن طلقتني، فالشرط المتقدم على العقد كالمقارن (1) . وإذا قال لزوجته: إن أبرأتيني من نفقة الأولاد وأخذت الأولاد بالكفالة ونحو ذلك من العبارات فأنت طالق، فالتزمت بما قال من الإنفاق فإنه يقع به الطلاق. فإن امتنعت ألزمت بذلك، كما تلزم بغيره من الحقوق (2) . إذا قال: إن أعطيتيني أو إذا ... كان على التراضي أي وقت أعطته طلقت. وقال الشيخ تقي الدين: ليس لازمًا من جهته كالكتابة عنده. ووافق على شرط محض كقوله: إن قدم زيد فأنت طالق. وقال في التعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء إن كان معاوضة فهو معاوضة، ثم إن كانت لازمة فلازم وإلا فلا. فلا يلزم الخلع قبل القبول ولا الكتابة. وقال: قول من قال: التعليق لازم دعوى مجردة. اهـ (3) . وفي الترغيب وجهان في: إن أقبضتيني فأحضرته ولم يقبضه. فلو قبضه فهل يملكه فيقع الطلاق بائنًا أم لا يملكه فيقع رجعيًا؟ فيه احتمالات. وقيل: يكفي عدد متفق برأسه بلا وزن فلا يكون وازنة ناقصة عددًا ... واختيار الشيخ تقي الدين في الزكاة يقويه (4) . قال الشيخ تقي الدين: وقولها إن طلقتني فلك كذا وأنت برئ   (1) مختصر الفتاوى 442 ف 2/ 394. (2) مختصر الفتاوى 549، فيه زيادة ف 2/ 304. (3) إنصاف 8/ 410 ف 2/ 305. (4) إنصاف 8/ 410 ف 2/ 305. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 منه كإن طلقتني فلك علي ألف وأولى. وليس فيه النزاع في تعليق البراءة بشرط. أما لو التزمت دينًا لا على وجه المعاوضة كإن تزوجت فلك في ذمتي ألف أو جعلت لك في ذمتي ألفًا لم يلزمه عند الجمهور (1) . وقول المصنف وابن منجا عن القاضي: أنه قال: لا تطلق في قوله عليَّ ألف حتى تختار. قال الشيخ تقي الدين مع أن «عليّ» للشرط اتفاقًا (2) . وهل للأب خلع زوجة ابنه الصغيرة؟ على روايتين: إحداهما: ليس له ذلك.. والثانية: له ذلك وذكر الشيخ تقي الدين أنها ظاهر المذهب (3) . وإن علق طلاقها بصفة ثم خالعها أو أبانها بالثلاث فوجدت الصفة ثم عاد فتزوجها فوجدت الصفة طلقت. ويتخرج ألا تطلق على الرواية في العتق.. وجزم في الروضة بالتسوية بين العتق والطلاق. وقال أبو الخطاب وتبعه في الترغيب: الطلاق أولى من العتق، وحكاه ابن الجوزي رواية والشيخ تقي الدين، وحكاه أيضًا قولاً. وإن لم توجد الصفة حال البينونة عادت رواية. هكذا قال الجمهور. وذكر الشيخ تقي الدين رواية أن الصفة لا تعود مطلقًا، يعني سواء وجدت حال البينونة أو لا (4) .   (1) إنصاف 8/ 412 ف 2/ 305. (2) إنصاف 8/ 419 ف 2/ 305. (3) إنصاف 8/ 387 فيه زيادة ف 2/ 305. (4) إنصاف 8/ 423، 424 ف 2/ 305. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 المستدرك على مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّسَ الله رُوحَه المجلد الخامس الطلاق- علوم جمعه ورتبه محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 كتاب الطلاق ويصح الطلاق من الزوج، وعن الإمام أحمد رواية: ومن والد الصبي والمجنون وسيدهما، والذي يجب أن يسوى في هذا الباب بين العقد والفسخ.. فكل من ملك العقد عليه ملك الفسخ عليه؛ فإن هذا قياس هذه الرواية، وهو موجب شهادة الأصول، ويندرج في هذا الوصي المزوج والأولياء إذا زوجوا المجنون، فإذا جوزنا للولي في إحدى الروايتين استيفاء القصاص وجوزنا له الكتابة والعتق لمصلحة وجوزنا له المقايلة في البيع وفسخه لمصلحة فقد أقمناه مقام نفسه، وكذلك الحاكم الذي له التزويج.. وهذا فيمن يملك جنس النكاح (1) . ويجب على الزوج أمر زوجته بالصلاة، فإن لم تصل وجب عليه فراقها في الصحيح. وقال أبو العباس في موضع آخر: إذا دعيت إلى الصلاة وامتنعت انفسخ نكاحها في أحد قولي العلماء، ولا ينفسخ في الآخر، إذ ليس كل من وجب عليه فراقها ينفسخ نكاحها بلا فعله، فإن كان عاجزا عن طلاقها لثقل مهرها كان مسيئا بتزوجه بمن لا تصلي، وعلى هذا الوجه فيتوب إلى الله تعالى من ذلك، وينوي أنه إذا قدر على أكثر من ذلك فعله (2) .   (1) اختيارات (254) فيها زيادات ف (2/ 603) . (2) اختيارات (254، 255) فيها زيادة، ف (2/ 306) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وقال له رجل: لي جارية وأمي تسألني أن أبيعها قال: تتخوف أن تتبعها نفسك قال: نعم، قال لا تبعها، قال: إنها تقول: لا أرضى عنك أو تبيعها قال: إن خفت على نفسك فليس لها ذلك، قال الشيخ تقي الدين: لأنه إذا خاف على نفسه يبقى إمساكها واجبًا، أو لأن عليه في ذلك ضررًا، وقال أيضًا: قيده أمره ببيع السرية إذا خاف على نفسه، لأن بيع السرية ليس بمكروه ولا ضرر عليه فيه فإنه يأخذ الثمن، بخلاف الطلاق فإنه مضر في الدين والدنيا، وأيضا فإنها متهمة في الطلاق ما لا تتهم في بيع السرية (1) . «لا طلاق ولا عتاق ولا إغلاق» ، قال شيخنا: وحقيقة الإغلاق أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام أو لا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته. قال: والغضب على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال، وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع. الثاني: ما يكون في مبادئه بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع طلاقه بلا نزاع. الثالث: أن يستحكم ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال، فهذا محل نظر (2) . وفي إعلام الموقعين: وقسم يشتد بصاحبه ولا يبلغ به زوال عقله؛ بل يمنعه من التثبت والتروي ويخرجه عن حال اعتداله، فهذا محل اجتهاد (3) .   (1) الآداب (1/ 504) ، ف (2/ 306) . (2) زاد المعاد (4/ 42) ، ف (2/ 306) . (3) إعلام الموقعين (4/ 50) نقلا عن شيخه، ف (2/ 306) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 ويدخل في كلامهم من غضب حتى أغمي عليه أو غشي عليه، قال شيخنا، بلا ريب ذكر أنه طلق أولا (1) . وقال الشيخ تقي الدين أيضًا: إن غيره الغضب ولم يزل عقله لم يقع الطلاق، لأنه ألجأه وحمله عليه فأوقعه وهو يكرهه ليستريح منه فلم يبق له قصد صحيح فهو كالمكره، ولهذا لا يجاب دعاؤه على نفسه وماله ولا يلزمه نذر الطاعة فيه (2) . ولا يقع طلاق السكران ولو بسكر محرم، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو بكر. ونقل الميموني عن أحمد: الرجوع عما سواها، فقال: كنت أقول يقع طلاق السكران حتى تبينت فغلب عليَّ أنه لا يقع (3) . وقصد إزالة العقل بلا سبب شرعي محرم (4) . ولو ادعى الزوج أنه كان حين الطلاق زائل العقل لمرض أو غشي، قال أبو العباس: أفتيت أنه إذا كان هناك سبب يمكن معه صدقه فالقول قوله مع يمينه (5) . ومن شرب ما يزيل عقله لغير حاجة ففي صحة طلاقه روايتان واختار الشيخ تقي الدين أنه كالسكران (6) . وقال الشيخ تقي الدين: وزعم طائفة من أصحاب مالك والشافعي   (1) الفروع (5/ 364) ، ف (2/ 306) . (2) إنصاف (8/ 482) ، ف (2/ 307) . (3) اختيارات فيه زيادة ف (2/ 306) . (4) اختيارات (254) ، ف (2/ 307) . (5) اختيارات (254) ، ف (2/ 307) . (6) إنصاف (8/ 337) ، ف (2/ 307) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 وأحمد أن النزاع في وقوع طلاقه إنما هو في النشوان، فأما الذي تم سكره بحيث لا يفهم ما يقول فإنه لا يقع به قولا واحدا، قال: والأئمة الكبار جعلوا النزاع في الجميع (1) . ومما يلحق بالبنج الحشيشة الخبيثة، وأبو العباس يرى أن حكمها حكم الشراب المسكر حتى في إيجاب الحد، وفرق أبو العباس بينها وبين البنج بأنها تشتهى فهي كالخمر بخلاف البنج (2) . وقال الشيخ تقي الدين: إن طلاق الفضولي كبيعه (3) . ولا يقع طلاق المكره، والإكراه يحصل: إما بالتهديد، وإما أن يغلب ظنه أنه يضره في نفسه أو ماله بلا تهديد. وقال أبو العباس في موضع آخر: كونه يغلب على ظنه تحقق تهديده ليس بجيد؛ بل الصواب أنه لو استوى الطرفان لكان إكراها، وأما إن خاف وقوع التهديد وغلب على ظنه عدمه فهو محتمل في كلام أحمد وغيره. ولو أراد المكره إيقاع الطلاق وتكلم به وقع، وهو رواية حكاها أبو الخطاب في الانتصار، وإن سحره ليطلق فإكراه. قال أبو العباس: تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد، ولا يكون الكلام إكراها. وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها أو مسكنها فلها أن ترجع، بناء على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يسيء   (1) إنصاف (8/ 433) ، ف (2/ 307) . (2) إنصاف (8/ 433) ، ف (2/ 307) . (3) إنصاف (8/ 444) ، ف (2/ 307) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 عشرتها، فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراها في الهبة، ولفظه في موضع آخر، لأنه أكرهها ومثل هذا لا يكون إكراها على الكفر، فإن الأسير إذا خشي من الكفار أن لا يزوجوه وأن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر. ومثل هذا لو كان له عند رجل حق من دين أو وديعة فقال: لا أعطيك حتى تبيعني أو تهبني، فقال مالك: هو إكراه، وهو قياس قول أحمد ومنصوصه في مسألة ما إذا منعها حقها لتختلع منه، وقال القاضي تبعا للحنفية والشافعية ليس إكراها (1) . قال شيخنا: أو ظن أنه يضره بلا تهديد في نفسه أو أهله أو ماله لم يقع (2) . ومن سحر فبلغ به السحر ألا يعلم ما يقول فلا طلاق له (3) . وإذا أكره على اليمين بغير حق مثل أن يكون باعه إلى أجل ثم بعد لزوم العقد قال له: إن لم تحلف لي أنك تعطيني حقي يوم كذا وإلا لزمك الطلاق، فإن لم تحلف أخذت السلعة منك، وذلك بعد أن أدى المشتري الكلفة السلطانية، فإن هذه اليمين لا تنعقد، ولا طلاق عليه إذا لم يعط، ولو قال: كنت استثنيت فقلت: إن شاء الله تعالى، فقال: لم تقل شيئا، فالقول قول الحالف في هذه الحال أنه استثنى لأنه مظلوم، والمظلوم له الاستثناء، وله التعريض والقول قوله في ذلك (4) . وعلى المذهب ليس له أن يطلق ثانية وثالثة قبل الرجعة على الصحيح من المذهب.   (1) اختيارات (255، 256) ، ف (2/ 307) . (2) فروع (5/ 368) ، ف (2/ 307) . (3) مختصر الفتاوى (544) ، ف (2/ 307) . (4) مختصر الفتاوى (543) ، ف (2/ 307) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 قال الشيخ تقي الدين: اختارها أكثر الأصحاب كأبي بكر والقاضي وأصحابه قال: وهو أصح (1) . وإن أطلق ثلاثا مجموعة قبل رجعة واحدة طلقت ثلاثا وإن لم ينوها على الصحيح من المذهب، نص عليه مرارا، وعليه الأصحاب، بل الأئمة الأربعة رحمهم الله وأصحابهم في الجملة، وأوقع الشيخ تقي الدين من ثلاث مجموعة أو متفرقة قبل رجعة طلقة واحدة، وقال: لا نعلم أحدا فرق بين الصورتين (2) . وإن طلقها ثلاثا متفرقة بعد أن راجعها طلقت ثلاثا بلا نزاع في المذهب وعليه الأصحاب منهم الشيخ تقي الدين (3) . صريح الطلاق وكنايته وعنه: أنت مطلقة، ليست صريحة، وطلقتك قال الشيخ تقي الدين، هذه الصيغ إنشاء من حيث إنها هي التي أثبتت الحكم وبها تم، وهي إخبار لدلالتها على المعنى الذي في النفس (4) . أنت طالق لا رجعة لي عليك، قال الشيخ تقي الدين، هذه صريحة في الإيقاع كناية في العدد، فهي مركبة من صريح وكناية (5) . ولو قال رجل: امرأة فلان طالق، فقال: ثلاثا، فهذه تشبه ما لو قال: لي عليك ألف، فقال: صحاح فيه وجهان: وهذا أصله في   (1) إنصاف (8/ 452) ، ف (2/ 308) . (2) إنصاف (8/ 453) ، ف (2/ 309) . (3) إنصاف (8/ 453) ، ف (2/ 309) . (4) إنصاف (8/ 263) ، ف (2/ 312) . (5) إنصاف (8/ 477) ، ف (2/ 313) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 الكلام من اثنين، فإذا أتى الثاني بالصفة ونحوها هل يكون متمما للأول؟ (1) . وعقد النية في الطلاق على مذهب الإمام أحمد: أنها إن أسقطت شيئا من الطلاق لم تقبل، مثل قوله: أنت طالق ثلاثا، وقال: نويت إلا واحدة، فإنه لا يقبل رواية واحدة، وإن لم تسقط من الطلاق وإنما عدل به من حال إلى حال مثل أن ينوي من وثاق وعقال ودخول الدار إلى سنة ونحو ذلك، فهذا على الروايتين. إحداهما: يقبل، كما لو قال: أنت طالق، أنت طالق، وقال: نويت بالثانية التأكيد، فإنه يقبل منه رواية واحدة. وأنت طالق ومطلقة وما شاكل ذلك من الصيغ هي إنشاء من حيث إنها هي إثبات للحكم وشهادتهم، وهي إخبار لدلالتها على المعنى الذي في النفس (2) . ومن أشهد عليه بطلاق ثلاث، ثم أفتي بأنه لا شيء عليه لمن يؤاخذ بإقراره ويقبل يمينه لمعرفة أن مستنده في إقراره ذلك مما يجهله (3) . وإذا صرف الزوج لفظه إلى ممكن يتخرج أن يقبل قوله إذا كان عدلا، كما قاله أحمد فيمن أخبرت أنها نكحت من أصابها، وفي المخبر بالثمن إذا ادعى الغلط على رواية، ولو قيل بمثل هذه في المخبرة بحيضها إذا علق الطلاق به يتوجه، وذلك لأن المخبر إذا خالف خبره الأصل اعتبر فيه العدالة (4) .   (1) اختيارات (256) ، ف (2/ 311) . (2) اختيارات (256، 257) ، ف (2/ 312) . (3) اختيارات (257) وعبارة الإنصاف: ممن يجهله مثله، ف (2/ 312) . (4) اختيارات (257) ، ف (312) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 ولا يقع الطلاق بالكناية إلا بنية وإلا مع قرينة إرادة الطلاق. فإذا قرنت الكنايات بلفظ يدل على أحكام الطلاق، مثل أن يقول: فسخت النكاح، وقطعت الزوجية، ورفعت العلاقة بيني وبين زوجتي. وقال الغزالي في المستصفى في ضمن مسألة القياس: لا يقع الطلاق بالكناية حتى ينويه. قال أبو العباس: هذا عندي ضعيف على المذاهب كلها، فإنهم مهدوا في كتاب الوقف أنه إذا قرن بالكناية بعض أحكامه صار كالصريح. ويجب أن يفرق بين قول الزوج: لست لي بامرأة وما أنت لي بامرأة وبين قوله: ليس لي امرأة وبين قوله إذا قيل له: لك امرأة فقال: لا، فإن الفرق ثابت بينهما وصفا وعددا، إذ الأول نفي لنكاحها، ونفي نكاحها كإثبات طلاقها يكون إنشاء ويكون إخبارا، بخلاف نفي المنكوحات عموما فإنه لا يستعمل إلا إخبارا. وقطع في المغني والكافي وغيرهما: أنه لو باع زوجته، لا يقع به طلاق، وقال ابن عقيل: وعندي أنه كناية: قال أبو العباس: وهذا متوجه إذا قصد الخلع، لا بيع الرقبة (1) . قال القاضي: إن قال لها: اختاري نفسك، فذكرت أنها اختارت نفسها فأنكر الزوج فالقول قوله: لأن الاختيار مما يمكنها إقامة البينة عليه فلا يقبل قولها في اختيارها، قال أبو العباس: يتوجه أن يقبل قولها، كالوكيل على ما ذكره، أصحابنا في أن الوكيل يقبل قوله في كل تصرف وكل فيه.   (1) اختيارات (257، 258) ، ف (2/313) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 ولو ادعى الزوج أنه رجع قبل إيقاع الوكيل الطلاق لم يقبل قوله إلا ببينة، نص عليه الإمام أحمد في رواية أبي الحارث، ذكره القاضي في المجرد (1) . فصل ومن حلف بالحرام ألا يخرج فلانة من بيته فخرجت فمذهب أحمد أنه لا طلاق عليه وإن نوى الطلاق؛ بل تجزئه كفارة يمين في قوله، وكفارة ظهار في آخر، وكفارة اليمين أظهر (2) . باب ما يختلف به عدد الطلاق وإذا قال الزوج: يلزمني الطلاق وله أكثر من زوجة، فإن كان هناك نية أو سبب يقتضي التعميم أو التخصيص عمل به، ومع فقد النية والسبب فالتحقيق أن هذه المسألة مبنية على الروايتين في وقوع الثلاث بلفظ واحد على الزوجة الواحدة، لأن الاستغراق في الطلاق يكون تارة في نفسه، وتارة في محله، وقد فرق بينهما بأن عموم المصدر لأفراده أقوى من عمومه لمفعولاته، لأنه يدل على أفراد مسماه عقلا ولفظا، وإنما يدل على مفعولاته بواسطة فلفظ الأكل والشرب مثلا يعم الأنواع منه، والأعداد أبلغ من عموم المأكول والمشروب إذا كان عاما فلا يلزم من عمومه لأفراده وأنواعه عمومه لمفعولاته. وقوى أبو العباس في موضع آخر وقوع الطلاق لجميع الزوجات دون وقوع الثلاث بالزوجة الواحدة، وفرق بأن وقوع الثلاث بالواحدة محرم؛ بخلاف وقوع الطلاق بالزوجات المتعددات، وإذا قلنا بالعموم   (1) اختيارات (258) وفي الإنصاف قال: وكذا دعوى عتقه ورهنه ف (2/ 313) . (2) مختصر الفتاوى ص (546) ، ف (2/ 313) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 فلا كلام، وإن لم نقل به فهل تتعين واحدة بالقرعة، أو تخرج بتعيينه؟ على روايتني (1) . الاستثناء في الطلاق والفصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام الغير والسكوت لا يكون فصلاً مانعًا من صحة الاستثناء، والاستثناء والشرط إذا كان سؤال ساير أثر (2) وكل هذا يؤيد الرواية الأخرى: وهو أنهما ما دام في ذلك الكلام فله أن يلحق به ما يغيره، فيكون اتصال الكلام الواحد كاتصال القبول والإيجاب، ولا يشترط في الاستثناء والشرط والعطف المغير والاستثناء بالمشيئة حيث يؤثر في ذلك، فلا بد أن يسمع نفسه إذا لفظ به (3) . باب الطلاق في الماضي والمستقبل ولو قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غد وأنا من أهل الطلاق، قال أبو العباس: فإنه يقع الطلاق على ما رأيته، لأنه ما جعل هذا شرطًا يعلق وقوع الطلاق به، فهو كما لو قال: أنت طالق قبل موتي بشهر، فإنه لم يجعل موته شرطا يقع به الطلاق عليها قبل شهر، وإنما رتبه فوقع على ما رتب (4) . قال أبو العباس: سئلت عمن قال: الطلاق يلزمني مادام فلان في هذا البلد. فأجبت أنه إذا قصد به الطلاق إلى حين خروجه فقد وقع ولغى   (1) اختيارات (258، 259) ، ف (2/ 314) (2) كذا بالأصل ولعله سؤال سائل أثر، ويدل عليه آخر الكلام. (3) اختيارات (259) ، ف (2/ 314) . (4) اختيارات (263) ، ف (314) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 التوقيت، وهذا هو الوضع اللغوي، وإن قصد: أنت طالق إن دام فلان، فإن خرج قبل اليمين لم يحنث وإلا حنث، وهذا نظير أنت طالق إلى شهر (1) . قال أبو العباس: سئلت عمن قال لامرأته، أنت طالق ثلاثًا غير اليوم. قال: فقلت: ظاهره وقوع الطلاق في الغد؛ لكن كثيرا ما يعني به سوى هذا الزمان، وهو الذي عناه الحالف فإنه كما لو قال: أنت طالق في وقت آخر، وعلى غير هذه الحال، أو في سوى هذه المدة ونوى التأخير، فإن عين وقتًا بعينه، مثل وقت مرض أو فقر أو غلاء أو رخص أو نحو ذلك تقيد به، وإن لم ينو شيئًا فهو كما لو قال: أنت طالق في زمان متراخ عن هذا الوقت فيشبه الحين، إلا أن المغايرة قد يراد بها المغايرة الزمانية، وقد يراد بها المغايرة الحالية، والذي عناه الحالف فهو كما لو قال: أنت طالق، ليس معينا فهو مطلق، فمتى تغيرت الحال تغيرًا يناسب الطلاق وقع. وإن قال: أنت طالق في أول شهر كذا طلقت بدخوله، وقاله أصحابنا وكذا في غرته ورأسه واستقباله. وإذا قال: أنت طالق مع موتي أو مع موتك، فليس هذا بشيء، نقله مهنا عن الإمام أحمد، وجزم به الأصحاب. ولكن يتوجه على قول ابن حامد؛ أن تطلق لأن صفة الطلاق والبينونة إذا وجدت في زمن واحد وقع الطلاق. ولعل ابن حامد يفرق بأن وقوع الطلاق مع البينونة له فائدة وهو التحريم أو نقص العدد؛ بخلاف البينونة بالموت (2) .   (1) اختيارات (264 ف (2/ 314) . (2) اختيارات (265) ، ف (2/ 314) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 باب تعليق الطلاق بالشروط قال أبو الحسن التميمي: سئلت عن رجل له أربع نسوة قال لواحدة منهن وهو مواجه لها: متى بدأت بطلاق منكن فعبدي حر، وقال للثانية: إن طلقتك فعبداي حران، وقال للثالثة: إن طلقتك فثلاث من عبيدي أحرار، وقال: إن طلقت الرابعة فأربعة من عبيدي أحرار، ثم طلقهن كم يعتق عليه؟ قال: فأجبت على ما حضر من الحساب أنه يعتق بطلاقهن عشرة أعبد. قال أبو العباس: هذه المسألة لم تجتمع الصفات في عين واحدة، ولكن طلاق كل واحدة صفة على انفرادها، وهذا اللفظ إن كان طلقهن متفرقات فالمتوجه أن يعتق عشرة أعبد، كما قال الحسن، وإن طلقهن بكلمة واحدة توجه أن يعتق ثلاثة عشر عبدا. وأصح الطرق في الاكتفاء ببعض الصفة إن كانت حضا أو منعا أو تصديقا أو تكذيبا فهي كاليمين، وإلا فهي علة محضة فلا بد من وجودها بكمالها (1) . ولو علق الطلاق على صفات ثلاث فاجتمعن في عين واحدة، لا تطلق إلا طلقة واحدة، لأنه الأظهر في مراد الحالف، والعرف يقتضيه، إلا أن ينوي خلافه (2) . يصح تعليق الطلاق مع تقدم الشرط، وكذا إن تأخر، وعنه يتنجز إن تأخر الشرط. قال الشيخ تقي الدين: وتأخر القسم كأنت طالق لأفعلن كالشرط وأولى بأن لا يلحق.   (1) اختيارات (264، 265) ، ف (2/ 315) . (2) اختيارات (365) ، ف (2/ 314) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 وعنه: يتنجز إن تأخر الشرط. وعنه صحة قوله لزوجته، من تزوجت عليك فهي طالق. وعنه: تطلق مع تيقن وجود الشرط قبل وجوده، وخص الشيخ تقي الدين هذه الرواية بالثلاث، لأنه الذي يضره كمتعة (1) . وإن قال: عجلت ما علقته لم يتعجل، هذا المذهب لأنه علقه فلم يملك تغييره، وعليه الأصحاب، وجزم به في الوجيز وغيره، وقيل: يتعجل إذا عجله وهو ظاهر بحث الشيخ تقي الدين فإنه قال: فيما قاله الجمهور نظر (2) . ومن قال: فلانة كلما تزوجتها على مذهب مالك فهي طالق، فهذا التزام مذهب بعينه فلا يلزمه، بل له أن يقلد مذهبًا غيره (3) . وبالواو: كأن قمت وقعدت، أو لا قمت وقعدت تطلق بوجودهما. وعنه: أو أحدهما: كأن قمت، وإن قعدت، وكالأصح في لا قمت ولا قعدت، وذكره شيخنا في هذه اتفاقًا (4) . ولو قال: كلما أكلت رمانة فأنت طالق، أو كلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة طلقت ثلاثا بلا نزاع، ولو جعل مكان كلما إن أكلت لم تطلق إلا اثنتين وهو المذهب وعليه الأصحاب، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: لا تطلق إلا واحدة (5) .   (1) إنصاف (9/ 59) وانظر الفروع (5/ 424) ، ف (2/ 314) . (2) إنصاف (9/ 60) ، ف (2/ 314) . (3) فروع (5/ 432) ، ف (2/ 314) . (4) مختصر الفتاوى (436) ، ف (2/، 315) . (5) الإنصاف (9/ 64) ، ف (2/ 314) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 إذا علق الطلاق على شرط لزم وليس له إبطاله، وفي الانتصار والواضح، رواية بجواز فسخ العتق المعلق على شرط، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، لو قال إن أعطيتني أو إذا أعطيتني أو متى أعطيتني ألفًا فأنت طالق، أن الشرط ليس بلازم من جهته كالكتابة عنده، قال في الفروع ووافق الشيخ تقي الدين على شرط محض كإن قدم زيد فأنت طالق، قال الشيخ تقي الدين: التعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء إن كان معاوضة فهو معاوضة، ثم إن كانت لازمة فلازم، وإلا فلا يلزم الخلع قبل القبول ولا الكتابة، وقال: قول من قال: التعليق لازم دعوى مجردة (1) . الحلف بالطلاق قال ابن القيم رحمه الله: قال شيخ الإسلام: والقول بأنه يمين مكفرة هو مقتضى المنقول عن الصحابة في الحلف بالعتق بل بطريق الأولى؛ فإنهم إذا أفتوا من قال: إن لم أفعل كذا فكل مملوك لي حر بأنه يمين تكفر فالحالف بالطلاق أولى. قال: وقد علق القول به أبو ثور، فقال: إن لم تجمع الأمة على لزومه فهو يمين تكفر. وقد بين أن الأمة لم تجمع على لزومه، وحكاه شيخ الإسلام عن جماعة من العلماء الذين سمت هممهم وشرفت نفوسهم فارتفعت عن حضيض التقليد المحض إلى أوج النظر والاستدلال، ولم يكن مع خصومه ما يردون به عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له   (1) الإنصاف (9/ 60، 61) ، ف (2/ 315) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 برد هذه الحجة قبل، وأما ما سواها فقد بين فساد جميع حججهم ونقضها أبلغ نقض، وصنف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة، وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصة وغيره من الأئمة زهاء أربعين دليلا، وصار إلى ربه وهو مقيم عليها، داع إليها، مباهل لمنازعيه، باذل نفسه وعرضه وأوقاته لمستفتيه فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا، فتعطلت لفتاواه مصانع التحليل، وهدمت صوامعه وبيعه، وكسدت سوقه، وتقشعت سحائب اللعنة عن المحللين والمحلل لهم من المطلقين، وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وخرج من حبس تقليد المذهب المعين به من كُرمت عليه نفسه من المستبصرين، فقامت قيامة أعدائه وحساده ومن لا يتجاوز ذكر أكثرهم باب داره أو محلته، وهجنوا ما ذهب إليه بحسب المستجيبين لهم غاية التهجين، فمن استخفوه من الطعام وأشباه الأنعام قالوا: هذا رفع الطلاق بين المسلمين، وكثر أولاد الزنا في العالمين، ومن صادفوا عنده مسكة عقل ولب قالوا: هذا قد أبطل الطلاق المعلق بالشرط. وقالوا لمن تعلقوا به من الملوك والولاة: هذا قد حل بيعة السلطان من أعناق الحالفين، ونسوا أنهم هم الذين حلوها بخلع اليمين؛ وأما هو فصرح في كتبه أن أيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين، فلا يحل لمسلم حل بيعة السلطان بفتوى أحد من المفتين، ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين، ولعمر الله لقد مني من هذا بما مني به سلف من الأئمة المرضيين، فما أشبه الليلة بالبارحة للناظرين. ولا يختلف عالمان متحليان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب، بل وشيخهما أبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 يعلي -فإذا كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتي بها في الإسلام، ويحكم بها الحكام، فالاختيارات شيخ الإسلام أسوة بها، إن لم ترجح، عليها والله المستعان وعليه التكلان (1) . وقوله: وهو يهودي إن فعلت كذا، والطلاق يلزمني ونحوه، يمين باتفاق العقلاء والفقهاء والأمم (2) (3) . وقال الشيخ تقي الدين فيمن قال: الطلاق يلزمه لأفعل كذا وكرره لم يقع أكثر من طلقة إذ لم ينو (4) . تعليقه بالولادة إذا قال: إن ولدت ذكرًا فأنت طالق واحدة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق اثنتين، فولدت ذكرًا ثم أنثى طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به. ونقل ابن منصور، هذا على نية الرجل إذا أراد بذلك تطليقه وإنما أراد ولادة واحدة، وأنكر قول سفيان أنه يقع عليها بالأول ما علق به وتبين بالثاني ولا تطلق به كما قاله الأصحاب، قال ابن رجب في القواعد: ورواية ابن منصور أصح، وهو المنصوص، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله، لأن الحالف إنما حلف على حمل واحد وولادة واحدة، والغالب أن لا يكن إلا ولدًا واحدًا، لكنه لما كان ذكرًا مرة وأخرى أنثى نوع التعليق عليه، فإذا ولدت هذا الحمل ذكرًا وأنثى لم   (1) إعلام الموقعين (114-117) ، ف (2/ 315) . (2) إنصاف (9/ 22، 27) ، ف (2/ 315) ,. (3) اختيارات (264) ، ف (2/ 317) . (4) قلت: أما تعليقه بالحمل، فيأتي في جملة مسائل برقم الفهرس العام (2/ 320، 321) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 يقع به المعلق بالذكر والأنثى جميعًا، بل المعلق بأحدهما فقط؛ لأنه لم يقصد إلا إيقاع أحد الطلاقين، وإنما ردده لتردد المولود ذكرًا أو أنثى، وينبغي أن يقع أكثر الطلاقين إذا كان القصد تطليقها بهذا الوضع سواء كان ذكرًا أو أنثى لكنه أوقع بولادة أحدهما أكثر من الآخر فيقع به أكثر المعلقين اهـ (1) . فولدت ذكرًا ثم أنثى، احترازًا مما إذا ولدتهما معا فإنها تطلق ثلاثًا والحالة هذه بلا نزاع أعلمه، غير الشيخ تقي الدين رحمه الله ومن تبعه (2) . تعليقه بالطلاق قال في المحرر: إذا قال: إذا طلقتك فأنت طالق أو فعبدي حر لم يحنث في يمينه إلا بتطليق ينجزه أو يعلقه بعدهما بشرط فيؤاخذ. وقال أبو العباس: يتوجه إذا كان الطلاق المعلق قبل عقد هذه الصفة أو معها معلقًا بفعله ففعله باختياره أن يكون فعله له تعليقًا، وأن التطليق يفتقر إلى أن تكون الصفة من فعله أيضًا، فإذا علقه بفعل غيره ولم يأمره بالفعل لم يكن تطليقًا. وإن حلف لا يطلق فجعل أمرها بيدها أو خيرها فطلقت نفسها، فالمتوجه أن تخرج على الروايتين في تنصيف الصداق. وإن قلنا يتنصف جعلناه تطليقًا، وإن قلنا: يسقط لم نجعله تطليقا، وإنما هو تمكين من التطليق (3) .   (1) إنصاف (9/ 78، 79) ، ف (2/ 318) (2) إنصاف (9/ 80) ، ف (2/ 318) . (3) اختيارات (268) ، ف (2/319) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 تعليقه بالحلف قال جماعة: اليمين المطلقة إنما تنصرف إلى الحلف بالله، قال أبو يعلى الصغير: ولهذا لو حلف فعلق طلاقًا بشرط أو صفة لم يحنث، وقال شيخنا: إن قصد اليمين حنث بلا نزاع أعلمه، قال: وكذا ما علق لقصد اليمين (1) . إذا حلف بطلاقها ثم أعاده أو علقه بشرط وفي ذلك الشرط حث أو منع والأصح أو تصديق خبر أو تكذيبه سوى تعليقه بمشيئتها أو حيض أو طهر تطلق في الحال طلقة في مرة، ومن الأصحاب من لم يستثن غير هذه الثلاثة ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله، واختار العمل بعرف المتكلم وقصده في مسمى اليمين، وأنه موجب نصوص الإمام أحمد رحمه الله وأصوله (2) . تعليقه بالكلام وإن حلف على غيره ليكلمن فلانًا، ينبغي أن لا يبر إلا بالكلام الطيب، كالكلام بالمعروف ونحوه، دون السب ونحوه، فإن اليمين في جانب النفي أعم من اللفظ اللغوي، وفي جانب الإثبات أخص، كما قلنا فيمن حلف ليتزوجن ونظائره فإنه لا يبر إلا بكمال المسمى. ولو علق الطلاق على كلام زيد فهل كتابته أو رسالته الحاضرة كالإشارة فيجيء فيها الوجهان، أو يحنث بكل حال؟ تردد فيه أبو العباس، قال: وأصل ذلك الوجهان في انعقاد النكاح بكتابة القادر على النطق.   (1) فروع (5/ 452) ، ف (2/ 319) وانظر في الحلف برقم الفهرس العام (2/ 406، 404، 315، 321) . (2) إنصاف (9/ 80) ، ف (2/ 319) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 وإذا قال: إن عصيت أمري فأنت طالق ثم أمرها بشيء أمرًا مطلقًا فخالفت حنث، وإن تركته ناسية أو جاهلة أو عاجزة ينبغي ألا يحنث، لأن الترك ليس عصيانا. وإذا أمرها أمرا بين أنه ندب بأن يقول: آمرك بالخروج وأبيح لك القعود، فلا حنث عليه، لحمل اليمين في الأمر المطلق على مطلق الأمر والمندوب ليس مأمورًا به أمرًا مطلقًا، وإنما هو مأمور به أمرًا مفيدًا (1) . تعليقه بالإذن ولو قال: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فهو على كل مرة، لأن خرجت فعل والفعل نكرة وهي في سياق الشرط تعم نحو قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [8/99] وكذا إذا قال: إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق، يقتضي تعليق المسمى على تحقق الشرط فهو على كل مرة تعطيه ألفًا وهذا المسمى موجود في جميع أفراده فيقع الطلاق به إذا وجد فلو أعطته ما ينقص عن ألف ثم أعطته الألف وقع الطلاق، لكن العموم تارة يكون على سبيل البدل، وهو العموم المطلق وهو الذي يقال فيه تعليق الطلاق، لا يقتضي التكرار، وتارة يكون على سبيل الجمع، وهو العموم على سبيل الاستغراق، وهو يقتضي التكرار في تعليق الطلاق، هذا الجواب هو الصواب. وقيل: إنه إذا أذن لها في الخروج انحلت يمينه بناء على القول بأن النكرة في سياق النفي لا تعم إلا إذا أكدت بـ من تحقيقًا أو تقديرًا نحو قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللهُ} [62/3] محتجًا بقول سيبويه أنه يجوز أن يقول: ما رأيت رجلاً بل رجلين، وهذا إنما هو فرق بين   (1) اختيارات (268) ، ف (2/ 319) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 الصيغتين في الجواز فقط، فإن قوله: ما رأيت من رجل، إنما هو نص في الجنس، لأن حرف من للجنس وأما نحو: ما رأيت رجلا فهو ظاهر في الجنس يقتضي العموم، ويجوز أن يراد به مع القرينة نفي الجنس الواحد، فيجوز للمتكلم أن يريد بكلامه ذلك، كما يريد به سائر الاحتمالات المرجوحة. فإذا قال: إن خرجت إلا بإذني، ونوي خروجا واحدا نفعه ذلك، وحملت يمينه عليه، ولو كان السبب يتقضي ذلك مثل أن تطلب منه الخروج إلى لقاء الحجاج فيقول: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق فهو كما لو حلف لا يتغدى إذا دعي إلى غداء، ففيه قولان: هما وجهان في مذهب أحمد، الصواب أنه يقتصر على ذلك الغداء؛ لأن المفهوم من كلام الناس عرفًا، والفرق بينه وبين ألفاظ الشارع أن العبرة في كلام الشارع بعموم لفظه لا بخصوص سببه، ذلك لأن هناك تعارض قصد التخصيص وقصد التأسيس بالحكم فيرجح التأسيس، لأن كلام الشارع منصوب له وهو موجب اللفظ، وهنا لم يعرف أن غرض الحالف تأسيس المنع من الفعل، فسلمت دلالة التخصيص من معارض، فظهر أن قوله: إن خرجت بغير إذني، مثل قوله: إن خرجت إلا أن آذن لك، هذا خروج مقيد، وهذا خروج مطلق، كقوله: لا أتغدى أو لا أخرج، ومع ذلك فإن تطلق نكرة، وهذه الأفعال كلها للعموم عند الإطلاق، لأنها نكرة في سياق غير موجب فيحمل عليه إذا نواه، وكان مع السبب للخصوص على أصح القولين، وهذا ظاهر في قلوب الناس (1) . وإن علق الطلاق على خروجها بغير إذن ثم أذن لها مرة فخرجت مرة أخرى بغير إذن طلقت، وهو مذهب أحمد؛ لأن خرجت فعل، والفعل نكرة، وهي في سياق الشرط تقتضي العموم.   (1) مختصر الفتاوى (543) ، ف (2/ 319) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 وإن أذن لها فقالت: لا أخرج، ثم خرجت الخروج المأذون لها فيه، قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة؟ ويتوجه فيه ألا يحنث، لأن امتناعها من الخروج لا يخرج الإذن عن أن يكون إذنًا؛ لكن هو إذا قالت: لا أخرج فلما اطمأن إلى أنها لا تخرج ولم تشعره بالخروج فقد خرجت بلا علم، والإذن علم وإباحة. ويقال أيضًا: إنها إذا ردت الإذن عليه فهو بمنزلة قوله: أمرك بيدك إذا أردت ذلك، وأصل هذا أن هذا الباب نوعان: توكيل وإباحة، فإذا قال له: بع هذا، فقال: لا أبيع، أن النفي يرد القبول في الوصية، والموصي إليه لم يملكه بعد، وإذا أباحه شيئا فقال: لا أقبل، فهل له أخذه بعد ذلك؟ فيه نظر. ويتوجه أن الإنشاء كالخبر في التكرار. وظاهر كلام أبي العباس: إذا حلف ليقضينه حقه في وقت عينه فأبرأه قبله لا يحنث، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وقول في مذهب أحمد وغيره (1) . تعليقه بالمشيئة قال أصحابنا: إذا قال: أنت طالق وعبدي حر إن شاء زيد لم يقع إلا بمشيئة زيد لهما إذا لم ينو غيره. ويتوجه أن تعود المشيئة إليهما إما جميعًا وإما مطلقًا بحيث لو شاء أحدهما وقع ما شاء، وكذلك نظيرها في الخلع أنهما طلقتان. ونظيره أن يقول: والله لا تؤمن (2) ولا آكل إن شاء الله تعالى فتبقى   (1) اختيارات (269، 270) ، ف (2/ 319) . (2) كذا في الأصل ولعله: لا أقومن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 على قياس قولهم أن يحنث بفعل الواحد، لأن التقدير إن شاء الله في الجميع المحلوف عليه فيحنث. قال القاضي في الجامع: فإن قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، فقد علق الطلاق بصفة هي عدم المشيئة فمتى لم يشأ وقع الطلاق لوجود شرطه وهو عدم المشيئة من جهته. قال أبو العباس: والقياس أنها لا تطلق حتى تفوت المشيئة، إلا أن تكون نية أو قرينة تقتضي الفورية. وإذا قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله أنه لا يقع به الطلاق عند أكثر العلماء، وإن قصد أنه يقع به الطلاق وقال: إن شاء الله تثبيتا لذلك وتأكيدا لإيقاعه وقع عند أكثر العلماء، ومن العلماء من قال: لا يقع مطلقا، ومنهم من قال: يقع مطلقا، وهذا التفصيل الذي ذكرناه هو الصواب. وتعليق الطلاق إن كان تعليقا محضا ليس فيه تحقيق خبر، ولا حض على فعل كقوله: إن طلعت الشمس، فهذا يفيد فيه الاستثناء. ويتوجه أن تخرج على قول أصحابنا، هل هذا يمين أم لا؟ ومن هذا الباب توقيته بحادث يتعلق بالطلاق معه غرض كقوله: إن مات أبوك فأنت طالق، أو: إن مات أبي هذا فأنت طالق ونحو هذا. وقياس المذهب أن الاستثناء لا يؤثر في مثل هذا؛ فإنه لا يحلف عليه بالله، والطلاق فرع اليمين بالله. وإن كان المحلوف عليه أو الشرط خبرا عن مستقبل لا طلبا كقوله ليقدمن الحاج أو السلطان فهو كاليمين ينفع فيه الاستثناء. وإن كان الشرط أمرا عدميا كقوله: إن لم أفعل كذا فأنت طالق إن شاء الله تعالى فينبغي أن يكون كالثبوت كما في اليمين بالله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 ويفيد الاستثناء في النذر كما في قوله: لا تصدقن إن شاء الله، لأنه يمين. ويفيد الاستثناء في الحرام والظهار، وهو المنصوص عن أحمد فيهما. وللعلماء في الاستثناء النافع قولان: أحدهما: لا ينفعه حتى ينوية قبل فراغه من المستثنى منه، وهو قول الشافعي والقاضي أبي يعلى ومن تبعه. والثاني: ينفعه وإن لم يرده إلا بعد الفراغ حتى لو قال له بعض الحاضرين، قل إن شاء الله، فقال: إن شاء الله، نفعه، وهذا هو مذهب أحمد الذي يدل عليه كلامه، وعليه متقدمو أصحابه، واختيار أبي محمد وغيره، وهو مذهب مالك، وهو الصواب. ولا يعتبر مقارنة قصد الاستثناء، فلو سبق على لسانه عادة أو أتى به تبركا رفع حكم اليمين. وكذلك قوله: إذا أراد الله، وقصد بالإرادة مشيئة الله، لا محبته وأمره. ومن شك في الاستثناء وكان من عادته الاستثناء فهو كما لو علم أنه استثنى كالمستحاضة تعمل بالعادة والتمييز ولا تجلس أقل الحيض، والأصل وجوب العبادة في ذمتها (1) . ومن حلف بالطلاق فقيل له: استثن فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه، بخلاف الذي أوقع الطلاق، وقال: إن شاء الله، فإن ذلك لا يرفعه سواء كان نوى الاستثناء قبل فراغه من اليمين أو بعده، هذا هو   (1) اختيارات (266-268) فيه زيادات كثيرة ف (2/319) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 الصحيح الذي دل عليه كلام الإمام أحمد وكثير من السلف وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحلفه - صلى الله عليه وسلم - وقوله: (لأغرون قريشا) ولم يغزها، وحلف سليمان عليه السلام أن يطوف على نسائه، وقوله للعباس: (إلا الإذخر) واستثناء سهيل بن بيضاء وغيره تدل على أن اليمين تنحل بالاستثناء المقارن لليمين (1) . حكي عن أبي بكر رحمه الله أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق، وقال الشيخ تقي الدين: قول أبي بكر رواية منصوصة عن الإمام أحمد رحمه الله ولكن أكثر أجوبته كقول الجمهور (2) . قال ابن القيم رحمه الله: إذا استحلف على شيء فأحب أن يحلف ولا يحنث فالحيلة أن يحرك لسانه بقول: إن شاء الله، وهل يشترط أن يسمعها نفسه؟ فقيل: لا بد أن يسمع نفسه. وقال شيخنا: هذا لا دليل عليه، بل متى حرك لسانه بذلك كان متكلما وإن لم يسمع نفسه وهكذا حكم الأقوال الواجبة (3) . وإذا حلف على يمين وكان من عادته أن لا يحلف إلا ويستثنى فحلف يمينا وشك بعد مدة هل جري على عادته في الاستثناء أم لا؟ فالأظهر من قول العلماء إجراؤه على عادته وإلحاق الفرد بالأعم الأغلب (4) . وإذا حلف فقال له رجل قال: إن شاء الله، فقال: حلفت ومضى، فقال مرة ثانية: قل إن شاء الله، فقالها، ففيه نزاع مشهور في مذهب أحمد وغيره، في الصحيح، مثل هذا الاستثناء كما ثبت في حديث   (1) مختصر الفتاوى (547) ف (2/320) . (2) إنصاف (9/ 28) ، ف (2/ 320) . (3) إعلام الموقعين (3/ 382) ، ف (2/ 320) . (4) مختصر الفتاوى (542) ، ف (2/ 320) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 سليمان عليه السلام أنه قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كل امرأة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل، فلو قالها لقاتلوا جميعًا في سبيل الله فرسانا أجمعين، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة: "لا يختلي خلاها" فقال له العباس: إلا الإذخر، فقال: "إلا الإذخر" وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينقلبن أحد إلا بضرب عنق" فقال ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى خفت أن الحجارة تنزل علي من السماء ثم قال: "إلا سهيل بن بيضاء" وقال - صلى الله عليه وسلم - " والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا" ثم سكت ثم قال: "إن شاء الله ثم لم يغزهم". وفي القرآن جمل قد بين فصل أبعاضها بكلام آخر كقوله: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [72-73/3] ففصل بين الكلام المحكي عن أهل الكتاب، وله نظائر، والله أعلم (1) . يعتبر للاستثناء والشرط ونحوهما اتصال معتاد لفظا وحكما كانقطاعه بتنفس ونحوه، ويعتبر أيضًا نيته قبل تكميل ما ألحقه به، وقيل: يصح بعد تكميل ما ألحقه به واختاره الشيخ تقي الدين، وقال: دل عليه كلام الإمام أحمد، وعليه متقدمو أصحابه، وقال: لا يضر فصل يسير بالنية وبالاستثناء اهـ (2) .   (1) مختصر الفتاوى (542) ، ف (2/ 320) . (2) إنصاف (9/ 34، 35) زيادة إيضاح ف (2/ 320) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 وإذا حلف بالطلاق الثلاث لا يكسن هذه الدار، وقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه إذا سكن فيها، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور من مذهبه، وقول في مذهب مالك إذا قال: إن شاء الله على الوجه المعتبر (1) . فصل قال أبو العباس: تأملت نصوص كلام الإمام أحمد فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته في كل يمين حلف الرجل عليها بالطلاق وهو لا يدري أبار فيها أم حانث حتى يستيقن أنه بار، فإن لم يعلم أنه بار في وقت وشك في وقت اعتزالها وقت الشك، نص على فروع هذا الأصل في مواضع. إذا قال لامرأته، إن كنت حاملا فأنت طالق، فإنه نص على أنه يعتزلها حتى يتبين أنها ليست بحامل، ولم يذكر القاضي خلافا في أنه يمنع من وطئها قبل الاستبراء إن كان قد وطئها قبل اليمين. وتلخص من كلام القاضي: أنها إذا لم تحض ولم يظهر بها حمل فهل يحكم ببراءة الرحم بحيث يجوز وطئها، ويتبين أن الطلاق لم يقع بمضي تسعة أشهر أو ثلاثة أشهر؟ على وجهين، وهذا إنما هو في حق من تحيض أو تحمل، وأما الآيسة والصغيرة فإن الواجب أن تستبرأ بمثل الحيضة، وهو ثلاثة أشهر، أو شهر واحد على ما فيه من الخلاف. أو يقال يجوز وطء هذه قبل الاستبراء إلا أن تكون حاملا، هذا هو الصواب. وكل موضع يكون الشرط فيه أمرا عدميا يتبين فيما بعد مثل أن   (1) مختصر الفتاوى (542) ، ف (2/ 320) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 يقول: إن لم يقدم زيد أو إن لم يقدم في هذا الشهر ونحو ذلك فلا يجوز الوطء حتى يتبين. ومنها: إذا وكل وكيلا في طلاق زوجته فإنه يعتزلها حتى يدري ما فعل، وحمله القاضي على الاستحباب، والوجوب متوجه. ومنها: إذا قال: أنت طالق ليلة القدر، فإنه يعتزلها إذا دخل العشر الأواخر، لإمكان أن تكون ليلة القدر أول ليلة، وحمله القاضي على المنع. ومنها: إذا قال: أنت طالق قبل موتي بشهر، فإنه يعتزلها أبدا، وحمله القاضي على الاستحباب. ومنها: مسألة إن كان هذا الطائر غرابا فامرأتي طالق ثلاثا، وقال آخر: إن لم يكن غرابا فامرأتي طالق ثلاثا، وطار ولم يعلم ما هو، فإنهما يعتزلان نساءهما حتى يتيقنا، وحمله القاضي على الاستحباب. وما كان من هذه الشروط مما يئسا من استبانته ففيه مع العلم بوقوعه. ذكر القاضي في مسألة الطائر أن ظاهر كلام أحمد الحنث، وتعليل القاضي في مسألة إن شاء الله صريح في ذلك، فإنه جعل الشرط الذي لا يعلم بمنزلة عدم الاشتراط، وهذا ظاهر في قول أحمد: أنت طالق إن شاء فلان فلو لم يشأ تطلق، لأن مشيئة العباد ومشيئة الله لا تدرك، هي مغيبة عنه، فإن هذا يقتضي أن كل شرط مغيب لا يدرك يقع الطلاق المعلق به. وعلى هذا من حلف ليدخلن الجنة يحنث، لأنه مغيب لا يدرك. لكن كلام الإمام أحمد في أكثر المواضع إنما فيه الأمر بالاعتزال فقط، وهذا فقه حسن، فإن الحلف بالطلاق محمول على الحلف بالله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 ولو حلف بالله على أمر وهو لا يعلم أنه صادق في يمينه كان آثما بذلك وإن لم يتيقن أنه كاذب فكذلك يمين الطلاق وأشد. وقد نص على أنه إذا شك هل تطلق، أم لا؟ أنه لا يقع به الطلاق، ولم يتعرض للاعتزال، فينظر هل يؤمر بالاعتزال هنا، أم يفرق بأن هذا لم يحلف يمينا فهو بمنزلة من شك هل حلف أم لا؟. قال في المحرر: وتمام التورع في الشك قطعه برجعة، أو عقد إن أمكن وإلا ففرقة متيقنة بأن يقول: إن لم تكن طلقت فهي طالق. وقال القاضي: أما في الورع فإن كان يعلم من نفسه أنه متى طلق فإنما يطلق واحدة لاعتقاده أن الزيادة عليها بدعة: ألزم نفسه طلقة ثم راجعها فإن كان الطلاق قد وجد فقد راجع، وإن لم يكن قد وجد فما ضره، وإن كان يعلم من نفسه أنه متى طلق فإنما يطلق ثلاثا: ألزم نفسه ثلاثا، ومعناه أن يوقع عدد الطلقات الثلاث فتحل لغيره من الأزواج ظاهرًا وباطنًا. قال أبو العباس: ومما يدل على أنه متى وقع الشك في وقوع الطلاق فالأولى استبقاء النكاح؛ بل يكره أو يحرم إيقاعه لأجل الشك، أن الطلاق بغيض إلى الرحمن، حبيب إلى الشيطان ويدل عليه قصة هاروت وماروت. وأيضا: فإن النكاح دوامه آكد من ابتدائه كالصلاة، وإذا شك في الصلاة أحدث، أم لا؟ لم يستحب له أن ينصرف منها بالشك بنص الحديث، لما فيه من إبطال الصلاة بالشك، فكذلك إبطال النكاح بالشك؛ بل الصلاة إذا أبطلها أمكن ابتداؤها بخلاف النكاح (1) . واختار شيخنا العمل بعرف المتكلم وقصده في مسمى اليمين وأنه   (1) اختيارات (259-261) ، ف (2/ 321) إلى (323) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 موجب أصول أحمد ونصوصه، وأن مثله والله لا أحلف يمينا، طلقت في الحال طلقة في مرة، وإن قصد بإعادته إفهامها لم يقع، ذكره أصحابنا (1) . باب التأويل في الحلف وإن حلف بالطلاق كاذبا يعلم كذب نفسه لا تطلق زوجته، ولا يلزمه كفارة يمين (2) . ولو قيل: زنت امرأتك، أو خرجت من الدار فغضب، وقال: فهي طالق، لم تطلق وأتفى به ابن عقيل، وهو قول عطاء بن أبي رباح. وقريب منه ما ذكره ابن أبي موسى وخالف فيه القاضي: إذا قال لامرأته: أنت طالق أن دخلت الدار -بفتح الهمزة- أنها لا تطلق إذا لم تكن دخلت؛ لأنه إنما طلقها لعله فلا يثبت الطلاق بدونها. ومن هذا الباب ما يسأل عنه كثير مثل أن يعتقد أن غيره أخذ ماله فيحلف ليردنه أو يقول: إن لم ترده فامرأتي طالق، ثم تبين أنه لم يأخذه أو يقول: ليحضرن زيد، ثم يتبين موته، أو لتعطيني من الدراهم الذي معك ولا دراهم معه. ثم هذا قسمان: الأول: منه ما يتبين حصول غرضه بدون الفعل المحلوف عليه مثل ما إذا ظن أنها سرقت له مالا فيحلف ليردنه فوجدها لم تسرقه. والثاني: فإنه وإن لم يحصل فيه غرضه لكن لا غرض له مع   (1) فروع (5/ 442) ، ف (2/ 321) . (2) اختيارات (256) ، ف (2/ 321) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 وجود المحلوف عليه فيصير كأنه لم يحلف عليه، وفي الأول يحصل غرضه منه فيصير كأنه بر بالفعل (1) . واختار الشيخ تقي الدين رحمه الله: فيمن حلف على غيره ليفعلنه فخالفه، لم يحنث إن قصد إكرامه لا إلزامه، لأنه كالأمر، ولا يجب؛ لأمره - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر بوقوفه في الصف ولم يقف، ولأن أبا بكر أقسم ليخبرنه بالصواب والخطأ لما فسر الرؤيا فقال: لا تقسم، لأنه علم أنه لم يقصد الإقسام عليه مع المصلحة المقتضية للكتم. وقال أيضا: إن لم يعلم المحلوف عليه بيمينه فكالناسي (2) . وإذا حلف بالطلاق ليعطينه كذا فعجز عنه فلا حنث عليه إذا كانت نيته أن يعطيه مع القدرة (3) . ومن كانت عنده وديعة فتصرفت فيها زوجته، فطلب صاحب الوديعة وديعته، فقال لزوجته: أعطيه الوديعة، فقالت: تصرفت فيها، فحلف أنه لا بد أن يعطيه الوديعة وإلا كانت طالقا، ولا يروح إلا بوديعته وكان قد رأى الوديعة في البيت، فعجزت الزوجة عن إحضارها، وراح الرجل ولم يأخذ الوديعة، فإذا كانت الوديعة معدومة فلا حنث عليه، لأن المحلوف عليه ممتنع ولا يحنث في أصح القولين، ولأنه اعتقد وجودها فتبين ضده فلا يحنث في مثل ذلك على الصحيح. ومن رأى معجنة طين فقال: علي الطلاق ما تكفي، فكفت، فلا يعود إلى مثل هذا اليمين فإن فيها خلافا؛ لكن الأظهر أنه لا يحنث.   (1) اختيارات (263) فيه زيادات وجزم بالحكم ف (2/ 321) . (2) إنصاف (6/ 116) ، ف (2/ 321) . (3) مختصر الفتاوى (548) ، ف (2/ 320) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 وإن حلف على زوجته لا تفعل شيئا ولم تعلم أنه حلف أو علمت فنسيت ففعلته، فلا حنث عليه، وله أن يصدقها إن كانت صادقة عنده (1) . فصل ومن حلف على زوجته بالطلاق الثلاث لا تفعل كذا ففعلت وزعمت أنها حين فعلته اعتقدت أنه غير المحلوف عليه فالصحيح في مثل ذلك أنه لا يقع طلاقه، بناء على أنه إذا فعل المحلوف عليه ناسيا ليمينه أو جاهلا لم يقع به طلاق في أحد قولي الشافعي وأحمد. وعنه في جنس ذلك ثلاث روايات، لأن البر والإيمان بمنزلة الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، لأن الحالف يقصد بيمينه الحض لنفسه أو لغيره ممن يحلف عليه أو المنع لنفسه أو لغيره ممن يحلف عليه، فهو في الحقيقة طلب مؤكد بالقسم، فكما أن الكلام نوعان: خبر وإنشاء. والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة، والقسم أيضا، نوعان: خبر مؤكد، وإنشاء مؤكد بالقسم؛ ولهذا كان القسم جملتان: جملة يقسم عليها، وجملة يقسم بها، فإذا قال: والله لقد كان كذا، أو ما كان كذا، أو لأفعلن كذا، أو لا تفعل كذا، كان هذا قسما على الخبر، وإذا قال: والله لا أفعل كذا، أو لا تفعل كذا، كان هذا إنشاء مؤكدا بالقسم، لكنه طلب يتضمن الأمر والنهي، ثم لما صاروا يحلفون بالطلاق كان له صيغتان: صيغة القسم، وصيغة الشرط، فصيغة القسم قول الحالف: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، أو لا أفعله، أو لتفعلن كذا، وصيغة القسم موجب في صيغة الجزاء، والمثبت في هذه منفي في هذه.   (1) مختصر الفتاوى (545) ، ف (2/ 320) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وصيغة الشرط إذا تضمنت معنى الحض والمنع كانت حلفا بالطلاق، وأما إن كان تعليقا محضا كقوله: إذا ظهرت أو طلعت الشمس ونحو ذلك، ففيه نزاع بين العلماء، والصحيح أنه ليس بحلف، بل هو إيقاع موجب بوقت معلوم أو مجهول أو معلق بشرط، وينبني على ذلك مسائل. منها: لو حلف لا يحلف بالطلاق، أو قال: إذا حلفت به فعبدي حر، أو لم يعرف لغته، فأما إن عرفت لغته فإن يمينه تنزل عليها. ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف فقال: إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك". وقد تنازع العلماء في الاستثناء على ثلاث درجات. أحدها: الإيقاع المجرد، فعند أحمد ومالك أنه تقع الثانية. وإذا علق الطلاق بشرط يقصد به الحض أو المنع، ففيه قولان: وهما روايتان عن أحمد. إحداهما: الإيقاع، فإنه كالإيقاع، والثاني: وهو الصحيح أنه كالحض. والدرجة الثالثة: إذا حلف بصيغة القسم، كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، فهذا ظاهر المذهب عن أحمد أنه لا يحنث، ثم من أصحابه من يجعله قولاً واحدًا ومنهم من يجعل فيه روايتين، فالصواب وقوع الاستثناء في هاتين الصورتين، وإن قيل: لا يقع في الإيقاع. والمقصود هنا: أن الحالف على نفسه أو غيره ليفعلن أو لا يفعل، وهو طالب طلبا مؤكدا بالقسم بمنزلة الأمر والنهي، وإذا كان كذلك فقد علم أن المنهي إذا فعل ما نهى عنه ناسيًا أو مخطئًا، وقد فعل شيئا يعتقد أنه غير المنهي عنه كان المنهي عنه كأنه لم يكن، ولم يكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 المنهي مخالفا للناهي عاصيا له، فكذلك من فعل المحلوف عليه ناسيا أو مخطئا في اعتقاده لم يكن مخالفا للحالف، فلم يحنث الحالف، وهذا بين لمن تأمله، والله تعالى لم يؤاخذ بالنسيان والخطأ. وأما إذا فعلت الزوجة المحلوف عليها، عالمة بالمخالفة، فهذا فيه نزاع آخر غير النزاع المعروف. فأصل الحلف بالطلاق هل يقع به الطلاق، أو لا يقع؟ فإن النزاع في ذلك بين السلف والخلف. والمقصود: أن الزوج إذا حلف على زوجته فخالفته عمدا، فمذهب أشهب صاحب مالك أنه لا يقع به طلاق في هذه الصورة، وخالفه غيره من المالكية، ولعل مأخذه إما وجوب طاعته عليها وجعلها عاصية بذلك، أو لئلا يكون الطلاق بيدها من غير رضاه، فإنه لم يقصد جعله بيدها إنما قصد منعها، وظن أنها لا تعصيه، كمن حلف على معنى يظنه، كصفة، فتبين بخلافها. ثم إذا وقع به الطلاق بفعلها، أو حصلت فرقة بفعلها بعد الدخول فهل يرجع عليها بالمهر؟ فهو مبني على أن إخراج البضع من ملك الزوج هل هو متقوم؟ فلو شهد شهود بالطلاق ثم رجعوا، هل يضمنون الصداق؟ فيه قولان مشهوران هما روايتان عن أحمد، والصحيح أنه متقوم ومنهم من فرق بين المرأة والأجنبي فيقول: متقوم على الأجنبي دون المرأة فيقولون: إن أفسدت النكاح هي لم تضمنه، بخلاف الأجنبي. ثم مالك يقول: هو مضمون بالمسمى وهو منصوص عن أحمد، والشافعي يقول: هو مضمون بمهر المثل وهو وجه لأحمد، وكذلك لو أفسد رجل نكاح امرأة قبل الدخول بها وبعده فللمرأة قبل الدخول نصف الصداق، ولها جميعه بعده، ويرجع الزوج به على المفسد في الصورتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 عند من يقول خروج البضع متقوم، وهو المنصوص عن أحمد، وهو مقدار ما يرجع به على القولين، ومن يقول: لا يتقوم يقول: لا يرجع، وهذا القول الآخر في مذهب أحمد. والدليل على أنه متقوم جواز الخلع عليه، وأيضا ما ذكره الله سبحانه وتعالى في الممتحنة حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} إلى قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [10/60] نزلت باتفاق المسلمين في قضية الصلح الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أهل مكة صلح الحديبية لما شرط عليهم أن يرد المسلمون من جاءهم مسلما، وأن لا يرد أهل مكة من ذهب إليهم مرتدا، فهاجر نسوة كأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط فنسخ الله تعالى الرد في النساء، وأمر برد المهر عوضا عن رد المرأة، فذلك قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} فأمر أن يؤتي الأزواج الكفار ما أنفقوا على المرأة الممتحنة التي لا ترد، والذي أنفقوا هو المسمى {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} فشرع للمؤمنين أن يسألوا الكفار ما أنفقوا على النسوة اللاتي ارتددن إليهم، وأن يسأل الكفار ما أنفقوا على النساء المهاجرات، فلما حكم الله سبحانه وتعالى بذلك دل على أن خروج البضع متقوم، وأنه بالمهر المسمى، ودلت الآية على أن المرأة إذا أفسدت نكاحها رجع عليها زوجها بالمهر. فإذا حلف عليها فخالفته وفعلت المحلوف عليه كانت عاصية ظالمة متلفة للبضع عليه، فيجب عليها ضمانه: إما بالمسمى على أصح قولي العلماء، وإما بمهر المثل. يوضع ذلك ما كان من امرأة قيس بن شماس حين أبغضته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 وقالت: إني أكره الكفر بعد الإيمان فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ترد عليه حديقته لأن الفرقة جاءت من جهتها فتبين أنه يجوز أن يأخذ صداقها إذا كان سبب الفرقة من جهتها، إلا إذا كانت من جهته، وهذا كله يقرر أنه يجوز أن يرجع إليه الصداق، إذا فعل ما يوجب الضمان مثل: ما إذا أفسدته عليه بالهجرة، أو الردة (1) . ومن حلف على رجل، لا بد أن يعطي فلانا كذا يعتقد أن ذلك الشيء عنده موجود بحيث لو علم أنه قد عدم لما حلف، ثم تبين أن ذلك الشيء قد عدم فلا حنث عليه لأنه حلف على مستحيل نحو: لأطيرن، أوة لأشربن ماء هذا الكوز ولا ماء فيه، وهذا لا يحنث عند جماهير العلماء. وله مأخذ آخر وهو: أنه حلف يعتقد شيئًا فتبين بخلافه (2) . وإذا حلف بالطلاق الثلاث: أن أحدا من أرحام المرأة لا يطلع إلى بيته، فطلع في غيبته، فإن كان يعتقد أنه إذا حلف عليهم امتنعوا من الصعود فحلف ظنا أنهم ممن يطيعونه فتبين الأمر بخلاف ذلك، ففي حنثه نزاع بين العلماء، الأظهر أنه لا يحنث، كمن رأى امرأة يظنها أجنبية فقال: أنت طالق ثم تبين أنها امرأته ونحو ذلك من المسائل التي يتعارض فيها تعيين الظاهر والقصد؛ فإن الصحيح اعتبار القصد (3) . وإذا حلف على زوجته بالطلاق أنها لا تخرج إلا إلى الحمام فخرجت إلى بيت أهل الزوج وقالت لم أظن أنك أردت منعي من أهلك، فعرف صدقها في ذلك لم يقع به طلاق، وإن عرف كذبها لم   (1) مختصر الفتاوى (538-541) ، ف (2/ 321) . (2) مختصر الفتاوى (549) ، ف (2/ 321) . (3) مختصر الفتاوى (541) ، ف (2/ 321) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 يقبل قولها، وإن شك في صدقها وكذبها لم يحكم بوقوع الطلاق فإن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بالشك (1) . وإذا حلف على أخت زوجته لا تدخل بيته إلا بإذنه فدخلت بغير إذنه ولم تكن علمت باليمين ثم علمت فاعتقدت أن اليمين انحلت بالحنث وأنه لم يبق عليها يمين فاستمرت على الدخول فلا حنث على الحالف لأن الدخول الأول لم تكن عالمة باليمين، وبعد ذلك اعتقدت أنها انحلت وأنه لم يبق عليه يمين (2) . إذا علل الطلاق بعلة ثم تبين انتفاؤها، فمذهب أحمد أنه لا يقع بها الطلاق، وعند شيخنا لا يشترط ذكر التعليل بلفظه، ولا فرق عنده بين أن يطلقها لعلة مذكورة في اللفظ أو غير مذكورة، فإذا تبين انتفاؤها لم يقع الطلاق، وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره، ولا تقتضي قواعد الأئمة غيره (3) . وإذا حلف: لا يسكن بيت أبيه فزارهم وجلس عندهم أياما لم يحنث، لأن الزيارة ليست سكنا باتفاق الأئمة (4) . ومن حلف على ابن أخت زوجته أن لا يعمل عند إنسان لكونه يظلمه، ثم بلغ وخرج عن أمره واستقل بنفسه وأجر نفسه لذلك الرجل لم يحنث ذلك الحالف (5) . وإذا حلف لا يفعل شيئًا لسبب فزال السبب أو أكره على فعل المحلوف عليه لم يحنث، وإن كان السبب باقيًا وأراد فعل المحلوف.   (1) مختصر الفتاوى (537) ، ف (2/ 321) . (2) مختصر الفتاوى (537) ، ف (2/ 321) . (3) إعلام الموقعين (4/ 90، 91) ، ف (2/ 321) . (4) مختصر الفتاوى (547) ، ف (2/ 321) . (5) مختصر الفتاوى (537) ، ف (2/ 323) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 فخالع زوجته خلعا صحيحا ثم فعله بعد أن بانت بالخلع لم يحنث، وإن كان الخلع لأجل اليمين ففيه نزاع مشهور. والصحيح أن خلع اليمين لا يصح، كالمحلل، لأنه ليس المقصود به الفرقة، وهل يقع بخلع اليمين طلقة رجعية أم لا يقع به شيء؟ فيه نزاع مشهور، والصحيح أنه لا يقع به شيء بحال، لكن إذا أفتاه مفت به وفعله معتقدا أن النكاح قد زال وأنه لا حنث عليه لأنه لم يقصد مخالفة يمينه فلا حنث عليه، وأكثر العلماء يقولون إن يمينه باقية منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور والشافعي في أحد قوليه. وفي القول الآخر: أن اليمين تنحل إذا حصل بينه وبين زوجته بينونة، ويجوز للمستفتي أن يستفتي في مثل هذه المسائل من يفتيه بأن لا حنث عليه، ولا يجب على أحد أن يطيع أحدا في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإذا أفتاه من يجوز استفتاؤه جاز أن يعمل بفتواه ولو كان ذلك القول لا يوافق المذهب الذي ينتسب هو إليه، وليس بالازم أن يلتزم قول إمام بعينه في جميع أيمانه (1) . قال شيخنا: والاحتياط أحسن ما لم يفض بصاحبه إلا مخالفة السنة، فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط (2) . ومن اتهمته زوجته بوطء جاريته فعرض وحلف أنه ما وطئها فله ذلك كما جرى لعبد الله بن رواحة رضي الله عنه إذ حلف لزوجته وأقام لها الدليل على ذلك أنه ليس جنبا فأنشد لها شعرا يوهمها أنه قرآن وهو: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرين وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمين   (1) مختصر الفتاوى (549) ، ف (2/ 323) . (2) مختصر الفتاوى (545) ، ف (2/ 323) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 وذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك وقال: "إن امرأتك لفقيهة" فهذا قد أظهر لها أنه يقرأ القرآن، ومثل هذا لو فعله الرجل لغير عذر كان حراما بالاتفاق (1) . باب الشك في الطلاق لو قال: إن كان غرابا فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فامرأتي طالق، ولم يعلماه لم تطلقا، ويحرم عليهما الوطء إلا مع اعتقاد أحدهما خطأ الآخر. واختار أبو الفرج في الإيضاح والشيخ تقي الدين وقوع الطلاق، وقال: هو ظاهر كلام أحمد رحمه الله (2) . باب الرجعة قال شيخنا: لا يمكن من الرجعة إلا من أراد إصلاحا وأمسك بمعروف فلو طلق إذا ففي تحريمه الروايات: وقال: القرآن يدل على أنه لا يملكه وأنه لو أوقعه لم يقع كما لو طلق البائن، ومن قال: إن الشارع ملك الإنسان ما حرمه عليه فقد تناقض (3) . وألزم شيخنا بإعلان الرجعة والتسريح أو الإشهاد كالنكاح والخلع عنده، لا على ابتداء الفرقة لقوله: {وَأَشْهِدُوا} ولئلا يكتم طلاقها (4) .   (1) إغاثة اللهفان (1/ 163) ، ف (2/ 323) . قلت: وتقدم. (2) إنصاف (9/ 145) ، ف (2/ 323) . قلت: وتقدم في الفصل السابق قول أبي العباس تأملت نصوص أحمد فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته في كل يمين حلف الرجل عليها بالطلاق وهو لا يدري أبار فيها أم حانث إلخ، وهي في الاختيارات (259-261) . (3) فروع (5/ 464) وإنصاف (9/ 150) ، ف (2/ 323) . (4) فروع (5/ 416) ، ف (2/ 324) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 قال أبو العباس: أبو حنيفة يجعل الوطء رجعة، وهو إحدى الروايات عن أحمد، والشافعي لا يجعله رجعة، وهو رواية عن أحمد، ومالك يجعله رجعة مع النية، وهو رواية أيضا عن أحمد، فيبيح وطء الرجعية إذا قصد به الرجعة وهذا أعدل الأقوال وأشبهها بالأصول، وكلام ابن أبي موسى في الإرشاد يقتضيه. ولا تصلح الرجعة مع الكتمان بحال، وذكره أبو بكر في الشافعي، وروي عن أبي طالب قال: سألت أحمد عن رجل طلق امرأته وراجعها واستكتم الشهود حتى انقضت العدة؟ قال: يفرق بينهما ولا رجعة له عليها (1) . فصل قال أصحابنا: ومن غابت مطلقته المحرمة ثم ذكرت أنها تزوجت من أصابها وانقضت عدتها منه وأمكن ذلك فله نكاحها إذا غلب على ظنه صدقها وإلا فلا. وقد تضمنت هذه المسألة، أن المرأة إذا ذكرت أنه كان لها زوج فطلقها وانقضت عدتها فإنه يجوز تزوجها وتزويجها، وإن لم يثبت أنه طلقها. ولا يقال: إن ثبوت إقرارها بالنكاح يوجب تعلق حق الزوج بها فلا يجوز نكاحها حتى يثبت زواله. ونص الإمام أحمد في الطلاق، إذا كتب إليها أنه طلقها لم تتزوج حتى يثبت الطلاق، وكذلك لو كان للمرأة زوج فادعت أنه طلقها لم تتزوج بمجرد ذلك باتفاق المسلمين؛ لأنا نقول، المسألة هنا فيما إذا   (1) اختيارات (273، 274) فيه زيادات والمبدع (7/ 393) ، ف (2/ 334) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 ادعت أنه تزوجها من أصابها وطلقها ولم تعينه، فإن النكاح لم يثبت لمعين بل لمجهول، فهو كما لو قال: عندي مال لشخص وسلمته إليه فإنه لا يكون إقرارا بالاتفاق، فكذلك قولها، كان لي زوج وطلقني أو سيدي اعتقني ولو قالت: تزوجني فلان وطلقني فهو كالإقرار بالمال، وادعاء الوفاء، والمذهب لا يكون إقراره (1) . فصل قال أحمد في رواية ابن منصور: فإن طلقها ثلاث ثم جحد تفتدي نفسها منه بما تقدر عليه، فإن أجبرت على ذلك فلا تتزين له ولا تقربه وتهرب إن قدرت. وقال في رواية أبي طالب: تهرب ولا تتزوج حتى يظهر طلاقها ويعلم ذلك. فإن لم يقر بطلاقها ومات لا ترث، لأنها تأخذ ما ليس لها، وتفر منه، ولا تخرج من البلد ولكن تختفي في بلدها قيل له: قال بعض الناس، تقتله بمنزلة من يدفع عن نفسه، فلم يعجبه ذلك. فإن قال: استحللت، وتزوجتها، قال: يقبل منه. قال القاضي: ألا تقتله، معناه: لا تقصد قتله، وإن قصدت دفعه فأدى ذلك إلى قتله فلا ضمان. قال أبو العباس: كلام أحمد يدل على أنه لا يجوز لها دفعه   (1) اختيارات (275) ، ف (2/ 334) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 بالقتل وهو الذي لم يعجبه لأن هذا ليس معتديا في الظاهر، والدفع بالقتل إنما يجوز لمن ظهر اعتداؤه (1) . وقطع جمهور أصحابنا بحل المطلقة ثلاثا بوطء المراهق، والذمي إن كانت ذمية. قال أبو العباس: النكاح الذي يبيحها له هو النكاح الذي ينبغي أن يقران عليه بعد الإسلام، والمجيء به إلينا للحكم صحيح. فعلى هذا يحلها النكاح بلا ولي ولا شهود، وكذلك لو تزوجها على أخت ثم ماتت الأخت قبل مفارقتها. فأما لو تزوجها في عدة أو على أخت ثم طلقها مع قيام المفسد فهنا موضع نظر، فإن هذا النكاح لا يثبت به التوارث ولا نحكم نحن فيه بشيء من أحكام النكاح، فينبغي أن لا تحل له (2) . يلزمها (3) ترك حناء وزينة نهاها عنه الزوج، ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله (4) .   (1) اختيارات (274) ، ف (2/ 324) . (2) اختيارات (274) ، ف (2/ 334) . (3) الرجعية. (4) إنصاف (9/ 357) ، ف (2/ 334) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 كتاب الإيلاء وإذا حلف الرجل على ترك الوطء وغي بغاية لا يغلب على الظن خلو المدة منها فخلت منها فعلى روايتين: إحداهما: هل يشترط العلم بالغاية وقت اليمين، أو يكفي ثبوتها في نفس الأمر؟ وإذا لم يفئ وطلق بعد المدة أو طلق الحاكم عليه لم يقع إلا طلقة رجعية وهو الذي يدل عليه القرآن، ورواية عن أحمد، فإذا راجع فعليه أن يطأ عقب هذه الرجعة إذا طلبت ذلك منه، ولا يمكن من الرجعة إلا بهذا الشرط، ولأن الله إنما جعل الرجعة إذا أراد إصلاحا بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [228/2] (1) . وقال ابن رجب في كتاب تزويج أمهات الأولاد: يؤخذ من كلامه أن حصول الضرر بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال، وسواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، وسواء كان مع عجزه أو قدرته، وكذا ذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله في العاجز، وألحقه بمن طرأ عليه جب أو عنة (2) .   (1) اختيارات (276) ، ف (2/ 324) . (2) إنصاف (9/ 154) ، ف (2/ 325) وتقدم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 كتاب الظهار ولا ظهار من أمته، ولا أم ولده، وعليه كفارة، نقله الجماعة، ونقل أبو طالب، عليه كفارة ظهار. ويتوجه على هذا أنها تحرم عليه حتى يكفر، كأحد الوجهين فيما لو قال: أنت علي حرام وأولى (1) . وإن قال لأجنبية: أنت علي كظهر أمي لم يطأها حتى يكفر.. وقيل: لا يصح كالطلاق، وذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله رواية (2) . ولو عزم على الوطء فأصح القولين لا تستقر الكفارة إلا بالوطء (3) . قال في المحرر: ولو وطء في حال جنونه لزمته الكفارة، نص عليه مع أنه ذكر في الطلاق ما يقتضي أنه لا حنث عليه في ظاهر المذهب، فإن توجه فرق وإلا كان المنصوص الحنث في الجنون مطلقا، وفيه نظر (4) . عتق ولد الزنا في الكفارة: قوله: وولد الزنا: يعني أنه يجزئ   (1) اختيارات (276) ، ف (2/ 325) . (2) إنصاف (9/ 202) ، ف (2/ 326) . (3) اختيارات (276) ، ف (2/ 326) . (4) اختيارات (276) ، ف (2/ 326) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 وهو المذهب، ولا أعلم فيه خلافا، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ويحصل له أجره كاملا، خلافا لمالك رحمه الله؛ فإنه يشفع مع صغره لأمه لا لأبيه (1) . وما يخرج في الكفارة المطلقة غير مقيد بالشرع، بل بالعرف قدرًا أو نوعا من غير تقدير ولا تمليك، وهو قياس المذهب في الزوجة والأقارب والمملوك والضيف، والأجير المستأجربطعامه، والإدام يجب إن كان يطعم أهله بإدام، وإلا فلا. وعادة الناس تختلف في ذلك في الرخص والغلاء، واليسار والإعسار وتختلف بالشتاء والصيف. والواجبات المقدرات في الشرع على ثلاثة أنواع: تارة: تقدر الصدقة الواجبة ولا يقدر من يعطاها كالزكاة. وتارة يقدر المعطى، ولا يقدر المال كالكفارات، وتارة: يقدر هذا وهذا كفدية الأذى، وذلك لأن سبب وجوب الزكاة هو المال فقدر فيها المال الواجب. وأما الكفارات فسببها فعل بدنه كالجماع واليمين والظهار فقدر فيها المعطى كما قدر العتق والصيام، وما يتعلق بالحج ففيه بدن، ومال، فعبادته بدنية ومالية فلهذا قدر فيه هذا وهذا (2) . وإن أخرج القيمة أو غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه، وعنه: يجزئه إذا كان قدر الواجب. واختار الشيخ تقي الدين الأجزاء ولم يعتبر القدر الواجب، وهو   (1) إنصاف (9/ 220) ، ف (2/ 326) . (2) اختيارات (276، 277) ، ف (2/ 326) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 ظاهر نقل أبي داود وغيره، فإنه قال: أشبعهم قال: ما أطعمهم؟ قال: خبزا ولحما إن قدرت، أو من أوسط طعامكم (1) . اللعان ولو لم يقل الزوج في أيمانه: فيما رميتها به، فقياس المذهب صحته، كما إذا اقتصر الزوج في النكاح على قوله: قبلت. وإذا جوزنا إبدال لفظ الشهادة، والسخط، و"اللعن" فلأن نجوزه بغير العربية أولى (2) . فصل فيما يلحق من النسب وإذا اعترف السيد بوطء الأمة وقبل خروجها من ملكة جاءت بولد لمدة الإمكان لحقه نسبه، وثبت في صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في امرأة مجح على باب فسطاط والمجح هي الحامل المقرب، فقال: لعل صاحبها ألم بها؟ قالوا: نعم، قال: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، كيف يستعبده وهو لا يحل له، فنصب على أنه لا يجوز استعباده، ولا أن يجعله ميراثا عنه إذا كان قد سقاه ماءه وزاده في سمعه وبصره فصار فيه ما هو بعض له، فهي أم ولده من هذا الوجه، وقد نص على ذلك غير واحد من العلماء منهم أحمد وغيره، حتى قال تصير أم ولده، والإسلام يسري كالعتق فإذا وطئها وهي حامل عتق الولد وحكم بإسلامه، وليس له بيعة، ولا يثبت نسبه بمجرد ذلك.   (1) اختيارات (277) ، ف (2/ 326) . (2) الإنصاف (9/ 233) ، ف (2/ 326) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 ومن زنت أمته وأتت بولد فأعتقه فله أجر عتق عبد كامل عند جمهور العلماء، وذهب طائفة كأبي حنيفة ومالك إلى أن عتقه ناقص (1) . وإذا ادعت جارية أن فلانا زوج سيدتها وطئها فالقول قوله: وهل يحلف؟ فيه نزاع، ولا يحل أن يجحد أنه وطئها إن كانت صادقة، والولد رقيق تبعا لأمه إن لم يقر بوطئها (2) . ولا تصير الزوجة فراشا إلا بالدخول، وهو مأخوذ من كلام الإمام أحمد في رواية حرب (3) . ونقل حرب فيمن طلق قبل الدخول وأتت بولد فأنكره ينتفي بلا لعان، فأخذ الشيخ تقي الدين رحمه الله من هذه الرواية أن الزوجة لا تكون فراشًا إلا بالدخول، واختاره هو وغيره من المتأخرين منهم والد الشيخ تقي الدين، قاله ابن نصر الله في حواشيه (4) . وتتبعض الأحكام لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "احتجبي يا سودة" وعليه نصوص أحمد (5) . ومنها: أنه لا أثر لشبه مع فراش، ذكره جماعة من الأصحاب، وقدمه في الفروع، واختار الشيخ تقي الدين تبعض الأحكام بقوله - صلى الله عليه وسلم - "احتجبي يا سودة" (6) . ومن أقر بوطء أمته في الفرج فولدت لمدة إمكانه لزمه ولحقه، فلا ينتفي بلعان ولا غيره إلا أن يدعي الاستبراء، وفي يمينه وجهان ...   (1) مختصر الفتاوى (610) ، ف (2/ 327) . (2) مختصر الفتاوى (606) ، ف (2/ 327) . (3) اختيارات (278) ، ف (2/ 327) . (4) الإنصاف (9/ 258) ، ف (2/ 327) . (5) اختيارات (278) ، ف (2/ 327) . (6) إنصاف (9/ 268، 269) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 أحدهما: يحلف، وهو الصحيح.. والوجه الثاني: لا يحلف، قال: الشيخ تقي الدين، المشهور أنه يحلف (1) . وقال شيخنا: فيما إذا ادعى البائع أنه ما باع حتى استبرأ وحلف المشتري أنه ما وطئها، فقال: إن أتت به بعد الاستبراء لأكثر من ستة أشهر فقيل: لا يقبل قوله ويلحقه النسب قاله القاضي في تعليقه، وهو ظاهر كلام أحمد، وقيل: ينتفي النسب، اختاره القاضي في المجرد وابن عقيل وأبو الخطاب وغيرهم وهو مذهب (م ش) فعلى هذا هل يحتاج إلى اليمين على الاستبراء؟ فيه وجهان في مذهب مالك وأحمد، والاستحلاف قول (ش) والمشهور لا يحلف (2) . ولو أقر بنسب أو شهدت به بينة فشهدت بينة أخرى أن هذا ليس من نوع هذا؛ بل هذا رومي وهذا فارسي فهذا من وجه يشبه تعارض القافة أو البينة، ومن وجه كبر السن، فهذا المعارض المنافي للنسب هل يقدح في المقتضي له؟ قال أبو العباس: هذه المسألة حدثت وسئلت عنها وكان الجواب: أن التغاير بينهما إن أوجب القطع بعدم النسب فهو كالسن مثل، أن يكون أحدهما حبشيا والآخر روميا ونحو ذلك، فهنا ينتفي النسب، وإن كان أمرا محتملا لم ينفه لكن إن كان المقتضي للنسب الفراش لم يلتفت إلى المعارضة، إن كان المثبت له مجرد الإقرار أو البينة فاختلاف الجنس معارض ظاهر، فإن كان النسب بنوة فثبوتها أرجح من غيرها، إذ لا بد للابن من أب غالبا وظاهرا. قال في الكافي: ولو أنكر المجنون بعد البلوغ لم يلتفت إلى إنكاره، قال أبو العباس: ويتوجه أن يقبل؛ لأنه إيجاب حق عليه بمجرد   (1) تصحيح الفروع (5/ 521) ، ف (2/ 327) . (2) فروع (5/ 524) وإنصاف (9/ 267) ، ف (2/ 327) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 قول غيره مع منازعته، كما حكمنا للقيط بالحرية، فإذا بلغ فأقر بالرق قبلنا إقراره (1) . ولو أدخلت المرأة لزوجها أمتها؟ إن ظن جوازه لحقه الولد، وإلا فروايتان ويكون حراما على الصحيح إن ظن حلها بذلك (2) . ومن وطئ أمة امرأته وقد أحلتها له عزر بمائة جلدة، وعنه: إلا سوطا، وعنه: بعشرة ولا يلحقه الولد في رواية نقله الجماعة، قال أبو بكر: عليه العمل، قال أحمد: لما لزمه من الجلد أو الرجم، وعنه: بلى، وقال شيخنا: إن ظن جوازه لحقه وإلا فروايتان فيه وفي حده (3) . وإن وطئ المرتهن الأمة المرهونة بإذن الراهن وظن جواز ذلك لحقه الولد وانعقد حرا (4) . يلحقه الولد بوطء الشبهة كعقد نص عليه، وذكره الشيخ تقي الدين إجماعا (5) . واختار شيخنا: أنه إن استلحق ولده من زنا ولا فراش لحقه (6) . وإن تداعيا بهيمة أو فصيلا فشهد القائف أن دابة هذا تنتجها؟ ينبغي أن يقضي بهذه الشهادة، وتقدم على اليد الحسية. ويتوجه أن يحكم بالقافة في الأموال كلها كما حكمنا بذلك في الرف المقلوع إذا كان له موضع في الجدار، وكما حكمنا في الاشتراك   (1) اختيارات (278، 279) ، ف (2/ 327) . (2) اختيارات (279) ، ف (2/ 328) . (3) فروع (6/ 75) ، ف (2/ 328) . (4) اختيارات (279) ، ف (2/ 328) . (5) إنصاف (9/ 269) ، ف (2/ 328) هذا أصرح مما في المجموع. (6) فروع (5/ 526) وإنصاف (9/ 269) هنا جزم وتوضيح، ف (2/ 328) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 في اليد الحسية بما يظهر من اليد العرفية فأعطينا كل واحد من الزوجين ما يناسبه في العادة، وكل واحد من الصانعين ما يناسبه، وكما حكمنا بالوصف في اللقطة إذا تداعاها اثنان، وهذا نوع قافة أو شبيه به، وكذلك لو تنازعا غراسًا أو ثمرًا في أيديهما فشهد أهل الخبرة أنه من هذا البستان، ويرجع إلى أهل الخبرة حيث يستوي المتداعيان، كما رجع إلى أهل الخبرة بالنسب، وكذلك لو تنازع اثنان لباسا أو نعلا من لباس أحدهما دون الآخر، أو تنازعا دابة تذهب من بعيد إلى اصطبل، أحدهما دون الآخر، أو تنازعًا زوج خف أو مصراع باب مع الآخر شكله، أو كان عليه علامة لأحدهما كالزبول الذي للجند، وسواء كان المدعي في أيديهما أو في يد ثالث. وأما إن كانت اليد لأحدهما دون الآخر فالقافة المعارضة لهذا كالقافة المعارضة للفراش، فإن قلنا بتقديم القافة في صرة الرجحان فقد نقول ههنا كذلك، ومثل أن يدعي أنه ذهب من ماله شيء ويثبت ذلك فيقص القائف أثر الوطء من مكان آخر، فشهادة القائف أن المال دخل إلى هذا الموضع توجب أحد الأمرين: إما الحكم به، وإما أن يكون لوثا فيحكم به مع اليمين للمدعي وهو الأقرب، فإن هذه الأمارة ترجح جانب المدعي، واليمين مشروعة في أقوى الجانبين. ولو مات الطفل قبل أن تراه القافة قال المزي: يوقف ماله، وما قاله ضعيف، وإنما قياس المذهب القرعة، ويحتمل الشركة، ويحتمل أن يرث واحد منهما (1) .   (1) اختيارات (279) ، ف (2/ 328) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 كتاب العدد قال شيخنا: والصواب أن يقال: إن عدة الوفاة هي حرم لانقضاء النكاح، ورعاية لحق الزوج، ولهذا تحد المتوفى عنها في عدة الوفاة رعاية لحق الزوج فجعلت العدة حريما لحق هذا العقد الذي له خطر وشأن فيحصل بهذه فصل بين نكاح الأول ونكاح الثاني ولا يتصل النكاحان. ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عظم حقه حرم نساؤه بعده، وبهذا اختص الرسول لأن أزواجه في الدنيا هن أزواجه في الآخرة، بخلاف غيره فإنه لو حرم على المرأة أن تتزوج بغير زوجها تضررت المتوفى عنها، وربما كان الثاني خيرا لها من الأول، ولكن لو تأيمت على أولاد الأول لكانت محمودة على ذلك مستحبا لها في الحديث "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة، وأومأ بالوسطى والسبابة امرأة أيمت من زوجها ذات منصب وجمال وحبست نفسها على يتامى لها حتى بانوا أو ماتوا" وإذا كان المقتضى لتحريمها قائمًا فلا أقل من مدة تتربصها، وقد كانت في الجاهلية تتربص سنة فخففها الله سبحانه بأربعة أشهر وعشر، وقيل لسعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيها ينفخ الروح فيحصل في هذه المدة براءة الرحم حيث يحتاج إليه، وقضاء حق الزوج إذا لم يحتج إلى ذلك (1) .   (1) زاد المعاد (4/ 209) ، ف (2/ 329) لم يبين ابن القيم رحمه الله متى انتهى كلام شيخه. ويحتمل أنه انتهى قبل قوله: ولهذا إلخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 لو قتل المرتد في عدة امرأته فإنها تستأنف عدة الوفاة، نص عليه في رواية ابن منصور. لو أسلمت امرأة كافر ثم مات قبل انقضاء العدة فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة في قياس التي قبلها ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله (1) . وذكر الشيخ تقي الدين: أنها إن شربت ما تحيض به فلها ذلك كمن لها غرض في قصر عدتها لارتفاع الحيض بعارض (2) . ويتوجه في المعتق بعضها إذا كان الحر ثلثها فما دون أن لا تجب الثلاثة الأقراء فإن تكميل القرءين من الأمة إنما كان لضرورة، فيؤخذ للمعتق بعضها بحاسب الأصل ويكمل (3) . والمطلقة البائن وإن لم تلزمه نفقتها إن شاء أسكنها في مسكنه أو غيره إن صلح لها ولا محذور تحصينا لمائه وأنفق عليها فله ذلك، وكذلك الحامل من وطء الشبهة أو النكاح الفاسد لا يجب على الواطئ نفقتها إن قلنا بالنفقة لها، إلا أن يسكنها في منزل يليق بها تحصينا لمائه فيلزمها ذلك، وتجب لها النفقة والله أعلم (4) . ومن طلق ثلاثا وألزمها بوفاء العدة في مكانها فخرجت منه قبل أن توفي عدتها فلا نفقة لها وليس لها أن تطالب بنفقة الماضي في مثل هذه العدة في مذهب الأربعة (5) . وعنه: عدة مختلعة حيضة، واختاره شيخنا في بقية الفسوخ (6) .   (1) الإنصاف: (9/ 276) ، ف (2/ 329) . (2) الآداب (3/ 75) ، ف (2/ 330) . (3) اختيارات (280) ، ف (2/ 330) . (4) اختيارات (283) والإنصاف (9/ 354) . (5) مختصر الفتاوى (449) ، ف (2/ 330) . (6) الفروع (5/ 242) ، ف (2/ 330) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 ومن ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه إن علمت عدم عوده فتعتد بالأشهر وإلا اعتدت بسنة (1) . قال ابن القيم رحمه الله: والصواب الذي دل عليه القرآن وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في السبايا، والقياس: أن النكاح ينفسخ بسباء المرأة مطلقا، فإنها قد صارت ملكا للسابي، وزالت العصمة عن ملك الزوج لها، كما زالت عن ملكه لرقبتها ومنافعها، وهذا اختيار أبي الخطاب وشيخنا وهو مذهب الشافعي (2) . وقال في ميت عن امرأة شهد قوما بطلاقها ثلاثا مع علمهم عادة بخلوته بها، لا يقبل؛ لأن إقرارهم يقدح فيهم (3) . والصواب في امرأة المفقود: مذهب عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة وهو أنها تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني ظاهرًا وباطنًا (4) ، ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها خير بين امرأته وبين مهرها، ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده، وهو ظاهر مذهب أحمد. وعلى الأصح لا يعتبر الحاكم فلو مضت المدة والعدة تزوجت بلا حكم، قال أبو العباس، وكنت أقول: إن هذه شبه اللقطة من بعض الوجوه ثم رأيت ابن عقيل قد ذكر ذلك ومثل بذلك، وهذا لأن المجهول في الشرع كالمعدوم، وإذا علم بعد ذلك كان التصرف في أهله وماله موقوفا على إذنه.   (1) إنصاف (9/ 287) واختيارات (283) ، ف (2/ 331) (2) أحكام أهل الذمة (370) ، ف (2/ 331) . (3) إنصاف (9/ 314) ، ف (2/ 332) وتقدم. (4) قال في الإنصاف قال الشيخ تقي الدين: وترث الثاني ذكره أصحابنا (9/ 292) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 ووقف التصرف في حق الغير على إذنه يجوز عند الحاجة عندنا بلا نزاع، وأما مع عدم الحاجة ففيه روايتان، كما يجوز التصرف في اللقطة بعدم العلم لصاحبها فإذا جاء المالك كان تصرف الملتقط موقوفا على إجازته، وكان تربصها أربع سنين كالحول في اللقطة. وبالجملة: فكل صورة فرق فيها بين الرجل وامرأته بسبب يوجب الفرقة ثم تبين انتفاء ذلك السبب فهو شبيه بالمفقود، والتخيير فيه بين المرأة والمهر هو أعدل الأقوال. ولو ظنت المرأة أن زوجها طلقها فتزوجت فهو كما لو ظنت موته، ولو قدر أنها كتمت الزوج فتزوجت غيره ولم يعلم الأول حتى دخل بها الثاني فهنا الزوجان مشهوران بخلاف المرأة، لكن إن اعتقدت جواز ذلك بأن تعتقد أنه عاجز عن حقها أو مفرط فيه وأنه يجوز لها الفسخ والتزوج بغيره فتشبه امرأة المفقود. وأما إذا علمت التحريم فهي زانية، لكن المتزوج بها كالمتزوج بامرأة المفقود وكأنها طلقت نفسها فأجازه (1) . والواجب أن الشبهة إن كانت شبهة نكاح فتعتد الموطوءة عدة المزوجة حرة كانت أو أمة، وإن كانت شبهة ملك فعدة الأمة المشتراه، وأما الزنا فالعبرة بالمحل. وقال أبو العباس في موضع آخر: الموطوءة بشبهة ملك تستبرأ بحيضة، وهو وجه في المذهب، وتعتد المزني بها بحيضة، وهو رواية عن أحمد، والمختلفة يكفيها الاعتداد بحيضة واحدة، وهو رواية عن أحمد ومذهب عثمان بن عفان وغيره، والمفسوخ نكاحها كذلك، وأومأ   (1) اختيارات (281، 282) فيه زيادات ف (2/ 332) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 إليه أحمد في رواية صالح، والمطلقة ثلاث تطليقات عدتها حيضة واحدة (1) . قال الشيخ تقي الدين: ويحرم سفره بأخت زوجته ولو معها (2) . باب الاستبراء وعنه: لا يلزم في مسبيه ذكره الحلواني، وفي الترغيب وجه: لا يلزم في إرث، وفي صغيرة لا يوطأ مثلها روايتان: وخالف شيخنا في بكر كبيرة وآيسة وخبر صادق لم يطأ أواستبرأ (3) . واختار الشيخ تقي الدين جواز وطء البكر ولو كانت كبيرة والآيسة وإذا أخبره صادق أنه لم يطأها أو أنه استبرأ. وعنه: لا يلزمه الاستبراء إن ملكها من طفل أو امرأة، قلت: وهو مقتضى قواعد الشيخ تقي الدين (4) .   (1) اختيارات (282) فيه زيادة ف (2/ 332) . (2) إنصاف (9/ 314) ، ف (2/ 334) وتقدم. (3) فروع (5/ 561) ، ف (2/ 334) . (4) الإنصاف (9/ 316) ، ف (2/ 334) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 الرضاع والرضاع المحرم في الحولين فقط مطلقا، وقال شيخنا: قبل الفطام، وقال: أو كبير لحاجة نحو جعله محرما خمس رضعات (1) . وإن اشترك اثنان في وطء امرأة فحكم المرتضع من لبنها حكم ولدها، من هذين الرجلين وأولادهما فإن لم يلحق بأحدهما فالواجب أنه يحرم على أولادهما لأنه أخ لأحد الصنفين وقد اشتبه، أو يقال كما قيل في الطلاق، يحل لكل منهما، فإن الاشتباه في حق اثنين لا واحد (2) .   (1) فروع (5/ 570) ، ف (2/ 335) . (2) اختيارات (283) ، ف (2/ 337) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 كتاب النفقات نفقة الزوجة قال في المحرر: ولو أنفقت من ماله وهو غائب فتبين موته فهل يرجع ورثته عليها بما أنفقت بعد موته؟ على روايتين. قال أبو العباس: وعلى قياسه كل من أبيح له شيء وزالت الإباحة بفعل الله أو بفعل المبيح: كالمعير إذا مات أو رجع، والمانح، وأصل الموقوف عليه، لكن لم يذكر الجد ههنا إذا طلق، فلعله يفرق بين الموت والطلاق، فإن التفريط في الطلاق منه (1) . ولو أنفق الزوج على الزوجة وكساها مدة ثم ادعى الولي عدم إذنه وأنها تحت حجره لم يسمع قوله إذا كان الزوج قد تسلمها التسليم الشرعي، وقد نص على ذلك أئمة العلماء، وخالف فيه شذاذ من الناس. وإقرار الولي لها عنده مع حاجتها إلى النفقة والكسوة إذن عرفي (2) . ذكر أصحابنا من الصور المسقطة لنفقة الزوجة صور النذر الذي في   (1) اختيارات (285) ، ف (2/ 339) . (2) اختيارات (285) ، ف (2/ 339) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 الذمة والصوم للكفارة، وقضاء رمضان قبل ضيق وقته إذا لم يكن ذلك في إذنه. قال أبو العباس: قضاء الله والكفارة عندنا على الفور، فهو كالمتعين، وصوم القضاء يشبه الصلاة في أول الوقت. ثم ينبغي في جميع صور الصوم أن تسقط نفقة النهار فقط، فإن هذا مثل أن تنشز يوما وتجيء يومًا، فإنه لا يمكن أن يقال في هذا كما قيل في الإجارة أن منع تسليم بعض المنفعة يسقط الجميع، إذ ما مضى من النفقة لا يسقط، ولو أطاعت في المستقبل استحقت (1) . والزوجة المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها ولا سكنى، إلا إذا كانت حاملا فروايتان، وإذا لم تجب النفقة في التركة فإنه ينبغي أن تجب لها النفقة في مال الحمل أو في مال من تجب عليه النفقة إذا قلنا تجب للحمل كما تجب أجرة الرضاع. وقال أبو العباس في موضع آخر: النفقة والسكن تجب للمتوفى عنها في عدتها ويشترط فيها مقامها في بيت الزوج، فإن خرجت فلا جناح إذا كان أصلح لها. والمطلقة البائن الحامل تجب لها النفقة من أجل الحمل وللحمل، وهو مذهب مالك وأحد القولين في مذهب أحمد والشافعي. وإذا تزوجت المرأة ولها ولد فغضب الولد فذهبت به إلى بلد آخر فليس لها أن تطالب الأب بنفقة الولد (2) . وإن انقضت السنة والكسوة صحيحة قال أصحابنا عليه كسوة السنة الأخرى، وذكروا احتمالا أنه لا يلزمه شيء، وهذا الاحتمال قياس   (1) اختيارات (285) ، ف (2/ 339) . (2) اختيارات (286) فيه زيادة ف (2/ 339) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 المذهب لأن النفقة والكسوة غير مقدرة عندنا، فإذا كفتها الكسوة عدة سنين لم يجب غير ذلك، وإنما يتوجه ذلك على قول من يجعلها مقدرة. وكذلك على قياس هذا لو استبقت من نفقة أمس لليوم، وذلك أنها وإن وجبت معاوضة فالعوض الآخر لا يشترط الاستبقاء فيه ولا التمليك بل التمكين من الانتفاع، فكذلك عوضه، ونظير هذا الأجير بطعامه وكسوته. ويتوجه على ما قلنا أن قياس المذهب أن الزوجة، إذا اقتضت النفقة ثم تلفت أو سرقت أنه يلزم الزوج عوضها، وهو قياس قولنا في الحج عن الغير، إذا تلف ما أخذه نفقة فإنه يتلف من ضمان مالكه (1) . وإن اختلفا في نشوزها أو تسليم النفقة لها فالقول قولها مع يمينها، واختار الشيخ تقي الدين في النفقة أن القول قول من يشهد له العرف (2) . نفقة الأقارب ويجب على القريب افتكاك قريبه من الأسر، وإن لم يجب عليه استنفاذه من الرق وهو أولى من حمل العقل. وتجب النفقة لكل وارث ولو كان مقاطعا من ذوي الأرحام وغيرهم؛ ولأنه من صلة الرحم، وهو عام كعموم الميراث في ذوي الأرحام، وهو رواية عن أحمد، والأوجه وجوبها مرتبا (3) .   (1) اختيارات (284) ، ف (2/ 340) . (2) إنصاف (9/ 383) ، ف (2/ 340) . (3) إنصاف (9/ 395) واختيارات (287) ، ف (2/ 341) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 وإن كان الموسر القريب ممتنعا فينبغي أن يكون كالمعسر، كما لو كان للرجل مال وحيل بينه وبينه لغصب أو بعد، لكن ينبغي أن يكون الواجب هنا القرض رجاء الاسترجاع. وعلى هذا فمتى وجبت عليه النفقة وجب عليه القرض إذا كان له وفاء. وذكر القاضي وأبو الخطاب وغيرهما في أب وابن القياس أن على الأب السدس، إلا أن الأصحاب تركوا القياس لظاهر الآية، والآية إنما هي للرضيع وليس له ابن فينبغي أن يفرق بين الصغير وغيره، فإن من له ابن يبعد أن لا تكون عليه نفقته، بل تكون على الأب فليس في القرآن ما يخالف ذلك، وهذا جيد على قول ابن عقيل حيث ذكر في التذكرة أن الولد ينفرد بنفقة والديه (1) . وإرضاع الطفل واجب على الأم بشرط أن تكون مع الزوج، وهو قول ابن أبي ليلى وغيره من السلف ولا تستحق أجرة المثل زيادة على نفقتها وكسوتها وهو اختيار القاضي في المجرد وقول الحنفية لأن الله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [233/2] فلم يوجب لهن إلا الكسوة والنفقة بالمعروف وهو الواجب بالزوجية وما عساه يتجرد من زيادة خاصة للمرتضع كما قال في الحامل {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [6/65] فدخلت نفقة الولد في نفقة أمه؛ لأنه يتغذى بها، وكذلك المرتضع وتكون النفقة هنا واجبة بشيئين حتى لو سقط الوجوب بأحدهما ثبت الآخر، كما لو نشزت وأرضعت ولدها فلها النفقة للإرضاع لا للزوجية، فأما إذا كانت بائنا وأرضعت له   (1) اختيارات (278) ، ف (2/ 341) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 ولده فإنها تستحق أجرها بلا ريبت، كما قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [6/65] ، وهذا الأجر هو النفقة والكسوة، وقاله طائفة منهم الضحاك وغيره. وإذا كانت المرأة قليلة اللبن وطلقها زوجها فله أن يكتري مرضعة لولده، وإذا فعل ذلك فلا فرض للمرأة بسبب الولد، ولها حضانته (1) . المماليك وقال الشيخ تقي الدين: ولو لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده لزمه إخراجه عن ملكه (2) . باب الحضانة لا حضانة إلا لرجل من العصبة أو لامرأة وارثة أو مدلية بعصبة أو بوارث، فإن عدموا فالحاكم. وقيل: إن عدموا تثبت لمن سواهم من الأقارب ثم للحاكم. ويتوجه عند العدم أن تكون لمن سبقت إله اليد كاللقيط، فإن كفال اليتامى لم يكونوا يستأذونون الحاكم. والوجه أن يتردد بين الميراث والمال (3) . والعمة أحق من الخالة، وكذا نساء الأب أحق يقدمن على نساء الأم؛ لأن الولاية للأب وكذا أقاربه، وإنما قدمت الأم على الأب لأنه لا يقوم مقامها هنا في مصلحة الطفل.   (1) اختيارات (286) ، ف (2/ 342) . (2) إنصاف (9/ 412) وتقدم ف (2/ 343) . (3) فروع (5/ 614) واختيارات (288) فيه زيادة ف (2/ 343) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وإنما قدم الشارع عليه الصلاة والسلام خالة بنت حمزة على عمتها صفية لأن صفية لم تطلب وجعفر طلب نائبا عن خالتها فقضى لها بها في غيبتها (1) . وضعف البصر يمنع من كمال ما يحتاج إليه المحضون من المصالح (2) . قاعدة في حضانة الولد (3) بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الحراني رضي الله عنه. الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، من يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا. فصل في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز هل هو للأب؟ أو للأم؟ أو يخير بينهما؟   (1) المصدر السابق. (2) اختيارات (288) ، ف (344) . (3) هذه القاعدة فيها زيادة عما في المجموع (ست صفحات وخمسًا صحيفة) وفيها تصحيحات للموجود منها في المجموع فلذلك نقلتها في هذا المستدرك كاملة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 فإن عامة كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذا بلغ سبع سنين خير بين أبويه، وأما الجارية فالأب أحق بها، وأكثرهم لم يذكروا في ذلك نزاعا. وهؤلاء الذين ذكروا هذا بلغهم بعض نصوص أحمد في هذه المسألة ولم يبلغهم سائر نصوصه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدًّا، وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير المسائل، لكثرة كلامه وانتشاره وكثرة من كان يأخذ عنه العلم، فأبو بكر الخلال قد طاف البلاد وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدا وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه. وأما ما جمعه من نصوصه في أصول الدين، ومثل كتاب السنة، نحو ثلاث مجلدات، ومثل أصول الفقه والحديث، ومثل كتاب العلم، الذي جمعه، ومن الكلام على علل الأحاديث، مثل كتاب العلل، الذي جمعه ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والآداب، ومن كلامه في الرجال والتأريخ، فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه. والمقصود هنا: أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما، في مسألة البنت، وفي مسألة الابن، وفي مذهبه في المسألتين ثلاثة أقوال: هل تكون مع الأم، أو مع الأب، أو تخير؟ لكن في الابن ثلاث روايات وأما البنت فالمنقول عنه روايتان: هل هي للأم، أو للأب؟ وأما التخيير فهو وجه مخرج في مذهبه، فعنه في الابن ثلاث روايات معروفة وممن ذكرهن أبو البركات في محرره. وعنه في الجارية روايتان: وممن ذكرهما أبو عبد الله بن تيمية في كتاب التلخيص، وترغيب القاصد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب. وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلى في تعليقه، نقل عن أحمد في الغلام، أمه أحق به حتى يستغنى عنها، ثم الأب أحق به، قال في رواية الفضل بن زياد: إذا عقل الغلام واستغنى عن الأم فالأب أحق به، وقال في رواية أبي طالب: والأب أحق بالغلام إذا عقل واستغنى عن الأم، وهذا يشبه الذي نقله القاضي أبو يعلى والشاشي وغيرهما عن أبي حنيفة، قال: إذا أكل وحده، ولبس وحده، وتوضأ وحده، فالأب أحق به، ونقل ابن المنذر، أنه يخير حينئذ بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور، والأول هو مذهب أبي حنيفة الموجد في كتب أصحابه، وهو إحدى الروايتين عن مالك، فإنه نقل عنه ابن وهب: الأم أحق به حتى يثغر ولكن المشهور عنه أن الأم أحق به ما لم يبلغ. وهذه هي الرواية الثانية عن أحمد: والرواية الثالثة عن أحمد: أن الأم أحق بالغلام مطلقا كمذهب مالك قال في رواية حنبل: في الرجل يطلق امرأته وله منها أولاد صغار فالأم أعطف عليهم، مقدار ما يعقل الأدب، فيكون الأب أحق بهم ما لم تتزوج، فإذا تزوجت فالأب أحق بولده غلاما كان أو جارية. قال الشيخ أبو البركات: فهذه الرواية تدل على أنه إذا كبر وصار يعقل الأدب فإنه يكون مقره أيضا عند الأم، لكن في وقت الأدب، وهو النهار يكون عند الأب. وهذا مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب مالك في المدونة: أن الأم أحق به ما لم يبلغ، وللأب تعاهده عندها، وأدبه، وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي حنيفة، ثم اجتهد في مسائل كثيرة، ورجح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمد وغيره، وشرحها إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام دمشق، وأما الذين كانوا يسألونه مطلقا مثل: الأثرم وعبد الله وصالح وغيرهم فكثيرون. وأما حضانة البنت -إذا صارت مميزة- فوجدنا عنه روايتين منصوصتين وقد نقلهما غيرواحد من أصحابه، كأبي عبد الله بن تيمية وغيره. إحداهما: أن الأب أحق بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه. والثانية: أن الأم أحق بها. قال في رواية إسحاق بن منصور، يقضي بالجارية للأم والخالة حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها، وقال في رواية مهنى بن يحيى: الأم والجدة أحق بالجارية حتى يتزوج الأب. قال أبو عبد الله في "ترغيب القاصد" وإن كانت جارية فالأب أحق بها بغير تخيير، وعنه الأم أحق بها حتى تحيض. وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة في ذلك. ففي المدونة: مذهب مالك أن الأم أحق بالولد ما لم يبلغ، سواء كان ذكرا أو أنثى، فإذا بلغ -وهو أنثى- نظرت فإن كانت الأم في حرز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 ومنعة وتحصين فهي أحق بها أبدا ما لم تنكح، وإن بلغت أربعين سنة، وإن لم تكن في موضع حرز وتحصين أو كانت غير مرضية في نفسها فللأب أخذها منها، وكذلك الأولياء، والوصي كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصين. ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحق بالجارية حتى تبلغ، فإذا كانت الأم غير مرضية في نفسها، وأدبها لولدها أخذت منها إذا بلغت إلا أن تكون صغيرة لا يخاف عليها. وأما أبو حنيفة فقال: الأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض. ومن سوى الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حدا تشتهى، هذا هو المشهور. ولفظ الطحاوي: حتى تستغني، كما في الغلام مطلقا، ولهذا قيل فيها كما قيل في الغلام، حتى تأكل وحدها، وتلبس وحدها، وتتوضأ وحدها، ثم تكون مع الأب. وأبو حنيفة أيضًا يجعل الأب أحق بها بعد التمييز، كما يقول مثل ذلك في الابن، لكن يستثنى الأم والجدة خاصة. وأما المشهور عن أحمد وهو تخيير الغلام بين أبويه فهو مذهب الشافعي وإسحاق بن راهوية، وموافقته للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما، وكان يثني عليهما ويعظهما ويرجح أصول مذاهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما. وعندهم أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث، وجمع بينهما في مسجد الخيف فتناظرا في مسألة رباع مكة، والقصة مشهورة، وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاق بالحجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 موضع؛ فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحاق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها. وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولا، لا عن أحمد ولا عن إسحاق، كما نقل عنهما التخيير في الغلام. ولكن نقل عن الحسن بن حيَّ: أنها تخير إذا كانت كاعبا. والتخيير في الغلام هو مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وإسحاق للحديث الوارد في ذلك حيث خير النبي - صلى الله عليه وسلم - غلاما بين أبويه، وهي قضية معينة، ولم يرد عنه نص عام في تخيير الولد مطلقا، والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف مخالف لإجماعهم، والفرق بين تخيير الغلام والجارية أن هذا التخيير تخيير شهوة لا تخيير رأي ومصلحة كتخيير من يتصرف لغيره كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خير في الأسرى بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين ثم قد يصيب ذلك الأصلح للمسلمين فيكون مصيبا في اجتهاده، حاكما بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة كالذي ينزل أهل حصن على حكمه، كما نزل بنو قريظة على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل قال: "ألا ترضون أن أجعل الأمر إلى سيدكم سعد بن معاذ" فرضوا بذلك وطمع من كان يحب استبقاءهم أن سعد يحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من الموالاة، فلما أتى سعد حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتغنم أموالهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات" وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكما لله في نفس الأمر، وإن كان لا بد من إنفاذه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 ومثل هذا ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث بريدة المشهور قال فيه: "وإذا حاصرت أهل حصن، فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك". ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا فنزلوا على حكم حاكم جاز إن كان رجلا مسلما حرا عدلا من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظ للإسلام من قتل أو رق أو فداء، وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن فأباه الإمام هل يلزم حكمه، أو لا يلزم، أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال، وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لا حظ فيه للمسلمين. والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي ومصلحة بطلب أي الأمرين كان أرضى لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه. ولكن معنى قولنا: يخير أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعل هذا تارة، وفعل هذا تارة، وقول الله تعالى في القرآن {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [4/47] يقتضي فعل أحد الأمرين، وذلك لا يمنع تعين هذا في حال وهذا في حال، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [52/9] فتربص أحد الأمرين لا يمنع بعينه إذا كان الجهاد فرض عين علينا بعض الأوقات، فحينئذ يصيبهم الله بعذاب بأيدينا، كما في قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [14-15/9] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى في المحاربين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [33/5] لا يقتضي أن الإمام يخير تخيير مشيئة فيفعل أي هذه الأربعة شاء؛ بل كلهم متفقون على أنه يتعين هذا في حال وهذا في حال. ثم أكثرهم يقولون: تلك الأحوال مضبوطة بالنص، فإن قتلوا تعين قتلهم، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا تعين قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، كما هو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد، روي في ذلك حديث مرفوع، ومنهم من يقول: بل التعيين باجتهاد الإمام كقول مالك فإن رأى أن القتل هو المصلحة قتل وإن لم يكن قد قتل. ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعلها فيئا وجعلها غنيمة، كما هو قول الأكثرين، كأبي حنيفة والثوري وأبي عبيد وأحمد في المشهور عنه. فإنهم قالوا: إن رأى المصلحة في جعلها غنيمة قسمها بين الغانمين، كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر، وإن رأى أن لا يقسمها جاز كما [لم] يقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة مع أنه فتحها عنوة كما شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة والسيرة المستفيضة وكما قاله جمهور العلماء، ولأن خلافاءه بعده أبا بكر وعمر وعثمان فتحوا ما فتحوا من أرض المغرب والروم وفارس كالعراق والشام ومصر وخراسان ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين لا السواد ولا غير السواد، بل جعلوا العقار فيئا للمسلمين داخلا في قوله {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ} [7/59] ، ولم يستأذنوا في ذلك الغانمين، بل طلب أكابر الغانمين قسمة العقار فلم يجيبوهم إلى ذلك، كما طلب بلال من عمر أن يقسم أرض الشام، وطلب منه الزبير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 أن يقسم أرض مصر فلم يجيبوهم إلى ذلك ولم يستطب أحد من الخلفاء أحدا من الغانمين في ذلك، فضلا عن أن يستطيب أنفس جميع الغانمين. وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيئا بنفس الفتح ومن نصر مذهبه كإسماعيل بن إسحاق وغيره، وقالوا: الأرض ليست داخلة في الغنمية، فإن الله حرم على بني إسرائيل المغانم، وملكهم العقار، فعلم أنه ليس من المغانم، وهذا القول يذكر رواية عن أحمد، كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعي، أنه يجب قسمة العقار والمنقول لأن الجميع مغنوم وقال الشافعي: إن مكة لم تفتح عنوة بل صلحا فلا يكون فيها حجة، ومن حكى عنه أنه قال: إنها فتحت عنوة -كصاحب الوسيط وفروعه- فقد غلط عليه، وقال في السواد، لا أدري ما أقول فيه إلا أني أظن فيه ظنا مقرونا بعلم وظن: أن عمر استطاب أنفس الغانمين، لما روي من قصة المثني بن حارثة، وبسط هذا له موضع آخر. وقول الجمهور أعدل الأقاويل وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: يخير الإمام بين الأمرين تخيير رأي ومصلحة لا تخيير شهوة ومشيئة، وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية كناظر الوقف ووصي اليتيم والوكيل المطلق لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة، بل تخيير اجتهاد ونظر وطلب وتحري للأصلح كالرجل المبتلى بعدوين وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما فيبتدأ بما له نفع، وكالإمام في تولية من ولاه الحرب والحكم والمال يختار الأصلح فالأصلح، فمن ولى رجلا على عصابة وهو يجد فيهم من هو أرضى الله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين. وهذا بخلاف من خير بين شيئين وله أن يفعل أيهما شاء: كالمكفر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 إذا خير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل المفضول، وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل وإن كان أحدهما أفضل، وكذلك المصلي إذا خير بين الصلاة في أول الوقت وآخره وإن كان أحدهما أفضل، وكذلك تخيير الأكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة وإن كان نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميتة وجب عليه أكلها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون الثلاثة، ويخير المسافر بين الفطر والصوم عند الجمهور. وأما من يقول لا يجوز أن يحج إلا متمتعا وأنه يتعين الفطر في السفر، كما يقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة فلا يجيء هذا على أصلهم، وكذلك القصر عند الجمهور الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين ليس له أن يصلي أربعا؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في السفر قط إلا ركعتين ولا أحد من أصحابه في حياته، وحديث عائشة التي تذكر فيه: «أنه -أو: أنها- صلت في حياته في السفر أربعًا» ، كذب عند حذاق أهل العلم بالحديث كما قد بسط في موضعه. إذ المقصود هنا: أن التخيير في الشرع نوعان فمن خير فيما يفعله لغيره بولايته عليه أو بوكالة مطلقة لم يبح له فيها فعل ما شاء، فعليه أن يختار الأصلح. وأما من تصرف لنفسه فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوى الآراء، بل وأصلح الأحكام في نفس الأمر، وتارة يبيح له ما شاء من الأنواع التي خير بينهما كما تقدم، هذا إذا كان مكلفًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 وأما الصبي المميز: فيخير تخيير شهوة حيث كان كل من الأبوين نظير الآخر، ولم ينضبط في حقه حكم عام للأب أو الأم، فلا يمكن أن يقال: كل أب فهو أصلح للمميز من الأم، ولا كل أم فهي أصلح له من الأب، بل قد يكون بعض الآباء أصلح، وبعض الأمهات أصلح، وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال، فلم يمكن أن يعتبر (1) أحدهما في هذا، بخلاف الصغير فإن الأم أصلح له من الأب، لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتغذيته وحمله وتنويمه وتنويله، وأصبر على ذلك، وأرحم به، فهي أقدر، وأخبر، وأرحم، وأصبر في هذا الموضع فتعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع. ولكن بقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب في الحضانة، أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال؟ وهذا فيه قولان للعلماء يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم مثل: أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل العمة والخالة ونحو ذلك، هذا فيه قولان، هما روايتان عن أحمد، وأرجح القولين في الحجة، وتقديم نساء العصبة فتقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، وخالة الأب على خالة الأم، وهو الذي ذكره الخرقي في مختصره، وأبو الحسن الآمدي وغيرهما من الأصحاب. وعلل ذلك من علله -كأبي الحسن الآمدي- في مثل تقديم خالة الأب على خالة الأم؛ فإن قرابتها فيها رحم وتعصيب، بخلاف قرابة الأم فإن فيها رحما بلا تعصيب، فأم الأب مقدمة على أم الأم، والأخت من   (1) لعله يتعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 الأب مقدمة على الأخت من الأم، والعمة مقدمة على الخالة، كما تقدم أقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، فالأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال، بل قد قيل: إنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، وأن الحضانة لا تثبت إلا لرجل من العصبة، أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم. وعلى الوجه الثاني: فلا حضانة للرجال في أقارب الأم. وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد. فلو كانت جهة الأمومة راجحة لترجح رجالها ونساؤها، فلما لم يترجح لرجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها. وأيضا فمجموع أصول الشرع إنما تقدم أقارب الأب في الميراث والعقل والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، لم يقدم الشارع قرابة الأم في حكم من الأحكام فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة. ولكن قدموا الأم لكونها امرأة وجنس النساء مقدمات في الحضانة على الرجال، وهذا يقتضي تقديم الجدة أم الأب على الجد، كما قدمت الأم على الأب، وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته على أخواله، هذا هو القياس والاعتبار الصحيح. وأما تقديم جنس نساء الأم على جنس نساء الأب فمخالف للأصول والمعقول. ولهذا كان من قال هذا في موضع يتناقض ولا يطرد أصله، ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصوده في ذلك أقوالا متناقضة، حتى يوجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا الجنس -فمنهم من يقدم أم الأم على أم الأب- كأحد القولين في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 مذهب أحمد، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، ثم من هؤلاء من يقدم الأخت من الأب على الأخت من الأم، ثم يقدم الخالة على العمة كقول الشافعي في الجديد وطائفة من أصحاب أحمد، وبنوا قولهم على أن الخالات مقدمات على العمات لكونهن من جهة الأم، ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات من كانت لأبوين أولى، ثم من كانت لأب، ثم من كانت لأم. وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم قرائب الأم ظهر التناقض، وهم أيضا قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع؛ لكنه يناقض هذا الأصل، ولهذا قالوا في القول الآخر، إن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب كقول الشافعي القديم، وهذا أطرد لأصلهم لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع. وطائفة أخرى طردت أصلها فقدمت من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب، كقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج وبالغ بعض هؤلاء في طرد قياسه حتى قدم الخالة على الأخت من الأب كقول زفر ورواية عن أبي حنيفة، وافقهم ابن سريج، ولكن أبو يوسف استتبع ذلك (1) فقدم الأخت للأب، ورواه عن أبي حنيفة. وروي عن زفر أنه أمعن في طرد قياسه حتى قال: إن الخالة أولى من الجدة أم الأب، وقد روي عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال، وحللتم الحرام، وكان يقول في القياس: قياس زفر أقبح من البول في المسجد، وزفر كان معروفًا بالإمعان في طرد قياسه، لكن الشأن في الأصل الذي   (1) كذا في الأصل، ولعله استبشع ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 قاس عليه وفي علة الحكم في الأصل -وهو جواب- سؤال المطالبة -فمن أحكم هذا الأصل استقام قياسه، وهذا كما أن زفر اعتقد أن النكاح إلى أجل يبطل التوقيت ويصح النكاح لازمًا، وخرج بعضهم ذلك قولا في مذهب أحمد، فكان مضمون هذا القول، إن نكاح المتعة يصح لازما غير مؤقت، وهو خلاف النصوص، وخلاف إجماع السلف والأمة إذا اختلفت في مسألة على قول (1) لم يكن لمن بعدهم أحداث قول يناقض القولين ويتضمن إجماع السلف على الخطأ والعدول عن الصواب، وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنه باطل، أو يصح مؤجلا، فالقول بلزومه مطلقا خلاف الإجماع. وسبب هذا القول: اعتقادهم أن كل شرط فاسد في النكاح فإنه يبطل وينعقد النكاح لازما بدون حصول غرض المشترط، فألزموه مالم يلتزمه ولا ألزمه به الشارع، ولهذا صحح من قال ذلك نكاح الشغار، ونحوه مما شرط فيه نفي المهر، وصححوا نكاح التحليل لازما مع إبطال شرط التحليل، وأمثال ذلك. وقد ثبت في الصحيحين عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" فدل النص على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يبطل العقد وإما أن يثبت الخيار لمن فات غرضه بالاشتراط إذا بطل الشرط فكيف بالشروط في النكاح؟ وأصل عمدتهم: كون النكاح يصح بدون تقدير الصداق، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع. فقاسوا النكاح الذي شرط فيه نفي المهر على النكاح الذي ترك تقدير الصداق فيه، كما فعل أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأكثر متأخري   (1) كذا في الأصل ولعله: على قولين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 أصحاب أحمد، ثم طرد أبو حنيفة قياسه فصحح نكاح الشغار بناء على أن لا موجب لفساده إلا إشغاره عن المهر، وهذا ليس مفسدًا. وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلفوا الفرق بن الشغار وغيره بأن فيه تشريكا في البضع أو تعليقًا للعقد أو غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع، وبين فيه أن كل هذه فروق غير مؤثرة، وأن الصواب مذهب أهل المدينة مالك وغيره وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته وعليه أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفساده هي شرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد، فإن الله فرض فيه المهر، فلم يحل لغير الرسول النكاح بلا مهر، فمن تزوج بشرط أن لا يجب مهر فلم يعقد النكاح الذي أذن الله فيه فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بما له محصنا غير مسافح كما قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [24/4] فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحل الله، وهذا بخلاف من اعتقد أنه لا بد من مهر لكن لم يقدره، كما قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ * وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} الآية [236-237/2] فهذا نكاح المهر المعروف وهو مهر المثل. قالوا: فهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل وهو السعر أو الإجارة بثمن المثل لا يصح بخلاف النكاح. وقد سلم لهم هذا الأصل الذي قاسوا عليه الشافعي وكثير من أصحاب أحمد في البيع، وأما في الإجارة فأصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: إنه يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه، في مثل ذلك، كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكراء، أو سكن في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 خان أو حجرة جرت عادتهم بذلك، أو دفع طعامه أو خبزه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو ثيابه إلى من يغسل بالأجرة أو ركب دابة مكاري يكاري بالأجرة، أو سفينة ملاح يركب الناس بالأجرة، فإن هذه إجارة عرفية عند جمهور العلماء، وتجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك، فهذه إجارة بأجرة المثل. وكذلك لو ابتاع طعاما بمثل ما ينقطع به السعر أو بسعر ما يبيع الناس أو بما اشتراه به من بلده أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد نص أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير موضع، وإن كان كثير من متأخري أصحابه لا يوجد في كتبهم إلا القول الآخر، ففساد هذا العقود كقول الشافعي وغيره، وبسط هذه المسائل في مواضع آخر. والمقصود هنا: كان مسائل الحضانة وأن الذين اعتقدوا أن الأم قدمت لتقدم قرابة الأم لما كان أصلهم ضعيفا كانت الفروع اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، بل الصواب بلا ريب أنها قدمت لكونها أنثى، فتكون المرأة أحق بحضانة الصغير من الرجل، فتقدم الأم على الأب والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم، وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجل قريب فهذا لبسطه موضع آخر. إذ المقصود هنا مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصيبة والصبي فتخيير الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحد الأبوين له، ولهذا كان تعيين الأب كما قال: مالك وأحمد في رواية والتخيير تخيير شهوة. ولهذا قالوا: إذا اختار الأب مدة، ثم اختار الأم فله ذلك حتى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نقل إليه، وكذلك إذا اختار ابتداء. وهذا قول القائلين بالتخيير: الحسن بن صالح والشافعي وأحمد بن حنبل. وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلا، وأما بالنهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه. هذا مذهب الشافعي وأحمد، وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، للأب تعاهده عندها وأدبه وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند الأم. قال أصحاب الشافعي وأحمد: وإن اختار الأب كان عنده ليلا ونهارًا ولم يمنع من زيارة أمه، ولا تمنع الأم من تمريضه إذا اعتل. فأما البنت إذا خيرت -فكانت عند الأم تارة وعند الأب تارة- أفضى ذلك إلى كثرة بروزها وتبرجها وانتقالها من مكان إلى مكان، ولا يبقى الأب موكلا بحفظها ولا الأم موكلة بحفظها، وقد عرف بالعادة أن ما تناوب الناس على حفظه ضاع، ومن الأمثال السائرة، لا تصلح القدر بين طباختين. وأيضا فاختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر في الإحسان والصيانة فلا يبقى الأب تام الرغبة في حفظها ولا الأم تامة الرغبة في حفظها وليس الذكر كالأنثى، كما قالت امرأة عمران {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} إلى قوله: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} إلى قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 مَرْيَمُ} [35-44/3] فهذه مريم احتاجت إلى من يكفلها ويحضنها حتى اقترعوا على كفالتها فكيف بمن سواها من النساء؟ وهذا أمر يعرف بالتجربة أن المرأة تحتاج من الحفظ والصيانة إلى ما لا يحتاج إليه الصبي، وكلما كان أستر لها وأصون كان أصلح لها؛ ولهذا كان لباسها المشروع لباسا لها يسترها، ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من يلبس منهن لباس الرجال» ، وقال لأم سلمة في عصابتها: "لَيَّة لا لَيَّتَيْن" رواه أبو داود وغيره، وقال في الحديث الصحيح "صنفان من أمتي لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رءوسهن مثل أسنمة البخت لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله". وأيضا فأمرت المرأة في الصلاة أن تتجمع ولا تجافي بين أعضائها وفي الإحرام أن لا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا ترقى فوق الصفا والمروة، كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها ونهيت أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم لحاجتها في حفظها إلى الرجال مع كبرها ومعرفتها فكيف إذا كانت صغيرة مميزة وقد بلغت سن ثوران الشهوة فيها، وهي قابلة للانخداع؟ وفي الحديث: "النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه". فهذا مما يبين أن مثل هذه الصبية المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وترددها بين الأبوين، مما يخل بذلك من جهة: أنها هي التي لا يجتمع قلبها على مكان معين، ولا يجتمع قلب أحد الأبوين على حفظها، ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارة وهذا تارة يخل بكمال حفظها وهو ذريعة إلى ظهورها وبروزها، فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين مطلقًا، ولا تمكن من تخيير، كما قال ذلك جمهور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 المسلمين: مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم، وليس في تخييرها نص صريح ولا قياس صحيح. والفرق ظاهر بين تخييرها وتخيير الابن، لا سيما والذكر محبوب مرغوب فيه، فلو اختار أحدهما كانت محبة الآخر له تدعوه إلى مراعاته والبنت مزهود فيها فأحد الوالدين قد يزهد فيها مع رغبتها فيه فكيف مع زهدها فيه؟ فالأصلح لها لزوم أحدهما لا التردد بينهما. ثم هنا يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما فمن عين الأم مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، لا بد أن يراعوا مع ذلك صيانة الأم لها، ولهذا قالوا ما ذكره مالك والليث وغيرهما، إذا لم تكن الأم في موضع حرز وتحصين أو كانت غير مرضية، فللأب أخذها منها، وهذا هو الذي راعاه أحمد في الرواية التي اشتهرت عند أصحابه، حتى لم يذكر أكثرهم في ذلك نزاعا، وقد عللوا ذلك بحاجتها إلى الحفظ والتزويج والأب أقوم لذلك من الأم، فإنه إذا كان لا بد من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظة لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها من الأم، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد، والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم. وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك ضرر، فلو قدر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها أو يهمل حفظها لاشتغاله عنها أو لقلة دينه والأم قائمة بحفظها وصيانتها، فإنه تقدم الأم في هذه الحال. فكل من قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها واندفعت به مفسدتها، فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى به بلا ريب، حتى الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدمناه إنما نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال مفسدته، فلو قدرنا أن الأب أقرب لكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 لا يصونه والأم تصونه لم يلتفت إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل، قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصده الفجور ومعاشرة الفجار، وترك ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، والآخر يذوده ويصلحه، ومتى كان كذلك فلا ريب أنه لا يمكن ممن يفسد معه حاله، ولهذا قال أصحاب الشافعي وأحمد: إنه لا حضانة لفاسق، وكذلك قال الحسن بن حيي، وقال مالك: كل من له الحضانة من أب أو ذات رحم أو عصبة ليس له كفاية ولا موضعه بحرز، ولا يؤمن في نفسه فلا حضانة له، والحضانة لمن فيه ذلك وإن بعد، وينظر للولد في ذلك بالذي هو أكفأ وأحرز، فرب والد يضيع ولده، وكذلك قالوا، وهذا لفظ القاضي أبو يعلي في خلافه، إنما يكون التخيير بين أبوين مأمونين عليه يعلم أنه لا ضرر عليه من كونه عند واحد منهما، فأما من لا يقوم بأمره ويخليه للعب فلا يثبت التخيير في حقه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع" فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك والآخر لا يأمره كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر؛ لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاص لله ورسوله فلا يقدم من يعصي الله فيه على من يطيع الله فيه بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله، ويترك ما حرم الله ورسوله والآخر لا يفعل معه الواجب أو يفعل معه الحرام قدم من يفعل الواجب ولو اختار الصبي غيره، بل ذلك العاصي لا ولاية له عليه بحال. بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له، بل إما أن يرفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن يضم إليه من يقوم معه بالواجب، فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين يحصل طاعة الله ورسوله في حقه، ومع حصوله عند الآخر لا يحصل له، قدم الأول قطعًا، وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 والنكاح والولاء، وإن كان الوارث حاضرا وعاجزا، بل هو من جنس الولاية ولاية النكاح والمال التي لا بد فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان، وإذا قدر أن الأب تزوج بضرة وهو يتركها عند ضرة أمها لا تعلم مصلحتها بل تؤذيها أو تقصر في مصلحتها وأمها تعلم مصلحتها ولا تؤذيها فالحضانة هنا للأم قطعا ولو قدر أن التخيير مشروع وأنها اختارت الأم فكيف إذا لم يكن كذلك؟ ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام على تقديم أحد الأبوين مطلقا، ولا تخيير أحد الأبوين مطلقا، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا، بل مع العدوان والتفريط والفساد والضرر، لا يقدم من يكون كذلك على البر العادل المحسن القائم بالواجب (1) . وقد عللوا أيضا تقديم الأب بعلة ثانية، بأنها إذا صارت مميزة صارت ممن تخطب وتزوج واحتاجت إلى تجهيزها، فإذا كانت عند الأب كان أنظر لها وأحرص على تجهيزها وتزويجها مما إذا كانت عند الأم. وأبو حنيفة يوافق أحمد على أن الأب أحق بها من الخالة والأخت والعمة وسائر النساء؛ بخلاف ما قاله في الصبي، فإنه جعل الأب أحق به مطلقا، لكن قال: الأم والجدة أحق من الأب فكلاهما قدم الأب وغيره من العصبة على النساء، لكن أحمد طرد القياس فقدمه على جميع النساء، وأبو حنيفة فرق بين عمود النسب وغيره، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخالة أم" فإذا قدم الأب على النساء اللائي يقدمن عليه في حال صغرها دل ذلك على أن الأب أقوم بمصلحة ابنته من النساء وتبين أن أصل هذا القول ليس من مفردات أحمد، بل هو طرد فيه قياسه.   (1) من هنا إلى آخر القاعدة غير موجود في المجموع ست صفحات وخمسا صفحة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 وبكل حال فهو قول قوي متوجه ليس بأضعف من غيره من الأقوال المقولة في الحضانة، وليس قول من رجح الأم مطلقًا بأقوى منه. ومما يقوي هذا القول: إن الولد مطلقًا إذا تعين أن يكون في مدينة أحد الأبوين دون الآخر، وكان الأب ساكنا في مصر والأم ساكنة في مصر آخر فالأب أحق به مطلقًا سواءً كان ذكرًا أو أنثى عند عامة العلماء كشريح القاضي وكمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، حتى قالوا: إن الأب إذا أراد سفر نقلة لغير الضرار إلى مكان بعيد فهو أحق به؛ لأن كونه مع الأب أصلح له؛ لحفظ نسبه، وكمال تربيته، وتعليمه وتأديبه، وأنه مع الأم تضيع مصلحته، ولا يخير الغلام هنا عند أحدهما لا يخرج إلى الأحق، فالأب أيضا أحق لأن كونه عند الأب أصلح له، وهذا المعنى منتف في الابن لأنه يخير، ولأن تردد الابن بينهما لا مضرة عليه فيه بخلاف البنت. واتفقوا كلهم على أن الأم لو أرادت أن تسافر بالذكر أو الأنثى من المصر الذي فيه عقد النكاح فالأب أحق به، فلم يرجح أحد منهم الأم مطلقا فدل على أن ترجيحها في حضانة الولد مطلقًا ذكرًا كان أو أنثى مخالف لهذا الأصل الذي اتفقوا عليه، وعلم أنهم متفقون على ترجيح جانب الأب عند تعذر الجمع بينهما، وهذا ثابت في الولد، وإن كان طفلاً يكون في بلد أبيه بخلاف ما إذا كان الأبوان في مصر واحد فههنا هو مع الصغر للأم، لأن في ذلك جمعا بين المصلحتين. ومما يقويه أيضا: أن الغلام إذا بلغ معتوها كانت حضانته للأم كالصغير، وإن كان عاقلا كان أمره إلى نفسه يسكن حيث شاء إذا كان مأمونا على نفسه عند الأئمة الأربعة وغيرهم، فإن كان غير مأمون على نفسه فلم يجعل أحد الولاية عليه للأم، بل قالوا: للأب ضمة إليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 وتأديبه، والأب يمنعه من السفلة (1) . وأما الجارية إذا بلغت فنقل عن مالك: الوالد أحق بضمها إليه حتى تزوج ويدخل بها الزوج، ثم هي أحق بنفسها وتسكن حيث شاءت إلا أن يخاف منها هوى أو ضيعة أو سوء موضع فيمنعها الأب بضمها إليه. وقد تقدم في المدونة: أن الأم أحق بها ما لم تنكح وإن بلغت أربعين سنة، وكذلك قال أبو حنيفة في البكر قال: الأب أحق بها مأمونة كانت أو غير مأمونة، والبنت هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة، وقال الشافعي: هي أحق بنفسها إذا كانت مأمونة: بكرًا كانت أو ثيبًا. وفي مذهب أحمد ثلاثة أقوال ذكرها في المحرر روايتين ووجهًا. أحدها: أنها تكون عند الأب حتى تتزوج ويدخل بها الزوج، وهذا هو الذي نصره القاضي وغيره في كتبهم، وقالوا: إن الجارية إذا بلغت وكانت بكرًا فعليها أن تكون مع أبيها حتى تتزوج ويدخل بها الزوج، ولم يذكروا فيه نزاعًا. والرواية الثانية: عن أحمد: تكون عند الأم، وهذه الرواية إنما أخذها الشيخ أبو البركات من الرواية المتقدمة أن حضانتها تكون للأم ما لم تتزوج، فإنه على هذه الرواية نقل عن أحمد فيها روايتين، فإن أحمد قال في تلك الرواية، الأم والجدة أحق بالجارية ما لم تتزوج، فجعلهما أحق بها ما لم تتزوج في رواية مهنا، وقال في رواية ابن منصور، يقضي بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها، فهنا قال عند الحاجة إلى التزويج للأب، وإن كانت لم تتزوج بعد، وهذا يكون بالبلوغ.   (1) في الأصل: السلفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 وأما القول الثالث في مذهبه: وهو أنها إذا بلغت تكون حيث شاءت كالغلام فهذا يجيء على قول من يخيرها كما يخير الغلام، فمن خير الغلام قبل بلوغه كان بعد البلوغ أمره إلى نفسه كما قال الشافعي وأحمد وغيرهما، لكن أبو البركات حكى هذه الأقوال الثلاثة في محرره في البالغة، وهي مطابقة للأقوال الثلاثة التي ذكرناها في غير البالغة، فإنه على المشهور عند أصحاب أحمد أنها إذا كانت قبل البلوغ عند الأب فهي بعد البلوغ أولى أن تكون عند الأب منها عند الأم، فإن أبا حنيفة وأحمد في رواية ومالكا يجعلونها قبل البلوغ للأم، وبعد البلوغ جعلوها عند الأب، وهذا يدل على أن الأب أحفظ لها وأصون وأنظر في مصلحتها، فإذا كان كذلك فلا فرق بين ما قبل البلوغ وما بعده في ذلك. فتبين أن هذا القول، وهو جعل البنت المميزة عند الأب، أرجح من غيره والله أعلم. فصل والتخيير جاء فيه حديثان، وأما تقديم الأم على الأب في حق الصغير فمتفق عليه، وقد جاءت فيه حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعم مني، فقال: "أنت أحق به ما لم تنكحني" رواه أحمد وأبو داود، لكن في لفظه، وأن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم، على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أن الأم أحق به ما لم تنكح، وممن حفظنا عنه ذلك: يحيى الأنصاري، والزهري، ومالك والثوري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وبه نقول، وقد روينا عن أبي بكر الصديق: أنه حكم على عمر به، وبصبي لعاصم لأمه أم عاصم. وقال: حجرها وريحها ومسها خير له منك حتى يشب ويختار. وأما التخيير فعن أبي هريرة: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خير غلامًا بين أبيه وأمه» ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، ورواه أبو داود وقال فيه: «إن امرأة جاءت فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عتبة، وقد نفعني. فقال رسول الله: استهما عليه. قال زوجها: من يحاققني في ولدي؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به» ، ورواه النسائي كذلك، ولم يذكر: «استهما عليه» ، ورواه أحمد أيضًا لكنه قال فيه: «جاءت امرأة قد طلقها زوجها» ، ولم يذكر فيه قولها: «قد سقاني ونفعني» . وقد روى تخيير الغلام بين أبويه عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة. فروى سعيد بن منصور، وغيره: «أن عمر بن الخطاب خير غلامًا بين أبيه وأمه» ، وعن عمارة الحريثي (1) أنه قال: خيرني عليٌّ بين عمي وأمي، وكنت ابن سبع أو ثمان، وروى نحو ذلك عن أبي هريرة، ولم يعرف لهم مخالف مع أنها في مظنة الاشتهار. وأما الحديث الثاني فرواه عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن جده: «أن جده أسلم وأبت امرأته أن تسلم، فجاء بابن له صغير لم يبلغ. قال: فأجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - الأب ههنا والأم ههنا ثم خيره، وقال: اللهم اهده. فذهب إلى أبيه» ، وهكذا رواه أحمد والنسائي، ورواه أبو داود عن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان: «أنه أسلم وأبتت امرأته أن تسلمَ فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ابنتي وهي فطيم   (1) في الأصل: مهملة لا نقط فيها، فتحرر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 أو شيبة، وقال رافع: ابنتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اقعد ناحية" وقال لها "اقعدي ناحية" واقعد الصبي بينهما ثم قال: "ادعواها" فمالت إلى أمها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم اهدها" فمالت إلى أبيها فأخذها. وعبد الحميد هذا هو عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن رافع بن سنان الأنصاري وهذا الحديث قد ضعفه بعضهم فقال ابن المنذر في إسناده مقال، وقال غيره هذا الحديث لا يثبته أهل النقل، وقد روي على غير هذا الوجه، وقد اضطرب فيه هل كان المخبر ذكرا أم أنثى ومن روى أنه أنثى قال فيه "إنها فطيم" أي مقطوعة وفعيل بمعنى مفعول إذا كان صفة يستوي فيه الذكر والمؤنث يقال: عين كحيل، وكف خضيب، فيقال للصغير، فطيم وللصغير، فطيم. ولفظ "الفطيم" إنما يطلق على قريب العهد بالفطم فيكون له نحو ثلاث سنين، ومثل هذا لا يخير باتفاق العلماء. وأيضا: فإنه خير بين مسلم وكافر وهذا لا يجوز بين مسلم وكافر كالشافعي وأحمد. وأما القائلون بأن الكافرة لها حضانة كأبي حنيفة وابن القاسم فلا يخيرون لكن أبو ثور يقول بالتخيير فيما حكاه عنه ابن المنذر، والجمهور على أنه لا حضانة لكافر، وهو مذهب مالك والشافعي والبصريين كسوار وعبد الله بن الحسن. وقال أبو حنيفة وأبو ثور وابن القاسم صاحب مالك: الذمية في ذلك كالمسلمة وهي أحق بولدها من أبيه المسلم، وهو قول الاصطخري من أصحاب الشافعي، وقد قيد ذلك أبو حنيفة فقال: هي أحق بولدها ما لم يعقل الأديان ويخاف أن يألف الكفر، والأب إذا كان مسلما كان الولد مسلما باتفاقهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 وكذلك إذا كانت الأم مسلمة عند الجمهور كالشافعي وأحمد وأبي حنيفة فإنه يتبع عند الجمهور في الدين خيرهما دينا، وأما في النسب والولاء فهو يتبع الأب بالاتفاق، وفي الحرية أو الرق يتبع الأم بالاتفاق،. وحمل بعضهم هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنها تختار الأب بدعائه، فكان ذلك خاصا في حقه. وأيضًا فهذه القصة قضية في عين، والأشبه أنها كانت في أول زمن الهجرة، فإن الأب كان من الأنصار فأسلم والأم لم تسلم، وفي آخر الأمر أسلم جميع نساء الأنصار فلم يكن فيهن إلا مسلمة حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولنساء الأنصار". ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكره أحدا على الإسلام ولا ضرب الجزية على أحد، ولكن هادن اليهود مهادنة وأما الأنصار ففشى فيهم الإسلام وكان فيهم من لم يسلم، بل كان مظهرا لكفره فلم يكونوا ملتزمين لحكم الإٍسلام، وكذلك كان عبد الله بن أبي بن سلول وغيره قبل أن يظهروا الإسلام. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب يعود سعد بن عبادة فمر بمجلس من الأنصار الحديث، ففي هذا الحديث وغيره من الأحاديث ما يبين أنهم كانوا قبل غزوة بدر متظاهرين بالكفر من غير الإسلام ولا ذمة، فلم يكن الكفار ملتزمين لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا التزام حكمه إنما يكون بالإسلام أو بالعهد الذي التزموا فيه ذلك، ولم يكن المشركون كذلك، فلهذا لم يلزم المرأة بحكم الإسلام، بل دعا الله أن يهدي الصغير فاستجاب الله، ودعاؤه له أن يهديه: دليل على أنه كان طالبا مريدا لهداه، وهداه أن يكون عند المسلم، لا عند الكافر، لكن لم يمكنه ذلك بالحكم الظاهر، لعدم دخول الكافرة تحت حكمه، فطلبه بدعائه القبول، وهذا يدل على أنه متى أمكن أن يجعل مع المسلم لا يجعل مع الكافر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وكان هذا حكم الله ورسوله بأهل الذمة الملتزمون جريان حكم الله ورسوله عليهم يحكم بينهم بذلك، نعم لو كان النزاع بين من هو مسلم ومن هو من أهل الحرب والهدنة الذين لم يلتزموا جريان حكم الله ورسوله عليهم، فهنا لا يمكن الحكم فيهم بحكم الإسلام بدون رضاهم، فيسعى حينئذ في تغليب الإسلام بالدعاء، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كان الاجتهاد في ظهور الإسلام دعاؤه واجبًا بحسب الإمكان. وعلى هذا: فالحديث إن كان ثابتا دليل على التخيير في الجملة، لكن قد اختلف في المخير: هل كان صبيا أو صبية؟ فلم يتبين أحدهما، فلا يبقى فيه حجة على تخيير الأنثى، لا سيما والمخيرة كانت فطيمًا، وهذه لا تخير باتفاقهم، وإنما كان تخيير هذه إن صح الحديث من جنس آخر. آخر ما وجد والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم وكتب في شهر ربيع الأول من شهور سنة أربع وستين وسبعمائة أحسن الله عاقبتها بمنة وكرمه، آمين يا رب العالمين. وكتبها أضعف العباد عبد المنعم البغدادي الحنبلي عفا الله عنه بمنه وكرمه. بلغ مقابلة بحوله ومنه، فصحح حسب الطاقة في ليلة صباحها خامس عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة الأربع والستين وسبع مائة أحسن الله عاقبتها بمنه وكرمه (1) .   (1) آخر قاعدة الحضانة الملحقة بمختصر الفتاوى المصرية (613-638) أصلها بدار الكتب الأزهرية رقم (182) خصوصي وهي بخط عبد المنعم البغدادي الحنبلي في (26/ 3/ 76) وفيها زيادة على ما في الجموع وتصحيح لبعض أخطاء فيه كما تقدم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 كتاب الجنايات العقوبات الشرعية إنما شرعت رحمة من الله بعباده، فهي صادرة عن رحمة الله بالخلق وإرادة الإحسان إليهم، ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض (1) . وليست التوبة بعد الجرح أو بعد الرمي قبل الإصابة مانعة من وجوب القصاص (2) وإمساك الحيات جناية محرمة (3) . إسقاؤه سما لا يعلم به.. فإن علم آكله به وهو بالغ عاقل أو خلطه بطعام نفسه فأكله إنسان بغير إذنه فلا ضمان عليه، وقال الشيخ تقي الدين: إذا كان مميزا ففي ضمانه نظر (4) . وقال الشيخ تقي الدين: من صور القتل عمدا، الموجب للقصاص من شهدت بينة بالردة فقتل بذلك ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله، قال وفي هذا نظر؛ لأن المرتد إنما يقتل إذا لم يتب فيمكن المشهود عليه التوبة، كما يمكنه التخلص من النار إذا ألقي فيها اهـ (5) .   (1) اختيارات (288) ، ف (2/ 345) . (2) اختيارات (289) ، ف (2/346) . (3) اختيارات (289) ، ف (2/346) . (4) إنصاف (9/ 440) ، ف (2/346) . (5) اختيارات (289) ، ف (2/347) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 لو رجع الوالي والبينة ضمنه الوالي وحده على الصحيح من المذهب، وقال القاضي وأصحابه: يضمنه الوالي والبينة معا كمشترك واختار الشيخ تقي الدين: أن الوالي يلزمه القود إن تعمد وإلا الدية، وأن الآمر لا يرث (1) . شبه العمد: الثاني أن يقتل في دار الحرب من يظنه حربيا ... قال الشيخ تقي الدين: محل هذا في المسلم الذي هو بين الكفار، معذور كالأسير، والمسلم الذي لا يمكنه الهجرة والخروج من صفهم فأما الذي يقف في صف قتالهم باختياره فلا يضمن بحال (2) . فصل قال في المحرر: لو أمر به يعني القتل سلطان عادل أو جائر ظلما من لم يعرف ظلمه فيه فقتله فالقود والدية على الآمر، قال أبو العباس: هذا بناء على وجوب طاعة السلطان في القتل المجهول: وفيه نظر بل لا يطاع حتى يعلم جواز قتله، وحينئذ فتكون الطاعة له معصية لا سيما إذا كان معروفا بالظلم فهنا الجهل بعدم الحل كالعلم بالحرمة. وقياس المذهب: أنه إذا كان المأمور ممن يطيعه غالبا في ذلك أنه يجب القتل عليهما، وهو أولى من الحاكم والشهود، فإنه سبب يقتضي غالبا بل هو أقوى من المكره (3) . وإذا قال: أنا قاتل غلام زيد، فقياس المذهب إن كان نحويا لم يكن مقرا، وإن كان غير نحوي كان مقرا، كما لو قاله بالإضافة (4) .   (1) إنصاف (9/ 444) ، ف (2/ 347) . (2) إنصاف (9/ 447) ، ف (2/ 347) . (3) اختيارات (289) ، ف (2/ 347) . (4) اختيارات (291) ، ف (2/ 247) وللإقرار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 باب شروط وجوب القصاص والذي ينبغي ألا يعاقب المجنون بقتل ولا قطع، لكن يضرب على فعله لينزجر، وكذا الصبي المميز يعاقب على الفاحشة، ويعزر تعزيرا بليغا (1) . ولا يقتل مسلم بذمي، إلا أن يقتله غيلة لأخذ ماله، وهو مذهب مالك (2) . والسنة إنما جاءت «لا يقتل والد بولده» ، فإلحاق الجد بذلك وأبي الأم بعيد. ويتوجه ألا يرث القاتل دما من وارث، كما لا يرث هو المقتول وهو يشبه حد القذف المطالب به إذا كان القاذف هو الوارث أو وارث الوارث، فعلى هذا لو قتل أحد الابنين أباه، والآخر أمه وهي في زوجية الأب فكل واحد منهما يستحق قتل الآخر، فيتقاصان، لا سيما إذا قيل إنه يستحق القود بملك نقله إلى غيره، إما بطريق التوكيل بلا ريب، وإما بالتمليك وليس ببعيد (3) . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: ليس في العبد نصوص صريحة صحيحة تمنع قتل الحربه، وقوي أنه يقتل به، وقال: هذا أرجح وأقوى على قول الإمام أحمد رحمه الله (4) . باب استيفاء القصاص والجماعة المشتركون في استحقاق دم المقتول الواحد، إما أن   (1) إنصاف (10/ 241) واختيارات (292) فيه زيادة ف (2/ 349) . (2) اختيارات (289) ، ف (2/ 349) . (3) اختيارات (291) ، ف (2/ 350) . (4) إنصاف (9/ 469) ، ف (2/ 349) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 يثبت لكل واحد منهم بعض الاستيفاء فيكونون كالمشتركين في عقد أو خصومة، وتعيين الإمام قوي، كما يؤجر عليهم لنيابته عن الممتنع، والقرعة إنما شرعت في الأصل إذا كان كل واحد مستحقا أو كالمستحق. ويتوجه أن يقدم الأكثر حقا أو الأفضل، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سهل في قصة قتل أخيه عبد الله بن سهل الأنصاري (كبر) وكالأولياء في النكاح بإذن الباقين؛ لأن القرعة لم تسقط حقوقهم (1) . وإذا كان المقتول رضي بالاستيفاء أو بالدية فينبغي أن يتعين، كما لو عفا، وعليه تخرج قصة علي مع قاتله عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، إذا لم تخرج على كونه مرتدا أو مفسدا، في الأرض أو قاتل الأئمة (2) . قال الشيخ تقي الدين: مطالبة المقتول بالقصاص توجب تحتمه فلا يمكن الورثة بعد ذلك من العفو (3) . فصل وسألت شيخنا أبا العباس ابن تيمية قدس الله روحه عن القتل بالحال، هل يوجب القصاص؟ فقال: للولي أن يقتله بالحال كما قتل به (4) . ويحتمل أن يجوز الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص، في النفس، واختاره الشيخ تقي الدين (5) .   (1) اختيارات (292) ، ف (2/ 350) . (2) اختيارات (291) وإنصاف (10/ 3) ، ف (2/، 350) . (3) اختيارات (291) وإنصاف (10/ 3) ، ف (2/، 350) . (4) مدارج (1/ 402) ، ف (2/ 350) . (5) إنصاف (9/ 487) ، ف (2/ 350) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 ويفعل بالجاني على النفس مثل ما فعل بالمجني عليه ما لم يكن محرما في نفسه، أو يقتله بالسيف إن شاء وهو رواية عن أحمد، ولو كوى شخصا بمسمار كان للمجني عليه أن يكويه مثل ما كواه إن أمكن (1) وقال: هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل (2) . وولاية القصاص والعفو عنه ليست عامة لجميع الورثة، بل تختص بالعصبة وهو مذهب مالك، وتخرج رواية عن أحمد (3) . وكل من ورث المال ورث القصاص على قدر ميراثه من المال حتى الزوجين وذوي الأرحام. وعنه: يختص العصبة ذكرها ابن البناء وخرجها الشيخ تقي الدين رحمه الله واختارها (4) . باب العفو عن القصاص واختار الشيخ تقي الدين، أن العفو لا يصح في قتل الغيلة لتعذر الاحتراز كالقتل مكابرة (5) . وقال الشيخ تقي الدين: استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانا إلا بعد العدل، وهو ألا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل به ضرر كان ظلما من العافي إما لنفسه وإما لغيره فلا يشرع (6) .   (1) اختيارات (293) وفروع (5/ 263) ، ف (2/351) وإنصاف (9/ 487) . (2) اختيارات (293) وفروع (5/ 263) ، ف (2/351) وإنصاف (9/ 487) . (3) اختيارات (293) ، ف (2/ 351) . (4) إنصاف (9/ 482) ، ف (2/350) فيه زيادة. (5) إنصاف (10/ 6) ، ف (2/ 351) . (6) إنصاف (10/ 3) ، ف (2/ 351) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 وإن مات القاتل وجبت الدية في تركته، واختار الشيخ تقي الدين: أنها تسقط بموته وقتله وخرجه وجها، وسواء كان معسرا أو موسرا وسواء قلنا الواجب القصاص عينا أو أحد شيئين (1) . ويتوجه إذا قلنا: ليس للولي أخذ الدية إلا برضا الجاني أن يسقط حقه بموته كما لو مات العبد الجاني أو المكفول به، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي ثواب وابن القاسم وأبي طالب، ويتوجه ذلك وإن قلنا الواجب القود عينا أو أحد شيئين، لأن الدية عديل العفو فأما الدية مع الهلاك فلا (2) . باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس ولا يستوفى القود في الطرف إلا بحضرة السلطان (3) . وفي جراحه.. (العبد) إن لم يكن مقدرا، وعنه: أنه يضمن بما نقص مطلقا اختاره الشيخ تقي الدين (4) . ولا يجوز أن يكذب على من كذب عليه، ولا يشهد بزور على من شهد عليه بزور، ولا يكفره بباطل كما كفره بالباطل، ولا يقذفه كذبا كما قذفه كذبا، ولا يفجر إذا خاصمه كما فجر هو. وكذلك لا يجوز أن يغرر في عقد عقده بينهما لأجل كونه غرر به، فلا يخونه كما خانه، والشارع نهى عن الخيانة لمن خانه ولم يجعل ذلك قصاصا فلا يأخذ من ماله بغير علمه بقدر ما أخذه هو، وهذا أصح قولي العلماء (5) .   (1) إنصاف (10/ 6، 7) ، ف (2/ 352) . (2) اختيارات (292) ، ف (2/ 352) . (3) اختيارات (293) ، ف (2/ 352) . (4) إنصاف (10/ 66) ، ف (2/ 352) . (5) مختصر الفتاوى (609) ، ف (2/ 353) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وقوله: الله أكبر عليك، كالدعاء عليه، شتمه بغير فرية نحو: يا كلب، فله قوله له أو تعزيره، ولو لعنه فهل له أن يلعنه؟ ينبني على جواز لعن المعين. ومن لعن نصرانيا أدب أدبا خفيفا، إلا أن يكون صدر من النصراني ما يقتضي ذلك. وقال الإمام أحمد رحمه الله: الدعاء قصاص، ومن دعا على ظالمه فما صبر اهـ (1) .   (1) إنصاف (10/ 150) ، ف (2/ 353) (2/ 371) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 كتاب الديات وقال الشيخ تقي الدين مثل الحية والصاعقة كل سبب يختص البقعة كالوباء وانهدم سقف عليه ونحوها (1) . المعروف أن الحر يضمن بالإتلاف، لا باليد، إلا الصغير ففيه روايتان كالروايتين في سرقته. فإذا كان الحر قد تعلق برقبته حق لغيره مثل أن يكون عليه حق قود أو في ذمته مال أو منفعة أو عنده أمانات أو غصوب تلفت بتلفه مثل أن يكون حافظا عليها وإذا تلف زال الحفظ فينبغي أنه إن أتلف فما ذهب بإتلافه من عين أو منفعة مضمونة ضمنت كالقود، فإنه مضمون، لكن هل ينتقل الحق إلى القاتل فيخير الأولياء، بين قتله والعفو عنه، أو إلى ترك الأول؟ فيه روايتان. وأما إذا تلف تحت اليد العادية فالمتوجه أن يضمن ما تلف بذلك من مال أو بدل قود، بحيث يقال: إذا كان عليه قود فحال بين أهل الحق وبين القود حتى مات ضمن لهم الدية (2) . باب ديات الأعضاء ومنافعها ومن جنى على سنه اثنان، واختلفوا، فالقول قول المجني عليه في قدر ما أتلفه كل واحد منهما قاله أصحابنا.   (1) إنصاف (10/ 34) ، ف (2/ 352) . (2) اختيارات (294) ، ف (2/353) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 ويتوجه أن يقترعا على القدر المتنازع فيه، لأنه ثبت على أحدهما لا بعينه كما لو ثبت الحق لأحدهما لا بعينه (1) . وإذا بقي من لحيته ما لا جمال فيه فهل يجب القسط، أو كمال الدية، أو حكومة؟ على ثلاثة أوجه، ويتوجه أن يكون أكثر الأمرين: القسط، أو الحكومة (2) . باب العاقلة وما تحمله ويتوجه أن يعقل ذوو الأرحام عند عدم العصبة إذا قلنا تجب النفقة عليهم. والمرتد يجب أن يعقل عنه من يرثه من المسلمين، أو أهل الدين الذي انتقل إليه (3) . وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء (4) . ومن أبرأ جانيا حرا جنايته على عاقلته إن قلنا تجب الدية على العاقلة تحملا وعليه ابتداء، أو عبدا إن قلنا جنايته في ذمته صح، مع أنه يتوجه الصحة مطلقا، وهو وجه بناء على أن مفهوم هذا اللفظ في عرف الناس العفو مطلقا، وألفاظ التصرفات تحمل موجباتها على عرف الناس، فتختلف باختلاف الاصطلاحات (5) .   (1) اختيارات (294) ، ف (2/354) . (2) اختيارات (294) ، ف (2/ 354) . (3) اختيارات (295) ، ف (2/ 354) . (4) اختيارات (294) ، ف (2/ 354) . (5) الاختيارات (293) ، ف (2/ 355) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 باب القسامة ومن اتهم بقتيل وهناك لوث ويغلب على الظن أنه قتله لعداوة أو توعد بقتل ونحوه جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دمه. وأما ضربه ليقر فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدل على أنه قتله، فإن بعضهم جوز تقريره بالضرب في هذه الحال، ومنعه بعضهم مطلقا. وليس على أهل البقعة في العادة السلطانية، ولا في حكم الشرع شيء (1) . نقل الميموني عن الإمام أحمد أنه قال: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان سبب بين، وإذا كان ثم عداوة، وإذا كان مثل المدعى عليه يفعل هذا، فذكر الإمام أحمد أربعة أمور، اللطخ وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة، والسبب البين: كالتفرق عن قتيل والعداوة: كون المطلوب من المعروفين بالقتل، وهذا هو الصواب، واختاره ابن الجوزي، فإذا كان ثم لوث يغلب على الظن أنه قتل من اتهم بقتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دمه (2) . وعنه: أنه ما يدل على أنه ما يغلب على الظن صحة الدعوى به، كتفرق جماعة عن قتيل، ووجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم، وشهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان، وعدل واحد وفسقة ونحو ذلك، واختار هذه الرواية أبو محمد الجوزي وابن رزين والشيخ تقي الدين وغيرهم (3) .   (1) مختصر الفتاوى (467) فيه زيادة ف (2/ 356) . (2) اختيارات (295) وفروع (6/ 46) ، ف (2/ 356) . (3) إنصاف (10/ 140) هذا جامع، ف (2/ 356) وفروع (6/ 46) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 وقال في "الترغيب" في القسامة: من قضي عليه بنكوله بالدية ففي ماله كإقرار، وبه قال أبو بكر في الجامع، اختار الشيخ تقي الدين: أن المدعي يحلف ابتداء مع اللوث (1) .   (1) إنصاف (11/ 260) ، ف (2/ 356) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 كتاب الحدود وقال شيخنا في تتمة كلامه السابق في آخر الصلح، فعلى الإنسان أن يكون مقصوده نفع الخلق والإحسان إليهم، وهذا هو الرحمة التي بعث الله بها محمدا - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} لكن للاحتياط إلى دفع الظلم شرعت العقوبات، وعلى المقيم لها أن يقصد بها النفع والإحسان، كما يقصد الولد بعقوبة الولد والطيب بدواء المريض، فلم يأمر الشرع إلا بما هو نفع للعباد، وعلى المؤمن أن يقصد ذلك (1) . تحرم إقامة حد إلا لإمام أو نائبه، واختار شيخنا، إلا لقرينة كتطلب الإمام له ليقتله (2) . ولا يقيم الإمام الحد بعلمه، ووجه في الفروع تخريجا من كلام الشيخ تقي الدين رحمه الله جواز إقامته بعلمه (3) . ويقام الحد ولو كان من يقيمه شريكا لمن يقيمه عليه في المعصية أو عونا له، ولهذا ذكر العلماء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط بذلك، بل عليه أن يأمر وينهى ولا يجمع بين معصيتين (4) .   (1) فروع (6/ 356) ، ف (2/358) . (2) فروع (6/ 53) هذا عام ف (2/ 357) . (3) إنصاف (10/ 154) ، ف (2/ 358) . (4) اختيارات (306) ، ف (2/ 358) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 وإذا اجتمعت حدود لله عز وجل، فإن كان فيها قتل استوفي وحده، قال في المغني: لا يشرع غيره، وإلا تداخل الجنس، فظاهره لا يجوز إلا حد واحد، قال أحمد: يقام عليه الحد مرة لا الأجناس. وذكر ابن عقيل رواية: لا تداخل في السرقة، وفي "البلغة" فقطع واحد على الأصح، وفي المستوعب رواية: إن طالبوا متفرقين قطع لكل واحد، قال أبو بكر، هذه رواية صالح، والعمل على خلافها، ثم قال شيخنا: قول الفقهاء تتداخل دليل على أن الثابت أحكام وإلا فالشيء الواحد لا يعقل فيه تداخل فالصواب أنها أحكام، وعلى ذلك نص الأئمة كما قال أحمد بعض ما ذكره: هذا مثل لحم خنزير ميت، فأثبت فيه تحريمين (1) . لا تعتبر الموالاة في الحدود، قال الشيخ تقي الدين: وفيه نظر (2) . الأشهر الحرم لا تعصم من شيء من الحدود والجنايات على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب وتردد الشيخ تقي الدين رحمه الله في ذلك (3) . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إن تعدى أهل مكة أو غيرهم على الركب دفع الركب كما يدفع الصائل، وللإنسان أن يدفع مع الركب بل قد يجب إن احتيج إليه (4) . قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا *} [15/4] قد يستدل على أن المذنب إذا   (1) فروع (6/ 61) ، ف (2/ 358) . (2) إنصاف (10/ 154) ، ف (2/ 359) . (3) إنصاف (10/ 168) ، ف (2/ 359) . (4) إنصاف (10/ 169) ، ف (2/ 359) وتقدم هذا النقل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 لم يعرف فيه حكم للشرع فإنه يمسك ويحبس حتى يعرف فيه الحكم الشرعي فينفذ فيه (1) . باب حد الزنا واللواط وذكر في الإرشاد أن المراهق يحصن غيره، وذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله رواية (2) . ونقل ابن منصور: لا نفي إلا للزاني والمخنث، قال القاضي: نفيه دون سنة، واحتج به الشيخ تقي الدين، وبنفي عمر لنصر بن حجاج (3) . ومن وطئ أمة امرأته فعليه الحد، وهل يلحقه نسبه؟ على روايتين، قال الشيخ تقي الدين: إن ظن جوازه لحقه، وإلا فروايتان فيه وفي حده (4) . أو وطئ في نكاح مجمع على بطلانه بلا نزاع إن كان عالما، وأما إذا كان جاهلا تحريم ذلك فقال جماعة من الأصحاب، إن كان يجهله مثله فلا حد عليه، وقال الشيخ تقي الدين (5) . لو أكرهت المرأة أو الغلام على الزنا بإلجاء أو تهديد أو منع طعام مع الاضطرار إليه ونحوه فلا حد عليهما، وعنه تحد المرأة، وعنه فيها لا حد بتهديد ونحوه ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله، وقال بناء على أنه لا يباح الفعل بالإكراه بل القول (6) .   (1) اختيارات (295) ، ف (2/ 359) . (2) الإنصاف (10/ 171) ، ف (2/ 360) . (3) إنصاف (10/ 150) ، ف (2/ 361) . (4) إنصاف (10/ 243) ، ف (2/ 361) . (5) إنصاف (10/ 243) ، ف (2/ 362) . (6) إنصاف (10/183) ، ف (2/362) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 وسحاق النساء: قياس المذهب المنصوص أنه يخرج على الخلاف في مباشرة الرجل الرجل بشهوة (1) . والرقيق إذا زنا علانية وجب على السيد إقامة الحد عليه، وإن عصى سرا فينبغي ألا يجب عليه إقامته، بل يخير بين ستره أو استتابته بحسب المصلحة في ذلك، كما يخبر الشهود على من وجب عليه الحد بين إقامتها عند الإمام وبين الستر عليه، واستتابته بحسب المصلحة في ذلك؛ فإنه يرجح أن يتوب إن ستروه، وإن كان في ترك إقامة الحد ضرر على الناس كان الراجح فعله (2) . ولهذا لم يقل أصحابنا: إلا أن له إقامة الحد بعلمه، ولم يقولوا: إن ذلك عليه، وذلك لأنه لو وجب على من علم من رقيقه حدا أن يقيمه عليه مع إمكان استتابته لأفضى ذلك إلى وجوب هتك كل رقيق، وأنه لا يستر على أحد منهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "من ستر مسلما ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" (3) . ويجب على السيد بيع الأمة إن زنت في المرة الرابعة (4) . وإذا زنى الذمي بالمسلمة قتل، ولا يصرف عنه القتل بإسلامه، ولا يعتبر فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم، بل يكفي استفاضته واشتهاره (5) .   (1) اختيارات (211) ، ف (2/ 362) . (2) اختيارات (306) ، ف (2/ 359، 360) . (3) الفروع (6/ 54، 55) ، ف (2/ 359، 360) . (4) اختيارات (306) ، ف (2/ 359، 360) (5) اختيارات (295) ، ف (2/ 360) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 قال ابن القيم رحمه الله: ويشبه هذا الاستدلال (1) استدلال بعض الزنادقة المنتسبين إلى الفقه على حل الفاحشة بمملوك الرجل بقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *} [6/23] ، ومعتقد ذلك كافر حلال الدم بعد قيام الحجة عليه، وإنما تسترت هذه الطائفة لهواها وشهواتها وأوهمت أنها تنظر عبرة واستدلالا، حتى آل ببعضهم الأمر إلى أن ظنوا أن نظرهم عبادة لأنهم ينظرون إلى مظاهر الجمال الإلهي ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى عن قول إخوان النصارى يظهر في تلك الصورة الجميلة، ويجعلون هذا طريقا إلى الله، كما وقع فيه طوائف كثيرة ممن يدعي المعرفة والسلوك. قال شيخنا رحمه الله تعالى: وكفر هؤلاء شر من كفر قوم لوط، وشر من كفر عباد الأصنام فإن أولئك لم يقولوا: إن الله سبحانه يتجلى في تلك الصورة وعباد الأصنام غاية ما قالوه: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [3/29] وهؤلاء يقولون: نعبدهم لأن الله ظهر في صورهم. وحكى لي شيخنا: أن رجلا من هؤلاء مر به شاب جميل فجعل يتبعه ببصره، فأنكر عليه جليس له، قال: لا يصلح هذا لمثلك، فقال: إني أرى فيه صفات معبودي وهو مظهر من مظاهر جماله، فقال: لقد فعلت به وصنعت؟ قال: وإن قال شيخنا فلعن الله أمة معبودها موطوؤها. قال: وسئل أفضل متأخريهم العفيف التلمساني فقيل له: إذا كان   (1) الاستدلال على إباحة النظر إلى المردان الحسان بآية {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ} ، واستدلالهم على إباحة السماع الشيطاني بقوله: {فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 الوجود واحدًا فما الفرق بين الأخت والبنت والأجنبية حتى تحل هذه؟ فقال: الجميع عندنا سواء، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم (1) . قال شيخنا: ومن هؤلاء من يتأول قوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [221/2] على ذلك: قال: وقد سألني بعض الناس عن هذه الآية وكان ممن يقرأ القرآن فظن أن معناها في إباحة ذكران العبيد المؤمنين. قال: ومنهم من يجعل ذلك مسألة نزاع يبيحه بعض العلماء ويحرمه بعضهم ويقول: اختلافهم شبهة، وهذا كذب وجهل؛ فإنه ليس في فرق الأمة من يبيح ذلك، بل ولا في دين من أديان الرسل، وإنما يبيحه زنادقة العالم الذين لا يؤمنون بالله ورسوله. قال: ومنهم من يقول: هو مباح للضرورة، مثل أن يبقى الرجل أربعين يوما لا يجامع إلى أمثال هذه الأمور التي خاطبني فيها وسألني عنها طوائف من الجند والعامة والفقراء. قال: ومنهم من قد بلغه خلاف بعض العلماء في وجوب الحد فيه فظن أن ذلك خلاف في التحريم، ولم يعلم أن الشيء قد يكون من أعظم المحرمات كالميتة والدم ولحم الخنزير وليس فيه حد مقدر. قال شيخنا: وحكى لي من أثق به، أن بعض هؤلاء أخذ على هذه الفاحشة فحكم عليه بالحد، فقال: هو ارتضى بذلك وما أكرهته، ولا غصبته فكيف أعاقب؟ فقال: نصير المشركين، وكان حاضرا هذا حكم محمد بن عبد الله وليس لهؤلاء ذنب (2) .   (1) روضة المحبين (122، 123) ، ف (2/ 362) . (2) إغاثة اللهفان (2/ 145، 146) ، ف (2/ 362) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 باب حد القذف وهل حد القذف حق لله، أو للآدمي؟ على روايتين: إحداهما: هو حق للآدمي.. الثانية: هو حق لله. . وعلى الثانية: لا يسقط. وعليهما: لا يحد، ولا يجوز أن يعرض له إلا بطلب، وذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله إجماعًا (1) . الفائدة الثانية: يحد بقذف على وجه الغيرة بفتح الغين المعجمة على الصحيح من المذهب، قال في الفروع: ويتوجه احتمال لا يحد، وفاقا لمالك رحمه الله، وأنها عذر في غيبة ونحوها وتقدم كلام ابن عقيل والشيخ تقي الدين رحمه الله (2) . باب حد المسكر والصحيح في حد الخمر: إحدى الروايتين الموافقة لمذهب الشافعي وغيره: أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق، ولامحرمة على الإطلاق، بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه بالجريد والنعال وأطراف الثياب بخلاف بقية الحدود، ويقتل شارب الخمر في الرابعة عند الحاجة إلى قتله إذا لم ينته الناس بدونه (3) . وإذا شككت في المطعوم والمشروب هل يسكر أو لا؟ لم يحرم عليك بمجرد الشك، ولم يقم الحد على شاربه، ولا ينبغي إباحته للناس.   (1) إنصاف (10/ 200، 201) ، ف (2/ 363) . (2) إنصاف (10/ 202، 203) ، ف (2/ 364) . (3) الاختيارات (299) والإنصاف (10/ 230) هنا زيادة إيضاح وجزم بالحكم ف (2/ 368) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 إذا كان يجوز أن يكون مسكرا؛ لأن إباحة الحرام مثل تحريم الحلال، فيكشف عن هذا بشهادة من تقبل شهادته مثل: أن يكون طعمه ثم تاب منه، أو طعمه غير معتقد تحريمه، أو معتقد حله لتداو ونحوه، أو على مذهب الكوفيين في تناول يسير النبيذ، فإن شهد به جماعة ممن تناوله معتقدا تحريمه فينبغي إذا أخبر عدد كثير لا يمكن تواطؤهم على الكذب أن يحكم بذلك، فإن مثل هذا التواتر والاستفاضة كما استفاض بين الفساق والكفار الموت والنسب والنكاح والطلاق، فيكون أحد الأمرين: إما الحكم بذلك، لأن التواتر لا يشترط فيه الإسلام، والعدالة، وإما الشهادة بذلك بناء على أن الاستفاضة يحصل بها ما يحصل بالتواتر، وإما أن يمتحن بعض العدول بتناوله لوجهين. أحدهما: أنه لا يعلم تحريم ذلك قبل التأويل فيجوز الإقدام على تناوله، وكراهة الإقدام على الشبهة تعارضها مصلحة بيان الحال. الوجه الثاني: أن المحرمات قد تباح عند الضرورة، والحاجة إلى البيان موضع ضرورة فيجوز تناولها لأجل ذلك (1) . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله، رخص أكثر العلماء فيما يكره عليه من المحرمات لحق الله كأكل الميتة وشرب الخمر وهو ظاهر مذهب أحمد رحمه الله (2) . باب التعزير وإذا شتم الرجل أباه واعتدى عليه وجب أن يعاقب عقوبة بليغة تردعه وأمثاله بل وأبلغ من ذلك أنه ثبت في الصحيح "أن من الكبائر أن يسب الرجل والديه، قالوا: وكيف يسب الرجل والديه؟ " قال: "يسب   (1) اختيارات (299) ، ف (2/ 367) . (2) إنصاف (10/ 231) ، ف (2/ 367) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" وقال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [23/17] فكيف يشتمهما؟ (1) . ومن قال: الله أكبر عليك، فهو من نحو الدعاء عليه، فإن لم يكن بحق وإلا كان ظالما له، يستحق الانتصار منه لذلك، إما بمثل قوله، أو تعزيره (2) . ومن قذف رجلا بأنه ينظر إلى حريم الناس وهو كذاب عزر على افترائه بما يزجره وأمثاله إذا طالبه المقذوف بذلك، وكذلك إذا شتمه بأنه فاسق أو أنه يشرب الخمر، وهو كاذب عليه يعزر (3) . ومن اعتاد الكذب فصار إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، فهو منافق والمنافق شر من الكافر، فإذا قال رجل للذي يكذب النصراني خير منك، وقصد أن النصراني لا يكذب خير من هذا الكذاب مع أن دين الإسلام هو الحق فلا شيء عليه، فإن الكذب أساس النفاق، ومن لا يكذب خير ممن يكذب (4) . ومن التعزير الذي جاءت به السنة ونص عليه أحمد والشافعي: نفي المخنث، وحلق عمر رأس نصر بن حجاج ونفاه لما افتتن به النساء فكذلك من افتتن به الرجال من المردان بل هو أولى (5) . ولا يقدر التعزير بل بما يردع المعزر، وقد يكون بالعزل والنيل من عرضه مثل أن يقال له: يا ظالم، يا معتدي، وبإقامته من المجلس.   (1) مختصر الفتاوى (493) ، ف (2/ 371) . (2) مختصر الفتاوى (371) ، ف (2/ 371) . (3) مختصر الفتاوى (493) ، ف (2/ 371) . (4) مختصر الفتاوى (548) ، ف (2/ 371) . (5) اختيارات (299) ، ف (2/ 371) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 والذين قدروا التعزير من أصحابنا إنما هو فيما إذا كان تعزيرا على ما مضى من فعل أو ترك، فإن كان تعزيرا لأجل ترك ما هو فاعل له فهو بمنزلة قتل المرتد والحربي وقتال الباغي والعادي، وهذا تعزير غير مقدر، بل قد ينتهي إلى القتل، كما في الصائل لأخذ المال يجوز أن يمنع من الأخذ ولو بالقتل، وعلى هذا فإذا كان المقصود دفع الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قتل، وحينئذ فمن تكرر منه فعل الفساد، ولم يرتدع بالحدود المقدرة بل استمر على ذلك الفساد هو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل فيقتل، ويمكن أن يخرج قتل الشارب في الرابعة على هذا. ويقتل الجاسوس الذي تكرر منه التجسس على المسلمين لعدوهم، وقد ذكر الحنفية والمالكية شيئا من هذا، وإليه يرجع قول ابن عقيل، وهو أصل عظيم في إصلاح الناس. وكذلك تارك الواجب، فلا يزال يعاقب حتى يفعله. ومن فر إلى بلاد العدو ولم يندفع ضرره إلا بقتله قتل. والتعزير بالمال سائغ، إتلافا وأخذا وهو جار على مذهب أحمد؛ لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها. وقول الشيخ أبي محمد المقدسي: لا يجوز أخذ ماله، يعني المعزر، فإشارة منه إلى ما يأخذه الولاة الظلمة. ومن وطئ امرأة مشركة قدح ذلك في عدالته وأدب. والتعزير يكون على فعل المحرمات وترك الواجبات. فمن ترك الواجبات: من كتم ما يجب بيانه كالبائع المدلس، والمؤجر المدلس والناكح وغيرهم من العالمين، وكذا الشاهد والمخبر والمفتي والحاكم ونحوهم، فإن كتمان الحق مشبه بالكذب. وينبغي أن يكون سببا للضمان، كما أن الكذب سبب للضمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 فإن ترك الواجبات عندنا في الضمان كفعل المحرمات، حتى قلنا: من قدر على إنجاء شخص بإطعام أو سقي فلم يفعل فمات ضمنه. فعلى هذا فلو كتم شهادة كتمانا أبطل بها حق مسلم ضمنه، مثل أن يكون عليه حق ببينة وقد أداه حقه، وله بينة بالأداء، فكتم الشهادة حتى ضمن ذلك الحق، وكما لو كانت وثائق لرجل فكتمها أو جحدها حتى فات الحق، ولو قال: أنا أعلمها ولا أؤديها فوجوب الضمان ظاهر. وظاهر نقل حنبل وابن منصور: سماع الدعوى والإعداء التحليف في الشهادة. ومن هذا الباب لو كان في القرية أو المحلة أو البلدة رجل ظالم فسأل الوالي أو الغريم عن مكانه ليأخذ منه الحق فإنه يجب على الناس دلالته عليه بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحق، فعلى هذا: إذا كتموا ذلك حتى تلف الحق ضمنوه. ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنه كتم الخبر الواجب، كما يملك تعزير المقر إقرارًا مجهولاً، حتى يفسر؟ ومن كتم الإقرار. وقد يكون التعزير على ترك المستحب، كما يعزر العاطس الذي لم يحمد الله بترك تشميته. وقال أبو العباس في موضع آخر: والتعزير على الشيء دليل على تحريمه. ومن هذا الباب ما ذكره أصحابنا وأصحاب الشافعي من قتل الداعية من أهل البدع، كما قتل الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وغيلان القدري. وقتل هؤلاء له مأخذان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 أحدهما: كون ذلك كفرا، كقتل المرتد ردة مجردة أو مغلظة وهذا المعنى يعم الداعي إليها وغير الداعي، وإذا كفروا فيكون قتلهم من باب قتل المرتد. والمأخذ الثاني: لما في الدعاء إلى البدعة من إفساد دين الناس، ولهذا كان أصل الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث وعلمائهم، أنهم يفرقون بين الداعي إلى البدعة وغير الداعي في رد الشهادة، وترك الرواية عنه، والصلاة خلفه، وهجره، ولهذا ترك أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده الرواية عن مثل عمرو بن عبيد ونحوه، ولم يتركوا الرواية عن القدرية الذين ليسوا بدعاة. وعلى هذا المأخذ: فقتلهم من باب قتل المفسدين المحاربين، لأن المحاربة باللسان كالمحاربة باليد. ويشبه قتل المحاربين للسنة بالرأي قتل المحاربين لها بالرواية، وهو قتل من يتعمد الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كذب عليه في حياته، وهو حديث جيد، لما فيه من تغيير سنته. وقرر أبو العباس هذا مع نظائر له في «الصارم المسلول، على شاتم الرسول» كقتل الذي يتعرض لحرمه أو يسبه ونحو ذلك، وكما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل المفرق بين جماعة المسلمين لما فيه من تفريق الجماعة. ومن هذا الباب قتل الجاسوس المسلم الذي يخبر العدو بعورات المسلمين. ومنه الذي يكذب بلسانه أو خطه أو يأمر بذلك حتى يقتل به أعيان الأمة: علماؤها وأمراؤها، فيحصل بكذبه أنواع كثيرة من الفساد، فهذا متى لم يندفع فساده إلا بقتله فلا ريب في قتله، وإن جاز أن يندفع وجاز ألا يندفع قتل أيضًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 وعلى هذا جاء قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} [32/5] ، وقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [33/5] . وأما إن اندفع الفساد الأكبر بقتله، لكن بقي فساد دون ذلك، فهو محل نظر. قال أبو العباس: وأفتيت أميرا مقدما على عسكر كبير في الحربية، إذا نهبوا أموال المسلمين ولم ينزجروا إلا بالقتل أن يقتل من يكفون بقتله ولو أنهم عشرة إذ هو من باب دفع الصائل، قال: وأمرت أميرا خرج لتسكين الفتنة الثائرة بين قيس ويمن قد قتل منهم ألفان أن يقتل من يحصل بقتله كف الفتنة، ولو أنهم مائة. قال: وأفتيت ولاة الأمور في شهر رمضان، سنة أربع وسبع مائة بقتل من أمسك في سوق المسلمين وهو سكران وقد شرب الخمر مع أهل الذمة وهو مجتاز بشقة لحم يذهب بها إلى ندمائه، وكنت أفيتهم قبل هذا: بأنه يعاقب عقوبتين عقوبة على الشرب، وعقوبة على الفطر في نهار رمضان، فقالوا: ما مقدار التعزير؟ فقلت: هذا يختلف باختلاف الذنب، وحال المذنب، وحال الناس، وتوقفت عن القتل، فكبر هذا على الأمراء والناس حتى خفت أنه إن لم يقتل ينحل نظام الإسلام لجرأة الناس على انتهاك المحارم في نهار رمضان فأفتيت بقتله فقتل، ثم ظهر فيما بعد أنه كان يهوديا وأنه أظهر الإسلام. والمطلوب له ثلاث أحوال: أحدها: براءته في الظاهر، فهل يحضره الحاكم؟ على روايتين. وذكر أبو العباس في موضع آخر: أن المدعي حيث ظهر كذبه في دعواه بما يؤذي به المدعى عليه عزر لكذبه ولأذاه وأن طريقة القاضي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 رد هذه الدعوى على الروايتين، بخلاف ما إذا كانت ممكنة، ونص أحمد في رواية عبد الله فيما إذا علم بالعرف المطرد أنه لا حقيقة للدعوى لا يعذبه، وفيما لم يعرف واحد من الأمرين يعذبه، كما في رواية الأثرم، وهذا التفريق حسن. والحال الثاني: احتمال الأمرين، وأنه يحضره بلا خلاف. والحال الثالث: تهمته وهو قيام سبب يوهم أن الحق عنده، فإن الاتهام افتعال من الوهم، وحبسه هنا بمنزلة حبسه بعد إقامة البينة وقبل التعزير، أو بمنزلة حبسه بعد شهادة أحد الشاهدين، فأما امتحانه بالضرب كما يجوز ضربه لامتناعه من أداء الحق الواجب دينا أو عينا، ففي المسألة حديث النعمان بن بشير في سنن أبي داود لما قال: "إن شئتم ضربته فإن ظهر الحق عنده وإلا ضربتكم وقال: هذا قضاء الله ورسوله". وهذا يشبه تحليف المدعي إذا كان معه لوث، فإن اقتران اللوث بالدعوى جعل جانبه مرجحا فلا يستبعد أن يكون اقترانه بالتهمة يبيح مثل ذلك. والمقصود أنه إذا استحق التعزير وكان متهما بما يوجب حقا واحدا مثل أن يثبت عليه هتك الحرز ودخوله ولم يقر بأخذ المال وإخراجه ويثبت عليه المحاربة لخروجه بالسلاح وشهره له، ولم يثبت عليه القتل والأخذ، فهذا يعزر لما فعله من المعاصي، وهل يجوز أن يفعل ذلك، أيضا امتحانا لا غير، فيجمع بين المصلحتين؟ هذا قوي في حقوق الآدميين. فأما حدود الله تعالى عند الحاجة إلى إقامتها فيحتمل، ويقوى ذلك إذا أنكر الجميع ثم قامت البينة ببعض ما أنكر فإنه يصير لوثًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 ونظير ذلك أن يعاقب الإمام من استحق العقوبة بقتل وتوهم العامة بأنه عاقبه على بعض الذنوب التي يريد الحذر عنها، وهذا شبيه بما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - من أنه "إذا أراد غزوة ورى بغيرها". والذي لا ريب فيه: أن الحاكم إذا علم كتمانه الحق عاقبه حتى يقربه، كما يعاقب كاتم المال الواجب أداؤه، فأما إذا احتمل أن لا يكون كاتما فهذا كالمتهم سواء. وخبر من قال له جني بأن فلانا سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة. وإذا طلب المتهم بحق فمن عرف مكانه دل عليه. والقوادة التي تفسد النساء والرجال أقل ما يجب على الحاكم فيها الضرب البليغ وينبغي تشهيرها بذلك بحيث يستفيض هذا في النساء، والرجال وإذا أركبت دابة وضمت عليها ثيابها ونودي عليها هذا جزاء من يفعل كذا وكذا كان من أعظم ما يؤجر عليه، إذ هي بمنزلة عجوز السواء امرأة لوط وقد أهلكها الله تعالى مع قومها. ومن قال لمن لامه الناس: تقرءون تواريخ آدم؟ وظهر منه قصد معرفتهم بخطيئته عزر ولو كان صادقا، وكذا من يمسك الحية ويدخل النار ونحوه. وكذا من تنقص مسلمًا بأنه مسلماني مع حسن إسلامه. ومن غضب فقال: ما نحن مسلمون، إن أراد ذم نفسه لنقص دينه فلاحرج فيه ولا عقوبة. ومن قال لذمي: يا حاج، عزر لأن فيه تشبيه قاصد الكنائس بقاصد بيت الله، وفيه تعظيم ذلك فهو بمنزلة من يشبه أعياد الكفار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 بأعياد المسلمين وكذا يعزر من يسمي من زار القبور والمشاهد حاجا، إلا أن يسميه حاجا بقيد، كحجاج الكفار والضالين، ومن سمي زيارة ذلك حجا أو جعل له مناسك فإنه ضال مضل، ليس لأحد أن يفعل في ذلك ما هو من خصائص حج البيت العتيق. وإذا اشترى اليهودي نصرانيا فجعله يهوديًّا عزر على جعله يهوديا ولا يكون مسلما. ولا يجوز للجذمى مخالطة الناس عموما، ولا مخالطة أحد معين إلا بإذنه، وعلى ولاة الأمور منعهم من مخالطة الناس لهم، بل يكونون في مكان منفرد لهم، ونحو ذلك كما جاءت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه، وكما ذكره العلماء، وإذا امتنع ولي الأمر من ذلك أو امتنع المجذوم أثم بذلك. وإذا أصر على ترك الواجب مع علمه به فسق. ومن دعي عليه ظلما له أن يدعو على ظالمه بمثل ما دعا به عليه نحو: أخزاك الله، أو لعنك، أو شتمه بغير فرية نحو: يا كلب، يا خنزير فله أن يقول له مثل ذلك لقوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ *} [41/42] فعلم أنه لا سبيل إلا على الظالم للناس الباغي. وإذا كان له أن يستعين بالمخلوق من وكيل ووال وغيرهما فاستعانته بخالقه أولى بالجواز. ومن وجب عليه الحد بقتل أو غيره سقط عنه بالتوبة، وظاهر كلام أصحابنا لا يجب عليه التعزير، كقولهم: هو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 وذكر أبو العباس في موضع آخر: أن المرتد إذا قبلت توبته ساغ تعزيره بعد التوبة (1) . إذا كانت المعصية لا حد فيها ولا كفارة كما مثل المصنف (2) . وفعلها فإنه يعزر، وقد يفعل معصية لا كفارة فيها ولا حد ولا تعزير أيضا كما لو شتم نفسه أو سبها قاله القاضي، ومال الشيخ تقي الدين إلى وجوب التعزير، قال الزركشي، ولا يشرع التعزير فيما فيه حد إلا على ما قاله أبو العباس ابن تيمية في شارب الخمر، يعني في جواز قتله، وفيما إذا أتى حدا في الحرم فإن بعض الأصحاب قال: يغلظ، وهو نظير تغليظ الدية بالقتل في ذلك (3) . وقال المصنف والشارح وصاحب الفروع: ويحتمل كلام الإمام أحمد والخرقي ألا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا من جنسها، ويجوز أن يزيد على حد من غير جنسها، فعلى هذا ما كان سببه الوطء يجوز أن يجلد مائة إلا سوطا لينقص عن حد الزنا، وما كان سببه غير الوطء لم يبلغ به أدنى الحدود وإليه ميل الشيخ تقي الدين. وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله يعزر بما يردعه كعزل متول، وقال: لا يتقدر لكن ما فيه مقدر لا يبلغه فلا يقطع بسرقة دون نصاب ولا يحد حد الشرب بمضمضة خمر ونحوه، وقال: هو رواية عن الإمام أحمد، واختيار طائفة من أصحابه، وقد يقال بقتله للحاجة، وقال: يقتل مبتدع داعية، وذكره وجها لمالك رحمه الله ونقله إبراهيم   (1) اختيارات (300-306) فيها زيادات كثيرة وجامعة لما تفرق أو أكثره، وانظر الفروع (6/ 118-120) ، ف (2/ 371) ,. (2) كالاستمتاع الذي لا يوجب الحد، وإتيان المرأة المرأة وسرقة ما لا يوجب القطع والجناية على الناس بما لا قصاص فيه والقذف بغير الزنا ونحوه. (3) إنصاف (10/ 239) ، ف (2/ 371) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 ابن سعيد الأطرش عن الإمام أحمد رحمه الله في الدعاة من الجهمية (1) . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: في الخلوة بالأجنبية واتخاذ الطواف بالصخرة دينا، وفي قول الشيخ انذروا لي واستعينوا بي إن أصر ولم يتب قتل، وكذلك من تكرار منه شربه للخمر ما لم ينته بدونه للأخبار فيه (2) . باب القطع في السرقة ونصابها ثلاثة دراهم خالصة ومغشوشة. قاله شيخنا (3) . واللص الذي غرضه سرقة أموال الناس، ولا غرض له في شخص معين فإن قطع يده واجب، وله عفا عنه رب المال (4) . ولا يشترط في القطع في السرقة مطالبة المسروق منه بماله، وهي رواية عن أحمد اختارها أبو بكر ومذهب مالك، كإقرار بالزنا بأمة غيره (5) . ومن سرق ثمرًا أو كثرًا أو ماشية من غير حرز أضعفت عليه القيمة وهو مذهب أحمد، وكذا غيرها وهو رواية عنه (6) . وأما غير الشجر والنخل والماشية إذا سرقه من غير حرز فلا يضمن عوضها إلا مرة واحدة.   (1) إنصاف (10/ 249) فيه زيادة ف (2/ 371) . (2) إنصاف (10/ 248) ، ف (2/ 372) . (3) فروع (6/ 126) ، ف (2/ 372) وانظر (19/ 249) قوله من الكبار أو الصغار أو المختلطة. (4) اختيارات (296) ، ف (2/ 373) . (5) اختيارات (296) ، ف (2/ 373) . (6) فروع (6/ 123) واختيارات (296) ، ف (2/ 373) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 وعنه: أن ذلك كالثمر والماشية، اختاره أبو بكر، والشيخ تقي الدين (1) . وقال في الفروع: وقياس قول شيخنا، يعني به الشيخ تقي الدين: أن السارق كالشارب في الرابعة يقتل عنده إذا لم يتب بدونه (2) . واختار تعزير مدع سرقة ونحوها على من تعلم براءته. واختار أن خبر من له رائي جني بأن فلانا سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة كما تقدم (3) . باب حد قطاع الطريق وأجمع المسلمون على مقاتلة قطاع الطريق (4) . والمحاربون في المصر والصحراء حكمهم واحد، وهو قول مالك في المشهور عنه والشافعي وأكثر أصحابنا. قال القاضي: المذهب على ما قال أبو بكر في عدم التفرقة ولا نص في الخلاف، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء والخلاء، فالمباشرة في الخراب، وهو مذهب أحمد، وكذا في السرقة والمرأة التي تحضر النساء للقتل تقتل (5) . ويلزم الدفع عن مال الغير، وسواء كان المدفوع من أهل مكة أو غيرهم (6) .   (1) إنصاف (10/ 277) ، ف (2/ 374) . (2) إنصاف (10/ 386) ، ف (2/ 374) . (3) فروع (6/ 480) ، ف (2/ 374، 422) . (4) مختصر الفتاوى (470) ، ف (2/ 376) . (5) اختيارات (296) فيه زيادة ف (2/ 376) . (6) وانظر الإنصاف (10/ 306) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 وقال أبو العباس في جند قاتلوا عربا نهبوا أموال التجار ليردوها إليهم فهم يجاهدون في سبيل الله، ولا ضمان عليهم بقود ولا دية ولا كفارة (1) . باب الخلافة والملك نصب السلطان قد أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر فهو تنبيه على أنواع الاجتماع (2) . ومن أمر للرئاسة والمال لم يثب، ويأثم على فساد نيته كالمصلي رياء وسمعة (3) . وقال الشيخ تقي الدين: العدل تحصيل منفعته، ودفع مضرته، وعند الاجتماع يقدم أرجحهما لتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما. وقال في موضع آخر بعد أن ذكر ما رواه أحمد عن ميمون بن مهران، قال: ثلاثة لا تبلون نفسك بهم: لا تدخلن على ذي سلطان وإن قلت آمره بطاعة الله، ولا تخلون بامرأة وإن قلت: أعلمها كتاب الله، ولا تصغين بسمعك لذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه. قال الشيخ تقي الدين: فالاجتماع بالسلطان من جنس الإمارة والولاية، وفعل ذلك لأمره ونهيه بمنزلة الولاية بنية العدل وإقامة الحق.   (1) اختيارات ص (297) ، ف (2/ 376) وانظر ما إذا تعدى أهل مكة أو غيرهم على الركب الحجاج دفع الركب كما يدفع الصائل، أول كتاب الحج من هذا. (2) فروع (6/ 417) اختيارات (331) ، ف (2/ 376) . (3) فروع (6/ 417) واختيارات (297) ولفظها، ومن آمن إلخ، ف (2/ 376) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 واستماع كلام المبتدع للرد عليه من جنس الجهاد، وأما الخلوة بالمرأة الأجنبية فمحرم فهذا كله من جنس واحد، وهو دخول الإنسان بنفسه من غير حاجة فيما يوجب عليه أمورا أو يحرم عليه أمورا، لا سيما إن كانت تلك الأمور مما جرت العادة بترك واجبها وفعل محظورها، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدجال: "فلا يزال ما يراه من الشبهات حتى يفتنه ذلك". من هذا الباب ما يذكر عن طوائف من السلف من امتناعهم ومنعهم من استماع كلام المبتدعة خشية الفتنة عليهم، وعلى غيرهم وأما من نهى عن ذلك للهجر أو للعقوبة على فعله فذلك نوع آخر إلى أن قال: فهذه الأمور العدل فيه ألا يطلب العبد أن يبتلى بها، وإذا ابتلي بها فليتق الله وليصبر، والاستعداد لها أن تصيبه من غير طلب الابتلاء بها، فهذه المحن والفتن إذا لم يطلبها المرء ولم يتعرض لها بل ابتلي بها ابتداء أعانه الله تعالى عليها بحسب حال ذلك العبد عنده؛ لأنه لم يكن منه في طلبها فعل ولا قصد حتى يكون ذلك ذبنا يعاقب عليه، ولا كان منه كبر واختيال مثل دعوى قوة أو ظن كفاية بنفسه حتى يخذل بترك توكله ويوكل إلى نفسه، فإن العبد يؤتى من ترك ما أمر به. وسواء كان مراده بها محرما، أو مباحا، أو مستحبا. وإرادته بها المحرم زيادة ذنب. وإن أراد بها المستحب فقد فعل ما لم يؤمر به، وهذا مما يذم عليه، كما في صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، "ما بعث الله من نبي إلا كان له من أمته حواريون وأنصار يستنون بسنته ويهتدون بهديه، ثم إنه يخلف من بعده خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون". والتعرض للفتنة هو من باب الذنوب فالمؤمن الصادق لا يفعل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 إلا ما أمر به فإن ذلك هو عبادة، ولا يستعين إلا بالله، فإذا أوجب هو بنفسه أو حرم هو بنفسه خرج عن الأول، فإن وثق بنفسه خرج عن الثاني، فإذا أذنب بعد ذلك فقد يتوب بعد الذنب فيعينه حينئذ وقد يكون له حسنات راجحة يستحق بها الإعانة، وقد يتداركه الله برحمته فيسلم أو يخفف عليه، والتوبة بفعل المأمور وترك المحظور في كل حال بحسبه، ليست ترك ما دخل فيه، فإن ذلك قد لا يمكنه إلا بذنوب هي أعظم من ذنوبه مع مقامه، فتدبر هذا. والمبتلى من غير تعرض قد يفرط بترك المأمور وفعل المحظور حتى يخذل ولا يعان فيؤتى من ذنوبه، لا من نفس ما ابتلي به، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [155/3] ، وهذا كثير أكثر من الذي قبله، فأما المؤمنون الذين لم يكن منهم تفريط ولا عدوان فإذا ابتلوا أعينوا. قال: وقد تبين أن التعرض للفتن بالإيجاب والتحريم بالعهود والنذور وطلب الولاية وتمني لقاء العدو ونحو ذلك هو من الذنوب انتهى كلامه (1) . لا يعلم العدل والظلم إلا بالعلم، فصار الدين كله، العلم والعدل، وضد ذلك الظلم والجهل، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [72/33] وذلك يقع من الرعاة تارة، ومن الرعية تارة، ومن غيرهم تارة، فإن من العلم والعدل المأمور به الصبر على ظلم الأئمة وجورهم، وكما هو من أصول أهل السنة والجماعة، وكما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث المشهورة عنه، كما قال: "إنكم   (1) الآداب (3/ 479، 480) ، ف (2/ 376) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" وقال: "من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه" إلى أمثال ذلك، وقال: "أدوا لهم الذي لهم واسألوا الله الذي لكم" و"نهى عن قتالهم ما صلوا" وذلك لأن معهم أصل الدين المقصود وهو توحيد الله وعبادته، ومعهم حسنات وترك لسيئات كثيرة. وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال بما فيه ظلم وجور، كما هو عادة أكثر النفوس يزيل الشر بما هـ شر منه، ويزيل العدوان بما هو أعدى منه، فالخروج عليهم يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم فيصير عليه، كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور المنهي في مواضع كثيرة كقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [17/31] ، وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [35/46] وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [48/52] ، وهذا عام في ولاة الأمور وفي الرعية إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فعليهم أن يصبروا على ما أصيبوا به في ذات الله كما يصبر المجاهدون على ما يصاب من أنفسهم وأموالهم، فالصبر على الأذى في العرض أولى وأولى، وذلك لأن مصلحة الأمر والنهي لا تتم إلا بذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد يندرج في ذلك ولاة الأمور فإن عليهم من الصبر والحلم ما ليس على غيرهم، كما أن عليهم من الشجاعة والسماحة ما ليس على غيرهم؛ لأن مصلحة الإمارة لا تتم إلا بذلك، فكما وجب على الأئمة الصبر على أذى الرعية وظلمها إذا لم تتم المصلحة إلا بذلك أو كان تركه يفضي إلى فساد أكثر منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 وكذلك يجب على الرعية الصبر على جور الأئمة وظلمهم إذا كان في ترك الصبر مفسدة راجحة. فعلى كل من الراعي والرعية حقوقا للآخر، حقوقا عليه أداؤها كما ذكرت بعضه في كتاب الجهاد والقضاء، وعليه أن يصبر على الآخر ويحلم عنه في أمور، فلا بد من السماح والصبر في كل منهما، كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [17/90] وفي الحديث "أفضل الإيمان السماحة والصبر" وفي أسماء الله "الغفور، الرحيم" فبالحلم يعفو عن سيئاتهم، وبالسماحة يوصل إليهم المنافع، فيجمع بين جلب المنفعة ودفع المضرة، فأما الإمساك عن ظلمهم والعدل عليهم فوجوب ذاك أظهر من هذا، فلا حاجة إلى بيانه (1) . باب قتل أهل البغي وهم الخارجون على الإمام بتأويل سائغ (2) . قال شيخنا: عامة الفتن التي وقعت من أعظم أسبابها قلة الصبر؛ إذ الفتنة لها سببان: إما ضعف العلم، وإما ضعف الصبر، فإن الجهل والظلم أصل الشر، وفاعل الشر إنما يفعله لجهله بأنه شر، وتكون نفسه تريده فبالعلم يزول الجهل، وبالصبر يحبس الهوى والشهوة فتزول تلك الفتنة (3) .   (1) من مجموع (96) ص (114) وهي آخر فصل جامع قد كتبت فيما تقدم في مواضع مثل بعض القواعد وآخر مسودة الفقه إن جماع الحسنات العدل وجماع السئات الظلم إلخ، وقد طبعنا أولها إلى قوله وأصل ذلك العلم في المجلد الأول من المجموع ص (87) وتركنا آخرها لوجود أسطر غير مقروءة إذ ذاك، وقد يسير الله قراءتها وتتميما للفائدة نقلت بقية هذه القاعدة هنا لمناسبة آخرها لهذا الباب ف (2/ 381) . (2) فروع (6/ 152) ، ف (2/ 384) . (3) فروع (6/ 160) ، ف (2/ 385) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 والأفضل ترك قتال أهل البغي حتى يبدؤه (وم) . وله قتل أهل الخوارج ابتداء أو متممة تخريجهم. ومن استحل أذى من أمره ونهاه بتأويل فكالمبتدع ونحوه يسقط بتوبته حق الله تعالى وحق العبد، واحتج أبو العباس لذلك بما أتلفه البغاة، لأنه من الجهاد الذي يجب الأجر فيه على الله تعالى (1) . وذكر الشيخ تقي الدين: أن ابن عقيل وغيره فسقوا البغاة (2) . ... وقد ذكر ابن عبد البر في كتابه "بهجة المجالس" قال رجل لابن سيرين: إني وقعت فيك فاجعلني في حل، قال: لا أحب أن أحل لك ما حرم الله عليك، وقال شيخنا إن في الآية المذكورة {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [39/24] فائدة عظيمة وهو أن حمدهم على أنهم ينتصرون عند البغي عليهم، كما أنهم هم يعفون عند الغضب، ليسوا مثل الذي ليس له قوة الانتصار وفعله لعجزهم أو كسلهم أو وهنهم أو ذلهم أو حزنهم فإن أكثر من يترك الانتصار بالحق إنما يتركه لهذه الأمور وأشباهها، وليسوا مثل الذي إذا غضب لا يغفر ولا يعفو بل يتعدى أو ينتقم حتى يكف من خارج كما عليه أكثر الناس إذا غضبوا أو قدروا لا يقفون عند العدل، فضلا عن الإحسان. فحمدهم على أنهم هم ينتصرون وهم يعفون ولهذا قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا، إلى أن ذكر الروايتين في دفع الإنسان عن نفسه، ثم قال: ويشبه ألا يجب مفسدة تقاوم مفسدة الترك أو تفضي إلى فساد أكثر، وعلى هذا تخرج قصة ابن آدم وعثمان رضي الله عنه؛ بخلاف من لم يكن في دفعه إلا إتلاف مال الغير الظالم أو حبسه أو   (1) فروع (6/ 156) واختيارات (297) ، ف (2/ 385) . (2) إنصاف (10/ 319) ، ف (2/ 385) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 ضربه، فهنا الوجوب أوجه وهذا معنى قوله: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} فالانتصار قد يكون مستحبا تارة، وقد يكون واجبا أخرى، كالمغفرة سواء (1) . وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رئاسة فهما ظالمتان، وتضمن كل واحدة ما أتلفته على الأخرى. ولكن قال الشيخ تقي الدين: إن جهل قدر ما نهبته كل طائفة من الأخرى تساوتا، كمن جهل قدر المحرم من ماله أخرج نصفه والباقي له. وقال أيضا: أوجب الأصحاب على مجموع الطائفة وإن لم يعلم عين المتلف. وقال أيضا: وإن تقاتلا تقاصا، لأن المباشر والمعين سواء عند الجمهور (2) . باب حكم المرتد والمرتد: من أشرك بالله تعالى، أو كان مبغضا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به اتفاقا، أو ترك إنكار منكر بقلبه، أو توهم أن أحدا من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم قاتل مع الكفار، أو أجاز ذلك، أو أنكر مجموعا عليه إجماعا قطعيا، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم ومن شك في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمرتد وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد، ولهذا لم يكفر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الشاك في قدرة الله على إعادته، لأنه لا يكون إلا بعد الرسالة (3) .   (1) فروع (6/ 149، 150) ، ف (2/ 386) وف (1/ 327) . (2) إنصاف (10/ 325) مختصر وفيه زيادة ف (2/ 386) . (3) اختيارات (307) وفروع (6/ 165) وإنصاف (10/ 326) فيه زيادة ف (2/ 387) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 وساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقتل ولو أسلم (1) . قال الشيخ تقي الدين، التنجيم كالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية من السحر. قال: ويحرم إجماعا وأقر أولهم وآخرهم يعني المنجمين أن الله يدفع عن أهل العبادة، والدعاء ببركة ذلك (2) ما زعموا أن الأفلاك توجبه، وأن لهم من ثواب الدارين ما لا تقوى الأفلاك على أن تجلبه (3) . وليس كل من خالف ما علم بطريق العقل كان كافرًا، ولو قدر أنه جحد بعض صرائح العقل لم يحكم بكفره حتى يكون كفرا في الشريعة، بخلاف من خالف ما علم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء به فإنه كافر بلا نزاع، وذلك أنه ليس في الكتاب والسنة، ولا في قول أحد من الأئمة، الإخبار عن الله بأنه متحيز، أو ليس بمتحيز، ولا في الكتاب والسنة أن من قال هذا أو هذا يكفر، وهذا اللفظ مبتدع، والكفر لا يتعلق بمجرد أسماء مبتدعة لا أصل لها، بل يستفسر هذا القائل، فإن قال: أعني أنه منحاز عن المخلوقات مباين لها، فهذا حق، وكذلك قوله: ليس بمتحيز، إن أراد أن المخلوق لا يحوز الخالق فقد أصاب، وإن قال: الخالق لا يباين المخلوق، فقد أخطأ (4) . وقال الشيخ تقي الدين: نصوصه صريحة في عدم تكفير الخوارج والقدرية والمرجئة وغيرهم وإنما كفر الجهمية لا أعيانهم قال: وطائفة تحكي عنه روايتين في تكفير أهل البدع مطلقًا حتى المرجئة والشيعة   (1) اختيارات (320) ، ف (2/ 388) . (2) نسخ ببركته. (3) فروع (6/ 178) واختيارات (308) وإنصاف (10/ 351) ، ف (2/ 396) . (4) مختصر الفتاوى (320) ، ف (2/ 388) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 المفضلة لعلي، قال: ومذاهب الأئمة الإمام أحمد وغيره رحمهم الله مبنية على التفصيل بين النوع والعين (1) . قال شيخنا: قد بين الله تعالى: أنه يتوب على أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع (2) . ولا يضمن المرتد ما أتلفه بدار الحرب، أو في جماعة مرتدة ممتنعة وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال وصاحبه (3) . لو مات أبو الطفل أو الحمل أو المميز، أو مات أحدهما في دارنا فهو مسلم، وعنه لا يحكم بإسلامه، قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة، وهو قول الجمهور وربما أدعي فيه إجماع معلوم متيقن واختاره شيخنا (4) .   (1) إنصاف (10/ 345) ، ف (2/ 390، 183) . (2) فروع (6/ 170) إنصاف (10/ 327) ، ف (2/ 392) . (3) اختيارات (317) ، ف (2/ 394) . (4) إنصاف (10/ 345) ، ف (2/ 390، 183) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 كتاب الأطعمة والأصل فيها الحل لمسلم يعمل صالحًا، لأن الله تعالى إنما يبيح الطيبات لمن يستعين بها على طاعته لا على معصيته، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [93/5] الآية ولهذا لا يجوز أن يعان بالمباح على معصية، كمن يعطي اللحم والخبز لمن يشرب عليه الخمر، ويستعين به على الفواحش، ومن أكل من الطيبات، ولم يشكر فهو مذموم، قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ *} [8/102] أي عن الشكر عليه (1) . وأما الضبع فإنها مباحة في مذهب مالك والشافعي وأحمد، وحرام في مذهب أبي حنيفة، لأنها من ذوات الأنياب، والأولون استدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنها صيد وأمر بأكلها" رواه أهل السنن وصححه الترمذي. قالوا: ليس لها ناب، لأن أضراسها صفيحة لا ناب فيها (2) . وفي كلب الماء نزاع، الأولى تركه (3) . وسنور أهلي. قال أحمد: أليس مما يشبه السباع؟ قال شيخنا:   (1) اختيارات (321) ، ف (2/ 398) فيه زيادة. (2) مختصر الفتاوى (520) ، ف (2/ 399) . (3) مختصر الفتاوى (520) ، ف (2/ 399) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 ليس في كلامه هذا إلا الكراهة، وجعله أحمد قياسا، وأنه قد يقال: يعمها اللفظ (1) . وما يأكل الجيف يعني يحرم ونقل عبد الله وغيره: يكره وجعل فيه الشيخ تقي الدين روايتي الجلالة. وقال: عامة أجوبة الإمام أحمد رحمه الله ليس فيها تحريم، قال: وإذا كان ما يأكلها من الدواب السباع، ففيه نزاع أو لم يحرموه والخبر في الصحيحين (2) فمن الطير أولى (3) . وما يستخبث أي تستخبثه العرب، وقال الشيخ تقي الدين: وعند الإمام أحمد وقدماء أصحابه لا أثر لاستخباث العرب، وإن لم يحرمه الشرع حل (4) . وكره أحمد الخفاش، لأنه مسخ، قال شيخنا: هل هي للتحريم؟ فيه وجهان (5) . وأكل الشيطان لو تصور لكان أعظم المحرمات لما فيه من الخبث والبغي والعدوان، فمن قال: إن آدم سلقه وأكله فمن أقبح البهتان (6) . ومن اضطر إلى محرم حل منه ما يسد رمقه، يعني: ويجب عليه أكل ذلك على الصحيح من المذهب نص عليه، وذكره الشيخ تقي الدين وفاقا (7) .   (1) فروع (6/ 295) ، ف (2/ 399) وإنصاف (10/ 355) . (2) يعني حديث كل ذي ناب من السباع. (3) إنصاف (10/ 355) ، ف (2/ 399) . (4) إنصاف (10/ 357) ، ف (2/ 399) . (5) فروع (6/ 296) ، ف (2/ 399) . (6) مختصر الفتاوى (177) ، ف (2/ 399) . (7) إنصاف (10/ 370) ، ف (2/ 399) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 يجب تقديم السؤال على أكل المحرم على الصحيح من المذهب، وقال الشيخ تقي الدين: إنه يجب ولا يأثم، وأنه ظاهر المذهب (1) . والمضطر إلى طعام الغير إن كان فقيرا فلا يلزمه عوض، إذ إطعام الجائع وكسوة العاري فرض كفاية، ويصيران فرض عين على المعين إذا لم يقم به غيره. وإن لم يكن بيده إلا مال لغيره، كوقف ومال يتيم ووصية ونحو ذلك، فهل يجب أو يجوز صرفه في ذلك؟ أو يفرق بين ما يكون من جنس الجهة فيصرف وبين ما يكون من غير جنسها فلا يصرف؟ تردد نظر أبي العباس في ذلك كله. وإن كان غنيا لزمه العوض، إذ الواجب معاوضته. وإذا وجد المضطر طعاما لا يعرف مالكه وميتة فإنه يأكل الميتة إذا لم يعرف مالك الطعام وأمكن رده إليه بعينه، أما إذا تعذر رده إلى مالكه، بحيث يجب أن يصرف إلى الفقراء كالمغصوب والأمانات التي لا يعرف مالكها فإنه يقدم ذلك على الميتة. وإذا كانت الحاجة إلى عين قد بيعت ولم يتمكن المشتري من قبضها، فينبغي أن يخير المشتري بين الإمضاء والفسخ كما لو غصبها غاصب، لأنها في كلا الموضعين أخذت بغير اختياره على وجه يتمكن من أخذ عوضها، إلا أن الأخذ كان في أحد الموضعين بحق، وفي الآخر بباطل، وهذا إنما تأثيره في الأخذ لا في المأخوذ منه؛ لكن يحتاج إلى الفرق بين ذلك وبين استحقاق أخذ الشقص بالشفعة. فيقال: الفرق بينهما أن المشتري هناك يعلم أن الشريك يستحق الانتزاع، فقد رضي بهذا الاستحقاق، بخلاف المشتري لقفيز من صبرة.   (1) إنصاف (10/ 371) ، ف (2/ 399) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 لغير اضطرار ثم يحدث اضطراره إليها، ولو كانت الضرورة إلى منافع مؤجرة مثل ظهر دابة وسكن دار أو نحو ذلك مما يحتاج إليه المؤجر أو المستأجر، فإن قلنا بوجوب القيمة فهي كالأعيان، وإن قلنا تؤخذ مجانا فإنها تكون من ضمان المؤجر لا المستأجر، لأنه لما استحق أخذها بغير عوض كان ذلك بمنزلة تلفها بأمر سماوي، ولو تلفت بأمر سماوي كانت من ضمان المؤجر، وحيث أوجبنا الضمان فالواجب المعروف عادة كالزوجية والقريب الرقيق (1) . والضيافة كفايته، وأدم، وفي الواضح، ولفرسه لا شعير، ويتوجه فيه وجه: كأدمه، وأوجب شيخنا المعروف عادة قال: كزوجة وقريب ورقيق (2) . قال الشيخ عبد القادر والشيخ تقي الدين أيضا: يأكل الضيف على ملك صاحب الطعام على وجه الإباحة وليس ذلك بتمليك اهـ (3) . وما نقل عن الإمام أحمد: أنه امتنع من البطيخ لعدم علمه بكيفية أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - كذب ذكره شيخنا (4) . ويكره ذبح الفرس الذي ينتفع به في الجهاد بلا نزاع (5) . باب الذكاة وأما من أحد أبويه غير كتابي فظاهر كلام المصنف أنه قدم إباحة ذبحه، وهو إحدى الروايتين.   (1) اختيارات (323) ، ف (2/ 400) . (2) فروع (6/ 308) ، ف (2/ 400) . (3) إنصاف (8/ 340) وتقدم في باب آداب الأكل ف (2/ 400) (4) فروع (6/ 308) وإنصاف (10/ 383) وتقدم، ف (2/ 400) . (5) اختيارات (323) ، ف (2/ 400) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب وقدمه الناظم، كالمصنف، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم رحمهما الله تعالى (1) . ويكره نكاح الحرائر الكتابيات مع وجود الحرائر المسلمات، قاله القاضي وأكثر العلماء. كما يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين، مع كثرة ذباحين مسلمين، ولكن لا يحرم (2) . ويحرم ما ذبحه الكتابي لعيده أو ليتقرب به إلى شيء يعظمه، وهو رواية عن أحمد (3) . وإذا لم يقصد المذكي الأكل بل قصد مجرد حل يمينه لم تبح الذبيحة (4) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" ففي هذا دليل على أن الإحسان واجب على كل حال حتى حال إزهاق النفس: ناطقها وبهيمها فعلى الإنسان أن يحسن القتلة للآدميين، والذبحة للبهائم (5) . فيما يشترط قطعه من الحيوان عند الذبح أقوال: أحدها: أن الواجب قطع الحلقوم والمريء خاصة، كقول الشافعي، ورواية عن أحمد. وعلى هذا لو قطع الودجين والمريء لكان أولى بالإباحة من قطع الودجين، بل قطع أحد الودجين والحلقوم أولى بالإباحة من قطع الحلقوم والمريء.   (1) إنصاف (10/ 387) ، ف (2/ 400، 401) . (2) فروع (5/ 207) واختيارات (217) ، ف (2/ 400،/ 401) . (3) اختيارات (324) فروع (6/ 319) ، ف (2/ 401) . (4) إنصاف (10/ 386) ، ف (2/ 402) . (5) فروع (6/ 318) اختيارات (324) ، ف (2/ 402) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 والقول الثاني: أن الواجب قطع الأربعة، كالرواية الأخرى عن أحمد، ويروى عن مالك. والثالث: أن الواجب قطع ثلاثة، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، ومالك فيما نقله أصحابه، وهو قول في مذهب أحمد؛ لكن مالك يعتبر قطع الحلقوم والودجين دون المريء. وأبو حنيفة مع صاحبه مع قولين: أحدهما: يعتبر قطع ثلاثة من الأربعة سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن، وهو القول المشهور في مذهب أحمد، فإذا قطع ودجيه وبلعومه جرح أو لم يقطع الحلقوم، يجيء فيه نزاع على ما تقدم، والأظهر حله (1) . ويقطع الحلقوم والمريء والودجان والأقوى إن قطع ثلاثة من الأربع يبيح سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن فإن قطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم، وأبلغ في إنهار الدم (2) . باب الصيد والصيد للحاجة فإنه جائز. وأما الصيد الذي هو للهو واللعب فمكروه، فإن كان فيه تعد على زرع الناس، وأموالهم فهو حرام (3) . وقد روي عن عثمان رضي الله عنه: أنه نهى عن الرمي بالجلاهق، وهي البندق.   (1) مختصر الفتاوى (519) ، ف (2/ 402) . (2) إنصاف (10/ 386) واختيارات (323) وفروع (6/ 310، 313) وفيه توضيح أكثر واختصار عما في المختصر ف (2/402) . (3) مختصر الفتاوى (520) واختيارات (323) ، ف (2/، 402) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 والمقتول بالبندق حرام باتفاق المسلمين، وأن أدرك حيا وذكى فحلال (1) . وإذا جرح الصيد فغاب وليس فيه إلا سهمه فإنه يحل له على الصحيح من أقوالهم وبه أفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سأله عدي بن حاتم: "إن نرمي الصيد فنقتفي أثره اليومين والثلاثة، ثم نجده ميتا وفيه سهمه؟ فقال: إن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل" وفي حديث أبي ثعلبة الخشني: "إذا رميت بسهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكل ما لم ينتن" فهذان الحديثان الصحيحان، الأول في البخاري والثاني في مسلم عليهما اعتمد العلماء، فإن كلاهما أفتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أفتى بغير ذلك فلم يبلغه الحديث، وأما إذا أنتن فيكره أكله (2) . والتحقيق أن المرجع في تعليم الفهد إلى أهل الخبرة، فإن قالوا: إنه من جنس تعليم الصقر بالأكل ألحق به، وإن قالوا: إنه تعلم بترك الأكل كالكلب ألحق به. وإذا أكل الكلب بعد تعلمه لم يحرم ما تقدم من صيده، ولم يبح ما أكل منه (3) . وما أكل منه الكلب لا يؤكل في أصح قولي العلماء، ولا يحرم على ما تقدم في أصح قولي العلماء أيضًا (4) .   (1) مختصر الفتاوى (520) ، ف (2/ 402) أما بندق الرصاص هذه فليس هي المقصودة بالجلاهق. (2) مختصر الفتاوى (519، 520) ، ف (2/ 402) . (3) اختيارات (323) ، ف (2/ 402) . (4) مختصر الفتاوى (520) ، ف (2/ 402) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 كتاب الأيمان قال شيخنا: الأحكام تتعلق بما أراده الناس بالألفاظ الملحونة، كقوله: حلفت بالله رفعا ونصبا، والله باصوم، أو باصلي ونحوه، وكقول الكافر: أشهد أن محمدا رسول الله برفع الأول ونصب الثاني، وأوصيت لزيدٍ بمائة وأعتقت سالم، ونحو ذلك، وأن من رام جعل الناس كلهم في لفظ واحد بحسب عادة قوم بعينهم فقد رام ما لا يمكن عقلا ولا يصلح شرعا (1) . الحالف لا بد له من شيئين: من كراهة الشرط وكراهة الجزاء عند الشرط، ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفا، سواء كان قصده الحظ والمنع، أو لم يكن (2) . قال أصحابنا: فإن حلف باسم من أسماء الله تعالى التي قد يسمى بها غيره وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى فهو يمين إن نوى به الله أو أطلق، وإن نوى غيره فليس بيمين. قال أبو العباس: هذا من التأويل: لأنه نوى خلاف الظاهر، فإذا كان ظالما لم تنفعه وتنفع المظلوم. وفي غيرهما وجهان: إذ الكلام المحلوف به كالمحلوف عليه.   (1) فروع (6/ 338) والإنصاف (11/ 12) ، ف (2/ 403) . (2) اختيارات (325) ، ف (2/ 403) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 وأظن أن كلام أحمد في المحلوف به أيضا (1) . قال في المحرر: فإن قال: اسم الله مرفوعا، مع الواو أو عدمه أو منصوبا مع الواو، ويعني في القسم باسم، فهو يمين، إلا أن يكون من أهل العربية ولا يريد اليمين. قال أبو العباس: يتوجه فيمن يعرف العربية إذا أطلق وجهان، كما جاء في الحاسب والنحوي في الطلاق، كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة في اثنين. ويتوجه أن هذا يمين بكل حال، لأن ربطه جملة القسم بالقسم يوجب في اللغة أن يكون يمينا، لأنه لحن لحنا لا يحيل المعنى: بخلاف مسألة الطلاق (2) . ويحرم الحلف بغير الله تعالى، وهو ظاهر المذهب، وعن ابن مسعود وغيره، لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا، قال أبو العباس: لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك (3) . ولو حلف لا يغدر فغدر، كفر للقسم لا لغدره مع أن الكفارة لا ترفع إثمه (4) . واختلف كلام أبي العباس في الحلف بالطلاق، فاختار في موضع التحريم وتعزيره وهو قول مالك ووجه لنا، واختار في موضع آخر، أنه لا يكره وأنه قول غير واحد من أصحابنا، لأنه لم يحلف بمخلوق، ولم يلتزم لغير الله شيئا، وإنما التزم لله كما يلتزم بالنذر، والالتزام لله.   (1) اختيارات (325) ، ف (2/ 404) . (2) اختيارات (326) ، ف (2/ 404) . (3) فروع (6/ 430) واختيارات (327) ، ف (2/ 404) . (4) اختيارات (328) ، ف (2/ 404) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 أبلغ من الالتزام به، بدليل النذر له، واليمين به، ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك كما أنكروا على من حلف بالكعبة (1) . ولو قال: علي لأفعلن، فيمين، لأن هذه لام القسم، فلا تذكر إلا معه مظهرا أو مقدرا (2) . قال في المحرر: وإن عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافة فهو كمن حلف على عدم فعل شيء في المستقبل ففعله ناسيا، قال أبو العباس: وهذا ذهول، لأن أبا حنيفة ومالكا يحنثان الناسي ولا يحنثان هذا، لأن تلك اليمين انعقدت بلا شك، وهذه لم تنعقد، ولم يقل أحد: إن اليمين على شيء تغيره عن صفته بحيث توجب إيجابا أو تحرم حريما لا ترفعه الكفارة (3) . ولو حلف ليتزوجن على امرأته، المنصوص عن أحمد: لا يبر حتى يتزوج ويدخل بها ولا يشترط مما ثلتها (4) . واختار شيخنا فيمن حلف بعتق أو طلاق وحنث يخير بين أن يوقعه أو يكفر كحلفه بالله ليوقعنه، وذكر أن الطلاق يلزمني ونحوه، حلف باتفاق العقلاء والأمم والفقهاء، وخرجه على نصوص لأحمد (5) . قال في المحرر: وإن قال: أيمان البيعة لازمة لي، أو لم تلزم لي إن فعلت كذا، فهذه يمين رتبها الحجاج الثقفي تتضمن اليمين بالله تعالى وبالطلاق وبالعتاق وصدقة المال، فإن عرفها الحالف ونواها انعقدت يمينه بما فيها وإلا فلا.   (1) فروع (6/ 340) وإنصاف (11/ 15) واختيارات (327) ، ف (2/ 405) . (2) فروع (6/ 339) واختيارات (327) ، ف (2/ 404) . (3) اختيارات (327) ، ف (2/ 404) . (4) اختيارات (328) ، ف (2/ 405) . (5) فروع (6/ 340، 341) ، ف (2/ 404) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 وقيل: تنعقد إذا نواها ولم يعرفها. وقيل: لا تنعقد الأيمان بالله إلا بشرط النية. قال أبو العباس: قياس أيمان المسلمين تلزمني: أنه إذا عرف أيمان البيعة انعقدت بلا نية، ويتوجه أيضا أنها تلزمه بكل حال وإن لم يعرفها وهو مقتضى قول الخرقي وابن بطة. ثم قال صاحب المحرر: ولو قال: أيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا لزمه يمين الظهار والطلاق والعتاق، والنذر واليمين بالله، نوى ذلك أو لم ينو ذكره القاضي. وقيل: لا يتناول اليمين بالله تعالى، قال أبو العباس: قياس أيمان البيعة تلزمني ألا تنعقد أيمان المسلمين تلزمني إلا بالنية، وجمع المسلمين كما ذكر صاحب المحرر كأنه من طريقين (1) . وأيمان المسلمين: يلزمه عتق وطلاق وظهار ويمين بالله بنية ذلك، ففي اليمين بالله وجهان، ويتوجه في جاهل ما تقدم، وألزم القاضي الحالف بالكل ولو لم ينو، ومن حلف بأحدها فقال آخر يميني في يمينك أو عليها أو مثلها ينوي التزام مثلها لزمه، نص عليه في طلاق، وفي المكفرة الوجهان، قال شيخنا: وكذا أنا معك ينوي في يمينه (2) . ولو قال: أنا بريء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كلمته، فحنث، فعليه كفارة يمين (3) . ولا يلزمه إبرار قسم في الأصح، كإجابة سؤال بالله، وقال شيخنا: إنما يجب على معين، فلا تجب إجابة سائل يقسم على الناس (4) .   (1) اختيارات (326) فيه زيادات ف (2/ 406) . (2) مختصر الفتاوى (377) ، ف (2/ 406) . (3) فروع (6/ 341) ، ف (2/ 406) . (4) فروع (6/ 342) ، ف (2/ 406) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 ولا يجوز التعريض لغير ظالم، وهو قول بعض العلماء، كما لظالم بلا حاجة، ولأنه تدليس كالتدليس في المبيع، وقد كره أحمد التدليس، وقال: لا يعجبني ونصه: لا يجوز التعريض مع اليمين (1) . شمل قوله: (وإن لم يكن ظالما فله تأويله) أنه لو لم يكن ظالما ولا مظلوما ينفعه تأويله. وقيل: لا ينفعه تأويله والحالة هذه حكاه الشيخ تقي الدين وقال: ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله المنع من اليمين به (2) . ومن كرر أيمانا قبل التكفير فروايات ثالثها وهو الصحيح إن كانت على فعل فكفارة وإلا فكفارتان، ومثل ذلك الحلف بنذور مكفرة وطلاق مكفر (3) . ... وجه تكفير العبد بالمال مع القول بانتفاء ملكه له مأخذان أحدهما: أن تكفيره بالمال إنما هو تبرع له من السيد وإباحة.. والثاني: أن العبد ثبت له ملك قاصر بحسب حاجته إليه، وإن لم يثبت له الملك المطلق التام، فيجوز أن يثبت له في المال المكفر به ملك يبيح له التكفير بالمال دون بيعه وهبته، كما أثبتنا له في الأمة ملكا قاصرا أبيح له به التسري بها دون بيعها وهبتها، وهذا اختيارا الشيخ تقي الدين (4) . باب النذور النذر مكروه، وقال الناظم: ليس بسنة ولا محرم، وتوقف الشيخ   (1) اختيارات (328) ، ف (2/ 406) . (2) إنصاف (9/ 120) ، ف (2/ 406) . (3) اختيارات (328) ، ف (2/ 407) . (4) إنصاف (11/ 47) ، ف (2/ 407) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 تقي الدين في تحريمه (1) . توقف أبو العباس في تحريمه: وحرمه طائفة من أهل الحديث (2) . والعهود والعقود متقاربة المعنى أو متفقة، فإذا قال: أعاهد الله أني أحج العام، فهو نذر وعهد ويمين. وإن قال: لا أكلم زيدا فيمين وعهد، لا نذر، فالأيمان إن تضمنت معنى النذر وهو أن يلتزم لله قربة لزمه الوفاء بها، فهي عقد وعهد ومعاهدة لله، لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه، وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس وهو أن يلتزم كل من المتعاقدين للآخر ما اتفقا عليه فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها إن كان العقد لازما، وإن لم يكن لازما خير، وهذه أيمان بنص القرآن ولم يعرض لها ما يحل عقدتها إجماعا (3) . ومن نذر صوم الدهر أو صوم يوم الخميس والاثنين فله صوم يوم وإفطار يوم كالمكان (4) . وأما صوم رجب وشعبان: ففيه نزاع في مذهب أحمد وغيره، قيل: هو مشروع فيجب الوفاء به، وقيل: بل يكره فيفطر بعض رجب (5) . قال: ونذره لغير الله تعالى كنذره لشخص معين حي للاستعانة وقضاء الحاجة منه كحلفه بغيره، وقال غيره: هو نذر معصية وقاله شيخنا أيضا (6) .   (1) إنصاف (11/ 117) ، ف (2/ 407) . (2) اختيارات (328) ، ف (2/ 407) . (3) اختيارات (327، 328) ، ف (2/ 408) . (4) فروع (6/ 408) واختيارات (329) ، ف (2/ 409) . (5) مختصر الفتاوى (552) ، ف (2/ 408) . (6) فروع (6/ 404) ، ف (2/ 409) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 ومن أسرج بئرا أو مقبرة أو جبلا أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو العاكفين عند ذلك المكان لم يجز، ولا يجوز الوفاء به إجماعا، ويصرف في المصالح ما لم يعلم ربه، ومن الجائز صرفه في نظيره من المشروع، وفي لزوم الكفارة خلاف. ومن نذر قنديلا يوقد للنبي - صلى الله عليه وسلم - صرفت قيمته لجيرانه الساكنين بمدينته عليه الصلاة والسلام وهو أفضل من الختمة (1) . ولو قال: إن فعلت كذا فعلي ذبح ولدي أو معصية غير ذلك أو نحوه وقصد اليمين فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشا، ولو فعل المعصية لم تسقط عنه الكفارة ولو في اليمين (2) . قوله: إلا إذا نذر ذبح ولده، ففيه روايتان، وعنه إن قال: إن فعلته فعلي كذا أو نحوه قصد اليمين فيمين وإلا فنذر معصية فيذبح في مسألة الذبح كبشا اختاره الشيخ تقي الدين، قال: وعليه أكثر نصوصه قال: وهو مبني على الفرق بين النذر واليمين، قال: ولو نذر طاعة حالفا بها أجزأ كفارة يمين بلا خلاف عن الإمام أحمد، فكيف لا يجزئه إذا نذر معصية حالفا بها (3) . قال أصحابنا: إذا نذر صوم يوم يقدم فلان، فقدم ليلة لم يلزمه شيء، قال أبو العباس: ولو قيل: يلزمه كفارة يمين كما لو نذر صوم الليل وأيام الحيض أو القضاء مع ذلك أو بدونه لتوجه (4) . ولو نذر الصلاة في وقت النهي أو صوم أيام التشريق لم يجز، وإن كان يفعل فيها الوجه الشرعي، بل الواجب عليه فعل الصلاة في   (1) فروع (6/ 401) واختيارات (329) وتقدم بعضه ف (2/ 409) . (2) اختيارات (331) ، ف (2/ 409) . (3) إنصاف (11/ 121) وفروع (6/ 403) ، ف (2/ 409) . (4) اختيارات (330) ، ف (2/ 409) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 وقتها وفعل الصوم في أيام العشر، فإن لم يفعل قضاه على سبيل البدل للضرورة، وما وجب للضرورة لا يجوز أن يجب مثله بالنذر (1) . ولو نذر الصلاة في وقت النهي ففي صحتها لكونه يفعل فيهما الوجهان، في مذهب الشافعي وأحمد، والصواب أنه لا يصح (2) . وأما إن نذر للمسلمين ولم يعرف صاحبه فإنه يصرف في مصالح المسلمين (3) . ومن نذر أن يهب فلانا شيئا لم يحصل الوفاء إلا بقبض الهبة، فإن قبلها فلا كلام، وإن لم يقبلها فلا شيء على الواهب، كما لو حلف ليهبن فلانا فلم يقبل، فإن أصحابنا وغيرهم قالوا: إذا حلف لا يهب ولا يتصدق ففعل ولم يقبل الموهوب له لم يحنث، فهذا في النفي، وأما في الإثبات فإذا حلف لا يهب، فإما أن يجري مجرى الإثبات، أو يقال: يحمل على الإجمال، كما يفرق في لفظ النكاح وغيره بين النفي والإثبات، وقد قالوا في الطلاق، إذا وهب امرأته أهلها فلم يقبلوها لم يقع شيء، وفيه نظر، وكما لو نذر عتق عبد معين فمات؛ لأن مستحق النذر إذا كان ميتا لم يستحقه غيره (4) . ومن نذر صوما معينا فله الانتقال إلى زمن أفضل منه (5) . واستحب أحمد لمن نذر الحج مفردا أو قارنا أن يتمتع لأنه أفضل، لأمر النبي أصحابه بذلك في حجة الوداع (6) .   (1) اختيارات (230) ، ف (2/ 409) . (2) مختصر الفتاوى (288) ، ف (2/ 409) . (3) مختصر الفتاوى (552) ، ف (2/ 409) . (4) مختصر الفتاوى (552) ، ف (2/ 409) . (5) اختيارات (329) ، ف (2/ 410) . (6) اختيارات (330) ، ف (2/ 410) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 ومن نذر صوما مشروعا وعجز لكبر أو مرض لا يرجى برؤه كان له أن يفطر ويكفر كفارة يمين، أو يطعم عن كل يوم مسكينا، أو يجمع بين الأمرين على ثلاثة أقوال لأحمد وغيره، أحوطها الثالث. وإن كان عجزه لمرض يجرى برؤه فإنه يفطر ويقضي بدل ما أفطر، وهل عليه كفارة يمين؟ فيه نزاع لأحمد وغيره، وإن كان يمكنه الصوم لكن يضعفه عن واجب مثل الكسب الواجب فله أن يفطر، ثم إذا أمكنه القضاء قضى وإلا فهو كالشيخ الكبير (1) . ومن نذر صوم يوم معين أبدا ثم جهله، أفتى بعض العلماء بصيام الأسبوع. قال أبو العباس: بل يصوم يوما من الأيام مطلقا أي يوم كان، وهل عليه كفارة يمين لفوات التعيين؟ يخرج على روايتين بخلاف الصلوات الخمس فإنها لا تجزئ إلا بتعيين النية على المشهور، والتعيين يسقط بالعذر إلى كفارة أو على غير كفارة، كالتعيين في رمضان، والواجبات غير الصلوات أيضا (2) . قال في المحرر: ومن نذر صوم سنة بعينها لم يتناول شهر رمضان ولا أيام النهي عن صوم الفرض فيها، وعنه: يتناولها فيقضيها وفي الكفارة وجهان، وعنه: يتناول أيام النهي دون أيام رمضان، قال أبو العباس: الصواب أنه يتناول رمضان ولا قضاء عليه إذا صامها لأنه نذر صوما واجبا وغير واجب، بخلاف أيام النهي، وهذا القول غير الثلاثة المذكورة، وإنما تجيء الرواية الثالثة على قول من لا يصحح نذر الواجب استغناء بإيجاب الشارع، وأما قضاؤها مع صومها فبعيد، لأن النذر لم يقتض صوما آخر كمسألة قدوم زيد (3) .   (1) مختصر الفتاوى (288) ، ف (2/ 410) . (2) اختيارات (310) ، ف (2/ 410) . (3) اختيارات (310) ، ف (2/ 410) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 وقول القائل: لئن ابتلاني الله لأصبرن، ولئن لقيت عدوا لأجاهدن، ولو علمت أعمل أحب إلى الله لعملته، فهو نذر معلق بشرط كقول الله تعالى: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [75/9] الآية (1) . ولو نذر الطواف على أربع: طاف طوافين وهو المنصوص عن أحمد، ونقل عن ابن عباس (2) قال شيخنا: هذا بدل واجب (3) . قال أصحابنا: ومن نذر المشي إلى بيت الله تعالى أو موضع من الحرم لزمه أن يمشي في حج وعمرة، فإن ترك المشي وركب لعذر أو غيره يلزمه كفارة يمين، وعنه: دم قال أبو العباس: أما لغير عذر فالمتوجه لزوم الإعادة كما لو قطع التتابع في الصوم المشروط فيه التتابع أو يتخرج لزوم الكفارة، والأقوى في جميع ما تقدم أنه لا يلزمه مع البدل عن عين الفعل كفارة، لأن البدل قائم مقام المبدل (4) . ومن نذر من يستحب له الصدقة بماله بقصد القربة نص عليه أجزأه ثلثه، وعنه كله. قال في الروضة: ليس لنا في نذر الطاعة ما يفي ببعضه إلا هذا الموضع، وعلله غير واحد بأنه تكره الصدقة بكله، واحتجوا للثانية بالخبر: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" وعنه يشمل النقد فقط، ويتوجه على اختيار شيخنا كل بحسب عزمه، ونص عليه أحمد (5) . فنقل الأثرم فيمن نذر ماله في المساكين أيكون الثلث من   (1) اختيارات (329) ، ف (2/ 410) . (2) اختيارات (331) ، ف (2/ 410) . (3) الفروع (6/ 414) ، ف (2/ 410) . (4) اختيارات (331) ، ف (2/ 410) . (5) فروع (6/ 398) ، ف (2/ 410) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 الصامت أو من جميع ما يملك؟ قال: إنما يكون هذا على قدر ما نوى، أو على قدر مخرج يمينه، والأمور تختلف عندي (1) . والصواب على أصلنا أن يقال مثل هذا في جميع العبادات والكفارات بل وسائر الواجبات التي هي من جنس الجائز: أنه يجوز تقديمها إذا وجد سبب الوجوب ولا يتقدم على سببه. فعلى هذا إذا قال: إن شفى الله مريضي فله علي صوم شهر، فله تعجيل الصوم قبل الشفاء لوجود النذر (2) . ويلزم الوفاء بالوعد، وهو وجه في مذهب أحمد، ويخرج رواية عنه من تعجيل العارية والصلح على عوض المتلف بمؤجل (3) . وإن نذر أن يهب بر بالإيجاب ليمينه، وقد يحمل على الكمال (4) .   (1) إنصاف (11/ 127، 128) ، ف (2/ 410) . (2) اختيارات (329) ، ف (2/ 410) . (3) فروع (6/ 415) ، ف (2/ 410) . (4) اختيارات (331) ، ف (2/ 410) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 الإفتاء (1) قال ابن القيم رحمه الله: حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: "يا معلم إبراهيم علمني" ويكثر الاستعانة بذلك اقتداء بمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته وقد رآه يبكي، فقال: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما. اطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعجز، فعليك بمعلم إبراهيم (2) . قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا رحمه الله يقول: جاءني بعض الفقهاء من الحنيفة فقال: أستشيرك في أمرك، قلت: ما هو؟ قال:   (1) وتقدم في المجلد الثاني من أصول الفقهاء كثير مما يتعلق بالإفتاء والمستفتين فلينظر هذا ويرجع إلى هذا فهو مستوفى هناك. (2) إعلام الموقعين (4/257) ، ف (2/ 410) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 أريد أن انتقل عن مذهبي، قلت له: ولم؟ قال: لأني أرى الأحاديث الصحيحة كثيرا تخالفه، واستشرت في هذا بعض أئمة أصحاب الشافعي، فقال لي: لو رجعت عن مذهبك لم يرتفع ذلك من المذهب، ورجوعك غير مفيد، وأشار علي بعض أصحاب التصوف بالافتقار إلى الله والتضرع إليه، وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه فماذا تشير به أنت علي؟ قال: فقلت له: اجعل المذهب ثلاثة أقسام: قسم الحق فيه ظاهر بين موافق للكتاب والسنة فاقض به، وافت به طيب النفس، منشرح الصدر وقسم مرجوح ومخالفه مع الدليل، فلا تفت به، ولا تحكم به، وادفعه عنك، وقسم من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فإن شئت أن تفتي به، وإن شئت أن تدفعه عنك، فقال: جزاك الله خيرا، أو كما قال (1) . قال ابن القيم رحمه الله في دلالة العالم للمستفتي على غيره: وهو موضع خطر جدا، فلينظر الرجل ما يحدث من ذلك فإنه متسبب بدلالته إما إلى الكذب على الله ورسوله في أحكامه، أو القول عليه بغير علم فهو معين على الإثم والعدوان، وإما معين على البر والتقوى، فلينظر الإنسان إلى من يدل عليه وليتق الله ربه. فكان شيخنا قدس الله روحه شديد التجنب لذلك، ودللت مرة بحضرته على مفت أو مذهب فانتهزني وقال: ما لك وله؟ دعه، ففهمت من كلامه أنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم ولمن أفتاه (2) . وسمعت شيخنا رحمه الله تعالى يقول: حضرت عقد مجلس عند نائب السلطان في وقف أفتى فيه قاضي البلد بجوابين مختلفين فقرأ   (1) إعلام الموقعين (4/ 236) ، ف (2/ 410) . (2) إعلام الموقعين (4/ 207) ، ف (2/ 410) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 جوابه الموافق للحق، فأخرج بعض الحاضرين جوابه الأول، وقال: هذا جوابك بضد هذا، فكيف تكتب جوابين متناقضين في واقعة واحدة؟ فوجم الحاكم، فقلت: هذا من علمه ودينه أفتى أولاً بشيء ثم تبين له الصواب فرجع إليه، كما يفتي إمامه بقول ثم يتبين له خلافه فيرجع إليه، ولا يقدح ذلك في علمه ولا دينه، وكذلك سائر الأئمة، فسر القاضي بذلك وسري عنه (1) . وقال شيخنا مرة: أنا مخير بين إفتاء هؤلاء وتركهم، فإنهم لا يستفتون للدين بل لوصولهم إلى أغراضهم حيث كانت، ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا إلي، بخلاف من سأل عن دينه، وقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في حق من جاءه يتحاكم إليه لأجل غرضه لا لالتزامه لدينه - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [42/5] فهؤلاء لما لم يلتزموا لدينه لم يلزمه الحكم بينهم والله تعالى أعلم (2) . وسمعت شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسا فيه القضاة وغيرهم فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر. فقلت له: ما هذه الحكومة؟ قال: هذا حكم الله فقلت له: صار قول زفر هو حكم الله الذي حكم به وألزم به الأمة قل: هذا حكم زفر، ولا تقل: هذا حكم الله، أو نحو هذا من الكلام (3) . قال ابن القيم رحمه الله: من أفتى الناس وليس بأهل الفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضا، وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي   (1) زاد المعاد (4/ 232، 233) ، ف (2/ 410) . (2) إعلام الموقعين (4/ 259) ، ف (2/ 410) . (3) إعلام الموقعين (4/ 176) ، ف (2/ 410) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 بعض هؤلاء: أجعلت محتسبا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب (1) . قال ابن القيم رحمه الله: وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى، وهو مقدم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى، فيكتب، يجوز كذا، أو يصح كذا، أو ينعقد بشرطه فأرسل إليه يقول له: تأتينا فتاوى منك فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه فإما أن تبين شرطه وإما ألا تكتب ذلك. وسمعت شيخنا يقول: كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط؛ فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها، يجوز بشرطه، أو يصح بشرطه أو يقبل بشرطه، ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم ولا يفيد فائدة أصلا سوى حيرة السائل وتنكدة (2) (3) . قال ابن القيم رحمه الله: ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة وغيره بالمنع، ولا يجوز له إذا كان في المسألة قولان: قول بالجواز، وقول بالمنع أن يختار لنفسه قول الجواز ولغيره قول المنع. وسمعت شيخنا يقول: سمعت بعض الأمراء يقول عن بعض المفتين من أهل زمانه: يكون عندهم في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: التفصيل، فالجواز لهم، والمنع لغيرهم، وعليه العمل (4) . وظاهر نقل عبد الله يفتي غير مجتهد، ذكره القاضي، وحمله شيخنا على الحاجة (5) .   (1) إعلام الموقعين (4/ 217) ، ف (2/ 410) . (2) وفي نسخة وتبلده. (3) إعلام الموقعين (4/ 178) ، ف (2/ 410) . (4) إعلام الموقعين (4/ 211) ، ف (2/ 410) . (5) فروع (6/ 422) ، ف (2/ 411) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 ويقلد العامي من ظنه عالما، فإن جهل عدالته فوجهان، وميتا في الأصح، والعامي يخبر فقط، فيقول: مذهب فلان كذا، ذكره ابن عقيل وغيره، وكذا قال شيخنا: الناظر المجرد يكون حاكيا لما رآه، لا مفتيا (1) . وله رد الفتيا إذا كان بالبلد قائم مقامه، وإلا لم يجز، وإن كان معروفا عند العامة بالفتيا وهو جاهل تعين الجواب على العالم، وقال شيخنا: الأظهر لا يجب في التي قبلها (2) . فائدة: يحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعًا، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعًا، ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له أو عليه إجماعًا، قاله الشيخ تقي الدين رحمه الله (3) .   (1) فروع (6/ 428) ، ف (2/ 411) . (2) فروع (6/ 433) وإنصاف (11/ 190) ، ف (2/ 411) وعبارة الإنصاف: الأظهر لا يجوز في التي قبلها. (3) إنصاف (11/ 179) ، ف (2/ 411) ويأتي هذا في القضاء أيضا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 كتاب القضاء والواجب اتخاذ ولاية القضاء دينا وقربة، فإنها من أفضل القربات، وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها، ومن فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه (1) . والولاية لها ركنان، القوة والأمانة، فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم والعدل في تنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله تعالى (2) . وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعا (3) . وأما سؤال الولاية فقد ذمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما سؤال يوسف قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [55/12] فلأنه كان طريقا إلى أن يدعوهم إلى الله، ويعدل بين الناس، ويرفع عنهم الظلم، ويفعل من الخير ما لم يكونوا يفعلوه، مع أنهم لم يكونوا يعرفون حاله، وقد علم بتأويل الرؤيا ما يئول إليه حال الناس، ففي هذه الأحوال ونحوها ما يوجب الفرق بين مثل هذه الحال وبين ما نهى عنه. وأيضا: فليست هذه إمارة محضة إنما هي أمانة، وقد يقال: هذا شرع من قبلنا.   (1) اختيارات (332) ، ف (2/ 414) . (2) اختيارات (332) ، ف (2/ 414) . (3) فروع (6/ 423) واختيارات (332) ، ف (2/ 414) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 وقد تنازع العلماء في سؤال الإنسان القضاء ونحوه، فقال أكثرهم: يكره وإن كان صالحا له، وهذا مذهب مالك وأحمد وغيرهما، وقال بعضهم، ينبغي أن يسأل إذا كان متعينا له، وربما قيل: إذا كانت ولايته أفضل له، وأما الإمام فينبغي ألا يولي من سأل الولاية إذا أمكن أن يولي المستحق بغير سؤال. ونهيه لأبي ذر عن تولي الحكم وترك الولاية على مال اليتيم لما رآه ضعيفا لا أنه نهاه مطلقا (1) . ومن باشر القضاء مع عدم الأهلية المسوغة للولاية وأصر على ذلك عاملا بالجهل والظلم فهو فاسق، ولا يجوز أن يولى خطبة ولا تنفذ أحكامه ولا عقوده كما تنفذ أحكام العالم العادل؛ بل من العلماء من يردها كلها، وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وأحمد، ومن العلماء من ينفذ ما وافق الحق لمسيس الحاجة، ولما يلحق الناس من الضرر، والحق يجب اتباعه سواء قام به البر والفاجر، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة ومالك وطائفة من أصحاب أحمد وهو الراجح (2) . ويشترط في القاضي أن يكون ورعا. والحاكم فيه ثلاث صفات، فمن جهة الإثبات هو شاهد، ومن جهة الأمر والنهي هو مفتي، ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان. وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد، لأنه لا بد أن يحكم بعدل، ولا يجوز الاستفتاء إلا ممن يفتي بعلم وعدل. وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان.   (1) مختصر الفتاوى (564) ، ف (2/ 416) . (2) مختصر الفتاوى (353) ، ف (2/ 416) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولى لعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شرا، وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد، وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيها قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع، وفيما ندر حكمه ويخاف فيه الاشتباه الأعلم. ومن أكثر من سبر أهل العلم من المتوسطين (1) إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام: ترجح عنده أحدهما: لكن قد لا يثق بنظره يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه فالواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة إذا ترجح عنده أحدهما قلده، والدليل الخاص الذي يرجح به قول على قول أولى بالاتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأدين، وعلم الناس (2) بترجيح قول على قول أيسر من علم أحدهم بأن أحدهما أعلم وأدين، لأن الحق واحد ولا بد. ويجب أن ينصب الله على الحق دليلا. وأدلة الأحكام من الكتب والسنة والإجماع وما تكلم الصحابة والعلماء به إلى اليوم بقصد حسن؛ بخلاف الإمامية. وقال أبو العباس: النبيه إذا سمع اختلاف العلماء وأدلتهم في الجملة عنده ما يعرف به رجحان القول. وليس لحاكم وغيره أن يبتدأ الناس بقهرهم على ترك ما يسوغ وإلزامهم برأيه واعتقاده اتفاقا، ولو جاز هذا لجاز لغيره مثله، وأفضى إلى التفرق والاختلاف (3) .   (1) وعبارة الفروع: وأكثر من تميز في العلم من المتوسطين. (2) عبارة الفروع وعلم أكثر الناس. (3) اختيارات (332، 333) فروع (6/ 425) ، ف (2/ 416) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 قال شيخنا: قال بعض العلماء: إذا لم يوجد إلا فاسق عالم أو جاهل دين قدم ما الحاجة إليه أكثر إذن (1) . قال في المحرر وغيره: ويشترط في القاضي عشر صفات. قال أبو العباس: إنما اشترطت هذه الصفات فيمن يولى، لا فيمن يحكمه الخصمان. وذكر القاضي: أن الأعمى لا يجوز قضاؤه، وذكر محل وفاق، قال: وعلى أنه لا يمتنع أن يقول إذا تحاكما إليه ورضيا به جاز حكمه. قال أبو العباس: هذا الوجه قياس المذهب، كما يجوز شهادة الأعمى؛ إذ لا يعوزه إلا معرفة عين الخصم، ويتوجه أن يصح مطلقا ويعرف بأعيان الشهود والخصوم، كما يعرف بمعاني كلامهم في الترجمة؛ إذ معرفة كلامه وعينه سواء، وكما يجوز أن يقضي على غائب باسمه ونسبه. وأصحابنا قاسوا شهادة الأعمى على الشهادة على الغائب والميت، وأكثر ما في الموضعين عند الرؤية والحكم لا يفتقر إلى الرؤية، بل هذا في الحاكم أوسع منه في الشاهد، بدليل الترجمة، والتعريف بالحكم دون الشهادة، وما به يحكم أوسع مما به يشهد. ولا تشترط الحرية في الحاكم، واختاره أبو الخطاب وابن عقيل. قال القاضي في التعليق: وعلى أن الحدود تدخل في ولاية القضاء فمن لا يصلح لبعض ما تضمنته الولاية لا يصلح لشيء منها، ولا تنعقد الولاية له. قال أبو العباس: وكلام أحمد في تزويج الدهقان وتزويج الوالي صاحب الحسير يخالف هذا (2) .   (1) فروع (6/ 424) ، ف (2/ 416) . (2) اختيارات (335، 336) ، ف (2/ 416) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 وولاية القضاء يجوز تبعيضها ولا يجب أن يكون عالما بما في ولايته، فإن منصب الاجتهاد ينقسم، حتى لو ولاه في المواريث لم يجب أن يعرف إلا الفرائض والوصايا وما يتعلق بذلك. وإن ولاه عقد الأنكحة وفسخها لم يجب أن يعرف إلا ذلك. وعلى هذا فقضاة الأطراف يجوز أن لا يقضوا في الأمور الكبار والدماء والقضايا المشكلة. وعلى هذا فلو قال: اقض فيما تعلم، كما يقول له، أفت فيما تعلم جاز، ويبقى ما لا يعلم خارجا عن ولايته، كما يقول في الحاكم الذي ينزل على حكمه الكفار، وفي الحكمين في جزاء الصيد (1) . وقال شيخنا: ما يستفيده بالولاية لا حد له شرعا، بل يتلقى من اللفظ والأحوال والعرف (2) . قال في المحرر: ويجوز أن يولي قاضيين في بلد واحد، وقيل: إن ولاهما فيه عملا واحدا لم يجز. قال أبو العباس: تولية قاضيين في بلد واحد: إما أن يكون على سبيل الاجتماع بحيث ليس لأحدهما الانفراد كالوصيين والوكيلين وإما على طريق الانفراد، أما الأول فليس هو مسألة الكتاب ولا مانع منه إذا كان فوقهما من يرد مواضع تنازعهما، وأما الثاني فهو مسألة الكتاب. وتثبت ولاية القضاء بالأخبار، وقصة ولاية عمر بن عبد العزيز هكذا كانت (3) .   (1) اختيارات (336) ، ف (2/ 416) . (2) فروع (6/ 420) ، ف (2/ 416) . (3) اختيارات (334، 335) ، ف (2/ 416) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 والوكالة يصح قبولها على الفور والتراخي بالقول والفعل، والولاية نوع منها. قال القاضي في التعليق: إذا استأذن امرأة في تزويجها وهي في غير عمله فزوجها في عمله لم يصح العقد، لأن إذنها يتعلق بالحكم، وحكمه في غير محله لا ينفذ. فإن قلت: إذا حصلت في عمله فقد أذنت له، فزوجها في عمله: صح؛ بناء على جواز تعليق الوكالة بالشرط. ومن شرط جواز العقد عليها، أن تكون في عمله حين العقد عليها، فإن كانت في غير عمله لم يصح عقده؛ لأنه حكم على من ليس في عمله. قال أبو العباس: لا فرق بين أن تقول: زوجني إذا صرت في عملك أو إذا صرت في عملك فزوجني، لأن تقييد الوكالة أحسن حالا من تعليقها، نعم لو قالت: زوجني الآن أو فهم ذلك من إذنها فهنا أذنت لغير قاض، وهذا هو مقصود القاضي (1) . ولا يجوز التقليد في معرفة الحكم اتفاقا، وقبله لا يجوز على المشهور إلا أن يضيق الوقت ففيه وجهان، فإن عجز عن معرفة الحق بتعارض الأدلة ففيه وجهان، فهذه أربع مسائل. والعجز قد يعني به العجز الحقيقي، وقد يعني به المشقة العظيمة، والصحيح الجواز في هذين الموضعين (2) . وإذا استناب الحاكم في الحكم من غير مذهبه، إن كان لكونه أرجح فقد أحسن وإلا لم تجز الاستنابة (3) .   (1) اختيارات (334) ، ف (2/ 416) . (2) اختيارات (334) ، ف (2/ 417) . (3) اختيارات (335) ، ف (2/ 417) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 والقضاة ثلاثة: من يصلح، ومن لا يصلح، والمجهول. فلا يرد من أحكام من يصلح إلا ما علم أنه باطل، ولا ينفذ من أحكام من لا يصلح إلا ما علم أنه حق. واختار صاحب المغني وغيره: إن كانت توليته ابتداء. وأما المجهول فينظر فيمن ولاه، فإن كان لا يولي إلا الصالح جعل صالحا، وإن كان يولي هذا تارة وهذا تارة نفذ ما كان حقا، ورد الباطل، والباقي موقوف. وبين من يصلح ومن لا يصلح إذا للضرورة ففيه مسألتان: إحداهما: على القول بأن من لا يصلح تنقض جميع أحكامه هل ترد أحكام هذا كلها، أم يرد ما لم يكن صوابا؟ والثاني المختار، لأنها ولاية شرعية. والثانية: هل تنفذ المجتهدات من أحكامه، أم يتعقبها العالم العادل؟ هذا فيه نظر (1) . وحديث معاذ لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن الذي قال فيه: "فإذا لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: حكمت برأيي" طعن فيه جماعة، وروي في مسانيد ورواه أبو داود، واستدل به طوائف من الفقهاء، وأهل الأصول في كتبهم، وروي من طرق. وبكل حال يجوز اجتهاد الرأي للقاضي والمفتي إذا لم يجد في الحادثة نصا من الكتاب أو السنة كقول جماهير السلف وأئمة الفقهاء كمالك والأوزاعي والثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم، واستدلوا على ذلك بدلائل مثل كتاب عمر لأبي موسى   (1) اختيارات (337) وانظر الإنصاف (11/ 225) ، ف (2/ 417) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 الأشعري، وفيه اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك. وقد تكون تلك الحكومة في الكتاب والسنة على وجه خفي لم يدركه، أو تكون مركبة من مقدمتين من الكتاب والسنة لكنه لم يتفطن لذلك فيجوز له أن يجتهد برأيه حينئذ لكونه لم يجد تلك الحكومة في الكتاب ولا في السنة وإن كانت فيهما ثم قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [43/4] فقد يكون الماء تحت الأرض وهو لا يعرف، وكذلك قوله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [92/4] وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [286/2] . والقياس الذي يسوغ مثل: أن يرد القضية إلى نظيرها الثابت بالكتاب والسنة. أو لم يفهم علة الحكم التي حكم الشارع لأجلها ويجدها في الصورة التي في النص، وهذا من قياس التعليل، والأول قياس التمثيل. وليس له أن يحكم بما شاء ومن جوز ذلك فهو كافر باتفاق المسلمين، وليس هذا مختصا بمعاذ (1) . ونص الإمام أحمد على أن للقاضي أن يستخلف من غير إذن الإمام فرقا بينه وبين الوكيل، وجعلا له كالوصي (2) . قال في المحرر: وفي العزل حيث قلنا به قبل العلم، وجهان كالوكيل؛ لأن الحق في الولاية لله، وإن قلنا: هو وكيل والنسخ في حقوق الله لا يثبت قبل العلم، كما قلنا في المشهور، إن نسخ الحكم لا يثبت في حق من لم يبلغه، وفرقوا بينه وبين الوكيل بأن أكثر ما في الوكيل ثبوت الضمان، وذلك لا ينافي الجهل بخلاف الحكم فإن فيه   (1) مختصر الفتاوى (554) ، ف (2/ 417) . (2) اختيارات (337) ، ف (2/ 317) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 الإثم، وذلك ينافي الجهل، كذلك الأمر والنهي، وهذا هو المنصوص عن أحمد (1) . باب آداب القاضي وأجمع المسلمون على أن الحاكم ليس له أن يقبل الرشوة، سواء حكم بحق أو بباطل، ولا يحكم لنفسه، وليس للحاكم أن يكون له وكيل يعرف أنه وكيله يتجر له في بلاد عمله، وإذا عرف أن الحاكم بهذه المثابة فإنه ينهى عن ذلك، فإن انتهى وإلا استبدل به من هو أصلح منه إن أمكن، وإذا فصل الحكومة بينه وبين غريمه حاكم نافذ الحكم في الشرع لعلمه ودينه لم يكن لغريمه أن يحاكم عند حاكم آخر (2) . ومن ادعى أن بعض الحكام أخذ منه شيئا وكان الرجل معروفا بالصدق فله على الحاكم اليمين، وإن كان غيره من الصادقين، وقد قال مثل قوله، لم ترد أخبار الصادقين بل ينبغي عزل الحاكم. وإن كان الحاكم معروفا بالأمانة والرجل فاجرا لم يلتفت إلى قوله وعزر وإن كان كل منهما متهما فله تحليفه ولا يعزر (3) . والأشبه ألا يكون للحاكم شراء ما يحتاجه في مظنة المحاباة والاستغلال والتبدل. قال القاضي في التعليق: قاس المخالف القاضي على المفتي في مباشرة البيع، قال القاضي: أما المفتي فإنه لا يحابى في العادة، والقاضي بخلافه، ولا يكره له البيع في مجلس فتياه، ولا يكره له قبول الهدية بخلاف القاضي.   (1) اختيارات (337) وانظر الإنصاف (11/ 171، 174، 175) ، ف (2/ 417) . (2) مختصر الفتاوى (553) ، ف (2/ 417) . (3) مختصر الفتاوى (606) ، ف (2/ 417) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 قال أبو العباس: هذا فيه نظر وتفصيل؛ فإن العالم شبيه في هديته ومعاملته بالقاضي. وفيه حكايات عن أحمد. والعالم لا يعتاض على تعليمه (1) . ولا يمضي حكم العدو على عدوه، كما لا تقبل شهادته عليه، بل يترافعان إلى حاكم آخر (2) . وليس للحاكم منع الناس مما أباحه الله ورسوله مثل: أن يمنع أن يزوج المرأة وليها، أو يمنع الشهود أو غيرهم من كتابة مهرها، أو كتابة عقد بيع أو إجارة، أو إقرار، أو غير ذلك، وإن كان الكاتب مرتزقا بذلك، وإذا منع القاضي ذلك ليصل إليه منافع هذه الأمور كان هذا من المكس، نظير من يستأجر حانوتا في القرية على ألا يبيع غيره، وإن كان إنما يمنع الجاهل لئلا يعقد عقدا فاسدا فالطريق أن يفعل كما فعل الخلفاء الراشدون من تعزير من يعقد نكاحا فاسدا، كما فعله عمر وعثمان رضي الله عنهما فيمن تزوج بغير ولي وفيمن تزوج في العدة (3) . ومن ادعى بحق وخرج يقيم البينة لم يجز حبس الغريم لكن هل له طلب كفيل منه إلى ثلاثة أيام أو نحوها إذا قال المدعي لي بينة حاضرة؟ فيه نزاع، هذا إذا لم تكن دعوى تهمة، فإن كانت دعوة تهمة مثل: أن ادعى أنه سرق فهنا إن كان مجهول الحال حبس حتى يكشف عنه، وأما دعوى الحقوق مثل: البيع والقرض والدين فلا يحبس بدون حجة، وإن ذكر نزاع في المدة القريبة كاليوم، فلا نزاع فيما أعلمه (4) . وإذا حبست زوجها على الحق، فله عليها، ما كان يجب قبل الحبس   (1) اختيارات (337) ، ف (2/ 417) . (2) مختصر الفتاوى (567) ، ف (2/، 417) . (3) مختصر الفتاوى (554، 555) ، ف (2/ 417) . (4) مختصر الفتاوى (609) ، ف (2/ 418) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 من إسكانها حيث شاء ومنعها الخروج، فإذا أمكن حبسه في مكان تكون هي عنده تمنعه من الخروج فعل ذلك، فإنه ليس للغريم منع المحبوس من حوائجه إذا احتاج؛ بل يخرجه ويلازمه مثل: غسل الجنابة، نحوه، والزوج له منعها مطلقا. وأيضا فإنها قد تحبسه وتبقى هي مفلوتة تفعل الفواحش، وتقهره، وتعاشر من تختار، وتبقى هي القوامة عليه، لا سيما حيث يكثر ذلك في الأزمنة والأمكنة، وغاية ذلك (1) من أعظم المصالح التي لا يجوز إهمالها فكيف يستحل مسلم أن يحبس الرجل ويمنع زوجته من حبسها معه؟ بل يتركها تذهب حيث شاءت وهي إنما تملك بما لها عليه ملازمته، والملازمة تحصل بأن تكون هي وهو في موضع واحد؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الغريم بملازمة غريمه، وإذا طلب منها الجماع في الحبس لم يكن له منعه. وإذا ظهر أنه قادر على الوفاء وامتنع ظلما عوقب بغير الحبس مثل ضربه مرة بعد مرة حتى يوفي؛ لأن مطل الغني ظلم، والظالم يستحق العقوبة. وتمكين هذا من فضول الأكل والنكاح محل اجتهاد، فإذا رأى الحاكم تعزيره بالمنع منه كان له ذلك. وإن لم يكن حبسها معه، إما لعداوة تحصل بينهما فأمكن أن يسكنها في موضع لا تخرج منه مثل رباط عند أناس مأمونين فلا بأس. وبالجملة: فلا تترك المرأة تذهب حيث شاءت باتفاق (2) . والقضاء نوعان: إخبار: هو إظهار وإبداء، وأمر: هو إنشاء وابتداء   (1) لعله: ورعاية ذلك. (2) مختصر الفتاوى (608) ، ف (2/ 418) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 فالخبر: ثبت عندي، ويدخل فيه خبره عن حكمه، وعن عدالة الشهود وعن الإقرار والشهادة. والآخر: هو حقيقة الحكم: أمر ونهي وإباحة، ويحصل بقوله: أعطه، ولا تكلمه أو ألزمه، وبقوله: حكمت، وألزمت. وإذا قال الحاكم: ثبت عندي بشهادتهما فهذا فيه وجهان. أحدهما: أن ذلك حكم، كما قاله ابن عقيل وغيره. وفعل الحاكم حكم في أصح الوجهين في مذهب أحمد وغيره (1) . وأخبار الحاكم «أنه ثبت عندي» بمنزلة إخباره أنه حكم به، أما إذا قال: شهد عندي فلان، أو أقر عندي، فهو بمنزلة الشاهد سواء، فإنه في الأول تضمن قوله: ثبت عندي، الدعوى والشهادة والعدالة أو الإقرار، وهذا من خصائص الحكم؛ بخلاف قوله: شهد عندي، أو أقر عندي، فإنما يقتضي الدعوى. وخبره في غير محل ولايته كخبره في غيره زمن ولايته. ونظير إخبار القاضي بعد عزله إخبار أمير الغزو أو الجهاد بعد عزله بما فعله (2) . يجوز للحنفي الحاكم أن يستنيب شافعيا يحكم باجتهاده، وإن خالف اجتهاد مستنيبه، ولو شرط عليه أن يحكم بقول مستنيبه لم يجز هذا الشرط. وأيضا: إذا رأى المستنيب قول بعض الأئمة أرجح من بعض لم يجز له أن يحكم بالمرجوح، بل عليه أن يحكم بالراجح، فكيف لا يكون له أن يستنيب من يحكم بالراجح، وإن خالف قول إمامه؟ وليس   (1) اختيارات (334) ، ف (2/ 418) . (2) فروع (6/ 489) وإنصاف (11/ 305) واختيارات (347، 348) ، ف (2/ 418) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 على الخلق لا القضاة ولا غيرهم أن يطيعوا أحدا في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن سواه من الأئمة فإنه يؤخذ من قوله ويترك فيجوز لكل من الحكام أن يستنيب من يخالفه في مذهبه ليحكم بما أنزل الله (1) . وقال شيخنا: لا ينعزل بانعزال المستنيب وموته حتى يقوم غيره مقامه، كعقد وصي وناظر عقدا جائزا، كوكالة وشركة ومضاربة ومثله كل عقد لمصلحة المسلمين كوال ومن ينصبه لجباية مال وصرفه وأمير الجهاد ووكيل بيت المال والمحتسب ذكر شيخناه وهو ظاهر كلام غيره (2) . قال أصحابنا: ولا ينقض الحاكم حكم نفسه ولا غيره إلا أن يخالف نصًّا أو إجماعًا. قال أبو العباس: ويفرق في هذا بين ما إذا استوفى المحكوم له الحق الذي ثبت له من المال، أو لم يستوف، فإن استوفى فلا كلام، وإن لم يستوف فالذي ينبغي نقض حكمه نفسه والإشارة على غيره بالنقض. وليس للإنسان أن يعتقد أحد القولين في مسائل النزاع فيما له، والقول الآخر فيما عليه باتفاق المسلمين كما يعتقد أنه إذا كان جارا استحق شفعة الجوار، وإذا كان مشتريا لم يجب عليه شفعة الجوار. والقضية الواحدة المشتملة على أشخاص أو أعيان فهل للحاكم أن يحكم على شخص أوله بخلاف ما حكم هو أو غيره لشخص آخر أو عليه أو في عين؟ مثل أن يدعي في مسألة الحمارية بعض ولد الأبوين فيقضي له بالتشريك ثم يدعي عنده آخر فيقضي عليه بنفي التشريك أو   (1) مختصر الفتاوى (553) ، ف (2/ 418) . (2) فروع (6/ 436، 437) ، ف (2/، 418) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 يكون حاكم غيره قد حكم بنفي التشريك لشخص أو عليه فيحكم هو بخلافه. فهذا ينبني على أن الحكم لأحد الشريكين أو الحكم عليه حكم عليه وله، وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وغيرهم. لكن هناك يتوجه أن يبقى حق الغائب فيما طريقه الثبوت لتمكنه من القدح في الشهود ومعارضته. أما إذا كان طريقه الفقه المحض فهنا لا فرق بين الخصم الحاضر والغائب. ثم لو تداعيا في عين من الميراث، فهل يقول أحد: إن الحكم باستحقاق عين معينة لا يمنع الحكم بعدم استحقاق العين الأخرى مع اتحاد حكمهما من كل وجه؟ هذا لا يقوله أحد. يوضح ذلك أن الأمة اختلفت في هذه المسألة على قولين. قائل يقول: يستحق جميع ولد الأبوين جميع التركة، وقائل يقول: لا حق لواحد منهم في شيء منها. فلو حكم حاكم في وقتين أو حاكمان باستحقاق البعض أو استحقاقهم للبعض لكان قد حكم في هذه القضية بخلاف الإجماع، وهذا قد يفعله بعض قضاة زماننا؛ لكن هو ظنين في علمه ودينه؛ بل ممن لا يجوز توليته القضاء. ويشبه هذه طبقات الواقف أو أزمنة الطبقة فإذا حكم حاكم بأن هذا الشخص مستحق لهذا المكان من الوقف ومستحق الساعة بمقتضى شرط شامل لجميع الأزمنة والأمكنة فهو كالميراث. وأما إن حكم باستحقاق تلك الطبقة فهل يكون للطبقة الثانية إذا اقتضى الشرط لها؟ وأخذ هذا فيه نظر، من حيث إن تلقي كل طبقة من الواقف في زمن حدوثها شبيه بما لو مات عتيق شخص فحكم حاكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 بميراثه المال، وذلك أن كل طبقة من أهل الوقف تستحق ما حدث لها من الوقف عند وجودها، مع أن كل عصبة تستحق ميراث المعتقين عند موتهم. والأشبه بمسألتنا ما لو حكم حاكم في عتيق بأن ميراثه للأكبر، ثم توفي ابن ذلك العتيق الذي كان محجوبا عن ميراث أبيه، فهل لحاكم آخر أن يحكم بميراثه لغير الأكبر؟ هذا يتوجه هنا وفي الوقف مما يترتب الاستحقاق فيه بخلاف الميراث ونحوه مما يقع مشتركا في الزمان (1) . وإذا رفع إليه الخصمان عقدا فاسدا عنده فقط وأقر بأن نافذ الحكم حكم بصحته فله إلزامهما بذلك ورده والحكم بمذهبه، وقال شيخنا: قد يقال: قياس المذهب أنه كالبينة ثم ذكر أنه كبينة إن عينا الحاكم (2) . وإذا حكم أحد الخصمين على خصمه جاز لقصة ابن مسعود؛ وكذا إذا حكم مفت في مسألة اجتهادية، وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما أو يكفي وصف القصة له؟ الأشبه أنه لا يفتقر بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزمه، فإن أراد أحدهما الامتناع فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه، وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود (3) . وإن حكما بينهما من يصلح للقضاء نفذ حكمه وهو كحاكم الإمام، وعنه ينفذ في قود وحد قذف ولعان ونكاح، وظاهر كلامه ينفذ في غير فرج، واختار شيخنا نفوذ حكمه بعد حكم حاكم لا إمام، وأنه إن حكم أحدهما خصمه أو حكما مفتيا في مسألة اجتهادية جاز.   (1) اختيارات (344-346) ، ف (2/ 418) . (2) فروع (6/ 494) ، ف (2/ 417) . (3) اختيارات (335) ، ف (2/ 417) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 وأنه يكفي وصف القصة له يؤيده قول أبي طالب: نازعني ابن عمي، الأذان فتحاكمنا إلى أبي عبد الله، قال: اقترعا (1) . قال شيخنا: خصوا اللعان؛ لأن فيه دعوى وإنكار، وبقية الفسوخ كإعسار قد يتصادقان فيكون الحكم إنشاء لا ابتداء، ونظيره لو حكماه في التداعي بدين وأقربه الورثة (2) . باب طريق الحكم وصفته وإذا طلبا حكمين أجيب من طلب الذي له الولاية على محل النزاع إذا كان الحاكمان عدلين فإن كان لهما الولاية معا أجيب من طلب الحاكم الأقرب، فإما أن يقرع بينهما، أو يجاب المدعي، فهذا القول الثالث أفتى به طائفة في زماننا، والأولان مقدمان، فهذه مسألة نزاع (3) . قال في الإنصاف: واعلم أنه إذا ادعي على القاضي المعزول فالصحيح من المذهب أنه يعتبر تحرير الدعوى في حقه، قال الشيخ تقي الدين: تخصيص الحاكم المعزول بتحرير الدعوى في حقه لا معنى له، فإن الخليفة ونحوه في معناه، وكذلك العالم الكبير والشيخ المتبوع (4) . لو قال لمدعي دينار: لا تستحق علي حبة، فعند ابن عقيل أن هذا ليس بجواب، وعند الشيخ تقي الدين رحمه الله: يعم الحبات، وما لم يندرج في لفظ حبة من باب الفحوى (5) . ظاهر قوله: فإذا أحضرها سمعها الحاكم وحكم، أن الشهادة لا   (1) فروع (6/ 436، 437) والإنصاف (11/ 198) ، ف (2/ 417) . (2) فروع (6/ 440) ، ف (2/ 417) وهذا النقل فيه زيادة عما قبله. (3) مختصر الفتاوى (567) ، ف (2/ 418) . (4) إنصاف (11/ 231) ، ف (2/ 418) . (5) إنصاف (11/ 242) ، ف (2/ 419) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 تسمع قبل الدعوى، فإن كان الحق لآدمي معين فالصحيح من المذهب أنها لا تسمع قبل الدعوى.. وسمعها القاضي في التعليق وأبو الخطاب في الانتصار والمصنف في المغني، إن لم يعلم به، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: هو غريب، وذكر الأصحاب أنها تسمع بالوكالة من غير خصم، ونقله مهنا، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: تسمع ولو كان في البلد، وبناه القاضي وغيره على جواز القضاء على الغائب. اهـ. «والوصية مثل الوكالة» ، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: الوكالة إنما تثبت استيفاء حق أو إبقاءه (1) . وتسمع البينة قبل الدعوى في كل حق لآدمي غير معين: كالوقف على الفقراء، أو على مسجد، أو رباط، أو وصية لأحدهما، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: وكذا عقوبة كذاب مفتر على الناس، والمتكلم فيهم (2) . وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله في حفظ وقف وغيره بالثبات عن خصم مقدر: تسمع الدعوى والشهادة فيه بلا خصم، قال: وقد ذكره قوم من الفقهاء، وفعله طائفة من الفقهاء، وفعله طائفة من القضاة، ولم يسمعها طوائف من الحنفية والشافعية والحنبلية. وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله ما ذكره القاضي من احتيال الحنفية على سماع البينة من غير وجود مدعي عليه فإن المشتري المقر بالبيع قد قبض المبيع وسلم الثمن فهو لا يدعي شيئا ولا يدعى عليه شيء، وإنما غرضه تثبيت الإقرار والعقد، والمقصود سماع القاضي البينة وحكمه بموجبها من غير وجود مدعى عليه ومن غير مدع على أحد؛ لكن خوفا من حدوث خصم مستقبل، فيكون هذا الثبوت حجة   (1) إنصاف (11/ 246) ، ف (2/ 419) . (2) إنصاف (11/ 248) وفروع (6/ 524) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 بمنزلة الشهادة، فإن لم يكن القاضي يسمع البينة بلا هذه الدعوى وإلا امتنع من سماعها مطلقًا، وعطل هذا المقصود الذي احتالوا عليه. قال الشيخ تقي الدين رحمه الله، وكلامه يقتضي أنه هو لا يحتاج إلى هذا الاختيال مع أن جماعات من القضاة المتأخرين من الشافعية والحنابلة دخلوا مع الحنفية في ذلك وسموه الخصم المسخر، قال: وأما على أصلنا الصحيح وأصل مالك رحمه الله فإما أن نمنع الدعوى من غير خصم منازع فتثبت الحقوق بالشهادات على الشهادات كما ذكره من ذكره من أصحابنا، وأما أن نسمع الدعوى والبينة بلا خصم، كما ذكره طائفة من المالكية والشافعية وهو مقتضى كلام الإمام أحمد رحمه الله وأصحابنا في مواضع؛ لأنا نسمع الدعوى والبينة على الغائب والممتنع، وكذا على الحاضر في البلد في المنصوص، فمع عدم خصم أولى. قال: وقال أصحابنا: كتاب الحاكم كشهود الفرع، قالوا: لأن المكتوب إليه يحكم بما قام مقامه غيره، لأن إعلام القاضي للقاضي قائم مقام الشاهدين، فجعلوا كل واحد من كتاب الحاكم وشهود الفرع قائما مقام غيره وهو بدل عن شهود الأصل، وجعلوا كتاب القاضي كخطابه، وإنما خصوه بالكتاب لأن العادة تباعد الحكمين، وإلا فلو كان في محل واحد كان مخاطبة أحدهما للآخر أبلغ من الكتاب، وبنوا ذلك على أن الحاكم يثبت عنده بالشهادة ما لم يحكم به وإنما يعلم به حاكما آخر ليحكم به، كما يعلم الفروع بشهادة الأصول. قال: وهذا كله إنما يصح إذا سمعت الدعوى والبينة في غير وجه خصم، وهو يفيد أن كلما ثبت بالشهادة على الشهادة يثبته القاضي بكتابه. قال: ولأن الناس بهم حاجة إلى إثبات حقوقهم بإثبات القضاة، كإثباتها بشهادة الفروع، وإثبات القضاة أنفع لكونه كفى مؤنة النظر في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 الشهود، وبهم حاجة إلى الحكم فيما فيه شبهة أو خلاف لرفع، وإنما يخافون من خصم حادث (1) . وقال في الفروع: وإن قال المدعي «ما لي بينة» ، أعلمه الحاكم بأن له اليمين على خصمه، قال: وله تحليفه مع علمه قدرته على حقه، نص عليه نقل ابن هانئ: إن علم عنده مالا لا يؤدي إليه حقه أرجو ألا يأثم، وظاهر رواية أبي طالب يكره، وقاله شيخنا: ونقله من حواشي تعليق القاضي، وهذا يدل على تحريم تحليف البريء، دون الظالم اهـ (2) . قال ابن القيم رحمه الله: ولما كانت أفهام الصحابة رضي الله عنهم فوق أفهام جميع الأمة وعلمهم بمقاصد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وقواعد دينه وشرعه أتم من علم كل من جاء بعدهم عدلوا عن ذلك إلى غير هذه المواضع الثلاثة (3) ، وحكموا بالرد مع النكول في موضع، وبالنكول وحده في موضع، وهذا من كمال فهمهم وعلمهم بالجامع والفارق والحكم والمناسبات، ولم يرتضوا لأنفسهم عبارات المتأخرين واصطلاحاتهم وتكلفاتهم، فهم كانوا أعمق الأمة علما، وأقلهم تكلفا والمتأخرون عكسهم في الأمرين. فعثمان بن عفان قال لابن عمر: احلف بالله لقد بعت العبد وما به داء علمته، فأبى فحكم عليه بالنكول، ولم يرد اليمين في هذه الصورة على المدعي ويقول له: احلف أنت أنه كان عالما بالعيب، لأن هذا مما لا يمكن أن يعلمه المدعي ويمكن المدعى عليه معرفته، فإذا لم يحلف المدعى عليه لم يكلف المدعي اليمين، فإن ابن عمر قد باعه بالبراءة من العيوب، وهو إنما يبرأ إذا لم يعلم بالعيب فقال له:   (1) إنصاف (11/ 248-250) ، ف (2/419) . (2) إنصاف (11/ 251) . (3) الطرق الحكمية (122، 223، 116) ، ف (2/ 419) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 احلف أنك بعته وما به عيب تعلمه، وهذا مما يمكن أن يحلف عليه دون المدعي، فإنه قد تعذر عليه اليمين أنه كان عالما بالعيب وأنه كتمه مع علمه به. وأما أثر عمر بن الخطاب وقوله للمقداد: احلف أنها سبعة آلاف، فأبي أن يحلف فلم يحكم عليه بنكول عثمان فوجهه: أن المقرض إن كان عالما بصدق نفسه وصحة دعواه حلف وأخذه وإن لم يعلم ذلك لم تحل له الدعوى بما لا يعلم صحته، فإذا نكل عن اليمين لم يقض له بمجرد نكول خصمه إذا خصمه قد لا يكون عالما بصحة دعواه فإذا قال للمدعي: إن كنت عالما بصحة دعواك فاحلف وخذ، فنقد أنصفه جد الإنصاف. فلا أحسن مما قضى به الصحابة رضي الله عنهم. وهذا التفصيل في المسألة هو الحق، وهو اختيار شيخنا قدس الله روحه (1) . والخط كاللفظ إذا ثبت أنه كان عنده على سبيل الوديعة، أو أنه قبضه أخذ بالخط، كما لو تلفظ بذلك، ولو أن يأخذ منه ما أخذه إذا كانت الوديعة قد تلفت بغير تفريط (2) . مسألة: وإذا كانت عادة العمال يستأجرون بالوصولات فمات العمال فادعى بعض المستأجرين أنه قبض منه فلا يقبل إلا ببينة أو وصول فإذا قبض من له ولاية القبض لم يعد على المحتكرين بل يجب على أهل الوقف (3) . ونص فيمن كتب وصيته، وقال: اشهدوا علي بما فيها: أنهم لا يشهدون إلا أن يسمعوها منه أو تقرأ عليه فيقرها بها.   (1) المصدر السابق. (2) مختصر الفتاوى (608) ، ف (2/ 419) . (3) مختصر الفتاوى (618) ، ف (2/ 419) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 فاختلف أصحابنا فمنهم من خرج في كل مسألة حكم الأخرى وجعل فيها وجهين بالنقل والتخريج. ومنهم من منع التخريج وأقر النصين وفرق بينهما. واختار شيخنا التفريق، قال: والفرق أنه إذا كتب وصيته، وقال: اشهدوا علي بما فيه فإنهم لا يشهدون بجواز أن يزيد في الوصية وينقص ويغير. وأما إذا كتب وصيته ثم مات وعرف أنه خطه فإنه يشهد به لزوال المحذور (1) . ومسألة تحرير الدعوى وفروعها ضعيفة؛ لحديث الحضرمي في دعواه على الآخر أرضا غير موصوفة. وإذا قيل: لا تسمع الدعوى إلا محررة، فالواجب أن من ادعى مجملا استفصله الحاكم. وظاهر كلام أبي العباس صحة الدعوى على المبهم، كدعوى الأنصار على اليهود قتل صاحبهم ودعوى المسروق منه على بني أبيرق وغيرهم. ثم المبهم قد يكون مطلقًا، وقد ينحصر في قوم، كقولها: انكحني أحدهما، وزوجني أحدهما. والثبوت المحض يصح بلا مدعى عليه، وقد ذكره قوم من الفقهاء وفعله طائفة من القضاة. وتسمع الدعوى في الوكالة من غير حضور الخصم المدعى عليه، ونقله مهنا عن أحمد، ولو كان الخصم في البلد (2) .   (1) الطرق الحكمية (206) ، ف (2/ 419) . (2) وانظر الفروع (6/ 528) لزيادة الإيضاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 وتسمع دعوى الاستيلاد، وقاله أصحابنا، وفسره القاضي بأن يدعي استيلاد أمة فتنكره. وقال أبو العباس: بل هي المدعية. ومن ادعى على خصمه أن بيده عقار استغله مدة معينة وعينه وأنه استحقه فأنكر المدعى عليه وأقام المدعي بينة باستيلائه لا باستحقاقه لزم الحاكم إثباته والشهادة به، كما يلزم البينة أن تشهد به، لأنه كفرع مع أصل، وما لزم أصل الشهادة به لزم فرعه حيث يقبل، ولو لم تلزم إعانة مدع بإثبات وشهادة ونحو ذلك إلا بعد ثبوت استحقاقه لزم الدور، بخلاف الحكم، وهو الأمر بإعطائه ما ادعاه إن أقام بينة بأنه هو المستحق أمر بإعطائه ما ادعاه، وإلا فهو كمال مجهول يصرف في المصالح. ومن بيده عقار فادعى رجل بثبوته عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته ثم إلى ورثته ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه ولا ينزع منه بذلك؛ لأن أصلين تعارضا، وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة، ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق. ولو شهدت له بينة بملكه إلى حين وقفه وأقام وارث بينة أن مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه قدمت بينة الوارث أن مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه، لأن معها زيادة علم كتقديم من شهد له بأنه اشتراه من أبيه على من شهد له بأنه ورثه من أبيه. قال القاضي: إذا ادعى على رجل ألفا من ثمن مبيع أو قرض أو غصب فقال: لا يستحق علي شيئًا كان جوابًا صحيحًا ويستحلف على ذلك. وإن قال: لم أبايع وطنه منه ولم أغصبه، فهل يكون جوابا يحلف معه عليه؟ على وجهين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 أحدهما: هو جواب صحيح يحلف عليه، والثاني: ليس بجواب صحيح يحلف عليه، لأنه يحتمل أنه غصبه ثم رده عليه، أو أقرضه ثم رده عليه أو باعه ثم رده إليه. قال أبو العباس: إنما يتوجه الوجهان في أن الحاكم هل يلزمه بهذا الجواب أم لا؟ وأما صحته فلا ريب فيها. وقياس المذهب: أن الإجمال ليس بجواب صحيح، لأن المطلوب قد يعتقد أنه ليس عليه لجهل أو تأويل ويكون واجبًا عليه في نفس الأمر، أو في مذهب الحاكم، ويمين المدعي بمنزلة الشاهد، كما لا يشهد بتأويل أو جهل. ومن أصلنا إذا قال: كان له علي ثم أوفيته، لم يكن مقرًّا، فلا ضرر عليه في ذلك، إلا إذا قلنا بالرواية الضعيفة فقد أطلق أحمد التعديل في موضع فقال عبد الله: سألت أبي عن أبي يعفور العبدي، فقال: ثقة، قال أبو داود لأحمد الأسود بن قيس؟ فقال: ثقة. قال أبو العباس: وعلى هذه الطريقة فكل لفظ يحصل به تعديل المخبر يحصل به تعديل الشهود مثل أن يقول: لا بأس به، لا أعلم إلا خيرا، كما نقل عن شريح وسوار وغيرهما. ثم وجدت القاضي قد احتج في المسألة بأن عمر سأل رجلاً عن رجل؟ فقال: لا أعلم إلا خيرًا، فقال: حسبك إن ابن عمر كان إذا أنعم أن يمدح الرجل قال: لا نعلم إلا خيرًا، وعلى هذا فلا يعتبر لفظ الشهادة، وإن أوجبنا اثنين، لأن هذا من باب الاجتهاد، بمنزلة تقويم المقوم والقائف، لأنه من باب المسموع، ومثله المزكي والتفليس والرشد ونحوها فإن هذا كله إثبات صفة اجتهادية. ويقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة قول عدل واحد، وهو رواية عن أحمد، ويقبل الجرح والتعديل باستفاضة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 ومقتضى تعليل القاضي أنه لو قال المزكي: هو عدل لكن ليس على أنه يقبل مطلقًا، مثل أن يكون عدو المعدل، وشهادة العدو لعدوه مقبولة فوجود العداوة لا يمنع التزكية وإن لم تقبل شهادته على المزكي (1) . وللمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها بالاتفاق (2) . ويلزم الحاكم أن يكتب للمدعي عليه إذا ثبتت براءته محضرا بذلك إن تضرر بتركه (3) . وقال الشيخ تقي الدين: التعريف يتضمن تعريف عين المشهود له والمشهود به إذا وقعت على الأسماء، وتعريف المحكوم عليه والمحكوم به، وتعريف المثبت عليه والمثبت له ونفس المثبت في كتاب القاضي إلى القاضي، والتعريف مثل الترجمة سواء، فإنه بيان مسمى هذا الاسم، كما أن الترجمة كذلك لأن التعريف قد يكون في أسماء الأعلام، والترجمة في أسماء الأجناس، وهذا التفسير لا يختص بشخص دون شخص اهـ (4) . اختلفت الرواية عن أحمد فيما لو حكم الحاكم بما يرى المحكوم له تحريمه فهل يباح له بالحكم؟ على روايتين والتحقيق في هذا أنه ليس للرجل أن يطلب من الإمام ما يرى أنه حرام، ومن فعل هذا فقد فعل ما يعتقد تحريمه، وهذا لا يجوز لكن لو كان الطالب غيره، أو ابتدأ الإمام بحكمه أو قسمه فهنا يتوجه القول بالحل (5) .   (1) اختيارات (339-343) ، ف (2/ 419) . (2) فروع (6/ 470) والإنصاف (11/ 286) والاختيارات (349) ، ف (2/ 419) . (3) اختيارات (349) ، ف (2/419) . (4) إنصاف (11/ 297) ، ف (2/ 419) . (5) اختيارات (344) ، ف (2/ 419) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 واختار الشيخ تقي الدين جواز الأخذ (1) ولو قدر على أخذه بالحاكم في الحق الثابت بإقرار أو بينة إن كان سبب الحق ظاهرا، فأما إن كان قد غصب ماله فيجوز له الأخذ بقدر حقه ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله وغيره (2) . وإذا مات الشاهد فهل يحكم بخطه؟ فيه نزاع، فمذهب مالك يحكم به، وهو قول في مذهب أحمد. وإذا شهد شاهد أن فلانة أبرأت زوجها حلف الزوج وحكم له إن كان الشاهد ممن يرضى من الشهداء. وإن كان الشاهد في الرضاع عدلاً قبل قوله، وفي تحليفه نزاع. ويجوز للشافعي أن يشهد عند حاكم مالكي، أن هذا خط فلان إذا جزم به من غير شك، متبعًا لمن يجيز ذلك من الأئمة في مسألة يتوجه فيها قول الذي قلده ولم يكن متبعًا للرخصة فهذه سائغ في المشهور من مذاهب الأربعة، إذ لا يجب على أحد أن يلتزم مذهب شخص بعينه في جميع الشريعة في ظاهر مذهب الشافعي وغيره، ولكن متى ألزم نفسه التزامه فلا بد له أن يلتزمه فيما له وعليه، مثل أن يترجح عنده إثبات الشفعة للجار فيتبع ذلك له وعليه. فأما أن يقلده من يرى إثباتها إذا كان هو الطالب وإذا كان هو المطلوب يقلد من ينفيها فهذا لا يجوز بلا نزاع فيما أعلمه، وكذلك لا يجوز أن يتبع الرخص مطلقًا. والعمل بالخط مذهب قوي، بل هو قول جمهور السلف، وإذا رأى الرجل بخط أبيه حقًّا له وهو يعلم صدقه جاز له أن يدعيه ويحلف عليه.   (1) وعنه في الضيف يأخذ وإن قدر على أخذه بالحاكم. (2) إنصاف (11/ 311) قلت: وتقدم في باب الغصب ف (2/ 419) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 وإذا اتفقوا على أنه يجوز أن يشهد على الرجل إذا عرف صورته مع إمكان الاشتباه وتنازعوا في الشهادة على الصوت من غير رؤية المشهود عليه فجوزه الجمهور كمالك وأحمد، وجوزه الشافعي في صورة المضبطة فالشهادة على الخط دون ذلك لأنه أقوى (1) . وإذا أمكن القاضي أن يرسل إلى الغائب رسولاً، ويكتب إليه الكتاب والدعوى، ويجاب عن الدعوى بالكتاب والرسول فهذا هو الذي ينبغي كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمكاتبة اليهود لما ادعى الأنصار عليهم قتل صاحبهم وكاتبهم ولم يحضرهم وهكذا ينبغي أن يكون في كل غائب طلب إقراره أو إنكاره إذا لم يقم الطالب بينة، وإن أقام بينة فمن الممكن أيضًا أن يقال: إذا كان الخصم في البلد لم يجب عليه حضور مجلس الحاكم، بل يقول: أرسلوا إلي من يعلمني بما يدعي به علي. وإذا كان لا بد للقاضي من رسول إلى الخصم يبلغه الدعوى ويحضره فيجوز أن يقام مقامه رسول، فإن المقصود من حضور الخصم سماع الدعوى ورد الجواب بإقرار أو إنكار. وهذا نظير مانص عليه الإمام أحمد من أن النكاح يصح بالمراسلة مع أنه في الحضور لا يجوز تراخي القبول عن الإيجاب تراخيًا كثيرًا، فالدعوى التي يصح تراخي جوابها أولى وأحرى. وعلى هذا فالرسول في الدعوى يجوز أن يكون واحدًا، لأنه نائب الحاكم كما كان أنيس نائب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الحد بعد سماع الاعتراف وثبوت الحد، أو يخرج على المراسلة من الحاكم إلى الحاكم، وفيه روايتان، فينظر في قضيته خبيرًا. قال أبو العباس: فما وجدت فيها إلا واحدًا، ثم وجدت هذا منصوصا عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب فإنه نص فيها على أنه إذا   (1) مختصر الفتاوى (601) ، ف (2/ 424) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 أقام بينة بالعين المودعة عند رجل سلمت إليه وقضى على الغائب، قال: ومن قال بغير هذا يقول: له أن ينظر بقدر ما يذهب الكتاب ويجيء، فإن جاء وإلا أخذ إعلام المودع وكلامه محتمل تخيير الحاكم بين أن يقضي على الغائب وبين أن يكاتبه في الجواب (1) . باب كتاب القاضي إلى القاضي ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص، وهو قول مالك وأبي ثور في الحدود، وقول مالك والشافعي وأبي ثور ورواية عن أحمد في القصاص. والمحكوم به إن كان عينًا في بلد الحاكم فإنه يسلمه إلى المدعي، ولا حاجة إلى كتاب، وأما إن كان دينًا أو عينًا في بلد أخرى، فهنا يقف على الكتاب. وههنا ثلاث مسائل متداخلات. مسألة: إحضار الخصم إذا كان غائبًا. ومسألة الحكم على الغائب. ومسألة كتاب القاضي إلى القاضي. ولو قيل: إنما نحكم على الغائب إذا كان المحكوم به حاضرًا، لأن فيه فائدة وهي تسليمه، وأما إذا كان المحكوم به غائبًا فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عنده من شهادة الشهود حتى يكون الحكم في بلد التسليم لكان متوجها. وهل يقبل كتاب القاضي إلى القاضي بالثبوت أو الحكم من حاكم غير معين، مثل: أن يشهد شاهدان أن حاكمًا نافذ الحكم حكم بكذا وكذا؟   (1) اختيارات (338) ، ف (2/ 420) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 القياس: أنه لا يقبل بخلاف ما إذا كان المكاتب معروفا؛ لأن مسألة مراسلة الحاكم ومكاتبته بمنزلة شهادة الأصول للفرع، وهذا لا يقبل في الحكم والشهادات، وإن قبل في الفتاوى والإخبارات (1) . وقد ذكر صاحب المحرر ما ذكره القاضي من أن الخصمين إذا أقرا بحكم الحاكم عليهما خير الثاني بين الإمضاء والاستئناف، لأن ذلك بمنزلة قول الخصم: شهد علي شاهدان ذوي عدل، فهنا قد يقال بالتخيير أيضًا. ومن عرف خطه بإقرار أو إنشاء أو عقد أو شهادة عمل به كالميت، فإن حضر وأنكر مضمونه فكاعترافه بالصوت وإنكاره مضمونة (2) . وذكر قولا في المذهب أنه يحكم بشاهد ميت، وقال الخط كاللفظ إذا عرف أنه خطه وأنه مذهب جمهور العلماء وهو يعرف أن هذا خطه كما يعرف أن هذا صوته. واتفق العلماء على أنه يشهد على الشخص إذا عرف صوته مع إمكان الاشتباه، وجوز الجمهور كمالك وأحمد الشهادة على الصوت من غير رؤية المشهود عليه، والشهادة على الخط أضعف، لكن جوازه قوي أقوى من منعه، وكتابه في غير عمله أو بعد عزله كخبره (3) . ويقبل فيما حكم به لينفذه وإن كان ببلد واحد، وعند شيخنا وفي حق الله تعالى. ويقبل فيما ثبت عنده ليحكم به في مسافة قصر وعنه فوق يوم، وعند شيخنا، وقال خرجته في المذهب وأقل كخبر (4) .   (1) وانظر الإنصاف (11/ 324) . (2) اختيارات (348، 349) ، ف (2/ 420) . (3) فروع (6/ 500) ، ف (2/ 420) . (4) فروع (6/ 500) ، ف (2/ 420) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 قال القاضي: ويقول في كتابه: شهدا عندي بكذا، ولا يكتب ثبت عندي، لأنه حكم بشهادتهما كبقية الأحكام، وقاله ابن عقيل، وغيره، قال الشيخ تقي الدين: والأول أشهر؛ لأنه خبر بالثبوت كشهود الفرع؛ لأن الحكم أمر ونهي يتضمن إلزامًا اهـ (1) . قوله: ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى من يصل إليه كتابه هذا من قضاة المسلمين وحكامهم. قال الشيخ تقي الدين: وتعيين القاضي الكاتب كشهود الأصل، وقد يخبر المكتوب إليه قال الأصحاب في شهود الأصل يعتبر تعيينهم (2) . قال الشيخ تقي الدين في كتاب أصدره إلى السلطان في مسألة الزيارة، وقد تنازع الفقهاء في كتاب الحاكم هل يحتاج إلى شاهدين على لفظه، أم إلى واحد، أم يكتفي بالكتاب المختوم، أو يقبل الكتاب بلا ختم ولا شاهد، على أربعة أقوال معروفة في مذهب أحمد وغيره. نقله ابن خطيب السلامية في تعليقه (3) . باب القسمة وما لا يمكن قسمة عينه إذا طلب أحد الشركاء بيعه وقسم ثمنه بيع وقسم ثمنه، وهو المذهب المنصوص عن أحمد في رواية الميموني، وذكره الأكثرون من الأصحاب. فيقال على هذا: إذا وقف قسطًا مشاعًا مما لا يمكن قسمة عينه فأنتم بين أمرين: إما بيع النصيب الموقوف وإما إبقاء شركة لازمة.   (1) إنصاف (11/ 323) ، ف (2/420) . (2) إنصاف (11/ 324) ، ف (2/ 420) . (3) إنصاف (11/ 327) ، ف (2/ 420) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 وجوابه: إما الفرق، وإما الالتزام. أما الفرق فيقال: الوقف منع من نقل الملك في العين، فلا ضرر في شركة عينه. وأما الشركة في المنافع فيزول الضرر بالمهايات أو المؤاجرة عليها. والالتزام: أن يجوز مثل هذا أو جعل الوقف مفرزا تقديما لحق الشريك، كما لو طلب قسمة العين وأمكن، فإنا نقدم حق الإفراز على حق الوقف، ومن قال هذا فينبغي له أن يقول بقسم الوقف، وإن قلنا: القسمة بيع ضرورة، فقد نص أحمد على بيع أشياء تابعة في الوقف والاعتياض عنها. ومن تأمل الضرر الناشئ من الاشتراك في الأموال الموقوفة لم يخف عليه هذا. ولو طلب أحد الشريكين الإجارة أجبر الآخر عليها، ذكره الأصحاب ولو في الوقف، ولو طلب ادهم العلو لم يجب؛ بل يكرى عليهما على مذهب جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد. وإذا أوجبنا على الشريك أن يؤاجر مع صاحبه فأجر أحد الشريكين العين المؤجرة، بدون إذن شريكه مدة فينبغي أن يستحق أكثر الأمرين من أجرة المثل والأجرة المسماة؛ لأن الأجرة المسماة إذا كانت أكثر فالمستأجر رضى أن ينتفع بها. وعلى قياس ذلك كل من اكترى مال غيره بغير إذنه. ويلزم إجابة من طلب المهايأة بالزمان والمكان. وليس لأحدهما أن يفسخ حتى ينقضي الدور ويستوفي كل منهما حقه منه. ولو استوفى أحدهما نوبته ثم تلفت المنافع في مدة الإجارة فإنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 يرجع على الأول ببدل حصته من تلك المدة التي استوفاها ما لم يكن قد رضي بمنفعته في الزمن المتأخر على أي حال كان، جعلاً للتالف قبل القبض كالتالف في الإجارة (1) . وإذا طلب أحد الشركاء القسمة فيما ينقسم لزم الحاكم إجابته، ولو لم يثبت عنده ملكه كبيع المرهون والجاني. وكلام أحمد في بيع ما لا ينقسم وقسم ثمنه عام فيما يثبت عنده أنه ملكه وما لا يثبت، كجميع الأموال التي تباع، وأن مثل ذلك لو جاءته امرأة فزعمت أنها خلية لا ولي لها، هل يزوجها بلا بينة؟ وقد نص أحمد في رواية حرب فيمن أقام بينة بسهم من ضيعة بيد قوم فهربوا منه تقسم عليهم ويدفع إليه حقه. فقد أمر الإمام أحمد الحاكم أن يقسم على الغائب إذا طلب الحاضر، وإن لم يثبت ملك الغائب (2) . وقال شيخنا في قرية مشاعة قسمها فلا حوها: هل يصح؟ قال: إذا تهايئوها وزرع كل واحد منهم حصته فالزرع له ولرب الأرض نصيبه، إلا أن من ترك نصيبه مالكه فله أخذ أجرة الفضلة أو مقاسمتها (3) . ومن بنى أو غرس فخرج مستحقًا فقلع رجع على شريكه بنصف قيمته في قسمة إجبار إن قلنا بيع كقسمة تراض، وإلا فلا، وأطلق في التبصرة رجوعه، وفيه احتمال، قال شيخنا: إذا لم يرجع حيث لا يكون بيعًا فلا يرجع بالأجرة ولا بنصف قيمة الولد في الغرور إذا اقتسما الجواري أعيانا (4) .   (1) اختيارات (350) فيه زيادات ف (2/، 420) . (2) فروع (6/ 510، 511) واختيارات (352) فيه زيادة ف (2/ 420) . (3) فروع (6/ 511) والإنصاف (11/ 346) ، ف (2/ 420) . (4) فروع (6/ 515) ، ف (2/ 420) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 ولا إجبار في قسمة المنافع، وعنه: بلى واختاره، في المحرر في القسمة بالمكان ولا ضرر، وإن اقتسماها بزمن أو مكان صح جائزًا، واختار في المحرر لازمًا إن تعاقدا مدة معلومة وقيل: لازمًا بالمكان مطلقًا فإن انتقلت كانتقال وقف فهل تنتقل مقسومة أو لا؟ فيه نظر، فإن كانت إلى مدة لزمت الورثة والمشتري قال ذلك شيخنا (1) . والمكيلات والموزونات المتساوية من كل وجه إذا قسمت لا يحتاج فيها إلى قرعة، نعم الابتداء بالكيل أو الوزن لبعض الشركاء ينبغي أن يكون بالقرعة، ثم إذا خرجت القرعة لصاحب الأكثر فهل يوفى جميع حقه، أو بقدر نصيب الأقل؟ الأوجه: أن يوفى الجميع كما يوفى مثله في العقار بين أنصبائه، لأن عليه في التفريق ضررًا، وحقه من جنس واحد، بخلاف الحكومات فإن الخصم لا يقدر إلا بواحدة لعدم ارتباط بعضها ببعض، نعم إن تعدد سبب استحقاقه مثل أن يكون ورث ثلث صبرة وابتاع ثلثها فهنا يتوجه وجهان (2) . وإن كان بينهما أشجار فيها الثمرة أو أغنام فيها اللبن أو الصوم فهو كاقتسام الماء الحادث والمنافع الحادثة. وجماع ذلك انقسام المعدوم، لكن لو نقص الحادث المعتاد فللآخر الفسخ. قال القاضي: رأيت في تعليق أبي حفص العكبري عن أبي عبد الله ابن بطة في قوم بينهم كروم فيها ثمرة لم تبلغ مثل الحصرم فأرادوا قسمتها، فقال: لا تجوز قسمتها وفيها غلة لم تبلغ؛ لأن القسمة لا تجوز إلا بالقيمة، والقسمة كالبيع، وكما لا يجوز بيعة كذلك لا تجوز قسمته، قال: وهذا يدل من كلام أحمد على أنها بيع.   (1) فروع (6/ 508) والإنصاف (11/ 341) ، ف (2/420) . (2) اختيارات (352) ، ف (2/ 420) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 قال أبو العباس: هذا من ابن بطة يقتضي أن بيع الشجرة الذي عليه ثمرة لم تبلغ لا يصح لتضمنه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وهذا خلاف المعروف من المذهب، وخلاف قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من باع ثمرة قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع» . ومفهوم كلامه أن الحصرم إذا بلغ جازت القسمة مع أنها إنما تقسم خرصًا كأنه بيع شاة لبن بشاة ذات لبن. وعلى قياسه يجوز عنده بيع نخلة ذات رطب بنخلة ذات رطب؛ لأن الربوي تابع (1) وإذا اقتسما فحصل الطريق في حصة واحدة ولا منفذ للآخر بطلت لعدم التعديل والنفع. قال شيخنا: كذا طريق ماء، ونصه: هو لهما ما لم يشترطا رده (2) . قال شيخنا: ولا أعلم خلافًا أن من قسم شيئًا يلزمه أن يتحرى العدل، ويتبع ما هو أرضي لله ورسوله، استفاد القسمة بولاية كإمام وحاكم أو بعقد كالناظر والوصي (3) . وأجرة وكيل الضيافة والأمين لحفظ الزرع على المالك والفلاح، كسائر الأملاك، فإذا أخذوا من الفلاح بقدر ما عليه أو ما يستحقه الضيف حل لهم، وإن لم يأخذ الوكيل لنفسه إلا قدر أجرة عمله بالمعروف والزيادة يأخذها المقطع فالمقطع هو الذي ظلم الفلاحين (4) .   (1) اختيارات (351) ، ف (2/ 421) . (2) فروع (6/ 516) ، ف (2/ 421) . (3) فروع (6/ 602) واختيارات (177) ، ف (2/ 421) . (4) اختيارات (352) وفروع (6/ 513) والإنصاف (11/ 355) وعبارة الإنصاف: فعلى المذهب المنصوص أجرة شاهد يخرج لقسم البلاد ووكيل وأمين للحفظ على مالك وفلاح كأملاك ذكره الشيخ تقي الدين رحمه الله قال: فإذا أمانهم الفلاح ما عليه أو يستحقه الضيف حل لهم إلخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 باب الدعاوي والبينات قال ابن القيم رحمه الله: وقد ذكر أصحاب مالك القسامة في الأموال، وذلك فيما إذا أغار قوم على بيت رجل وأخذوا ما فيه والناس ينظرون إليهم ولم يشهدوا على معاينة ما أخذوا ولكن علم أنهم أغاروا وانتهبوا فقال ابن القاسم وابن الماجشون: القول قول المنتهب مع يمينه، وقال مطرف وابن كنانة وابن حبيب: القول قول المنهوب منه مع يمينه فيما يشبه، وقد تقدم ذلك، وذكرنا أنه اختيار شيخ الإسلام، وحكينا كلامه رحمه الله (1) . ويجب أن يفرق بين فسق المدعى عليه وعدالته، فليس كل مدعى عليه يرضى منه باليمين، ولا كل مدع يطالب بالبينة، فإن المدعي به إذا كان كبيرة والمطلوب لا تعلم عدالته فمن استحل أن يقتل أو يسرق استحل أن يحلف، لا سيما عند خوف القتل أو القطع ويرجع (2) باليد العرفية إذا استويا في الخشية أو عدمها. وإن كانت العين بيد أحدهما فمن شاهد الحال معه كان ذلك لوثًا فيحكم له بيمينه (3) . وإن ادعى أن له الآن لم تسمع بينة أنه كان له أمس، أو في يده في أصح الوجهين. وقال الشيخ تقي الدين: إن قال لا أعلم له مزيلاً، قبل كعلم الحاكم أنه يلبس عليه (4) . ولو قال لمدعي دينارًا لا يستحق علي حبة فعند ابن عقيل ليس   (1) الطريق الحكمية (191) ، ف (2/ 421) . (2) لعله يرجع. (3) اختيارات (352، 353) ، ف (2/ 421) . (4) إنصاف (11/ 272) ، ف (2/ 421) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 بجواب لأنه لا يكتفي في دفع الدعوى إلا بنص لا بظاهر، ولهذا لو حلف والله إني لصادق فيما أدعيته عليه أو حلف المنكر إنه لكاذب فيما ادعاه علي لم يقبل، وعند شيخنا: يعم الحبات وما لم يندرج في لفظ حبة من باب الفحوى (1) . وإذا نكل المدعى عليه عن اليمين ردت على المدعي، وقيل: لا ترد؛ بل يحكم عليه بنكوله، وقيل:إن كان المدعى عليه هو العالم بالمدعي، دون المدعي مثل أن يدعي الورثة أو الوصي على غريم للميت دعوى فينكرها فهنا لا يحلف المدعي، بل إذا نكل المنكر قضي عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تضطروا لناس في أيمانهم إلى ما لا يعلمون"، وإذا كان المدعي هو العالم مثل: أن يدعي على ورثة الميت حقًّا عليه يتعلق بتركته فهنا لهم رد اليمين عليه، فإذا لم يحلف لم يأخذ، وأما إذا كان المدعي يدعي العلم والمنكر يدعي العلم فهنا يتوجه القولان (2) . وكل ناكل لا يقضي عليه بالنكول كاللعان ونحوه فهل يخلى سبيله أو يحبس حتى يقر أو يحلف على وجهين: أحدهما: يخلى سبيله، والوجه الثاني: يحبس حتى يقر أو يحلف، قال الشيخ تقي الدين رحمه الله: إذا قلنا يحبس فينبغي جواز ضربه كما يضرب الممتنع من اختيار إحدى نسائه إذا أسلم والممتنع من قضاء الدين كما يضرب المقر بالمجهول حتى يفسر (3) . والدعوى في التهمة كسرقة يعاقب المدعي عليه الفاجر، وأنه لا يجوز إطلاقه ويحبس المستور.. وقال في الأحكام السلطانية: يحبسه وال. قال: وظاهر كلام الإمام أحمد: وقاض أيضًا، وأنه يشهد له قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} إلى قوله: {الْكَاذِبِينَ} حملنا على   (1) فروع (6/ 467) ، ف (2/421) وتقدمت. (2) مختصر الفتاوى (607) ، ف (2/ 422) . (3) إنصاف (12/ 113) ، ف (2/ 422) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 الحبس لقوة التهمة، وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله الأول قول أكثر العلماء، واختار تعزير مدع بسرقة ونحوها على من يعلم براءته واختار بأن خبر من له رائي جني بأن فلانا سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة كما تقدم (1) . قال الإمام أحمد في رواية مهنا: في الرجل يقيم الشهود أيستقيم للحاكم أن يقول: احلف؟ فقال: قد فعل ذلك علي بن أبي طالب، قيل: ويقيم ذلك؟ قال: قد فعل ذلك علي بن أبي طالب. وقال في رواية إبراهيم بن الحارث في رجل جاء بشهود على حق فقال المدعى عليه: استحلفه لم يلزم المدعي اليمين. فحمل القاضي الرواية الأولى على ما إذا ادعى على صبي أو مجنون أو غائب، والثانية على ما إذا ما ادعى على غيره. وحمل أبو العباس الرواية الأولى على أن للحاكم أن يفعل ذلك إذا أراد مصلحة لظهور ريبة في الشهود؛ لا أنه يجب مطلقا، والثانية على أنه لا يجب مطلقًا، فلا منافاة بين الروايتين كما قلنا في تفريق الشهود بين "أين"، و"حتى" (2) و"كيف"؟ فإن الحاكم يفعل ذلك عند الريبة ولا يجب فعله في كل شهادة وكذلك تغليظ اليمين للحاكم أن يفعله عند الحاجة (3) . قصة أبي قتادة وخزيمة تقتضي الحكم بالشاهد في الأموال. وقال القاضي في التعليق: الحكم بالشاهد الواحد غير متبع، كما قاله المخالف في الهلال في الغيم وفي القابلة على أنا لا نعرف الرواية بمنع الجواز.   (1) إنصاف (11/ 260) وفروع (6/480) ، ف (2/422) . (2) كذا بالأصل ولعله ومتى. (3) اختيارات (343، 344) ، ف (2/ 422) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 قال أبو العباس: وقد يقال: اليمين مع الشاهد الواحد حق للمستحلف، وللإمام فله أن يسقطها وهذا أحسن (1) . ولو قيل: إنه يحكم بشهادة امرأة واحدة مع يمين الطالب في الأموال لكان متوجها؛ لأنهما أقيما مقام الرجل في التحمل. وتثبت الوكالة ولو في غير المال بشاهد ويمين وهو رواية عن أحمد والإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة بدليل الأمة السوداء في الرضاع، فإن عقبة بن الحارث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن المرأة أخبرته أنها أرضعتهما" فنهاه عنها من غير سماع من المرأة، وقد احتج به الأصحاب في قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، فلولا أن الإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة ما صحت الحجة، يؤيده: أن الإقرار بحكم الحاكم بالعقد الفاسد يسوغ للحاكم الثاني أن ينفذه مع مخالفته لمذهبه (2) . وقال ابن القيم رحمه الله في شهادة الرهن بقدر الدين: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدره فالقول قول المرتهن مع يمينه ما لم يدع أكثر من قيمة الرهن عند مالك وأهل المدينة، وخالفه الأكثرون ومذهبه أرجح، واختاره شيخنا رحمه الله (3) . قال الأصحاب: ومن ادعى أنه اشترى أو أتهب من زيد عبده، وادعى آخر كذلك، أو ادعى العبد العتق، وأقاما بينتين بذلك صححنا أسبق التصرفين وإن علم التأريخ، وإلا تعارضتا فيتساقطان أو يقتسماه، أو يقرع على الخلاف، وعن أحمد: تقدم بينة العتق.   (1) اختيارات (363) ، ف (2/ 422) . (2) اختيارات (363) ، ف (2/ 422) . (3) الطرق الحكمية (213) ، ف (2/ 422) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 قال أبو العباس: الأصوب أن البينتين لم يتعارضا فإنه من الممكن أن يقع العقدان، لكن يكون بمنزلة ما لو زوج الوليان المرأة وجهل السابق، فإما أن يقرع بينهما أو يبطل العقدان بحكم أو بغير حكم. ولو قامت بينة بأن الولي أجر حصة مولية بأجرة مثلها وبينة بنصفها أخذ بأعلى البينتين قاله طائفة من العلماء. قال في المحرر: ولو شهد شاهدان أنه أخذ من صبي ألفا، وشاهدان على رجل آخر أنه أخذ من هذا الصبي ألفا لزم الولي أن يطالبهما بالألفين، إلا أن تشهد البينتان على ألف بعينها فيطلب الولي ألفا من أيهما شاء. قال أبو العباس: الواجب أن يقرع هنا إذا لم يكن فعل كل منهما مضمنا، نقل مهنا عن أحمد في عبد شهد له رجلان بأن مولاه باعه نفسه بألف درهم وشهد لمولاه رجل آخر أنه باعه بألفين، يعتق العبد، ويحلف لمولاه أنه لم يبعه إلا بألف. قال القاضي: فقد نص على الشاهد واليمين في قدر العوض الذي وقع العتق عليه. قال أبو العباس: بل اختلف الشاهدان، وليس هذا مما يتكرر فلم يجعل للسيد أن يحلف مع شاهده الأكبر لاختلافهما كما لا يحلف مع شاهده بالقيمة الكثيرة (1) . لو ادعى الزوجية اثنان وأقرت لهما وأقاما بينتين قدم أسبقهما فإن جهل عمل بقول الولي، وقال في الرعاية، يعمل بقول الولي المجبر، وقال في المغني: يسقطان ويحال بينهما ولم يذكر الولي.   (1) اختيارات (353، 354) ، ف (2/ 422) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 وقال الشيخ تقي الدين: مقتضى كلام القاضي أنها إذا كانت بيد أحدهما: مسألة الداخل والخارج (1) . وإن شهد أن هذا ابنه لا وارث له غيره وبينة أن هذا ابنه لا وارث له غيره قسم المال بينهما لأنه لا تنافي ذكره في عيون المسائل والمغني، قال الشيخ في فتاويه، إنما احتاج إلى إثبات لا وارث سواه، لأنه يعلم ظاهرا، فإن بحكم العادة يعلمه جاره ومن يعرف باطن أمره؛ بخلاف دينه على الميت لا يحتاج إلى إثبات «لا دين عليه سواه» لخفاء الدين؛ ولأن جهات الإرث يمكن الاطلاع على يقين انتقالها (2) . وإذا مات رجل وادعى آخر أنه وارثه قال في المحرر: حكم له بتركته وإن كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة وإلا ففي الاستكشاف معها وجهان: انتهى، وقال الشيخ تقي الدين رحمه الله: لا بد أن تقيد المسألة بأن لا يكون الميت ابن سبيل ولا غريبا (3) . وإن تنازع الزوجان أورثتهما أو أحدهما وورثة الآخر ولو أن أحدهم مملوك نقله مهنا في قماش البيت.. وكذا صانعان في آلة دكانهما فآلة كل صنعة لصانعها. وقال القاضي في المسألتين: إذا كان بيدهما المشاهدة فبينهما وإن كان بيد أحدهما المشاهدة فله، ويتوجه طرده فيما تقدم. قال شيخنا: وكلام القاضي في التعليق يقتضي أن المدعي متى كان بيديهما وإن لم يكونا بدكان كالزوجين.   (1) الإنصاف (12/ 125) ، ف (2/ 422) . (2) فروع (6/ 557) ، ف (2/ 423) . (3) إنصاف (12/ 19، 20) ، ف (2/ 424) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 فصل وإن كانت بيد ثالث فادعاها لنفسه حلف لكل واحد يمينًا، فإن نكل أخذها منه وبدلها واقترعا عليها، وقيل: يقتسمانها كَناكِلٍ مقر لهما. وقيل: من قرع منهما وحلف فله. وقال شيخنا: قد يقال: تجزئ يمين واحد (1) .   (1) فروع (4/ 519) ، ف (2/ 424) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 كتاب الشهادات ويجب على من طلبت من الشهادة أداؤها، بل إذا امتنع الجماعة من الشهادة أثموا كلهم باتفاق العلماء، وقدح ذلك في دينهم وعدالتهم (1) . والطلب العرفي أو مقتضى الحال في طلب الشهادة كاللفظي، علمها المشهود له أو لا؟ وهو ظاهر الخبر وخبر "يشهد ولا يستشهد" محمول على شهادة الزور. وإذا أدى العبد شهادة قبل الطلب قام بالواجب، وكان أفضل، كمن عنده أمانة أداها عند الحاجة، والمسألة تشبه الخلاف في الحكم قبل الطلب. وإذا غلب على ظن الشاهد أنه يمتحن فيدعى إلى القول المخالف للكتاب والسنة أو إلى محرم فلا يسوغ له أداء الشهادة وفاقا، اللهم إلا أن يظهر قولا يريد به مصلحة عظيمة (2) . ويجوز أخذ الأجرة على أداء الشهادة وتحملها، ولو تعينت إذا كان محتاجًا، وهو قول في مذهب أحمد، ويحرم كتمها ويقدح في عدالته (3) .   (1) مختصر الفتاوى (604) ، ف (2/ 424) . (2) اختيارات (354) ، ف (2/ 424) . (3) اختيارات (354) ، ف (2/ 424) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 الشهادة سبب موجب للحق، وحيث امتنع أداء الشهادة امتنعت كتابتها في ظاهر كلام أبي العباس والشيخ أبي محمد المقدسي (1) . ويجب على الشاهد أداء الشهادة إذا طلبت منه ولو كان الشهود أكثر من نصاب الشهادة. وأما إن كان المطلوب لا يتم النصاب إلا به فقد تعينت عليه إجماعا، إلا أن تكون الشهادة بجوز أو كذب ونحوه فلا يجوز أن يعان الظالم على ذلك لا بشهادة ولا غيرها (2) . ولا تقبل الشهادة إلا بلفظ الشهادة فإن قال أعلم أو أُحق لم يحكم به. وعنه: يصح، ويحكم بها، اختارها أبو الخطاب والشيخ تقي الدين (3) . قال شيخنا: فاشتراط لفظ الشهادة لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من الصحابة، ولا يتوقف لفظ الشهادة لغة على ذلك وبالله التوفيق (4) . ولا يشترط في أداء الشهادة لفظة أشهد وهو مقتضى قول أحمد، قال علي بن المديني، أقول: إن العشرة في الجنة، ولا أشهد، فقال أحمد: متى قلت فقد شهدت، وقال ابن هانئ لأحمد: تفرق بين العلم والشهادة في أن العشرة في الجنة قال: لا، وقال الميموني: قال أبو عبد الله: وهل معنى القول أو الشهادة إلا واحدا؟ قال أبو طالب: قال أبو عبد الله: العلم شهادة، وزاد أبو بكر بن حماد قال أبو عبد الله:   (1) اختيارات (354) ، ف (2/ 424) (2) مختصر الفتاوى (604، 605) . (3) إنصاف (12/ 108) ، ف (2/ 424) . (4) الطرق الحكمية (204) ، ف (2/ 424) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [86/58] ، وقال: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [81/12] ، وقال المروذي: أظن أني سمعت أبا عبد الله يقول: هذا جهل أقول: فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أشهد أنها بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أبو العباس: ولا أعلم نصا يخالف هذا ولا يعرف عن صحابي ولا تابعي اشتراط لفظ أشهد. ويعرض في الشهادة إذا خاف الشاهد من إظهار الباطن ظلم المشهود عليه، وكذلك التعريض في الحكم إذا خاف الحاكم من إظهار الأمر وقوع الظلم عليه، وكذلك التعريض في الفتوى والرواية كاليمين وأولى، إذ اليمين خبر وزيادة (1) . وإذا شهد أن العين كانت ملكه حين خرجت من يده بغير حق حكم له بها. وإما إن شهد أنها كانت ملكه فقط فهل يحكم له بذلك؟ على وجهين في مذهب أحمد، وقولين للشافعي. وإن شهد بسبب الملك وظهوره مثل: أن يشهد أنه ابتاعه، أو ورثه أو حكم له به الحاكم الفلاني، فإن الحاكم هنا يحكم باستصحاب الحال إذا لم يثبت معارض راجح، والشاهد لا يشهد بناء على استصحاب الحال، ولا أعلم في الأولى خلافا أن الحاكم يحكم باستصحاب الحال باتفاق العلماء. وأما صورة الخلاف فإن البينة لما شهدت بالملك في الماضي وسكتت عنه في الحال كان هذا ريبة تجوز أن البينة علمت بالزوال وسكتت عن ذلك، وأما إذا شهدت بسبب الملك لم يكن فيه ريبة، والأصل بقاء الملك، وإذا شهدت أنه لم يزل ملكه إلى أن غصبت منه   (1) اختيارات (362) فيها زيادة ف (2/424) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 أو استعيرت أو زالت يده عنه بغير حق، كما لو شهدت له أنه لم يزل ملكه عنه إلى أن مات فإنه يحكم به للورثة حتى تقوم حجة بما يخالف ذلك. وكذلك هناك يحكم للذي كان حائزًا إلى حين زوال حوزه، كزوال الملك، ولا أعلم في هذا خلافًا، ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، فإن الغاصب والمستعير وغيرهما إذا جحدوا ملك غيرهم فشهدت البينة أنه لم يزل ملكه إلى حين الغصب، مثلاً احتاجوا إلى إثبات الانتقال إليهم، وإلا فالأصل بقاء الملك، وقد علم أن زوال اليد بالعدوان فلا يقبل أن اليد يده إذا عرف من مستندها ما يصلح مستندًا له من زوال اليد المحققة والانتقال إلى يد عادية، أما هذه البينة أو غيرها فلا يكلف رب البينة بقاء الملك إلى حين الدعوى لتعذر ذلك أو لعسره وفيه معونة عظيمة لكل سارق وناهب. يوضح ذلك أن الحاكم يحكم باستصحاب اليد وبغيرها من الطرق التي تفيد غالب الظن، والشاهد لا يشهد إلا بالعلم؛ لأن الحاكم لا بد له من فصل الحكومة فيفصلها لأقوى الجانبين حجة (1) . قال أحمد في رواية حرب: من كان أخرس فهو أصم لا تجوز شهادته قيل له فإن كتبها؟ قال: لم يبلغني في هذا شيء، واختار الجد قبول الكتابة، ومنعها أبو بكر. وقول أحمد: فهو أصم لا تجوز شهادته، يقتضي أنه منع شهادته لعدم سماعه فهذا منتف فيما رآه. قال الأصحاب: تجوز شهادة الأعمى في المسموعات (2) وفيما رآه   (1) مختصر الفتاوى (604) ، ف (2/ 424) . (2) عبارة الفروع: فيما سمعه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 قبل عماه إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه (1) وإن لم يعرفه إلا بعينه (2) فوجهان وكذلك الوجهان إذا تعذر حضور المشهود عليه أو به لموت أو غيبة أو حبس، ويشهد البصير على حليته، إذ في الموضعين تعذرات الرؤية من الشاهد. فأما الشاهد نفسه: هل له أن يعين ما رآه وكتب صفته أو ضبطها ثم رأى شخصًا بتلك الصفة؟ هذا أبعد. وهو شبيه بخطه إذا رآه ولم يذكر الشهادة. قال القاضي: فإن قال الأعمى: أشهد أن لفلان هذا على فلان هذا ولم يذكر اسمه ونسبه أو شهد البصير على رجل من وراء حائط ولم يذكر اسمه ونسبه لم يصح ذكره محل وفاق. قال أبو العباس: قياس المذهب أنه إذا سمع صوته صحت الشهادة عليه أداء، كما تصح تحملاً، فإنا لا نشترط رؤية المشهود عليه حين التحمل ولو كان شاهدًا بصيرًا فكذلك لا يشترط عند الأداء، وهذا نظير إشارة البصير الحاضر إذا سماه ونسبه، وهو لا يشترط في أصح الوجهين فكذلك إذا أشار إليه لا تشترط رؤيته. وعلى هذا فتجوز شهادة الأعمى على من سمع صوته وعرفه وإن لم يعرف اسمه ونسبه ويؤديها عليه إذا سمع صوته (3) . ويشهد بالاستفاضة ولو عن واحد تسكن نفسه إليه اختاره الجد (4) .   (1) في الفروع زيادة «وما يتميز به» . (2) وفي الفروع: «وإن عرفه يقينا بعينه أو صوته فوصفه للحاكم وشهد» فوجهان ونصه: يقبل، وقال شيخنا: وكذا إن تعذر رؤية العين المشهود لها أو عليها أو بها لموت أو غيبة إنصاف (12/ 62) . (3) اختيارات (360، 361) ، ف (2/ 424) . (4) اختيارات (355) ، ف (2/ 424) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 وفي التعليق وغيره: الشهادة بالاستفاضة خبر لا شهادة وأنها تحصل بالنساء والعبيد، وقال شيخنا: هي نظير أصحاب المسائل عن الشهود على الخلاف (1) . قال القاضي: لا تصح الشهادة بمجهول ولا لمجهول، قال أبو العباس: وفي هذا نظر؛ بل تصح الشهادة بالمجهول ويقضي له بالمتيقن، وللمجهول يصح في مواضع كثيرة، أما حيث يقع الحق مجهولاً فلا ريب فيها، كما لو شهد بالوصية بمجهول أو لمجهول، أو شهد باللقطة أو اللقيط، والمجهول نوعان: مبهم كأحد هذين، ومطلق كثوب وعبد، وكذلك في البيع والإجارة والصداق، كما قلنا في الواجب المخير والمطلق. قال أبو العباس: وقد سئلت عن بينة شهدت بوقف سهم من دار معينة من دور، ثم تهدمت وصارت عرصة فلم تعرف عين تلك الدار التي فيها السهم ولا عدد الدور، فقلت: يحتمل أن يقرع قرعتين، قرعة لتعيين الدار، وقرعة لتعيين ذلك السهم وكذلك في كل حق اختلط بغيره وجهلنا القدر فيقرع للمقدر فيكتب رقاعًا بأسماء العدد ثم يخرج لعدد الحق الفلاني (2) . وكذا تجوز الشهادة على المزارعة لمن لم ير جوازها لأن ذلك محل اجتهاد. وأما الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها فحرام (3) . وقال الشيخ تقي الدين: ولا يعتبر في أداء الشهادة قوله: وأن   (1) فروع (6/ 563) والإنصاف (12/ 13) . (2) اختيارات (355) ، ف (2/ 424) . (3) اختيارات (132) ، ف (2/ 424) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 الدين باق في ذمة الغريم إلى الآن، بل يحكم الحاكم باستصحاب الحال إذا ثبت عنده سبق الحق إجماعا (1) . فصل ذكر القاضي أن الخلاف عند الأصحاب في الشهادة شهادة الصبيان على الجراح الموجبة للقصاص، فأما الشهادة بالمال فلا تقبل، قال الشيخ تقي الدين: وهذا عجيب من القاضي؛ فإن الصبيان لا قود عليهم، وإنما الشهادة بما يوجب المال، ذكره في القواعد الأصولية (الإنصاف 12/ 38) . وقال شيخنا في الذمي إذا زنا بالمسلمة قتل، ولا يرفع عنه القتل الإسلام، ولا يشترط فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم بل يكفي استفاضة ذلك واشتهاره هذا نص كلامه (2) . وإذا حضر الموت وليس عنده مسلم فله أن يشهد من حضره من أهل الذمة في الوصية ويحلفوا إذا شهدوا وهذا قول جمهور السلف وهو قول إمام الأئمة أحمد وأبي عبيد، وعليه يدل القرآن والسنة. وهذا مبني على أصل وهو أن الشهادة عند الحاجة يجوز فيها مثل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال (3) . قال شيخنا رحمه الله: وقول الإمام أحمد في قبول شهادتهم في هذا الموضع (4) وهو ضرورة يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا.   (1) إنصاف (11/ 272) وتقدمت ف (2/ 424) . (2) الطرق الحكمية (202) وتقدم ف (2/ 424) . (3) مختصر الفتاوى (604) ، ف (2/ 425) . (4) يعني في السفر إذا لم يوجد أحد من المسلمين انظر الطرق الحكمية (182) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 قال الشيخ: ويؤيد هذا ما ذكره القاضي وغيره، محتجًا به وهو في الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد، أن رجلاً من المسلمين خرج فمر بقرية فمرض ومعه رجلان من المسلمين: فدفع إليهما ماله، ثم قال: ادعوا لي من أشهده على ما قبضتماه، فلم يجد أحدًا من المسلمين في تلك القرية فدعوا أناسًا من اليهود والنصارى فأشهدوهم على ما دفع إليهما وذكر القصة فانطلقوا إلى ابن مسعود فأمر اليهود والنصارى أن يحلفوا بالله لقد ترك من المال كذا وكذا، ولشهادتنا أحق من شهادة هذين المسلمين ثم أمر أهل المتوفى أن يحلفوا أن شهادة اليهود والنصارى حق، فحلفوا فأمرهم ابن مسعود أن يأخذوا من المسلمين ما شهد به اليهودي والنصراني، وذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه (1) . قال شيخنا رحمه الله: وهل تعتبر عدالة الكافرين في الشهادة بالوصية في دينهما؟ عموم كلام الأصحاب يقتضي أنها لا تعتبر، وإن كنا إذا قبلنا شهادة بعضهم على بعض اعتبرنا عدالتهم في دينهم (2) . وشهادة الفاسق مردودة بنص القرآن واتفاق المسلمين، وقد يجيز بعضهم الأمثل فالأمثل، من الفساق عند الضرورة إذا لم يجد عدول ونحو ذلك، وأما قبول شهادة الفاسق فهذا لم يقله أحد من المسلمين (3) . وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [282/2] يقتضي أنه يقبل في الشهادة على حقوق الآدميين من رضوه شهيدًا بينهم ولا ينظر إلى عدالته، كما يكون مقبولاً عليهم فيما ائتمنوه عليه. وقوله تعالى: في آية الرجعة والوصية {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ}   (1) الطرق الحكمية (192) ، ف (2/ 425) . (2) الطرق الحكمية (193) ، ف (2/ 425) . (3) مختصر الفتاوى (604) ، ف (2/ 425) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 [106/5] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [2/65] ولم يصف الرجلين نفسهما بأنهما عدل بل وصفهما بأنهما ذوا عدل أي صاحبا عدل. والعدل في المقال هو الصدق والبيان الذي هو ضد الكذب والكتمان كما بينه تعالى في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [102/6] والعدل في كل زمان ومكان وفي كل طائفة بحسبها، فيكون الشهيد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدله على وجه آخر. وبهذا يمكن الحكم بين الناس وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة ألا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كان الصحابة رضي الله عنهم لبطلت الشهادات كلها أو غالبها. وقال أبو العباس في موضع آخر: إذا فسر الفاسق في الشهادة بالفاجر وبالمتهم فينبغي أن يفرق بين حال الضرورة وعدمها كما قلنا في الكفار. وقال أبو العباس في موضع آخر: ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة مثل: الجند، وجفاة البدو، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل. وله أصول، منها قبول شهادة أهل الذمة في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم، وشهادة بعضهم على بعض في قول وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال، وشهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه الرجال. ويظهر ذلك بالمحتضر في السفر إذا حضره اثنان كافران واثنان مسلمان يصدقان وليس بملتزمين للحدود، أو اثنان مبتدعان، فهاذان خير من الكافرين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 والشروط التي في القرآن إنما هي في تحمل الشهادة، لا في الأداء. وينبغي أن نقول في الشهود ما نقول في المحدثين، وهو أنه من الشهود من تقبل شهادته في نوع دون نوع أو شخص دون شخص، كما أن في المحدثين كذلك. ونبأ الفاسق ليس بمردود بل هو موجب للتبين والتثبت كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ *} [6/49] وفي القراءة الأخرى: {فتثبتوا} فعلينا التبين والتثبت عند خبر الفاسق الواحد ولم نؤمر به عند خبر الفاسقين، وذلك أن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد، أما إذا علم أنهما لم يتواطئا فهذا قد يحصل به العلم. وترد الشهادة بالكذبة الواحدة، وإن لم نقل هي كبيرة وهي رواية عن الإمام أحمد. ومن شهد على إقرار كذب مع علمه بالحال أو تكرر منه النظر إلى الأجنبيات والقعود في مجالس تنتهك فيها المحرمات الشرعية قدح ذلك في عدالته (1) ولا يستريب أحد فيمن صلى محدثًا أو إلى غير القبلة، أو بعد الوقت أو بلا قراءة أنها كبيرة. ويحرم اللعب بالشطرنج، وهو قول أحمد وغيره من العلماء، كما لو كان بعوض أو تضمن ترك واجب أو فعل محرم إجماعًا وهو شر من النرد وقاله مالك. ومن ترك الجماعة فليس عدلاً، ولو قلنا هي سنة.   (1) وعبارة الفروع: النظر إلى الأجنبيات والقعود له بلا حاجة شرعية قدح في عدالته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 وتحرم محاكاة الناس على وجه السخرية المضحكة ويعزر فاعلها هو ومن يأمره بها، لأنه أذى. ومن دخل قاعات البغايا، فتح على نفسه باب الشر وصار من أهل التهم عند الناس؛ لأنه اشتهر عمن اعتاد دخولها وقوعه في مقدمات الجماع المحرم أو فيه. والعشرة المحرمة، والنفقة في غير الطاعة، وعلى كافل الأمرد منعه منها، ومن عشرة أهلها ولو لمجرد خوف وقوع الصغائر فقد بلغ عمر رضي الله عنه: أن رجلاً تجتمع إليه الأحداث فنهى عن الاجتماع به لمجرد الريبة. وتقبل شهادة الكافر على المسلم في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيره، وهو مذهب أحمد، ولا تعتبر عدالتهم، وإن شاء لم يحلفهم بسبب حق الله. ولو حكم حاكم بخلاف آية الوصية ينقض حكمه؛ فإنه إنما خالف نص الكتاب بتأويلات سمجة. وقول أحمد: أقبل شهادة أهل الذمة إذا كانوا في سفر ليس فيه غيرهم هذه ضرورة. يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة، حضرا، وسفرا، وصية، وغيرها وهو متجه. كما تقبل شهادة النساء في الحدود إذا اجتمعن في العرس، أو الحمام ونص عليه أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه. ونقل ابن صدقة في الرجل يوصي بأشياء لأقاربه ويعتق بعض عبيده ولا يحضره إلا النساء، هل تجوز شهادتهن؟ قال: نعم، تجوز شهادتهن في الحقوق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 والصحيح قبول شهادة النساء في الرجعة فإن حضورهن عندها أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق في الديون. وعن أحمد في شهادة الكفار في كل موضع ضرورة غير المنصوص عليه روايتان، لكن التحليف هنا لم يتعرضوا له فيمكن أن يقال: لا تحليف، لأنهم إنما يحلفون حيث تكون شهادتهم بدلا في التحمل، بخلاف ما إذا كانوا أصولاً قد علموا من غير تحمل. وقال أبو العباس في موضع آخر: ولو قيل: تقبل شهادتهم مع أيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون لكان وجها، وتكون شهادتهم بدلا مطلقا. وإذا قبلنا شهادة الكفارة في الوصية في السفر فلا يعتبر كونهم من أهل الكتاب وهو ظاهر القرآن. وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، وهو رواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب في انتصاره ومذهب أبي حنيفة وجماعة من العلماء. ولو قيل: إنهم يحلفون مع شهادة بعضهم على بعض كما يحلفون على شهادتهم على المسلمين، في وصية السفر لكان متوجهًا. وشهادة الوصي على الميت مقبولة، قال في المغني: لا نعلم فيه خلافًا. قال أبو العباس: إلا أن يقال: قد يستفيد بهذه الشهادة نوع ولاية في تسليم المال، ومثله شهادة المودع يقول: أودعنيها فلان، ومالكها فلان. والواجب في العدو أو الصديق ونحوهما: أنه إن علم منهما العدالة الحقيقية قبلت شهادتهما وأما إن كانت عداوتهما ظاهرة مع إمكان أن يكون الباطن بخلافه لم تقبل، ويتوجه هذا في الأب ونحوه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 وتقبل شهادة البدوي على القروي في الوصية في السفر، وهو أخص من قول من قبلها مطلقا، أو منع منها مطلقًا، وعلل القاضي وغيره منع شهادة البدوي على القروي بأن العادة أن القروي إنما يشهد على أهل القرية دون أهل البادية. قال أبو العباس: فإذا كان البدوي قاطنًا مع المدعيين في القرية قبلت شهادته لزوال هذا المعنى، فيكون قولا آخر في المسألة مفصلاً. وقال أبو العباس في قوم أجروا شيئًا: لا تقبل شهادة أحد منهم على المستأجر لأنهم وكلاء أو أولياء (1) . ولا تشترط الحرية (2) في الشهادة، وهو رواية في مذهب أحمد. وظاهر كلام أبي العباس: ولو في الحدود والقصاص، وهو مذهب أحمد. والشهادة في مصرف الوقف مقبولة، وإن كان مستندها الاستفاضة في أصح القولين (3) . ما لا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة والحيض ونحوه فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة.. قال الشيخ تقي الدين قال أصحابنا: والاثنتان أحوط من المرأة الواحدة (4) .   (1) وعبارة الإنصاف قال الشيخ تقي الدين في قوم في ديوان أجروا شيئًا لا تقبل شهادة أحد منهم على مستأجره لأنهم وكلاء أو ولاة، قال: ولا شهادة ديوان الأموال السلطانية على الخصوم اهـ الإنصاف (12/ 73) . (2) وفي الإنصاف (12/ 60) ولا تشترط لكن ليس عن تقي الدين، وآخر الكلام في الاختيارات يؤكد سقوط لام النفي. (3) اختيارات (356-361) أكثرها ليس موجودا في المجموع وهي شاملة ف (2/ 425) . (4) إنصاف (12/ 71) ، ف (2/ 425) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 ونقل جماعة: من ترك الوتر ليس عدلاً، وقاله شيخنا في الجماعة على أنها سنة، لأنه يسمى ناقص الإيمان (1) . ويعتبر أيضًا اجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة.. وهي ما فيه حد في الدنيا أو وعيد نص عليه، وعند شيخنا، أو غضب أو لعنة أو نفي الإيمان، قال: ولا يجوز أن يقع نفي الإيمان لأمر مستحب، بل لكمال واجب (2) . ومن أتى فرعًا مختلفًا فيه يعتقد تحريمه ردت شهادته نص عليه وقيل: لا، كمتأول. وفيه في الإرشاد: إلا أن يجيز ربا الفضل أو لا يرى الماء من الماء لتحريمهما الآن، وذكرهما شيخنا مما خالف النص من جنس ما ينقض فيه حكم الحاكم. وقال الشيخ تقي الدين: اختلف الناس في دخول الفقهاء في أهل الأهواء فأدخلهم القاضي وغيره وأخرجهم ابن عقيل وغيره (3) . وعنه: يفسق متأول لم يسكر من نبيذ، اختاره في الإرشاد والمبهج، قال الزركشي: وعلله ابن الزاغوني.. وفيه في الواضح روايتان واختلف فيه كلام الشيخ تقي الدين (4) . ومن أخذ بالرخص فنصه: يفسق وذكره ابن عبد البر إجماعًا، وقال شيخنا كرهه العلماء (5) .   (1) فروع (6/ 561) ، ف (2/ 425) . (2) فروع (6/ 564) ، ف (2/ 425) . (3) فروع (6/ 570) وإنصاف (12/ 50) ، ف (2/ 425) . (4) إنصاف (12/ 49) ، ف (2/ 426) . (5) فروع (6/ 571) والإنصاف (12/ 50) ، ف (2/ 426) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 ومن قصد خروج الريح منه ليضحك الجماعة، فإنه يعزر على ذلك، وترد شهادته فقد ذكر العلماء أن هذا عمل قوم لوط، ومن لا يستحيي من الناس لا يستحيي من الله، وقد قال طائفة في قول تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [29/29] أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم، وينصبون مزالق يزلق بها المارة ونحو ذلك (1) . "إن الذي يحدث ليضحك الناس ويل له ثم ويل له" والمصر على ذلك فاسق، مسلوب الولاية، مردود الشهادة (2) . إذا مات الرجل وقد قال لأولاده: إنه طلق امرأته من مدة، واتفقوا مع بعض الشهود من أصحاب الميت فشهدوا بذلك وهم من أصحابه المباطنين له، وكانت المرأة مقيمة معه إلى أن توفي يخلو بها وهم يعلمون ذلك في العادة؛ فإن شهادتهم مرودة، لأن إقرارهم له على خلوتها بعد الطلاق يجرح عدالهم (3) . قال ابن القيم رحمه الله في الحكم بالتواتر: وإن لم يكن المخبرون عدولا ولا مسلمين. قال شيخنا: وهذا يقتضي أن القاضي إذا حصل له العلم بشهادة الشهود لم يحتج إلى تزكية (4) . موانع الشهادة وعدد الشهود ولو شهد أحد الغانمين بشيء من المغنم قبل القسمة فإن قلنا: ملكوه لم تقبل شهادته، كشهادة أحد الشريكين للآخر، وإن قلنا: لم   (1) مختصر الفتاوى (605) ، ف (2/ 426) . (2) مختصر الفتاوى (605) ، ف (2/ 426) . (3) مختصر الفتاوى (607) ، ف (2/426) وتقدمت. (4) الطرق الحكمية (200) ، ف (2/426) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 تملك قبلت ذكره القاضي في خلافه، وقال الشيخ تقي الدين: وفي قبولها نظر وإن قلنا لم تملك، لأنها شهادة تجر نفعًا (1) . الشهادة على الشهادة وقال الشيخ تقي الدين: الفرع يقول: أشهد على فلان أنه يشهد له، أو أشهد على شهادة فلان بكذا، فإن ذكر لفظ المسترعي فقال: أشهد على فلان أنه قال: إني أشهد فهو أوضح، فالحاصل أن الشاهد بما سمع: تارة يؤدي اللفظ، وتارة يؤدي المعنى. وقال أيضا: والفرع يقول: أشهد أن فلانًا يشهد، أو بأن فلانًا يشهد فهو أولى رتبة، والثانية: أشهد أنه يشهد أو بأن يشهد، والثالث: أشهد على شهادته (2) . وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى أو بدله بلا نزاع وعنه: يغرمون كل المهر، وذكر الشيخ تقي الدين رحمه الله: يغرمون مهر المثل (3) . لو شهد بعد الحكم بمناف للشهادة الأولى فكرجوعه وأولى، قاله الشيخ تقي الدين (4) . نقل الشيخ أبو محمد في الكافي عن أبي الخطاب أن الشهود إذا بانوا بعد الحكم كافرين أو فاسقين وكان المحكوم به إتلافا فإن الضمان عليهم دون المزكين والحاكم قال: لأنهم فوتوا الحق على مستحقه.   (1) إنصاف (12/ 76) ، ف (2/ 426) قلت: وتقدم بعض ما يتعلق بعدد الشهود وأصنافهم، وكذلك أن من موانع الشهادة شهادة الدلالين على المستأجر، وشهادة الوصي على الميت إن كان قد يستفيد بها، وشهادة العدو على عدوه. (2) إنصاف (12/ 92) ، ف (2/ 426) . (3) إنصاف (12/ 98) ، ف (2/ 426) . (4) إنصاف (12/ 104) ، ف (2/ 426) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 بشهادتهم الباطلة، قال أبو العباس: هذا ينبني على أن الشاهد الصادق إذا كان فاسقًا أو متهمًا بحيث لا يحل للحاكم الحكم بشهادته: هل يجوز له أداء الشهادة؟ إن جاز له أداء الشهادة بطل قول أبي الخطاب، وإن لم يجز كان متوجهًا لأن شهادتهم حينئذ فعل محرم، وإن كانوا صادقين كالقاذف الصادق. وإذا جوزنا للفاسق أن يشهد جوزنا للمستحق أن يشهده عند الحاكم ويكتم فسقه، وإلا فلا. وعلى هذا فلو امتنع الشاهد الصادق العدل أن يؤدي الشهادة إلا بجعل: هل يجوز إعطاؤه الجعل؟ إن لم نجعل ذلك فسقًا فعلى ما ذكرنا. قال صاحب المحرر: وعنه لا ينتقض الحكم إذا كانا فاسقين، ويغرم الشاهدان المال، لأنهما سبب الحكم بشهادة ظاهرها الزور. قال أبو العباس: وهذا يوافق قول أبي الخطاب، ولا فرق إلا في تسمية ضمانهما نقضًا وهذا لا أثر له، لكن أبو الخطاب يقوله في الفاسق وغير الفاسق على ما حكي عنه. وهذه الرواية لا تتوجه على أصلنا إذا قلنا الجرح المطلق لا ينقض وكان جرح البينة مطلقًا، فإنه اجتهاد فلا ينقض به اجتهاد، ورواية عدم النقض أخذها القاضي من رواية الميموني عن أحمد في رجلين شهدا أنهما دفنا ههنا فلانا بالبصرة فقسم ميراثه، ثم إن الرجل جاء بعد وقد تلف ماله قد تبين للحاكم أنهما شهدا على زور أيضمنهما ماله؟ قال: وظاهر هذا أنه لم ينقض الحكم، لأنه لم يغرم الورثة قيمة ما أتلفوه من المال، بل أغرم الشاهدين ولو نقضه لأغرم الورثة. قال: ويحتمل أنه أغرم الورثة ورجعوا بذلك على الشهود، لأنهم معذورون فيكون قوله: «يضمنهما» يعني: الورثة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 قال أبو العباس: النقض في هذه الصورة لا خلاف فيه فإن تبين كذب الشاهد غير تبين فسقه. فقول أحمد: إما أن يكون ضمانًا في الجملة كسائر المتسببين، أو يكون ضمان استقرار كما دلت عليه أكثر النصوص من أن المعذور لا ضمان عليه. ولو زكوا الشهود ثم ظهر فسقهم ضمن المزكون. وكذلك يجب في الولاية لو أراد الإمام أن يولي قاضيًا أو واليًا لا يعرفه فيسأل عنه فزكاه أقوام ووصفوه بما يصلح معه للولاية ثم رجعوا أو ظهر بطلان تزكيتهم، فينبغي أن يضمنوا ما أفسده الوالي والقاضي، وذلك لو أشاروا عليه وأمروا بولايته. لكن الذي لا ريب في ضمانه هو من تعهد المعصية منه مثل الخيانة مثل من يعلم منه الخيانة أو العجز ويخبر عنه بخلاف ذلك، أو يأمر بولايته، أو يكون لا يعلم حاله ويزكيه أو يشير به. فأما إن اعتقد صلاحه وأخطأ فهذا معذور، والسبب ليس محرمًا. وعلى هذا فالمزكي للعامل من المقترض والمشتري والوكيل كذلك (1) . وشاهد الزور إذا تاب بعد الحكم فيما لا يبطل برجوعه فهنا قد يتعلق به حق آدمي، ثم تارة يجيء إلى الإمام تائبًا فهذا بمنزلة قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة عليه، وتارة يتوب بعد ظهور تزويره فهنا لا ينبغي أن يسقط عنه التعزير.   (1) اختيارات (346، 347) ، ف (2/ 446) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 ومن شهد بعد الحكم شهادة تنافي شهادته الأولى فكرجوعه عن الشهادة الأولى وأولى. وأفتى أبو العباس في شاهد قاس بكذا، وكتب خطه بالصحة فاستخرج الوكيل على حكمه، ثم قاس وكتب خطه بزيادة فغرم الوكيل الزيادة. قال أبو العباس: يغرم الشاهد ما غرمه الوكيل من الزيادة بسببه، تعمد الكذب أو أخطأ كالرجوع، والله سبحانه وتعالى أعلم (1) . باب اليمين في الدعاوي قال أصحابنا: ومن تغليظ اليمين بالمكان: اليمين عند صخرة بيت المقدس. وليس له أصل في كلام أحمد ولا غيره من الأئمة، بل السنة أن تغليظ اليمين فيها كتغليظها في سائر المساجد عن المنبر. والتغليظ بالمكان والزمان واللفظ لا يستحب على قول أبي البركات ويستحب على قول أبي الخطاب مطلقًا. وكلام أحمد في رواية الميموني يقتضي التغليظ مطلقًا من غير تعليق باجتهاد الإمام. ولنا قول ثالث: يستحب إذا رآه الإمام مصلحة فينبغي أنه إذا امتنع منه الخصم صار ناكلاً. ولا يحلف المدعي عليه بالطلاق وفاقًا (2) .   (1) فروع (6/601) واختيارات (364) ، ف (2/ 426) . (2) اختيارات (354) ، ف (2/ 427) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 ومال الشيخ تقي الدين وصاحب النكت إلى وجوب التغليظ إذا رآه الحاكم وطلبه على ما يأتي في كلامهما (1) . ونقل المجد من تعليق القاضي: تغليظ اليمين على المجوس بالله الذي بعث إدريس رسولاً، لأنهم يعتقدون أنه الذي جاء بالنجوم التي يعتقدون تعظيمها. ويغلظ على الصابئ «بالله الذي خلق النار» ؛ لأنهم يعتقدون تعظيم النار. قال الشيخ تقي الدين: هذا بالعكس، لأن المجوس تعظم النار، والصابئة تعظم النجوم (2) . لو أبى من وجبت عليه اليمين التغليظ لم يصر ناكلا، قال الشيخ تقي الدين: قصة مروان مع زيد تدل على أن القاضي إذا رأى التغليظ فامتنع من الإجابة أدى ما أدعي به ولو لم يكن كذلك لم يكن في التغليظ زجر قط. وقال الشيخ تقي الدين أيضا: متى قلنا هو مستحب، فينبغي إنه إذا امتنع منه الخصم يصير ناكلا (3) .   (1) إنصاف (12/ 120) ، ف (2/ 427) . (2) إنصاف (12/ 121) ، ف (2/ 427) . (3) إنصاف (12/ 122) ، ف (2/ 427) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 كتاب الإقرار والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه فهو مقر، وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع، وإن أخبر بما على غيره لغيره، فإن كان مؤتمنًا عليه فهو مخبر، وإلا فهو شاهد فالقاضي والوكيل والمكاتب والوصي والمأذون له كل هؤلاء ما أدوه فهم مؤتمنون فيه، فإخبارهم بعد العزل ليس إقرارًا، وإنما هو خبر محض (1) . وإن قال: أنا مقر، أو خذها، أو اتزنها، أو اقبضها، أو أحرزها، أو هي صحاح -فعلى وجهين: أحدهما: يكون مقرًا، واختاره الشيخ تقي الدين (2) . ولا يجب عند أحد من العلماء أن يكتب في الوثائق أنه قادر مليء ولا يجوز أن يكتب ذلك إلا إذا علم أنه مقر به. ولا يجوز تلقين الإقرار لمن لا يعلم أنه صادق فيه، ولا الشهادة عليه إلا إذا علم أنه كاذب في ذلك، كالعقود المحرمة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لعن آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه" ومن أقر بمثل هذا الكذب وشهد على الإقرار به أو لقنه أن يقول إنه مليء بالحق وهو غير مليء به بل لقنه ذلك مع علمه عاقبه ذلك من غضب الله فهو متبع هواه (3) .   (1) اختيارات (364) ، ف (2/ 427) . (2) إنصاف (12/ 16) ، ف (2/ 427) . (3) مختصر الفتاوى (603) ، ف (2/427) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 وإذا خلف رجل مالاً بينه وبين آخر فأنكر الورثة حتى أبرأ وأخذوا منه بعض شيء لم يصح إبراؤهم، لأنهم مكرهون، وكذلك إذا قال: ما لكم عندي، غير كذا فأبرؤه، ثم ظهر أن لهم عنده غير ما أقر لهم به فلا يصح إبراؤهم من الزائد الذي كتمه (1) . وإذا كان الإنسان ببلد سلطان ظالم أو قطاع طريق ونحوهم من الظلمة، فخاف أن يؤخذ ماله أو المال الذي يتركه لورثته أو المال الذي بيده للناس إما بحجة أنه ميت لا وارث له أو بحجة أنه مال غائب أو بلا حجة أصلاً، فيجوز له الإقرار بما يدفع عنه هذا الظلم ويحفظ هذا المال لصاحبه، مثل أن يقر لحاضر: أنه ابنه أو يقر أن له عليه كذا وكذا، أو يقر أن المال الذي بيده لفلان ويتأول في إقراره بأنه يعني بقوله: "ابني" كونه صغيرًا، أو بقوله: "أخي" أخوة الإسلام، وأن المال الذي بيده له، أي لأنه قبضه لكوني قد وكلته في إيصاله إلى مستحقه، لكن يشترط أن يكون المقر له أمينًا. والاحتياط أن يشهد على المقر له أيضا: أن هذا الإقرار تلجئه، تفسيره كذا وكذا (2) . وإن أقر لبهيمة لم يصح، وقيل: يصح كقولهم بسببها ويكون لمالكها فيعتبر تصديقه. قال الشيخ تقي الدين عن هذا القول: هذا الذي ذكره القاضي في ضمن مسألة الحمل (3) . وإن أقر من عليه ولاء بنسب وارث لم يقبل إقراره إلا أن يصدقه   (1) مختصر الفتاوى (608) ، ف (2/ 427) . (2) اختيارات (364،/ 365) ، ف (2/ 427) . (3) إنصاف (12/ 145) ، ف (2/ 427) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 مولاه، وخرج في المحرر وغيره يقبل إقراره، واختاره الشيخ تقي الدين (1) . وإن أقر من شك في بلوغه وذكر أنه لم يبلغ فالقول قوله بلا يمين، قطع به في المغني والمحرر لعدم تكليفه. ويتوجه أن يجب عليه اليمين؛ لأنه إن كان لم يبلغ لم يضره، وإن كان قد بلغ حجر عليه فأقر بالحق، فقد نص أحمد في رواية ابن منصور إذا قال البائع: بعتك قبل أن تبلغ، وقال المشتري بعد بلوغك أن القول قول المشتري: وهكذا يجيء في الإقرار وسائر التصرفات التي يشك فيها هل وقعت قبل البلوغ أو بعده؟ لأن الأصل في العقود الصحة، فإما إن يقال: هذا عام، وإما أن يفرق بين أن يتيقن أنه وقت التصرف كان مشكوكًا فيه غير محكومة يبلوغه أو لا يتيقن، فإنا مع تيقن الشك قد تيقنا صدور التصرف ممن لم تثبت أهليته، والأصل عدمها، فقد شككنا في شرط الصحة، وذلك مانع من الصحة. وأما في الحالة الأخرى، فإنه يجوز صدوره في حال الأهلية وحال عدمها والظاهر صدوره وقت الأهلية، والأصل عدمه قبل وقتها فالأهلية هنا متيقن وجودها. ثم ذكر أبو العباس: أن من لم يقر بالبلوغ حتى تعلق به حق مثل إسلامه بإسلام أبيه أو ثبوت الذمة له تبعًا لأبيه أو بعد تصرف الولي له أو تزويج ولي أبعد منه لموليته- فهل يقبل منه دعوى البلوغ حينئذ، أم لا؟ لثبوت هذه الأحكام المتعلقة به في الظاهر قبل دعواه. وأشار أبو العباس إلى تخريج المسألة على الوجهين فيما إذا راجع الرجعية زوجها، فقالت: قد انقضت عدتي. وشبيه أيضا بما إذا ادعى المجهول المحكوم بإسلامه ظاهرًا كاللقيط   (1) إنصاف (12/ 150، 151) ، ف (2/ 427) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 الكفر بعد البلوغ فإنه لا يسمع منه على الصحيح، وكذلك لو تصرف المحكوم بحريته ظاهرًا كاللقيط ثم ادعى الرق ففي قبول قوله خلاف معروف (1) . وإذا أقر المريض مرض الموت المخوف لوارث فيحتمل أن يجعل إقراره لوارث كالشهادة فترد في حق من ترد شهادته له كالأب، بخلاف من لا ترد. ثم هذا هل يحلف المقر له معه كالشاهد؟ وهل تعتبر عدالة المقر؟ ثلاث احتمالات. ويحتمل أن يفرق مطلقًا بين العدل وغيره؛ فإن العدل معه من الدين ما يمنعه من الكذب ونحوه في براءة ذمته، بخلاف الفاجر. ولو حلف المقر له مع هذا تأكد؛ فإن في قبول الإقرار مطلقا فساد عظيم، كذلك في رده أيضًا. ويتوجه فيمن أقر في حق الغير وهو غير متهم كإقرار العبد بجناية الخطأ وإقرار القاتل بجناية الخطأ إذ يجعل المقر كشاهد، ويحلف معه المدعي فيما ثبت بشاهد آخر، كما قلنا في إقرار بعض الورثة بالنسب هذا القياس والاستحسان. وإقرار العبد لسيده (2) ينبني على ثبوت مال السيد في ذمة العبد ابتداء ودوامًا، وفيه ثلاثة أوجه في الصداق. وإقرار سيده له ينبني على أن العبد إذا قيل: يملك هل يثبت له دين على سيده؟ قال في الكافي: وإن أقر العبد بنكاح أو قصاص أو تعزير قذف صح (3) وإن كذبه الولي.   (1) اختيارات (365) ، ف (2/ 427) . (2) في الإنصاف زيادة: لم يصح على المذهب (12/ 114) . (3) وفي الإنصاف (12/ 145) صح الإقرار وإن كذبه السيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 قال أبو العباس: وهذا في النكاح فيه نظر؛ فإن العبد لا يصح نكاحه بدون إذن سيده لأن في ثبوت نكاح العبد ضررا عليه فلا يقبل إلا بتصديق السيد. قال الأصحاب: وإن أقر لعبد غيره بمال صح وكان لسيده. قال أبو العباس: وإذا قلنا يصح قبول الهبة والوصية بدون إذن السيد لم يفتقر الإقرار إلى تصديق السيد. وقد يقال: بل (1) وإن لم نقل بذلك لجواز أن يكون قد يملك مباحا فأقر بعينه أو تلفه وتضمن قيمته (2) ، (3) . وإذا حجر الولي على المأذون له فأقر بعد الحجر. قال القاضي وغيره: لا يقبل. وقياس المذهب صحة إقراره مطلقا، كالحاكم والوكيل والوصي بعد العزل، لأن الحجر عندنا يتبعض (4) . فصل ولا تقبل الدعوى بما يناقض إقراره، إلا أن يذكر شبهة تجري بها العادة. وإذا أنكر زوجية امرأته قدام الحاكم فلما أبرأته الزوجة بعد ذلك اعترف بالزوجية وطلق على مائتي درهم لم يبطل حقها بل هو باق في ذمته لها أخذه منه (5) .   (1) في الإنصاف قال: وقد يقال: بلى. (2) وفي الإنصاف وضمن قيمته. (3) اختيارات (367) ، ف (2/ 427) . (4) اختيارات (367) ، ف (2/ 427) . (5) مختصر الفتاوى (608) ، ف (2/ 428) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 ومتى ثبت نسب المقر له من المقر ثم رجع المقر وصدقه المقر له فهل يقبل رجوعه؟ فيه وجهان حكاهما في الكافي. وقال أبو العباس: إن جعل النسب فيه حقًّا لله تعالى فهو كالحرية وإن جعل حق آدمي فهو كالمال. والأشبه أنه حق آدمي كالولاء. ثم إذا قبل: الرجوع عنه لحق الأقارب الثابت من المحرمية ونحوها هل يزول؟ وكذلك لو تراضيا عن التصادق على النكاح فالمصاهرة الثابتة هل تزول أو تكون كالإقرار بالرق؟ تردد نظر أبي العباس في ذلك. فأما إن ادعى نسبًا ولم يثبت لعدم تصديق المقر له، أو قال: أنا فلان ابن فلان، وانتسب إلى غير أب معروف، وقال: لا أب لي، أو لا نسب لي، ثم ادعى بعد هذا نسبًا آخر، أو ادعى أنه له أبا فقد ذكر الأصحاب في باب ما علق من النسب أن الأب إذا اعترف بالابن بعد نفيه قبل منه فكذلك غيره لأن هذا النفي والإقرار بمحل ومنكر لم يثبت به نسب، فيكون إقراره بعد ذلك مقبولاً، كما قلنا فيما إذا أقر بمال لمكذب إذا لم يجعله لبيت المال فإنه إذا ادعى المقر بعد هذا أنه ملكه قبل منه، وإن كان المقر به أرق نفسه فهو كغيره بناء على أن الإقرار المكذوب وجوده كعدمه. وهناك على الوجه الآخر يجعله بمنزلة المال الضائع أو المجهول فيحكم بالحرية لحريته وبالمال ليثبت المال. وهنا يكون بمنزلة مجهول النسب فيقبل به الإقرار ثابتا. وسر المسألة: أن الرجوع عن الدعوى مقبول، والرجوع عن الإقرار غير مقبول. والإقرار الذي لم يتعلق به حق لله ولا حق لآدمي هو من باب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 الدعاوي فيصح الرجوع عنه، ومن أقر بطفل له أم فجاءت أمه بعد موت المقر تدعي زوجته فالأشبه بكلام أحمد ثبوت الزوجية، فهنا حمل على الصحة وخالف الأصحاب في ذلك. ومن أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر وقال: ما قبضت، وسأل إحلاف خصمه فله ذلك في أصح قولي العلماء. ولا يشترط في صحة الإقرار كون المقر به بيد المقر. والإقرار قد يكون بمعنى الإنشاء كقوله تعالى: {قَالُوا أَقْرَرْنَا} [81/3] ولو أقر به وأراد إنشاء تمليكه صح. ومن أنكر زوجية امرأة فأبرأته ثم أقر بها كان أو عليه ولاء بنسب له طلبه بحقها. ومن أقر وهو مجهول النسب لوارث حي أخ أو عم فصدقه المقر له وأمكن قبل، صدقه الولي أو لا، وهو قول أبي حنيفة وذكره الجد تخريجا. وكل صلة كلام معتبرة له للاستثناء، وغير المتقارب فيها متواصل، والإقرار مع استدراك متواصل وهو أحد القولين. ولو قال في الطلاق أنه سبق لسانه لكان كذلك، ويحتمل أن يقبل الإضراب المتصل (1) . وإن قال: غصبت هذا المال من زيد لا بل من عمرو لزمه دفعه إلى زيد ويغرم قيمته لعمرو، وقيل: لا يغرم قيمته لعمرو، وقيل: لا بإقرار مع استدراك متصل واختاره الشيخ تقي الدين (2) .   (1) اختيارات (367-369) ، ف (2/ 427) . (2) إنصاف (12/ 197) ، ف (2/ 428) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 ومن أقر بملك ثم ادعى شراءه قبل إقراره لا يقبل ما يناقض إقراره إلا مع شبهة معتادة (1) . وإن قال: قفيز حنطة بل قال قفيز شعير أو درهم بل دينار لزماه معًا، وقيل: يلزمه شعير والدينار فقط، قال في النكت: ومقتضى كلام الشيخ تقي الدين قبول قوله في الإضراب مع الاتصال (2) . ولو أبان زوجته في مرضه فأقر وارث شافعي أنه وارثه وأقبضها وأبرأها مع علمه بالخلاف لم يكن له دعوى ما يناقضه ولا يسوغ الحكم له. وقياس المذهب فيما إذا قال: أنا مقر في جواب الدعوى أن يكون مقرا بالمدعي به لأن المفعول ما في الدعوى، كما قلنا في قوله: «قبلت» أن القبول ينصرف إلى الإيجاب لا إلى شيء آخر وهو وجه في المذهب. وأما إذا قال: لا أنكر ما تدعيه فبين الإنكار والإقرار مرتبة، وهي السكوت. ولو قال الرجل: أنا لا أكذب فلانا لم يكن مصدقًا له، فالمتوجه أنه مجرد نفي للإنكار إن لم ينضم إليه قرينة بأن يكون المدعي مما يعلمه المطلوب وقد ادعى عليه علمه وإلا لم يكن إقرارًا. حكى صاحب الكافي عن القاضي أنه قال فيما إذا قال المدعي: لي عليك ألف، فقال المدعي عليه: قضيتك منها مائة، أنه ليس بإقرار، لأن المائة قد رفعها بقوله والباقي لم يقر به. وقوله: «منها» يحتمل ما يدعيه. قال أبو العباس: هذا يخرج على أحد الوجهين في «أبرأتها» .   (1) اختيارات (369) ، ف (2/ 428) . (2) إنصاف (12/ 230) ، ف (2/ 428) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 و «أخذتها» و «قبضتها» أنه مقر بباقي الألف؛ لأن الهاء ترجع إلى المذكور، ويتخرج أن يكون مقرًا بالمائة على رواية في قوله: «كان له علي وقضيته» . ثم هل يكون مقرا بها وحدها أو بالجميع؟ على ما تقدم. والصواب في الإقرار المعلق بشرط: أن نفس الإقرار لا يتعلق، وإنما يتعلق المقر به، لأن المقر به قد يكون معلقا بسبب قد يوجبه، أو يوجب أداءه دليل يظهره. فالأول كما لو قال مقر: إذا قدم زيد فعلي لفلان ألف، صح، وكذلك إن قال: إن رد عبده الآبق فله ألف ثم أقر بها فقال: إن رد عبده الآبق فله ألف صح. وكذلك الإقرار بعوض الخلع لو قالت: إن طلقني أو عفا عني فله عندي ألف وأما التعليق بالشهادة فقد يشبه التحكيم. ولو قال: إن حكمت علي بكذا التزمته. . لزمه عندنا فلذلك قد يرضى بشهادته وهو في الحقيقة التزام، وتزكية للشاهد، ورضى بشهادة واحد. وإذا أقر العامي بمضمون محض وادعى عدم العلم بدلالة اللفظ ومثله يجهله قبل منه على المذهب. وإذا أقر لغيره بعين له فيها حق لا يثبت إلا برضا المالك، كالرهن والإجارة ولا بينة، قال الأصحاب: لم يقبل ويتوجه أن يكون القول قوله؛ لأن الإقرار ما تضمن ما يوجب تسليم العين أو المنفعة فما أقر بما يوجب التسليم كما في قوله: «كان له علي ألف وقضيته» ، ولأنا نجوز مثل هذا الاستثناء في الإنشاءات في البيع ونحوه فكذلك في الإقرارات. والقرآن يدل على ذلك في آية الدين، وكذا لو أقر بفعل فعله وادعى إذن المالك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 والاستثناء يمنع دخول المستثني في اللفظ، لا أنه يخرجه بعدما دخل في الأصح. قال القاضي: ظاهر كلام أحمد جواز استثناء النصف لأن أبا منصور روى عن أحمد أنه إذا قال: كان لك عندي مائة دينار فقضيتك منها خمسين وليس بينهما بينة فالقول قوله. قال أبو العباس: ليس هذا من الاستثناء المختلف فيه، فإن قوله: قضيتك ستين مثل خمسين، قال أبو حنيفة إذا قال: له علي كذا وكذا درهما لزمه أحد عشر درهما وإن قال: كذا وكذا درهما لزمه إحدى وعشرون. وإن قال: كذا درهم لزمه عشرون. وما قاله أبو حنيفة أقرب مما قاله أصحابنا؛ فإن أصحابنا بنوه على أن كذا وكذا تأكيد وهو خلاف الظاهر المعروف، وأن الدرهم مثل الترجمة لهما، وهذا يقتضي الرفع إلى النصب، ثم هو خلاف لغة العرب. وأيضا: لو أراد درهما لما كان في قوله "درهما" فائدة؛ بل يكفيه أن يقول كذا درهما لما كان (1) في أراد درهما. وأيضا (2) لو لغة العرب هو خلاف لا النصب ثم يقتضي الرفع لهما وهذا مثل الترجمة وأن الدرهم المعروف الظاهر أن يقول: درهم (3) . ويصح استثناء ما دون النصف ... وظاهر كلامه في المستوعب أنه كالاستثناء في اليمين على ما تقدم في كتاب الأيمان وذكر الشيخ تقي   (1) هكذا في الأصل. (2) هكذا في الأصل. (3) اختيارات (369-371) ، ف (2/ 428) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 الدين قال مثله كل صلة كلام مغير له، واختار أن المتقارب متواصل (1) . وإن قال: له علي اثنا عشر درهما ودينار، فإن رفع الدينار فواحد، واثني عشر إن رضيه نحوي فمعناه الاثنا عشر دراهم ودنانير، وذكره الشيخ في فتاويه (2) . ومنها لو قال: غصبت منه ثوبا في منديل أو زيتا في زق ونحوه ففيه الوجهان المتقدمان. قال في النكت: ومن العجب حكاية بعض المتأخرين أنهما يلزمانه وأنه محل وفاق، واختار الشيخ تقي الدين التفرقة بين المسألتين فإنه قال فرق بين أن يقول: غصبته أو أخذت منه ثوبا في منديل؛ وبين أن يقول له عندي ثوب في منديل، فإن الأول يقتضي أن يكون موصوفا بكونه في المنديل وقت الأخذ، وهذا لا يكون إلا وكلاهما مغصوب؛ بخلاف قوله: له عندي، فإنه يقتضي أن يكون فيه وقت الإقرار، وهذا لا يوجب كونه له اهـ (3) . وإن أقر أنه وهب وأقبض أو رهن وأقبض أو أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر القبض فقط ولا بينة، فعنه له تحليفه، واختاره جماعة ... واختاره الشيخ تقي الدين والشيخ الموفق (4) . وإذا قال له علي من درهم إلى عشرة أو ما بين الدرهم إلى العشرة فهذا له أوجه. أحدها: يلزمه تسعة، وثانيها، عشرة، وثالثها ثمانية.   (1) إنصاف (12/ 171) وفي الاختيارات وفي كل صلة كلام معتبرة له للاستثناء وغير المتقارب فيها متواصل قلت: وما في الإنصاف أصح، ف (2/ 428) . (2) فروع (6/ 639) ، ف (2/ 428) . (3) إنصاف (12/ 236) واختيارات (371) ، ف (2/ 428) . (4) تصحيح الفروع (6/ 632) وإنصاف (12/ 195) ، ف (2/428) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 والذي ينبغي (1) أن يجمع بين الطرفين من الأعداد، فإذا قال: من واحد إلى عشرة لزمه خمسة وخمسون إن أدخلنا الطرفين وخمسة وأربعون إن أدخلنا المبتدأ فقط، وأربعة وأربعون إن أخرجناهما. ويعتبر في الكلام عرف المتكلم، فيحمل مطلق كلامه على أقل محتملاته (2) والله سبحانه وتعلم أعلم (3) . وإن قال: من درهم إلى عشرة، لزمه تسعة ويحتمل أن يلزمه عشرة، وذكر الشيخ تقي الدين أن قياس هذا القول يلزمه أحد عشر؛ لأنه واحد وعشرة والعطف يقتضي التغاير (4) . لو قال: له عندي ما بين عشرة إلى عشرين لزمه تسعة عشر على القول الأول، وعشرون على القول الثاني، قال في المحرر ومن تبعه: وقياس الثالث يلزمه تسعة، وقال الشيخ تقي الدين: قياس الثاني أن يلزمه ثلاثون بناء على أنه يلزمه في المسألة الأولى أحد عشر (5) . لو قال: له علي ما بين كر شعيرا، إلى كر حنطة، لزمه كر شعير وكر حنطة إلا قفيز شعير على قياس المسألة التي قبلها، قال في المستوعب قال القاضي في الجامع: هو مبني على ما تقدم إن قلنا لزمه هناك عشرة لزمه هنا كران، وإن قلنا: يلزمه تسعة، لزمه كر حنطة وكر شعير إلا قفيزا شعيرا، وقال في التلخيص قال أصحابنا: يتخرج على الروايتين إن قلنا يلزمه عشرة لزمه الكران، وإن قلنا: يلزمه تسعة لزمه كران إلا قفيز شعير اهـ.   (1) وفي الإنصاف زيادة في هذه المسائل. (2) وفي الإنصاف على أقل احتمالاته. (3) اختيارات (371) وفروع (6/ 636) ، ف (2/ 428) . (4) إنصاف (12/ 221) ، ف (2/ 428) . (5) إنصاف (12/ 221) ، ف (2/ 428) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 وقال في الرعاية: لزمه كران، وقيل: إلا قفيز شعير، إن قلنا يلزمه تسعة. وقال الشيخ تقي الدين: الذي قدمه في الرعاية هو قياس الثاني في الأولى، وكذلك هو عند القاضي، ثم قال: هذا اللفظ ليس بمعهود، فإنه إن قال: له علي ما بين كر حنطة وكر شعير فالواجب تفاوت ما بين قيمتهما وهو قياس الوجه الثالث، واختيار أبي محمد اهـ (1) . والواجب أن يفرق بين الشيئين اللذين يتصل أحدهما بالآخر عادة كالقراب في السيف والخاتم في الفص، لأن ذلك إقرار بهما، وكذلك الزيت في الزق والتمر في الجراب. ولو قال غصبته ثوبا في منديل أو أخذت منه ثوبا في منديل كان إقرار بهما لا، له عندي ثوب في منديل فإنه إقرار بالثوب خاصة وهو قول أبي حنيفة (2) . علوم (3) وينبغي أن يخفض صوته عند المعلم قال الشيخ تقي الدين: من رفع صوته على غيره علم كل عاقل أنه قلة احترام له انتهى كلامه (4) . الاشتقاق وقلت يوما لشيخنا أبي العباس ابن تيمية قدس الله روحه: قال ابن جنين: مكثت برهة إذ ورد علي لفظ آخذ معناه من نفس حروفه   (1) إنصاف (12/ 224، 225) ، ف (2/ 428) . (2) اختيارات (371) ، ف (2/ 428) . (3) انظر الجزء الأول في العلم وأقسامه والواجب منه. (4) الآداب (2/23) ، ف (2/ 453) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه، ثم أكشفه فإذا هو كما ظننته أو قريبا منه، فقال لي رحمه الله: وهذا كثير ما يقع لي (1) . ثم ذكر لي فصلا عظيم النفع في التناسب بين اللفظ والمعنى ومناسبة الحركات لمعنى اللفظ، وأنهم في الغالب يجعلون الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى، والفتحة خفيفة للمعنى الخفيف، والمتوسطة للمتوسط، فيقولون: عز يعز بفتح العين إذا صلب. وأرض عزاز صلبة ويقولون: عز يعز بكسرها إذا امتنع، والممتنع فوق الصلب، فقد يكون الشيء صلبا ولا يمتنع على كاسره، ثم يقولون: عزه يعزه، إذا غلبه، قال الله تعالى في قصة داود {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [23/38] والغلبة أقوى من الامتناع إذ قد يكون الشيء ممتنعا في نفسه متحصنا عن عدوه ولا يغلب غيره، فالغالب أقوى من الممتنع، فأعطوه أقوى الحركات، والصلب أضعف من الممتنع فاعطوه أضعف الحركات والممتنع المتوسط بين المرتبين فأعطوه حركة الوسط (2) . علم النفس قال ابن القيم رحمه الله في أقسام النفوس وطبائعها وانقسام الناس بالنسبة إليها، وسألت يوما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والأشغال بتنقية الطريق وبتنظيفها. فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس وهو جب القذر كلما نبشته ظهر وخرج، ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه، فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئا ظهر غيره.   (1) بدائع الفوائد (2/ 95) ، ف (2/ 453) . (2) جلاء الأفهام (74، 75) ، ف (2/ 474) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ، فقال لي: مثل آفات النفس مثل الحيات والعقارب التي في طريق المسافر، فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السير قط ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها، فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدا وأثنى على قائله (1) . قال ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر الخلاف في السمع والبصر: أيهما أشرف؟ قال شيخ الإسلام تقي الدين قدس الله روحه ونور ضريحه: وفصل الخطاب إن إدراك السمع أعم وأشمل، وإدراك البصر أتم وأكمل، فهذا له التمام والكمال، وذاك له العموم والشمول، فقد ترجح كل منهما بما اختص به تم كلامه (2) . وقال المعتصم يوما لبعض أصحابه، يا فلان، إذا نصر الهوى ذهب الرأي. وسمعت رجلا يقول لشيخنا: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد، أو قال: نسيه فقال الشيخ: هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم (3) . أعلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي المتوفى 481 هـ. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: علمه خير من عمله (4) .   (1) مدارج (2/ 313، 314) ، ف (2/ 479) . (2) بدائع (1/ 72) ، ف (2/ 480) ج (1/ 29) . (3) روضة المحبين (480) ، ف (2/ 482) ، ف (1/ 286) . (4) مدارج (3/ 394) ، ف (2/ 494) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 مؤلفات : الرد على الجهمية للإمام أحمد قال الخلال كتبت هذا الكتاب من خط عبد الله وكتبه عبد الله من خط أبيه، واحتج القاضي أبو يعلى في كتابه إبطال التأويل، بما نقله منه عن أحمد، وذكر ابن عقيل في كتابه بعض ما فيه عن أحمد، ونقله عن أصحابه قديما وحديثا، ونقل منهم البيهقي وعزاه إلى أحمد، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية عن أحمد. كتاب الرد على الجهمية والنقض على بشر المريسي. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكتابين أشد الوصية ويعظمهما جداً. وانتهيت من تبييضه في شهر ربيع الثاني من عام ألف وأربعمائة وسبعة عشرة هجرية وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 المراجع 1- مختصر الفتاوى المصرية مطبعة أنصار السنة المحمدية 1368هـ. 2- الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية بتحقيق محمد حامد الفقي مطبعة السنة المحمدية 1369 هـ. 3- الفروع لأبي عبد الله محمد بن مفلح ت 763 ومعه تصحيح الفروع للشيخ علاء الدين أبي الحسين علي بن سليمان المرداوي ت 885 ستة مجلدات عالم الكتب. 4- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف تأليف.. علي بن سليمان المرداوي بتصحيح وتحقيق محمد حامد الفقي عدد المجلدات اثنا عشر الطبعة الأولى عام 1376. 5- المسودة في أصول الفقه: تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد (دار الكتب العربي، بيروت) . 6- الآداب الشرعية والمنح المرعية، تأليف شمس الدين أبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي مكتبة التقدم عام 1348 هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 مؤلفات ابن القيم: 1- إعلام الموقعين تأليف العالم العلامة المحقق المدقق أبي عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية ت (751) بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (ط 1407 هـ مكتبة الكليات الأزهرية) . 2- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: بتحقيق وتصحيح محمد حامد الفقي دار المعرفة بيروت جزآن. 3- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام (دار الطباعة المحمدية بالأزهر 1392) هـ. 4- الكلام على مسألة السماع: تحقيق ودراسة الدكتور راشد بن عبد العزيز الحمد دار العاصمة بالرياض 1409 هـ. 5- زاد المعاد في هدي خير العباد: (ط دار الفكر بيروت 1392هـ) أربعة أجزاء. 6- الوابل الصيب تحقيق وتعليق الشيخ إسماعيل الإنصاري (مطابع النصر الحديثة بالرياض) . 7- مدارج السالكين (مطبعة السنة المحمدية 1375هـ ثلاث مجلدات) . 8- تهذيب سنن أبي داود بتحقيق محمد حامد الفقي وأحمد محمد شاكر مطبعة السنة المحمدية. 9- إعلام الموقعين: بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد شركة الطباعة الفنية المتحدة بيروت أربعة أجزاء. 10- الروح مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح دار الكتب العلمية بيروت. 11- مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة جزآن المطبعة السلفية بمكة 1349 هـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 12- مفتاح دار السعادة جزآن (مكتبة الرياض الحديثة) . 13- الجواب الكافي: (دار الكتب العلمية بيروت) . 14- التبيان في أقسام القرآن (دار الطباعة المحمدية بالأزهر (1368 هـ)) . 15- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. 16- أحكام أهل الذمة بتحقيق وتعليق الدكتور صبحي الصالح دار العلم للملايين بيروت جزآن. 17- بدائع الفوائد (إدارة الطباعة المنيرية) أربعة أجزاء. 18- اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية (دار الكتب العلمية بيروت) . 19- إغاثة اللفهان في حكم طلاق الغضبان (المكتب الإسلامي بيروت) . 20- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية بتحقيق محمد حامد الفقي 1372 هـ. 21- الرسالة التبوكية (مطبعة المدني 1376) هـ. 22- الفوائد (دار مصر للطباعة) . 23- عدة الصابرين. 24- تحفة الودود بأحكام المولود (دار الكتاب العربي- بيروت) . 25- طريق الهجرتين (دار الكتاب العربي- بيروت) . 26- شفاء العليل (دار التراث بالقاهرة) . 27- الفروسية تحقيق محمد نظام الدين الفتيح (مكتبة التراث) . وبقية المراجع وهي قليلة ذكرت في الأصل عند نهايتها. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233